الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196857 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ان علق الامر بزوال علة النهى... إلى غير ذلك (والتحقيق) أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها غير ظاهرة في واحد منها الا بقرينة أخرى كما أشرنا (المبحث الثامن) الحق أن صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فان المنصرف عنها ليس الا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها فلا دلالة لها على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة فانما هو

______________________________

(قوله: إن علق النهي بزوال) كما في قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين، وقوله تعالى: فإذا تطهرن فأتوهن، وقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا (قوله: لا مجال للتشبث) اشارة إلى إبطال استدلال بعضهم على مدعاه ببعض موارد الاستعمال كالايات المتقدمة (وحاصله) أن الكلام في المقام في أن وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول عن مقتضاها إلا بدليل الموجبة لظهور الصيغة في الاباحة مطلقا أو الوجوب أو رجوع الحكم السابق على النهي أو غير ذلك ؟ والاستعمال لا يدل على شئ من ذلك لامكان استناد الظهور فيه إلى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر فلا يصح الاستناد إليه في اثبات الدعوى (قوله: ومع فرض) يعني لو فرض التجريد عن القرائن الخاصة لم يظهر أن الوقوع عقيب الحظر من القرائن الموجبة لظهور الصيغة في غير الوجوب الذي تكون ظاهرة فيه لولا الوقوع عقيب الحظر (قوله: لاجمالها) وعليه فلا تحمل على الوجوب بناء على وضعها له الا بناء على كون حجية أصالة عدم القرينة من باب التعبد لا من باب حجية الظهور

المرة والتكرار

(قوله: مطلقا) يعنى حيث لا يقيد بمرة أو تكرار (قوله: على المرة والتكرار) سيأتي منه شرحهما (قوله: لا بهيئتها ولا بمادتها) إذ

١٨١

لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ههنا في الهيئة - كما في الفصول - فانه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات بل هو صيغة مثلها

______________________________

الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة والمادة موضوعة لصرف الماهية لا بشرط، وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما (قوله: لحصول الامتثال) إذ الامتثال يحصل بوجود المأمور به فإذا كان المأمور به صرف الطبيعة وكان يتحقق بالمرة كانت امتثالا للامر، ومنه يظهر بطلان استدلال القائل بالمرة بصدق الامتثال بها (قوله: لا يذهب عليك) قال في الفصول: الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا على تكرار... إلى أن قال: وانما حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه، ولان الاكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها، ولانه لا كلام في أن المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه... الخ فأشكل عليه المصنف (ره) بان الاتفاق على عدم دلالة المصدر المجرد الا على الماهية لا يدل على كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة إذ المصدر ليس مادة للمشتقات التي منها صيغة الامر بل هو مشتق مثلها، والمادة هي الامر المشترك بينه وبينها حسبما حققه (أقول): ما في الفصول يرجع إلى أمرين أحدهما أن المصدر مادة للمشتقات وثانيهما ان الاتفاق على عدم دلالته على المرة والتكرار يقتضي الاتفاق على عدم دلالة مادة (افعل) عليه ويكون النزاع في مدلول الهيئة أما الاول فيمكن أن يكون جاريا على المشهور، وأما الثاني فلا غبار عليه لان المصدر إذا لم يدل على المرة والتكرار دل ذلك عدم دلالة مادته عليهما فيصح الاستدلال به على عدم دلالة مادة (افعل) عليهما فيلزم الاتفاق على الاول الاتفاق على الاخير (قوله: غفلة وذهول) قد عرفت أنه في محله (قوله: ضرورة أن)

١٨٢

كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ؟ فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها كما لا يخفى (إن قلت): فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (قلت): - مع أنه محل الخلاف - معناه أن الذى وضع اولا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا ساير الصيغ التى تناسبه مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل فافهم (ثم) المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع

______________________________

هذا لا يثبت الاشكال على الفصول إلا من جهة ظهور كلامه في كون المصدر مادة للمشتقات، وقد عرفت إمكان حمله على الاصطلاح المشهوري (قوله: فعليه يمكن) قد عرفت أنه لا يمكن (قوله: مع أنه محل) هذا لا دخل له في دفع السؤال إذ قول الكوفيين: ان الفعل هو الاصل في الاشتقاق أءكد في توجه الاشكال فتأمل (قوله: معناه أن) إذا كان هذا معنى كلامهم فليكن هو معنى كلام الفصول (قوله: جمعه معه) الضمير الاول راجع إلى (ما) التي هي عبارة عن سائر الصيغ والثاني راجع إلى (الذي) ويمكن العكس (قوله: ومعنى) معطوف على قوله: لفظ، يعني ومادة معنى متصورة في كل منها ومنه (قوله: هو المصدر) خبر أن (قوله: أو الفعل فافهم) لعله اشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر بقرينة دعوى الكوفيين ان الفعل هو الاصل إذ لا يراد منه أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي " ثم " ان الموجود في بعض النسخ الضرب على لفظة: وهو أولى (قوله: الدفعة والدفعات) الفرق بين الدفعة والفرد أن الدفعة تصدق على الافراد المتعددة الموجودة في وقت واحد ولا يصدق عليها أنها فرد واحد، وأن الفرد الموجود تدريجا مثل الكلام الممتد المتصل فرد واحد وليس دفعة فبينهما عموم من وجه كما بين الافراد والدفعات ايضا (قوله: والتحقيق أن يقعا) الذي استظهره في الفصول أن النزاع

١٨٣

وان كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (وتوهم) أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث - كما فعلوه - وأما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (فاسد) لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا فان الطلب - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ضرورة أن الطبيعة من حيث هي

______________________________

*

فيهما بالمعنى الاول، ونسب إلى القوانين كونه فيهما بالمعنى الثاني، والظاهر ان مراد المصنف (ره) امكان كون النزاع فيهما بالمعنيين لا تحقق النزاع فيهما بهما معا إذ ليس له وجه ظاهر (قوله: وان كان لفظهما) هذا من القرائن التي اعتمد عليها في الفصول لاثبات ما استظهره (قوله: وتوهم انه لو أريد) هذا التوهم للفصول والباعث له عليه ظهور لفظ الفرد المذكور في المسألتين بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة (قوله: فاسد لعدم العلقة) حاصله أن المراد بالفرد هنا غير المراد به في تلك المسألة إذ المراد به في تلك المسألة ما يتقوم بالخصوصية المميزة له عن بقية الافراد والمراد به هنا الوجود الواحد للمأمور به فان كان المأمور به هو الطبيعة يقع النزاع في أن صيغة الامر تدل على وجوب وجود واحد للطبيعة أو وجود متعدد لها أو مطلق وجودها فيتأتى النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة بعين ما يتأتى به على القول بتعلقه بالفرد، والقرينة على إرادة هذا المعنى من الفرد جعله في قبال الدفعة (قوله: باعتبار وجودها) هذا ذكره المصنف (رحمه الله) تمهيدا لتأتي النزاع على القولين لا ردا على الفصول إذ لم يتوهم خلافه في الفصول كما يشهد به دعواه تأتي النزاع على القولين بناء على كون المراد الدفعة إذ لا يخفى أن القائل بالطبيعة لو كان مراده الطبيعة من حيث هي لا معنى لتأتى النزاع في المقام بكل معنى (قوله: ضرورة ان الطبيعة من) قد يقال: الماهية

١٨٤

ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد غاية الامر خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الامر بالطبايع - يلازم المطلوب وخارج عنه بخلاف القول بتعلقه بالافراد فانه مما يقومه (تنبيه) لا إشكال - بناء على القول بالمرة - في الامتثال وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال فانه من الامتثال بعد الامتثال (وأما) على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار فلا يخلو الحال إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان بل في مقام الاهمال أو الاجمال

______________________________

من حيث هي ليست الا هي، ويراد منه معنى أن كل ما هو خارج عنها فليس هو هي لا عينها ولا جزؤها، وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا واحد ولا كثير ولا غيرها، وقد يقال ذلك بمعنى أن الخارج عنها ليس عارضا لها بما هي هي بل بشرط الوجود، ويختص النفي بعوارض الوجود كالكتابة والحركة وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا كاتبة ولا متحركة ولا لا كاتبة ولا لا متحركة، فان الكتابة لما كانت في الرتبة اللاحقة للوجود كان نقيضها هو العدم في الرتبة اللاحقة له أيضا لوحدة رتبة النقيضين فجاز ارتفاع النقيضين في غير تلك الرتبة وحيث أن الطلب ليس من عوارض الماهية من حيث هي بل بشرط الوجود صح أن يقال: الماهية من حيث هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة فتأمل (قوله: وبهذا الاعتبار) أي اعتبار الوجود (قوله: في الامتثال) يعني يتحقق بالمرة (قوله: من الامتثال بعد الامتثال) يعني وهو ممتنع لان الامتثال فعل المأمور به وبالامتثال الاول يسقط الامر فلا يكون فعله ثانيا امتثالا وسيجئ له

١٨٥

فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون اطلاقها في ذاك المقام فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى (والتحقيق) أن قضية الاطلاق انما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون ايجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد لا جواز الاتيان بها مرة ومرات فانه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى بحيث يحصل بمجرده فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الامر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض

______________________________

تتمة (قوله: فالمرجع هو الاصل) يعني الاصل العملي فلو تردد الامر بين الطبيعة والتكرار فالاصل البراءة عن وجوب الزائد على المرة مع تعدد الوجود أما مع اتصاله - بناء على تحقق التكرار به - فاستصحاب الوجوب هو المرجع، ولو تردد بين الطبيعة والمرة فلا أثر للشك، ولو تردد بين المرة والتكرار والطبيعة فالحكم كما لو تردد بين الطبيعة والتكرار، وكذا لو تردد بين المرة والتكرار، وربما يختلف الاصل باختلاف تفسير المرة من حيث كونها لا بشرط أو بشرط لا فلاحظ (قوله: في ذاك المقام) أي في مقام البيان (قوله: في الاكتفاء بالمرة) لصدق الطبيعة على المرة (قوله: في جواز ان لا يقتصر) يعني في جواز الاتيان ثانيا بقصد امتثال الامر لا مجرد الاتيان ثانيا بلا قصد الامر فانه لا ريب في جوازه (قوله: أو مرارا) فيجوز الاتيان ثانيا وثالثا بقصد الامتثال (قوله: فرد أو أفراد) يعني افرادا دفعية (قوله: فانه مع الاتيان بها) هذا تعليل لعدم كون مقتضى الاطلاق جواز الاتيان زائدا على المرة، ومرجعه إلى ابداء المانع العقلي عن ثبوت

١٨٦

كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء (المبحث التاسع) الحق انه لا دلالة للصيغة

______________________________

اطلاق المذكور لان الوجود الاول إذا كان علة تامة لسقوط الغرض كان علة تامة لسقوط الامر ايضا فيمتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الاتيان به بقصد امتثال الامر، وإذا امتنع كون الاتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا للمرة والمرات " أقول ": يمكن منع الاطلاق المذكور مع قطع النظر عن المانع العقلي وذلك لان اطلاق المادة يقتضي أن يكون المراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق فانه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم فتأمل، وأما المانع الذي ذكره فهو يتوقف على امتناع التخيير بين الاقل والاكثر بكل وجه، وسيأتي الكلام فيه (قوله: كما إذا امر بالماء ليشرب) الغرض من الامر باحضار الماء: تارة يكون مجرد تمكن الآمر من شربه ولا ريب في حصوله بمجرد احضاره، واخرى يكون هو الشرب الفعلي فيشكل الامتثال ثانيا من جهة امتناع بقاء الامر مع حصول موضوعه الذي هو صرف الاحضار، فلا بد اما من الالتزام بأن موضوع الامر ليس مطلق الاحضار بل الاحضار المترتب عليه الشرب، والباعث على هذا الالتزام لزوم المساواة عقلا بين الغرض وموضوع الامر سعة وضيقا لامتناع التفكيك بينهما، وعليه فلا يتعين الاحضار الحاصل لان يكون مأمورا به الا بعد ترتب الغرض عليه، ولازمه ان المكلف في مقام الامتثال انما يأتي بالاحضار الاول رجاء كونه مأمورا به لا بقصد ذلك، وحينئذ فللمكلف الاتيان ثانيا وثالثا بهذا القصد بعينه ولا يكون فرق بين الوجود الاول وبقية الوجودات اللاحقة في كيفية الامتثال لكن لازم ذلك القول بالمقدمة الموصلة، واما من الالتزام بأن الغرض كما يبعث إلى الامر اولا بالاحضار يبعث ثانيا إلى صرف الاحضار المنطبق على بقاء الفرد الاول واحضار فرد آخر إذ لا يتعين للدخل في

١٨٧

لا على الفور ولا على التراخي (نعم) قضية إطلاقها جواز التراخي والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقيدها باحدهما فلا بد في التقييد من دلالة أخرى كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه منع الضرورة أن سياق آية: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية: (واستبقوا الخيرات) انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب كما لا يخفى " فافهم " مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه ارشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على اصل الاطاعة فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن

______________________________

الغرض الفرد الاول بخصوصه بمجرد وجوده بل كما لم يتعين أولا قبل وجوده لم يتعين بعد وجوده، ولازم ذلك الالتزام باوامر طولية بحسب الزمان مادام الغرض باقيا ويكون المراد من بقاء الامر هذا المعنى لا بقاء الامر الشخصي بحدوده لامتناع بقائه بحصول موضوعه فتأمل جيدا.

الفور والتراخى

(قوله: لا على الفور ولا على) كما هو المشهور وعن الشيخ (ره) وجماعة القول بالفور، وعن السيد (ره) الاشتراك بين الفور والتراخي، وعن آخرين التوقف، والتحقيق الاول ويظهر ذلك بملاحظة ما تقدم في المرة والتكرار (قوله: قضية اطلاقها) يعني اطلاق المادة بالاضافة إلى الزمان (قوله: تبادر طلب) يعني ولو كان الوجه في التبادر مقدمات الاطلاق (قوله: ضرورة ان تركهما) يعني أن ظاهر تعليق المسارعة والاستباق بالمغفرة والخير كون تركهما

١٨٨

هناك أمر بها كما هو الشأن في الاوامر الارشادية " فافهم " (تتمة) بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا ايضا في الزمان الثاني أولا ؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب

______________________________

لا ينافي تحقق المغفرة والخير كما هو الحال في كل فعل متعلق بمفعوله، ولازم ذلك عدم وجوب المسارعة والاستباق والا كان تركهما موجبا للغضب والشر كما هو شأن ترك الواجب وهو خلف، بل كان الانسب حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق، لا التعبير بما في الآية، إلا أن يقال: ان الغضب الحاصل بترك المسارعة لا يضاد المغفرة التي هي موضوع المسارعة فوجوب المسارعة لا ينافي كون تركها لا يؤدي إلى الغضب بل إلى المغفرة، وكذا الحال في الآية الاخرى، ولكن هذا لو سلم لا ينافي ظهور السياق فيما ذكره المصنف (ره) فتأمل جيدا (والاولى) أن يقال: المغفرة في الآية الاولى يراد منها سببها وهو الاطاعة وكما يمتنع اخذ الاطاعة قيدا للواجب الشرعي يمتنع أخذ المسارعة إليها كذلك وكما أن الامر بالاطاعة ارشادي كذلك الامر بالمسارعة فيها، مع أن الآية على تقدير دلالتها على وجوب المسارعة لا تدل على تقييد الواجب بالفورية بل هي على خلاف ذلك أدل لان مادة المسارعة إلى الشئ إنما تكون فيما هو موسع كما لا يخفى، وكذا الحال في الآية الاخرى على تقدير كون المراد من الخيرات الخيرات الاخروية كما هو الظاهر، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم (قوله: الارشادية فافهم) لعله اشارة إلى لزوم الالتزام به لما عرفت، (قوله: فهل قضية الامر) ينبغي ان يجعل الاحتمال ثلاثي الاطراف فيقال: هل ظاهر الامر الاتيان به فورا فلو تركه عصى وسقط الامر أو الاتيان به فورا على نحو لو تركه في الزمان الاول عصى في ترك الفورية وبقي الامر بصرف الطبيعة أو الاتيان به فورا ففورا فلو تركه في الزمان الاول عصى ووجب الاتيان به بعد ذلك

١٨٩

أو تعدده ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده فتدبر جيدا

الفصل الثالث

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم أمور (أحدها) الظاهر ان المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذى ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا

______________________________

فورا أيضا... وهكذا، ومبنى الاحتمال الاول ان الفورية في الزمان الاول مقومة لاصل المصلحة فتفوت بفوتها وهذا هو المراد من وحدة المطلوب، ومبنى الثاني ان يكون مصلحتان احداهما قائمة بذات الفعل مطلقا والاخرى قائمة بالفورية في الزمان الاول لا غير، ومبنى الثالث كذلك الا ان مصلحة الفورية ذات مراتب مختلفة يكون ترك الفورية في كل زمان مفوتا لمرتبة من مصلحتها لا لاصلها كما هو مبنى الثاني (قوله: أو تعدده) قد عرفت ان تعدده على نحوين يكونان مبنيين لاحتمالين (قوله: لو قيل بدلالتها على) اما لو كان الدليل على الفورية غير الصيغة فيختلف باختلاف تلك الادلة، وفي المعالم بنى القول بالسقوط على الاستناد لغير الآيتين والقول بعدمه على الاستناد اليهما، ولا يخلو من تأمل ليس هذا محل ذكره والله سبحانه اعلم، ثم انه حيث كان اطلاق يعتمد عليه في نفي الفور والتراخي فلا اشكال واما إذا لم يكن اطلاق كذلك فالمرجع الاصل فلو كان التردد بين الفور والتراخي فالواجب الجمع بين الوظيفتين للعلم الاجمالي بالتكليف باحدهما، ولو كان بين الفور والطبيعة فالمرجع اصل البراءة لو كان وجوب الفورية على نحو تعدد المطلوب ولو كان بنحو وحدة المطلوب فالحكم هو الحكم مع الشك بين الاقل والاكثر، وكذا الحكم لو كان التردد بين الطبيعة والتراخي والله سبحانه أعلم

١٩٠

وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فانه عليه يكون (على وجهه) قيدا - توضيحيا - وهو بعيد - مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات، لا وجه لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى

______________________________

الكلام في الاجزاء

(قوله: مثل ان يؤتى به) بيان للنهج اللازم عقلا بناء على خروج قصد التقرب عن موضوع الامر (قوله: لا خصوص) معطوف على النهج وفيه تعريض بما قد يظهر من عبارة التقريرات فتأملها (قوله: قيدا توضيحيا) لان ذكر المأمور به يغني عنه ثم إن كون القيد توضيحيا لازم للقائلين بأن قصد التقرب داخل في المأمور به (قوله: مع انه يلزم خروج) إذ لا إشكال في عدم الاجزاء لو كان المأمور به في العبادات فاقدا لقصد التقرب وان كان واجدا لجميع ما يعتبر فيه شرعا (قوله: بناء على المختار) أما على القول بكون قصد التقرب قيدا للمأمور به فهي داخلة في محل النزاع لدخولها في العنوان ويكون عدم الاجزاء مع فقد التقرب لعدم الاتيان بالمأمور به شرعا (قوله: ولا الوجه المعتبر) يعني الوجوب والندب (قوله: عند المعظم) فلا وجه لذكره في العنوان في كلام المعظم إلا أن يكون المقصود من ذكره الاحتياط في ذكر القيود لكنه بعيد (قوله: لا مطلق الواجبات) فلا وجه لاخذه قيدا في دعوى الاجزاء مطلقا (قوله: لاختصاصه) يعني من دون سائر القيود المعتبرة في الاطاعة مثل التقرب والتمييز إلا أن يدعى الاكتفاء به عنهما على بعض

١٩١

(ثانيها) الظاهر ان المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (ان قلت): هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره وأما بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (قلت): نعم لكنه لا ينافى كون النزاع فيها كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما انما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل انه على نحو يستقل العقل بان الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره فانه لا يكون الا كبرويا لو كان هناك نزاع

______________________________

التقادير فتأمل (قوله: المراد من الاقتضاء ههنا) الواقع في القوانين والفصول وغيرهما في تحرير العنوان قولهم: الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء أولا ؟، وحيث أن ظاهر الاقتضاء فيه الكشف والدلالة كما في قولهم: الامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، نبه المصنف (ره) على ان الاقتضاء في العنوان المذكور في المتن ليس بمعنى الكشف والدلالة بل بمعنى العلية والتأثير كما في قولهم: الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والوجه في ذلك نسبة الاقتضاء في عنوان المتن إلى الاتيان وفي عنوان غيره إلى الامر وحيث أنه لا معنى لتأثير الامر في الاجزاء وجب حمله على الدلالة يعني يدل الامر على أن موضوعه واف بتمام المصلحة بخلاف الاتيان فان تأثيره في الاجزاء ظاهر إذ لولا كونه علة لحصول الغرض لما كان مامورا به (قوله: هذا إنما يكون) يعني أن حمل الاقتضاء على العلية إنما يصح بالاضافة إلى نفس الامر المتعلق بالماتي فان إجزاءه يلازم سقوط امره لا بالنسبة إلى الامر المتعلق بغيره إذ النزاع في الحقيقة يكون في دلالة الدليل فالاقتضاء فيه بمعنى الدلالة (قوله: نعم) يعني كما ذكرت من أن النزاع في دلالة الدليل (قوله: صغرويا) صورة القياس في المقام هكذا: المأمور به

١٩٢

كما نقل عن بعض (فافهم) (ثالثها) الظاهر ان الاجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية وان كان يختلف ما يكفى عنه فان الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهرى الجعلي فيسقط به القضاء لا انه يكون ههنا اصطلاحا بمعنى اسقاط التعبد أو القضاء فانه بعيد جدا

______________________________

*

بالامر الاضطراري مأمور به بالامر الواقعي - ولو تنزيلا - والمامور به بالامر الواقعي يقتضي الاجزاء، ينتج: المأمور به بالامر الاضطراري يقتضي الاجزاء. والنزاع في هذه المسألة بالنسبة إلى الامر الواقعي في الكبرى وبالنسبة إلى الامر الاضطراري في الصغرى بالنسبة إلى الامر الواقعي، وفي الكبرى بالنسبة إلى أمر نفسه والمحكم في الكبرى مطلقا العقل والمحكم في الصغرى الدليل الشرعي فإذا كان الاقتضاء في الكبرى بمعنى العلية كان في النتيجة كذلك، ومنه يظهر أن إثبات الاجزاء في الفعل الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي يتوقف على إثبات الصغرى والكبرى معا، وفي الفعل الواقعي على اثبات نفس الكبرى لانه عينها (قوله: فافهم) يمكن ان يكون اشارة إلى ان النزاع في مثل هذه الصغرى ليس نزاعا في المسألة الاصولية لان شأن المسائل الاصولية تنقيح الكبريات وأما الصغريات فوضيفة الفقيه، ولذا لم يتعرض في هذا المبحث لصغريات الافعال الاضطرارية والظاهرية تفصيلا فلاحظ (قوله: الظاهر ان الاجزاء) قد تضمنت جملة من العبارات كون الاجزاء له معنيان (احدهما) إسقاط التعبد بالفعل ثانيا (وثانيهما) إسقاط القضاء، وأن المراد هنا أي المعنيين ؟ وقد دفع المصنف (ره) ذلك - تبعا للتقريرات - بان لفظ الاجزاء لم يستعمل في المقام إلا بمعناه اللغوي وهو الكفاية غاية الامر أن ما يكفي عند الماتي به تارة يكون هو التعبد به ثانيا فيكون مسقطا للتعبد به واخرى الامر به قضاء فيكون مسقطا للقضاء لا أن له معنى اصطلاحيا ليتردد في أنه إسقاط التعبد أو إسقاط القضاء (قوله: يكفي فيسقط) يعنى يكفي في حصول الغرض فلا يحتاج إلى التعبد به ثانيا لتحصيله (قوله: فيسقط به) يعنى يكفي أيضا في حصول

١٩٣

(رابعها) الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فان البحث ههنا في ان الاتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا بخلافه في تلك المسألة فانه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى (نعم) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها بخلاف هذه المسألة فانه كما عرفت في ان الاتيان بالمأمور يجزئ عقلا عن اتيانه ثانيا اداء أو

______________________________

*

الغرض فلا يثبت الامر بالقضاء ثم إن إجزاء المأمور به الواقعي لما كان بلحاظ الامر به ناسب التعبير باسقاط التعبد به ثانيا وإجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لما كان بلحاظ الامر به قضاء ناسب التعبير باسقاط القضاء (قوله: الفرق بين هذه) قد يتوهم أن القول بالمرة قول بالاجزاء والقول بالتكرار قول بعدم الاجزاء (قوله: بما هو المأمور به) يعني بعد الفراغ عن تعيين تمام المأمور به (قوله: فانه في تعيين) وحينئذ فيكون النزاع في الاجزاء مترتبا على النزاع في المرة والتكرار لا أن النزاع فيهما نزاع في الموضوع والنزاع فيه نزاع في الحكم (قوله: بحسب دلالة) يعني فيكون النزاع في أمر لفظي (قوله: عملا) متعلق بقوله: موافقا، يعني هما من حيث العمل سواء لكنه موقوف على أن المراد بالتكرار فعل كل فرد ممكن بعد آخر أما لو كان المراد ما يشمل تكرار الصلاة اليومية وصوم رمضان كما يقتضيه استدلال بعضهم فلا ملازمة بينهما عملا ثم إن هذا بالنسبة إلى أمره أما بالنسبة إلى أمر غيره فلا مجال للتوهم ولا للموافقة عملا (قوله: لا بملاكه) إذ ملاك عدم الاجزاء عدم وفاء المأمور به بالغرض المقصود منه وملاك التكرار عدم حصول تمام المأمور به (قوله: وهكذا الفرق) يعني قد يتوهم أن القول بعدم الاجزاء عين القول بتبعية القضاء للاداء، والقول بالاجزاء قول بعدم تبعية القضاء للاداء (قوله: فان البحث حينئذ) يعني أن البحث في تبعية القضاء للاداء بحث في ان الامر بشئ في وقت

١٩٤

قضاء أولا يجزئ فلا علقة بين المسألة والمسئلتين اصلا (إذا) عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (الاول) أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزئ عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بانه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد ان يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا لا منضما إليه كما اشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم ان مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض وان كان وافيا به لو اكتفى

______________________________

*

هل يدل على لزوم فعله في خارج الوقت على تقدير عدم الاتيان به في الوقت بحيث يرجع إلى الامر به مطلقا لكونه في الوقت أولا يدل ؟ فيكون النزاع في تعيين المأمور به من حيث دلالة الامر، وأين هو من النزاع في المسألة ؟ (قوله: فلا علقة بين) أولا من جهة أن إحداهما متضمنة لتعيين نفس المأمور به والاخرى متضمنة لتعيين مقتضاه (وثانيا) من جهة أن النزاع في إحداهما لفظي وفى الاخرى عقلي " وثالثا " من جهة ان القول بعدم الاجزاء انما في ظرف الاتيان بالمأمور به والقول بالتبعية انما هو في ظرف عدم الاتيان به (قوله: بالامر الاضطراري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: أو الظاهري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: لاستقلال العقل بأنه) قد عرفت أن الامر الحقيقي لابد ان يكون حاكيا عن الارادة وأن الارادة حدوثا وبقاء تتوقف على العلم بالمصلحة المعبر عنها بالداعي تارة وبالغرض أخرى فالماتي به في الخارج إما أن لا يترتب عليه الغرض فلا يكون مامورا به فهو خلف أو يترتب عليه الغرض فبقاء الامر حينئذ إن كان بلا غرض فهو مستحيل كما عرفت وان كان عن غرض آخر غير الغرض الحاصل من الماتي به أولا فيلزمه أن يكون المأمور به فردين في الخارج يترتب على كل منهما غرض خاص فيكون الامر منحلا إلى أمرين يسقط كل منهما بالاتيان بمتعلقه وهو عين الاجزاء المدعى غاية الامر أنه لا يكون فعل أحدهما مسقطا لامر الآخر ومجزئا عنه ولكنه غير محل الكلام إذ الكلام - كما عرفت - في أن فعل المأمور به مجزئ عن الامر به ثانيا (قوله: لا منضما إليه)

١٩٥

به كما إذا اتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا كما لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع التبديل كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله إليه السبيل، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله تعالى يختار احبهما إليه (الموضع الثاني) وفيه مقامان (المقام الاول) في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزئ عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفى خارجه قضاء أولا يجزئ ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه (تارة) في بيان ما يمكن ان يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه فاعلم انه يمكن

______________________________

*

قد يمكن أن يكون منضما إليه كما في الافراد الدفعية التى تكون امتثالا واحدا لعدم المرجح. فتأمل (قوله: وجب عليه) يعني بعين وجوبه أولا كما تقدم الكلام فيه (قوله: بدلا عنه) قد عرفت أنه يمكن أن يكون منضما إليه (قوله: فلا يبقى موقع) إذ الثاني مما يعلم بعدم ترتب الاثر عليه (قوله: ما ورد من الروايات) كرواية أبي بصير قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال (عليه السلام): صل معهم يختار الله أحبهما إليه، ورواية هشام عنه (عليه السلام): في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة انشاء الله، ونحوها رواية حفص، وفي مرسلة الصدوق: يحسب له أفضلهما وأتمهما

١٩٦

ان يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة وكافيا فيما هو المهم والغرض ويمكن ان لا يكون وافيا به كذلك بل يبقى منه شئ امكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى انه ان كان وافيا به فيجزئ فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء ولا اعادة، وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة الا لمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الاهم فافهم

______________________________

الامر الاضطراري

(قوله: ان يكون التكليف) يعني موضوعه (قوله: كالتكليف الاختياري) يعني كموضوعه (قوله: وما أمكن كان) يعني أن المقدار الباقي من المصلحة الذي يمكن استيفاؤه قسمان فانه تارة يكون واجب التدارك وأخرى يكون مستحب التدارك (أقول): ما لا يمكن استيفاؤه ايضا قسمان تارة يكون محرم التفويت وأخرى لا يكون كذلك فالاقسام خمسة وإنما لم يتعرض للقسمين المذكورين لعدم اختلافهما في الاجزاء وإن كانا يختلفان في جواز البدار وعدمه (قوله: ولا يخفى) شروع في حكم الاقسام من حيث الاجزاء (قوله: اصلا للتدارك) لان التدارك إنما يكون في ظرف الفوت والمفروض عدمه (قوله: ولا يكاد يسوغ) يعني حيث يكون الفائت مما يحرم تفويته أما إذا لم يكن فلا تحريم للبدار كما أن نسبة التحريم إلى البدار لا تخلو من مسامحة إذ المحرم هو تفويت ذلك المقدار والبدار ليس تفويتا ولا مقدمة له وإنما هو ملازم له فلا ينسب إليه التحريم إلا بالعرض والمجاز ولذا لم تفسد العبادة، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فافهم (قوله: إلا لمصلحة) يعني إذا كانت مصلحة في البدار تصلح لمزاحمة المقدار الفائت لم يحرم التفويت الملازم للبدار حينئذ (قوله: لما فيه من)

١٩٧

(لا يقال): عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (فانه يقال): هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو ايجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار أو مع اليأس عن طرؤ الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض، وان لم يكن وافيا وقد امكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج

______________________________

تعليل لعدم جواز البدار لكن عرفت أن البدار لا تفويت فيه لغرض المولى وإنما هو يلازم التفويت (قوله: فلا مجال لتشريعه) يعني إذا كان البدل الاضطراري غير واف بمصلحة المبدل الاختياري كيف جاز تشريعه ولو في آخر الوقت ؟ لان في تشريعه تفويتا للمصلحة (قوله: هذا كذلك) (أقول): تشريع الاضطراري إنما جاز لاشتماله على المصلحة مع عدم كونه مقدمة للتفويت فالمنع عن تشريعه غير ظاهر الوجه الا ان يكون المراد من تشريعه الامر بفعله في الوقت أو الاذن كذلك الملازمين للاذن في التفويت (قوله: لولا المزاحمة) يعنى انما يكون تفويت التشريع ممنوعا عنه حيث يؤدي إلى تفويت المصلحة مع عدم مزاحمتها بمصلحة أخرى وإلا فلو فرض كون خصوصية الفعل في الوقت مشتملة على مصلحة تزاحم المقدار الفائت لم يكن مانع عن تشريعه كما تقدم مثل ذلك في جواز البدار ثم إنه حيث كان في خصوصية الوقت مصلحة يتدارك بها ما يفوت جاز البدار أول الوقت إذا علم الاضطرار في تمام الوقت ولا موجب للانتظار فتأمل (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما كان الاضطراري فيها وافيا بتمام المصلحة (قوله: الاضطرار مطلقا) وعليه يجوز البدار مطلقا (قوله: أو بشرط الانتظار) وعليه فلا يجوز البدار (قوله: أو مع اليأس) فلا يجوز البدار الا مع اليأس ثم إن هذه الاقسام لا تختص بالصورة الاولى بل تجري في الثانية أيضا إذ قد تكون خصوصية الوقت مطلقا ذات مصلحة تزاحم المقدار الفائت. وقد تكون بشرط الانتظار، وقد تكون بشرط اليأس وقد يكون بغير ذلك فيتبع كلا حكمه (قوله: وان لم يكن وافيا)

١٩٨

الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ فلا بد من ايجاب الاعادة أو القضاء وإلا فاستحبابه ولا مانع عن البدار في الصورتين غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار واعادته بعد طروء الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين) هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ولا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (وبالجملة):

______________________________

*

معطوف على قوله: إن كان وافيا (قوله: فلا بد من ايجاب) لاجل تدارك الباقي (قوله: والا فاستحبابه) الظاهر أن أصل العبارة: والا فيجزئ، بمعنى عدم وجوب الاعادة والقضاء وان كان يستحب (قوله: ولا مانع عن) إذ لا تفويت فيهما (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما يكون الباقي فيها مما يجب تداركه (قوله: وفى الصورة الثانية) وهي ما كان الباقي فيها مما يستحب تداركه (قوله: استحباب البدار) هذا الاستحباب بنحو الكلية غير ظاهر الوجه إلا أن يستند فيه إلى مثل آيتي المسارعة والاستباق فتأمل (قوله: وأما ما وقع عليه) التعرض لذلك ينبغي أن يكون في الفقه لا هنا إذ ليس لدليله ضابطة كلية فقد يختلف الدليل باختلاف قرينة الحال أو المقال من حيث الدلالة على الوفاء وعدمه وكأن مقصود المصنف (ره) الاشارة إلى ما يكون كالانموذج لادلة البدل الاضطراري (قوله: هو الاجزاء) أما اقصاء ما كان بلسان البدلية مثل: أحد الطهورين، ونحوه فظاهر، فان اطلاق البدلية يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه بلحاظ جميع الآثار والخواص فلا بد من أن يفى بما يفي به المبدل من المصلحة بمرتبتها ويترتب عليه الاجزاء " فان قوله ": هذا الاطلاق

١٩٩

وان كان ثابتا الا انه معارض باطلاق دليل المبدل منه فانه يقتضي تعينه في جميع الاحوال ولازمه وجوب حفظ القدرة عليه الكاشف عن عدم وفاء البدل بمصلحته والا جاز تفويت القدرة عليه، وكما يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن اطلاق دليل المبدل فيحمل على تعينه في ظرف القدرة عليه جاز رفع اليد عن اطلاق دليل البدل فيحمل على وفائه ببعض مراتب المصلحة التي يفي بها المبدل واذ لا مرجح يرجع إلى الاصل ويسقط الاطلاق عن المرجعية " قلت ": نسبة دليل البدل إلى دليل المبدل منه نسبة الحاكم إلى المحكوم لانه ناظر إليه موسع لموضوعه فيجب تقديمه عليه وجوب تقديم الحاكم على المحكوم. هذا كله بالنظر إلى طبع الكلام نفسه أما بملاحظة كون البدلية في حال الاضطرار فلا يبعد كون مقتضى الجمع العرفي كون البدل من قبيل الميسور للتام ولاجل ذلك نقول: لا يجوز تعجيز النفس اختيارا لانه تفويت للتام، فتأمل جيدا. وأما ما كان بلسان الامر فقد يشكل اطلاقه المقتضي للاجزاء إذ الامر انما يدل على وفاء موضوعه بمصلحة مصححة للامر به أما أنها عين مصلحة المبدل أو بعضها فلا يدل عليه الامر ولا يصلح لنفي وجوب الاعادة أو القضاء. نعم لو كان المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول الغرض المترتب على الاختياري مع عدم الامر بالاعادة أو القضاء أمكن الحكم بالاجزاء حينئذ اعتمادا على هذا الاطلاق المقامي المقدم على اطلاق دليل المبدل للحكومة، أو كون الامر واردا مورد جعل البدل فيجري فيه ما تقدم، اللهم إلا أن يقال: دليل المبدل ظاهر في التعيين في حال التمكن وعدمه ودليل البدل ظاهر في تعينه في حال عدم التمكن من المبدل وهما متنافيان للعلم بعدم تعينهما معا فيدور الامر (بين) رفع اليد عن ظهور دليل البدل في التعيين ودليل المبدل فيه بالاضافة إلى بعض مراتب المصلحة ولازمه الحكم بتعين المبدل في تحصيل تمام مرتبة الغرض والتخيير بينه وبين البدل في تحصيل بعضها ويترتب عليه عدم الاجزاء (وبين) رفع اليد عن اطلاق دليل المبدل بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه وحيث أن الثاني أقرب يكون هو المتعين ولازم ذلك اشتراط وجوب المبدل بحال التمكن فيترتب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

أشير إليها في كتابكم السماوي لو أنّكم قرأتموه وعملتم به.

يقول تعالى :( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ) أي نزلت عليهم التوراة وكلّفوا بالعمل بها ولكنّهم لم يؤدّوا حقّها ولم يعملوا بآياتها فمثلهم( كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ) .

لا يشعر هذا الحيوان بما يحمل من كتب إلّا بثقلها ، ولا يميّز بين أن يكون المحمول على ظهره خشب أو حجر أو كتب فيها أدقّ أسرار الخلق وأحسن منهج في الحياة.

لقد اقتنع هؤلاء القوم بتلاوة التوراة واكتفوا بذلك دون أن يعملوا بموجبها.

هؤلاء مثلهم كمثل الحمار الذي يضرب به المثل في الغباء والحماقة.

وذلك أوضح مثال يمكن أن يكشف عن قيمة العلم وأهميّته.

ويشمل هذا الخطاب جميع المسلمين الذين يتعاملون بألفاظ القرآن دون إدراك أبعاده وحكمه الثمينة. (وما أكثر هؤلاء بين المسلمين).

وهناك تفسير آخر هو أنّ اليهود لمّا سمعوا تلك الآيات والآيات المشابهة في السور الاخرى التي تتحدّث عن نعمة بعث الرّسول قالوا : نحن أهل كتاب أيضا ، ونفتخر ببعثة سيّدنا موسىعليه‌السلام كليم الله ، فردّ عليهم القرآن أنّكم جعلتم التوراة وراء ظهوركم ولم تعملوا بما جاء فيها.

على أي حال يعتبر ذلك تحذيرا للمسلمين كافّة من أن ينتهوا إلى ما انتهى إليه اليهود فقد شملتهم الرحمة الإلهية ونزل عليهم القرآن الكريم ، لا لكي يضعوه على الرفوف يعلوه الغبار ، أو يحملوه كما تحمل التعاويذ أو ما إلى ذلك. وقد لا يتعدّى اهتمام بعض المسلمين بالقرآن أكثر من تلاوته بصوت جميل في أغلب الأحيان.

ثمّ يقول تعالى :( بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ) إذ لم يكتفوا بمخالفة القرآن عملا ، بل أنكروه بلسانهم أيضا ، حيث نصّت الآية (٨٧) من سورة

٣٢١

البقرة وهي تصف اليهود قائلة :( أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) .

ويقول تعالى في آخر الآية في عبارة وجيزة :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

صحيح أنّ الهداية شأن إلهي ، ولكن ينبغي أن تهيّأ لها الأرضية اللازمة ، وهي الروح التواقة لطلب الحقّ والبحث عنه ، وهي امور يجب أن يهيّئها الإنسان نفسه ، ولا شكّ أنّ الظالمين يفتقدون مثل هذه الأرضية.

وأوضحنا سابقا أنّ اليهود اعتبروا أنفسهم امّة مختارة ، أو نسيجا خاصّا لا يشبه غيره ، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما ادّعوا أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه المنتقمون ، وهذا ما أشارت إليه الآية (١٨) من سورة المائدة :( وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (رغم أنّهم يقصدون الأبناء المجازيين).

ولكن القرآن شجب هذا التعالي مرّة اخرى بقوله :( قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١) .

فالأحبّاء يتمنون اللقاء دائما ، ولا يتمّ اللقاء المعنوي بالله يوم القيامة إلّا عند ما تزول حجب عالم الدنيا وينقشع غبار الشهوات والهوى ، وحينئذ سيرى الإنسان جمال المحبوب ويجلس على بساط قربه ، ويكون مصداقا لـ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) فيدخل إلى حرم الحبيب.

إنّ خوفكم وفراركم من الموت دليل قاطع على أنّكم متعلّقون بهذه الدنيا وغير صادقين في ادّعائكم.

ويوضّح القرآن الكريم هذا المعنى بتعبير آخر في سورة البقرة آية (٩٦) عند ما يقول تعالى :( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ

__________________

(١) اعتبر بعض المفسرين (من دون الناس) حالا لاسم إن ، بينما قال آخرون : إنها صفة لأولياء.

٣٢٢

أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) .

ثمّ يشير القرآن إلى سبب خوفهم من الموت بقوله :( وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) .

لأنّ خوف الإنسان من الموت ناشئ من عاملين أساسيين :

الأوّل : عدم إيمان الإنسان بالحياة بعد الموت واعتقاده أنّ الموت زوال وفناء.

والثّاني : أعماله السيّئة التي يعتقد أنّه سيواجهها بعد مماته في عالم الآخرة عند ما تقام المحكمة الإلهية.

وإنّما يخاف اليهود من الموت لسوء أعمالهم إذ أنّهم يعتقدون ـ أيضا ـ بيوم الحساب.

وقد وصفهم القرآن الكريم بالظالمين ، وذلك لأنّ الظلم يتّسع ليشمل جميع الأعمال السيّئة والجرائم التي ارتكبوها ، من قتلهم الأنبياء وقول الزور وغصب الحقوق وتلوّثهم بمختلف المفاسد الأخلاقية.

غير أنّ هذا الخوف وذلك الفرار لا يجدي شيئا ، فالموت أمر حتمي لا بدّ أن يدرك الجميع ، إذ يقول تعالى :( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

الموت قانون عام يخضع له الجميع بما فيهم الأنبياء والملائكة وجميع الناس( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .

وكذلك المثول أمام محكمة العدل الإلهي لا يفلت منها أحد ، إضافة إلى علم الله تعالى بأعمال عباده بدقّة وبتفصيل كامل.

وبهذا سوف لا يكون هناك طريق للتخلّص من هذا الخوف سوى تقوى الله وتطهير النفس والقلب من المعاصي ، وبعد أن يخلص الإنسان لله تعالى فإنّه لن

٣٢٣

يخاف الموت حينئذ.

ويعبّر الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام عن هذه المرحلة بقوله : «هيهات بعد اللتيا والتي ، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه»(١) .

* * *

بحثان

١ ـ العالم بلا عمل

ممّا لا شكّ فيه أنّ لطلب العلم تبعات ومسئوليات عديدة ، ولكن مع كثرة هذه التبعات فإنّها لا تساوي شيئا أمام بركاته. وأشدّ ما يخيف الإنسان ويقلقه أن يتحمّل مصاعب طلب العلم ، ويعاني في سبيل ذلك الأمّرين دون أن يحصد بركاته ، وعندها سيكون مثل هذا الإنسان كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا على ظهره لا يعلم منها شيئا.

وقد شبّه العالم بلا عمل في بعض الأمثال بأنّه (كالشجر بلا ثمر) أو (كالسحاب بلا مطر) أو (كالشمعة التي تحرق نفسها لتضيء أطرافها ولكنّها تفنى وتزول) أو (كالحيوان الذي يدير الطاحونة فإنّه يمشي ساعات طويلة دون أن يقطع أيّة مسافة بل يبقى دائما يدور حول نفسه) ، وما إلى ذلك من التشبيهات التي يوضّح كلّ واحد منها جانبا من جوانب النقص حينما لا يقرن العلم بالعمل.

وقد حملت الروايات بشدّة على مثل هؤلاء العلماء الذين لا يعملون بما يعلمون ، ففي رواية عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من إزداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلّا بعدا»(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ٥.

(٢) المحجّة البيضاء ، ج ١ ، ص ١٢٥ ، ١٢٦.

٣٢٤

والعلم يهتف بالعمل فإنّ أجابه وإلّا ارتحل عنه»(١) .

وفي رواية اخرى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر العالم الذي لا يعمل بموجب علمه غير جدير بهذا اللقب حيث يقول : «لا يكون المرء عالما حتّى يكون بعلمه عاملا»(٢) .

وليس أفضل من العالم الذي يعمل بعلمه دون أن يستفيد من مزايا العلم ذاتيا وماديا ، فقد ورد عن أمير المؤمنين في خطبة له على المنبر «أيّها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلّكم تهتدون ، إنّ العالم العامل بغيره ، كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله بل قد رأيت أنّ الحجّة عليه أعظم والحسرة أدوم»(٣) .

ومثل هؤلاء العلماء سيكونون بلاء على المجتمع ووبالا عليه ، وسينتهي المجتمع الذي علماؤه من هذا القبيل إلى مصير خطير.

يقول الشاعر :

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها

فكيف إذا الرعاة لها ذئاب!

٢ ـ لماذا أخاف الموت

قلّة من الناس فقط لا يخافون الموت ويبتسمون له ويحتضنونه ويهبون تلك النفس المتعبة ليحصلوا على الخلود.

والآن لماذا تخاف الموت الأغلبية الغالبة من الناس وتخاف من أعراضه ، بل حتّى من اسمه؟

إنّ السبب الأساسي وراء هذا الخوف هو عدم إيمان هؤلاء بالحياة بعد الموت ، أو إذا كانوا مؤمنين بذلك فإنّهم لم يصدّقوا به تصديقا حقيقيّا ، ولم يتمكّن

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار (٣٦٦).

(٢) اصول الكافي ، ج ١ ، باب استعمال العلم ، حديث ٢٢٦.

(٣) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٦٠٣.

٣٢٥

من جميع أفكارهم وإحساساتهم ومشاعرهم.

إنّ خوف الإنسان من العدم شيء طبيعي ، بل إنّ الإنسان يخاف من الظلمة في الليل التي هي عدم النور ، وأحيانا يصل بالإنسان الخوف إلى أنّه يخاف من الميّت.

ولكن إذا صدقت النفس أنّ (الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر) وإذا أيقنت هذه النفس أنّ هذا البدن الترابي إنّما هو سجن للروح وسور يضرب الحصار عليها ، إذا آمنت بذلك حقّا وكانت نظرة الإنسان إلى الموت هكذا فإنّه سوف لن يخشى الموت أبدا ، وفي نفس الوقت الذي يعتزّ بالحياة من أجل الارتقاء في سلّم التكامل.

لهذا نجد في قصّة عاشوراء : أنّه كلّما ضاقت حلقة الأعداء وإزداد ضغطهم على الإمام الحسين وأصحابه ازدادت وجوههم إشراقا ، حتّى أنّ الشيوخ من أصحابه كانت الابتسامة تطفو على وجوههم في صبيحة عاشوراء ، وحينما كانوا يسألون يقولون : إنّنا سنستشهد بعد ساعات فنعانق الحور العين(١) .

والسبب الآخر الذي يجعل الإنسان يخاف من الموت هو التعلّق بالدنيا أكثر من اللازم ، الأمر الذي يجعله يرى الموت الشيء الذي سيفصله عن محبوبه ومعشوقه التي هي الدنيا.

وكثرة السيّئات وقلّة الحسنات في صحيفة الأعمال هي السبب الثالث وراء الخوف من الموت ، فقد جاء أنّ رجلا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله ، ما بالي لا أحبّ الموت؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لك مال؟ قال : نعم ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد قدّمته؟ قال : لا. قال : فمن ثمّة لا تحبّ الموت»(٢) (لأنّ صحيفة أعمالك خالية من الحسنات).

__________________

(١) مقتل الحسين ـ المقرّم ـ ص ٢٦٣.

(٢) المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ٢٥٨.

٣٢٦

وجاء رجل آخر وسأل (أبا ذرّ) نفس السؤال فأجابه أبو ذرّ قائلا : «لأنّكم عمّرتم الدنيا وخرّبتم الآخرة ، فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب»(١) .

* * *

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ٢٥٨.

٣٢٧

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١) )

سبب النّزول

نقل في سبب نزول هذه الآيات وخصوصا الآية( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ) روايات مختلفة جميعها تخبر عن معنى واحد ، هو أنّه في أحد السنوات «أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم «دحيّة بن خليفة» بتجارة زيت من الشام والنبي يخطب يوم الجمعة فلمّا رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي إلّا رهط فنزلت الآية فقال : «والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا».

٣٢٨

وقال المقاتلان : بينا رسول الله يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحيّة بن خليفة بن فروة الكلبي ثمّ أخذ بني الخزرج ثمّ أخذ بني زيد بن مناة من الشام بتجارة وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلّا أتته وكان يقدم إذا قدم بكلّ ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيره فينزل عند «أحجار الزيت» ، وهو مكان في سوق المدينة ثمّ يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلّا إثنا عشر رجلا وامرأة فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء وأنزل الله هذه الآية(١) .

التّفسير

أكبر تجمّع عبادي سياسي اسبوعي :

كانت الأبحاث السابقة تدور حول مسألة التوحيد والنبوّة والمعاد ، وكذلك ذمّ اليهود عبيد الدنيا ، بينما انصبّ الحديث في الآيات مورد البحث على الركائز الإسلامية المهمّة التي تؤثّر كثيرا على استقرار أساس الإيمان ، وتمثّل الهدف الأساس للسورة ، وهي صلاة الجمعة وبعض الأحكام المتعلّقة بها.

ففي البداية يخاطب الله تعالى المسلمين جميعا بقوله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

«نودي» من مادّة (نداء) وهي هنا بمعنى الأذان إذ لا نداء للصلاة غير الأذان.

وجاء في الآية (٥٨) من سورة المائدة( وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٨٧ ، وأغلب التفاسير الاخرى.

٣٢٩

فعند ما يرتفع الأذان لصلاة الجمعة يكون لزاما على الناس أن يتركوا مكاسبهم ومعايشهم ، ويذهبوا إلى الصلاة وهي أهمّ ذكر لله.

وعبارة( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) إشارة إلى أنّ إقامة صلاة الجمعة وترك المكاسب والعمل في هذا الوقت ، خير وأنفع للمسلمين من حطام الدنيا وملاذها الزائلة لو كانوا يعقلون. وإلّا فإنّ الله غني عن الجميع.

هذه نظرة عابرة إلى فلسفة صلاة الجمعة وما فيها من فضائل سنبحثها تباعا.

من الواضح أنّ لأمر ترك البيع والشراء مفهوما واسعا يشمل كلّ عمل يمكن أن يزاحم الصلاة.

أمّا لماذا سمّي يوم الجمعة بهذا الاسم؟ فهو لاجتماع الناس في هذا اليوم للصلاة ، وهذه المسألة لها تاريخ سنبحثه في النقاط القادمة.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض الروايات جاءت حول الصلاة اليومية «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة»(١) .

وقد عبّرت الآية السابقة فيما يتعلّق بصلاة الجمعة بقولها (فاسعوا) لتعطي أهميّة بالغة لصلاة الجمعة.

المقصود من (ذكر الله) بالدرجة الاولى هو الصلاة ، ولكنّنا نعلم أنّ خطبتي صلاة الجمعة مشتملة هي الاخرى ومتضمّنة (لذكر الله) وهي في الحقيقة جزء من صلاة الجمعة. وبناء على ذلك ينبغي الإسراع لحضور الخطبتين أيضا.

تضيف الآية التي تليها قائلة :( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

ورغم أنّ عبارة( ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) أو ما يشابهها من تعابير ، وردت في القرآن الكريم للحثّ على طلب الرزق والكسب والتجارة ، لكن الظاهر أنّ مفهوم

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٩٠.

٣٣٠

هذه الجملة أوسع من ذلك بكثير. لهذا فسّرها بعضهم بعيادة المريض وزيارة المؤمن وطلب العلم والمعرفة ، ولم يحصروها بهذه المعاني كذلك.

من الواضح أنّ الانتشار في الأرض وطلب الرزق ليس أمرا وجوبيا ، ولكن ـ كما هو معلوم أصوليّا «أمر بعد الحظر والنهي» ـ دليل على الجواز والإباحة. مع أنّ البعض فهم من هذا التعبير أنّ المقصود هو استحباب طلب الرزق والكسب بعد صلاة الجمعة ، وإشارة إلى كونه مباركا أكثر.

وجاء في الحديث أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمشي في السوق بعد صلاة الجمعة.

جملة( وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً ) إشارة إلى ذكر الله تعالى الذي وهب كلّ تلك البركات والنعم للإنسان. وقال بعضهم : إنّ الذكر هنا يعني التفكّر كما جاء في الحديث «تفكّر ساعة خير من عبادة سنة»(١) .

وفسّرها آخرون بمعنى التوجّه إلى الله تعالى في الكسب والمعاملات وعدم الانحراف عن جادّة الحقّ والعدالة.

غير أنّه من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ تلك المعاني ، كما أنّه من المسلّم أنّ روح الذكر هو التفكّر. والذكر الذي لا يكون مقرونا بالتفكّر لا يزيد عن كونه لقلقة لسان ، وإنّ الذكر الممزوج بالتفكّر هو سبب الفوز في جميع الحالات.

وممّا لا شكّ فيه أنّ استمرار الذكر والمداومة عليه يرسخ الخوف من الله ويعمّقه في نفس الإنسان ، ويجعله يستشعر ذلك في أعماق نفسه ، ويقضي نهائيا على أسباب الغفلة والجهل اللذين يشكّلان السبب الأساس لكلّ الذنوب ، ويضع الإنسان في طريق الفلاح دائما. وهناك تتحقّق حقيقة( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

في آخر الآية ـ مورد البحث ـ ورد ذمّ عنيف للأشخاص الذين تركوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاة الجمعة وأسرعوا للشراء من القافلة القادمة ، إذ يقول تعالى :

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٨٩.

٣٣١

( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ) .

ولكن( قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .

فمن المؤكّد ، أنّ الثواب والجزاء الإلهي والبركات التي يحظى بها الإنسان عند حضوره صلاة الجمعة والاستماع إلى المواعظ والحكم التي يلقيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ينتج عن ذلك من تربية روحية ومعنوية ، لا يمكن مقارنتها بأي شيء آخر. فإذا كنتم تظنّون انقطاع الرزق فإنّكم على خطأ كبير لأنّ( اللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .

التعبير بـ «اللهو» إشارة إلى الطبل وسائر آلات اللهو التي كانت تستعمل عند دخول قافلة جديدة إلى المدينة. فقد كانت تستعمل كإعلان وإخبار عن دخول القافلة ، إضافة إلى كونها وسيلة للترفيه والدعاية واللهو ، كما نشاهد ما يشابه ذلك في الغرب هذه الأيّام.

التعبير بـ «انفضّوا» بمعنى الانتشار والانصراف عن صلاة الجمعة والذهاب إلى القافلة. فقد ورد في سبب النزول أنّ المسلمين تركوا الرّسول في خطبة الجمعة وتجمّعوا مع باقي الناس حول قافلة (دحيّة) ـ الذي لم يكن قد أسلم بعد ـ ولم يبق في المسجد إلّا ثلاثة عشر شخصا أو أقل ، كما جاء في رواية اخرى.

والضمير في «إليها» يرجع إلى التجارة التي أسرعوا إليها ، ولم يكن «اللهو» هو الهدف المقصود بل كان مجرّد مقدّمة للإعلان عن وصول القافلة إلى المدينة ، وكذلك للترفيه والدعاية للبضاعة.

التعبير بـ «قائما» يكشف عن أنّ الرّسول كان واقفا يلقي خطبة الجمعة ، كما جاء في حديث عن جابر أنّه قال : (لم أر رسول الله قطّ يخطب وهو جالس ، وكلّ من قال يخطب وهو جالس فكذّبوه)(١) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٨٦.

٣٣٢

وجاء في رواية اخرى أنّه سئل عبد الله بن مسعود يوما : هل كان الرّسول يخطب واقفا؟ قال : ألم تسمعوا قوله تعالى :( وَتَرَكُوكَ قائِماً ) (١) .

وجاء في «الدرّ المنثور» أنّ معاوية كان أوّل شخص ألقى خطبة الجمعة وهو «قاعد».

* * *

بحوث

١ ـ أوّل صلاة جمعة في الإسلام

جاء في بعض الرّوايات أنّ مسلمي المدينة كانوا يتحدّثون مع بعضهم ـ قبل هجرة الرّسول إليهم ـ أنّ لليهود يوما يجتمعون فيه هو (السبت) وللنصارى يوما يجتمعون فيه هو (الأحد) فلما ذا لا نتّخذ نحن يوما معيّنا نذكر الله فيه كثيرا ونشكره؟ وانتخبوا يوما قبل السبت وكان يسمّى (يوم العروبة) وذهبوا إلى (أسعد بن زرارة) ـ أحد وجهاء المدينة وقد صلّى بهم جماعة ووعظهم وسمّي ذلك اليوم بيوم الجمعة لاجتماع المسلمين به. ثمّ أمر (أسعد) أن يذبحوا كبشا ليصنعوا منه غداء وعشاء لجميع المسلمين الذين كان عددهم من القلّة بحيث كفاهم الكبش لهاتين الوجبتين. وكانت هذه أوّل جمعة تقام في الإسلام.

أمّا أوّل جمعة أقامها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه فكانت بعد وصوله إلى المدينة بأربعة أيّام ، وكان وصوله يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل ، بقي بعدها أربعة أيّام في قبا فبنوا (مسجد قبا) وتحرّكوا بعدها إلى المدينة ، وكان ذلك يوم الجمعة ، ولم تكن المسافة بين قبا والمدينة طويلة (وتعتبر قبا اليوم من ضواحي المدينة).

وكان الرّسول قد وصل ضاحية (بني سالم) عند أذان الجمعة فأقيمت صلاة الجمعة

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٢٢ ، ومفسّرين آخر كـ (الآلوسي في روح المعاني والقرطبي).

٣٣٣

هناك. وهذه هي أوّل جمعة أقامها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإسلام ، وقد ألقى فيها خطبة كانت هي بدورها أوّل خطبة لرسول الله في المدينة المنوّرة)(١) .

نقل أحد المحدّثين عن عبد الله بن كعب قوله : (إنّ أبي كان يترحّم على أسعد بن زرارة كلّما سمع أذان صلاة الجمعة ، وعند ما سألته عن سبب ذلك أجابني : (لأنّه كان أوّل رجل أقام صلاة الجمعة) ، فقلت : كم كان عددكم ذلك اليوم؟ قال : أربعون رجلا فقط)(٢) .

٢ ـ أهميّة صلاة الجمعة

إنّ أفضل دليل على أهميّة هذه الفريضة العظيمة هو الآيات الأخيرة في هذه السورة المباركة ، التي أمرت جميع المسلمين وأهل الإيمان بمجرّد سماعهم لأذان الجمعة أن يسرعوا إليها ويتركوا الكسب والعمل ، وكلّ ما من شأنه أن يزاحم هذه الفريضة ، إلى الحدّ الذي نهتهم عن الذهاب إلى تلك القافلة رغم حاجتهم الماسّة إلى ما فيها من طعام إذ كانوا يعيشون القحط والمجاعة. ودعتهم إلى الاستمرار في صلاة الجمعة حتّى النهاية.

ورد في أحاديث اخرى في هذا المجال ـ أيضا ـ منها الخطبة التي نقلتها جميع مصادر المسلمين عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جاء فيها قوله : «إنّ الله تعالى فرض عليكم الجمعة ، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافا بها أو جحودا لها ، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ألا ولا زكاة له ، ألا ولا حجّ له ، ألا ولا صوم له ، ألا ولا برّ له ، حتّى يتوب»(٣) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «صلاة الجمعة فريضة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٨٦.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٨٨.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٧ ، باب وجوب صلاة الجمعة ، حديث ٢٨.

٣٣٤

والاجتماع إليها فريضة مع الإمام ، فإن ترك رجل من غير علّة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ولا يدع ثلاث فرائض من غير علّة إلّا منافق»(١) .

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتى الجمعة إيمانا واحتسابا استأنف العمل»(٢) . أي استغفر ذنوبه ويبدأ العمل من جديد.

والرّوايات كثيرة في هذا المجال ولا يتّسع المجال لذكرها جميعا ، لذا نحاول أن ننهي هذا البحث بحديث آخر ، حيث جاء رجل إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنّي تهيّأت عدّة مرّات للحجّ ولكنّي لم اوفّق. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليك بالجمعة فإنّها حجّ المساكين»(٣) . وفي ذلك إشارة إلى أنّ ما يتضمّنه هذا المؤتمر الإسلامي الكبير (أي الحجّ) من بركات ، موجودة في اجتماع صلاة الجمعة.

ومن الملفت للنظر أنّه قد ورد ذمّ شديد لتارك صلاة الجمعة ، حتّى عدّ التاركون للجمعة في صفّ المنافقين عند ما تكون صلاة الجمعة واجبا عينيّا (أي في زمن حضور الإمام المعصومعليه‌السلام ) وأمّا في زمن الغيبة ـ وبناء على أنّه واجب مخيّر بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر ـ فإنّه لا يكون مشمولا بهذا الذمّ والتقريع رغم عظمة صلاة الجمعة وأهميّتها في هذا الوقت أيضا (للتوسّع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهيّة).

٣ ـ فلسفة صلاة الجمعة العبادية والسياسيّة

إنّ صلاة الجمعة ـ قبل كلّ شيء ـ عبادة جماعية ولها أثر العبادات عموما ، حيث تطهّر الروح والقلب من الذنوب ، وتزيل صدأ المعاصي عن القلوب ، خاصّة وأنّها تكون دائما مسبوقة بخطبتين تشتملان على أنواع المواعظ والحكم ، والحثّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٤ ، حديث ٨.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥ ، حديث ١٠.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥ ، حديث ١٧.

٣٣٥

على التقوى وخوف الله.

أمّا من الناحية السياسيّة والاجتماعية فهي أكبر مؤتمر اسبوعي عظيم بعد مؤتمر الحجّ السنوي ، لهذا نجد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في الرواية التي نقلناها سابقا من أنّ الجمعة حجّ من لا يملك القدرة على المشاركة في الحجّ.

ويعطي الإسلام في الحقيقة أهميّة خاصّة لثلاثة مؤتمرات كبيرة :

التجمّعات التي تتمّ يوميا لصلاة الجماعة.

التجمّع الأسبوعي الأوسع في صلاة الجمعة.

ومؤتمر الحجّ الذي يعقد في كلّ سنة مرّة.

ودور صلاة الجمعة مهمّ جدّا خاصّة وأنّ من واجبات الخطيب هو التحدّث في الخطبتين عن المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبذلك سيكون هذا التجمّع العظيم والمهيب منشأ للبركات والنعم التالية :

أـ توعية الناس على المعارف الإسلامية والأحداث السياسية والاجتماعية المهمّة.

ب ـ توثيق الاتّحاد والانسجام بين المسلمين أكثر لإخافة الأعداء.

ج ـ تجديد الروح الدينية وتصعيد معنويات المسلمين.

د ـ إيجاد التعاون لحلّ المشكلات العامّة التي تواجه المسلمين.

ولهذا فإنّ أعداء الإسلام يخافون دائما من صلاة الجمعة الجامعة للشرائط.

ولهذا أيضا ـ كانت صلاة الجمعة مصدر قوّة سياسية في أيدي حكومات العدل كحكومة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي استثمرها أحسن استثمار لخدمة الإسلام ، وكذلك كانت مصدر قوّة أيضا لحكومات الجور كدولة بني اميّة الذين استغلّوها لتحكيم قدرتهم وسيطرتهم وإضلال الناس.

وعلى مدى التأريخ نلاحظ أنّ أي محاولة للتمرّد على النظام تبدأ أوّلا بالامتناع عن صلاة الجمعة خلف الإمام المنصوب من قبل الحاكم ، فقد جاء في

٣٣٦

قصّة عاشوراء أنّ بعض الشيعة اجتمعوا في دار (سليمان بن صرد الخزاعي) ثمّ بعثوا رسالة إلى الإمام الحسين من الكوفة جاء فيها (.. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ، لسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله»(١) .

وفي الصحيفة السجادية عن الإمام السجّادعليه‌السلام : «اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك ، في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها»(٢) .

وفي خطبة الجمعة يتمّ تبديد جميع الإشاعات التي كان الأعداء قد بثّوها خلال الأسبوع ، وتدبّ بعد ذلك الحياة في جموع المسلمين ويبدأ دم جديد بالتدفّق.

ومن الجدير بالإشارة إليه أنّ فقه أهل البيتعليهم‌السلام ينصّ على عدم جواز إقامة أكثر من جمعة واحدة في منطقة نصف قطرها فرسخ ، كما يمكن أن يشارك في صلاة الجمعة من كان يبعد عنها بمسافة فرسخين (أي ما يعادل أحد عشر كم).

كلّ هذا يعني أنّه لا يمكن إقامة أكثر من صلاة جمعة في مدينة واحدة صغيرة أو كبيرة ، مع أطرافها وضواحيها ، وبناء على هذا فسيكون هذا التجمّع هو أوسع تجمّع يقام في تلك المنطقة.

ولكنّنا نجد مع الأسف أنّ هذه المراسم العبادية السياسية التي تستطيع أن تكون مصدر حركة عظيمة في المجتمعات الإسلامية ، نجدها بسبب سيطرة الحكومات الفاسدة على بعض الدول الإسلامية قد فقدت روحها ومعناها ، إلى الحدّ الذي لا تترك أي أثر إيجابي ، وأصبحت تقام باعتبارها مراسم حكومية رسمية لا أكثر ، وذلك ممّا يحزّ بالنفس ويؤلم كثيرا.

__________________

(١) البحار ، ج ٤٤ ، ص ٣٣٣.

(٢) الصحيفة السجادية ، دعاء ٤٢.

٣٣٧

إنّ أهمّ صلاة جمعة تقام على طول العام هي الصلاة التي تقام قبل الذهاب إلى عرفات في مكّة ، حيث يشارك فيها عدد غفير من الحجّاج الذين تجمّعوا من مختلف أنحاء العالم. ويكون هناك تمثيل حقيقي لكلّ فئات المسلمين في الكرة الأرضية ، ومن اللائق أن يهيّأ لمثل هذه الصلاة الحسّاسة خطبة عظيمة يشارك في إعدادها أئمّة الجمع ليعرضوا فيها امور المسلمين المختلفة.

ومن الطبيعي أن تعطي مثل هذه الخطبة أكلها ، وتفيض بالبركات والوعي بين المسلمين وتحلّ مشاكلهم الخطيرة.

ولكن مع شديد الأسف نرى أنّ خطبة الجمعة في هذه الأيّام لا تتناول سوى الأمور الهامشية ، أو يتمّ التحدّث عن امور معروفة للجميع ، ولا يتمّ التحدّث عن الأمور الأساسية التي تهمّ المسلمين!!

ألا ينبغي البكاء على ذهاب هذه الفرص الذهبية وضياع هذه الثروة المعنوية؟! ألا يدعو ذلك إلى الأسف ويتطلّب الإسراع في الإصلاح؟!

٤ ـ آداب صلاة الجمعة ومضمون الخطبتين

تجب صلاة الجمعة ـ مع توافر الشروط اللازمة ـ على الرجال البالغين والأصحاء الذين لهم القدرة على حضورها والمشاركة فيها ، ولا تجب على المسافرين والمسنّين رغم جواز الحضور فيها للمسافر. وكذلك يمكن للنساء المشاركة في صلاة الجمعة رغم أنّها غير واجبة عليهنّ.

أقلّ عدد يمكن انعقاد الجمعة به هو خمسة رجال.

صلاة الجمعة ركعتين وتقام بدلا عن صلاة الظهر ، وتحسب الخطبتان اللتان يتمّ إلقاؤهما قبل صلاة الجمعة بدل الركعتين الأخيرتين.

وصلاة الجمعة كصلاة الصبح يستحبّ أن يقرأ فيها الحمد والسورة جهرا ،

٣٣٨

ويستحبّ كذلك أن تقرأ سورة الجمعة في الركعة الاولى والمنافقون في الركعة الثانية.

وهناك قنوتان في صلاة الجمعة : أحدهما قبل ركوع الركعة الاولى ، والثاني بعد ركوع الركعة الثانية.

يجب إلقاء الخطبتين قبل الصلاة ، كما يجب أن يقوم الخطيب واقفا لإلقاء الخطبة ، ومن يلقي الخطبة يجب أن يكون إمام صلاة الجمعة. ويجب أن يرفع الخطيب صوته ليسمعه جميع من يحضر الصلاة ويطّلع على مضمون الخطبة. وينبغي السكوت والإنصات إلى الخطيب والجلوس في مقابله.

ومن اللائق أن يكون الخطيب فصيحا وبليغا ومطّلعا على أحوال المسلمين وعارفا بشؤون المجتمع الإسلامي ، وشجاعا وصريح اللهجة ولا يتردّد في إظهار الحقّ ، ويجب أن تكون سيرته مدعاة للتأثير على الناس ، وكذلك حديثه ينبغي أن يربط الناس أكثر بالله جلّ شأنه.

ومن اللائق أن يرتدي الإمام أنظف الملابس ، ويستخدم العطر ، ويمشي بوقار وسكينة. وعند ما يرتقي المنبر يبدأ بالسلام على الناس ويقف مقابلهم ويتكئ على سيف أو عصى. ويجلس على المنبر متى ينتهي الأذان. ويبدأ بخطبته بعد تمام الأذان.

وبحمد الله ويثني عليه ويصلّي على رسوله في بداية الخطبة الاولى (ويقرأ هذا القسم باللغة العربية احتياطا ، وما تبقّى بلسان الحاضرين).

وعليه أن يوصي الناس بتقوى الله ، ويقرأ سورة من السور القصيرة ، ويراعي هذا الأمر في الخطبتين. وفي الخطبة الثانية ، بعد الصلاة على النبي وأئمّة المسلمين ، يدعو ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات.

ومن المناسب أن يناقش الخطيب في خطبته شؤون المسلمين وما يتعلّق بدينهم ودنياهم مع التركيز على الأولويات. وينبغي أن ينبّههم إلى مؤامرات

٣٣٩

الأعداء ويحثّهم ضمن برنامج طويل أو قصير المدّة.

خلاصة القول يجب أن تتوفّر في الخطيب عناصر الوعي والتفكير الصحيح والمتابعة لشؤون المسلمين ، ليستثمر الخطبة في تحقيق الأهداف الإسلامية العليا ، ويدفع المسلمين نحوها(١) .

جاء في حديث عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّه قال : «إنّما جعلت الخطبة يوم الجمعة لأنّ الجمعة مشهد عام ، فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية ، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم ، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق ، من الأهوال التي لهم فيها المضرّة والمنفعة وإنّما جعلت خطبتين لتكون واحدة للثناء على الله والتمجيد والتقديس للهعزوجل ، والاخرى للحوائج والأعذار والإنذار والدعاء ولما يريد أن يعلّمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد»(٢) .

٥ ـ شرائط وجوب صلاة الجمعة

لا شكّ في وجوب أن يكون إمام الجمعة ـ ككل إمام جماعة ـ عادلا إضافة إلى شروط إضافية وقع خلاف فيها وفي وجوب توفّرها.

وقد ذهب البعض أنّ هذه الصلاة من وظائف الإمام المعصوم ونائبه الخاصّ ، أو بتعبير آخر أنّها ـ أي صلاة الجمعة ـ من شؤون عصر حضور الإمام المعصوم.

هذا في وقت يرى عدد كبير من المحقّقين أنّ حضور الإمام المعصوم شرط للوجوب التعييني لصلاة الجمعة ، وليس شرطا في الوجوب التخييري ، حيث يمكن إقامة صلاة الجمعة في زمان الغيبة بدلا عن صلاة الظهر ، وهذا هو الحقّ ، بل

__________________

(١) هناك خلاف في جزئيات وأحكام صلاة الجمعة ينبغي الرجوع فيها إلى فتاوى الفقهاء ، وهذا المذكور خلاصة لتلك الآراء.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٣٩.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624