الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196837 / تحميل: 5658
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وبناء على ذلك يأمرهم البارئ أن يعدوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح ، ويستعدّوا للبعث ويوم الجزاء.

والإيمان هنا لا بدّ أن يرتكز على ثلاثة اصول : (الله) و (الرّسول) و (القرآن) التي تتضمّن الأمور الاخرى جميعا.

التعبير عن القرآن الكريم بأنّه (نور) في آيات متعدّدة ، وكذلك (أنزلنا) شاهدان آخران على ذلك. رغم وجود روايات متعدّدة عن أهل البيتعليهم‌السلام فسّرت كلمة (نور) في الآية ـ مورد البحث ـ بجود الإمام ، ويمكن أن ينظر إلى هذا التّفسير على أنّ وجود الإمام يعتبر تجسيدا عمليا لكتاب الله ، إذ يعبّر عن الرّسول والإمام بـ (القرآن الناطق) فقد جاء في ذيل إحدى هذه الروايات عن الإمام الباقر قوله عن الآية : (وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين)(١) .

وتصف الآية اللاحقة يوم القيامة بقولها :( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) (٢) فإنّ أحد أسماء يوم القيامة هو «يوم الجمع» الذي ورد كرارا بتعبيرات مختلفة في القرآن الكريم ، منها ما جاء في الآية (٤٩) و (٥٠) من سورة الواقعة :( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) .

ثمّ يضيف تعالى( ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ ) (٣) أي اليوم الذي يعرف فيه «الغابن» بالفوز عن «المغبون» بالغلبة ، وهو اليوم الذي ينكشف فيه من هم الناس الذي غبنوا وخسرت تجارتهم؟

اليوم الذي يرى فيه أهل جهنّم مكانهم الخالي في الجنّة ويأسفون لذلك ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٤١.

(٢) «يوم يجمعكم» متعلّقة بـ (لتبعثنّ) أو بجملة (لتنبئن) أو (خبير) أو أنّها متعلّقة بجملة محذوفة مثل «اذكر» لكن هذا بعيد. والمناسب هو أحد الاحتمالات السابقة.

(٣) «التغابن» من باب تفاعل ، وعادة ما يأتي في حالة وجود طرفين تتعارض وتزاحم وهذا المعنى بالنسبة ليوم القيامة ربّما لظهور نتائج تعارض المؤمنين والكفّار ، أي يوم القيامة يوم ظهور التغابن ، ويستفاد من بعض كلمات أهل اللغة أنّ باب التفاعل لا يأتي دوما بهذا المعنى ، فهنا بمعنى ظهور الغبن (مفردات الراغب ـ مادّة غبن).

٣٨١

ويرى أهل الجنّة مكانهم الخالي في النار فيفرحون لذلك ، فقد ورد في أحد الأحاديث أنّ لكلّ إنسان مكانا في الجنّة وآخر في النار ، فحينما يذهب إلى الجنّة يعطى مكانه في جهنّم إلى أهل جهنّم ، ويعطى مكان الجهنمي في الجنّة إلى أهل الجنّة(١) .

والتعبير بـ (الإرث) في الآيات القرآنية ربّما يكون ناظرا إلى هذا المعنى.

ثمّ يتحدّث القرآن الكريم عن أحوال المؤمنين في ذلك اليوم (يوم القيامة) أو (يوم التغابن) قائلا :( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

وستتنزّل النعم الإلهية والبركات بتحقّق الشرطين الأساسيين ، الإيمان والعمل الصالح. فتحلّ المغفرة والتجاوز عن الذنوب التي تشغل تفكير الإنسان أكثر من أي شيء آخر ، وكذلك دخول الجنّة ، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز بعده.

ثمّ يقول تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

وهناك عاملان أساسيان للشقاء يذكرهما القرآن ، هما الكفر والتكذيب بالآيات الإلهية ، وهما النقيضان الواقعيان للإيمان والعمل الصالح.

والاختلاف الأوّل الذي تذكره الآية بين أهل الجنّة وأهل النار هو ذكره الغفران والعفو لأهل الجنّة بينما لم يذكر ذلك لأصحاب النار.

والاختلاف الآخر هو التأكيد على خلود أهل الجنّة في النعيم بقوله (أبدا) بينما اكتفى بالنسبة لأهل النار بذكر الخلود والبقاء فقط ، فقد يكون هذا الاختلاف للإشارة إلى أنّ الذين خلطوا الإيمان بالكفر سوف يخرجون من النار والعذاب

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٣٢.

٣٨٢

آخر المطاف ، أو إشارة لغلبة رحمته على غضبه ، علما أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ عدم ذكر (أبدا) في الجملة الثانية كان نتيجة لذكرها في الجملة الاولى.

* * *

٣٨٣

الآيات

( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) )

التّفسير

كلّ ما يصيبنا بإذنه وعلمه :

في أوّل آية مورد البحث يشير القرآن إلى أصل كلّي عن المصائب والحوادث الأليمة التي تصيب الإنسان ، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الكفّار كانوا دائما يتذرّعون بوجود المصائب والبلايا لنفي العدالة الإلهية في هذا العالم ، أو يكون المراد أنّ طريق الإيمان والعمل الصالح مقرون دائما بالمشاكل ، ولا يصل الإنسان المؤمن إلى مرتبة مقاومتها ، وبذلك يتّضح وجه الارتباط بين هذه الآية وما قبلها.

يقول تعالى أوّلا :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

فما يجري من حوادث كلّها بإذن الله لا تخرج عن إرادته أبدا ، وهذا هو معنى

٣٨٤

(التوحيد الأفعالي) وإنّما بدأ بذكر المصائب باعتبارها هي التي يستفهم عنها الإنسان دائما وتشغل تفكيره. وعند ما نقول يقع ذلك بإرادة الله ، فإنّما نعني «الإرادة التكوينية» لا الإرادة التشريعية.

وهنا يطرح سؤال مهمّ وهو : إنّ كثيرا من هذه الحوادث والكوارث التي تنزل بالناس تأتي من ظلم الظالمين وطغيان الجبابرة ، أو أنّ الإنسان يبتلي بها بسبب الغفلة والجهل والتقصير فهل أنّ ذلك كلّه بإذن الله؟

للإجابة على هذا السؤال نرجع إلى مجموع الآيات التي وردت في هذا المجال ، فنلاحظ أنّها عرضت المصائب على نوعين :

الأوّل : ما يكون جزءا من طبيعة تكوين الإنسان كالموت والحوادث الطبيعية الاخرى ، وهذه لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عنه ، فيقرّر القرآن الكريم بأنّ ذلك يقع بإذن الله.

الثّاني : هو تلك المصائب التي تأتي من تقصير الإنسان ومن عمل يده ، وله الدور الأساسي في تحقّقها ، وهذه يقول القرآن : إنّها تصيبكم بسبب أعمالكم.

وبناء على ذلك فليس للإنسان أن يستسلم للظلم والجهل والفقر.

ومن البديهي أنّ إرادة الله تتدخّل في جميع الأمور حتّى تلك الخاضعة لإرادة الإنسان وفعله ، إذ لا تأثير لجميع الأسباب إلّا بإذنه ، وكلّ شيء خاضع لإرادته وسلطانه ، ويبشّر القرآن المؤمنين بقوله :( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) .

فالمؤمن لا تهزمه المصائب ولا ييأس ولا يجزع. والله يهدي الإنسان حينما يكون شكورا لنعمه ، صابرا على بلائه ، مستسلما لقضائه.

ولهداية القلوب معاني كثيرة منها (الصبر) و (التسليم) و (الشكر) و (الرضى) وقول :( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) وعند ما يذكر المفسّرون أحد هذه الأمور ، فإنّما يريدون بيان مصداق من مصاديق الآية لا معناها الكلّي.

وتقول الآية في نهاية المطاف( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

٣٨٥

وقد يراد من هذا التعبير الإشارة إلى الهدف من وراء هذه الامتحانات والاختبارات الصعبة ، وهو إيقاظ الناس وتربيتهم وإعدادهم لمجابهة الغرور والغفلة ، وسيؤثر ذلك حتما ويدفع الإنسان إلى طاعة الله ورسوله ، و( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) .

لا يخفى أنّ إطاعة الرّسول فرع عن إطاعة الله تعالى وطاعة الرّسول تقع في طول طاعة الله ، فهما في خطّ واحد ، وهذا ما جعله يكرّر كلمة إطاعة.

وإذا ما حاولنا الذهاب أبعد من ذلك ، فإنّ طاعة الله تتعلّق بأصول القوانين والتشريعات الإلهيّة ، بينما طاعة الرّسول في تفسيرها وفي المسائل التنفيذية وفي التفاصيل ، فعلى هذا تكون الاولى هي الأصل ، والثانية فرع.

ثمّ يضيف قائلا :( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

نعم ، إنّ الرّسول ملزم بتبليغ الرسالة ، وسيتولّى البارئ جلّ شأنه محاسبتكم ، وهذا نوع من التهديد الخفي الجادّ.

ويشير القرآن الكريم في الآية اللاحقة إلى قضيّة التوحيد في العبودية ، التي تشكّل المبرّر الطبيعي لوجوب الطاعة ، إذ يقول تعالى :( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) وبما أنّه كذلك إذا :( عَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

فليس غير الله يستحقّ العبودية ، لأنّه لا مالك ولا قادر ولا عالم غيره ، والغنى كلّه له ، وكلّ ما لدى الآخرين فمنه وإليه ، فيجب الرجوع له والاستعانة به على كلّ شيء.

* * *

٣٨٦

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) )

سبب النّزول

في تفسير القمّي في رواية أبي الجارود (عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى :( إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) وذلك أنّ الرجل إذا أراد الهجرة تعلّق به ابنه وامرأته وقالوا : ننشدك الله أن لا تذهب عنّا فنضيع بعدك ،

٣٨٧

فمنهم من يطيع أهله فيقيم ، فحذّرهم الله أبناءهم ونساءهم ، ونهاهم عن طاعتهم ، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول : أما والله لئن لم تهاجروا معي ثمّ جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا. فلمّا جمع الله بينه وبينهم أمر الله أن يتوق بحسن وصله فقال :( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) .

التّفسير

أولادكم وأموالكم وسيلة لامتحانكم :

حذّر القرآن الكريم من مغبّة الوقوع في الحبّ المفرط للأولاد والأموال ، الذي قد يجرّ إلى عدم الطاعة لله ورسوله حيث قال :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) .

إنّ هناك مظاهر عديدة لهذه العداوة ، فأحيانا يتعلّقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة ، واخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم ، وما إلى ذلك.

وليس كلّ الأولاد ، ولا كلّ الزوجات كذلك ، لهذا جاءت «من» التبعيضيّة.

وتظهر هذه العداوة أحيانا بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة ، وحينا آخر تظهر بسوء النيّة وخبث المقصد.

وعلى كلّ حال فإنّ الإنسان يصبح على مفترق طريقين ، فطريق الله وطريق الأهل والأزواج ، ولا ينبغي أن يتردّد الإنسان في اتّخاذ طريق الله وإيثاره على غيره ، ففيه النجاة والصلاح في الدنيا والآخرة. وهذا ما أكّدت عليه الآية ٢٣ من سورة التوبة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

ومن أجل أن لا يؤدّي ذلك إلى الخشونة في معاملة الأهل ، نجد القرآن

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٤٢ ، ونقل هذا المعنى باختصار أشدّ في (الدرّ المنثور) وتفاسير اخرى لم تكن شاملة كالرواية أعلاه.

٣٨٨

يوازن ذلك بقوله في ذيل نفس الآية :( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فإذا ندموا واعتذروا والتحقوا بكم فلا تتعرّضوا لهم بعد ذلك ، واعفوا عنهم واصفحوا كما تحبّون أن يعفوا الله عنكم.

جاء في حديث الإفك أنّ بعض المؤمنين أقسموا أن يقاطعوا أقرباءهم الذين ساهموا في بثّ تلك الشائعة الخبيثة وترويجها ، وأن يمنعوا عنهم أي عون مالي ، فنزلت الآية ٢٢ من تلك السورة :( وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وكما يظهر من المعنى اللغوي فإنّ لغفران الذنب مستويات ثلاثة هي (العفو) بمعنى صرف النظر عن العقوبة ، و (الصفح) في مرتبة أعلى ، ويراد به ترك أي توبيخ ولوم ، و (الغفران) الذي يعني ستر الذنب وتناسبه ، وبهذا فانّ الآية في نفس الوقت الذي تدعو الإنسان إلى الحزم وعدم التسليم في مقابل الزوجة والأولاد فيما لو دعوه إلى سلوك خاطئ تدعوه كذلك إلى بذل العفو والمحبّة في جميع المراحل وكلّ ذلك من أساليب التربية السليمة وتعميق جذور التديّن والإيمان في العائلة.

وتشير الآية اللاحقة إلى أصل كلّي آخر حول الأموال والأولاد ، حيث تقول :( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) فإذا تجاوزتم ذلك كلّه فإنّ( اللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

وقد تقدّم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين يدعون الإنسان إلى الانحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر ، وفي هذه الآية نجد الكلام عن أنّ جميع الأموال والأولاد عبارة عن «فتنة» ، وفي الحقيقة فانّ الله يبتلي الإنسان دائما من أجل تربيته ، وهذين الأمرين (الأموال والأولاد) من أهمّ وسائل الامتحان والابتلاء ، لأنّ جاذبية الأموال من جهة ، وحبّ الأولاد من جهة اخرى يدفعان الإنسان بشدّة إلى سلوك طريق معيّن قد لا

٣٨٩

يكون فيه رضا الله تعالى أحيانا ، ويقع الإنسان في بعض الموارد في مضيقة شديدة ، ولذلك ورد التعبير في الآية «إنّما» التي تدلّ على الحصر.

يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام في رواية عنه «لا يقولنّ أحدكم : اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة لأنّه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن فإنّ الله سبحانه يقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١) .

يلاحظ نفس هذا المعنى مع تفاوت يسير في الآية ٢٨ سورة الأنفال.

وعن كثير من المفسّرين والمؤرخّين (كان رسول الله يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال : «صدق اللهعزوجل :( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما. ثمّ أخذ في خطبته»(٢) .

إن قطع الرّسول لخطبته لا يعني أنّه غفل عن ذكر الله ، أو عن أداء مسئوليته التبليغية ، وإنّما كان على علم بما لهذين الطفلين من مقام عظيم عند الله ، ولذا بادر إلى قطع الخطبة ليبرز مدى حبّه واحترامه لهما.

إنّ عمل الرّسول هذا كان تنبيها لكلّ المسلمين ليعرفوا شأن هذين الطفلين العظيمين ابني علي وفاطمة. فقد ورد في حديث نقلته المصادر المشهورة أنّ البراء بن عازب (صحابي معروف يقول : رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي وهو يقول : «اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه»(٣) .

وفي رواية اخرى أنّ الحسينعليه‌السلام كان يصعد على ظهر الرّسول وهو ساجد ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الجمل القصار ٩٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠١.

(٣) صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٨٨٣ ، حديث ٥٨.

٣٩٠

دون أن يمنعه الرّسول(١) ، كلّ ذلك لإظهار عظمة هذين الإمامين ومقامهما الرفيع.

وجاء في الآية اللاحقة :( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ ) لقد أمر الله تعالى أوّلا باجتناب الذنوب ، ثمّ بإطاعة الأوامر ، وتعدّ الطاعة في قضيّة الإنفاق مقدّمة لتلك الطاعة ، ثمّ يخبرهم أنّ خير ذلك يعود إليكم ولأنفسكم.

قال بعضهم : إن «خيرا» تعني (المال) وهو وسيلة لتحقيق بعض الطاعات ، وما جاء في آية الوصية يعتبر تعزيزا لهذا المعنى( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ) .(٢)

وذهب البعض إلى أنّ كلمة (خيرا) جاءت بمعناها الواسع ، ولم يعتبروها قيدا للإنفاق ، بل هي متعلّقة بالآية ككل ، فانّ ثمار الطاعة ـ كما يقولون ـ تعود لكم.

وربّما يكون هذا التّفسير أقرب من غيره(٣) .

والأمر بالتقوى بقدر المستطاع لا يتنافى مع ما جاء في الآية (١٠٢) من سورة آل عمران حيث تقول :( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) بل هي مكمّلة لتلك ومن المسلّم أنّ أداء حقّ التقوى لا يكون إلّا بالقدر الذي يستطيعه الإنسان ، إذ يتعذّر التكليف بغير المقدور.

فلا مجال لاعتبار الآية ـ مورد البحث ـ ناسخة لتلك الآية في سورة آل عمران كما اعتقد البعض.

وللتأكيد على أهمّيّة الإنفاق ختمت الآية بـ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

__________________

(١) البحار ، ج ٤٣ ، ص ٢٩٦ ، حديث ٥٧.

(٢) البقرة ، الآية ١٨٠.

(٣) على التّفسير الأوّل تكون «خيرا» مفعول للفعل «أنفقوا» ، وعلى الثاني تكون خبرا لفعل مقدّر ، وتقديره «يكن خيرا لكم».

٣٩١

«شحّ» بمعنى «البخل المرادف للحرص» ، ومن المعلوم أنّ هاتين الخصلتين السيّئتين من أكبر الموانع أمام فوز الإنسان ، وتغلق عليه سبيل الإنفاق وتصدّه عن الخير ، ومن يتخلّص من هاتين الخصلتين السيّئتين فلا شكّ أنّه سيضمن السعادة.

هذا وتوجد رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام تقول : «من أدّى الزكاة فقد وقي شحّ نفسه»(١) . ويبدو أنّ ذلك أحد المصاديق الحيّة في مسألة الشحّ وليس كلّ (الشحّ).

وفي حديث آخر عن الصادقعليه‌السلام ـ أيضا ـ : رأيت أبا عبد اللهعليه‌السلام يطوف من أوّل الليل إلى الصباح وهو يقول : «اللهمّ قني شحّ نفسي» فقلت : جعلت فداك ما سمعتك تدعو ، بغير هذا الدعاء قال : «وأي شيء أشدّ من شحّ النفس وأنّ الله يقول :( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) »(٢) .

وللتشجيع على الإنفاق والتحذير من البخل ، يقول تعالى :( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) .

وكم هو رائع هذا التعبير الذي تكرّر مرّات عديدة في القرآن الكريم فالله الخالق الواهب للنعم الذي له كلّ شيء ، يستقرض منّا ثمّ يعدنا بأنّه سيعوّضنا أضعاف ذلك ، إنّه لطف ما بعده لطف!

وغير بعيد أن يكون ذلك إشارة إلى أهميّة الإنفاق من جهة ، وإلى اللطف اللامحدود لله تعالى الذي يغمر به عباده من جهة اخرى.

«القرض» في الأصل بمعنى القطع ، ولأنّها اقترنت بكلمة (حسن) فإنّها تعني فصل المال عن النفس وإنفاقه في الخير.

«يضاعفه» من مادّة «ضعف» (على وزن شعر) وكما قلنا سابقا : إنّها تشتمل على عدّة أضعاف وليس ضعفا واحدا ، كما جاء في سورة البقرة آية ١٦١.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠١.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٤٦.

٣٩٢

وعبارة( يَغْفِرْ لَكُمْ ) للإشارة إلى أنّ الإنفاق أحد عوامل غفران الذنوب.

«شكور» هو أحد صفات الله تعالى الذي يشكر عباده بمجازاتهم أفضل الجزاء وأجزل الجزاء. وكونه (حليم) أي يغفر الذنوب ولا يتعجّل العقوبة.

ويقول في آخر الآية :( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) إنّه مطّلع على أعمال عباده ومنها النفقة والبذل في سبيل الله. وإنّه غير محتاج لكي يستقرض من عباده وإنّما هو إظهار لكمال لطفه ومحبّته لعباده.

وبناء على ذلك فإنّ الصفات الخمس ـ المذكورة في هذه الآية والآية السابقة ـ لله تعالى ، ترتبط كلّها بمسألة الإنفاق في سبيله والحثّ عليه ، والاندكاك بالله تعالى الذي يؤدّي إلى الاقتناع عن ارتكاب الذنوب والاعتصام بالتقوى.

* * *

ملاحظة

حديث مهمّ :

جاء عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما من مولود يولد إلّا في شبابيك رأسه مكتوب خمس آيات من سورة التغابن»(١) .

وقد يكون المقصود بهذه الآيات الخمس آخر سورة التغابن التي تتحدّث عن الأموال والأولاد. وكتابة هذه الآيات الخمس في شبابيك الرأس إشارة إلى حتميتها وكونها جزءا من كيان الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها.

لعلّ التعبير بـ (شبابيك) جمع «شبّاك» ـ على وزن خفّاش ـ بمعنى «المشتبك» إشارة إلى عظام الرأس التي تكون على شكل قطع متداخلة مع بعضها. أو لعلّه إشارة إلى شبكات المخّ.

__________________

(١) روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٤.

٣٩٣

على كلّ فإنّها إشارة إلى وجود هذه المعاني في مخّ النوع البشري.

اللهمّ ، أعنّا على هذا الامتحان الكبير ، امتحان الأموال والأولاد والزوجات.

ربّنا ، لا تبتلنا بالبخل والحرص وشحّ النفس ، فإنّه من نجا من ذلك فقد فاز.

اللهمّ ، جنّبنا الغبن يوم القيامة ، يوم يظهر فيه غبن العاصين وتنكشف فيه معاصيهم وذنوبهم ، واجعلنا في كنف لطفك ورحمتك.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة التغابن

* * *

٣٩٤
٣٩٥

سورة

الطّلاق

مدنيّة

وعدد آياتها اثنتا عشرة آية

٣٩٦

«سورة الطّلاق»

محتوى السورة :

أهمّ مسألة طرحت في هذه السورة ، كما هو واضح من اسمها ، هي مسألة «الطلاق» وأحكامه وخصوصياته ، والأمور التي تلي ذلك ، ثمّ تأتي بعدها أبحاث في المبدأ والمعاد ونبوّة الرّسول والبشارة والإنذار.

ومن هنا نستطيع أن نقسّم محتوى هذه السورة إلى قسمين.

القسم الأوّل : الآيات السبع الاول التي تتحدّث عن الطلاق وما يرتبط به من امور ، وتتعرّض إلى جزئيّات ذلك بعبارات وجيزة بليغة ، وبشكل دقيق وطريف إلى حدّ الإشباع.

القسم الثاني : ويشكّل الدافع الحقيقي للقسم الأوّل من السورة ، ويدور الحديث فيه عن عظمة الله ومقام رسوله وثواب الصالحين وجزاء العاصين على شكل مجموعة منسجمة لضمان إجزاء هذه المسألة الاجتماعية المهمّة. ويذكر أنّ لهذه السورة أسماء اخرى كسورة «النساء القصرى» (على وزن صغرى) مقابل سورة «النساء» المعروفة «النساء الكبرى».

فضيلة تلاوة السورة :

جاء في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الطلاق مات على سنّة رسول الله»(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠٢.

٣٩٧

الآية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) )

التّفسير

شرائط الطلاق والانفصال :

تقدّم أنّ أهمّ بحث في هذه السورة هو بحث الطلاق ، حيث يشرّع القرآن فيها مخاطبا الرّسول الأكرم ، بصفته القائد الكبير للمسلمين ، ثمّ يوضّح حكما عموميّا بصيغة الجمع ، حيث يقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ ) .

هذا هو الحكم الأوّل من الأحكام الخمسة التي جاءت في هذه الآية ، وطبقا لآراء المفسّرين إنّ المراد هو أن تجري صيغة الطلاق عند نقاء المرأة من الدورة الشهرية ، مع عدم المقاربة الزوجية ، لأنّه ـ طبقا للآية ٢٢٨ من سورة البقرة ـ فإنّ عدّة الطلاق يجب أن تكون بمقدار «ثلاثة قروء» أي ثلاثة طهورات متتالية.

٣٩٨

وهنا يؤكّد أنّ الطلاق يجب أن يكون مع بداية العدّة ، وهذا يتحقّق فقط ـ في حالة الطهارة وعدم المقاربة ، فإذا وقع الطلاق في حالة الحيض فإنّ بداية زمان العدّة ينفصل عن بداية الطلاق ، وبداية العدّة ستكون بعد الطهارة.

وإذا كانت في حالة طهر وقد جامعها زوجها ، فإنّ الطلاق لا يتحقّق أيضا ، لأنّ مثل هذه الطهارة ـ بسبب المقاربة ـ لا يمكن أن تكون دليلا على عدم وجود نطفة في الرحم.

على كلّ حال هذا هو أوّل شرط للطلاق.

جاء في روايات عديدة عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «مر فليراجعها ، ثمّ ليتركها حتّى تطهر ، ثمّ تحيض ، ثمّ تطهر. ثمّ ، إن شاء أمسك بعد ، وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ ، فتلك العدّة التي أمر اللهعزوجل أن يطلّق لها النساء»(١) .

وجاء نفس هذا المعنى في روايات عديدة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، حتّى أنّها ذكرت على أنّها تفسير للآية(٢) .

ثمّ يذكر الحكم الثاني وهو حساب العدّة ، حيث يقول تعالى :( وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) .

«أحصوا» من مادّة «الإحصاء» بمعنى الحساب ، وهي في الأصل مأخوذة من «حصى» بمعناها المعروف ، لأنّ كثيرا من الناس كانوا يلجأون في حساب المسائل المختلفة إلى طريقة عدّ «الحصى» لعدم استطاعتهم القراءة والكتابة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب في «حساب العدّة» هم الرجال وليس النساء ، وذلك لوقوع مسئولية «النفقة والسكن» على عاتق الرجال ، كما أنّ «حقّ الرجوع» عن الطلاق يعود إليهم وليس إلى النساء ، وإلّا فهنّ ملزمات أيضا في إحصاء العدّة لتعيين تكليفهنّ.

__________________

(١) كتاب الطلاق عن صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ١٠٩٣ فما بعد.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٤٨ «باب كيفية طلاق العدّة».

٣٩٩

بعد ذلك يدعو الله تعالى الناس جميعا إلى التقوى واجتناب المعاصي ، حيث يقول تعالى :( اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ ) فهو ربّكم الحريص على سعادتكم ، فلا تعظوا له أمرا ولا تتركوا له طاعة ، وخاصّة في «حساب العدّة» والتدقيق بها.

ثمّ يذكر الحكم «الثالث» الذي يتعلّق بالأزواج والحكم «الرابع» الذي يتعلّق بالزوجات ، يقول تعالى :( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ ) .

ورغم أنّ كثيرا من الجهلة لا يلتزمون بهذا الحكم عند الطلاق ، حيث يسمح الرجل لنفسه أن يخرج المرأة بمجرّد إجراء صيغة الطلاق ، كما تسمح المرأة لنفسها بالخروج من بيت زوجها والرجوع إلى أقاربها بمجرّد ذلك.

ولكن يبقى لهذا الحكم فلسفته المهمّة وحكمته البالغة ، فهو بالإضافة إلى إسداء الاحترام إلى المرأة ، يهيئ أرضية جيّدة للانصراف والإعراض عن الطلاق ، ويؤدّي إلى تقوية الأواصر الزوجية.

إنّ عدم الالتزام بهذا الحكم الإسلامي الخطير ، الذي جاء في نصّ القرآن الكريم ، يسبّب كثيرا من حالات الطلاق التي تؤدّي إلى الفراق الدائم ، بينما كثيرا ما يؤدّي الالتزام بهذا الحكم إلى الرجوع والصلح والعودة إلى الزوجية مجدّدا.

ولكن قد تقتضي بعض الظروف إخراج المرأة وعدم القدرة على الاحتفاظ بها في البيت ، فيجيء الحكم الخامس الاستثنائي إذ يقول تعالى :( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) .

كأن يكون الزوجان غير منسجمين إطلاقا ، ويكون أحدهما مثلا سيء الأخلاق إلى الدرجة التي لا يمكن معها البقاء معه في بيت واحد ، وإلّا ستنشأ مشاكل جديدة وعديدة.

ويلاحظ هذا المعنى في روايات كثيرة عن أهل البيتعليهم‌السلام (١) .

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، أحاديث ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، ٢٠.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للآية ، بأن أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ـ قد منع أجيره أجره ـ والظاهر أنّه كان مسلما ـ وقال متهكما : إن كان ما يقوله محمّد حقا فنحن أولى من غيرنا بنعم الجنّة ، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية وقالت : إنّ الجنّة مختصة بمن كان تقيا.

* * *

٤٨١

الآيتان

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) )

سبب النّزول

ذكر جماعة من المفسّرين في سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ الوحي انقطع أيّاما ، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، فلمّا انقضت هذه المدّة قال له : قال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت الآية :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (1) .

التّفسير

الطاعة التّامة :

بالرّغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّا أنّ هذا لا يكون مانعا من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 352 ، عن مجمع البيان ، وتفسير القرطبي ، الجزء 11 ، ص 416 ، وذيل الآية مورد البحث باختلاف يسير.

٤٨٢

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) فكل شيء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

وقد ذكر بعض المفسّرين لجملة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا كما يبدو

ثمّ تضيف الآية : إن كل ذلك بأمر ربّك( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه( فَاعْبُدْهُ ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص. ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت( وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) ، وتقول في آخر جملة :( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) .

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك اليه وتعبده؟

إنّ كلمة (سمي) وإن كانت تعني «المشترك في الاسم» ، إلّا أن من الواضح أنّ المراد هنا ليس الاسم فقط ، بل محتوى الاسم ، أي : هل تعلم أحدا غير الله خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على كل شيء ، وظاهرا على كل شيء؟

* * *

٤٨٣

الآيات

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) )

سبب النّزول

الآيات الأولى ـ على رأي جماعة من المفسّرين ـ نزلت في شأن «أبي بن خلف» ، أو «الوليد بن المغيرة» ، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور ، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة ، وقالوا انظروا إلى محمّد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم ، جوابا قاطعا ، جوابا مفيدا ومعلما لكل البشر ، وفي جميع القرون والأعصار.

٤٨٤

التّفسير

حال أهل النّار :

مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الأولى أقوال منكري المعاد ، فتقول:( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) .

هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا ، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس) ، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في البداية بزيادة ونقيصة ، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الاستفهام فورا.

ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير( أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) . ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه ، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا السؤال ، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل ، وإلّا فإنّه لم يستعمل حقيقة إنسانيته.

إنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني ، وإلّا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط ، ولا وجود لرجوع الجسم إلى الحياة ، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال ، ولا لهذا الجواب.

على كل حال ، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا ، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أيضا ، ومن جملتها في أواخر سورة يس ، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ

٤٨٥

يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) (2) .

بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا ، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا ، بأنّ كل شخص إذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته ، فلما ذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّا ، أو نكتب بخط جميل جدّا ، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.

الجواب هو : صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار ، إلّا أن هناك سلسلة من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحيانا ، فإنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائما ، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا الداخلية ، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلّا أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحيانا ، فلا تستجمع كل الطاقات ، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.

إلّا أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته ، لا تثار حوله هذه المسائل ، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا ، فإنّه إذا عمل عملا فإنّه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.

ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين :( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) .

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي ، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء ، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحيانا.

__________________

(1) يس ، 77 ـ 79.

(2) لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).

٤٨٦

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا ، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثيا» بمعنى جماعة جماعة ، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول :( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) (1) ونبدأ بحسابهم أوّلا ، فإنّهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل ، إن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.

ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أخرى فتقول :( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ) فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإختيار.

(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها ، كما يعني حرق الشيء بالنّار.

* * *

__________________

(1) «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا ، لأنّهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.

٤٨٧

الآيتان

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) )

التّفسير

الجميع يردون جهنم!

تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) .

فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الاقتراب والإشراف ، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إلى جانب جهنم للحساب ، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي ، ثمّ ينجي الله المتقين ، ويدع

٤٨٨

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) حيث أن للورود هنا نفس المعنى.

والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين ، هو أن الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيئهم ـ يدخلون جهنم ، إلّا أنّها ستكون بردا وسلاما على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم( يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) ، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم ، إلّا أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال ، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل ، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني ، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول ، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) وكذلك جملة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى ، ومن جملتها :

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية ، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلّا يدخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجا من بردها ، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا»(1) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي»(2) !

__________________

(1) نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 353.

(2) المصدر السّابق.

٤٨٩

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الرّوايات الأخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط ، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم ، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف ، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(1) .

أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء :( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) دليل على التّفسير الأوّل ، فلا يبدو صحيحا ، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي ، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية :( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الاقتراب ، فهي غير مناسبة لكلمة( مُبْعَدُونَ ) ولا لجملة( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) .

جواب عن سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو : ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة ، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة ، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط ، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة ، فإنّ النّار تصبح بردا وسلاما على هؤلاء ، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى أثر ، كما

روي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حديث : «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم ،

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 572 ذيل آية( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر ، 14.

٤٩٠

فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمر الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالراكب ، ثمّ كشد الرجل ، ثمّ كمشيه»(1) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ أهل النّار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا المشهد ، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار ، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 353.

٤٩١

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) )

التّفسير

هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة

٤٩٢

الظالمين الجائرين بلال وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وسمية ، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأبهى زينة ، ويتبخترون أمام أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء نعم ، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.

«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة ، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء ، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب ، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث ، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر ، أو يجلسون فيه للتشاور : نادي ، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة ، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.

وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب (الندى)(1) وهذه الآية يمكن أن تكون إشارة إلى كل هذه المعاني ، أي : إنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم ، وإن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع ، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

__________________

(1) مفردات الراغب ، مادة (ندى).

٤٩٣

أبلغ وأحسن!

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً ) (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله ، فلما ذا ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟

إنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ.

«القرن» ـ كما قلنا سابقا في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل ، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران ، أي الاقتراب ، فإنّها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.

ثمّ تحذرهم تحذيرا آخر ، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي :( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) إي إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .

في الحقيقة ، إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القرآن يقول :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

__________________

(1) (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا ، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.

٤٩٤

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد ، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم ، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم ، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الاستدراج»(1) .

جملة( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) وإن كانت بصيغة الأمر ، إلّا أنّها بمعنى الخبر ، فمعناها : إنّ الله يمهل هؤلاء ويديهم عليهم النعم.

وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضا ، وأنّه يعني هنا اللعنة ، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.

وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إشارة إلى العقوبات الإلهية في عالم الدنيا ، عقوبات كطوفان نوح ، والزلزلة ، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق ، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة :( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

«الساعة» هنا إمّا بمعنى نهاية الدنيا ، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا أولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدى وإيمانا( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) .

من البديهي أن للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى ، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

__________________

(1) راجع ذيل الآيات 182 ، 183 من سورة الأعراف.

٤٩٥

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع ، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (1) .

* * *

__________________

(1) «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إمّا مصدر بمعنى الرّد والإرجاع ، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.

٤٩٦

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) )

التّفسير

تفكير خرافي ومنحرف :

يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ، وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم!

إنّ هذا النوع من التفكير ، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات ، أو أنّه غطاء وتستّر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية ، فهو تفكير خاطئ وخطير.

لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات

٤٩٧

الأفراد غير المؤمنين ، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين ، دليلا لإثبات هذه الخرفة ، في حين أنّه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر وترك أسس التقوى تبعث على الفخر ، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.

على كل حال ، فقد كان في عصر النّبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقا حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (1) .

ثمّ يجيبهم القرآن الكريم :( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فإنّ الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطلّع على الغيب ، لأنا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.

ثمّ يضيف بلهجة حادة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا :( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) .

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) .

هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد ، كما يحتمل أيضا أن

__________________

(1) نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآية وهو : إنّ أحد المؤمنين ـ واسمه خباب ـ كان يطلب أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ، فقال المدين مستهزئا : إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.

إلّا أنّ سبب النّزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا ، خاصّة وأنّ الكلام عن الولد هنا ، ونحن نعلم أنّ الولد في عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة :( نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) ويتّضح من هذا التعبير أنّ المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.

وعلى كل حال ، فإنّ جماعة من المفسّرين اعتبروا هذه الآية ـ بناء على سبب النّزول هذا ـ إشارة إلى الآخرة ، إلّا أنّ الحق ما قيل.

٤٩٨

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم الإيمان. ويحتمل أيضا أنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!

( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) من الأموال والأولاد( وَيَأْتِينا فَرْداً ) .

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حل مشاكلهم ، لكن ، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّا وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . وكذلك ما نلاحظه في الآية (6) من سورة الأحقاف :( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) .

وقد احتمل بعض كبار المفسّرين أن المراد من الآية : إنّ عبدة الأصنام عند ما ترفع الحجب في القيامة ، وتتضح كل الحقائق ، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا ، فإنّهم ينكرون عبادة الأصنام ، وسيقفون ضدها ، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الأنعام :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، لأن عبّاد الأصنام كانوا يريدون

٤٩٩

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزّا لهم ، إلّا أنّهم يصبحون ضدها في النهاية.

ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة والشياطين والجن واضح ومعلوم ، إلّا أنّ الآلهة الميتة التي لا روح لها ، من الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن يستفاد هذا التّفسير من حديث مروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرءون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.

والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى حول العبادة:ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده»(1) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 357.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624