الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196892 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فترْك الواجبات: كترْك الصلاة والصيام والحجّ والزكاة ونحوها مِن الواجبات. وطريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جُهدَ المستطاع.

وأمّا فعل المحرّمات: كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها مِن المحرّمات، وسبيل التوبة منها بالندم على اقترافها، والعزم الصادق على تركها.

ومِن الذنوب: ما تكون جرائرها بين المرء والناس، وهي أشدّها تبعةً ومسؤوليّة، وأعسرها تلافياً، كغصبِ الأموال، وقتل النفوس البريئة المحرّمة، وهتك المؤمنين بالسبِّ والضرب والنمّ والاغتياب.

والتوبة منها بإرضاء الخصوم، وأداء الظُّلامات إلى أهلها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإنْ عجَز عن ذلك فعليه بالاستغفار، وتوفير رصيد حسَنَاته، والتضرّع إلى الله عزَّ وجل أنْ يرضيهم عنه يوم الحساب.

قبول التوبة:

لا ريب أنّ التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالإجماع، لدلالة القرآن والسنّة عليها:

قال تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) ( الشورى: ٢٥ ).

وقال تعالى:( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) ( غافر: ٣ ).

وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفاً مِن الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة، وفوز التائبين بشرف رضوان اللّه تعالى، وكريم عفوه، وجزيل آلائه.

٢٦١

وأصدَقُ شاهدٍ على ذلك ما جاء في معرض حديث للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال: ( لولا أنّكم تذنبون فتستغفرون اللّه، لخلق اللّه خلقاً، حتّى يذنبوا ثمّ يستغفروا اللّه فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتنٌ توّاب، أما سمِعت قول اللّه:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) )( البقرة: ٢٢٢ )(١) .

أشواق التوبة:

تََتلخّص النصائح الباعثة على التوبة والمشوّقة إليها فيما يلي:

١ - أنْ يتذكّر المُذنب ما صوَّرته الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، مِن غوائل الذنوب، ومآسيها الماديّة والروحيّة، في عاجل الحياة وآجلها، وما توعّد اللّه عليها مِن صنوف التأديب وألوان العِقاب.

٢ - أن يستعرض فضائل التوبة ومآثر التائبين، وما حباهم اللّه به من كريم العفو، وجزيل الأجر، وسمو العناية واللطف، وقد مرّ ذلك في بداية هذا البحث.

وكفى بهاتين النصيحتين تشويقاً إلى التوبة، وتحريضاً عليها، ولا يرغب عنها إلا أحمق بليد، أو ضعيف الايمان والبصيرة.

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ١٠٣ عن الكافي.

٢٦٢

محاسبة النفس ومراقبتها

المحاسبة هي: محاسبة النفس كلّ يوم عمّا عمِلته مِن الطاعات والمبرّات، أو اقترفته من المعاصي والآثام، فإنْ رجُحت كفّة الطاعات على المعاصي، والحسَنات على السيّئات، فعلى المحاسِب أنْ يشكُر اللّه تعالى على ما وفّقه إليه وشرّفه به مِن جميل طاعته وشرف رضاه.

وإنْ رجُحت المعاصي، فعليه أنْ يؤدّب نفسه بالتأنيب والتقريع على شذوذها وانحرافها عن طاعة اللّه تعالى.

وأمّا المراقبة: فهي ضبطُ النفس وصيانتها عن الإخلال بالواجبات ومقارفة المحرّمات.

وجديرٌ بالعاقل المُستنير بالإيمان واليقين، أنْ يروّض نفسه على المحاسبة والمراقبة فإنّها ( أمّارة بالسوء ): متى أُهمِلَت زاغت عن الحقّ، وانجرفت في الآثام والشهَوات، وأودَت بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك، ومتى أُخِذَت بالتوجيه والتهذيب، أشرقت بالفضائل، وازدهرت بالمكارم، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ( الشمس: ٧ - ١٠ ).

٢٦٣

هذا إلى أنّ للمحاسبة، والمراقبة أهميّة كُبرى في تأهّب المؤمن، واستعداده لمواجهة حساب الآخرة، وأهواله الرهيبة، ومِن ثمّ اهتمامه بالتزوّد مِن أعمال البِر والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه.

لذلك طفِقَت النصوص تُشوّق، وتحرّض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : ( إذا أراد أحدكم أنْ لا يسأل ربَّه شيئاً إلاّ أعطاه، فلِيَيأس مِن الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلاّ مِن عند اللّه تعالى، فإذا علِم اللّه تعالى ذلك مِن قلبهِ لم يسأل شيئاً إلاّ أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسَبوا عليها، فإنّ للقيامة خمسين موقفاً، كلّ موقفٍ مقام ألف سنة، ثمّ تلا:( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج: ٤ )(١) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ( ليس منّا مَن لم يُحاسِب نفسه في كل ّيوم، فإنْ عمِل حسنةً استزاد اللّه تعالى، وإنْ عمِل سيّئةً استغفر اللّه تعالى منها وتاب إليه )(٢).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( إنّ رجُلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له: يا رسول اللّه، أوصني.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فهل أنت مستوصٍ إنْ أنا أوصيتك ؟ حتّى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلّها يقول له الرجل: نعم

_____________________

(١) الوافي الجزء الثالث ص ٦٢ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

٢٦٤

يا رسول اللّه.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإنّي أوصيك، إذا أنت همَمْتَ بأمرٍ فتدبّر عاقبته، فإنْ يكُ رُشداً فأمضِه، وإنْ يكُ غيّاً فانته عنه )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام لرجلٍ: ( إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك، وبُيّن لك الدَّاء، وعُرّفت آية الصحّة، ودُلِلْتَ على الدواء، فانظر كيف قياسك على نفسك )(٢) .

وعن موسى بن جعفرعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام قال:

( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سريّة، فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر، وبقيَ عليهم الجهاد الأكبر.

قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر ؟ قال: جهاد النفس. ثمّ قال: أفضل الجهاد مَن جاهد نفسه التي بين جنبيه )(٣).

دستور المحاسبة:

لقد ذكر المعنيّون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأُسلوب مفصّل، ربّما يشقّ على البعض تنفيذه، بيد أنّي أعرضه مُجملاً ومُيسّراً في

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٤٠ عن معاني الأخبار وأمالي الصدوق.

٢٦٥

أمرين هامّين:

١ - أوّل ما يجدر محاسبةُ النفس عليه، أداء الفرائض التي أوجَبها اللّه تعالى على الناس، كالصلاة والصيام والحجِّ والزكاة ونحوها من الفرائض، فإنْ أدّاها المرء على الوجه المطلوب، شكَر اللّه تعالى على ذلك ورجّى نفسه فيما أعدَّ اللّه للمطيعين مِن كرَم الثواب وجزيل الأجر.

وإنْ أغفلها وفرّط في أدائها خوّف نفسه بما توعّد اللّه العُصاة والمتمرّدين عن عباده بالعقاب الأليم، وجدّ في قضائها وتلافيها.

٢ - محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات، وذلك: بزجرها زجراً قاسياً، وتأنيبها على ما فرّط مِن سيّئاتها، ثمّ الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه، والتوبة الصادقة منه.

ولقد ضرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أرفع مثَل لمحاسبة النفس، والتحذير مِن صغائر الذنوب ومحُقَّراتها:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّه نزَل بأرضٍ قَرعاء، فقال لأصحابه: ائتونا بحطب. فقالوا: يا رسول اللّه، نحن بأرضٍ قَرعاء ما بها من حطب. قال: فليأت كلّ إنسانٍ بما قدَر عليه، فجاءوا به حتّى رموا بين يدَيه بعضه على بعض، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هكذا تجتمع الذنوب.

ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات مِن الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وأنّ طالبها يكتب:

٢٦٦

(... مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) )( يس: ١٢ )(١) .

وكان بعض الأولياء يُحاسب نفسه بأُسلوبٍ يستثير الدهشة والإكبار:

من ذلك ما نُقِل عن توبة بن الصمّة، وكان مُحاسباً لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره، فحسب يوماً ما مضى مِن عمره، فإذا هو ستّون سنة، فحسِب أيّامها فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمِئة يوم، فقال: يا ويلتاه !!، ألقى مالكاً بإحدى وعشرين ألف ذنب، ثمّ صُعِق صَعقةً كانت فيها نفسه(٢).

وما أحلى هذا البيت:

إذا المرء أعطى نفسه كلَّ شهوةٍ

ولم ينهها تاقت إلى كلِّ باطلٍ

اغتنام فرصة العمر:

لو وازن الإنسان بين جميع مُتَع الحياة ومباهجها، وبين عمره وحياته لوَجد أنّ العمر أغلى وأنفس منها جميعاً، وأنّه لا يعدله شيء مِن نفائس الحياة وأشواقها الكُثر، إذ من المُمكن اكتسابها أو استرجاع ما نفَر منها.

أمّا العمر فإنّه الوقت المُحدّد الذي لا يستطيع الإنسان إطالة أمده، وتمديد أجلِه المقدّر المحتوم:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف: ٣٤ ).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤٨٨.

٢٦٧

كما يستحيل استرداد ما تصرّم مِن العمر، ولو بذَل المرء في سبيل ذلك جميع مقتنيات الحياة.

وحيث كان الإنسان غفولاً عن قِيَم العمر وجلالة قدره، فهو يُسرِف عابثاً في تَضييعه وإبادته، غير آبهٍ لما تصرّم منه، ولا مُغتنِم فرصته السانحة.

مِن أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيتعليهم‌السلام موضّحة نفاسة العمر، وضرورة استغلاله وصرفه فيما يوجِب سعادة الإنسان ورخائه في حياته العاجلة والآجلة.

قال سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيّته لأبي ذر: ( يا أبا ذر، كُن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك )(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّما الدنيا ثلاثة أيّام: يومٌ مضى بما فيه فليس بعائد، ويومٌ أنت فيه فحقّ عليك اغتنامه، ويومٌ لا تدري أنت مِن أهله، ولعلك راحل فيه.

أمّا اليوم الماضي فحكيم مُؤدّب، وأمّا اليوم الذي أنت فيه فصديقٌ مودّع، وأمّا غد فإنّما في يديك منه الأمل ).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن يومٍ يمرُّ على ابن آدم، إلاّ قال له ذلك اليوم: أنا يومٌ جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيّ خيراً، واعمل

_____________________

(١) الوافي قسم المواعظ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٦٨

فيّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة، فإنّك لنْ تراني بعد هذا أبداً )(١).

وروي أنّه جاء رجلٌ إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام يشكو إليه حاله، فقال: ( مسكينٌ ابن آدم، له في كلّ يومٍ ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدةٍ منهنّ، ولو اعتبَر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا:

فأمّا المصيبة الأُولى: فاليوم الذي ينقص من عمره. قال: وإنْ ناله نُقصان في ماله اغتمّ به، والدهر يخلف عنه والعمر لا يردّه شيء.

والثانية: أنّه يستوفي رزقه، فإنْ كان حلالاً حُوسِبَ عليه، وإنْ كان حراماً عوقِب.

قال: والثالثة أعظم من ذلك.

قيل: وما هي ؟ قال: ما مِن يومٍ يمسي إلاّ وقد دنا مِن الآخرة مرحلة، لا يدري على جنّةٍ أم على نار ).

وقال: ( أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد مِن أمّه ).

( قالت الحُكَماء ما سبَقه إلى هذا أحد )(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فلستَ تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنّك قد اغتبطت )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( لا يغرّنك الناس من نفسك،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الفقيه.

(٢) عن كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد.

(٣) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

٢٦٩

فإنّ الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا، فإنّ معك مَن يحفِظ عليك عملك، فأحسن فإنّي لم أرَ شيئاً أحسن درَكاً، ولا أسرَع طلَباً، مِن حسنةٍ محدّثة لذنب قديم )(١) .

وعن جعفر بن محمّد، عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( بادر بأربَع قبل أربَع، بشبابك قبل هرَمك، وصحّتك قبل سقمك، وغِناك قَبل فقرك، وحياتك قَبل موتك )(٢).

وعن الباقرعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ( لا يزولُ قدمَ ( قدما ) عبدٍ يوم القيامة مِن بين يدَي اللّه، حتّى يسأله عن أربَع خِصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك مِن أين اكتسبته وأين وضَعته، وعن حبّنا أهل البيت ؟)(٣).

وقال بعض الحكماء: إنّ الإنسان مسافر، ومنازله ستّة، وقد قطع منها ثلاثة وبقي ثلاثة:

فالتي قطعها: -

١ - مِن كتم العدَم إلى صُلب الأب وترائب الأُم.

٢ - رحِم الأُم.

٣ - مِن الرحم إلى فضاء الدنيا.

وأمّا التي لم يقطعها: -

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ص ١٦٥ عن كتاب كمال الدين للصدوق.

(٣) البحار م ٧ ص ٣٨٩ عن مجالس الشيخ المفيد.

٢٧٠

فأوّلها القبر. وثانيها فضاء المحشَر. وثالثها الجنّة أو النار.

ونحن الآن في قطع مرحلة المنزل الثالث، ومدّة قطعها مدّة عمرنا، فأيّامنا فراسخ، وساعاتنا أميال، وأنفاسنا خُطوات.

فكم مِن شخصٍ بقي له فراسخ، وآخر بقيَ له أميال، وآخر بقيَ له خُطوات.

وما أروع قول الشاعر:

دقّات قلبِ المرء قائلةٌ له

إنّ الحياةَ دقائقٌ وثَواني

٢٧١

العمل الصالح

لقد عرَفت في البحث السالِف نَفاسَة الوقت، وجلالة العُمر، وأنّه أعزَّ ذخائر الحياة وأنفسها.

وحيثُ كان الوقت كذلك، وجَب على العاقل أنْ يستغلّه فيما يليق به، ويكافئه عزةً ونفاسة مِن الأعمال الصالحة، والغايات السامية، الموجِبة لسعادته ورخائه المادّي والروحي، الدنيوي والأُخروي، كما قال سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو لذّة في غير محرم )(١) .

فهذه هي الأهداف السامية، والغايات الكريمة التي يجدر صَرْف العمر النفيس في طلبها وتحقيقها.

_____________________

(١) الوافي قسم المواعظ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام .

٢٧٢

وحيث كان الإنسان مدفوعاً بغرائزه وأهدافه وأهوائه إلى كسب المعاش، ونيل المُتَع واللذائذ الماديّة، والتهالك عليها، ممّا يصرفه ويُلهيه عن الأعمال الصالحة، والتأهّب للحياة الآخرة، وتوفير موجبات السعادة والهناء فيها. لذلك جاءت الآيات والأخبار مشوّقة إلى الاهتمام بالآخرة، والتزوّد لها مِن العمل الصالح.

قال تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة: ٧ - ٨ ).

وقال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( النحل: ٩٧ ).

وقال تعالي:( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( غافر: ٤٠ ).

وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( الجاثية: ١٥ ).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا أبا ذر، إنّك في ممرِّ الليل والنهار، في آجالٍ منقوصة، وأعمالٍ محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومَن يزرع خيراً يوشَك أنْ يحصِد خيراً، ومَن يزرع شرَّاً يوشِك أنْ يحصدَ ندامة، ولكلّ زارعٍ مثل ما زرَع )(١).

وقال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة مِن بني تميم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت: يا نبيّ اللّه، عِظنا موعظةً ننتفع بها، فإنّا قومٌ

_____________________

(١) الوافي في موعظة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٧٣

نعمّر في البرّية.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا قيس، إنّ مع العزِّ ذُلاًّ، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيء حسيباً، وعلى كلِّ شيءٍ رقيباً، وإنّ لكلّ حسنة ثواباً، ولكلّ سيّئة عقاباً، ولكلِّ أجلٍ كتاباً. وإنّه لا بدَّ لك يا قيس من قرينٍ يُدفَن معك وهو حيّ، وتدفَنُ معه وأنت ميّت، فإنّ كان كريماً أكرمك، وإنْ كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلاّ معك، ولا تُبعث إلاّ معه، ولا تُسأل إلاّ عنه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنّه إنْ صلُح أُنست به، وإنْ فسُد لم تستوحش إلاّ منه، وهو فعلك )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّ العبد إذا كان في آخر يوم مِن أيّام الدنيا، وأوّل يوم مِن أيّام الآخرة، مُثّل له، ماله، وولده، وعمله، فيلتفت إلى ماله، فيقول: واللّه إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك ؟ فيقول: خذ منّي كفنك.

قال: فيلتفت إلى ولده فيقول: واللّه إنّي كنت لكم محبّاً، وإنّي كنت عليكم محامياً، فمالي عندكم ؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك فنواريك فيها

قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: واللّه إنّي كنت فيك لزاهداً، وإنّك كنت عليّ لثقيلاً، فمالي عندك ؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٦٣ عن معاني الأخبار والخِصال وأمالي الصدوق.

٢٧٤

نشرك، حتّى أُعرض أنا وأنت على ربّك )(١).

قال: ( فإنْ كان للّه وليّاً، أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنّة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: مَن أنت ؟ فيقول: أنا عملُك الصالح، ارتحل مِن الدنيا إلى الجنّة...)(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا وضع الميت في قبره، مُثّل له شخص، فقال له: يا هذا، كنّا ثلاثة: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلّوك وانصرفوا عنك، وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك )(٣).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أحسَن فيما بقي من عمره، لم يُؤخَذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر ).

وقد أحسن الشاعر بقوله:

والناس همهم الحياة ولا أرى

طول الحياة يزيد غير خيال

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد

ذخراً يدوم كصالح الأعمال

_____________________

(١) الوافي ج ١٣ ص ٩٢ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٣ ص ٩٢ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٣ ص ٩٤ عن الكافي.

٢٧٥

طاعة اللّه وتقواه:

الإنسان عنصر أصيل مِن عناصر هذا الكون، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثُر، بل هو أجلّها قدراً، وأرفعها شأناً، وذلك بما حباه اللّه عزّ وجل، وشرّفه بصنوف الخصائص والهِبات التي ميّزته على سائر الخلق:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (الإسراء: ٧٠ ).

وكان مِن أبرز مظاهر العناية الإلهيّة بالإنسان، ودلائل تكريمه له: أنْ استخلفه في الأرض، واصطفى مِن عيون نوعه وخاصّتهم رُسُلاً وأنبياءً، بعثهم إلى العباد بالشرائع والمبادئ الموجِبة لتنظيم حياتهم، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة.

ولكنّ أغلب البشر، وا أسفاه ! تستعبدهم الأهواء والشهَوات، وتطفي عليهم نوازع التنكّر والتمرّد على النُظُم الإلهيّة، وتشريعها الهادف البنّاء، فيتيهون في مجاهل العصيان، ويتعسّفون طُرُق الغواية والضلال، ومِن ثمّ يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء، ولو أنّهم استجابوا لطاعة اللّه تعالى، وساروا على هدي نظمه ودساتيره، لسعدوا وفازوا فوزاً عظيماً:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ

٢٧٦

السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ).

أرأيت كيف انتظم الكون، واتّسقت عناصره، واستتبّ نظامه ملايين الأجيال والأحقاب ؟! بخضوعه للّه عزَّ وجل، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه ؟!

أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء، واستقامت بجريها على وفق مشيئة اللّه تعالى، وحكمة نظامه وتدبيره ؟!!.

أرأيت كيف يُطبِّق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكيّة ليضمنوا صيانتها واستغلالها على أفضل وجه ؟!

أرأيت كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء، ويعانون مشقّة العلاج ومرارة الحمية، توخّياً للبرء والشفاء ؟!.

فلِمَ لا يطيع الإنسان خالقه العظيم، ومدبّره الحكيم، الخبير بدخائله وأسراره، ومنافعه ومضارّه ؟!.

إنّه يستحيل على الإنسان أنْ ينال ما يَصبو إليه مِن سعادة وسلام، وطمأنينة ورخاء، إلاّ بطاعة اللّه تعالى، وانتهاج شريعته وقوانينه.

أنظر كيف يشوّق اللّه عزّ وجل، عباده إلى طاعته وتقواه، ويحذّرهم مغبّة التمرّد والعصيان، وهو الغنيّ المُطلق عنهم.

قال تعالى:( وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) ( الأحزاب: ٦١ ).

وقال سُبحانه:( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ) ( الفتح: ١٧ ).

٢٧٧

وأمّا التقوى، فقد علّق اللّه خير الدنيا والآخرة، وأناط بها أعزَّ الأماني والآمال، وإليك بعضها:

١ - المحبّة مِن اللّه تعالى، فقال سُبحانه:( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ( التوبة: ٤ ).

٢ - النجاة مِن الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق، فقال:( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ( الطلاق: ٢ - ٣ ).

٣ - النصر والتأييد، قال تعالى:( إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) ( النحل: ١٢٨ ).

٤ - صلاح الأعمال وقبولها، فقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ )

وقال:( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ).

٥ - البشارة عند الموت، قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ *، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ( يونس:٦٣ - ٦٤ ).

٦ - النجاة من النار، قال تعالى:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ) ( مريم: ٧٢ ).

٧ - الخلود في الجنّة، قال تعالى:( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران: ١٣٣).

فتجلّى مِن هذا العرض، أنّ التقوى هي الكنز العظيم، الحاوي لصنوف الأماني والآمال الماديّة والروحيّة، الدينيّة والدنيويّة.

٢٧٨

حقيقة الطاعة والتقوى:

والطاعة: هي الخضوع للّه عزّ وجل، وامتثال أوامره ونواهيه.

والتقوى: مِن الوقاية، وهي صيانة النفس عمّا يضرّها في الآخرة، وقصرها على ما ينفعها فيها.

وهكذا تواترت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام حاثّة ومرغّبةً على طاعة اللّه تعالى وتقواه، ومحذّرة مِن عِصيانه ومخالفته.

قال الإمام الحسن الزكيعليه‌السلام في موعظته الشهيرة لجُنادة: ( اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج مِن ذُلّ معصية اللّه إلى عزِّ طاعة اللّه عزَّ وجل ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فلستَ تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنّك قد اغتبطت )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة يقوم عنُقٌ مِن الناس، فيأتون باب الجنّة فيضربونه، فيُقال لهم: مَن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيُقال لهم: على ما صبرتم ؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

٢٧٩

ونصبر عن معاصي اللّه. فيقول اللّه عزَّ وجل: صدقوا، أدخلوهم الجنّة، وهو قول اللّه عزّ وجل:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) )( الزمر: ١٠)(١).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إذا أردت أنْ تعلم أنّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبِك، فإنْ كان يُحبُّ أهل طاعة اللّه عزّ وجل، ويَبغض أهل معصيته ففيك خير، واللّه يُحبُّك.

وإنْ كان يَبغض أهل طاعة اللّه، ويُحِبّ أهل معصيته فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع مَن أحب )(٢).

وقالعليه‌السلام : ما عرَف اللّه مَن عصاه، وأنشد:

تَعصي الإله وأنتَ تُظهر حُبّه

هذا لعمرك في الفِعال بديعُ

لو كان حُبّك صادقاً لأطَعته

إنّ المحبّ لِمن أحبّ مطيع

وعن الحسن بن موسى الوّشا البغدادي قال: كنت بخُراسان مع عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام في مجلسه، وزيد بن موسى حاضر، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول: نحن ونحن، وأبو الحسن مُقبلٌ على قومٍ يحدّثهم، فسمِع مقالة زيد، فالتفت إليه.

فقال: ( يا زيد، أغرّك قولُ بقّاليّ الكوفة، إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللّه ذرّيتها على النار، واللّه ما ذلك إلاّ للحسن والحسين، وولد بطنها خاصّة، فأمّا أنْ يكون موسى بن جعفر يطيع اللّه، ويصوم نهاره، ويقوم ليله،

_____________________

(١) البحار م ٥ ص ٢ ص ٤٩ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ١ ص ٢٨٣ عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وبناء على ذلك يأمرهم البارئ أن يعدوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح ، ويستعدّوا للبعث ويوم الجزاء.

والإيمان هنا لا بدّ أن يرتكز على ثلاثة اصول : (الله) و (الرّسول) و (القرآن) التي تتضمّن الأمور الاخرى جميعا.

التعبير عن القرآن الكريم بأنّه (نور) في آيات متعدّدة ، وكذلك (أنزلنا) شاهدان آخران على ذلك. رغم وجود روايات متعدّدة عن أهل البيتعليهم‌السلام فسّرت كلمة (نور) في الآية ـ مورد البحث ـ بجود الإمام ، ويمكن أن ينظر إلى هذا التّفسير على أنّ وجود الإمام يعتبر تجسيدا عمليا لكتاب الله ، إذ يعبّر عن الرّسول والإمام بـ (القرآن الناطق) فقد جاء في ذيل إحدى هذه الروايات عن الإمام الباقر قوله عن الآية : (وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين)(١) .

وتصف الآية اللاحقة يوم القيامة بقولها :( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) (٢) فإنّ أحد أسماء يوم القيامة هو «يوم الجمع» الذي ورد كرارا بتعبيرات مختلفة في القرآن الكريم ، منها ما جاء في الآية (٤٩) و (٥٠) من سورة الواقعة :( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) .

ثمّ يضيف تعالى( ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ ) (٣) أي اليوم الذي يعرف فيه «الغابن» بالفوز عن «المغبون» بالغلبة ، وهو اليوم الذي ينكشف فيه من هم الناس الذي غبنوا وخسرت تجارتهم؟

اليوم الذي يرى فيه أهل جهنّم مكانهم الخالي في الجنّة ويأسفون لذلك ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٤١.

(٢) «يوم يجمعكم» متعلّقة بـ (لتبعثنّ) أو بجملة (لتنبئن) أو (خبير) أو أنّها متعلّقة بجملة محذوفة مثل «اذكر» لكن هذا بعيد. والمناسب هو أحد الاحتمالات السابقة.

(٣) «التغابن» من باب تفاعل ، وعادة ما يأتي في حالة وجود طرفين تتعارض وتزاحم وهذا المعنى بالنسبة ليوم القيامة ربّما لظهور نتائج تعارض المؤمنين والكفّار ، أي يوم القيامة يوم ظهور التغابن ، ويستفاد من بعض كلمات أهل اللغة أنّ باب التفاعل لا يأتي دوما بهذا المعنى ، فهنا بمعنى ظهور الغبن (مفردات الراغب ـ مادّة غبن).

٣٨١

ويرى أهل الجنّة مكانهم الخالي في النار فيفرحون لذلك ، فقد ورد في أحد الأحاديث أنّ لكلّ إنسان مكانا في الجنّة وآخر في النار ، فحينما يذهب إلى الجنّة يعطى مكانه في جهنّم إلى أهل جهنّم ، ويعطى مكان الجهنمي في الجنّة إلى أهل الجنّة(١) .

والتعبير بـ (الإرث) في الآيات القرآنية ربّما يكون ناظرا إلى هذا المعنى.

ثمّ يتحدّث القرآن الكريم عن أحوال المؤمنين في ذلك اليوم (يوم القيامة) أو (يوم التغابن) قائلا :( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

وستتنزّل النعم الإلهية والبركات بتحقّق الشرطين الأساسيين ، الإيمان والعمل الصالح. فتحلّ المغفرة والتجاوز عن الذنوب التي تشغل تفكير الإنسان أكثر من أي شيء آخر ، وكذلك دخول الجنّة ، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز بعده.

ثمّ يقول تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

وهناك عاملان أساسيان للشقاء يذكرهما القرآن ، هما الكفر والتكذيب بالآيات الإلهية ، وهما النقيضان الواقعيان للإيمان والعمل الصالح.

والاختلاف الأوّل الذي تذكره الآية بين أهل الجنّة وأهل النار هو ذكره الغفران والعفو لأهل الجنّة بينما لم يذكر ذلك لأصحاب النار.

والاختلاف الآخر هو التأكيد على خلود أهل الجنّة في النعيم بقوله (أبدا) بينما اكتفى بالنسبة لأهل النار بذكر الخلود والبقاء فقط ، فقد يكون هذا الاختلاف للإشارة إلى أنّ الذين خلطوا الإيمان بالكفر سوف يخرجون من النار والعذاب

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٣٢.

٣٨٢

آخر المطاف ، أو إشارة لغلبة رحمته على غضبه ، علما أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ عدم ذكر (أبدا) في الجملة الثانية كان نتيجة لذكرها في الجملة الاولى.

* * *

٣٨٣

الآيات

( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) )

التّفسير

كلّ ما يصيبنا بإذنه وعلمه :

في أوّل آية مورد البحث يشير القرآن إلى أصل كلّي عن المصائب والحوادث الأليمة التي تصيب الإنسان ، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الكفّار كانوا دائما يتذرّعون بوجود المصائب والبلايا لنفي العدالة الإلهية في هذا العالم ، أو يكون المراد أنّ طريق الإيمان والعمل الصالح مقرون دائما بالمشاكل ، ولا يصل الإنسان المؤمن إلى مرتبة مقاومتها ، وبذلك يتّضح وجه الارتباط بين هذه الآية وما قبلها.

يقول تعالى أوّلا :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

فما يجري من حوادث كلّها بإذن الله لا تخرج عن إرادته أبدا ، وهذا هو معنى

٣٨٤

(التوحيد الأفعالي) وإنّما بدأ بذكر المصائب باعتبارها هي التي يستفهم عنها الإنسان دائما وتشغل تفكيره. وعند ما نقول يقع ذلك بإرادة الله ، فإنّما نعني «الإرادة التكوينية» لا الإرادة التشريعية.

وهنا يطرح سؤال مهمّ وهو : إنّ كثيرا من هذه الحوادث والكوارث التي تنزل بالناس تأتي من ظلم الظالمين وطغيان الجبابرة ، أو أنّ الإنسان يبتلي بها بسبب الغفلة والجهل والتقصير فهل أنّ ذلك كلّه بإذن الله؟

للإجابة على هذا السؤال نرجع إلى مجموع الآيات التي وردت في هذا المجال ، فنلاحظ أنّها عرضت المصائب على نوعين :

الأوّل : ما يكون جزءا من طبيعة تكوين الإنسان كالموت والحوادث الطبيعية الاخرى ، وهذه لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عنه ، فيقرّر القرآن الكريم بأنّ ذلك يقع بإذن الله.

الثّاني : هو تلك المصائب التي تأتي من تقصير الإنسان ومن عمل يده ، وله الدور الأساسي في تحقّقها ، وهذه يقول القرآن : إنّها تصيبكم بسبب أعمالكم.

وبناء على ذلك فليس للإنسان أن يستسلم للظلم والجهل والفقر.

ومن البديهي أنّ إرادة الله تتدخّل في جميع الأمور حتّى تلك الخاضعة لإرادة الإنسان وفعله ، إذ لا تأثير لجميع الأسباب إلّا بإذنه ، وكلّ شيء خاضع لإرادته وسلطانه ، ويبشّر القرآن المؤمنين بقوله :( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) .

فالمؤمن لا تهزمه المصائب ولا ييأس ولا يجزع. والله يهدي الإنسان حينما يكون شكورا لنعمه ، صابرا على بلائه ، مستسلما لقضائه.

ولهداية القلوب معاني كثيرة منها (الصبر) و (التسليم) و (الشكر) و (الرضى) وقول :( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) وعند ما يذكر المفسّرون أحد هذه الأمور ، فإنّما يريدون بيان مصداق من مصاديق الآية لا معناها الكلّي.

وتقول الآية في نهاية المطاف( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

٣٨٥

وقد يراد من هذا التعبير الإشارة إلى الهدف من وراء هذه الامتحانات والاختبارات الصعبة ، وهو إيقاظ الناس وتربيتهم وإعدادهم لمجابهة الغرور والغفلة ، وسيؤثر ذلك حتما ويدفع الإنسان إلى طاعة الله ورسوله ، و( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) .

لا يخفى أنّ إطاعة الرّسول فرع عن إطاعة الله تعالى وطاعة الرّسول تقع في طول طاعة الله ، فهما في خطّ واحد ، وهذا ما جعله يكرّر كلمة إطاعة.

وإذا ما حاولنا الذهاب أبعد من ذلك ، فإنّ طاعة الله تتعلّق بأصول القوانين والتشريعات الإلهيّة ، بينما طاعة الرّسول في تفسيرها وفي المسائل التنفيذية وفي التفاصيل ، فعلى هذا تكون الاولى هي الأصل ، والثانية فرع.

ثمّ يضيف قائلا :( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

نعم ، إنّ الرّسول ملزم بتبليغ الرسالة ، وسيتولّى البارئ جلّ شأنه محاسبتكم ، وهذا نوع من التهديد الخفي الجادّ.

ويشير القرآن الكريم في الآية اللاحقة إلى قضيّة التوحيد في العبودية ، التي تشكّل المبرّر الطبيعي لوجوب الطاعة ، إذ يقول تعالى :( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) وبما أنّه كذلك إذا :( عَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

فليس غير الله يستحقّ العبودية ، لأنّه لا مالك ولا قادر ولا عالم غيره ، والغنى كلّه له ، وكلّ ما لدى الآخرين فمنه وإليه ، فيجب الرجوع له والاستعانة به على كلّ شيء.

* * *

٣٨٦

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) )

سبب النّزول

في تفسير القمّي في رواية أبي الجارود (عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى :( إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) وذلك أنّ الرجل إذا أراد الهجرة تعلّق به ابنه وامرأته وقالوا : ننشدك الله أن لا تذهب عنّا فنضيع بعدك ،

٣٨٧

فمنهم من يطيع أهله فيقيم ، فحذّرهم الله أبناءهم ونساءهم ، ونهاهم عن طاعتهم ، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول : أما والله لئن لم تهاجروا معي ثمّ جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا. فلمّا جمع الله بينه وبينهم أمر الله أن يتوق بحسن وصله فقال :( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) .

التّفسير

أولادكم وأموالكم وسيلة لامتحانكم :

حذّر القرآن الكريم من مغبّة الوقوع في الحبّ المفرط للأولاد والأموال ، الذي قد يجرّ إلى عدم الطاعة لله ورسوله حيث قال :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) .

إنّ هناك مظاهر عديدة لهذه العداوة ، فأحيانا يتعلّقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة ، واخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم ، وما إلى ذلك.

وليس كلّ الأولاد ، ولا كلّ الزوجات كذلك ، لهذا جاءت «من» التبعيضيّة.

وتظهر هذه العداوة أحيانا بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة ، وحينا آخر تظهر بسوء النيّة وخبث المقصد.

وعلى كلّ حال فإنّ الإنسان يصبح على مفترق طريقين ، فطريق الله وطريق الأهل والأزواج ، ولا ينبغي أن يتردّد الإنسان في اتّخاذ طريق الله وإيثاره على غيره ، ففيه النجاة والصلاح في الدنيا والآخرة. وهذا ما أكّدت عليه الآية ٢٣ من سورة التوبة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

ومن أجل أن لا يؤدّي ذلك إلى الخشونة في معاملة الأهل ، نجد القرآن

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٤٢ ، ونقل هذا المعنى باختصار أشدّ في (الدرّ المنثور) وتفاسير اخرى لم تكن شاملة كالرواية أعلاه.

٣٨٨

يوازن ذلك بقوله في ذيل نفس الآية :( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فإذا ندموا واعتذروا والتحقوا بكم فلا تتعرّضوا لهم بعد ذلك ، واعفوا عنهم واصفحوا كما تحبّون أن يعفوا الله عنكم.

جاء في حديث الإفك أنّ بعض المؤمنين أقسموا أن يقاطعوا أقرباءهم الذين ساهموا في بثّ تلك الشائعة الخبيثة وترويجها ، وأن يمنعوا عنهم أي عون مالي ، فنزلت الآية ٢٢ من تلك السورة :( وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وكما يظهر من المعنى اللغوي فإنّ لغفران الذنب مستويات ثلاثة هي (العفو) بمعنى صرف النظر عن العقوبة ، و (الصفح) في مرتبة أعلى ، ويراد به ترك أي توبيخ ولوم ، و (الغفران) الذي يعني ستر الذنب وتناسبه ، وبهذا فانّ الآية في نفس الوقت الذي تدعو الإنسان إلى الحزم وعدم التسليم في مقابل الزوجة والأولاد فيما لو دعوه إلى سلوك خاطئ تدعوه كذلك إلى بذل العفو والمحبّة في جميع المراحل وكلّ ذلك من أساليب التربية السليمة وتعميق جذور التديّن والإيمان في العائلة.

وتشير الآية اللاحقة إلى أصل كلّي آخر حول الأموال والأولاد ، حيث تقول :( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) فإذا تجاوزتم ذلك كلّه فإنّ( اللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

وقد تقدّم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين يدعون الإنسان إلى الانحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر ، وفي هذه الآية نجد الكلام عن أنّ جميع الأموال والأولاد عبارة عن «فتنة» ، وفي الحقيقة فانّ الله يبتلي الإنسان دائما من أجل تربيته ، وهذين الأمرين (الأموال والأولاد) من أهمّ وسائل الامتحان والابتلاء ، لأنّ جاذبية الأموال من جهة ، وحبّ الأولاد من جهة اخرى يدفعان الإنسان بشدّة إلى سلوك طريق معيّن قد لا

٣٨٩

يكون فيه رضا الله تعالى أحيانا ، ويقع الإنسان في بعض الموارد في مضيقة شديدة ، ولذلك ورد التعبير في الآية «إنّما» التي تدلّ على الحصر.

يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام في رواية عنه «لا يقولنّ أحدكم : اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة لأنّه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن فإنّ الله سبحانه يقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١) .

يلاحظ نفس هذا المعنى مع تفاوت يسير في الآية ٢٨ سورة الأنفال.

وعن كثير من المفسّرين والمؤرخّين (كان رسول الله يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال : «صدق اللهعزوجل :( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما. ثمّ أخذ في خطبته»(٢) .

إن قطع الرّسول لخطبته لا يعني أنّه غفل عن ذكر الله ، أو عن أداء مسئوليته التبليغية ، وإنّما كان على علم بما لهذين الطفلين من مقام عظيم عند الله ، ولذا بادر إلى قطع الخطبة ليبرز مدى حبّه واحترامه لهما.

إنّ عمل الرّسول هذا كان تنبيها لكلّ المسلمين ليعرفوا شأن هذين الطفلين العظيمين ابني علي وفاطمة. فقد ورد في حديث نقلته المصادر المشهورة أنّ البراء بن عازب (صحابي معروف يقول : رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي وهو يقول : «اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه»(٣) .

وفي رواية اخرى أنّ الحسينعليه‌السلام كان يصعد على ظهر الرّسول وهو ساجد ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الجمل القصار ٩٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠١.

(٣) صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٨٨٣ ، حديث ٥٨.

٣٩٠

دون أن يمنعه الرّسول(١) ، كلّ ذلك لإظهار عظمة هذين الإمامين ومقامهما الرفيع.

وجاء في الآية اللاحقة :( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ ) لقد أمر الله تعالى أوّلا باجتناب الذنوب ، ثمّ بإطاعة الأوامر ، وتعدّ الطاعة في قضيّة الإنفاق مقدّمة لتلك الطاعة ، ثمّ يخبرهم أنّ خير ذلك يعود إليكم ولأنفسكم.

قال بعضهم : إن «خيرا» تعني (المال) وهو وسيلة لتحقيق بعض الطاعات ، وما جاء في آية الوصية يعتبر تعزيزا لهذا المعنى( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ) .(٢)

وذهب البعض إلى أنّ كلمة (خيرا) جاءت بمعناها الواسع ، ولم يعتبروها قيدا للإنفاق ، بل هي متعلّقة بالآية ككل ، فانّ ثمار الطاعة ـ كما يقولون ـ تعود لكم.

وربّما يكون هذا التّفسير أقرب من غيره(٣) .

والأمر بالتقوى بقدر المستطاع لا يتنافى مع ما جاء في الآية (١٠٢) من سورة آل عمران حيث تقول :( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) بل هي مكمّلة لتلك ومن المسلّم أنّ أداء حقّ التقوى لا يكون إلّا بالقدر الذي يستطيعه الإنسان ، إذ يتعذّر التكليف بغير المقدور.

فلا مجال لاعتبار الآية ـ مورد البحث ـ ناسخة لتلك الآية في سورة آل عمران كما اعتقد البعض.

وللتأكيد على أهمّيّة الإنفاق ختمت الآية بـ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

__________________

(١) البحار ، ج ٤٣ ، ص ٢٩٦ ، حديث ٥٧.

(٢) البقرة ، الآية ١٨٠.

(٣) على التّفسير الأوّل تكون «خيرا» مفعول للفعل «أنفقوا» ، وعلى الثاني تكون خبرا لفعل مقدّر ، وتقديره «يكن خيرا لكم».

٣٩١

«شحّ» بمعنى «البخل المرادف للحرص» ، ومن المعلوم أنّ هاتين الخصلتين السيّئتين من أكبر الموانع أمام فوز الإنسان ، وتغلق عليه سبيل الإنفاق وتصدّه عن الخير ، ومن يتخلّص من هاتين الخصلتين السيّئتين فلا شكّ أنّه سيضمن السعادة.

هذا وتوجد رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام تقول : «من أدّى الزكاة فقد وقي شحّ نفسه»(١) . ويبدو أنّ ذلك أحد المصاديق الحيّة في مسألة الشحّ وليس كلّ (الشحّ).

وفي حديث آخر عن الصادقعليه‌السلام ـ أيضا ـ : رأيت أبا عبد اللهعليه‌السلام يطوف من أوّل الليل إلى الصباح وهو يقول : «اللهمّ قني شحّ نفسي» فقلت : جعلت فداك ما سمعتك تدعو ، بغير هذا الدعاء قال : «وأي شيء أشدّ من شحّ النفس وأنّ الله يقول :( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) »(٢) .

وللتشجيع على الإنفاق والتحذير من البخل ، يقول تعالى :( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) .

وكم هو رائع هذا التعبير الذي تكرّر مرّات عديدة في القرآن الكريم فالله الخالق الواهب للنعم الذي له كلّ شيء ، يستقرض منّا ثمّ يعدنا بأنّه سيعوّضنا أضعاف ذلك ، إنّه لطف ما بعده لطف!

وغير بعيد أن يكون ذلك إشارة إلى أهميّة الإنفاق من جهة ، وإلى اللطف اللامحدود لله تعالى الذي يغمر به عباده من جهة اخرى.

«القرض» في الأصل بمعنى القطع ، ولأنّها اقترنت بكلمة (حسن) فإنّها تعني فصل المال عن النفس وإنفاقه في الخير.

«يضاعفه» من مادّة «ضعف» (على وزن شعر) وكما قلنا سابقا : إنّها تشتمل على عدّة أضعاف وليس ضعفا واحدا ، كما جاء في سورة البقرة آية ١٦١.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠١.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٤٦.

٣٩٢

وعبارة( يَغْفِرْ لَكُمْ ) للإشارة إلى أنّ الإنفاق أحد عوامل غفران الذنوب.

«شكور» هو أحد صفات الله تعالى الذي يشكر عباده بمجازاتهم أفضل الجزاء وأجزل الجزاء. وكونه (حليم) أي يغفر الذنوب ولا يتعجّل العقوبة.

ويقول في آخر الآية :( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) إنّه مطّلع على أعمال عباده ومنها النفقة والبذل في سبيل الله. وإنّه غير محتاج لكي يستقرض من عباده وإنّما هو إظهار لكمال لطفه ومحبّته لعباده.

وبناء على ذلك فإنّ الصفات الخمس ـ المذكورة في هذه الآية والآية السابقة ـ لله تعالى ، ترتبط كلّها بمسألة الإنفاق في سبيله والحثّ عليه ، والاندكاك بالله تعالى الذي يؤدّي إلى الاقتناع عن ارتكاب الذنوب والاعتصام بالتقوى.

* * *

ملاحظة

حديث مهمّ :

جاء عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما من مولود يولد إلّا في شبابيك رأسه مكتوب خمس آيات من سورة التغابن»(١) .

وقد يكون المقصود بهذه الآيات الخمس آخر سورة التغابن التي تتحدّث عن الأموال والأولاد. وكتابة هذه الآيات الخمس في شبابيك الرأس إشارة إلى حتميتها وكونها جزءا من كيان الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها.

لعلّ التعبير بـ (شبابيك) جمع «شبّاك» ـ على وزن خفّاش ـ بمعنى «المشتبك» إشارة إلى عظام الرأس التي تكون على شكل قطع متداخلة مع بعضها. أو لعلّه إشارة إلى شبكات المخّ.

__________________

(١) روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٤.

٣٩٣

على كلّ فإنّها إشارة إلى وجود هذه المعاني في مخّ النوع البشري.

اللهمّ ، أعنّا على هذا الامتحان الكبير ، امتحان الأموال والأولاد والزوجات.

ربّنا ، لا تبتلنا بالبخل والحرص وشحّ النفس ، فإنّه من نجا من ذلك فقد فاز.

اللهمّ ، جنّبنا الغبن يوم القيامة ، يوم يظهر فيه غبن العاصين وتنكشف فيه معاصيهم وذنوبهم ، واجعلنا في كنف لطفك ورحمتك.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة التغابن

* * *

٣٩٤
٣٩٥

سورة

الطّلاق

مدنيّة

وعدد آياتها اثنتا عشرة آية

٣٩٦

«سورة الطّلاق»

محتوى السورة :

أهمّ مسألة طرحت في هذه السورة ، كما هو واضح من اسمها ، هي مسألة «الطلاق» وأحكامه وخصوصياته ، والأمور التي تلي ذلك ، ثمّ تأتي بعدها أبحاث في المبدأ والمعاد ونبوّة الرّسول والبشارة والإنذار.

ومن هنا نستطيع أن نقسّم محتوى هذه السورة إلى قسمين.

القسم الأوّل : الآيات السبع الاول التي تتحدّث عن الطلاق وما يرتبط به من امور ، وتتعرّض إلى جزئيّات ذلك بعبارات وجيزة بليغة ، وبشكل دقيق وطريف إلى حدّ الإشباع.

القسم الثاني : ويشكّل الدافع الحقيقي للقسم الأوّل من السورة ، ويدور الحديث فيه عن عظمة الله ومقام رسوله وثواب الصالحين وجزاء العاصين على شكل مجموعة منسجمة لضمان إجزاء هذه المسألة الاجتماعية المهمّة. ويذكر أنّ لهذه السورة أسماء اخرى كسورة «النساء القصرى» (على وزن صغرى) مقابل سورة «النساء» المعروفة «النساء الكبرى».

فضيلة تلاوة السورة :

جاء في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الطلاق مات على سنّة رسول الله»(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠٢.

٣٩٧

الآية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) )

التّفسير

شرائط الطلاق والانفصال :

تقدّم أنّ أهمّ بحث في هذه السورة هو بحث الطلاق ، حيث يشرّع القرآن فيها مخاطبا الرّسول الأكرم ، بصفته القائد الكبير للمسلمين ، ثمّ يوضّح حكما عموميّا بصيغة الجمع ، حيث يقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ ) .

هذا هو الحكم الأوّل من الأحكام الخمسة التي جاءت في هذه الآية ، وطبقا لآراء المفسّرين إنّ المراد هو أن تجري صيغة الطلاق عند نقاء المرأة من الدورة الشهرية ، مع عدم المقاربة الزوجية ، لأنّه ـ طبقا للآية ٢٢٨ من سورة البقرة ـ فإنّ عدّة الطلاق يجب أن تكون بمقدار «ثلاثة قروء» أي ثلاثة طهورات متتالية.

٣٩٨

وهنا يؤكّد أنّ الطلاق يجب أن يكون مع بداية العدّة ، وهذا يتحقّق فقط ـ في حالة الطهارة وعدم المقاربة ، فإذا وقع الطلاق في حالة الحيض فإنّ بداية زمان العدّة ينفصل عن بداية الطلاق ، وبداية العدّة ستكون بعد الطهارة.

وإذا كانت في حالة طهر وقد جامعها زوجها ، فإنّ الطلاق لا يتحقّق أيضا ، لأنّ مثل هذه الطهارة ـ بسبب المقاربة ـ لا يمكن أن تكون دليلا على عدم وجود نطفة في الرحم.

على كلّ حال هذا هو أوّل شرط للطلاق.

جاء في روايات عديدة عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «مر فليراجعها ، ثمّ ليتركها حتّى تطهر ، ثمّ تحيض ، ثمّ تطهر. ثمّ ، إن شاء أمسك بعد ، وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ ، فتلك العدّة التي أمر اللهعزوجل أن يطلّق لها النساء»(١) .

وجاء نفس هذا المعنى في روايات عديدة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، حتّى أنّها ذكرت على أنّها تفسير للآية(٢) .

ثمّ يذكر الحكم الثاني وهو حساب العدّة ، حيث يقول تعالى :( وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) .

«أحصوا» من مادّة «الإحصاء» بمعنى الحساب ، وهي في الأصل مأخوذة من «حصى» بمعناها المعروف ، لأنّ كثيرا من الناس كانوا يلجأون في حساب المسائل المختلفة إلى طريقة عدّ «الحصى» لعدم استطاعتهم القراءة والكتابة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب في «حساب العدّة» هم الرجال وليس النساء ، وذلك لوقوع مسئولية «النفقة والسكن» على عاتق الرجال ، كما أنّ «حقّ الرجوع» عن الطلاق يعود إليهم وليس إلى النساء ، وإلّا فهنّ ملزمات أيضا في إحصاء العدّة لتعيين تكليفهنّ.

__________________

(١) كتاب الطلاق عن صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ١٠٩٣ فما بعد.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٤٨ «باب كيفية طلاق العدّة».

٣٩٩

بعد ذلك يدعو الله تعالى الناس جميعا إلى التقوى واجتناب المعاصي ، حيث يقول تعالى :( اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ ) فهو ربّكم الحريص على سعادتكم ، فلا تعظوا له أمرا ولا تتركوا له طاعة ، وخاصّة في «حساب العدّة» والتدقيق بها.

ثمّ يذكر الحكم «الثالث» الذي يتعلّق بالأزواج والحكم «الرابع» الذي يتعلّق بالزوجات ، يقول تعالى :( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ ) .

ورغم أنّ كثيرا من الجهلة لا يلتزمون بهذا الحكم عند الطلاق ، حيث يسمح الرجل لنفسه أن يخرج المرأة بمجرّد إجراء صيغة الطلاق ، كما تسمح المرأة لنفسها بالخروج من بيت زوجها والرجوع إلى أقاربها بمجرّد ذلك.

ولكن يبقى لهذا الحكم فلسفته المهمّة وحكمته البالغة ، فهو بالإضافة إلى إسداء الاحترام إلى المرأة ، يهيئ أرضية جيّدة للانصراف والإعراض عن الطلاق ، ويؤدّي إلى تقوية الأواصر الزوجية.

إنّ عدم الالتزام بهذا الحكم الإسلامي الخطير ، الذي جاء في نصّ القرآن الكريم ، يسبّب كثيرا من حالات الطلاق التي تؤدّي إلى الفراق الدائم ، بينما كثيرا ما يؤدّي الالتزام بهذا الحكم إلى الرجوع والصلح والعودة إلى الزوجية مجدّدا.

ولكن قد تقتضي بعض الظروف إخراج المرأة وعدم القدرة على الاحتفاظ بها في البيت ، فيجيء الحكم الخامس الاستثنائي إذ يقول تعالى :( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) .

كأن يكون الزوجان غير منسجمين إطلاقا ، ويكون أحدهما مثلا سيء الأخلاق إلى الدرجة التي لا يمكن معها البقاء معه في بيت واحد ، وإلّا ستنشأ مشاكل جديدة وعديدة.

ويلاحظ هذا المعنى في روايات كثيرة عن أهل البيتعليهم‌السلام (١) .

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، أحاديث ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، ٢٠.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624