الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196944 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وبناء على ذلك يأمرهم البارئ أن يعدوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح ، ويستعدّوا للبعث ويوم الجزاء.

والإيمان هنا لا بدّ أن يرتكز على ثلاثة اصول : (الله) و (الرّسول) و (القرآن) التي تتضمّن الأمور الاخرى جميعا.

التعبير عن القرآن الكريم بأنّه (نور) في آيات متعدّدة ، وكذلك (أنزلنا) شاهدان آخران على ذلك. رغم وجود روايات متعدّدة عن أهل البيتعليهم‌السلام فسّرت كلمة (نور) في الآية ـ مورد البحث ـ بجود الإمام ، ويمكن أن ينظر إلى هذا التّفسير على أنّ وجود الإمام يعتبر تجسيدا عمليا لكتاب الله ، إذ يعبّر عن الرّسول والإمام بـ (القرآن الناطق) فقد جاء في ذيل إحدى هذه الروايات عن الإمام الباقر قوله عن الآية : (وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين)(١) .

وتصف الآية اللاحقة يوم القيامة بقولها :( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) (٢) فإنّ أحد أسماء يوم القيامة هو «يوم الجمع» الذي ورد كرارا بتعبيرات مختلفة في القرآن الكريم ، منها ما جاء في الآية (٤٩) و (٥٠) من سورة الواقعة :( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) .

ثمّ يضيف تعالى( ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ ) (٣) أي اليوم الذي يعرف فيه «الغابن» بالفوز عن «المغبون» بالغلبة ، وهو اليوم الذي ينكشف فيه من هم الناس الذي غبنوا وخسرت تجارتهم؟

اليوم الذي يرى فيه أهل جهنّم مكانهم الخالي في الجنّة ويأسفون لذلك ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٤١.

(٢) «يوم يجمعكم» متعلّقة بـ (لتبعثنّ) أو بجملة (لتنبئن) أو (خبير) أو أنّها متعلّقة بجملة محذوفة مثل «اذكر» لكن هذا بعيد. والمناسب هو أحد الاحتمالات السابقة.

(٣) «التغابن» من باب تفاعل ، وعادة ما يأتي في حالة وجود طرفين تتعارض وتزاحم وهذا المعنى بالنسبة ليوم القيامة ربّما لظهور نتائج تعارض المؤمنين والكفّار ، أي يوم القيامة يوم ظهور التغابن ، ويستفاد من بعض كلمات أهل اللغة أنّ باب التفاعل لا يأتي دوما بهذا المعنى ، فهنا بمعنى ظهور الغبن (مفردات الراغب ـ مادّة غبن).

٣٨١

ويرى أهل الجنّة مكانهم الخالي في النار فيفرحون لذلك ، فقد ورد في أحد الأحاديث أنّ لكلّ إنسان مكانا في الجنّة وآخر في النار ، فحينما يذهب إلى الجنّة يعطى مكانه في جهنّم إلى أهل جهنّم ، ويعطى مكان الجهنمي في الجنّة إلى أهل الجنّة(١) .

والتعبير بـ (الإرث) في الآيات القرآنية ربّما يكون ناظرا إلى هذا المعنى.

ثمّ يتحدّث القرآن الكريم عن أحوال المؤمنين في ذلك اليوم (يوم القيامة) أو (يوم التغابن) قائلا :( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

وستتنزّل النعم الإلهية والبركات بتحقّق الشرطين الأساسيين ، الإيمان والعمل الصالح. فتحلّ المغفرة والتجاوز عن الذنوب التي تشغل تفكير الإنسان أكثر من أي شيء آخر ، وكذلك دخول الجنّة ، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز بعده.

ثمّ يقول تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

وهناك عاملان أساسيان للشقاء يذكرهما القرآن ، هما الكفر والتكذيب بالآيات الإلهية ، وهما النقيضان الواقعيان للإيمان والعمل الصالح.

والاختلاف الأوّل الذي تذكره الآية بين أهل الجنّة وأهل النار هو ذكره الغفران والعفو لأهل الجنّة بينما لم يذكر ذلك لأصحاب النار.

والاختلاف الآخر هو التأكيد على خلود أهل الجنّة في النعيم بقوله (أبدا) بينما اكتفى بالنسبة لأهل النار بذكر الخلود والبقاء فقط ، فقد يكون هذا الاختلاف للإشارة إلى أنّ الذين خلطوا الإيمان بالكفر سوف يخرجون من النار والعذاب

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٣٢.

٣٨٢

آخر المطاف ، أو إشارة لغلبة رحمته على غضبه ، علما أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ عدم ذكر (أبدا) في الجملة الثانية كان نتيجة لذكرها في الجملة الاولى.

* * *

٣٨٣

الآيات

( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) )

التّفسير

كلّ ما يصيبنا بإذنه وعلمه :

في أوّل آية مورد البحث يشير القرآن إلى أصل كلّي عن المصائب والحوادث الأليمة التي تصيب الإنسان ، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الكفّار كانوا دائما يتذرّعون بوجود المصائب والبلايا لنفي العدالة الإلهية في هذا العالم ، أو يكون المراد أنّ طريق الإيمان والعمل الصالح مقرون دائما بالمشاكل ، ولا يصل الإنسان المؤمن إلى مرتبة مقاومتها ، وبذلك يتّضح وجه الارتباط بين هذه الآية وما قبلها.

يقول تعالى أوّلا :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

فما يجري من حوادث كلّها بإذن الله لا تخرج عن إرادته أبدا ، وهذا هو معنى

٣٨٤

(التوحيد الأفعالي) وإنّما بدأ بذكر المصائب باعتبارها هي التي يستفهم عنها الإنسان دائما وتشغل تفكيره. وعند ما نقول يقع ذلك بإرادة الله ، فإنّما نعني «الإرادة التكوينية» لا الإرادة التشريعية.

وهنا يطرح سؤال مهمّ وهو : إنّ كثيرا من هذه الحوادث والكوارث التي تنزل بالناس تأتي من ظلم الظالمين وطغيان الجبابرة ، أو أنّ الإنسان يبتلي بها بسبب الغفلة والجهل والتقصير فهل أنّ ذلك كلّه بإذن الله؟

للإجابة على هذا السؤال نرجع إلى مجموع الآيات التي وردت في هذا المجال ، فنلاحظ أنّها عرضت المصائب على نوعين :

الأوّل : ما يكون جزءا من طبيعة تكوين الإنسان كالموت والحوادث الطبيعية الاخرى ، وهذه لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عنه ، فيقرّر القرآن الكريم بأنّ ذلك يقع بإذن الله.

الثّاني : هو تلك المصائب التي تأتي من تقصير الإنسان ومن عمل يده ، وله الدور الأساسي في تحقّقها ، وهذه يقول القرآن : إنّها تصيبكم بسبب أعمالكم.

وبناء على ذلك فليس للإنسان أن يستسلم للظلم والجهل والفقر.

ومن البديهي أنّ إرادة الله تتدخّل في جميع الأمور حتّى تلك الخاضعة لإرادة الإنسان وفعله ، إذ لا تأثير لجميع الأسباب إلّا بإذنه ، وكلّ شيء خاضع لإرادته وسلطانه ، ويبشّر القرآن المؤمنين بقوله :( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) .

فالمؤمن لا تهزمه المصائب ولا ييأس ولا يجزع. والله يهدي الإنسان حينما يكون شكورا لنعمه ، صابرا على بلائه ، مستسلما لقضائه.

ولهداية القلوب معاني كثيرة منها (الصبر) و (التسليم) و (الشكر) و (الرضى) وقول :( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) وعند ما يذكر المفسّرون أحد هذه الأمور ، فإنّما يريدون بيان مصداق من مصاديق الآية لا معناها الكلّي.

وتقول الآية في نهاية المطاف( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

٣٨٥

وقد يراد من هذا التعبير الإشارة إلى الهدف من وراء هذه الامتحانات والاختبارات الصعبة ، وهو إيقاظ الناس وتربيتهم وإعدادهم لمجابهة الغرور والغفلة ، وسيؤثر ذلك حتما ويدفع الإنسان إلى طاعة الله ورسوله ، و( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) .

لا يخفى أنّ إطاعة الرّسول فرع عن إطاعة الله تعالى وطاعة الرّسول تقع في طول طاعة الله ، فهما في خطّ واحد ، وهذا ما جعله يكرّر كلمة إطاعة.

وإذا ما حاولنا الذهاب أبعد من ذلك ، فإنّ طاعة الله تتعلّق بأصول القوانين والتشريعات الإلهيّة ، بينما طاعة الرّسول في تفسيرها وفي المسائل التنفيذية وفي التفاصيل ، فعلى هذا تكون الاولى هي الأصل ، والثانية فرع.

ثمّ يضيف قائلا :( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

نعم ، إنّ الرّسول ملزم بتبليغ الرسالة ، وسيتولّى البارئ جلّ شأنه محاسبتكم ، وهذا نوع من التهديد الخفي الجادّ.

ويشير القرآن الكريم في الآية اللاحقة إلى قضيّة التوحيد في العبودية ، التي تشكّل المبرّر الطبيعي لوجوب الطاعة ، إذ يقول تعالى :( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) وبما أنّه كذلك إذا :( عَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

فليس غير الله يستحقّ العبودية ، لأنّه لا مالك ولا قادر ولا عالم غيره ، والغنى كلّه له ، وكلّ ما لدى الآخرين فمنه وإليه ، فيجب الرجوع له والاستعانة به على كلّ شيء.

* * *

٣٨٦

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) )

سبب النّزول

في تفسير القمّي في رواية أبي الجارود (عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى :( إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) وذلك أنّ الرجل إذا أراد الهجرة تعلّق به ابنه وامرأته وقالوا : ننشدك الله أن لا تذهب عنّا فنضيع بعدك ،

٣٨٧

فمنهم من يطيع أهله فيقيم ، فحذّرهم الله أبناءهم ونساءهم ، ونهاهم عن طاعتهم ، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول : أما والله لئن لم تهاجروا معي ثمّ جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا. فلمّا جمع الله بينه وبينهم أمر الله أن يتوق بحسن وصله فقال :( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) .

التّفسير

أولادكم وأموالكم وسيلة لامتحانكم :

حذّر القرآن الكريم من مغبّة الوقوع في الحبّ المفرط للأولاد والأموال ، الذي قد يجرّ إلى عدم الطاعة لله ورسوله حيث قال :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) .

إنّ هناك مظاهر عديدة لهذه العداوة ، فأحيانا يتعلّقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة ، واخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم ، وما إلى ذلك.

وليس كلّ الأولاد ، ولا كلّ الزوجات كذلك ، لهذا جاءت «من» التبعيضيّة.

وتظهر هذه العداوة أحيانا بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة ، وحينا آخر تظهر بسوء النيّة وخبث المقصد.

وعلى كلّ حال فإنّ الإنسان يصبح على مفترق طريقين ، فطريق الله وطريق الأهل والأزواج ، ولا ينبغي أن يتردّد الإنسان في اتّخاذ طريق الله وإيثاره على غيره ، ففيه النجاة والصلاح في الدنيا والآخرة. وهذا ما أكّدت عليه الآية ٢٣ من سورة التوبة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

ومن أجل أن لا يؤدّي ذلك إلى الخشونة في معاملة الأهل ، نجد القرآن

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٤٢ ، ونقل هذا المعنى باختصار أشدّ في (الدرّ المنثور) وتفاسير اخرى لم تكن شاملة كالرواية أعلاه.

٣٨٨

يوازن ذلك بقوله في ذيل نفس الآية :( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فإذا ندموا واعتذروا والتحقوا بكم فلا تتعرّضوا لهم بعد ذلك ، واعفوا عنهم واصفحوا كما تحبّون أن يعفوا الله عنكم.

جاء في حديث الإفك أنّ بعض المؤمنين أقسموا أن يقاطعوا أقرباءهم الذين ساهموا في بثّ تلك الشائعة الخبيثة وترويجها ، وأن يمنعوا عنهم أي عون مالي ، فنزلت الآية ٢٢ من تلك السورة :( وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وكما يظهر من المعنى اللغوي فإنّ لغفران الذنب مستويات ثلاثة هي (العفو) بمعنى صرف النظر عن العقوبة ، و (الصفح) في مرتبة أعلى ، ويراد به ترك أي توبيخ ولوم ، و (الغفران) الذي يعني ستر الذنب وتناسبه ، وبهذا فانّ الآية في نفس الوقت الذي تدعو الإنسان إلى الحزم وعدم التسليم في مقابل الزوجة والأولاد فيما لو دعوه إلى سلوك خاطئ تدعوه كذلك إلى بذل العفو والمحبّة في جميع المراحل وكلّ ذلك من أساليب التربية السليمة وتعميق جذور التديّن والإيمان في العائلة.

وتشير الآية اللاحقة إلى أصل كلّي آخر حول الأموال والأولاد ، حيث تقول :( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) فإذا تجاوزتم ذلك كلّه فإنّ( اللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

وقد تقدّم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين يدعون الإنسان إلى الانحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر ، وفي هذه الآية نجد الكلام عن أنّ جميع الأموال والأولاد عبارة عن «فتنة» ، وفي الحقيقة فانّ الله يبتلي الإنسان دائما من أجل تربيته ، وهذين الأمرين (الأموال والأولاد) من أهمّ وسائل الامتحان والابتلاء ، لأنّ جاذبية الأموال من جهة ، وحبّ الأولاد من جهة اخرى يدفعان الإنسان بشدّة إلى سلوك طريق معيّن قد لا

٣٨٩

يكون فيه رضا الله تعالى أحيانا ، ويقع الإنسان في بعض الموارد في مضيقة شديدة ، ولذلك ورد التعبير في الآية «إنّما» التي تدلّ على الحصر.

يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام في رواية عنه «لا يقولنّ أحدكم : اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة لأنّه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن فإنّ الله سبحانه يقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١) .

يلاحظ نفس هذا المعنى مع تفاوت يسير في الآية ٢٨ سورة الأنفال.

وعن كثير من المفسّرين والمؤرخّين (كان رسول الله يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال : «صدق اللهعزوجل :( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما. ثمّ أخذ في خطبته»(٢) .

إن قطع الرّسول لخطبته لا يعني أنّه غفل عن ذكر الله ، أو عن أداء مسئوليته التبليغية ، وإنّما كان على علم بما لهذين الطفلين من مقام عظيم عند الله ، ولذا بادر إلى قطع الخطبة ليبرز مدى حبّه واحترامه لهما.

إنّ عمل الرّسول هذا كان تنبيها لكلّ المسلمين ليعرفوا شأن هذين الطفلين العظيمين ابني علي وفاطمة. فقد ورد في حديث نقلته المصادر المشهورة أنّ البراء بن عازب (صحابي معروف يقول : رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي وهو يقول : «اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه»(٣) .

وفي رواية اخرى أنّ الحسينعليه‌السلام كان يصعد على ظهر الرّسول وهو ساجد ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الجمل القصار ٩٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠١.

(٣) صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٨٨٣ ، حديث ٥٨.

٣٩٠

دون أن يمنعه الرّسول(١) ، كلّ ذلك لإظهار عظمة هذين الإمامين ومقامهما الرفيع.

وجاء في الآية اللاحقة :( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ ) لقد أمر الله تعالى أوّلا باجتناب الذنوب ، ثمّ بإطاعة الأوامر ، وتعدّ الطاعة في قضيّة الإنفاق مقدّمة لتلك الطاعة ، ثمّ يخبرهم أنّ خير ذلك يعود إليكم ولأنفسكم.

قال بعضهم : إن «خيرا» تعني (المال) وهو وسيلة لتحقيق بعض الطاعات ، وما جاء في آية الوصية يعتبر تعزيزا لهذا المعنى( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ) .(٢)

وذهب البعض إلى أنّ كلمة (خيرا) جاءت بمعناها الواسع ، ولم يعتبروها قيدا للإنفاق ، بل هي متعلّقة بالآية ككل ، فانّ ثمار الطاعة ـ كما يقولون ـ تعود لكم.

وربّما يكون هذا التّفسير أقرب من غيره(٣) .

والأمر بالتقوى بقدر المستطاع لا يتنافى مع ما جاء في الآية (١٠٢) من سورة آل عمران حيث تقول :( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) بل هي مكمّلة لتلك ومن المسلّم أنّ أداء حقّ التقوى لا يكون إلّا بالقدر الذي يستطيعه الإنسان ، إذ يتعذّر التكليف بغير المقدور.

فلا مجال لاعتبار الآية ـ مورد البحث ـ ناسخة لتلك الآية في سورة آل عمران كما اعتقد البعض.

وللتأكيد على أهمّيّة الإنفاق ختمت الآية بـ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

__________________

(١) البحار ، ج ٤٣ ، ص ٢٩٦ ، حديث ٥٧.

(٢) البقرة ، الآية ١٨٠.

(٣) على التّفسير الأوّل تكون «خيرا» مفعول للفعل «أنفقوا» ، وعلى الثاني تكون خبرا لفعل مقدّر ، وتقديره «يكن خيرا لكم».

٣٩١

«شحّ» بمعنى «البخل المرادف للحرص» ، ومن المعلوم أنّ هاتين الخصلتين السيّئتين من أكبر الموانع أمام فوز الإنسان ، وتغلق عليه سبيل الإنفاق وتصدّه عن الخير ، ومن يتخلّص من هاتين الخصلتين السيّئتين فلا شكّ أنّه سيضمن السعادة.

هذا وتوجد رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام تقول : «من أدّى الزكاة فقد وقي شحّ نفسه»(١) . ويبدو أنّ ذلك أحد المصاديق الحيّة في مسألة الشحّ وليس كلّ (الشحّ).

وفي حديث آخر عن الصادقعليه‌السلام ـ أيضا ـ : رأيت أبا عبد اللهعليه‌السلام يطوف من أوّل الليل إلى الصباح وهو يقول : «اللهمّ قني شحّ نفسي» فقلت : جعلت فداك ما سمعتك تدعو ، بغير هذا الدعاء قال : «وأي شيء أشدّ من شحّ النفس وأنّ الله يقول :( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) »(٢) .

وللتشجيع على الإنفاق والتحذير من البخل ، يقول تعالى :( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) .

وكم هو رائع هذا التعبير الذي تكرّر مرّات عديدة في القرآن الكريم فالله الخالق الواهب للنعم الذي له كلّ شيء ، يستقرض منّا ثمّ يعدنا بأنّه سيعوّضنا أضعاف ذلك ، إنّه لطف ما بعده لطف!

وغير بعيد أن يكون ذلك إشارة إلى أهميّة الإنفاق من جهة ، وإلى اللطف اللامحدود لله تعالى الذي يغمر به عباده من جهة اخرى.

«القرض» في الأصل بمعنى القطع ، ولأنّها اقترنت بكلمة (حسن) فإنّها تعني فصل المال عن النفس وإنفاقه في الخير.

«يضاعفه» من مادّة «ضعف» (على وزن شعر) وكما قلنا سابقا : إنّها تشتمل على عدّة أضعاف وليس ضعفا واحدا ، كما جاء في سورة البقرة آية ١٦١.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠١.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٤٦.

٣٩٢

وعبارة( يَغْفِرْ لَكُمْ ) للإشارة إلى أنّ الإنفاق أحد عوامل غفران الذنوب.

«شكور» هو أحد صفات الله تعالى الذي يشكر عباده بمجازاتهم أفضل الجزاء وأجزل الجزاء. وكونه (حليم) أي يغفر الذنوب ولا يتعجّل العقوبة.

ويقول في آخر الآية :( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) إنّه مطّلع على أعمال عباده ومنها النفقة والبذل في سبيل الله. وإنّه غير محتاج لكي يستقرض من عباده وإنّما هو إظهار لكمال لطفه ومحبّته لعباده.

وبناء على ذلك فإنّ الصفات الخمس ـ المذكورة في هذه الآية والآية السابقة ـ لله تعالى ، ترتبط كلّها بمسألة الإنفاق في سبيله والحثّ عليه ، والاندكاك بالله تعالى الذي يؤدّي إلى الاقتناع عن ارتكاب الذنوب والاعتصام بالتقوى.

* * *

ملاحظة

حديث مهمّ :

جاء عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما من مولود يولد إلّا في شبابيك رأسه مكتوب خمس آيات من سورة التغابن»(١) .

وقد يكون المقصود بهذه الآيات الخمس آخر سورة التغابن التي تتحدّث عن الأموال والأولاد. وكتابة هذه الآيات الخمس في شبابيك الرأس إشارة إلى حتميتها وكونها جزءا من كيان الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها.

لعلّ التعبير بـ (شبابيك) جمع «شبّاك» ـ على وزن خفّاش ـ بمعنى «المشتبك» إشارة إلى عظام الرأس التي تكون على شكل قطع متداخلة مع بعضها. أو لعلّه إشارة إلى شبكات المخّ.

__________________

(١) روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٤.

٣٩٣

على كلّ فإنّها إشارة إلى وجود هذه المعاني في مخّ النوع البشري.

اللهمّ ، أعنّا على هذا الامتحان الكبير ، امتحان الأموال والأولاد والزوجات.

ربّنا ، لا تبتلنا بالبخل والحرص وشحّ النفس ، فإنّه من نجا من ذلك فقد فاز.

اللهمّ ، جنّبنا الغبن يوم القيامة ، يوم يظهر فيه غبن العاصين وتنكشف فيه معاصيهم وذنوبهم ، واجعلنا في كنف لطفك ورحمتك.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة التغابن

* * *

٣٩٤
٣٩٥

سورة

الطّلاق

مدنيّة

وعدد آياتها اثنتا عشرة آية

٣٩٦

«سورة الطّلاق»

محتوى السورة :

أهمّ مسألة طرحت في هذه السورة ، كما هو واضح من اسمها ، هي مسألة «الطلاق» وأحكامه وخصوصياته ، والأمور التي تلي ذلك ، ثمّ تأتي بعدها أبحاث في المبدأ والمعاد ونبوّة الرّسول والبشارة والإنذار.

ومن هنا نستطيع أن نقسّم محتوى هذه السورة إلى قسمين.

القسم الأوّل : الآيات السبع الاول التي تتحدّث عن الطلاق وما يرتبط به من امور ، وتتعرّض إلى جزئيّات ذلك بعبارات وجيزة بليغة ، وبشكل دقيق وطريف إلى حدّ الإشباع.

القسم الثاني : ويشكّل الدافع الحقيقي للقسم الأوّل من السورة ، ويدور الحديث فيه عن عظمة الله ومقام رسوله وثواب الصالحين وجزاء العاصين على شكل مجموعة منسجمة لضمان إجزاء هذه المسألة الاجتماعية المهمّة. ويذكر أنّ لهذه السورة أسماء اخرى كسورة «النساء القصرى» (على وزن صغرى) مقابل سورة «النساء» المعروفة «النساء الكبرى».

فضيلة تلاوة السورة :

جاء في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الطلاق مات على سنّة رسول الله»(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠٢.

٣٩٧

الآية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) )

التّفسير

شرائط الطلاق والانفصال :

تقدّم أنّ أهمّ بحث في هذه السورة هو بحث الطلاق ، حيث يشرّع القرآن فيها مخاطبا الرّسول الأكرم ، بصفته القائد الكبير للمسلمين ، ثمّ يوضّح حكما عموميّا بصيغة الجمع ، حيث يقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ ) .

هذا هو الحكم الأوّل من الأحكام الخمسة التي جاءت في هذه الآية ، وطبقا لآراء المفسّرين إنّ المراد هو أن تجري صيغة الطلاق عند نقاء المرأة من الدورة الشهرية ، مع عدم المقاربة الزوجية ، لأنّه ـ طبقا للآية ٢٢٨ من سورة البقرة ـ فإنّ عدّة الطلاق يجب أن تكون بمقدار «ثلاثة قروء» أي ثلاثة طهورات متتالية.

٣٩٨

وهنا يؤكّد أنّ الطلاق يجب أن يكون مع بداية العدّة ، وهذا يتحقّق فقط ـ في حالة الطهارة وعدم المقاربة ، فإذا وقع الطلاق في حالة الحيض فإنّ بداية زمان العدّة ينفصل عن بداية الطلاق ، وبداية العدّة ستكون بعد الطهارة.

وإذا كانت في حالة طهر وقد جامعها زوجها ، فإنّ الطلاق لا يتحقّق أيضا ، لأنّ مثل هذه الطهارة ـ بسبب المقاربة ـ لا يمكن أن تكون دليلا على عدم وجود نطفة في الرحم.

على كلّ حال هذا هو أوّل شرط للطلاق.

جاء في روايات عديدة عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «مر فليراجعها ، ثمّ ليتركها حتّى تطهر ، ثمّ تحيض ، ثمّ تطهر. ثمّ ، إن شاء أمسك بعد ، وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ ، فتلك العدّة التي أمر اللهعزوجل أن يطلّق لها النساء»(١) .

وجاء نفس هذا المعنى في روايات عديدة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، حتّى أنّها ذكرت على أنّها تفسير للآية(٢) .

ثمّ يذكر الحكم الثاني وهو حساب العدّة ، حيث يقول تعالى :( وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) .

«أحصوا» من مادّة «الإحصاء» بمعنى الحساب ، وهي في الأصل مأخوذة من «حصى» بمعناها المعروف ، لأنّ كثيرا من الناس كانوا يلجأون في حساب المسائل المختلفة إلى طريقة عدّ «الحصى» لعدم استطاعتهم القراءة والكتابة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب في «حساب العدّة» هم الرجال وليس النساء ، وذلك لوقوع مسئولية «النفقة والسكن» على عاتق الرجال ، كما أنّ «حقّ الرجوع» عن الطلاق يعود إليهم وليس إلى النساء ، وإلّا فهنّ ملزمات أيضا في إحصاء العدّة لتعيين تكليفهنّ.

__________________

(١) كتاب الطلاق عن صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ١٠٩٣ فما بعد.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٤٨ «باب كيفية طلاق العدّة».

٣٩٩

بعد ذلك يدعو الله تعالى الناس جميعا إلى التقوى واجتناب المعاصي ، حيث يقول تعالى :( اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ ) فهو ربّكم الحريص على سعادتكم ، فلا تعظوا له أمرا ولا تتركوا له طاعة ، وخاصّة في «حساب العدّة» والتدقيق بها.

ثمّ يذكر الحكم «الثالث» الذي يتعلّق بالأزواج والحكم «الرابع» الذي يتعلّق بالزوجات ، يقول تعالى :( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ ) .

ورغم أنّ كثيرا من الجهلة لا يلتزمون بهذا الحكم عند الطلاق ، حيث يسمح الرجل لنفسه أن يخرج المرأة بمجرّد إجراء صيغة الطلاق ، كما تسمح المرأة لنفسها بالخروج من بيت زوجها والرجوع إلى أقاربها بمجرّد ذلك.

ولكن يبقى لهذا الحكم فلسفته المهمّة وحكمته البالغة ، فهو بالإضافة إلى إسداء الاحترام إلى المرأة ، يهيئ أرضية جيّدة للانصراف والإعراض عن الطلاق ، ويؤدّي إلى تقوية الأواصر الزوجية.

إنّ عدم الالتزام بهذا الحكم الإسلامي الخطير ، الذي جاء في نصّ القرآن الكريم ، يسبّب كثيرا من حالات الطلاق التي تؤدّي إلى الفراق الدائم ، بينما كثيرا ما يؤدّي الالتزام بهذا الحكم إلى الرجوع والصلح والعودة إلى الزوجية مجدّدا.

ولكن قد تقتضي بعض الظروف إخراج المرأة وعدم القدرة على الاحتفاظ بها في البيت ، فيجيء الحكم الخامس الاستثنائي إذ يقول تعالى :( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) .

كأن يكون الزوجان غير منسجمين إطلاقا ، ويكون أحدهما مثلا سيء الأخلاق إلى الدرجة التي لا يمكن معها البقاء معه في بيت واحد ، وإلّا ستنشأ مشاكل جديدة وعديدة.

ويلاحظ هذا المعنى في روايات كثيرة عن أهل البيتعليهم‌السلام (١) .

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، أحاديث ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، ٢٠.

٤٠٠

ولكن من الواضح أنّ ذلك لا يشمل كلّ بادرة للخلاف وعدم الانسجام ، فإنّ التعبير بـ «الفاحشة» يكشف عن كون ذلك العمل على قدر كبير من القبح ، وخاصّة حينما وصفها بأنّها «مبيّنة».

وربّما كان المقصود «بالفاحشة» عملا يتنافى مع العفّة ، فقد جاء في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام ما يشابه ذلك المعنى ، وأنّ الغرض من «الإخراج» هنا هو الإخراج لإجراء الحدّ ، ومن ثمّ الرجوع والعودة إلى البيت.

ويمكن الجمع بين هذين المعنيين.

بعد بيان هذه الأحكام يؤكّد القرآن الكريم ـ مرّة اخرى ـ بقوله :( وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) . لأنّ الغرض من هذه الأحكام هو إسعاد الناس أنفسهم ، والتجاوز على هذه الأحكام ـ سواء من قبل الرجل أو المرأة ـ يؤدّي إلى توجيه ضربة قويّة إلى سعادتهم.

ويقول تعالى في لفتة لطيفة إلى فلسفة العدّة ، والحكمة من تشريعا ، وعدم السماح للنساء المعتقدات بالخروج من مقرّهن الأصلي البيت ، يقول :( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) .

ومع مرور الزمن يهدأ طوفان الغضب والعصبية الذي قد يسبّب الطلاق ، غير أنّ مرور الزمن وحضور الزوجة إلى جانب زوجها خلال هذه الفترة في البيت ، وإظهار ندم ومحبّة كلّ واحد منهما إلى الآخر ، وكذلك التفكير مليّا في عواقب هذا العمل القبيح ، خاصّة مع وجود الأطفال ، كلّ هذه الأمور قد تهيئ أرضية صالحة للرجوع عن هذا القرار المشؤوم ، وتساهم في تبديد الغيوم التي تكدّر سماء العلاقة الزوجية.

وفي إشارة لطيفة إلى هذا المعنى جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام «المطلّقة تكتحل وتختضب وتطيّب وتلبس ما شاءت من الثياب ، لأنّ اللهعزوجل

٤٠١

يقول :( لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) لعلّها تقع في نفسه فيراجعها»(١) .

نعود إلى القول بأنّ التصميم على الانفصال والطلاق يحدث في الغالب تحت تأثير الهيجان والانفعالات العابر ، التي قد تنتهي وتتبدّد بمرور الزمن (أي أثناء فترة العدّة) فإنّ التفكير جيّدا في هذا الأمر قد يؤدّي إلى رجوع أحدهما إلى الآخر ، وتجاوز حالات عديدة من الخلاف أثناء هذه الفترة ، ولكن بشرط أن تراعى الأحكام الإسلامية أثناء فترة العدّة بشكل دقيق.

وسيتّضح فيما بعد ـ إن شاء الله ـ أنّ ذلك كلّه يرتبط بحالة «الطلاق الرجعي».

* * *

ملاحظات

١ ـ أبغض الحلال إلى الله الطلاق

ممّا لا شكّ فيه أنّ عقد الزوجية من جملة العقود والمواثيق القابلة للفسخ ، فهناك حالات من الخلاف لا يمكن معها استمرار العلاقة الزوجية ، وإلّا فإنّها ستؤدّي إلى مشاكل ومفاسد خطيرة وعديدة. ولهذا نجد الإسلام قد شرّع أمر الطلاق من الناحية المبدأية.

بينما نلاحظ المجتمعات المسيحية التي منعت الطلاق ـ بأي شكل من الأشكال ـ تعيش مشاكل متعدّدة نتيجة لذلك ، فغالبا بما يعيش الزوجان المختلفان حالة انفصال وتباعد ، أو حالة طلاقة من الناحية العملية ، رغم عدم الاعتراف بذلك من الناحية الرسمية. وكثيرا يلجأ الزوجان إلى إختيار زوج آخر غير رسمي.

وبناء على ذلك فإنّ أصل الطلاق من الضروريات التي لا يمكن إلغاؤها بأي وجه من الوجوه ، ولكن ينبغي أن لا يصار إليها إلّا في الحالات التي يتعذّر فيها

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٢ ، حديث ٣٤.

٤٠٢

مواصلة العلاقة الزوجية والحياة المشتركة.

ولهذا نجد أنّ الطلاق قد ذمّ في روايات إسلامية عديدة ، وذكر على أنّه (أبغض الحلال إلى الله).

ففي رواية عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما من شيء أبغض إلى اللهعزوجل من بيت يخرّب في الإسلام بالفرقة ، يعني الطلاق»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «ما من شيء ممّا أحلّه الله أبغض إليه من الطلاق»(٢) .

وفي آخر عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تزوّجوا ولا تطلّقوا فإنّ الطلاق يهتزّ منه العرش»(٣) .

وكيف لا يكون كذلك؟! والطلاق هو السبب وراء مآس عديدة تحلّ بالعوائل والرجال والنساء ، وأكثر منهم بالأطفال والأولاد ، ويمكن تقسيم تلك المآسي إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ المشاكل العاطفية :

ممّا لا شكّ فيه أنّ انتهاء العلاقة الزوجية بالطلاق والفراق ، بعد حياة مشتركة عاشها الزوج والزوجة معا ، ستترك آثارا سيّئة على الصعيد العاطفي على كلا الطرفين. وإذا أقدم أحدهما على الزواج مرّة اخرى فسيبقى ينظر بشيء من القلق والارتياب إلى الطرف الآخر ، وربّما أعرض بعضهم عن الزواج نهائيا تحت تأثير التجربة الاولى الفاشلة.

٢ ـ المشاكل الاجتماعية :

غالبا ما تحرم النساء المطلّقات من الحصول على الزوج المؤهّل والكفوء مرّة اخرى ، كما قد يواجه الرجال نفس المسألة حينما يبدأون يفكّرون بالزواج مرّة اخرى ، وقد يضطرّ هؤلاء إلى الزواج رغم عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٢٦٦ ، حديث ١.

(٢) نفس المصدر ، حديث ٥.

(٣) نفس المصدر ، حديث ٧.

٤٠٣

قناعاتهم ، الأمر الذي يؤدّي إلى فقدان السعادة والراحة إلى الأبد. خصوصا مع وجود أطفال من الزواج الأوّل.

٣ ـ مشاكل الأطفال :

وهذه أهمّ المشاكل حيث يحرم الأطفال من حنان ورعاية الامّ ، ويعيشون في كنف زوجة أبيهم التي لا تنظر إلى هؤلاء الأطفال أو تعاملهم كما تعامل أطفالها الحقيقيين. وبهذا سيعيش الأبناء فراغا عاطفيا من هذا الجانب لا يعوّضه شيء.

وتتكرّر نفس الصورة فيما إذا حملت المرأة أطفالها معها إلى الزوج الجديد ، فإنّ هذا الزوج الجديد لا يحلّ غالبا محلّ الأب الحقيقي.

وهذا لا يعني أنّه لا يوجد نساء أو رجال يمتلكون المحبّة والشفقة التي تمتلكها الأمّهات أو الآباء تجاه أطفالهم ، ولكن مثل هؤلاء الناس قليلون في المجتمع ويندر الحصول عليهم.

وبناء على ذلك سيعيش هؤلاء الأطفال المحرومون من حبّ الامّ والأب عقدا معيّنة على الصعيد الروحي والعاطفي ، وربّما يؤدّي إلى فقدانهم السلامة الروحية. ولهذا سيعاني المجتمع بأجمعه ـ وليس العائلة فقط ـ من هؤلاء الأطفال الذين قد يشكّلون في بعض الأحيان ظاهرة خطيرة عند ما يعيشون حالة النقص وحبّ الانتقام من المجتمع.

وعند ما وضع الإسلام كلّ تلك الموانع والصعوبات بوجه الطلاق ، فإنّما أراد أن يجنّب المجتمع الإسلامي الوقوع بتلك المشاكل. ولهذا السبب أيضا نلاحظ القرآن الكريم قد حثّ بشكل صريح كلا من الرجل والمرأة على أن يتّجها إلى العائلة والأقرباء لحلّ الاختلاف والمشاكل التي قد تنشأ بينهما ، عن طريق تشكيل محكمة صلح عائلية تعرض عليها الاختلافات والنزاعات بدل عرضها على المحاكم الشرعية وحصول الطلاق والانفصال. (وضّحنا هذا الأمر ـ أي محكمة الصلح العائلية في ذيل الآية ٣٥ سورة النساء).

٤٠٤

وفي نفس الوقت نجد أنّ الإسلام شجّع كلّ ما من شأنه تقوية الأواصر العائلية وتقويتها ، وشجب كلّ محاولة لإضعافها وتفكيكها.

٢ ـ أسباب الطلاق :

لا يختلف الطلاق عن الظواهر الاجتماعية الاخرى التي تمدّ جذورها في المجتمع وتشارك في تكوينها أسباب وامور عديدة متشابكة. وعمليّة منعها والوقوف بوجهها تبقى بدون جدوى ما لم يتمّ النظر إليها بشكل دقيق يتناول جميع العوامل التي تقف وراءها ، وهي كثيرة جدّا منها :

أـ التوقّعات والآمال المفرّطة التي يبنيها كلّ واحد منهما على الطرف الثاني ، فلو أنّهما جعلا توقّعهما في دائرة محدودة ومعقولة وتجنّبا التوغّل في عالم الخيال ، وأدرك كلّ واحد منهما الطرف الآخر جيّدا ، وحصر التوقّع في المجالات الممكنة ، فحينئذ يمكن الحيلولة دون وقوع الكثير من حالات الطلاق.

ب ـ استحكام روح طلب الماديّات ووسائل الرفاه المختلفة يجعل الإنسان ـ وخاصّة النساء ـ في حالة عدم قناعة مستمرّة ، ممّا يسهّل حصول عملية الطلاق والانفصال عند مواجهة أبسط الحوادث تحت ذرائع وحجج متنوّعة.

ج ـ تدخّلات الأقرباء في الشؤون الخاصّة للزوجين ، وخاصّة تلك التدخلات في موارد الاختلافات بين الزوجين. ويعدّ ذلك من العوامل المهمّة التي تساعد على الطلاق.

ونلاحظ من خلال التجربة أنّ خلافات الزوجين إذا ما تركت لشأنها دون تدخّل من الأقارب فسوف تتلاشى وتنطفئ شيئا فشيئا. أمّا إذا تمّ دخول طرف من الأقارب والمتعلّقين دخولا متحيّزا متعصّبا ، فإنّه سيؤدّي إلى إشعال هذه الخلافات وتعقيدها أكثر.

ولكن هذا لا يعني أن يبعد الأقرباء أنفسهم عن هذه الاختلافات دائما ودون

٤٠٥

استثناء ، فإنّ دخولهم حينما تكبر المشكلة وتخرج عن كونها خلافا جزئيّا جانبيّا يكون لصالح العلاقة الزوجية ودوامها ، خصوصا إذا كان تدخّلا خاليا من التعصّب والانحياز.

د ـ عدم التفات كلّ من الزوجة والزوج إلى رغبات وطلبات أحدهما من الآخر ، ففي الوقت الذي يحبّ الزوج أن تكون زوجته دائما جذّابة نظيفة ، كذلك تحبّ الزوجة لزوجها أن يكون كذلك. ولكن هذه الرغبات غالبا ما تكون مكبوتة لا يحاول كلّ منهما إبرازها والإعلان عنها.

وهكذا فإنّ عدم اهتمام الأزواج بهندامهم وترك التزيين والترتيب ، وعدم الاهتمام بالنظافة ، كلّ تلك الأمور تمنع الزوج أو الزوجة من الاستمرار بمشروع الزواج ، خاصّة إذا كان هناك من يهتمّ بهذه المسائل في المحيط الذي يعيش فيه هؤلاء الزوجان.

لهذا نجد الروايات الإسلامية أعطت أهميّة خاصّة لهذا الجانب ، فقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «لا ينبغي للمرأة أن تعطّل نفسها»(١) .

وجاء في حديث آخر عنه أيضاعليه‌السلام : «ولقد خرجن نساء من العفاف إلى الفجور ما أخرجهنّ إلّا قلّة تهيئة أزواجهنّ»(٢) .

ه ـ عدم تناسب المستوى الثقافي للعوائل ، وكون الزوج يعيش نوعا من الثقافة العائلية لا تنسجم مع ثقافة الزوجة العائلية. ولهذا ينبغي التدقيق في هذا الأمر قبل الإقدام على الزواج ، فالمطلوب ليس فقط «الكفاءة الشرعية» أي الالتزامات الإسلامية ، وإنما يجب أن تتوفّر ـ أيضا ـ «الكفاءة الفرعية» أي التماثل والتشابه في الأمور الاخرى بين الطرفين. وإلّا فحدوث تصدع في العائلة غير مستبعد.

__________________

(١) مكارم الأخلاق ، ص ٩١ ـ ١٠٧.

(٢) المصدر السابق.

٤٠٦

٣ ـ فلسفة ضبط وإحصاء العدّة

ممّا لا شكّ فيه أنّ للعدّة حكمتين أساسيتين أشير إليهما في القرآن الكريم والروايات الإسلامية.

الاولى : مسألة حفظ النسل واتّضاح وضع المرأة من حيث الحمل وعدمه.

والاخرى : توفير فرصة جيّدة للرجوع عن الطلاق والعودة إلى الحياة الاولى ، والقضاء على عوامل الانفصال التي تمّت الإشارة إليها في الآية أعلاه ، علما أنّ الإسلام يؤكّد على بقاء النساء في بيوت الأزواج أثناء العدّة ، ممّا يسمح بالبحث مرّة اخرى عن وسائل للعودة ، وترك الانفصال عن بعضهما.

وخصوصا في حالة الطلاق الرجعي(١) حيث لا يحتاج الرجوع إلى الزوجة إلى أيّة مراسيم أو أمور رسمية. وكلّ عمل يعتبر عودة عن هذا الطريق ولو بمجرّد وضع الرجل يده على جسم المرأة ، حتّى لو كان بدون شهوة ، فإنّه يعتبر رجوعا عن الطلاق.

وإذا ما مرّت هذه الفترة (أي فترة العدّة) دون أن تظهر أي بادرة للصلح والتوافق ، فهذا يعني أنّهما غير مستعدّين للاستمرار في الحياة الزوجية.

أوردنا شرحا لهذا الموضوع في ذيل الآية (٢٢٨) سورة البقرة.

* * *

__________________

(١) المقصود من «الطلاق الرجعي» ـ هو الطلاق الذي يحدث بإصرار ومبادرة من الرجل أوّل وثاني مرّة ـ.

٤٠٧

الآيات

( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) )

التّفسير

فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف :

يشير في الآية مورد البحث ، وكاستمرار للأبحاث المرتبطة بالطلاق التي وردت في الآيات السابقة ، إلى عدّة أحكام اخرى ، إذ يقول تعالى في البداية :( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) .

المراد ببلوغ الأجل «الوصول إلى نهاية المدّة» وليس المقصود أن تنتهي العدّة تماما ، بل تشرف على الانتهاء ، فإنّ الرجوع بعد نهاية العدّة غير جائز ، إلّا أن

٤٠٨

يكون إبقاؤهنّ عن طريق صيغة عقد جديدة ، ولكن هذا المعنى بعيد جدّا عن سياق ومفهوم الآية.

على أي حال فإنّ هذه الآية تطرح أهمّ الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجا ، وهي : إمّا أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق ، أو أن ينفصلا بإحسان.

فالانفصال ينبغي أن يتمّ بعيدا عن الهياج والعربدة ، وعلى اصول صحيحة ، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيّأة للعودة والرجوع إذا ما قرّرا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد ، فإنّ العودة إذا تمّت في جو مظلم ملبّد بالخلافات والتعدّيات ، فسوف لا تكون عودة موفّقة تستطيع الاستمرار مدّة طويلة. هذا إضافة إلى أنّ الانفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثارا ، ليس فقط على الزوج والزوجة ، وإنّما قد تتعدّى إلى عشيرة وأقرباء كلّ منهما ، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل.

ومن اللطيف حقّا أن تحاط كلّ الصداقات والعلاقات المشتركة بين الناس بجوّ من الإحسان والاحترام المتبادل للحقوق والشعور بالمسؤولية ، وحتّى لو وقع الطلاق فيجب أن يتمّ أيضا بإحسان ودون مشاكل ، فإنّ ذلك يعتبر بحدّ ذاته نوعا من الإنتصار والموفّقية لكلا الطرفين.

ويتّضح ممّا سبق أنّ (الإمساك بالمعروف والطلاق بالمعروف) له معنى واسع يشمل جميع الواجبات والمستحبّات والآداب والأخلاق التي تقتضيها تلك العلاقة.

ثمّ يذكر القرآن الكريم الحكم الثاني حيث يقول :( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) .

وذلك لكي لا يستطيع أحد أن ينكر في المستقبل ما جرى.

وبعض المفسّرين احتمل الإشهاد لكلا الأمرين : الطلاق والرجوع ، غير أنّ

٤٠٩

الإشهاد ليس واجبا قطعا في التزويج فضلا عن الرجوع. وعلى فرض أنّ المورد يشمل الرجوع فيكون من باب الاستحباب.

وفي الحكم الثالث يبيّن القرآن الكريم وظيفة الشهود ، حيث يقول :( وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ) حذار أن يكون ميلكم وحبّكم لأحد الطرفين مانعا عن إظهار الحقّ ، وينبغي أن تتمّ الشهادة لله ولإظهار الحقّ ، وينبغي أن يكون الشهود عدولا ، ولما كانت عدالة الشاهد لا تعني انّه معصوم من الذنب ، ولهذا يحذّرهم الله تعالى لكي يراقبوا أنفسهم لئلّا ينحرفوا عن جادّة الحقّ بعلم أو بغير علم.

وينبغي أن يشار إلى أنّ تعبير( ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) دليل على أنّ الشاهدين يجب أن يكونا مسلمين عادلين ومن الذكور.

ولتأكيد الأحكام السابقة جميعا تقول الآية الكريمة :( ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) .

ربّما اعتبر البعض «ذلكم» إشارة ـ فقط ـ إلى مسألة التوجّه إلى الله ومراعاة العدالة من جانب الشهود ، غير أنّ الظاهر أنّ هذا التعبير يشمل كلّ الأحكام السابقة حول الطلاق.

وعلى أيّة حال فإنّ هذا التعبير دليل على الأهمية القصوى التي يولّيها القرآن الكريم لأحكام الطلاق ، التي إذا تجاوزها أحد ولم يتّعظ بها فكأنّه أنكر الإيمان بالله واليوم الآخر.

وبسبب المشاكل المعيشية والحياة المستقبلية فإنّ الزوجين قد ينحرفان عن جادّة الصواب عند الطلاق والرجوع ، وقد تضغط هذه الظروف على الشاهدين فتمنعانهما عن أداء الشهادة الصحيحة والعادلة ، لهذا تؤكّد الآية في نهايتها قائلة :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) ويساعده حتما على إيجاد الحلّ لمشكلاته.

( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ولا يتصوّر تحصيله.

( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) وسيكفيه ما يهمّه من أموره.

٤١٠

( إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) لأنّ اللهعزوجل قادر مطلق ، وأمره نافذ في كلّ شيء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته

ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحقّ ، ويحثّهم على الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات ، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتّقين أمرهم ، ويجعل لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.

لقد تعهّد الله أن لا يترك من توكّل عليه يتخبّط في حيرته ، وإنّه لقادر على الوفاء بهذا التعهّد.

ورغم أنّ هذه الآيات نزلت بشأن الطلاق والأحكام المتعلّقة به ، لكنّها تحتوي مفاهيم واسعة ومعاني عظيمة تشمل جميع المجالات التي يعاهد الله بها المتّقين ، ويبعث في نفوسهم الأمل بأنّه سيشملهم بلطفه ورعايته ، فينجيهم من المآزق ، ويرشدهم إلى الصواب ، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة ، ويرفع عنهم مشاكل الحياة وصعوباتها ، ويبدّد الغيوم السوداء التي تلبّد سماء سعادتهم.

وفي إشارة لطيفة إلى النظام العامّ الذي يحكم التكوين والتشريع ، يقول تعالى :( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) فكلّ هذه الأحكام والأوامر التي فرضها الله في شأن الطلاق ، إنّما كانت ضمن حساب دقيق ومقاييس عامّة شاملة لا يغيب عنها شيء.

وهكذا يجب أن يلتزم الناس في جميع المشاكل التي تنتاب حياتهم ـ وليس فقط في مسألة الطلاق ـ بالموازين والأحكام الشرعية ، وأن يواجهوا تلك الأمور بالتقوى والصبر وطلب التوفيق من الله ، لا أن يطلقوا ألسنتهم بالشكوى وارتكاب الذنوب ، وما إلى ذلك ويتوسّلون بالطرق غير المشروعة لحلّ مشاكلهم.

* * *

٤١١

بحثان

١ ـ التقوى والنجاة من المشاكل

إنّ تلاوة الآيات السابقة تبعث ـ أكثر من غيرها ـ الأمل في النفوس ، وتمنح القلب صفاء خاصّا ، وتمزّق حجب اليأس والقنوط ، وتنير الأرواح بنور الأمل ، إذ تعدّ كلّ المتّقين بحلّ مشاكلهم وتسهيل أمورهم.

جاء في حديث عن أبي ذرّ الغفاري أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّي لأعلم آية لو أخذها بها الناس لكفتهم( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) فما زال يقولها ويعيدها»(١) .

وفي حديث آخر عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الآية أنّه قال : «من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، وشدائد يوم القيامة».

وهذا التعبير دليل على أنّ تيسير امور المتّقين ليس في الدنيا فقط وإنّما يشمل القيامة أيضا.

وفي حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أكثر الاستغفار جعله الله له من كلّ هم فرجا ومن كلّ ضيق مخرجا»(٢) .

قال بعض المفسّرين : إنّ أوّل الآية السابقة نزلت بحقّ (عوف بن مالك) وهو أحد أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أسر ابنه فجاء يشكو هذا الحادث وفقر حاله وضيق ذات يده إلى الرّسول فنصحه رسول الله بقوله : «اتّق الله واصبر ، وأكثر من قول «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ففعل ذلك وفجأة بينما هو جالس في بيته دخل عليه ولده ، فتبيّن أنّه قد استغفل الأعداء وفرّ من قبضتهم وجاء بجمل معه منهم.

لذا نزلت هذه الآية التي تخبر عن تيسير معضلة هذا الرجل المتّقي من حيث

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٦ ، حديث ٤٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٧ ، حديث ٤٥.

٤١٢

لا يحتسب(١) .

ولا يعني هذا إطلاقا أنّ الآية تحثّ على ترك السعي وبذل الجهد والجلوس في البيت والركون إلى الله وأن يردّد الإنسان قول «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» لينزل عليه الرزق من حيث لا يحتسب. إنّ ما تريد الآية الكريمة أن تركّز عليه هو أنّ السعي لا بدّ أن يكون معه وإلى جانبه تقوى ، وإذا ما أغلقت الأبواب مع كلّ هذا حينئذ يتدخّل البارئ لفتح هذه الأبواب.

لهذا نجد في الحديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام (عمر بن مسلم) انقطع فترة عن الإمام ، قال الإمامعليه‌السلام ما فعل عمر بن مسلمعليه‌السلام قلت : جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة فقال : ويحه! أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له ، إنّ قوما من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزلت :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا : قد كفينا ، فبلغ ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل إليهم قال : «ما حملكم على ما صنعتم به» فقالوا : يا رسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطلب»(٢) .

٢ ـ روح التوكّل

المقصود من التوكّل على الله هو أن يسعى الإنسان لأن يجعل عاقبة عمله وكدحه على الله ويوكّلها إليه ، ويدعوه لتسهيل أمره ، فإنّه لطيف بعباده رحيم بهم وعلى كلّ شيء قدير.

والشخص الذي يعيش حقيقة «التوكّل على الله» لا يجد اليأس إليه منفذا ، ولا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠٦ ، وبهذا المعنى جاء في تفسير «الفخر الرازي» و «روح البيان». مع اختلاف بسيط بعضهم قال أنّه جلب مائة بعير.

(٢) الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٤ ، ح ٣٥.

٤١٣

يدبّ في عزمه الضعف ، ولا يشعر بالنقص والصغر أمام المشاكل مهما كبرت ، ويبقى يقاوم ويواجه الأحداث بقوّة وإيمان راسخين. ويعطيه هذا الإيمان والتوكّل قدرة نفسية عظيمة يستطيع معها تجاوز الصعاب.

ومن جانب آخر تنهمر عليه الإمدادات الغيبية والمساعدات التي وعده الله.

ففي حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سألت من جبرائيل : ما التوكّل؟ قال «العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، واستعمال اليأس من الخلق ، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ، ولم يرج ولم يخف سوى الله ، ولم يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكّل»(١) .

فالتوكّل بهذا المضمون العميق يمنح الإنسان شخصية جديدة ويكون له تأثير على جميع أعماله. لذا نقرأ في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سأل اللهعزوجل في ليلة المعراج : إلهي أي الأعمال أفضل؟ قال تعالى : «ليس شيء عندي أفضل من التوكّل عليّ والرضا بما قسمت»(٢) .

ومن الطبيعي أنّ التوكّل بهذا المعنى سيكون توأما مع الجهاد والسعي وليس مع الكسل والفرار من المسؤوليات.

وقد أوردنا بحثا آخر في هذا المجال في ذيل الآية ١٢ سورة إبراهيم.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ٣٧٣ ، حديث ١٩.

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٨٣ ، مادّة التوكّل.

٤١٤

الآيات

( وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) )

٤١٥

التّفسير

أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ :

من بين الأحكام المستفادة من الآيات السابقة لزوم إحصاء العدّة بعد الطلاق ، ولمّا كانت الآية (٢٢٨) من سورة البقرة قد بيّنت حكم العدّة للنساء اللاتي يرين العادة الشهرية وذلك بأن تعد ثلاث دورات شهرية متتالية وبمشاهدة الثالثة تكون المرأة قد أنهت عدّتها. فقد ذكرت الآيات محلّ البحث حكم النسوة اللواتي لا حيض لديهم لأسباب معيّنة ، أو الحوامل لتكمل بحث العدّة.

يقول تعالى في بداية الأمر :( وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ) فإذا شككتم في وجود الحمل فمدّة العدّة حينئذ ثلاثة أشهر ، وكذلك النسوة اللائي لم يرين الحيض ولم تحدث لهنّ العادة الشهرية بعد( وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) .

ثمّ يشير تعالى إلى ثالث مجموعة حيث يضيف قائلا :( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) .

وبهذا اتّضح حكم المجاميع الثلاثة ، مجموعتان يجب أن يحصين عدتهنّ ثلاثة أشهر ، والمجموعة الثالثة ـ أي النساء الحوامل ـ تنتهي عدتهنّ بوضع الحمل ، سواء كان بعد ساعة من الطلاق ، أو بعد ثماني أشهر مثلا.

وقد ذكرت ثلاثة احتمالات في معنى عبارة( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) :

١ ـ الشكّ في وجود «الحمل» بمعنى أنّه هناك احتمال حمل بعد سنّ اليأس (خمسون سنة للنساء العاديات ، وستّون سنة للنساء القرشيات) فمن أجل هذا الاحتمال الضعيف الذي نادرا ما يقع ، يجب أن تحتاط النساء فتحصي عدّتها ثلاثة أشهر(١) .

__________________

(١) الجواهر ، ج ٣٢ ، ص ٢٤٩ ، وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، باب ٤ ، حديث ٧.

٤١٦

٢ ـ النساء اللائي لا يعلم بأنّهنّ وصلن إلى مرحلة اليأس أم لا.

٣ ـ المراد هو الشكّ في حكم هذه المسألة ، فحكمها كما ورد في هذه الآية.

ويبدو أنّ الأنسب والأقرب هو التّفسير الأوّل فإنّ التعبير بـ( وَاللَّائِي يَئِسْنَ ) يوحي أنّ هؤلاء النساء قد بلغن سنّ اليأس.

ويشار إلى أنّ حكم النساء اللائي غابت عنهنّ العادة الشهرية لمرض أو غيره هو نفس حكم اليائسات ، أي يعدّدن ثلاثة أشهر (يمكن أن يستفاد هذا الحكم عن طريق قاعدة الأولوية أو مشمولا بلفظ الآية)(١) .

جملة( وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) يمكن أن تكون إشارة إلى النساء اللائي بلغن سنّ البلوغ ، دون أن يشاهدن العادة الشهرية. وفي هذه الصورة يجب أن يحسبن عدّتهنّ ثلاثة أشهر.

واحتملوا أن تكون الآية ناظرة لجميع النساء اللائي لم يشاهدن العادة الشهرية ، سواء بلغن سنّ اليأس أم لا. غير أنّ المشهور بين فقهائنا أن لا عدّة للنساء اللائي يطلقن قبل بلوغهنّ سنّ البلوغ. ويوجد من خالف هذا الرأي واستدلّوا على ذلك ببعض الروايات ، كما أنّ ظاهر الآية يوافقهم. (للتوسّع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهية)(٢) .

وذكر كسبب لنزول الجملة الأخيرة في الآية أنّ «أبي بن كعب» سأل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أنّ القرآن لم يذكر عدّة النساء الصغيرات والنساء الكبيرات «اليائسات» والحوامل فنزلت السابقة تبيّن أحكامهنّ(٣) .

ويذكر أنّ العدّة في هذا المورد إنّما تكون في حقّ النساء اللائي يحتمل في

__________________

(١) طبعا المشهور بين الفقهاء أنّ المرأة عند ما تصل إلى سنّ اليأس سوف لا تكون لها عدّة مطلقا ، ولكن في مقابل ذلك كان عدد من الأصحاب المتقدّمين يقولون بوجوب العدّة ، وتساعدهم بعض الروايات رغم معارضة روايات اخرى. وما يتطابق مع ظاهر الآية هو أنّه في حالة الشكّ في الحمل فهناك عدّة.

(٢) (للتوسّع أكثر راجع جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ٢٣٢ وكتب فقهية اخرى).

(٣) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٢٦٠.

٤١٧

حقّهنّ الحمل ، لأنّهنّ ذكرن في الآية معطوفات على النساء اليائسات ، ومعنى ذلك أنّ حكمهنّ واحد(١) .

وأخيرا يؤكّد مرّة اخرى في نهاية الآية على التقوى حيث يقول تعالى :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ) .

ييسّر أموره ويسهّلها في هذا العالم ، وكذلك في العالم الآخر ، بألطافه سواء في هذه القضيّة أي قضيّة الطلاق أو في قضايا اخرى.

وللتأكيد على أحكام الطلاق والعدّة فقد أضاف تعالى في الآية اللاحقة قائلا :( ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ) .

( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ المقصود من «السيّئات» هنا «الذنوب الصغيرة» والمقصود من «التقوى» اجتناب الذنوب الكبيرة.

وبناء على ذلك فإنّ تجنّب الكبائر يؤدّي إلى غفران الصغائر ، كما جاء في الآية ٣١ من سورة النساء. ولازم هذا أنّ مخالفة الأحكام في هذا المجال ـ أي في الطلاق والعدّة ـ يعدّ من الذنوب الكبيرة(٢) .

ورغم أنّ السيّئات تطلق أحيانا على الذنوب الصغيرة ، كما ورد في آيات عديدة من القرآن الكريم ، ولكنّها تطلق في آيات اخرى على كلّ الذنوب أعمّ من الصغيرة والكبيرة ، نقرأ في الآية ٦٥ من سورة المائدة :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) «وجاء ما يشابه هذا المعنى في آيات أخر».

ومن المسلّم أنّ الإيمان والإسلام يؤدّيان إلى غفران الذنوب السابقة.

وتعطي الآية اللاحقة توضيحا أوسع وأشمل لحقوق المرأة بعد الطلاق ، من حيث «السكن» و «النفقة» وامور اخرى.

__________________

(١) قال الطبرسي في مجمع البيان : إنّ التقدير «واللائي لم يحضن إذا ارتبتم فعدتهنّ أيضا ثلاثة أشهر».

(٢) الميزان ، ج ١٩ ، ص ٣٦٧.

٤١٨

يقول تعالى في سكن النساء المطلّقات :( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ) .

«وجد» على وزن (حكم) ، بمعنى القدرة والتمكّن ، وذكر المفسّرون تفاسير اخرى ترجع في النتيجة إلى نفس المعنى ، إذ يقول الراغب في المفردات : إنّ التعبير بـ( مِنْ وُجْدِكُمْ ) يعني بما تستطيعون وبما تقدرون عليه ، وبمعنى اختاروا مسكنا مناسبا قدر الإمكان للنساء المطلّقات.

ومن الطبيعي أنّه حينما يكون الإسكان على نفقة الزوج وفي عهدته ، فإنّ الأمور الاخرى من الإنفاق ستقع هي الاخرى على عاتق الزوج ، والشاهد على هذا المدّعى ذيل الآية الذي يتحدّث عن نفقة النساء الحوامل.

ثمّ يتطرّق تعالى لذكر حكم آخر( وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ ) .

حذار أن يغرّكم البعض ويزرع بينكم البغض والعداوة والنفور ، ممّا يؤدّي إلى إخراجكم عن جادّة الحقّ ، فتحرمونهنّ حقوقهنّ الطبيعية في السكن والنفقة ، وتجعلوهنّ تحت ضغوط لا يستطعن معها إلّا الهرب وترك كلّ شيء.

يقول تعالى في ثالث حكم حول النساء الحوامل( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) .

فما دمن حاملات فهنّ في حالة عدّة يستحقّنّ النفقة والسكن على الزوج.

ويقول تعالى في الحكم الرابع حول حقوق النساء المرضعات( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) .

اجرة تتناسب مع مقدار وزمان الإرضاع ، وطبقا لما هو معروف وشائع عرفا ونظرا لأنّ الأطفال كثيرا ما يصبحون نقطة للنزاع والخلاف بين الزوج والزوجة بعد الطلاق ، فقد أوضح القرآن في الحكم الخامس هذا الأمر بشكل قاطع ولائق حيث قال :( وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ) وتشاوروا بينكم في مصير الأولاد ومستقبلهم.

٤١٩

ويحذّر القرآن الكريم من مغبّة أن يكون الأطفال ضحيّة الخلاف الواقع بين الزوج والزوجة ، ممّا يترك عليهم آثارا واضحة على تكوينهم الجسمي والنفسي ، إذ يحرمون من حنان الامّ والأب وشفقتهما فينبغي أن يتّقي الأبوان الله تعالى ويحفظا حقوق الأطفال فإنّهم لا يستطيعون الدفاع عنها.

وجملة «وأتمروا» من مادّة «ايتمار» وتأتي أحيانا بمعنى «قبول الأمر» وأحيانا اخرى بمعنى «التشاور» والمعنى الثاني أقرب إلى معنى الآية.

والتعبير «بمعروف» تعبير جامع يشمل كلّ مشاورة فيها خير وصلاح.

وفي حالة عدم حصول التوافق والتفاهم بين الزوجين حول مصير الأطفال وقضيّة إرضاعهم ، يقول القرآن في سادس حكم في هذا المجال( وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) .

إشارة إلى أنّ الخلافات إذا طالت وتعقّدت فأعطوا الأطفال إلى مرضعة اخرى ، ورغم أنّ الامّ هي الأولى بذلك ، لكن إذا بقي الأطفال ينتظرون ، وظلّ النزاع على حاله ، فلا ينبغي أن ينسى الأطفال في خضم هذا النزاع.

وتبيّن الآية اللاحقة سابع ـ وآخر حكم ـ في هذا المجال حيث يقول تعالى :( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ) .

فهل أنّ هذا الأمر يرتبط بالنساء اللائي يتعهدنّ رضاعة أطفالهنّ بعد الفرقة والطلاق ، أو أثناء العدّة التي أشير إليها بصورة إجمالية في الآيات السابقة ، أو أنّه يرتبط بكليهما معا.

ويبدو أنّ المعنى الأخير أنسب وأقرب ، رغم أنّ بعض المفسّرين اعتبرها خاصّة بالنساء المرضعات فقط في الوقت الذي أطلقت الآيات السابقة على هذا الأمر تعبير «أجر» وليس «نفقة وإنفاق».

على كلّ حال لا ينبغي للذين ليس لهم القدرة أن يتشدّدوا ويعقدوا الأمور ،

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624