الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196881 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

لأنّه قد أوجد الأحكام المسبقة الخاطئة عنده ، وسمح للأهواء النفسية والتعصبات العمياء المتطرفة أن تتغلب على توجهه ، ووقع في أسر الذات والغرور ، ولوث صفاء قلبه وطهارة روحه بأمور قد جعلها موانع أمام فهم وإدراك الحقائق.

وجاء في الحديث الشريف : «لو لا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات».

فأوّل شرط ينبغي تحقيقه لمن رام السير على طريق الحق هو تهذيب النفس وامتلاك التقوى ، وبدون ذلك يقع الإنسان في ظلمات الوهم فيضل الطريق.

ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة ب( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

وكم من أناس طلبوا آيات القرآن بتعصب وعناد وأحكام مسبقة (فردية أو اجتماعية) وحملوا القرآن بما يريدون لا بما يريده القرآن ، فازدادوا ضلالا بدلا من أن يكون القرآن هاديا لهم (وطبيعي أنّ القرآن بآياته وحقائقه الناصعة لا يكون وسيلة للإضلال ، ولكنّ أهواءهم وعنادهم هو الذي جرّهم لذلك) والآيتان (124 و 125) من سورة التوبة تبيّن لنا هذه الحالة بكل وضوح :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

فالمقصود بالآية عدم الاكتفاء بذكر (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بل ينبغي أن نجعل من هذا الذكر فكرا ، ومن الفكر حالة داخلية ، وعند ما نقرأ آيّة نستعيذ بالله من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا ، أو أن تحول بيننا وبين كلام الله جل وعلا.

2 ـ لما ذا يكون التعوذ «من الشيطان الرجيم»؟

«الرجيم» : من (رجم) ، بمعنى الطرد ، وهو في الأصل بمعنى الرمي بالحجر ثمّ استعمل في الطرد.

٣٢١

ونلاحظ ذكر صفة طرد الشيطان من دون جميع صفاته ، للتذكير بتكبّره على أمر الله حين أمره بالسجود والخضوع لآدم ، وإنّ ذلك التكبّر الذي دخل الشيطان بات بمثابة حجاب بينه وبين إدراك الحقائق ، حتى سولت له نفسه أن يعتقد بأفضليته على آدم وقال :( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .

فكان ذلك العناد والغرور سببا لتمرده على أمر اللهعزوجل ممّا أدى لكفره ومن ثمّ طرده من الجنّة.

وكأنّ القرآن الكريم يريد أن يفهمنا باستخدامه كلمة «الرجيم» بضرورة الاحتياط والحذر من الوقوع في حالة التكبّر والغرور والتعصب عند تلاوة آيات الله الحكيم ، لكي لا نقع بما وقع به الشيطان من قبل ، فنهوى في وحل الكفر بدلا من إدراك وفهم الحقائق القرآنية.

3 ـ بين لوائي الحقّ والباطل

قسمت الآيات أعلاه الناس إلى قسمين : قسم يرزح تحت سلطة الشيطان وقسم خارج عن هذه السلطة ، وبيّنت صفتين لكلّ من هذين القسمين :

فالذين هم خارج سلطة الشيطان : مؤمنون ومتوكلون على اللهعزوجل ، أي أنّهم من الناحية الاعتقادية عباد لله ، ومن الناحية العملية يعيشون مستقلين عن كل شيء سوى الله، ويتوكلون عليه لا على البشر أو على الأهواء والتعصبات.

أمّا الذين يرزحون تحت سلطة الشيطان ، فقائدهم الشيطان( يَتَوَلَّوْنَهُ ) وهو مشركون ، لأنّ أعمالهم تشير إلى تبعيتهم للشيطان وأوامره كشريك لله جل وعلا.

وثمة من يسعى لأن يكون من القسم الأوّل ، ولكنّ ابتعاده عن المربّين الإلهيين ، أو الضياع في محيط فاسد ، أو أيّ أسباب أخرى ، تؤدي الى سقوطه في وحل القسم الثّاني.

وعلى أيّة حال ، فالآية تؤكّد حقيقة أنّ سلطة الشيطان ليست إجبارية على

٣٢٢

الإنسان ، ولا يتمكن من التأثير على الإنسان من دون أن يمهد الإنسان السبيل لدخول الشيطان في نفسه ، ويعطيه إجازة المرور من بوابة قلبه.

4 ـ آداب تلاوة القرآن :

كل شيء يحتاج الى برنامج معين ولا يستثنى كتاب عظيم ـ كالقرآن الكريم ـ من هذه القاعدة ، لذلك فقد ذكر في القرآن بعض الآداب والشروط لتلاوة كلام الله والاستفادة من آياته :

1 ـ يقول تعالى أوّلا :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ، ويمكن أن يشير هذا التعبير إلى الطهارة الظاهرية ، كأن يكون مس كتابة القرآن مشروط بالطهارة والوضوء ، وكذا الإشارة إلى إمكان تيسر الوصول لفهم محتوى آيات القرآن من خلال تطهير النفس من الرذائل الأخلاقية ، لأنّ الصفات القبيحة تمنع من مشاهدة جمال الحق باعتبارها حجابا مظلما بين الإنسان والحقائق.

2 ـ يجب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع بتلاوة آيات الله( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) .

وعند ما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن طريقة العمل بهذا القول ، يروى أنّه قال : «قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم».

وفي رواية أخرى ، عند تلاوتهعليه‌السلام لسورة الحمد قال : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أن يحضرون».

وكما قلنا ، فإنّ التلفظ ـ فقط ـ في الاستعاذة لا يغني من الحق شيئا ، ما لم تنفذ الاستعاذة إلى أعماق الروح بشكل ينفصل فيه الإنسان عند التلاوة عن إرادة الشيطان ، ويقترب من الصفات الإلهية ، لترتفع عن فكره موانع فهم كلام الحق ، وليرى جمال الحقيقة بوضوح تام.

فالاستعاذة بالله من الشيطان ـ إذن ـ لازمة قبل الشروع بالتلاوة ، ومستمرّة

٣٢٣

مع التلاوة إلى آخرها وإن لم يكن ذلك باللسان.

3 ـ تجب القراءة ترتيلا ، أي مع التفكّر والتأمّل( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (1) .

وفي تفسير هذه الآية روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ القرآن لا يقرأ هزرمة ولكن يرتل ترتيلا ، إذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النّار»(2) .

4 ـ وقد ورد الأمر بالتدبّر والتفكّر في القرآن إضافة إلى الترتيل. حيث جاء في الآية (82) من سورة النساء :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) .

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.

وفي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون»(4) . (ولكنّ ذوي الضمائر الحيّة والعلماء المؤمنين ، يستطيعون رؤية جماله المتجلّي في كلامه جل وعلا).

5 ـ على الذين يستمعون إلى تلاوة القرآن أن ينصتوا إليه بتفكّر وتأمّل( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (5) .

وثمة أحاديث شريفة تحث على قراءة القرآن بصوت حسن ، لما له من فعل مؤثر في تحسّس مفاهيمه ، ولكنّ المجال لا يسمح لنا بتفصيل ذلك(6) .

* * *

__________________

(1) سورة المزمل ، 4.

(2) بحار الأنوار ، ج 89 ، ص 106.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 107.

(5) الأعراف ، 204.

(6) مزيد من الاطلاع راجع بحار الأنوار ، ج 9 ، ص 190 وما بعدها.

٣٢٤

الآيات

( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) )

سبب النّزول

يقول ابن عباس : (كانوا يقولون : يسخر محمّد بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وغدا يأمرهم بأمر ، وإنّه لكاذب ، يأتيهم بما يقول من عند نفسه).

التّفسير

الافتراء

تحدثت الآيات السابقة أسلوب الاستفادة من القرآن الكريم ، وتتناول

٣٢٥

الآيات مورد البحث جوانب أخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن ، وتبتدئ ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة ، فتقول :( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة الله ، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل ، ولكن المشركين لجهلهم( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

وحقيقة الأمر أنّ المشركين لم يتوصلوا بعد لإدراك وظيفة القرآن وما يحمل من رسالة ، ولم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إنساني جديد يسوده التطور والتقدم والحرية والمعنوية العالية نعم ، فأكثرهم لا يعلمون.

فبديهي والحال هذه أن يطرأ على وصفة الدواء الإلهي لنجاة هؤلاء المرضى التغيير والتبديل تدرجا مع ما يعيشونه ، فما يعطون اليوم يكمله الغد وهكذا حتى تتمّ الوصفة الشاملة.

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن ، دفعهم للاعتقاد بأنّ أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمل بين ثناياها التناقض أو الافتراء على اللهعزوجل ! وإلّا لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلّا به.

فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة انتقالية بين مرحلتين يعتبر من الضروريات العملية والواقعية ، فالتحول والانتقال بالناس من مرحلة إلى أخرى لا يتم دفعة واحدة ، بل ينبغي أنّ يمر بمراحل انتقالية دقيقة.

أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟

أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أو ليس التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟

٣٢٦

وبعد الإجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إلّا أن نقول : ليس النسخ سوى برنامج مؤقت في مراحل انتقالية.

(لقد بحثنا موضوع النسخ في تفسير الآية (36) من سورة البقرة ـ فراجع).

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع ، وللتأكيد عليه تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن :( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ) .

«روح القدس» أو (الرّوح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي «جبرائيل الأمين» ، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزّل بأمر الله تعالى على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق ، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإنسان ضمن التربية الرّبانية له،وظروف وتركيبة الإنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا ، جاء في تكملة الآية المباركة :( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

يقول صاحب تفسير الميزان : إنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق ، فالإيمان للقلب ونصيبه التثبيت في العلم والإذعان ، والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنّة والسعادة.

وعلى أيّة حال ، فلأجل تقوية الروح الإيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لا بدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة ، وبالتدريج يحل البرنامج النهائي الثابت محلها ، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإلهية.

وبعد أن فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة أخرى ، أو على الأصح لذكر افتراء آخر لمخالفي نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ

٣٢٧

يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) .

اختلف المفسّرون في ذكر اسم الشخص الذي ادّعى المشركون أنّه كان يعلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فعن ابن عباس : أنّه رجل يدعى (بلعام) كان يصنع السيوف في مكّة : وهو من أصل رومي وكان نصرانيا.

واعتبره بعضهم : غلاما روميا لدى بني حضرم واسمه (يعيش) أو (عائش) وقد أسلم وأصبح من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال آخرون : إنّ معلّمه غلامين نصرانيين أحدهما اسمه (يسار) والآخر (جبر) وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدّة وأخرى بصوت عال.

واحتمل بعضهم : أنّه (سلمان الفارسي) ، في حين أن سلمان الفارسي التحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة وأسلم على يديه هناك ، وأنّ هذه التهم التي أطلقها المشركون كانت في مكّة ، أضف إلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي وليس مدنيا.

وعلى أيّة حال ، فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون ، بقوله :( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ (1) إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ (2) وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

فإن كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ معلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئا فهذا في منتهى السفه ، إذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم ، حتى أنّ القرآن تحداهم بإتيان سورة من مثله فما

__________________

(1) يلحدون : من الإلحاد بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل ، وقد يطلق على أيّ انحراف ، والمراد هنا : إنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إلى إنسان ويدعون بأنّه معلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

(2) الإعجام والعجمة لغة : بمعنى الإبهام ، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم ، وباعتبر أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

٣٢٨

استطاعوا ناهيك عن عدد الآيات؟! وإن كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر ، إذ أن المحتوى القرآني قد صبّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة بحيث خضع لبلاغته وإعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب ، وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيّ إنسان ، وليس لذلك أهلا سوى اللهعزوجل وسبحانه عمّا يشركون.

وبنظرة تأمّلية فاحصة نجد في محتوى القرآن أنّه يمتلك المنطق الفلسفي العميق في إثبات عقائده ، وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح الإنسان وقوانينه الاجتماعية المتكاملة ، وأنّ كلّ ما في القرآن هو فرق طاقة المستوى الفكري البشري حقّا ويبدو لنا أن مطلقي الافتراءات المذكورة هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون ، ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إلّا.

والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم من ينسبون إليه القرآن ، ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شيئا ونسبوا إليه القرآن ، عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء.

أضف إلى ذلك كله أن تاريخ حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر ، وإن كان (على سبيل الفرض) صاحب القرآن موجودا ألا يستلزم ذلك اتصال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به وباستمرار؟ إنّهم حاولوا التشبث لا أكثر ، وكما قيل : (الغريق يتشبّث بكل حشيش).

إنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإعجازي أمر واضح ، ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإنساني ، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر.

٣٢٩

نعم ، فمع كل ما وصلت إليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو المتفوق وسيبقى.

وذكر سيد قطب في تفسيره : أنّ جمعا من الماديين في روسيا عند ما أرادوا الانتقاض من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة (1954 م) قالوا : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن ينتج من ذهن إنسان واحد «محمّد» بل يجب أن يكون حاصل سعي جمع كثير من الناس بما لا يصدق كونهم جميعا من جزيرة العرب ، وإنّما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة(1) .

ولقد كانوا يبحثون ـ وفقا لمنطقهم الإلحادي ـ عن تفسير مادي لهذا الأمر من جهة، وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إشراقة عقلية لإنسان يعيش في شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى ، ممّا اضطرّهم لأن يطرحوا تفسيرا مضحكا وهو : اشتراك جمع كثير من الناس ـ في تأليف القرآن ـ من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها!! على أنّ التاريخ ينفي ما ذهبوا إليه جملة وتفصيلا.

وعلى أيّة حال ، فالآية المباركة دليل الإعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون ، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إنسان. (قد كان لنا بحث مفصل في الإعجاز القرآني تناولناه في تفسير الآية (23) من سورة البقرة ـ فراجع).

وبلهجة المهدد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم أنّ حقيقة هذه الاتهامات والانحرافات ناشئة من عدم انطباع الإيمان في نفوس هؤلاء ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إلّا العذاب الإلهي ، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.

__________________

(1) في ضلال القرآن ، ج 5 ، ص 282.

٣٣٠

وفي آخر الآية يقول : إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء الله هم الكفار :( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) ، فهم الكاذبون وليس أنت يا محمّد ، لأنهم مع ما جاءهم من آيات بينات وأدلة قاطعة واضحة ولكنّهم يستمرون في إطلاق الافتراءات والأكاذيب.

فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق!

* * *

بحوث

1 ـ قبح الكذب في المنظور الإسلامي

الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف ، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإلهية.

ومع أنّ موضوع الآية هو الكذب والافتراء على الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الآية تناولت قبح الكذب بصورة إجمالية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإسلامية إفاضات خاصّة لمسألة الصدق والنهي عن الكذب ، وإليكم نماذج مختصرة ومفهرسة لجوانب الموضوع :

الصدق والأمانة من علائم الإيمان وكمال الإنسان ، حتى أنّ دلالتهما على الإيمان أرقى من دلالة الصلاة.

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيء قد اعتاده ولو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1) .

__________________

(1) سفينة البحار ، مادة (صدق) ، نقلا عن الكافي.

٣٣١

فذكر الصدق مع الأمانة لاشتراكهما في جذر واحد ، وما الصدق إلّا الأمانة في الحديث ، وما الأمانة إلّا الصدق في العمل.

2 ـ الكذب منشأ جميع الذنوب :

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنّة»(1) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهعزوجل جعل للبشر أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب»(2) .

وعن الإمام العسكريعليه‌السلام أنّه قال : «جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب»(3) .

فالعلاقة بين الكذب وبقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من الصدق، لأنّه سيكون موجبا لفضحه ، فتراه يتوسّل بالكذب عادة لتغطية آثار ذنوبه.

وبعبارة أخرى : إنّ الكذب يطلق العنان للإنسان للوقوع في الذنوب ، والصدق يحدّه.

وقد جسد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الحقيقة بكل وضوح عند ما جاءه رجل وقال له : يا رسول الله ، إنّي لا أصلي وأرتكب القبائح وأكذب ، فأيّها أترك أوّلا؟.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكذب» ، فتعهد الرجل للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يكذب أبدا.

فلمّا خرج عرضت له نيّة منكر فقال في نفسه : إن سألني رسول الله غدا عن أمري، ما ذا أقول له! فإن أنكرت كان كاذبا ، وإن صدقت جرى عليّ الحد. وهكذا

__________________

(1) مشكاة الأنوار للطبرسي ، ص 157.

(2) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 254.

(3) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 233.

٣٣٢

ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورّع عنها جميعا.

ولذا فترك الكذب طريق لترك الذنوب.

3 ـ الكذب منشأ للنفاق :

لأنّ الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب ، في حين أنّ الكذب يعني عدم تطابق اللسان مع القلب ، وما النفاق إلّا الاختلاف بين الظاهر والباطن.

والآية (77) من سورة التوبة تبيّن لنا ذلك بوضوح :( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

4 ـ لا انسجام بين الكذب والإيمان :

وإضافة إلى الآية المباركة فثمة أحاديث كثيرة تعكس لنا هذه الحقيقة الجليّة

فقد روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل : يكون المؤمن جبانا؟ قال : «نعم» ، قيل:ويكون بخيلا؟ قال : «نعم» ، قيل : يكون كذّابا؟ قال : «لا»(1) .

ذلك لأنّ الكذب من علائم النفاق ، وهو لا يتفق مع الإيمان.

وبهذا المعنى نقل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه أشار لهذا المعنى واستدل عليه بالآية مورد البحث.

5 ـ الكذب يرفع الاطمئنان :

إنّ وجود الثقة والاطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم ، والكذب من الأمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشبعه من خيانة وتقلب ،

__________________

(1) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 322.

٣٣٣

ولذلك كان تأكيد الإسلام على أهمية الالتزام بالصدق وترك الكذب.

ومن خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمّةعليهم‌السلام عن مصاحبة مجموعة معينة من الناس ، منهم الكذّابون لعدم الثقة بهم.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «إيّاك ومصادقة الكذّاب ، فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب»(1) .

والحديث عن قبح الكذب وفلسفته ، والأسباب الداعية إليه من الناحية النفسية ، وطرق مكافحته ، كل ذلك يحتاج إلى تفصيل طويل لا يمكن لبحثنا استيعابه ، ولمزيد من الاطلاع راجع كتب الأخلاق(2) .

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، قم 37.

(2) راجع كتابنا (الحياة على ضوء الأخلاق).

٣٣٤

الآيات

( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرون في شأن نزول الآية الأولى من هذه الآيات أنّها : نزلت في جماعة أكرهوا ـ وهو : عمار وأبوه ياسر وأمّة سمية وصهيب وبلال وخبّاب ـ عذّبوا وقتل أبو عمار وأمّه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ، ثمّ أخبر سبحانه

٣٣٥

بذلك رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال قوم : كفر عمّار. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلا : «إنّ عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه دمه» وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما وراءك»؟ فقال : شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ، فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإسلام :

تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به ، فتتناول الآيات فئة أخرى من الكفرة وهم المرتدون.

حيث تقول الآية الأولى :( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

وتشير الآية إلى نوعين من الذين كفروا بعد إيمانهم :

النوع الأوّل : هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه ، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوه من أعداء الإسلام ، فيعلنون براءتهم من الإسلام وولاءهم للكفر ، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان ، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإيمان.

فهذا النوع يكون مشمولا بالعفو الإلهي بلا ريب ، بل لم يصدر منهم ذنب ، لأنّهم قد ما رسوا التقية التي أحلها الإسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للاستفادة منها في طريق خدمة دين اللهعزوجل .

النوع الثّاني : هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقة ، ويغيّرون

٣٣٦

مسيرتهم ويتخلّون عن إيمانهم ، فهؤلاء يشملهم غضب اللهعزوجل وعذابه العظيم.

ويمكن أن يكون «غضب الله» إشارة إلى حرمانهم من الرحمة الإلهية والهداية في الحياة الدنيا ، و «العذاب العظيم» إشارة إلى عقابهم في الحياة الأخرى وعلى أيّة حال ، فما جاء في الآية من وعيد للمرتدين هو في غاية الشدة.

وتتطرق الآية التالية إلى أسباب ارتداد هؤلاء ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال : حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إسلامهم لشدّة حبّهم لدنياهم ، وعادوا خاسئين إلى كفرهم.

وبديهي أن من لا يرغب في الإيمان ولا يسمح له بالدخول إلى أعماق نفسه ، لا تشمله الهداية الإلهية ، لأنّ الهداية تحتاج إلى مقدمات كالسعي للحصول على رضوانه سبحانه والجهاد في سبيله ، وهذا مصداق لقولهعزوجل في آخر سورة العنكبوت :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) .

وتأتي الآية الأخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) بحيث أنّهم حرموا من نعمة الرؤية والسمع وادراك الحقائق :( وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

وكما قلنا سابقا فإنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإنسان للحقائق وعلى عقله ورؤيته السليمة ، وتدريجيا يسلب منه سلامة الفكر ، وكلما ازداد في غيه كلّما اشتدت حجب الغفلة على قلبه وسمعه وبصره ، حتى يؤول به المآل إلى أن يصبح ذا عين ولكن لا يرى بها ، وذا أذن وكأنّه لا يسمع

٣٣٧

بها ، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة ، فيخسر الحس التشخيصي والقدرة على التمييز ، والتي تعتبر من النعم الإلهي العالية.

«الطبع» هنا : بمعنى «الختم» ، وهو إشارة إلى حالة الإحكام المطلق ، فلو أراد شخص مثلا أن يغلق صندوقا معينا بشكل محكم كي لا تصل إليه الأيدي فإنّه يقوم بربطه بالحبال وغيرها ، ومن ثمّ يقوم بوضع ختم من الشمع على باب الصندوق للاطمئنان من عبث العابثين.

ثمّ تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم ، فتقول :( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وهل هناك من هو أتعس حالا من هذا الإنسان الذي خسر جميع طاقاته وامكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين ، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإيمان ، والذين ينقلبون إلى الكفر مرّة أخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم ، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدعون في دينهم ، فتقول :( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) .

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد ، ولكنّ الآية تشير إلى من كان مشركا في البداية ثم أسلم ، فعليه يكون المقصود به هو (المرتد الملّي) وليس (المرتد الفطري).(2)

وتأتي الآية الأخيرة لتقدم تذكيرا عاما بقولها :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ

__________________

(1) ضمير «بعدها» ـ وكما يقول كثير من المفسرين ـ يعود إلى «الفتنة» ، في حين ذهب البعض من المفسرين إلى أنه يعود إلى الهجرة والجهاد والصبر المذكورة سابقا.

(2) المرتد الفطري : هو الذي يولد من أبوين مسلمين ثم يرتد عن الإسلام بعد قبوله إياه ، والمرتد الملي : يطلق على من انعقدت نطفته من أبوين غير مسلمين ثم قبل الإسلام ، وارتد عنه بعد ذلك.

٣٣٨

نَفْسِها ) (1) لتنقذها من العقاب والعذاب.

فالمذنبون أحيانا ينكرون ما ارتكبوه من ذنوب إنكارا تاما فرارا من الجزاء والعقاب ، والآية (23) من سورة الأنعام تنقل لنا قولهم :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، وعند ما لا يلمسون أيّة فائدة لإنكارهم يتجهون بإلقاء اللوم على أئمتهم وقادتهم ، ويقولون :( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) (2) .

ولكن لا فائدة من كل ذلك( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

* * *

بحثان

1 ـ التقية وفلسفتها :

امتاز المسلمون الأوائل الذين تربّوا على يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بروح مقاومة عظيمة أمام أعدائهم ، وسجل لنا التأريخ صورا فريدة للصمود والتحدي ، وها هو «ياسر» لم يلن ولم يدخل حتى الغبطة الكاذبة على شفاه الأعداء ، وما تلفظ حتى بعبارة خالية من أيّ أثر على قلبه ممّا يطمخ الأعداء أن يسمعوها منه ، مع أنّ قلبه مملوءا ولاء وإيمانا بالله تعالى وحبّا وإخلاصا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصبر على حاله رغم مرارتها فنال شرف الشهادة ، ورحلت روحه الطاهرة إلى بارئها صابرة محتسبة تشكو إليه ظلم وجور أعداء دين الله.

وها هو ولدة «عمّار» الذي خرجت منه كلمة بين صفير الأسواط وشدّة الآلام تنم عن حالة الضعف ظاهرا ، وبالرغم من اطمئنانه بإيمانه وتصديقه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا

__________________

(1) اختلاف القول بخصوص متعلق «يوم» جار بين المفسّرين فبعضهم يذهب إلى أنّه متعلق بفاعل مستتر والتقدير هو «ذكرهم يوم القيامة» ، واعتبره آخرون متعلقا بفعل الغفران والرحمة المأخوذان من «الغفور الرحيم» في الآية السابقة ، (ولكنّنا نرجح التّفسير الاحتمال الأوّل لشموله).

(2) الأعراف ، 38.

٣٣٩

أنّه اغتمّ كثيرا وارتعدت فرائصه حتى طمأنه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحلّيّة ما فعل به حفظا للنفس ، فهذا.

ويطالعنا تأريخ (بلال) عند ما اعتنق الإسلام راح يدعو له ويدافع عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشدّ عليه المشركون حتى أنّهم طرحوه أرضا تحت لهيب الشمس الحارقة ، وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرة كبيرة على صدره وهو بتلك الحال ، وطلبوا منه أن يكفر بالله ولكنّه أبى أن يستجيب لطلبهم وبقي يردد : أحد أحد ، ثمّ قال : أقسم بالله لو علمت قولا أشد عليكم من هذا لقلته.

ونقرأ في تاريخ (حبيب بن زيد) أنّه لما أسره مسيلمة الكذاب فقد سأله : هل تشهد أنّ محمّدا رسول الله؟

قال : نعم.

ثمّ سأله : أتشهد أنّي رسول الله؟

فأجابه ساخرا : إنّي لا أسمع ما تقول! فقطعوه إربا إربا(1) .

والتأريخ الإسلامي حافل بصور كهذه ، خصوصا تأريخ المسلمين الأوائل وتأريخ أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام .

ولهذا قال المحققون : إنّ ترك التقية وعدم التسليم للأعداء في حالات كهذه ، عمل جائز حتى لو أدى الأمر إلى الشهادة ، فالهدف سام وهو رفع لواء التوحيد وإعلاء كملة الإسلام ، وخاصة في بداية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان لهذا الأمر أهمية خاصّة.

ومع هذا ، فالتقية جائزة في موارد ، وواجبة في موارد أخرى ، وخلافا لما يعتقده البعض فإنّ التقية (في مكانها المناسب) ليست علامة للضعف ، ولا هي مؤشر للخوف من تسلط الأعداء ، ولا هي تسليم لهم بقدر ما هي نوع من

__________________

(1) في ظلال القرآن ، ج 5 ، ص 284.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

ولكن من الواضح أنّ ذلك لا يشمل كلّ بادرة للخلاف وعدم الانسجام ، فإنّ التعبير بـ «الفاحشة» يكشف عن كون ذلك العمل على قدر كبير من القبح ، وخاصّة حينما وصفها بأنّها «مبيّنة».

وربّما كان المقصود «بالفاحشة» عملا يتنافى مع العفّة ، فقد جاء في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام ما يشابه ذلك المعنى ، وأنّ الغرض من «الإخراج» هنا هو الإخراج لإجراء الحدّ ، ومن ثمّ الرجوع والعودة إلى البيت.

ويمكن الجمع بين هذين المعنيين.

بعد بيان هذه الأحكام يؤكّد القرآن الكريم ـ مرّة اخرى ـ بقوله :( وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) . لأنّ الغرض من هذه الأحكام هو إسعاد الناس أنفسهم ، والتجاوز على هذه الأحكام ـ سواء من قبل الرجل أو المرأة ـ يؤدّي إلى توجيه ضربة قويّة إلى سعادتهم.

ويقول تعالى في لفتة لطيفة إلى فلسفة العدّة ، والحكمة من تشريعا ، وعدم السماح للنساء المعتقدات بالخروج من مقرّهن الأصلي البيت ، يقول :( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) .

ومع مرور الزمن يهدأ طوفان الغضب والعصبية الذي قد يسبّب الطلاق ، غير أنّ مرور الزمن وحضور الزوجة إلى جانب زوجها خلال هذه الفترة في البيت ، وإظهار ندم ومحبّة كلّ واحد منهما إلى الآخر ، وكذلك التفكير مليّا في عواقب هذا العمل القبيح ، خاصّة مع وجود الأطفال ، كلّ هذه الأمور قد تهيئ أرضية صالحة للرجوع عن هذا القرار المشؤوم ، وتساهم في تبديد الغيوم التي تكدّر سماء العلاقة الزوجية.

وفي إشارة لطيفة إلى هذا المعنى جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام «المطلّقة تكتحل وتختضب وتطيّب وتلبس ما شاءت من الثياب ، لأنّ اللهعزوجل

٤٠١

يقول :( لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) لعلّها تقع في نفسه فيراجعها»(١) .

نعود إلى القول بأنّ التصميم على الانفصال والطلاق يحدث في الغالب تحت تأثير الهيجان والانفعالات العابر ، التي قد تنتهي وتتبدّد بمرور الزمن (أي أثناء فترة العدّة) فإنّ التفكير جيّدا في هذا الأمر قد يؤدّي إلى رجوع أحدهما إلى الآخر ، وتجاوز حالات عديدة من الخلاف أثناء هذه الفترة ، ولكن بشرط أن تراعى الأحكام الإسلامية أثناء فترة العدّة بشكل دقيق.

وسيتّضح فيما بعد ـ إن شاء الله ـ أنّ ذلك كلّه يرتبط بحالة «الطلاق الرجعي».

* * *

ملاحظات

١ ـ أبغض الحلال إلى الله الطلاق

ممّا لا شكّ فيه أنّ عقد الزوجية من جملة العقود والمواثيق القابلة للفسخ ، فهناك حالات من الخلاف لا يمكن معها استمرار العلاقة الزوجية ، وإلّا فإنّها ستؤدّي إلى مشاكل ومفاسد خطيرة وعديدة. ولهذا نجد الإسلام قد شرّع أمر الطلاق من الناحية المبدأية.

بينما نلاحظ المجتمعات المسيحية التي منعت الطلاق ـ بأي شكل من الأشكال ـ تعيش مشاكل متعدّدة نتيجة لذلك ، فغالبا بما يعيش الزوجان المختلفان حالة انفصال وتباعد ، أو حالة طلاقة من الناحية العملية ، رغم عدم الاعتراف بذلك من الناحية الرسمية. وكثيرا يلجأ الزوجان إلى إختيار زوج آخر غير رسمي.

وبناء على ذلك فإنّ أصل الطلاق من الضروريات التي لا يمكن إلغاؤها بأي وجه من الوجوه ، ولكن ينبغي أن لا يصار إليها إلّا في الحالات التي يتعذّر فيها

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٢ ، حديث ٣٤.

٤٠٢

مواصلة العلاقة الزوجية والحياة المشتركة.

ولهذا نجد أنّ الطلاق قد ذمّ في روايات إسلامية عديدة ، وذكر على أنّه (أبغض الحلال إلى الله).

ففي رواية عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما من شيء أبغض إلى اللهعزوجل من بيت يخرّب في الإسلام بالفرقة ، يعني الطلاق»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «ما من شيء ممّا أحلّه الله أبغض إليه من الطلاق»(٢) .

وفي آخر عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تزوّجوا ولا تطلّقوا فإنّ الطلاق يهتزّ منه العرش»(٣) .

وكيف لا يكون كذلك؟! والطلاق هو السبب وراء مآس عديدة تحلّ بالعوائل والرجال والنساء ، وأكثر منهم بالأطفال والأولاد ، ويمكن تقسيم تلك المآسي إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ المشاكل العاطفية :

ممّا لا شكّ فيه أنّ انتهاء العلاقة الزوجية بالطلاق والفراق ، بعد حياة مشتركة عاشها الزوج والزوجة معا ، ستترك آثارا سيّئة على الصعيد العاطفي على كلا الطرفين. وإذا أقدم أحدهما على الزواج مرّة اخرى فسيبقى ينظر بشيء من القلق والارتياب إلى الطرف الآخر ، وربّما أعرض بعضهم عن الزواج نهائيا تحت تأثير التجربة الاولى الفاشلة.

٢ ـ المشاكل الاجتماعية :

غالبا ما تحرم النساء المطلّقات من الحصول على الزوج المؤهّل والكفوء مرّة اخرى ، كما قد يواجه الرجال نفس المسألة حينما يبدأون يفكّرون بالزواج مرّة اخرى ، وقد يضطرّ هؤلاء إلى الزواج رغم عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٢٦٦ ، حديث ١.

(٢) نفس المصدر ، حديث ٥.

(٣) نفس المصدر ، حديث ٧.

٤٠٣

قناعاتهم ، الأمر الذي يؤدّي إلى فقدان السعادة والراحة إلى الأبد. خصوصا مع وجود أطفال من الزواج الأوّل.

٣ ـ مشاكل الأطفال :

وهذه أهمّ المشاكل حيث يحرم الأطفال من حنان ورعاية الامّ ، ويعيشون في كنف زوجة أبيهم التي لا تنظر إلى هؤلاء الأطفال أو تعاملهم كما تعامل أطفالها الحقيقيين. وبهذا سيعيش الأبناء فراغا عاطفيا من هذا الجانب لا يعوّضه شيء.

وتتكرّر نفس الصورة فيما إذا حملت المرأة أطفالها معها إلى الزوج الجديد ، فإنّ هذا الزوج الجديد لا يحلّ غالبا محلّ الأب الحقيقي.

وهذا لا يعني أنّه لا يوجد نساء أو رجال يمتلكون المحبّة والشفقة التي تمتلكها الأمّهات أو الآباء تجاه أطفالهم ، ولكن مثل هؤلاء الناس قليلون في المجتمع ويندر الحصول عليهم.

وبناء على ذلك سيعيش هؤلاء الأطفال المحرومون من حبّ الامّ والأب عقدا معيّنة على الصعيد الروحي والعاطفي ، وربّما يؤدّي إلى فقدانهم السلامة الروحية. ولهذا سيعاني المجتمع بأجمعه ـ وليس العائلة فقط ـ من هؤلاء الأطفال الذين قد يشكّلون في بعض الأحيان ظاهرة خطيرة عند ما يعيشون حالة النقص وحبّ الانتقام من المجتمع.

وعند ما وضع الإسلام كلّ تلك الموانع والصعوبات بوجه الطلاق ، فإنّما أراد أن يجنّب المجتمع الإسلامي الوقوع بتلك المشاكل. ولهذا السبب أيضا نلاحظ القرآن الكريم قد حثّ بشكل صريح كلا من الرجل والمرأة على أن يتّجها إلى العائلة والأقرباء لحلّ الاختلاف والمشاكل التي قد تنشأ بينهما ، عن طريق تشكيل محكمة صلح عائلية تعرض عليها الاختلافات والنزاعات بدل عرضها على المحاكم الشرعية وحصول الطلاق والانفصال. (وضّحنا هذا الأمر ـ أي محكمة الصلح العائلية في ذيل الآية ٣٥ سورة النساء).

٤٠٤

وفي نفس الوقت نجد أنّ الإسلام شجّع كلّ ما من شأنه تقوية الأواصر العائلية وتقويتها ، وشجب كلّ محاولة لإضعافها وتفكيكها.

٢ ـ أسباب الطلاق :

لا يختلف الطلاق عن الظواهر الاجتماعية الاخرى التي تمدّ جذورها في المجتمع وتشارك في تكوينها أسباب وامور عديدة متشابكة. وعمليّة منعها والوقوف بوجهها تبقى بدون جدوى ما لم يتمّ النظر إليها بشكل دقيق يتناول جميع العوامل التي تقف وراءها ، وهي كثيرة جدّا منها :

أـ التوقّعات والآمال المفرّطة التي يبنيها كلّ واحد منهما على الطرف الثاني ، فلو أنّهما جعلا توقّعهما في دائرة محدودة ومعقولة وتجنّبا التوغّل في عالم الخيال ، وأدرك كلّ واحد منهما الطرف الآخر جيّدا ، وحصر التوقّع في المجالات الممكنة ، فحينئذ يمكن الحيلولة دون وقوع الكثير من حالات الطلاق.

ب ـ استحكام روح طلب الماديّات ووسائل الرفاه المختلفة يجعل الإنسان ـ وخاصّة النساء ـ في حالة عدم قناعة مستمرّة ، ممّا يسهّل حصول عملية الطلاق والانفصال عند مواجهة أبسط الحوادث تحت ذرائع وحجج متنوّعة.

ج ـ تدخّلات الأقرباء في الشؤون الخاصّة للزوجين ، وخاصّة تلك التدخلات في موارد الاختلافات بين الزوجين. ويعدّ ذلك من العوامل المهمّة التي تساعد على الطلاق.

ونلاحظ من خلال التجربة أنّ خلافات الزوجين إذا ما تركت لشأنها دون تدخّل من الأقارب فسوف تتلاشى وتنطفئ شيئا فشيئا. أمّا إذا تمّ دخول طرف من الأقارب والمتعلّقين دخولا متحيّزا متعصّبا ، فإنّه سيؤدّي إلى إشعال هذه الخلافات وتعقيدها أكثر.

ولكن هذا لا يعني أن يبعد الأقرباء أنفسهم عن هذه الاختلافات دائما ودون

٤٠٥

استثناء ، فإنّ دخولهم حينما تكبر المشكلة وتخرج عن كونها خلافا جزئيّا جانبيّا يكون لصالح العلاقة الزوجية ودوامها ، خصوصا إذا كان تدخّلا خاليا من التعصّب والانحياز.

د ـ عدم التفات كلّ من الزوجة والزوج إلى رغبات وطلبات أحدهما من الآخر ، ففي الوقت الذي يحبّ الزوج أن تكون زوجته دائما جذّابة نظيفة ، كذلك تحبّ الزوجة لزوجها أن يكون كذلك. ولكن هذه الرغبات غالبا ما تكون مكبوتة لا يحاول كلّ منهما إبرازها والإعلان عنها.

وهكذا فإنّ عدم اهتمام الأزواج بهندامهم وترك التزيين والترتيب ، وعدم الاهتمام بالنظافة ، كلّ تلك الأمور تمنع الزوج أو الزوجة من الاستمرار بمشروع الزواج ، خاصّة إذا كان هناك من يهتمّ بهذه المسائل في المحيط الذي يعيش فيه هؤلاء الزوجان.

لهذا نجد الروايات الإسلامية أعطت أهميّة خاصّة لهذا الجانب ، فقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «لا ينبغي للمرأة أن تعطّل نفسها»(١) .

وجاء في حديث آخر عنه أيضاعليه‌السلام : «ولقد خرجن نساء من العفاف إلى الفجور ما أخرجهنّ إلّا قلّة تهيئة أزواجهنّ»(٢) .

ه ـ عدم تناسب المستوى الثقافي للعوائل ، وكون الزوج يعيش نوعا من الثقافة العائلية لا تنسجم مع ثقافة الزوجة العائلية. ولهذا ينبغي التدقيق في هذا الأمر قبل الإقدام على الزواج ، فالمطلوب ليس فقط «الكفاءة الشرعية» أي الالتزامات الإسلامية ، وإنما يجب أن تتوفّر ـ أيضا ـ «الكفاءة الفرعية» أي التماثل والتشابه في الأمور الاخرى بين الطرفين. وإلّا فحدوث تصدع في العائلة غير مستبعد.

__________________

(١) مكارم الأخلاق ، ص ٩١ ـ ١٠٧.

(٢) المصدر السابق.

٤٠٦

٣ ـ فلسفة ضبط وإحصاء العدّة

ممّا لا شكّ فيه أنّ للعدّة حكمتين أساسيتين أشير إليهما في القرآن الكريم والروايات الإسلامية.

الاولى : مسألة حفظ النسل واتّضاح وضع المرأة من حيث الحمل وعدمه.

والاخرى : توفير فرصة جيّدة للرجوع عن الطلاق والعودة إلى الحياة الاولى ، والقضاء على عوامل الانفصال التي تمّت الإشارة إليها في الآية أعلاه ، علما أنّ الإسلام يؤكّد على بقاء النساء في بيوت الأزواج أثناء العدّة ، ممّا يسمح بالبحث مرّة اخرى عن وسائل للعودة ، وترك الانفصال عن بعضهما.

وخصوصا في حالة الطلاق الرجعي(١) حيث لا يحتاج الرجوع إلى الزوجة إلى أيّة مراسيم أو أمور رسمية. وكلّ عمل يعتبر عودة عن هذا الطريق ولو بمجرّد وضع الرجل يده على جسم المرأة ، حتّى لو كان بدون شهوة ، فإنّه يعتبر رجوعا عن الطلاق.

وإذا ما مرّت هذه الفترة (أي فترة العدّة) دون أن تظهر أي بادرة للصلح والتوافق ، فهذا يعني أنّهما غير مستعدّين للاستمرار في الحياة الزوجية.

أوردنا شرحا لهذا الموضوع في ذيل الآية (٢٢٨) سورة البقرة.

* * *

__________________

(١) المقصود من «الطلاق الرجعي» ـ هو الطلاق الذي يحدث بإصرار ومبادرة من الرجل أوّل وثاني مرّة ـ.

٤٠٧

الآيات

( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) )

التّفسير

فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف :

يشير في الآية مورد البحث ، وكاستمرار للأبحاث المرتبطة بالطلاق التي وردت في الآيات السابقة ، إلى عدّة أحكام اخرى ، إذ يقول تعالى في البداية :( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) .

المراد ببلوغ الأجل «الوصول إلى نهاية المدّة» وليس المقصود أن تنتهي العدّة تماما ، بل تشرف على الانتهاء ، فإنّ الرجوع بعد نهاية العدّة غير جائز ، إلّا أن

٤٠٨

يكون إبقاؤهنّ عن طريق صيغة عقد جديدة ، ولكن هذا المعنى بعيد جدّا عن سياق ومفهوم الآية.

على أي حال فإنّ هذه الآية تطرح أهمّ الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجا ، وهي : إمّا أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق ، أو أن ينفصلا بإحسان.

فالانفصال ينبغي أن يتمّ بعيدا عن الهياج والعربدة ، وعلى اصول صحيحة ، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيّأة للعودة والرجوع إذا ما قرّرا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد ، فإنّ العودة إذا تمّت في جو مظلم ملبّد بالخلافات والتعدّيات ، فسوف لا تكون عودة موفّقة تستطيع الاستمرار مدّة طويلة. هذا إضافة إلى أنّ الانفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثارا ، ليس فقط على الزوج والزوجة ، وإنّما قد تتعدّى إلى عشيرة وأقرباء كلّ منهما ، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل.

ومن اللطيف حقّا أن تحاط كلّ الصداقات والعلاقات المشتركة بين الناس بجوّ من الإحسان والاحترام المتبادل للحقوق والشعور بالمسؤولية ، وحتّى لو وقع الطلاق فيجب أن يتمّ أيضا بإحسان ودون مشاكل ، فإنّ ذلك يعتبر بحدّ ذاته نوعا من الإنتصار والموفّقية لكلا الطرفين.

ويتّضح ممّا سبق أنّ (الإمساك بالمعروف والطلاق بالمعروف) له معنى واسع يشمل جميع الواجبات والمستحبّات والآداب والأخلاق التي تقتضيها تلك العلاقة.

ثمّ يذكر القرآن الكريم الحكم الثاني حيث يقول :( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) .

وذلك لكي لا يستطيع أحد أن ينكر في المستقبل ما جرى.

وبعض المفسّرين احتمل الإشهاد لكلا الأمرين : الطلاق والرجوع ، غير أنّ

٤٠٩

الإشهاد ليس واجبا قطعا في التزويج فضلا عن الرجوع. وعلى فرض أنّ المورد يشمل الرجوع فيكون من باب الاستحباب.

وفي الحكم الثالث يبيّن القرآن الكريم وظيفة الشهود ، حيث يقول :( وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ) حذار أن يكون ميلكم وحبّكم لأحد الطرفين مانعا عن إظهار الحقّ ، وينبغي أن تتمّ الشهادة لله ولإظهار الحقّ ، وينبغي أن يكون الشهود عدولا ، ولما كانت عدالة الشاهد لا تعني انّه معصوم من الذنب ، ولهذا يحذّرهم الله تعالى لكي يراقبوا أنفسهم لئلّا ينحرفوا عن جادّة الحقّ بعلم أو بغير علم.

وينبغي أن يشار إلى أنّ تعبير( ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) دليل على أنّ الشاهدين يجب أن يكونا مسلمين عادلين ومن الذكور.

ولتأكيد الأحكام السابقة جميعا تقول الآية الكريمة :( ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) .

ربّما اعتبر البعض «ذلكم» إشارة ـ فقط ـ إلى مسألة التوجّه إلى الله ومراعاة العدالة من جانب الشهود ، غير أنّ الظاهر أنّ هذا التعبير يشمل كلّ الأحكام السابقة حول الطلاق.

وعلى أيّة حال فإنّ هذا التعبير دليل على الأهمية القصوى التي يولّيها القرآن الكريم لأحكام الطلاق ، التي إذا تجاوزها أحد ولم يتّعظ بها فكأنّه أنكر الإيمان بالله واليوم الآخر.

وبسبب المشاكل المعيشية والحياة المستقبلية فإنّ الزوجين قد ينحرفان عن جادّة الصواب عند الطلاق والرجوع ، وقد تضغط هذه الظروف على الشاهدين فتمنعانهما عن أداء الشهادة الصحيحة والعادلة ، لهذا تؤكّد الآية في نهايتها قائلة :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) ويساعده حتما على إيجاد الحلّ لمشكلاته.

( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ولا يتصوّر تحصيله.

( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) وسيكفيه ما يهمّه من أموره.

٤١٠

( إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) لأنّ اللهعزوجل قادر مطلق ، وأمره نافذ في كلّ شيء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته

ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحقّ ، ويحثّهم على الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات ، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتّقين أمرهم ، ويجعل لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.

لقد تعهّد الله أن لا يترك من توكّل عليه يتخبّط في حيرته ، وإنّه لقادر على الوفاء بهذا التعهّد.

ورغم أنّ هذه الآيات نزلت بشأن الطلاق والأحكام المتعلّقة به ، لكنّها تحتوي مفاهيم واسعة ومعاني عظيمة تشمل جميع المجالات التي يعاهد الله بها المتّقين ، ويبعث في نفوسهم الأمل بأنّه سيشملهم بلطفه ورعايته ، فينجيهم من المآزق ، ويرشدهم إلى الصواب ، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة ، ويرفع عنهم مشاكل الحياة وصعوباتها ، ويبدّد الغيوم السوداء التي تلبّد سماء سعادتهم.

وفي إشارة لطيفة إلى النظام العامّ الذي يحكم التكوين والتشريع ، يقول تعالى :( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) فكلّ هذه الأحكام والأوامر التي فرضها الله في شأن الطلاق ، إنّما كانت ضمن حساب دقيق ومقاييس عامّة شاملة لا يغيب عنها شيء.

وهكذا يجب أن يلتزم الناس في جميع المشاكل التي تنتاب حياتهم ـ وليس فقط في مسألة الطلاق ـ بالموازين والأحكام الشرعية ، وأن يواجهوا تلك الأمور بالتقوى والصبر وطلب التوفيق من الله ، لا أن يطلقوا ألسنتهم بالشكوى وارتكاب الذنوب ، وما إلى ذلك ويتوسّلون بالطرق غير المشروعة لحلّ مشاكلهم.

* * *

٤١١

بحثان

١ ـ التقوى والنجاة من المشاكل

إنّ تلاوة الآيات السابقة تبعث ـ أكثر من غيرها ـ الأمل في النفوس ، وتمنح القلب صفاء خاصّا ، وتمزّق حجب اليأس والقنوط ، وتنير الأرواح بنور الأمل ، إذ تعدّ كلّ المتّقين بحلّ مشاكلهم وتسهيل أمورهم.

جاء في حديث عن أبي ذرّ الغفاري أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّي لأعلم آية لو أخذها بها الناس لكفتهم( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) فما زال يقولها ويعيدها»(١) .

وفي حديث آخر عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الآية أنّه قال : «من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، وشدائد يوم القيامة».

وهذا التعبير دليل على أنّ تيسير امور المتّقين ليس في الدنيا فقط وإنّما يشمل القيامة أيضا.

وفي حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أكثر الاستغفار جعله الله له من كلّ هم فرجا ومن كلّ ضيق مخرجا»(٢) .

قال بعض المفسّرين : إنّ أوّل الآية السابقة نزلت بحقّ (عوف بن مالك) وهو أحد أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أسر ابنه فجاء يشكو هذا الحادث وفقر حاله وضيق ذات يده إلى الرّسول فنصحه رسول الله بقوله : «اتّق الله واصبر ، وأكثر من قول «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ففعل ذلك وفجأة بينما هو جالس في بيته دخل عليه ولده ، فتبيّن أنّه قد استغفل الأعداء وفرّ من قبضتهم وجاء بجمل معه منهم.

لذا نزلت هذه الآية التي تخبر عن تيسير معضلة هذا الرجل المتّقي من حيث

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٦ ، حديث ٤٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٧ ، حديث ٤٥.

٤١٢

لا يحتسب(١) .

ولا يعني هذا إطلاقا أنّ الآية تحثّ على ترك السعي وبذل الجهد والجلوس في البيت والركون إلى الله وأن يردّد الإنسان قول «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» لينزل عليه الرزق من حيث لا يحتسب. إنّ ما تريد الآية الكريمة أن تركّز عليه هو أنّ السعي لا بدّ أن يكون معه وإلى جانبه تقوى ، وإذا ما أغلقت الأبواب مع كلّ هذا حينئذ يتدخّل البارئ لفتح هذه الأبواب.

لهذا نجد في الحديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام (عمر بن مسلم) انقطع فترة عن الإمام ، قال الإمامعليه‌السلام ما فعل عمر بن مسلمعليه‌السلام قلت : جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة فقال : ويحه! أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له ، إنّ قوما من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزلت :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا : قد كفينا ، فبلغ ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل إليهم قال : «ما حملكم على ما صنعتم به» فقالوا : يا رسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطلب»(٢) .

٢ ـ روح التوكّل

المقصود من التوكّل على الله هو أن يسعى الإنسان لأن يجعل عاقبة عمله وكدحه على الله ويوكّلها إليه ، ويدعوه لتسهيل أمره ، فإنّه لطيف بعباده رحيم بهم وعلى كلّ شيء قدير.

والشخص الذي يعيش حقيقة «التوكّل على الله» لا يجد اليأس إليه منفذا ، ولا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠٦ ، وبهذا المعنى جاء في تفسير «الفخر الرازي» و «روح البيان». مع اختلاف بسيط بعضهم قال أنّه جلب مائة بعير.

(٢) الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٥٤ ، ح ٣٥.

٤١٣

يدبّ في عزمه الضعف ، ولا يشعر بالنقص والصغر أمام المشاكل مهما كبرت ، ويبقى يقاوم ويواجه الأحداث بقوّة وإيمان راسخين. ويعطيه هذا الإيمان والتوكّل قدرة نفسية عظيمة يستطيع معها تجاوز الصعاب.

ومن جانب آخر تنهمر عليه الإمدادات الغيبية والمساعدات التي وعده الله.

ففي حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سألت من جبرائيل : ما التوكّل؟ قال «العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، واستعمال اليأس من الخلق ، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ، ولم يرج ولم يخف سوى الله ، ولم يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكّل»(١) .

فالتوكّل بهذا المضمون العميق يمنح الإنسان شخصية جديدة ويكون له تأثير على جميع أعماله. لذا نقرأ في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سأل اللهعزوجل في ليلة المعراج : إلهي أي الأعمال أفضل؟ قال تعالى : «ليس شيء عندي أفضل من التوكّل عليّ والرضا بما قسمت»(٢) .

ومن الطبيعي أنّ التوكّل بهذا المعنى سيكون توأما مع الجهاد والسعي وليس مع الكسل والفرار من المسؤوليات.

وقد أوردنا بحثا آخر في هذا المجال في ذيل الآية ١٢ سورة إبراهيم.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ٣٧٣ ، حديث ١٩.

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٨٣ ، مادّة التوكّل.

٤١٤

الآيات

( وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) )

٤١٥

التّفسير

أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ :

من بين الأحكام المستفادة من الآيات السابقة لزوم إحصاء العدّة بعد الطلاق ، ولمّا كانت الآية (٢٢٨) من سورة البقرة قد بيّنت حكم العدّة للنساء اللاتي يرين العادة الشهرية وذلك بأن تعد ثلاث دورات شهرية متتالية وبمشاهدة الثالثة تكون المرأة قد أنهت عدّتها. فقد ذكرت الآيات محلّ البحث حكم النسوة اللواتي لا حيض لديهم لأسباب معيّنة ، أو الحوامل لتكمل بحث العدّة.

يقول تعالى في بداية الأمر :( وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ) فإذا شككتم في وجود الحمل فمدّة العدّة حينئذ ثلاثة أشهر ، وكذلك النسوة اللائي لم يرين الحيض ولم تحدث لهنّ العادة الشهرية بعد( وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) .

ثمّ يشير تعالى إلى ثالث مجموعة حيث يضيف قائلا :( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) .

وبهذا اتّضح حكم المجاميع الثلاثة ، مجموعتان يجب أن يحصين عدتهنّ ثلاثة أشهر ، والمجموعة الثالثة ـ أي النساء الحوامل ـ تنتهي عدتهنّ بوضع الحمل ، سواء كان بعد ساعة من الطلاق ، أو بعد ثماني أشهر مثلا.

وقد ذكرت ثلاثة احتمالات في معنى عبارة( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) :

١ ـ الشكّ في وجود «الحمل» بمعنى أنّه هناك احتمال حمل بعد سنّ اليأس (خمسون سنة للنساء العاديات ، وستّون سنة للنساء القرشيات) فمن أجل هذا الاحتمال الضعيف الذي نادرا ما يقع ، يجب أن تحتاط النساء فتحصي عدّتها ثلاثة أشهر(١) .

__________________

(١) الجواهر ، ج ٣٢ ، ص ٢٤٩ ، وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، باب ٤ ، حديث ٧.

٤١٦

٢ ـ النساء اللائي لا يعلم بأنّهنّ وصلن إلى مرحلة اليأس أم لا.

٣ ـ المراد هو الشكّ في حكم هذه المسألة ، فحكمها كما ورد في هذه الآية.

ويبدو أنّ الأنسب والأقرب هو التّفسير الأوّل فإنّ التعبير بـ( وَاللَّائِي يَئِسْنَ ) يوحي أنّ هؤلاء النساء قد بلغن سنّ اليأس.

ويشار إلى أنّ حكم النساء اللائي غابت عنهنّ العادة الشهرية لمرض أو غيره هو نفس حكم اليائسات ، أي يعدّدن ثلاثة أشهر (يمكن أن يستفاد هذا الحكم عن طريق قاعدة الأولوية أو مشمولا بلفظ الآية)(١) .

جملة( وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) يمكن أن تكون إشارة إلى النساء اللائي بلغن سنّ البلوغ ، دون أن يشاهدن العادة الشهرية. وفي هذه الصورة يجب أن يحسبن عدّتهنّ ثلاثة أشهر.

واحتملوا أن تكون الآية ناظرة لجميع النساء اللائي لم يشاهدن العادة الشهرية ، سواء بلغن سنّ اليأس أم لا. غير أنّ المشهور بين فقهائنا أن لا عدّة للنساء اللائي يطلقن قبل بلوغهنّ سنّ البلوغ. ويوجد من خالف هذا الرأي واستدلّوا على ذلك ببعض الروايات ، كما أنّ ظاهر الآية يوافقهم. (للتوسّع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهية)(٢) .

وذكر كسبب لنزول الجملة الأخيرة في الآية أنّ «أبي بن كعب» سأل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أنّ القرآن لم يذكر عدّة النساء الصغيرات والنساء الكبيرات «اليائسات» والحوامل فنزلت السابقة تبيّن أحكامهنّ(٣) .

ويذكر أنّ العدّة في هذا المورد إنّما تكون في حقّ النساء اللائي يحتمل في

__________________

(١) طبعا المشهور بين الفقهاء أنّ المرأة عند ما تصل إلى سنّ اليأس سوف لا تكون لها عدّة مطلقا ، ولكن في مقابل ذلك كان عدد من الأصحاب المتقدّمين يقولون بوجوب العدّة ، وتساعدهم بعض الروايات رغم معارضة روايات اخرى. وما يتطابق مع ظاهر الآية هو أنّه في حالة الشكّ في الحمل فهناك عدّة.

(٢) (للتوسّع أكثر راجع جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ٢٣٢ وكتب فقهية اخرى).

(٣) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٢٦٠.

٤١٧

حقّهنّ الحمل ، لأنّهنّ ذكرن في الآية معطوفات على النساء اليائسات ، ومعنى ذلك أنّ حكمهنّ واحد(١) .

وأخيرا يؤكّد مرّة اخرى في نهاية الآية على التقوى حيث يقول تعالى :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ) .

ييسّر أموره ويسهّلها في هذا العالم ، وكذلك في العالم الآخر ، بألطافه سواء في هذه القضيّة أي قضيّة الطلاق أو في قضايا اخرى.

وللتأكيد على أحكام الطلاق والعدّة فقد أضاف تعالى في الآية اللاحقة قائلا :( ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ) .

( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ المقصود من «السيّئات» هنا «الذنوب الصغيرة» والمقصود من «التقوى» اجتناب الذنوب الكبيرة.

وبناء على ذلك فإنّ تجنّب الكبائر يؤدّي إلى غفران الصغائر ، كما جاء في الآية ٣١ من سورة النساء. ولازم هذا أنّ مخالفة الأحكام في هذا المجال ـ أي في الطلاق والعدّة ـ يعدّ من الذنوب الكبيرة(٢) .

ورغم أنّ السيّئات تطلق أحيانا على الذنوب الصغيرة ، كما ورد في آيات عديدة من القرآن الكريم ، ولكنّها تطلق في آيات اخرى على كلّ الذنوب أعمّ من الصغيرة والكبيرة ، نقرأ في الآية ٦٥ من سورة المائدة :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) «وجاء ما يشابه هذا المعنى في آيات أخر».

ومن المسلّم أنّ الإيمان والإسلام يؤدّيان إلى غفران الذنوب السابقة.

وتعطي الآية اللاحقة توضيحا أوسع وأشمل لحقوق المرأة بعد الطلاق ، من حيث «السكن» و «النفقة» وامور اخرى.

__________________

(١) قال الطبرسي في مجمع البيان : إنّ التقدير «واللائي لم يحضن إذا ارتبتم فعدتهنّ أيضا ثلاثة أشهر».

(٢) الميزان ، ج ١٩ ، ص ٣٦٧.

٤١٨

يقول تعالى في سكن النساء المطلّقات :( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ) .

«وجد» على وزن (حكم) ، بمعنى القدرة والتمكّن ، وذكر المفسّرون تفاسير اخرى ترجع في النتيجة إلى نفس المعنى ، إذ يقول الراغب في المفردات : إنّ التعبير بـ( مِنْ وُجْدِكُمْ ) يعني بما تستطيعون وبما تقدرون عليه ، وبمعنى اختاروا مسكنا مناسبا قدر الإمكان للنساء المطلّقات.

ومن الطبيعي أنّه حينما يكون الإسكان على نفقة الزوج وفي عهدته ، فإنّ الأمور الاخرى من الإنفاق ستقع هي الاخرى على عاتق الزوج ، والشاهد على هذا المدّعى ذيل الآية الذي يتحدّث عن نفقة النساء الحوامل.

ثمّ يتطرّق تعالى لذكر حكم آخر( وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ ) .

حذار أن يغرّكم البعض ويزرع بينكم البغض والعداوة والنفور ، ممّا يؤدّي إلى إخراجكم عن جادّة الحقّ ، فتحرمونهنّ حقوقهنّ الطبيعية في السكن والنفقة ، وتجعلوهنّ تحت ضغوط لا يستطعن معها إلّا الهرب وترك كلّ شيء.

يقول تعالى في ثالث حكم حول النساء الحوامل( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) .

فما دمن حاملات فهنّ في حالة عدّة يستحقّنّ النفقة والسكن على الزوج.

ويقول تعالى في الحكم الرابع حول حقوق النساء المرضعات( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) .

اجرة تتناسب مع مقدار وزمان الإرضاع ، وطبقا لما هو معروف وشائع عرفا ونظرا لأنّ الأطفال كثيرا ما يصبحون نقطة للنزاع والخلاف بين الزوج والزوجة بعد الطلاق ، فقد أوضح القرآن في الحكم الخامس هذا الأمر بشكل قاطع ولائق حيث قال :( وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ) وتشاوروا بينكم في مصير الأولاد ومستقبلهم.

٤١٩

ويحذّر القرآن الكريم من مغبّة أن يكون الأطفال ضحيّة الخلاف الواقع بين الزوج والزوجة ، ممّا يترك عليهم آثارا واضحة على تكوينهم الجسمي والنفسي ، إذ يحرمون من حنان الامّ والأب وشفقتهما فينبغي أن يتّقي الأبوان الله تعالى ويحفظا حقوق الأطفال فإنّهم لا يستطيعون الدفاع عنها.

وجملة «وأتمروا» من مادّة «ايتمار» وتأتي أحيانا بمعنى «قبول الأمر» وأحيانا اخرى بمعنى «التشاور» والمعنى الثاني أقرب إلى معنى الآية.

والتعبير «بمعروف» تعبير جامع يشمل كلّ مشاورة فيها خير وصلاح.

وفي حالة عدم حصول التوافق والتفاهم بين الزوجين حول مصير الأطفال وقضيّة إرضاعهم ، يقول القرآن في سادس حكم في هذا المجال( وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) .

إشارة إلى أنّ الخلافات إذا طالت وتعقّدت فأعطوا الأطفال إلى مرضعة اخرى ، ورغم أنّ الامّ هي الأولى بذلك ، لكن إذا بقي الأطفال ينتظرون ، وظلّ النزاع على حاله ، فلا ينبغي أن ينسى الأطفال في خضم هذا النزاع.

وتبيّن الآية اللاحقة سابع ـ وآخر حكم ـ في هذا المجال حيث يقول تعالى :( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ) .

فهل أنّ هذا الأمر يرتبط بالنساء اللائي يتعهدنّ رضاعة أطفالهنّ بعد الفرقة والطلاق ، أو أثناء العدّة التي أشير إليها بصورة إجمالية في الآيات السابقة ، أو أنّه يرتبط بكليهما معا.

ويبدو أنّ المعنى الأخير أنسب وأقرب ، رغم أنّ بعض المفسّرين اعتبرها خاصّة بالنساء المرضعات فقط في الوقت الذي أطلقت الآيات السابقة على هذا الأمر تعبير «أجر» وليس «نفقة وإنفاق».

على كلّ حال لا ينبغي للذين ليس لهم القدرة أن يتشدّدوا ويعقدوا الأمور ،

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624