الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196882 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

لأنّه قد أوجد الأحكام المسبقة الخاطئة عنده ، وسمح للأهواء النفسية والتعصبات العمياء المتطرفة أن تتغلب على توجهه ، ووقع في أسر الذات والغرور ، ولوث صفاء قلبه وطهارة روحه بأمور قد جعلها موانع أمام فهم وإدراك الحقائق.

وجاء في الحديث الشريف : «لو لا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات».

فأوّل شرط ينبغي تحقيقه لمن رام السير على طريق الحق هو تهذيب النفس وامتلاك التقوى ، وبدون ذلك يقع الإنسان في ظلمات الوهم فيضل الطريق.

ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة ب( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

وكم من أناس طلبوا آيات القرآن بتعصب وعناد وأحكام مسبقة (فردية أو اجتماعية) وحملوا القرآن بما يريدون لا بما يريده القرآن ، فازدادوا ضلالا بدلا من أن يكون القرآن هاديا لهم (وطبيعي أنّ القرآن بآياته وحقائقه الناصعة لا يكون وسيلة للإضلال ، ولكنّ أهواءهم وعنادهم هو الذي جرّهم لذلك) والآيتان (124 و 125) من سورة التوبة تبيّن لنا هذه الحالة بكل وضوح :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

فالمقصود بالآية عدم الاكتفاء بذكر (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بل ينبغي أن نجعل من هذا الذكر فكرا ، ومن الفكر حالة داخلية ، وعند ما نقرأ آيّة نستعيذ بالله من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا ، أو أن تحول بيننا وبين كلام الله جل وعلا.

2 ـ لما ذا يكون التعوذ «من الشيطان الرجيم»؟

«الرجيم» : من (رجم) ، بمعنى الطرد ، وهو في الأصل بمعنى الرمي بالحجر ثمّ استعمل في الطرد.

٣٢١

ونلاحظ ذكر صفة طرد الشيطان من دون جميع صفاته ، للتذكير بتكبّره على أمر الله حين أمره بالسجود والخضوع لآدم ، وإنّ ذلك التكبّر الذي دخل الشيطان بات بمثابة حجاب بينه وبين إدراك الحقائق ، حتى سولت له نفسه أن يعتقد بأفضليته على آدم وقال :( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .

فكان ذلك العناد والغرور سببا لتمرده على أمر اللهعزوجل ممّا أدى لكفره ومن ثمّ طرده من الجنّة.

وكأنّ القرآن الكريم يريد أن يفهمنا باستخدامه كلمة «الرجيم» بضرورة الاحتياط والحذر من الوقوع في حالة التكبّر والغرور والتعصب عند تلاوة آيات الله الحكيم ، لكي لا نقع بما وقع به الشيطان من قبل ، فنهوى في وحل الكفر بدلا من إدراك وفهم الحقائق القرآنية.

3 ـ بين لوائي الحقّ والباطل

قسمت الآيات أعلاه الناس إلى قسمين : قسم يرزح تحت سلطة الشيطان وقسم خارج عن هذه السلطة ، وبيّنت صفتين لكلّ من هذين القسمين :

فالذين هم خارج سلطة الشيطان : مؤمنون ومتوكلون على اللهعزوجل ، أي أنّهم من الناحية الاعتقادية عباد لله ، ومن الناحية العملية يعيشون مستقلين عن كل شيء سوى الله، ويتوكلون عليه لا على البشر أو على الأهواء والتعصبات.

أمّا الذين يرزحون تحت سلطة الشيطان ، فقائدهم الشيطان( يَتَوَلَّوْنَهُ ) وهو مشركون ، لأنّ أعمالهم تشير إلى تبعيتهم للشيطان وأوامره كشريك لله جل وعلا.

وثمة من يسعى لأن يكون من القسم الأوّل ، ولكنّ ابتعاده عن المربّين الإلهيين ، أو الضياع في محيط فاسد ، أو أيّ أسباب أخرى ، تؤدي الى سقوطه في وحل القسم الثّاني.

وعلى أيّة حال ، فالآية تؤكّد حقيقة أنّ سلطة الشيطان ليست إجبارية على

٣٢٢

الإنسان ، ولا يتمكن من التأثير على الإنسان من دون أن يمهد الإنسان السبيل لدخول الشيطان في نفسه ، ويعطيه إجازة المرور من بوابة قلبه.

4 ـ آداب تلاوة القرآن :

كل شيء يحتاج الى برنامج معين ولا يستثنى كتاب عظيم ـ كالقرآن الكريم ـ من هذه القاعدة ، لذلك فقد ذكر في القرآن بعض الآداب والشروط لتلاوة كلام الله والاستفادة من آياته :

1 ـ يقول تعالى أوّلا :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ، ويمكن أن يشير هذا التعبير إلى الطهارة الظاهرية ، كأن يكون مس كتابة القرآن مشروط بالطهارة والوضوء ، وكذا الإشارة إلى إمكان تيسر الوصول لفهم محتوى آيات القرآن من خلال تطهير النفس من الرذائل الأخلاقية ، لأنّ الصفات القبيحة تمنع من مشاهدة جمال الحق باعتبارها حجابا مظلما بين الإنسان والحقائق.

2 ـ يجب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع بتلاوة آيات الله( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) .

وعند ما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن طريقة العمل بهذا القول ، يروى أنّه قال : «قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم».

وفي رواية أخرى ، عند تلاوتهعليه‌السلام لسورة الحمد قال : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أن يحضرون».

وكما قلنا ، فإنّ التلفظ ـ فقط ـ في الاستعاذة لا يغني من الحق شيئا ، ما لم تنفذ الاستعاذة إلى أعماق الروح بشكل ينفصل فيه الإنسان عند التلاوة عن إرادة الشيطان ، ويقترب من الصفات الإلهية ، لترتفع عن فكره موانع فهم كلام الحق ، وليرى جمال الحقيقة بوضوح تام.

فالاستعاذة بالله من الشيطان ـ إذن ـ لازمة قبل الشروع بالتلاوة ، ومستمرّة

٣٢٣

مع التلاوة إلى آخرها وإن لم يكن ذلك باللسان.

3 ـ تجب القراءة ترتيلا ، أي مع التفكّر والتأمّل( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (1) .

وفي تفسير هذه الآية روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ القرآن لا يقرأ هزرمة ولكن يرتل ترتيلا ، إذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النّار»(2) .

4 ـ وقد ورد الأمر بالتدبّر والتفكّر في القرآن إضافة إلى الترتيل. حيث جاء في الآية (82) من سورة النساء :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) .

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.

وفي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون»(4) . (ولكنّ ذوي الضمائر الحيّة والعلماء المؤمنين ، يستطيعون رؤية جماله المتجلّي في كلامه جل وعلا).

5 ـ على الذين يستمعون إلى تلاوة القرآن أن ينصتوا إليه بتفكّر وتأمّل( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (5) .

وثمة أحاديث شريفة تحث على قراءة القرآن بصوت حسن ، لما له من فعل مؤثر في تحسّس مفاهيمه ، ولكنّ المجال لا يسمح لنا بتفصيل ذلك(6) .

* * *

__________________

(1) سورة المزمل ، 4.

(2) بحار الأنوار ، ج 89 ، ص 106.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 107.

(5) الأعراف ، 204.

(6) مزيد من الاطلاع راجع بحار الأنوار ، ج 9 ، ص 190 وما بعدها.

٣٢٤

الآيات

( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) )

سبب النّزول

يقول ابن عباس : (كانوا يقولون : يسخر محمّد بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وغدا يأمرهم بأمر ، وإنّه لكاذب ، يأتيهم بما يقول من عند نفسه).

التّفسير

الافتراء

تحدثت الآيات السابقة أسلوب الاستفادة من القرآن الكريم ، وتتناول

٣٢٥

الآيات مورد البحث جوانب أخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن ، وتبتدئ ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة ، فتقول :( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة الله ، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل ، ولكن المشركين لجهلهم( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

وحقيقة الأمر أنّ المشركين لم يتوصلوا بعد لإدراك وظيفة القرآن وما يحمل من رسالة ، ولم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إنساني جديد يسوده التطور والتقدم والحرية والمعنوية العالية نعم ، فأكثرهم لا يعلمون.

فبديهي والحال هذه أن يطرأ على وصفة الدواء الإلهي لنجاة هؤلاء المرضى التغيير والتبديل تدرجا مع ما يعيشونه ، فما يعطون اليوم يكمله الغد وهكذا حتى تتمّ الوصفة الشاملة.

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن ، دفعهم للاعتقاد بأنّ أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمل بين ثناياها التناقض أو الافتراء على اللهعزوجل ! وإلّا لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلّا به.

فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة انتقالية بين مرحلتين يعتبر من الضروريات العملية والواقعية ، فالتحول والانتقال بالناس من مرحلة إلى أخرى لا يتم دفعة واحدة ، بل ينبغي أنّ يمر بمراحل انتقالية دقيقة.

أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟

أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أو ليس التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟

٣٢٦

وبعد الإجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إلّا أن نقول : ليس النسخ سوى برنامج مؤقت في مراحل انتقالية.

(لقد بحثنا موضوع النسخ في تفسير الآية (36) من سورة البقرة ـ فراجع).

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع ، وللتأكيد عليه تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن :( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ) .

«روح القدس» أو (الرّوح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي «جبرائيل الأمين» ، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزّل بأمر الله تعالى على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق ، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإنسان ضمن التربية الرّبانية له،وظروف وتركيبة الإنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا ، جاء في تكملة الآية المباركة :( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

يقول صاحب تفسير الميزان : إنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق ، فالإيمان للقلب ونصيبه التثبيت في العلم والإذعان ، والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنّة والسعادة.

وعلى أيّة حال ، فلأجل تقوية الروح الإيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لا بدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة ، وبالتدريج يحل البرنامج النهائي الثابت محلها ، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإلهية.

وبعد أن فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة أخرى ، أو على الأصح لذكر افتراء آخر لمخالفي نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ

٣٢٧

يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) .

اختلف المفسّرون في ذكر اسم الشخص الذي ادّعى المشركون أنّه كان يعلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فعن ابن عباس : أنّه رجل يدعى (بلعام) كان يصنع السيوف في مكّة : وهو من أصل رومي وكان نصرانيا.

واعتبره بعضهم : غلاما روميا لدى بني حضرم واسمه (يعيش) أو (عائش) وقد أسلم وأصبح من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال آخرون : إنّ معلّمه غلامين نصرانيين أحدهما اسمه (يسار) والآخر (جبر) وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدّة وأخرى بصوت عال.

واحتمل بعضهم : أنّه (سلمان الفارسي) ، في حين أن سلمان الفارسي التحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة وأسلم على يديه هناك ، وأنّ هذه التهم التي أطلقها المشركون كانت في مكّة ، أضف إلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي وليس مدنيا.

وعلى أيّة حال ، فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون ، بقوله :( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ (1) إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ (2) وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

فإن كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ معلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئا فهذا في منتهى السفه ، إذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم ، حتى أنّ القرآن تحداهم بإتيان سورة من مثله فما

__________________

(1) يلحدون : من الإلحاد بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل ، وقد يطلق على أيّ انحراف ، والمراد هنا : إنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إلى إنسان ويدعون بأنّه معلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

(2) الإعجام والعجمة لغة : بمعنى الإبهام ، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم ، وباعتبر أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

٣٢٨

استطاعوا ناهيك عن عدد الآيات؟! وإن كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر ، إذ أن المحتوى القرآني قد صبّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة بحيث خضع لبلاغته وإعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب ، وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيّ إنسان ، وليس لذلك أهلا سوى اللهعزوجل وسبحانه عمّا يشركون.

وبنظرة تأمّلية فاحصة نجد في محتوى القرآن أنّه يمتلك المنطق الفلسفي العميق في إثبات عقائده ، وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح الإنسان وقوانينه الاجتماعية المتكاملة ، وأنّ كلّ ما في القرآن هو فرق طاقة المستوى الفكري البشري حقّا ويبدو لنا أن مطلقي الافتراءات المذكورة هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون ، ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إلّا.

والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم من ينسبون إليه القرآن ، ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شيئا ونسبوا إليه القرآن ، عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء.

أضف إلى ذلك كله أن تاريخ حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر ، وإن كان (على سبيل الفرض) صاحب القرآن موجودا ألا يستلزم ذلك اتصال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به وباستمرار؟ إنّهم حاولوا التشبث لا أكثر ، وكما قيل : (الغريق يتشبّث بكل حشيش).

إنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإعجازي أمر واضح ، ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإنساني ، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر.

٣٢٩

نعم ، فمع كل ما وصلت إليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو المتفوق وسيبقى.

وذكر سيد قطب في تفسيره : أنّ جمعا من الماديين في روسيا عند ما أرادوا الانتقاض من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة (1954 م) قالوا : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن ينتج من ذهن إنسان واحد «محمّد» بل يجب أن يكون حاصل سعي جمع كثير من الناس بما لا يصدق كونهم جميعا من جزيرة العرب ، وإنّما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة(1) .

ولقد كانوا يبحثون ـ وفقا لمنطقهم الإلحادي ـ عن تفسير مادي لهذا الأمر من جهة، وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إشراقة عقلية لإنسان يعيش في شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى ، ممّا اضطرّهم لأن يطرحوا تفسيرا مضحكا وهو : اشتراك جمع كثير من الناس ـ في تأليف القرآن ـ من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها!! على أنّ التاريخ ينفي ما ذهبوا إليه جملة وتفصيلا.

وعلى أيّة حال ، فالآية المباركة دليل الإعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون ، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إنسان. (قد كان لنا بحث مفصل في الإعجاز القرآني تناولناه في تفسير الآية (23) من سورة البقرة ـ فراجع).

وبلهجة المهدد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم أنّ حقيقة هذه الاتهامات والانحرافات ناشئة من عدم انطباع الإيمان في نفوس هؤلاء ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إلّا العذاب الإلهي ، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.

__________________

(1) في ضلال القرآن ، ج 5 ، ص 282.

٣٣٠

وفي آخر الآية يقول : إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء الله هم الكفار :( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) ، فهم الكاذبون وليس أنت يا محمّد ، لأنهم مع ما جاءهم من آيات بينات وأدلة قاطعة واضحة ولكنّهم يستمرون في إطلاق الافتراءات والأكاذيب.

فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق!

* * *

بحوث

1 ـ قبح الكذب في المنظور الإسلامي

الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف ، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإلهية.

ومع أنّ موضوع الآية هو الكذب والافتراء على الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الآية تناولت قبح الكذب بصورة إجمالية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإسلامية إفاضات خاصّة لمسألة الصدق والنهي عن الكذب ، وإليكم نماذج مختصرة ومفهرسة لجوانب الموضوع :

الصدق والأمانة من علائم الإيمان وكمال الإنسان ، حتى أنّ دلالتهما على الإيمان أرقى من دلالة الصلاة.

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيء قد اعتاده ولو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1) .

__________________

(1) سفينة البحار ، مادة (صدق) ، نقلا عن الكافي.

٣٣١

فذكر الصدق مع الأمانة لاشتراكهما في جذر واحد ، وما الصدق إلّا الأمانة في الحديث ، وما الأمانة إلّا الصدق في العمل.

2 ـ الكذب منشأ جميع الذنوب :

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنّة»(1) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهعزوجل جعل للبشر أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب»(2) .

وعن الإمام العسكريعليه‌السلام أنّه قال : «جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب»(3) .

فالعلاقة بين الكذب وبقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من الصدق، لأنّه سيكون موجبا لفضحه ، فتراه يتوسّل بالكذب عادة لتغطية آثار ذنوبه.

وبعبارة أخرى : إنّ الكذب يطلق العنان للإنسان للوقوع في الذنوب ، والصدق يحدّه.

وقد جسد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الحقيقة بكل وضوح عند ما جاءه رجل وقال له : يا رسول الله ، إنّي لا أصلي وأرتكب القبائح وأكذب ، فأيّها أترك أوّلا؟.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكذب» ، فتعهد الرجل للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يكذب أبدا.

فلمّا خرج عرضت له نيّة منكر فقال في نفسه : إن سألني رسول الله غدا عن أمري، ما ذا أقول له! فإن أنكرت كان كاذبا ، وإن صدقت جرى عليّ الحد. وهكذا

__________________

(1) مشكاة الأنوار للطبرسي ، ص 157.

(2) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 254.

(3) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 233.

٣٣٢

ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورّع عنها جميعا.

ولذا فترك الكذب طريق لترك الذنوب.

3 ـ الكذب منشأ للنفاق :

لأنّ الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب ، في حين أنّ الكذب يعني عدم تطابق اللسان مع القلب ، وما النفاق إلّا الاختلاف بين الظاهر والباطن.

والآية (77) من سورة التوبة تبيّن لنا ذلك بوضوح :( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

4 ـ لا انسجام بين الكذب والإيمان :

وإضافة إلى الآية المباركة فثمة أحاديث كثيرة تعكس لنا هذه الحقيقة الجليّة

فقد روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل : يكون المؤمن جبانا؟ قال : «نعم» ، قيل:ويكون بخيلا؟ قال : «نعم» ، قيل : يكون كذّابا؟ قال : «لا»(1) .

ذلك لأنّ الكذب من علائم النفاق ، وهو لا يتفق مع الإيمان.

وبهذا المعنى نقل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه أشار لهذا المعنى واستدل عليه بالآية مورد البحث.

5 ـ الكذب يرفع الاطمئنان :

إنّ وجود الثقة والاطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم ، والكذب من الأمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشبعه من خيانة وتقلب ،

__________________

(1) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 322.

٣٣٣

ولذلك كان تأكيد الإسلام على أهمية الالتزام بالصدق وترك الكذب.

ومن خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمّةعليهم‌السلام عن مصاحبة مجموعة معينة من الناس ، منهم الكذّابون لعدم الثقة بهم.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «إيّاك ومصادقة الكذّاب ، فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب»(1) .

والحديث عن قبح الكذب وفلسفته ، والأسباب الداعية إليه من الناحية النفسية ، وطرق مكافحته ، كل ذلك يحتاج إلى تفصيل طويل لا يمكن لبحثنا استيعابه ، ولمزيد من الاطلاع راجع كتب الأخلاق(2) .

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، قم 37.

(2) راجع كتابنا (الحياة على ضوء الأخلاق).

٣٣٤

الآيات

( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرون في شأن نزول الآية الأولى من هذه الآيات أنّها : نزلت في جماعة أكرهوا ـ وهو : عمار وأبوه ياسر وأمّة سمية وصهيب وبلال وخبّاب ـ عذّبوا وقتل أبو عمار وأمّه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ، ثمّ أخبر سبحانه

٣٣٥

بذلك رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال قوم : كفر عمّار. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلا : «إنّ عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه دمه» وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما وراءك»؟ فقال : شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ، فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإسلام :

تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به ، فتتناول الآيات فئة أخرى من الكفرة وهم المرتدون.

حيث تقول الآية الأولى :( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

وتشير الآية إلى نوعين من الذين كفروا بعد إيمانهم :

النوع الأوّل : هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه ، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوه من أعداء الإسلام ، فيعلنون براءتهم من الإسلام وولاءهم للكفر ، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان ، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإيمان.

فهذا النوع يكون مشمولا بالعفو الإلهي بلا ريب ، بل لم يصدر منهم ذنب ، لأنّهم قد ما رسوا التقية التي أحلها الإسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للاستفادة منها في طريق خدمة دين اللهعزوجل .

النوع الثّاني : هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقة ، ويغيّرون

٣٣٦

مسيرتهم ويتخلّون عن إيمانهم ، فهؤلاء يشملهم غضب اللهعزوجل وعذابه العظيم.

ويمكن أن يكون «غضب الله» إشارة إلى حرمانهم من الرحمة الإلهية والهداية في الحياة الدنيا ، و «العذاب العظيم» إشارة إلى عقابهم في الحياة الأخرى وعلى أيّة حال ، فما جاء في الآية من وعيد للمرتدين هو في غاية الشدة.

وتتطرق الآية التالية إلى أسباب ارتداد هؤلاء ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال : حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إسلامهم لشدّة حبّهم لدنياهم ، وعادوا خاسئين إلى كفرهم.

وبديهي أن من لا يرغب في الإيمان ولا يسمح له بالدخول إلى أعماق نفسه ، لا تشمله الهداية الإلهية ، لأنّ الهداية تحتاج إلى مقدمات كالسعي للحصول على رضوانه سبحانه والجهاد في سبيله ، وهذا مصداق لقولهعزوجل في آخر سورة العنكبوت :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) .

وتأتي الآية الأخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) بحيث أنّهم حرموا من نعمة الرؤية والسمع وادراك الحقائق :( وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

وكما قلنا سابقا فإنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإنسان للحقائق وعلى عقله ورؤيته السليمة ، وتدريجيا يسلب منه سلامة الفكر ، وكلما ازداد في غيه كلّما اشتدت حجب الغفلة على قلبه وسمعه وبصره ، حتى يؤول به المآل إلى أن يصبح ذا عين ولكن لا يرى بها ، وذا أذن وكأنّه لا يسمع

٣٣٧

بها ، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة ، فيخسر الحس التشخيصي والقدرة على التمييز ، والتي تعتبر من النعم الإلهي العالية.

«الطبع» هنا : بمعنى «الختم» ، وهو إشارة إلى حالة الإحكام المطلق ، فلو أراد شخص مثلا أن يغلق صندوقا معينا بشكل محكم كي لا تصل إليه الأيدي فإنّه يقوم بربطه بالحبال وغيرها ، ومن ثمّ يقوم بوضع ختم من الشمع على باب الصندوق للاطمئنان من عبث العابثين.

ثمّ تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم ، فتقول :( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وهل هناك من هو أتعس حالا من هذا الإنسان الذي خسر جميع طاقاته وامكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين ، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإيمان ، والذين ينقلبون إلى الكفر مرّة أخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم ، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدعون في دينهم ، فتقول :( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) .

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد ، ولكنّ الآية تشير إلى من كان مشركا في البداية ثم أسلم ، فعليه يكون المقصود به هو (المرتد الملّي) وليس (المرتد الفطري).(2)

وتأتي الآية الأخيرة لتقدم تذكيرا عاما بقولها :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ

__________________

(1) ضمير «بعدها» ـ وكما يقول كثير من المفسرين ـ يعود إلى «الفتنة» ، في حين ذهب البعض من المفسرين إلى أنه يعود إلى الهجرة والجهاد والصبر المذكورة سابقا.

(2) المرتد الفطري : هو الذي يولد من أبوين مسلمين ثم يرتد عن الإسلام بعد قبوله إياه ، والمرتد الملي : يطلق على من انعقدت نطفته من أبوين غير مسلمين ثم قبل الإسلام ، وارتد عنه بعد ذلك.

٣٣٨

نَفْسِها ) (1) لتنقذها من العقاب والعذاب.

فالمذنبون أحيانا ينكرون ما ارتكبوه من ذنوب إنكارا تاما فرارا من الجزاء والعقاب ، والآية (23) من سورة الأنعام تنقل لنا قولهم :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، وعند ما لا يلمسون أيّة فائدة لإنكارهم يتجهون بإلقاء اللوم على أئمتهم وقادتهم ، ويقولون :( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) (2) .

ولكن لا فائدة من كل ذلك( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

* * *

بحثان

1 ـ التقية وفلسفتها :

امتاز المسلمون الأوائل الذين تربّوا على يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بروح مقاومة عظيمة أمام أعدائهم ، وسجل لنا التأريخ صورا فريدة للصمود والتحدي ، وها هو «ياسر» لم يلن ولم يدخل حتى الغبطة الكاذبة على شفاه الأعداء ، وما تلفظ حتى بعبارة خالية من أيّ أثر على قلبه ممّا يطمخ الأعداء أن يسمعوها منه ، مع أنّ قلبه مملوءا ولاء وإيمانا بالله تعالى وحبّا وإخلاصا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصبر على حاله رغم مرارتها فنال شرف الشهادة ، ورحلت روحه الطاهرة إلى بارئها صابرة محتسبة تشكو إليه ظلم وجور أعداء دين الله.

وها هو ولدة «عمّار» الذي خرجت منه كلمة بين صفير الأسواط وشدّة الآلام تنم عن حالة الضعف ظاهرا ، وبالرغم من اطمئنانه بإيمانه وتصديقه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا

__________________

(1) اختلاف القول بخصوص متعلق «يوم» جار بين المفسّرين فبعضهم يذهب إلى أنّه متعلق بفاعل مستتر والتقدير هو «ذكرهم يوم القيامة» ، واعتبره آخرون متعلقا بفعل الغفران والرحمة المأخوذان من «الغفور الرحيم» في الآية السابقة ، (ولكنّنا نرجح التّفسير الاحتمال الأوّل لشموله).

(2) الأعراف ، 38.

٣٣٩

أنّه اغتمّ كثيرا وارتعدت فرائصه حتى طمأنه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحلّيّة ما فعل به حفظا للنفس ، فهذا.

ويطالعنا تأريخ (بلال) عند ما اعتنق الإسلام راح يدعو له ويدافع عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشدّ عليه المشركون حتى أنّهم طرحوه أرضا تحت لهيب الشمس الحارقة ، وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرة كبيرة على صدره وهو بتلك الحال ، وطلبوا منه أن يكفر بالله ولكنّه أبى أن يستجيب لطلبهم وبقي يردد : أحد أحد ، ثمّ قال : أقسم بالله لو علمت قولا أشد عليكم من هذا لقلته.

ونقرأ في تاريخ (حبيب بن زيد) أنّه لما أسره مسيلمة الكذاب فقد سأله : هل تشهد أنّ محمّدا رسول الله؟

قال : نعم.

ثمّ سأله : أتشهد أنّي رسول الله؟

فأجابه ساخرا : إنّي لا أسمع ما تقول! فقطعوه إربا إربا(1) .

والتأريخ الإسلامي حافل بصور كهذه ، خصوصا تأريخ المسلمين الأوائل وتأريخ أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام .

ولهذا قال المحققون : إنّ ترك التقية وعدم التسليم للأعداء في حالات كهذه ، عمل جائز حتى لو أدى الأمر إلى الشهادة ، فالهدف سام وهو رفع لواء التوحيد وإعلاء كملة الإسلام ، وخاصة في بداية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان لهذا الأمر أهمية خاصّة.

ومع هذا ، فالتقية جائزة في موارد ، وواجبة في موارد أخرى ، وخلافا لما يعتقده البعض فإنّ التقية (في مكانها المناسب) ليست علامة للضعف ، ولا هي مؤشر للخوف من تسلط الأعداء ، ولا هي تسليم لهم بقدر ما هي نوع من

__________________

(1) في ظلال القرآن ، ج 5 ، ص 284.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

كما أنّ الذين لا يملكون القدرة المالية غير مأمورين إلّا بالقدر الذي تسعه قدرتهم المالية ولا يحقّ للنساء مطالبتهم بأكثر من ذلك.

وبناء على هذا فالذين لديهم المقدرة والاستطاعة ثمّ يبخلون بها فإنّهم يستحقّون اللوم والتقريع لا الذين لا يملكون شيئا.

وفي نهاية المطاف يبشّرهم الله تعالى بقوله :( سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) أي لا تجزعوا ولا تحزنوا ولا يكن الضيق في المعيشة سببا لخروجكم عن الطريق السوي ، فإنّ الدنيا أحوال متقلّبة لا تبقى على حال ، فحذار من أن تقطع المشاكل العابرة والمرحلية حبل صبركم.

وكانت هذه الآية بمثابة بشرى أبدية للمسلمين الذين كانوا حينذاك يعيشون ضنكا ماديا وعوزا في متطلّبات الحياة ، فهي تبعث الأمل في نفوسهم وتبشّر الصابرين.

ولم تمض فترة طويلة حتّى فتح الله عليهم أبواب رحمته وبركته.

* * *

بحوث

١ ـ أحكام الطلاق الرجعي

قلنا أنّه في الطلاق الرجعي يستطيع الزوج متى شاء أن يرجع إلى زوجته خلال فترة العدّة إلى آخر يوم منها ، بلا حاجة إلى عقد أو ما شابه ، والطريق إلى ذلك سهل يسير يمكن أن يتمّ بأي حديث أو عمل يشمّ منه رائحة العودة ويدلّ على الرجوع في العلاقة الزوجية ، وقد اختصّت بعض الأحكام التي وردت في الآيات أعلاه مثل «النفقة» و «السكن» بحالة الطلاق الرجعي ، يضاف إلى ذلك عدم خروج المرأة من بيت زوجها أثناء العدّة ، فإنّها أيضا من مختصّات الطلاق الرجعي أمّا الطلاق البائن غير القابل للرجوع ، (كالطلاق للمرّة الثالثة) فإنّه غير

٤٢١

مشمول بتلك الأحكام.

أمّا حقّ النفقة والسكن فهو ثابت للنساء الحوامل إلى حين وضع الحمل.

والتعبير بـ( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) إشارة إلى أنّ كلّ الأحكام السابقة ـ أو بعضها ـ مرتبط بالطلاق الرجعي(١) .

٢ ـ لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها

ليس العقل وحده يحكم بذلك ، وإنّما الشرع هو الآخر شاهد ودليل على ذلك. أي أنّ تكاليف البشر ومسئولياتهم إنّما هي بقدر طاقاتهم وتعبير( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ) التي وردت ضمن الآيات السابقة هو إشارة إلى هذا المعنى.

ولكن ورد في بعض الروايات أنّ المقصود بـ( ما آتاها ) هو «ما أعلمها» أي أنّ الله يكلّف الناس بقدر ما أعلمهم به. ولذا استدلّ بهذه الآية على إثبات «أصل البراءة» في مباحث علم الأصول ، فمن لا يعلم حكما ليس عليه مسئولية تجاه ذلك الحكم.

ونظرا لأنّ عدم الاطّلاع يؤدّي أحيانا إلى عدم المقدرة ، فمن الممكن أن يكون المقصود هو الجهل الذي يكون مصدرا للعجز.

وبناء على هذا فإنّه سيكون للآية مفهوم واسع يشمل عدم القدرة والجهل الذي يؤدّي إلى عدم القدرة على إنجاز التكليف.

٣ ـ أهميّة النظام العائلي

إنّ الدقّة والظرافة التي عالجت بها الآيات القرآنية أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ وباقي الجزئيات المتعلّقة في هذا المجال ، الواردة في آيات قرآنية

__________________

(١) راجع الكتب الفقهيّة للتوسّع في ذلك ومنها كتاب «جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ١٢١».

٤٢٢

اخرى ، تمثّل بمجموعها المنهج والقانون الإسلامي لمواجهة هذه المشاكل.

كلّ ذلك يبرز الأهميّة الخاصّة التي يوليها الإسلام لنظام العائلة ورعاية حقوق المرأة والأبناء. فهو يسعى لمنع وقوع الطلاق قدر الإمكان ، ويحاول استئصال جذور هذا العمل البغيض ، ولكن إذا وصلت هذه الجهود إلى طريق مسدود وأصبح الطلاق والانفصال هو العلاج الوحيد ، عندها يحذّر من ضياع حقوق الأطفال ويرفض أن تذهب هذه الحقوق ضحيّة هذا النزاع ، حتّى أنّه شرع حكم الطلاق بطريقة يمكن في ضوئها الرجوع عنه غالبا.

إنّ أوامر الإمساك بمعروف والطلاق بمعروف ، وكذلك عدم الإضرار والتضييق على النساء والتشدّد في أمرهنّ ، والتشاور الحسن في شؤون الأطفال ، وما إلى ذلك كلّها شواهد على ذلك.

غير أنّ عدم اطّلاع المسلمين على هذه الأحكام وجهلهم بها ، أو إعراضهم عن الالتزام بها رغم علمهم ، أدّى إلى نشوء مشاكل عائلية عديدة حين الطلاق ، وخاصّة في شأن الأطفال. وذلك نتيجة ابتعاد المسلمين عن مصدر الفيض الإلهي الذي هو القرآن. فمثلا في الوقت الذي يدعو القرآن إلى عدم خروج النساء من بيت الزوج في أيّام العدّة ، ولا يحقّ للزوج إكراهها على الخروج أثناء تلك الفترة المحدّدة مما يؤدّي هذا الحكم إلى العدول عن الطلاق ورجوع النساء إلى الحياة الزوجية ، نرى قلّة من النساء والرجال يلتزمون بذلك بعد وقوع الطلاق ، وهذا ما يدعو إلى الأسف حقّا.

* * *

٤٢٣

الآيات

( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) )

التّفسير

العاقبة المؤلمة للعاصين :

في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الأمم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف ، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كلّ من (الطاعة

٤٢٤

والعصيان) في تجارب الماضي وتأخذ القضيّة طابعا حسيّا.

ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج ، فبعد ذكر وظائف كلّ من الرجال والنساء عند الطلاق ، يحذّر العاصين والمتمرّدين من العواقب الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية :( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً ) (١) .

والمقصود بـ «القرية» هو محل اجتماع الناس ، وهو أعمّ من المدينة والقرية ، والمراد هو أهلها.

«عتت» من مادّة «عتو» على وزن «غلو» بمعنى التمرّد على الطاعة.

و «نكر» على وزن «شكر» ويعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل.

«حسابا شديدا» أي الحساب الدقيق المقرون بالشدّة والصرامة ، ويعني العقاب الشديد الذي هو نتيجة الحساب الدقيق. وهو على كلّ حال إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمرّدة العاصية في هذه الدنيا ، التي هلكت بعضها بالطوفان ، وبعضها بالزلازل ، وآخرون بالصواعق والعواصف ، وأمثالهم حلّ بهم الفناء وبقت ديارهم وآثارهم عبرة للأجيال بعدهم.

لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة :( فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً ) .

وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه الله ، والخروج من هذه الدنيا ـ ليس فقط بعدم شراء المتاع ـ وإنّما بالانتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار.

ويرى البعض أنّ «حسابا شديدا» و «عذابا نكرا» يشيران إلى «يوم القيامة»

__________________

(١) «كأين» على الرّأي المشهور لعلماء الأدب اسم مركب من «كاف» التشبيه و «أي» مع التنوين الذي دخل في بناء هذا الاسم ، ويقرأ مع الوقف كذلك ، وكتب أيضا في كتابة المصاحف ومعناها كمعنى «كم» الخبرية ، رغم وجود فرق بسيط بينهما. وعلى الرأي غير المشهور فإنّها اسم بسيط وكافها ونونها جزء من الكلمة.

٤٢٥

واعتبروا الفعل الماضي من باب الماضي المراد به المستقبل ، ولكن لا داعي لهذا التكلّف ، خاصّة أنّ السورة تحدّثت عن يوم القيامة في الآيات اللاحقة ، فذلك يدلّ على أنّ المراد بالعذاب هنا هو عذاب الدنيا.

ثمّ يشير تعالى إلى عقابهم الاخروي بقوله :( أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) عذابا مؤلما ، مخيفا ، مذلا ، فاضحا ، دائما أعدّه لهم منذ الآن في نار جهنّم.

والآن( فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا ) .

إنّ الفكر والتفكّر من جهة ، والإيمان والآيات الإلهية من جهة اخرى ، تحذّركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمرّدة التي عصت أمر ربّها ، والإعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم ، فقد ينزل عليكم الله غضبه وعذابه الذي لم يسبق له مثيل إضافة إلى عذاب الآخرة.

وبعد ذلك يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين يتفكّرون في آيات الله بقوله :( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ) وهو الشيء الذي يوجب تذكركم.

وأرسل لكم رسولا يتلو عليكم آيات الله الواضحة( رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) .

علما أنّ هناك خلافا بين المفسّرين في معنى كلمة «ذكر» ولكلمة «رسولا» اعتبر بعضهم أنّ «الذكر» يعني القرآن ، بينما فسّرها البعض الآخر بأنّها تعني (رسول الله) لأنّ الرّسول هو سبب تذكّر الناس ، وطبقا لهذا التّفسير فإنّ كلمة «رسولا» التي تأتي بعدها تعني شخص الرّسول ، وليس في البين كلام محذوف.

ولكن يصبح معنى «الإنزال» هنا هو وجود الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الامّة وبعثه فيها من قبل الله تعالى.

ولكن إذا أخذنا «الذكر» بمعنى «القرآن» فإنّ كلمة «رسولا» لا يمكن أن تكون بدلا ، وفي الجملة محذوف تقديره «أنزل الله إليكم ذكرا وأرسل إليكم رسولا».

٤٢٦

قال البعض : أنّ «الرّسول» يقصد به «جبرائيل» وبهذا يكون النزول نزولا حقيقيّا ، نزل من السماء ، غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع عبارة( يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ ) لأنّ جبرائيل لم يقرأ الآيات القرآنية بصورة مباشرة على المسلمين.

وبصورة عامّة ، فإنّ كلّ أي من هذه الآراء يحتوي على نقاط قوّة ونقاط ضعف ، ويبقى التّفسير أو الرأي الأوّل أفضل الآراء أي أنّ «الذكر» يقصد به «القرآن» و «رسولا» يقصد به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وذلك لأنّ القرآن الكريم أطلق على نفسه «الذكر» في آيات كثيرة ، خصوصا أنّها كانت مقرونة بكلمة «إنزال» إلى الحدّ الذي أصبح كلّما جاءت عبارة «إنزال الذكر» تداعى إلى الأذهان القرآن الكريم.

ثمّ نقرأ في الآية (٤٤) من سورة النحل( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) .

وجاء في الآية (٦) من سورة «الحجر»( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) .

وإذا جاء في بعض الروايات عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المقصود من «الذكر» هو رسول الله و «أهل الذكر» هم «الأئمّة» ، فقد يكون المقصود هو المعنى الباطني للآية ، لأنّنا نعلم أنّ «أهل الذكر» في آية( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) النحل (٤٣) ليس خصوص أهل البيتعليهم‌السلام ، بل إنّ شأن نزولها هو علماء أهل الكتاب ، ولكن نظرا لاتّساع معنى الذكر فإنّه يشمل رسول الله كأحد مصاديقه.

على أي حال فإنّ الهدف النهائي من إرسال الرّسول وإنزال هذا الكتاب السماوي ، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وارتكاب الذنوب والمآثم والمفاسد الأخلاقية ، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى.

والواقع أنّ تمام أهداف بعثة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول القرآن يمكن تلخيصها بهذه الجملة ، وهي الخروج من الظلمات إلى النور.

٤٢٧

وتجدر الإشارة إلى أنّ «الظلمات» ذكرت بصيغة الجمع بينما ذكر النور بصيغة المفرد ، لأنّ الكفر والشرك والفساد تؤدّي إلى الفرقة والاختلاف ، بينما يؤدّي الإيمان والتوحيد والتقوى إلى الوحدة والتلاحم.

وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله :( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً ) .

وأشار بالفعل المضارع «يؤمن» و «يعمل» إلى أنّ إيمانهم وعملهم الصالح ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان ، وإنّما لهما استمرار وديمومة(١) .

والتعبير بـ (خالدين) دليل على كون الجنّة خالدة ، وبذلك تكون كلمة «أبدا» التي جاءت بعدها تأكيد لهذا الخلود.

والتعبير بـ «رزقا» بصيغة نكرة إشارة إلى عظمة وأهميّة الأرزاق الطيّبة التي يهيّؤها الله لهذه الجماعة ، وقد يتّسع معناها ليشمل كلّ النعم الإلهية في الدنيا والآخرة ، لأنّ الصالحين والمتّقين لهم حياتهم الكريمة حتّى في الحياة الدنيا.

* * *

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ الضمائر في الآية بعضها بصيغة الجمع وبعضها الآخر بصيغة المفرد ، وهذا يعني انّه في الموارد التي جاء بصيغة المفرد يكون بمعنى الجنس والجمع أيضا.

٤٢٨

الآية

( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢) )

التّفسير

الهدف من خلق العالم :

هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق ، وفيها إشارة معبّرة وصريحة إلى عظمة وقدرة البارئ جلّ شأنه في خلق السموات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق ، ثمّ تكمل الآية الأبحاث التي وردت في الآيات السابقة حول الثواب العظيم الذي أعدّه الله للمؤمنين المتّقين ، والعهود التي قطعها على نفسه لهم فيما يخصّ حلّ مشاكلهم المعقّدة. إذ من الطبيعي أنّ الذي أوجد هذا الخلق العظيم له القدرة على الوفاء بالعهود سواء في هذا العالم أو العالم الآخر.

يقول تعالى أوّلا :( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ) .

( وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ ) .

بمعنى أنّ الأرضين سبع كما السماوات سبع ، وهذه هي الآية الوحيدة التي

٤٢٩

تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم.

والآن لنر ما هو المقصود من السموات السبع والأرضين السبع؟

مرّت أبحاث مطوّلة في هذا المجال في ذيل الآية (٢٩) من سورة البقرة ، وفي ذيل الآية (١٢) من سورة فصّلت ، لذا نكتفي هنا بإشارة مقتضبة وهي :

إنّه من الممكن أن يكون المراد من عدد (٧) هو الكثرة ، فكثيرا ما ورد هذا التعبير للإشارة إلى الكثرة في القرآن الكريم وغيره ، فنقول أحيانا للمبالغة لو أتيت بسبعة أبحر لما كفت.

وبناء على هذا فسيكون المقصود بالسموات السبع والأرضين السبع هو الإشارة إلى العدد العظيم والهائل للكواكب السماوية والكواكب التي تشبه الأرض.

أمّا إذا اعتبرنا العدد سبعة هو لعدد السموات وعدد الأرضين ، فإنّ مفهوم هذه الآية مع الالتفات إلى الآية (٦) من سورة الصافات التي تقول :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) سيكون شيئا آخر ، وهو أنّ علم البشر ومعرفته مهما اتّسعت فهي محدودة ومتعلّقة بالسماء الاولى التي توجد وراءها ثوابت وسيّارات ستة هي عبارة عن العوالم الاخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة ولا ينالها إدراكنا الضيّق.

أمّا الأرضين السبع وما حولها ، فربّما تكون إشارة إلى طبقات الأرض المختلفة ، لأنّ الأرض تتكوّن من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميّا. أو لعلّها تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسّم بها الأرض في السابق وحاليا. علما أنّ هناك اختلافا بين التقسيم السابق والتقسيم الحالي ، فالتقسيم الحالي يقسّم الأرض إلى منطقتين : منطقة المنجمد الشمالي ، والمنجمد الجنوبي. ومنطقتين معتدلتين ، وأخريين حارتين ، ومنقطة استوائية. أمّا سابقا فكان هناك تقسيم آخر لهذه المناطق السبع.

٤٣٠

ويمكن أن يكون المراد هنا من العدد «سبعة» المستفاد من تعبير (مثلهنّ) هو الكثرة أيضا التي أشير بها إلى الكرات الأرضية العديدة الموجودة في العصر الراهن ، حتّى قال بعض علماء الفلك : إنّ عدد الكرات المشابهة للأرض التي تدور حول الشموس يبلغ ثلاثة ملايين كرة كحدّ أدنى(١) .

ونظرا لقلّة معلوماتنا حول ما وراء المنظومة الشمسية ، فإنّ تحديد عدد معيّن حول هذا الموضوع يبقى أمرا صعبا. ولكن على أي حال فقد أكّد علماء الفلك الآخرون أنّ هناك ملايين الملايين من الكواكب التي وضعت في ظروف تشبه ظروف الكرة الأرضية ، ضمن مجرّة المجموعة الشمسية ، وهي تمثّل مراكز للحياة والعيش.

وربّما ستكشف التطورات العلمية القادمة معلومات أوسع وأسرار اخرى حول تفسير مثل هذه الآيات.

ثمّ يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جلّ شأنه( يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ ) .

وواضح أنّ المراد من «الأمر» هنا هو الأمر التكويني لله تعالى في خصوص إدارة وتدبير هذا العالم الكبير ، فهو الهادي وهو المرشد وهو المبدع لهذا المسار الدقيق المنظّم ، والحقيقة أنّ هذه الآية تشبه الآية (٤) من سورة السجدة حيث تقول :( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ) .

على أي حال فإنّ هذا العالم سيفنى ويتلاشى إذا ما رفعت عنه يد التدبير والهداية الإلهية لحظة واحدة.

وأخيرا يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول :( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) .

__________________

(١) تفسير «المراغي» ، ج ٢٨ ، ص ١٥١ ، في حديث نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لهذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض.(تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ١٥).

٤٣١

كم هو تعبير لطيف ، إذ يعتبر الهدف من هذا الخلق العظيم هو تعريف الإنسان بصفات الله في علمه وقدرته ، وهما صفتان كافيتان لتربية الإنسان.

ومن ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ الله محيط بكلّ أسرار وجوده ، عالم بكلّ أعماله ما ظهر منها وما بطن. ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ وعد الله في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين ، كلّ ذلك غير قابل للتخلّف والتأخّر.

نعم ، إنّ هذا الخالق العظيم الذي له هذه «القدرة والعلم» والذي يدير هذا العالم بأجمعه ، لا بدّ أنّ أحكامه على صعيد تنظيم علاقات البشر وقضايا الطلاق وحقوق النساء ستكون بمنتهى الدقّة والإتقان.

أوردنا بحثا مفصّلا حول موضوع «الخلقة» في ذيل الآية (٥٦) من سورة الذاريات.

الجدير بالذكر أنّ هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم تبيّن الهدف من خلق الإنسان أو الكون ، وقد تبدو مختلفة ، ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنّها ترجع إلى حقيقة واحدة.

١ ـ في الآية (٥٦) من سورة الذاريات يعتبر «العبادة» هي الهدف من خلق الجنّ والإنس( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

٢ ـ وفي الآية (٧) من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف لخلق السموات والأرض :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) .

٣ ـ في الآية (١١٩) من سورة هود يقول : إنّ الرحمة الإلهية هي الهدف «ولذلك خلقهم».

٤ ـ وفي الآية مورد البحث اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف «... لتعلموا ...».

٤٣٢

إنّ تدقيقا بسيطا في هذه الآيات يرينا أنّ بعضها مقدّمة للبعض الآخر ، فالعلم والمعرفة مقدّمة للعبودية ، والعبادة هي الاخرى مقدّمة للامتحان وتكامل الإنسان ، وهذا مقدّمة للاستفادة من رحمة الله «فتأمّل!»

ربّنا قد عرفتنا بهدف خلقك العظيم فأعنا على الوصول إلى ذلك الهدف.

اللهمّ ، إنّ رحمتك واسعة وكرمك دائم وقدرتك نافذة ، فأفض علينا من رحمتك.

اللهمّ ، إنّك أنزلت القرآن والرّسول لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فأخرجنا من ظلمات الذنوب وأهواء النفوس وأنر قلوبنا بنور الإيمان والتقوى.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الطلاق

* * *

٤٣٣
٤٣٤

سورة

التّحريم

مدنيّة

وعدد آياتها اثنتا عشرة آية

٤٣٥
٤٣٦

«سورة التّحريم»

محتوى السورة :

تتكوّن هذه السورة من أربعة أقسام رئيسيّة :

القسم الأوّل : يرتبط بقصّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بعض أزواجه حينما حرم بعض أنواع الطعام على نفسه ، فنزلت الآيات من ١ ـ ٥ وفيها لوم لزوجات الرّسول لأسباب سنذكرها في سبب النزول.

القسم الثّاني : خطاب لكلّ المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب ، وهو من الآية ٦ ـ ٨.

القسم الثّالث : وهو الآية التاسعة التي تتضمّن خطابا إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضرورة مجاهدة الكفّار والمنافقين.

القسم الرّابع : وهو القسم الأخير للسورة ، من الآية ١٠ ـ ١٢ ويتضمّن توضيحا للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء ، وهما (مريم العذراء ، وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح ، وزوجة لوط) ويحذّر نساء النبي من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهنّ إلى الاقتداء بالنموذجين الأوّلين.

فضيلة تلاوة سورة التحريم :

في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة يا أيّها النّبي لم تحرّم ما

٤٣٧

أحل الله لك أعطاه الله توبة نصوحا»(١) .

وفي حديث عن الإمام الصادق قال : «من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضة أعاذه الله من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن وعوفي من النار وأدخله الله الجنّة بتلاوته إيّاهما ومحافظته عليهما لأنّهما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣١١.

(٢) (ثواب الأعمال) طبقا لنقل تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٦٧.

٤٣٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) )

اسباب النّزول

وردت روايات عديدة في أسباب نزول هذه السورة في كتب الحديث

٤٣٩

والتّفسير والتاريخ ، عن الشيعة والسنّة ، انتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي :

كان رسول الله يذهب أحيانا إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتّى «تأتي إليه بعسل كانت قد هيّأته لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن لمّا سمعت عائشة بذلك شقّ عليها الأمر ، ولذا قالت : إنّها قد اتّفقت مع «حفصة» إحدى (أزواج الرّسول) على أن يسألا الرّسول بمجرّد أن يقترب من أيّ منهما بأنّه هل تناول صمغ «المغافير» (وهو نوع من الصمغ يترشّح من بعض أشجار الحجاز يسمّى «عرفط» ويترك رائحة غير طيّبة ، علما أنّ الرّسول كان يصرّ على أن تكون رائحته طيّبة دائما) وفعلا سألت حفصة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا السؤال يوما وردّ الرّسول بأنّه لم يتناول صمغ «المغافير» ولكنّه تناول عسلا عند زينب بنت جحش ، ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اخرى ، خوفا من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ «المغافير» وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرّسول قد حرّم على نفسه طعاما حلالا فيقتدون بالرّسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم ، أو خوفا من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك.

لكنّها أفشت السرّ فتبيّن أخيرا أنّ القصّة كانت مدروسة ومعدّة فتألّم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك كثيرا فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرّر ذلك مرّة اخرى في بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وجاء في بعض الروايات أنّ الرّسول ابتعد عن زوجاته لمدّة شهر بعد هذا الحادث(٢) ، انتشرت على أثرها شائعة أنّ الرّسول عازم على طلاق زوجاته ، الأمر الذي أدّى إلى كثرة المخاوف بينهنّ(٣) وندمن بعدها على فعلتهن.

* * *

__________________

(١) هذا الحديث أورده في الأصل (البخاري) في ج ٦ ، من صحيحه ص ١٩٤ ، والتوضيحات التي ذكرت في الأقواس تستفاد من كتب اخرى.

(٢) تفسير القرطبي وتفاسير اخرى ذيل الآية مورد البحث.

(٣) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ١٦٣.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624