الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196901 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

والبعض الآخر قال : إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.

والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال : إنّ لله جيوشا ثلاثة : جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الامّهات ، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الامّهات ، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.

وكما قلنا فإنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة ، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.

ونقرأ في رواية لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في أحد خطبه : «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن ، من إحداث بديع لم يكن»(١) .

ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسيره الآية الكريمة : «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين»(٢) .

ولا بدّ من الانتباه لهذه النقطة أيضا : إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة ، وكذلك الساعات واللحظات ، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.

كما أنّ البعض ذكروا شأنا نزوليا للآية ، وهو أنّها نزلت ردّا على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ اللهعزوجل يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت ، ولا يصدر أي حكم(٣) . فالقرآن الكريم يقول : إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.

ومرّة اخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

__________________

(١) أصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٣.

(٢) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، ونقل هذا الحديث أيضا في روح المعاني من صحيح البخاري.

(٣) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٢.

٤٠١

بحوث

١ ـ ما هي حقيقة الفناء؟

ما مرّ بنا في الآيات السابقة وهو أنّ «الكلّ يفنى إلّا الله» ليس بمعنى الفناء المطلق ، وأنّ روح الإنسان تفنى أيضا أو أنّ التراب الناشئ من بدنه بعد الموت سينعدم أيضا ، إذ أنّ الآيات القرآنية صرّحت بوجود عالم البرزخ إلى يوم القيامة(١) .

ومن جهة اخرى فإنّ الله سبحانه يذكر لمرّات عدّة أنّ الموتى يخرجون من قبورهم يوم القيامة(٢) .

ويذكر سبحانه في آية اخرى أنّ رميم العظام يلبس الحياة مرّة اخرى بأمر الله(٣) .

وهذه الآيات كلّها شاهد على أنّ الفناء في الآية والآيات الاخرى بمعنى اضطراب نظام الجسم والروح وقطع الارتباط بينهما واضطراب عالم الخلقة كذلك ، وحلول عالم جديد محلّ العالم السابق.

٢ ـ استمرار الخلق والإبداع

قلنا : إنّ الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) تدلّ على دوام الخلقة واستمرار الخلق ، وأنّها مبعث أمل من جهة ، ونافية للغرور من جهة اخرى ، لذا فانّ القادة الإسلاميين يعتمدون عليها كثيرا لبعث الأمل في النفوس ، كما نقرأ ذلك في تبعيد الصحابي الجليل «أبى ذرّ الغفاري» إلى (الربذة) حيث يذكر التاريخ أنّ علياعليه‌السلام جاء لتوديعه فواساه بكلمات مؤثّرة ، ثمّ أعقبه ابنه الإمام الحسنعليه‌السلام حيث خاطب أبا ذر رضى الله عنه بقوله «يا عمّاه» تكريما له وأعقبه أخوه سيّد الشهداء الإمام

__________________

(١) المؤمنون ، ١٠٠.

(٢) سورة يس ، ٥١.

(٣) سورة يس ، ٧٩.

٤٠٢

الحسينعليه‌السلام بقوله لأبي ذرّ : «يا عمّاه إنّ الله تعالى قادر على أن يغيّر ما قد ترى. الله كلّ يوم في شأن ، وقد منعك هؤلاء القوم دنياهم ومنعتهم دينك فاسأل الله الصبر والنصر(١)

ونقرأ أيضا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام وهو في طريقه إلى كربلاء لقي الشاعر «الفرزدق» عند (صفاح) فسأله الإمامعليه‌السلام عن خبر الناس خلفه ـ إشارة إلى أهل العراق ـ فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء. فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : (صدقت لله الأمر يفعل ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن)(٢) .

وكلّ ذلك يرينا أنّ هذه الآية هي الآية باعثة للأمل في نفوس المؤمنين.

وثمّة قصّة اخرى في هذا الصدد حيث ذكروا أنّ أحد الأمراء سأل وزيره عن تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ الوزير أعلن عن عدم علمه بها وطلب مهلة ليوم غد ، ورجع إلى البيت محزونا ، وكان لديه غلام أسود ذو علم ومعرفة ، فسأله عمّا به ، فحدّث غلامه بالقصّة ، فأجابه : إذا ذهبت إلى الأمير فأخبره إذا كان يرغب في معرفة تفسير هذه الآية فأنا مستعدّ لذلك فطلبه الأمير وسأله ، فأجابه الغلام : يا أمير ، شأنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميّت ، ويخرج الميّت من الحيّ ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعزّ ذليلا ، ويذلّ عزيزا ، ويفقر غنيّا ، ويغني فقيرا

فقال الأمير : «فرّجت عنّي فرّج الله عنك» ثمّ أكرمه وأنعمه(٣) .

٣ ـ الحركة الجوهرية

__________________

(١) الغدير ، ج ٨ ، ص ٣٠١.

(٢) الكامل لابن الأثير ، ج ٤ ، ص ٤٠.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٣٧.

٤٠٣

بعض المؤيديّن للحركة الجوهرية يستدلّون لإثبات مرادهم بالآيات القرآنية أو يعتبرونها إشارة لمقصودهم ، ومن ضمن ما يستشهدون به الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

التوضيح : يعتقد الفلاسفة القدماء أنّ للحركة أربع مقولات عرضية هي : (أين ، كيف ، كم ، وضع).

وبتعبير أوضح أنّ حركة الجسم تكون بتغيير مكانه وذلك بانتقاله ، وهذه هي مقولة (الأين) ، أو بنموّه أو زيادة كمّيته وهذه مقولة «الكم». أو تغيّر اللون والطعم والرائحة (كشجرة التفاح) وهذا المقصود من «الكيف» ، أو أن يدور في مكانه حول نفسه كالحركة الوضعية للأرض وهذا ما يراد به من «الوضع».

وقد كان سائدا أنّ الحركة غير ممكنة في جوهر وذات الجسم أبدا ، لأنّه في كلّ حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرّك ثابتة ، إلّا أنّ عوارضه قد تتغيّر ، فالحركة لا تتصوّر في ذات الشيء وجوهره ، بل في اعراضه.

لكنّ الفلاسفة المتأخرّين رفضوا هذه النظرية واعتقدوا بالحركة الجوهرية ، وقالوا : إنّ أساس الحركة هي الذات ، الجوهر ، والتي تظهر آثارها في العوارض.

وأوّل شخص طرح هذه النظرية بشكل تفصيلي استدلالي هو المولى صدر الدين الشيرازي حيث قال : إنّ كلّ ذرّات الكائنات وعالم المادّة في حركة دائبة ، أو بتعبير آخر : إنّ مادّة الأجسام وجود سيّال متغيّر الذات دائما ، وفي كلّ لحظة له وجود جديد يختلف عن الوجود السابق له ، ولكون هذه التغيّرات متّصلة مع بعضها فإنّها تحسب شيئا واحدا ، وبناء على هذا فإنّ لنا في كلّ لحظة وجودا جديدا ، إلّا أنّ هذه الوجودات متصلة ومستمرة ولها صورة واحدة ، أو بتعبير آخر : إنّ المادة لها أربعة أبعاد (طول وعرض وعمق وأمّا البعد الآخر فهو ما نسمّيه (الزمان) وهذا الزمان ليس بشيء إلّا مقدار الحركة في الجوهر) لاحظوا جيّدا.

وممّا يجدر ذكره أنّ الحركة الجوهرية لا ترتبط بمسألة الحركة في داخل

٤٠٤

الذرّة لأنّها حركة وضعية وعرضية ، أمّا الحركة في الجوهر فلها مفهوم عميق جدّا تشمل الذات والجوهر.

والعجيب هنا أنّ المتحرّك هو نفس الحركة.

ولإثبات هذا المقصود فإنّهم يستدلّون بدلائل عديدة لا مجال لذكرها هنا ، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إلى نتيجة هذا الرأي الفلسفي وهو أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ إدراكنا لمسألة معرفة الله أوضح من أي زمان ، لأنّ الخلق والخلقة لم تكن في بداية الخلق فحسب ، بل إنّها في كلّ ساعة وكلّ لحظة ، وإنّ الله سبحانه مستمر في خلقه ، ونحن مرتبطون به دائما ومستفيضون من فيض ذاته وهذا معنى( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

ومن الطبيعي أن لا مانع من أن يكون هذا المفهوم جزءا من المفهوم الواسع للآية الكريمة.

* * *

٤٠٥

الآيات

( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) )

التّفسير

التحدّي المشروط :

النعم الإلهيّة التي استعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم ، إلّا أنّ الآيات مورد البحث تتحدّث عن أوضاع يوم القيامة ، وخصوصيات المعاد ، وفي الوقت الذي تحمل تهديدا للمجرمين ، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين ، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه ، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة. لذلك بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كلّ نعمة من النعم السابقة.

٤٠٦

يقول سبحانه في البداية :( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) (١) (٢) .

نعم ، إنّ الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجنّ حسابا دقيقا على جميع أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم ، ويعيّن لكلّ منهم الجزاء والعقاب.

ومع علمنا بأنّ الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل ، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد ، ولا يشغله شيء عن شيء (ولا يشغله شأن عن شأن) ولكنّنا نواجه التعبير في (سنفرغ) والتي تستعمل غالبا بالتوجّه الجادّ لعمل ما ، والانصراف الكلّي له ، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.

إلّا أنّه استعمل هنا لله سبحانه ، تأكيدا على مسألة حساب الله تعالى لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ولا يغفل عن مثقال ذرّة من أعمال الإنسان خيرا أو شرّا ، والأظرف من ذلك أنّ الله الكبير المتعال هو الذي يحاسب بنفسه عبده الصغير ، وعلينا أن نتصوّركم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة.

(الثقلان) من مادّة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضا ، إلّا أنّ (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادة لمتاع وحمل المسافرين ، وتطلق على جماعة الإنس والجنّ وذلك لثقلهم المعنوي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعورا وعلما ووعيا له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضا كما قال تعالى :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) ،(٣) حيث ورد أنّ أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة ، إلّا أنّ التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي ، خاصّة وأنّ الجنّ ليس لهم ثقل مادّي.

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ رسم الخطّ القديم في القرآن المجيد كتبت (أيّها) في موارد بصورة (أيّه) والتي هي في الآية مورد البحث وآيتين أخريين (النور آية ٣١ ، والزخرف آية ٤٩) في الوقت الذي تكتب (أيّها) في الحالات الاخرى بالألف الممدودة ، والملاحظ أنّها كانت على أساس قاعدة رسم الخطّ القديم.

(٢) مع كون «الثقلين» تنبيه فالضمير في لكم أتى جمعا وذلك إشارة إلى مجموعتين.

(٣) الزلزلة ، ٢.

٤٠٧

التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأنّ التكاليف الإلهيّة مختّصة بهما في الغالب.

وبعد هذا يكرّر الله سبحانه سؤاله مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وتعقيبا على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق ، يخاطب الجنّ والإنس مرّة اخرى بقوله :( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) للفرار من العقاب الإلهي( فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) أي بقوّة إلهية ، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

وبهذه الصورة فإنّكم لن تستطيعوا أن تفرّوا من محكمة العدل الإلهي ، فحيثما تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحلّ حكومته تعالى ، ولا مناصّ لهذا المخلوق الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهيّة؟ كما قال الإمام عليعليه‌السلام في دعاء كميل بن زياد المربي للروح : (ولا يمكن الفرار من حكومتك).

«معشر» في الأصل من (عشر) مأخوذ من عدد «عشرة» ، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل ، فإنّ مصطلح (معشر) يقال : للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة.

«أقطار» جمع (قطر) بمعنى أطراف الشيء.

«تنفذوا» من مادّة (نفوذ) ، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شيء ، والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.

وبالمناسبة فإنّ تقديم «الجنّ» هنا جاء لاستعدادهم الأنسب للعبور من السماوات ، وقد ورد اختلاف بين المفسّرين على أنّ الآية أعلاه هل تتحدّث عن القيامة ، أو أنّ حديثها عن عالم الدنيا ، أو كليهما؟

ولأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث عن وقائع العالم الآخر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن أنّ الآية تتحدّث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به

٤٠٨

العاصون في ذلك اليوم.

إلّا أنّ البعض بلحاظ جملة :( لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) اعتبرها إشارة إلى الرحلات الفضائية للإنسانية ، وقد ذكر القرآن شروطها من القدرة العلمية والصناعية.

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود منها هو عالم الدنيا وعالم القيامة ، يعني أنّكم لن تتمكّنوا من النفوذ بدون قدرة الله في أقطار السماوات ليس في هذه الدنيا فحسب ، بل في عالم الآخرة أيضا ، حيث وضعت في الدنيا وسيلة محدودة لاختباركم ، أمّا في الآخرة فلا توجد أيّة وسيلة لكم.

وفسّرها البعض تفسيرا رابعا حيث قالوا : إنّ المقصود بالنفوذ هو النفوذ الفكري والعلمي في أقطار السماوات ، الذي يمكن للبشر إنجازه بواسطة القدرة الاستدلالية.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مناسب أكثر ، خاصّة وأنّ بعض الأخبار التي نقلت من المصادر الإسلامية تؤيّده ، ومن جملتها حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث يقول :

«إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ، وذلك أن يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك ، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة ، ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين ، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادي مناد ،( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة»(١) .

__________________

(١) تفسير الصافي ص ٥١٧ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٥.

٤٠٩

كما أنّ الجمع بين التفاسير ممكن أيضا.

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين «الجنّ والإنس» بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والتهديد هنا لطف إلهي أيضا ، فالبرغم من أنّه يحمل تهديدا ظاهريا ، إلّا أنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية ، حيث أنّ وجود المحاسبة في كلّ نظام هو نعمة كبيرة.

وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة ، والذي يتعلّق بعدم قدرة الجنّ والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهيّة حيث يقول سبحانه :( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) .

«شواظ» كما ذكر الراغب في المفردات ، وابن منظور في لسان العرب ، وكثير من المفسّرين أنّه بمعنى (الشعلة العديمة الدخان) وفسّرها آخرون بأنّها (ألسنة النار) التي تقتطع من النار نفسها حسب الظاهر ، وتكون خضراء اللون. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى شدّة حرارة النار.

و «نحاس» بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان) والتي تكون بلون النحاس ، وفسّرها البعض بأنّها (النحاس المذاب) وهي لا تتناسب في الظاهر مع ما ورد في الآية مورد البحث ، لأنّها تتحدّث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

وكم هي عجيبة (محكمة القيامة) حين يحاط الإنسان إحاطة تامّة بالملائكة والنار الحارقة والدخان القاتل ، ولا مناص إلّا التسليم لحكم الواحد الأحد في ذلك اليوم الرهيب.

ثمّ يضيف سبحانه قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.

* * *

٤١٠

الآيات

( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) )

التّفسير

يعرف المجرمون بسيماهم :

تكملة للآيات السابقة يتحدّث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة ، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود ، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب ، يقول سبحانه في بداية الحديث :( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ

٤١١

فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ) (١) .

ويستفاد من مجموع آيات «القيامة» بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغيّر ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّا في كلّ الوجود ، فتتغيّر الكواكب والسيّارات والأرض والسماء ، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها ، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه ، وهي انشقاق وتناثر الكرات السماوية ، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.

(وردة) و (ورد) هو الورد المتعارف ، ولأنّ لون الورد في الغالب يكون أحمر ، فإنّ معنى الاحمرار يتداعى للذهن منها.

ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى «الخيل الحمر» ، وبما أنّ لونها يتغيّر في فصول السنة حين يكون في الربيع مائلا إلى الصفرة ، وفي الشتاء يحمّر ، ويقتم لونها في البرد الشديد ، فتشبيه السماء يوم القيامة بها هو بلحاظ التغيّرات التي تحصل في ألوانها فتارة يكون لونها كالشعلة الوهاجة أحمر حارقا ، وأحيانا أصفر ، واخرى أسود قاتم ومعتم.

«دهان» على وزن (كتاب) ، بمعنى الدهن المذاب ، وتطلق أحيانا على الرسوبات المتخلّفة للمادّة الدهنية ، وغالبا ما تكون لها ألوان متعدّدة ، ومن هنا ورد هذا التشبيه حيث يصبح لون السماء كالدهن المذاب بلون الورد الأحمر ، أو إشارة إلى ذوبان الكرات السماوية أو اختلاف لونها.

وفسّر البعض «الدهان» بمعنى الجلد أو اللون الأحمر ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التشبيهات تجسّد لنا صورة من مشهد ذلك اليوم العظيم. حيث أنّ حقيقة الحوادث في ذلك اليوم ليس لها شبيه مع أيّة حوادث اخرى من حوادث عالمنا

__________________

(١) توجد احتمالات متعدّدة في أنّ (إذا) في الآية هل هي شرطية ، أم فجائية ، أم ظرفية ، والظاهر أنّ الاحتمال الأوّل هو الأولى ، وجزاء الشرط محذوف ويمكن تقديره هكذا : (فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدهان ، كانت أهوال لا يطيقها البيان).

٤١٢

هذا. فهذه المشاهد لا نستطيع إدراكها إلّا إذا رأيناها.

ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة ـ أو قبلها ـ تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء ، ولطف من ألطاف الله سبحانه ، يتكرّر هذا السؤال :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم ، حيث يقول سبحانه :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

ولماذا هذا السؤال وكلّ شيء واضح في ذلك اليوم ، فهو يوم البروز ، وكلّ شيء يقرأ في وجه الإنسان.

قد يتوهّم أنّ المعنى الوارد في هذه الآية يتنافى مع الآيات الاخرى التي تصرّح وتؤكّد مسألة سؤال الله تعالى لعباده في يوم القيامة ، كما ورد في الآية :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) ،(١) وكما في قوله تعالى :( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .(٢)

ويحلّ هذا الإشكال إذا علمنا أنّ يوم القيامة يوم طويل جدّا ، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعدّدة فيه ، حيث لا بدّ من التوقّف في كلّ محطّة مدّة زمنية ، وطبقا لبعض الرّوايات فإنّ عدد هذه المواقف خمسون موقفا ، وفي بعضها لا يسأل الإنسان إطلاقا ، إذ أنّ سيماء وجهه تحكي عمّا في داخله ، كما ستبيّنه الآيات اللاحقة.

كما أنّ بعض المواقف الاخرى لا يسمح له بالكلام ، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا

__________________

(١) الصافات ، ٢٤.

(٢) الحجر ، ٩٢ ـ ٩٣.

٤١٣

يَكْسِبُونَ ) .(١)

كما أنّ في بعض المحطّات يسأل الإنسان وبدقّة متناهية عن كافّة أعماله(٢) .

وفي بعض المواقف يسلك الإنسان سبيل الجدل والدفاع والمخاصمة(٣) .

وخلاصة القول : إنّ كلّ محطّة لها شروطها وخصوصياتها ، وكلّ واحدة منها أشدّ رعبا من الاخرى.

ومرّة اخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

نعم إنّه لا يسأل حيث( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ) (٤) فهناك وجوه تطفح بالبشر والنور وتعبّر عن الإيمان وصالح الأعمال ، واخرى مسودّة قاتمة مكفهّرة غبراء تحكي قصّة كفرهم وعصيانهم قال تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) .(٥)

ثمّ يضيف سبحانه :( فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ ) .

«النواصي» : جمع ناصية وكما يقول الراغب في المفردات أنّ الأصل بمعنى الشعر بمقدّمة الرأس من مادّة (نصأ) على وزن (نصر) وتعني الاتّصال والارتباط ، «وأخذ بناصيته» بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدّمة رأسه ، كما تأتي أحيانا كناية عن الغلبة الكاملة على الشيء.

أقدام : جمع «قدم» بمعنى الأرجل.

والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم ، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلّة ويلقونهم في

__________________

(١) سورة يس ، ٦٥.

(٢) كما ورد في الآية موضع البحث والآيتين المشار لهما أعلاه.

(٣) كما ورد في الآية في سورة النحل الآية (١١١).

(٤) (سيما) في الأصل بمعنى العلامة ، وتشمل كلّ علامة في الوجه وسائر مواضع البدن ، ولأنّ علامة الرضا والغضب تبدو في الوجه أوّلا ، فإنّه يتداعى ذكر الوجه في ذكر هذه المفردات.

(٥) عبس. ٣٩ ـ ٤١.

٤١٤

جهنّم ، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن ، حيث يقذفونهم في نار جهنّم بذلّة تامّة ، فما أشدّ هذا المشهد وما أرعبه!!

ومرّة اخرى يضيف سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.

ثمّ يقول سبحانه :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

وذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المخاطبين المقصودين في هذه الآية الكريمة ، وهل هم حضّار المحشر؟ أو أنّ المخاطب هو شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وقد ذكر له هذا المعنى في الدنيا؟ والمرجّح في رأينا هو المعنى الثاني خاصّة ، لأنّ الفعل (يكذّب) جاء بصيغة المضارع. وأستفيد من (المجرمون) ما يحمل على الغائب ، وهذا يوضّح أنّ الله تعالى قال لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذه أوصاف جهنّم التي ينكرها المجرمون باستمرار في هذه الدنيا. وقيل : إنّ المخاطب هو جميع الجنّ والإنس حيث يوجّه لهم إنذار يقول لهم فيه : هذه جهنّم التي ينكرها المجرمون ، لها مثل هذه الأوصاف التي تسمعونها ، لذلك يجب أن تنتبهوا وتحذروا أن يكون مصيركم هذا المصير.

ويضيف سبحانه في وصف جهنّم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول :( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) .

«آن» و «آني» هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق ، وفي الأصل من مادّة (إنّا) على وزن (رضا) بمعنى الوقت لأنّ الماء الحارق وصل إلى وقت ومرحلة نهائية.

وبهذه الحالة فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنّم ، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم ، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) ممّا يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب

٤١٥

جهنّم ، ويلقى فيها من يستحقّ عذابها ثمّ في النار يسجرون ، قال تعالى :( يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) .(١)

والتعبير بـ( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) في الآية مورد البحث ، يتناسب أيضا مع هذا المعنى.

ومرّة اخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ ، الذي هو لطف من الله يقول البارئعزوجل :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ )

* * *

__________________

(١) المؤمن ، ٧١ ـ ٧٢.

٤١٦

الآيات

( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) )

التّفسير

الجنّتان اللتان أعدتا للخائفين :

يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة ، ويحدّثنا فيها عن الجنّة وأهلها ، وما أعدّ لهم من النعم فيها ، والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدّثت عنها الآيات السابقة ، وما ينتظر المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات

٤١٧

أعلاه ، يقول سبحانه :( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) .

«الخوف» من مقام الله ، جاء بمعنى الخوف من مواقف يوم القيامة والحضور أمام الله للحساب ، أو أنّها بمعنى الخوف من المقام العلمي لله ومراقبته المستمرّة لكلّ البشر(١) .

والتّفسير الثّاني يتناسب مع ما ذكر في الآية (٣٣) من سورة الرعد :( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) .

ونقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية أنّه قال : «ومن علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعلمه من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(٢) .

ويوجد هنا تفسير ثالث. هو أنّ الخوف من الله تعالى لا يكون بسبب نار جهنّم ، والطمع في نعيم الجنّة ، بل هو الخوف من مقام الله وجلاله فقط.

وهنالك تفسير رابع أيضا ، وهو أنّ المقصود من (مقام الله) هو الخوف من مقام عدالته ، لأنّ ذاته المقدّسة لا تستلزم الخوف ، إنّما هو الخوف من عدالته ، الذي مردّه هو خوف الإنسان من أعماله ، والإنسان المنزّه لا يخشى الحساب.

ومن المعروف أنّ المجرمين إذا مرّوا بالمحكمة أو السجن ينتابهم شيء من الخوف بسبب جناياتهم على عكس الأبرار حيث يتعاملون بصورة طبيعيّة مع الأماكن المختلفة.

وللخوف من الله أسباب مختلفة ، فأحيانا يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار ، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهيّة حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة الله ، وأحيانا اخرى لمجرّد تصوّرهم لعظمة الله

__________________

(١) في الصورة الاولى يكون المقام اسم مكان ، وفي الثانية يكون مصدرا (ميميّا).

(٢) اصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٧ حيث يستفاد من ذيل الحديث أنّ الإمامعليه‌السلام ذكر هذا في تفسير الآية( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) سورة النازعات / ٤٠ بالرغم من كون محتوى الآيتين واحد

٤١٨

اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة لله سبحانه ، ويكون خاصا بالعارفين والمخلصين لحضرته.

ولا تضادّ بين هذه التفاسير فيمكن جمعها في مفهوم الآية.

وأمّا (جنّتان) فيمكن أن تكون الاولى ماديّة جسمية ، والثانية معنوية روحية ، كما في قوله تعالى :( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) .(١)

ففي هذه الآية مضافا إلى الجنّة الماديّة حيث الأنهار تجري من تحت الأشجار والمطهّرات من الزوجات ، هناك جنّة معنوية أيضا حيث الحديث عن رضوان الله تعالى.

أو أنّ الجنّة الاولى جزاء أعمالهم ، والجنّة الثانية تفضل على العباد وزيادة في الخير لهم ، يقول سبحانه :( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .(٢)

أو أنّ هناك جنّة للطاعة واخرى لترك المعصية.

أو أنّ أحدهما للإيمان ، والثانية للأعمال الصالحة.

أو لأنّ المخاطبين من الجنّ والإنس ، لذا فإنّ كلّ واحدة من هاتين الجنّتين تتعلّق بطائفة منهما.

ومن الطبيعي أن لا دليل على كلّ واحد من هذه التفاسير ، ويمكن جمعها في مفهوم هذه الآية ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ الله تعالى هيّأ لعباده الصالحين نعما عديدة لهم في الجنّة حيث مستقرّهم ، ولأهل النار (مياه حارقة وسعير لا يطاق).

ومرّة اخرى : وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

__________________

(١) آل عمران ، ١٥.

(٢) النور ، ٣٨.

٤١٩

ثمّ يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنّتين بقوله :( ذَواتا أَفْنانٍ ) .

«ذواتا» تثنية (ذات) بمعنى صاحب ومالك(١) .

«أفنان» جمع (فنن) على وزن (قلم) والكلمة في الأصل بمعنى الغصون الطريّة المملوءة من الأوراق ، كما تأتي أحيانا بمعنى «النوع». ويمكن أن يستعمل المعنيان في الآية مورد البحث ، حيث في الصورة الاولى إشارة إلى الأغصان الطرية لأشجار الجنّة ، على عكس أشجار الدنيا حيث غصونها هرمة ويابسة.

كما يشير في الصورة الثانية إلى تنوّع نعم الجنّة وأنواع الهبات فيها ، لذا فلا مانع من استعمال المعنيين.

كما يحتمل أن يراد معنى آخر وهو أنّ لكلّ شجرة عدّة غصون مختلفة وفي كلّ غصن نوع من الفاكهة.

وبعد ذكر هذه النعم يكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى فيقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ولأنّ البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون ، أضاف سبحانه في وصفه لهذه الجنّة بقوله :( فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ) .

ثمّ يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه لم توضّح لنا شيئا عن طبيعة هاتين العينين الجاريتين وعبّرت عنها بصيغة نكرة ، فإنّ هذه الموارد عادة تكون دليلا على العظمة الإلهيّة ، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المقصود بهاتين العينين هما «سلسبيل» وتسنيم» قال تعالى :( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) ،(٢) وقال تعالى :

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ أصل ذات والتي هي مفرد مؤنث كانت ذوات ، والواو حذفت للتخفيف وأصبحت ذات ولكون التثنية ترجع الكلمة إلى أصلها ، لذا أصبحت (ذواتان) وقد حذفت النون عند الإضافة ، وجاء في مجمع البحرين أنّ أصل (ذو) هو (ذوا) على وزن (عصا) ولذلك فلا عجب أنّ مؤنثها يصبح (ذوات).

(٢) الإنسان ، ١٨.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

التّفسير

التوبيخ الشديد لبعض زوجات الرّسول :

ممّا لا شكّ فيه أنّ رجلا عظيما كالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن أن يهمّه أمره وحده دون غيره ، بل أمره يهمّ المجتمع الإسلامي والبشرية جمعاء ، ولهذا يكون التعامل مع أيّة دسيسة حتّى لو كانت بسيطة تعاملا حازما وقاطعا لا يسمح بتكرّرها ، لكي لا تتعرّض حيثية الرّسول واعتباره إلى أي نوع من التصدّع والخدش والآيات محلّ البحث تعتبر تحذيرا من ارتكاب مثل هذه الأعمال حفاظا على اعتبار الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

البداية كانت خطابا إلى الرّسول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ) .

ومن الواضح أنّ هذا التحريم ليس تحريما شرعيّا ، بل هو ـ كما يستفاد من الآيات اللاحقة ـ قسم من قبل الرّسول الكريم ، ومن المعروف أنّ القسم على ترك بعض المباحات ليس ذنبا.

وبناء على هذا فإنّ جملة( لِمَ تُحَرِّمُ ) لم تأت كتوبيخ وعتاب ، وإنّما هي نوع من الإشفاق والعطف.

تماما كما نقول لمن يجهد نفسه كثيرا لتحصيل فائدة معيّنة من أجل العيش ثمّ لا يحصل عليها ، نقول له : لماذا تتعب نفسك وتجهدها إلى هذا الحدّ دون أن تحصل على نتيجة توازي ذلك التعب؟

ثمّ يضيف في آخر الآية :( وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وهذا العفو والرحمة إنّما هو لمن تاب من زوجات الرّسول اللاتي رتّبن ذلك العمل وأعددناه. أو أنّها إشارة إلى أنّ الرّسول ما كان ينبغي له أن يقسم مثل هذا القسم الذي سيؤدّي ـ احتمالا ـ إلى ـ جرأة وتجاسر بعض زوجاته عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويضيف في الآية اللاحقة أنّ الله قد أوضح طريق التخلّص من مثل هذا

٤٤١

القسم :( قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ) (١) أي أعط كفّارة القسم وتحرّر منه.

ويذكر أنّ الترك إذا كان راجحا على العمل فيجب الالتزام بالقسم والحنث فيه ذنب تترتّب كفّارة عليه ، أمّا في الموارد التي يكون فيها الترك شيئا مرجوحا مثل «الآية مورد البحث» فإنّه يجوز الحنث في القسم ، ولكن من الأفضل دفع كفّارة من أجل الحفاظ على حرمة القسم واحترامه(٢) .

ثمّ يضيف :( وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

فقد أنجاكم من مثل هذه الأقسام ووضع لكم طريق التخلّص منها طبقا لعلمه وحكمته.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ النبي أعتق رقبة بعد هذا القسم وحلّل ما كان قد حرّمه بالقسم.

وفي الآية اللاحقة يتعرّض لهذا الحادث بشكل أوسع :( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ) .

ما هذا السرّ الذي أسرّه النبي لبعض زوجاته ثمّ لم يحفظنه؟

طبقا لما أوردناه في أسباب النزول فإنّ هذا السرّ يتكوّن من أمرين :

الأوّل : تناول العسل عند زوجته (زينب بنت جحش).

والثاني : تحريم العسل على نفسه في المستقبل.

أمّا الزوجة التي أذاعت السرّ ولم تحافظ عليه فهي «حفصة» حيث أنّها نقلت ذلك الحديث الذي سمعت به إلى عائشة.

__________________

(١) «الراغب» في «المفردات» ، يقول : إذا جاءت كلمة «فرض» مع «على» فإنّها تدلّ على الوجوب ، وأمّا إذا جاءت معها «لام» فإنّها تدلّ على عدم المنع وبهذا يكون الفرض في الآية السابقة هو السماح والإباحة وليس الوجوب. وعبارة «تحلّة» ـ مصدر من باب تفعيل ـ بمعنى إباحة والحلّية ، أو بتعبير آخر العمل على فتح عقدة القسم ، وهو الكفّارة.

(٢) كفّارة القسم حسب ما يستفاد من الآية (٨٦) من سورة المائدة عبارة عن إطعام عشرة مساكين ، أو إكساؤهم ، أو تحرير رقبة. وإن كان لا يقدر على شيء من ذلك فصيام ثلاثة أيّام.

٤٤٢

أمّا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد اطّلع على إفشاء هذا السرّ عن طريق الوحي ، وذكر بعضه «لحفصة» ومن أجل عدم إحراجها كثيرا لم يذكر لها القسم الثاني (ولعلّ القسم الأوّل يتعلّق بأصل شرب العسل ، والثاني هو تحريم العسل على نفسه).

وعلى كلّ فإنّه :( فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) .

ويتّضح من مجموع هذه الآيات أنّ بعض زوجات الرّسول لم يكتفين بإيذاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامهنّ ، بل لا يحفظن سرّه ، وحفظ السرّ من أهمّ صفات الزوجة الصالحة الوفيّة لزوجها ، وكان تعامل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهنّ على العكس من ذلك تماما إلى الحدّ الذي لم يذكر لها السرّ الذي أفشته كاملا لكي لا يحرجها أكثر ، واكتفى بالإشارة إلى جزء منه.

ولهذا جاء في الحديث عن الإمام عليعليه‌السلام : «ما استقصى كريم قطّ ، لأنّ الله يقول :( عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ) (١) .

ثمّ يتحدّث القرآن مع زوجتي الرّسول اللتين كانتا وراء هذا الحادث بقوله :( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) .

وقد اتّفق المفسّرون الشيعة والسنّة على أنّ تلك الزوجتين هما «حفصة بنت عمر» و «عائشة بنت أبي بكر».

«صغت» من مادّة «صغو» على وزن «عفو» بمعنى الميل إلى شيء ما ، لذلك يقال «صغت النجوم» «أي مالت النجوم إلى الغروب» ولهذا جاء اصطلاح «إصغاء» بمعنى الاستماع إلى حديث شخص آخر. والمقصود من «صغت قلوبكما» أي مالت من الحقّ إلى الباطل وارتكاب الذنب(٢) .

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ٣٩٢.

(٢) طبقا للتفسير الذي ذكرناه والذي اختاره أكثر المفسّرين فإنّ هناك شيئا محذوفا في الآية تقديره «إن تتوبا إلى الله كان خير لكما» أو تقدير آخر مشابه ، ولكن احتمل بعض آخر أنّه ليس هناك محذوف في الآية وجملة (صغت قلوبكما) جزاء الشرط (بشرط أن يكون الميل إلى الحقّ وليس العكس).

٤٤٣

ثمّ يضيف تعالى :( وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ) .

ويتّضح من هذا كم تركت هذه الحادثة من أثر مؤلم في قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروحه العظيمة ، ورغم قدرة الرّسول المتكاملة نشاهد أنّ الله يدافع عنه إذ يعلن حماية جبرائيل والمؤمنين له.

ومن الجدير بالذكر أنّه ورد في صحيح البخاري (ما مضمونه) عن ابن عبّاس أنّه قال : سألت عمر : من كانت المرأتان اللتان تظاهرتا على النبي من أزواجه ، فقال : تلك حفصة وعائشة ، قال : فقلت والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا قال : فلا تفعل ما ظننت أنّ عندي من علم فاسألني فإن كان لي علم خبّرتك به ، قال ثمّ قال عمر : والله إن كنّ في الجاهلية ما تعدّ للنساء أمرا حتّى أنزل الله فيهنّ ما أنزل وقسم لهنّ ما قسم ..»(١) .

وفي تفسير الدرّ المنثور ، ورد أيضا عن ابن عبّاس ضمن حديث مفصّل أنّه قال : قال عمر : «.. علمت بعد هذه الحادثة أنّ النبي اعتزل جميع النساء ، وأقام في «مشربة أمّ إبراهيم» ، فأتيته وقلت : يا رسول الله هل طلّقت نساءك؟ قال : لا. قلت : الله أكبر ، كنّا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر من ذلك فو الله إنّ أزواج النبي ليراجعنه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل فقلت لابنتي حفصة لا تفعلي ذلك أبدا وإن فعلته جارتك (يعني عائشة) لأنّك لست هي ..»(٢) .

__________________

ولكن هذا الاحتمال بعيد جدّا لأنّ الشرط جاء بصيغة الفعل المضارع بينما الجزاء بصيغة الفعل الماضي وهذا غير جائز في عرف أكثر النحويين ، ويذكر أنّ «قلوبكما» جاءت بصيغة الجمع لا المثنى ، وذلك لتلافي اجتماع ألفاظ التثنية بصورة متتالية الذي لا يتناسب مع بلاغة القرآن وفصاحته.

(١) صحيح البخاري ، ج ٦ ، ص ١٩٥.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٤٣.

٤٤٤

في آخر آية من هذه الآيات يخاطب الله تعالى جميع نساء النبي بلهجة لا تخلو من التهديد :( عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً ) .

لذا فهو ينذرهنّ ألّا يتصورن أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوف لن يطلّقهن ، أو يتصوّرن أنّ النبي لا يستبدلهنّ بنساء أخريات أفضل منهنّ ، وذلك ليكففن عن التآمر عليه وإلّا فسيحرمن من شرف منزلة «زوجة الرّسول» إلى الأبد ، وستأخذ نساء أخريات أفضل منهنّ هذا اللقب الكريم.

* * *

بحوث

١ ـ صفات الزوجة الصالحة :

يضع القرآن الكريم عدّة صفات للمرأة الصالحة التي يمكنها أن تكون نموذجا يقتدى به في انتخاب الزوجة اللائقة.

الأوّل «الإسلام» ثمّ «الإيمان» أي الإعتقاد الذي ينفذ ويترسّخ في أعماق قلب الإنسان. ثمّ حالة «القنوت» أي التواضع وطاعة الزوج. بعد ذلك «التوبة» ويقصد أنّ الزوجة إذا ما ارتكبت ذنبا بحقّ زوجها فإنّها سرعان ما تتوب وتعتذر عن ذلك. وتأتي بعد ذلك «العبادة» التي جعلها الله سبحانه ليطهّر بها قلب الإنسان وروحه ويصنعها من جديد ، ثمّ «إطاعة أوامر الله» والورع عن محارمه.

وممّا يذكر أنّ جماعة من المفسّرين ـ بل أكثرهم ـ اعتبروا كلمة «سائح» بمعنى «صائم» ولكن طبقا لما أورده «الراغب» في «المفردات» فإنّ الصوم على قسمين : «صوم حكمي» : وهو الامتناع عن تناول الطعام والماء ، و «صوم حقيقي» : وهو امتناع أعضاء الإنسان عن ارتكاب المعاصي.

والمقصود بالصوم هنا هو المعنى الثاني ، «إذ أنّ مناسبات الحال والمقام تقوّي

٤٤٥

قول الراغب وتجعله مناسبا ، غير أنّه يجب أن يعلم أنّ السائح فسّر أيضا بمعنى السائر في طريق طاعة الله»(١) .

ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن لم يعط أهميّة تذكر للباكر وغير الباكر ، فإنّه عند ما ذكر الصفات المعنوية للزوجة الصالحة ذكر هذه المسألة بصورة عابرة ودون أي تركيز.

٢ ـ من هم (صالح المؤمنين)؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ صالح المؤمنين ، لها معان واسعة تشمل جميع المؤمنين الصالحين الأتقياء الذين كمل إيمانهم ، ورغم أنّ كلمة (صالح) وردت هنا بصيغة المفرد ، ولكن يمكن أن يستفاد منها العموم لأنّها تتضمّن معنى الجنس(٢) .

ولكن ما هو المصداق الأكمل والأتمّ لهذا المصطلح؟

يستفاد من روايات عديدة أنّ المقصود هو الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام .

في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام يقول : «لقد عرّف رسول الله عليا أصحابه مرّتين : أمّا مرّة فحيث قال : «من كنت مولاه فعلي مولاه» وأمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية :( فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) أخذ رسول الله بيد علي فقال : أيّها الناس ، هذا صالح المؤمنين!!؟»

وقد نقل هذا المعنى في كتب عديدة لعلماء أهل السنّة منهم العلّامة «الثعلبي» و «الكنجي» في «كفاية الطالب» و «أبو حيّان الأندلسي» و «السبط ابن الجوزي»

__________________

(١) «سائح» من مادّة «السياحة» وكانت تطلق في الأصل بمعنى الجولان في العالم ، بدون زاد ومتاع ، والعيش اعتمادا على مساعدات الناس ، لذلك فالصائم الذي يمسك عن الطعام حتّى يحين وقت الإفطار ، شبيه بالسائح ، من هذه الناحية ، لذا أطلقت هذه اللفظة «السائح» على «الصائم».

(٢) يرى البعض أنّ كلمة «صالح» هنا ، تأتي بمعنى الجمع ، نظرا لأنّ واو «صالحوا» حذفت للإضافة لذا فإنّها لم تظهر في رسم الخطّ القرآني إلّا أنّ هذا المعنى بعيد في نظرنا.

٤٤٦

وغيرهم(١) .

وقد أورد جمع من المفسّرين منهم «السيوطي» في «الدرّ المنثور» في ذيل الآية مورد البحث و «القرطبي» في تفسيره المعروف ، وكذلك «الآلوسي» في «روح المعاني» في تفسير هذه الآية أوردوا هذه الرواية.

وبعد أن نقل مؤلّف (روح البيان) هذه الرواية عن (مجاهد) قال : ويؤيّد هذه الرواية الحديث المعروف : «حديث المنزلة» الذي وصف فيه الرّسول مكانة عليعليه‌السلام منه بقوله لعلي «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» نظرا لأنّ عنوان الصالحين استعمل في القرآن الكريم للإشارة إلى الأنبياء. منها( وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ ) (سورة الأنبياء الآية ٧٢) و( أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (٢) . (حيث أطلق في الاولى على مجموع الأنبياء وفي الثانية على يوسف).

ولكون علي بمنزلة هارون فإنّه سيكون كذلك مصداقا لـ (الصالح) (فتأمّل)! خلاصة القول : أنّ هناك عددا كثيرا من الأحاديث وردت في هذا المجال ، فبعد أن نقل المفسّر المعروف (المحدّث البحراني) في تفسير البرهان رواية في هذا المجال عن محمد بن عبّاس(٣) أنّه جمع ٥٢ حديثا تتناول هذا الموضوع من طريق الشيعة والسنّة ثم قام هو بنقل بعضها(٤) .

٣ ـ عدم رضا الرّسول عن بعض زوجاته

هناك على طول التاريخ عظماء كثيرون لم يحظوا بزوجات تناسب شأنهم واهتماماتهم ، ونتيجة لعدم توفّر الشروط اللازمة بزوجاتهم ، فقد ظلّوا يعانون من

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣١٦.

(٢) يوسف ، الآية ١٠١.

(٣) يبدو أنّ محمّد بن عبّاس هنا هو (أبو عبد الله المعروف بـ «ابن الحجّام» مؤلّف كتاب «ما أنزل من القرآن في أهل البيت» الذي قال جمع من العلماء : إنّه لم يؤلّف كتاب مثله إلى الآن) جامع الرواة ، ج ٢ ، ص ١٣٤.

(٤) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٣٥٣ ، ذيل الحديث ٢.

٤٤٧

ذلك كثيرا ، وقد ذكر لنا القرآن الكريم نماذج من هذه المعاناة وقعت للأنبياء العظام.

وربّما توضّح الآيات السابقة أنّ معاناة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعض أزواجه كانت من هذا القبيل ، فنظرا لوجود الغيرة والتسابق فيما بينهنّ كنّ يسبّبن متاعب للنبي الكريم. فقد كنّ أحيانا يعترضن عليه أو يفشين سرّه ، الأمر الذي جعل القرآن الكريم يوجّه لهنّ خطابا مباشرا بالتوبيخ وأصدر أقوى البيانات في هذا المجال ، حتّى أنّه هدّدهنّ بالطلاق. وقد لا حظنا الرّسول قد غضب على زوجاته وأظهر عدم رضاه لمدّة شهر تقريبا بعد نزول هذه الآيات أملا في إصلاحهنّ.

ويمكن أن نلاحظ بشكل واضح ـ من خلال حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّ بعض زوجاته لم يدركن مقام النبوّة فحسب ، بل قد يتعاملن معه كإنسان عادي ، وأحيانا يتعرضنّ له بالإهانة.

وبناء على هذا فإنّه لا معنى للإصرار على أنّ جميع زوجات الرّسول كنّ على قدر عال من الكمال واللياقة ، خصوصا مع الأخذ بالاعتبار صراحة الآيات السابقة.

ولم يكن هذا المعنى مقتصرا على حياة الرّسول فقط ، فبعد وفاته نقل لنا التاريخ أمثلة مشابهة ، خاصّة في قصّة حرب الجمل والموقف من خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جرى من امور ليس هنا مجال الخوض فيها.

ومن الواضح أنّ الآيات السابقة تقول بشكل صريح : إنّ الله سيعطي النبي زوجات صالحات تتوفّر فيهنّ الصفات المذكورة في الآيات إذا طلّقكن وسرحكن ، وهذا يكشف عن أنّ هناك من زوجات الرّسول ممّن لا تتوفّر فيهنّ تلك الصفات والشروط.

ويؤيّد ذلك ما جاء في سورة الأحزاب حول زوجات الرّسول.

٤٤٨

٤ ـ إفشاء السرّ

إنّ حفظ السرّ والمحافظة عليه وعدم إفشائه ، ليس فقط من صفات المؤمنين ، بل هي صفة ينبغي توفّرها بكلّ إنسان ذي شخصية قويّة محترمة ، وتتجلّى أهميّة هذه الصفة أكثر مع الأصدقاء والأقرباء وبالأخصّ بين الزوج والزوجة. وقد لا حظنا في الآيات السابقة كيف أنّ القرآن لام أزواج النبي بشدّة ووبّخهنّ على إفشائهنّ للسرّ وعدم محافظتهنّ عليه.

ورد عن أمير المؤمنين قوله : «جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ ومصادقة الأخيار ، وجمع الشرّ في الإذاعة ومؤاخاة الأشرار»(١) .

٥ ـ لا تحرّموا على أنفسكم ما أحلّه الله لكم

من المؤكّد أنّ الله لم يحلّل أو يحرّم شيئا إلّا طبقا لحسابات ومصالح دقيقة ، وبناء على هذا فلا مجال لأن يقوم الإنسان بتحليل الحرام أو تحريم الحلال حتّى مع القسم ، فإنّ الحنث جائز في مثل هذه الموارد.

نعم ، إذا كان مورد القسم من المباحات التي يكره عملها أو الأولى تركها ، يجب الالتزام بالقسم حينئذ.

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٤٦٩ ، مادّة الكتمان.

٤٤٩

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) )

التّفسير

قوا أنفسكم وأهليكم النار :

تخاطب الآيات السابقة جميع المؤمنين ، وترسم لهم المنهج الصالح لتربية الزوجات والأولاد والأسرة بشكل عامّ ، فهي تقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا

٤٥٠

أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) .

وذلك بحفظ النفس من الذنوب وعدم الاستسلام للشهوات والأهواء ، وحفظ العائلة من الانحراف بالتعليم والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتهيئة الأجواء الصالحة والمحيط الطاهر من كلّ رذيلة ونقص.

وينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهي منذ اللحظات الاولى لبناء العائلة ، أي منذ أوّل مقدّمات الزواج ، ثمّ مع أوّل لحظة لولادة الأولاد ، ويراعى ويلاحظ بدقّة حتّى النهاية.

وبعبارة اخرى : إنّ حقوق الزوجة والأولاد لا تقتصر على توفير المسكن والمأكل ، بل الأهمّ تربية نفوسهم وتغذيتها بالأصول والتعاليم الإسلامية وتنشئتها نشأة تربوية صحيحة.

والتعبير بـ «قوا» إشارة إلى أنّ ترك الأطفال والزوجات دون أيّة متابعة أو إرشاد سيؤدّي إلى هلاكهم ودخولهم النار شئنا أم أبينا. لذا عليكم أن تقوهم وتحذّروهم من ذلك.

«الوقود» هو المادّة القابلة للاشتعال مثل (الحطب) وهو بمعنى المعطي لشرارة النار كالكبريت ـ مثلا ـ فإنّ العرب يطلقون عليه (الزناد).

وبناء على هذا فإنّ نار جهنّم ليس كنيران هذا العالم ، لأنّها تشتعل من داخل البشر أنفسهم ومن داخل الصخور وليس فقط صخور الكبريت التي أشار إليها بعض المفسّرين ، فإنّ لفظ الآية مطلق يشمل جميع أنواع الصخور.

وقد اتّضح في هذا العصر أنّ كلّ قطعة من الصخور تحتوي على مليارات المليارات من الذرّات التي إذا ما تحرّرت الطاقة الكافية فيها فسينتج عن ذلك نار هائلة يصعب على الإنسان تصوّرها.

وقال بعض المفسّرين : إنّ «الحجارة» عبارة عن تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها.

٤٥١

ويضيف القرآن قائلا :( عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

وبهذا لا يبقى طريق للخلاص والهروب ، ولن يؤثّر البكاء والالتماس والجزع والفزع.

ومن الواضح أنّ أصحاب الأعمال والمكلّفين بتنفيذها ، ينبغي أن تكون معنوياتهم وروحيّتهم تنسجم مع تلك المهام المكلّفين بتنفيذها. ولهذا يجب أن يتّصف مسئولو العذاب والمشرفون عليه بالغلظة والخشونة ، لأنّ جهنّم ليست مكانا للرحمة والشفقة ، وإنّما هي مكان الغضب الإلهي ومحلّ النقمة والسخط الإلهيين. ولكن هذه الغلظة والخشونة لا تخرج هؤلاء عن حدّ العدالة والأوامر الإلهية. إنّما :( يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) دون أيّة زيادة أو نقصان.

وتساءل بعض المفسّرين حول تعبير (لا يعصون) الذي ينسجم مع القول بعدم وجود تكليف يوم القيامة. ولكن يجب الانتباه إلى أنّ الطاعة وعدم العصيان من الأمور التكوينية لدى الملائكة لا التشريعية.

بتعبير آخر : إنّ الملائكة مجبولون على الطاعة غير مختارين ، إذ لا رغبة ولا ميل لهم إلى سواها.

في الآية اللاحقة يخاطب الكفّار ويصف وضعهم في ذلك اليوم العصيب بقوله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

قد جاءت هذه الآية بعد الآية السابقة التي خاطب بها المؤمنين ، ليكون واضحا أنّ عدم الالتزام بأوامر الله وعدم الاهتمام بالنساء والأولاد والأهل قد تكون نتيجته وعاقبته كعاقبة الكفّار يوم القيامة.

والتعبير بـ( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يؤيّد هذه الحقيقة مرّة اخرى ، وهي أنّ جزاء المؤمنين يوم القيامة إنّما هو أعمالهم نفسها التي تظهر أمامهم وترافقهم.

وممّا يؤيّد ذلك أيضا التعبير الذي ورد في الآية السابقة الذي يقول إنّ نار جهنّم :

٤٥٢

( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) .

وممّا يجدر ذكره أنّ عدم قبول الاعتذار ناتج عن كونه نوعا من التوبة ، والتوبة لا تقبل في غير هذا العالم ، سواء كان قبل دخول النار أو بعد دخولها.

ويلقي القرآن الضوء في الآية اللاحقة على طريق النجاة من النار حيث يقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) .

نعم. إنّ أوّل خطوة على طريق النجاة هي التوبة والإقلاع عن الذنب ، التوبة التي يكون هدفها رضا الله والخوف منه. التوبة الخالصة من أي هدف آخر كالخوف من الآثار الاجتماعية والآثار الدنيوية للذنوب. وأخيرا التوبة التي يفارق بها الإنسان الذنب ويتركه إلى الأبد.

ومن المعلوم أنّ حقيقة التوبة هي الندم على الذنب ، وشرطها التصميم على الترك في المستقبل. وأمّا إذا كان العمل قابلا لأن يجبر ويعوّض فلا بدّ من الجبران والتعويض ، والتعبير بـ( يُكَفِّرَ عَنْكُمْ ) إشارة إلى هذا المعنى. وبناء على هذا يمكننا تلخيص أركان التوبة بخمسة امور (ترك الذنب ، الندم ، التصميم على الاجتناب في المستقبل ، جبران ما مضى ، الاستغفار).

«نصوح» من مادّة نصح ، بمعنى طلب الخير بإخلاص ، ولذلك يقال للعسل الخالص بأنّه (ناصح) وبما أنّ من يريد الخير واقعا يجب أن يكون عمله توأما للإتقان جاءت كلمة «نصح» أحيانا بهذا المعنى ، ولذا يقال للبناء المتين بأنّه «نصاح» ـ على وزن كتاب ـ ويقال للخيّاط «ناصح» ، وكلا المعنيين ـ أي الخلوص والمتانة ـ يجب توفّرهما في التوبة النصوح(١) .

وأمّا حول المعنى الحقيقي للتوبة النصوح؟ فقد وردت تفاسير مختلفة

__________________

(١) يتصوّر البعض أنّ «نصوح» اسم شخص معيّن ، وذكروا له قصّة مفصّلة ، ولكن يجب الالتفات إلى أنّ «نصوح» ليس اسما لشخص ، بل يعطي معنى وصفيّا رغم أنّه لا يبعد صحّة القصّة المذكورة.

٤٥٣

ومتعدّدة حتّى أوصلها البعض إلى ٢٣ تفسيرا(١) .

غير أنّ جميع هذه التفاسير تعود إلى حقيقة واحدة وفروعها والأمور المتعلّقة بها وشرائطها المختلفة.

ومن هذه التفاسير القول بأنّ التوبة (النصوح) يجب أن تتوفّر فيها أربعة شروط : الندم الداخلي ، الاستغفار باللسان ، ترك الذنب ، والتصميم على الاجتناب في المستقبل.

وقال البعض الآخر بأنّها (أي التوبة النصوح) ذات شروط ثلاثة (الخوف من عدم قبولها ، والأمل بقبولها ، والاستمرار على طاعة الله.

أو أنّ التوبة «النصوح» التي تجعل الذنوب دائما أمام أعين أصحابها ، ليشعر الإنسان بالخجل منها.

أو أنّها تعني إرجاع المظالم والحقوق إلى أصحابها ، وطلب التحليل وبراءة الذمّة من المظلومين ، والمداومة على طاعة الله.

أو هي التي تشتمل على امور ثلاثة : قلّة الأكل ، قلّة القول ، قلّة النوم.

أو التوبة النصوح هي التي يرافقها بكاء العين ، واشمئزاز القلب من الذنوب وما إلى ذلك من فروع التوبة الواقعية وهي التوبة الخالصة التامّة الكاملة.

جاء في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما سأله معاذ بن جبل عن «التوبة النصوح» أجابه قائلا : «أن يتوب التائب ثمّ لا يرجع في الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع»(٢) .

وبهذا التعبير اللطيف يتّضح أنّ التوبة يجب أن تحدث انقلابا في داخل النفس الإنسانية ، وتسدّ عليها أي طريق للعودة إلى الذنب ، وتجعل من الرجوع أمرا مستحيلا كما يستحيل إرجاع اللبن إلى الضرع والثدي.

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٦ و٦٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣١٨.

٤٥٤

وقد جاء هذا المعنى في روايات اخرى ، وكلّها توضّح الدرجة العالية للتوبة النصوح ، فإنّ الرجوع ممكن في المراتب الدنيا من التوبة ، وتتكرّر التوبة حتّى يصل الإنسان إلى المرحلة التي لا يعود بعدها إلى الذنب.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى آثار التوبة الصادقة النصوح بقوله :( عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

( وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) .

( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) .

( نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ) ويضيء لهم طريقهم في المحشر ويوصلهم إلى الجنّة.

وهنا يتوجّهون إلى الله بطلب العفو :( يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

وبذلك تكون التوبة (النصوح) لها خمس ثمرات مهمّة :

الاولى : غفران الذنوب والسيّئات.

الثانية : دخول الجنّة المملوءة بنعم الله.

الثالثة : عدم الفضيحة في ذلك اليوم العصيب الذي ترتفع فيه الحجب وتظهر فيه حقائق الأشياء ، ويفتضح الكاذبون الفجّار. نعم في ذلك اليوم سيكون للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين شأن عظيم ، لأنّهم لم ولن يقولوا إلّا ما هو واقع.

الرابع : أنّ نور إيمانهم وعملهم يتحرّك بين أيديهم فيضيء طريقهم إلى الجنّة.

(واعتبر بعض المفسّرين أنّ «النور» الذي يتحرّك أمامهم إنّما هو نور العمل ، وكان لنا تفسير آخر أوردناه في ذيل الآية ١٢ من سورة الحديد).

الخامس : يتجهون إلى الباري أكثر من ذي قبل ، ويرجونه تكميل نورهم والغفران الكامل لذنوبهم.

* * *

٤٥٥

بحثان

١ ـ تعليم وتربية العائلة

من الواضح أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عامّة على جميع الناس ولا تخصّ بعضا دون آخر. غير أنّ مسئولية الإنسان تجاه زوجته وأبنائه أكد من غيرها وأشدّ إلزاما ، كما يتجلّى ذلك بشكل واضح من الروايات الواردة في مصادر عديدة ، وكذلك الآيات السابقة التي تدعو الإنسان لأن يبذل أقصى جهده لتربية أهله وتعليمهم ، ونهيهم عن ارتكاب الذنوب وحثّهم على اكتساب الخيرات ، ولا ينبغي عليه أن يقنع ويكتفي بتوفير الغذاء الجسمي لهم.

وبما أنّ المجتمع عبارة عن عدد معيّن من وحدات صغيرة تدعى «العائلة» فإنّ الاهتمام بالعائلة وتربيتها تربية إسلامية صحيحة سيجعل أمر إصلاح المجتمع أسهل وأيسر.

وتبرز هذه المسؤولية أكثر وتكتسب أهميّة خاصّة في العصر الراهن ، حيث تجتاح المجتمع موجات من الفساد والضلال الخطرة ، وتحتاج إلى وضع برنامج دقيق ومدروس لتربية العائلة لمواجهة هذه الموجات دون التأثّر بها والانجراف مع تيارها.

فنار الآخرة ليست هي النار الوحيدة التي يكون مصدرها الإنسان نفسه ومن داخله ، بل نار الدنيا هي الاخرى تستمدّ وجودها من هذا الإنسان ، لهذا يجب على كلّ إنسان أن يقي نفسه وعائلته من هذه النار.

جاء في الحديث أنّ أحد الصحابة سأل النبي بعد نزول الآية السابقة : كيف أقي أهلي ونفسي من نار جهنّم ، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تأمرهم بما أمر الله ، وتنهاهم عمّا نهاهم الله ، إن أطاعوك كنت قد وقيتهم ، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك»(١) .

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٧٢.

٤٥٦

وفي حديث آخر جامع ولطيف عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ألا كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته ، فالأمير على الناس راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم ، ألا فكلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته»(١) .

ونختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير هذه الآية قال فيه :

«علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم»(٢) .

٢ ـ التوبة باب إلى رحمة الله

كثيرا ما تهجم على الإنسان الذنوب واللوابس ـ خاصّة في بدايات توجّهه وسلوكه إلى الله ـ وإذا أغلقت جميع أبواب العودة والرجوع بوجهه ، فإنّه سيبقى في نهجه هذا إلى الأبد ، ولهذا نجد الإسلام قد فتح بابا للعودة وسمّاه «التوبة» ، ودعا جميع المذنبين والمقصّرين إلى دخول هذا الباب لتعويض وجبران الماضي.

يقول الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام في مناجاة التائبين : «إلهي أنت الذي فتحت لعبادك بابا إلى عفوك سمّيته التوبة ، فقلت( تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه!!»(٣) .

وقد شدّدت الروايات على أهميّة التوبة إلى الحدّ الذي نقرأ في الحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها»(٤) .

__________________

(١) (مجموعة ورام) ، ج ١ ، ص ٦.

(٢) (الدرّ المنثور) ، ج ٦ ، ص ٢٤٤.

(٣) المناجاة الخامسة عشر.

(٤) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب التوبة ، الحديث ٨.

٤٥٧

كلّ هذه الروايات العظيمة تحثّ وتؤكّد على هذا الأمر الحياتي المهمّ.

لكن ينبغي التأكيد على أنّ التوبة ليست مجرّد (لقلقة لسان) وتكرار قول (استغفر الله) وإنّما للتوبة شروط وأركان مرّت الإشارة إليها في تفسير التوبة النصوح في الآيات السابقة.

وكلّما تحقّقت التوبة بتلك الشروط والأركان فإنّها ستؤتي ثمارها وتعفي آثار الذنب من قلب وروح الإنسان تماما ، ولذا ورد في الحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ»(١) .

وقد وردت بحوث اخرى عن التوبة في ذيل الآية (١٧) من سورة النساء وفي ذيل الآية (٥٣) من سورة الزمر.

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب التوبة ، الحديث ١٠.

٤٥٨

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢) )

التّفسير

نماذج من النساء المؤمنات والكافرات :

بما أنّ المنافقين يفرحون لإفشاء أسرار الرّسول وإذاعة الأخبار الداخلية عن بيته ، ويرحبون ببروز المشاجرات والاختلافات بين زوجاته ـ التي مضت

٤٥٩

الإشارة إليها في الآيات السابقة ـ بل إنّهم كانوا يساهمون في إشاعة تلك الأخبار وإذاعتها بشكل أوسع ، نظرا لكلّ ذلك فقد خاطب القرآن الكريم الرّسول بأن يشدّد على المنافقين والكافرين ويغلّظ عليهم. حيث يقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

الجهاد ضدّ الكفّار قد يكون مسلّحا أو غير مسلّح ، أمّا الجهاد ضدّ المنافقين فإنّه بدون شكّ جهاد غير مسلّح ، لأنّ التاريخ لم يحدّثنا أبدا عن أنّ الرّسول خاض مرّة معركة مسلّحة ضدّ المنافقين. لهذا ورد في الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ رسول الله لم يقاتل منافقا قطّ إنّما يتألّفهم»(١) .

وبناء على ذلك فإنّ المراد من الجهاد ضدّ المنافقين إنّما هو توبيخهم وإنذارهم وتحذيرهم ، بل وتهديدهم وفضحهم ، أو تأليف قلوبهم في بعض الأحيان. فللجهاد معنى واسع يشمل جميع ذلك. والتعبير بـ «أغلظ عليهم» إشارة إلى معاملتهم بخشونة وفضحهم وتهديدهم ، وما إلى ذلك.

ويبقى هذا التعامل الخاصّ مع المنافقين ، أي عدم الصدام المسلّح معهم ، ما داموا لم يحملوا السلاح ضدّ الإسلام وذلك بسبب أنّهم مسلمون في الظاهر ، وتربطهم بالمسلمين روابط كثيرة لا يمكن معها محاربتهم كالكفّار ، أمّا إذا حملوا السلاح فيجب أن يقابلوا بالمثل ، لأنّهم سوف يتحوّلون إلى (محاربين).

ولم يحدث مثل ذلك أيّام حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّه حدث في خلافة أمير المؤمنين عليعليه‌السلام حيث خاض ضدّهم معركة مسلّحة.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المقصود من «الجهاد ضدّ المنافقين» الذي ورد ذكره في الآية السابقة هو إجراء الحدود الشرعية بحقّهم ، فإنّ أكثر الذين كانوا تجرى عليهم الحدود هم من المنافقين. ولكن لا دليل على ذلك ، كما لا دليل على

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣١.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624