الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196914 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

التّفسير

التوبيخ الشديد لبعض زوجات الرّسول :

ممّا لا شكّ فيه أنّ رجلا عظيما كالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن أن يهمّه أمره وحده دون غيره ، بل أمره يهمّ المجتمع الإسلامي والبشرية جمعاء ، ولهذا يكون التعامل مع أيّة دسيسة حتّى لو كانت بسيطة تعاملا حازما وقاطعا لا يسمح بتكرّرها ، لكي لا تتعرّض حيثية الرّسول واعتباره إلى أي نوع من التصدّع والخدش والآيات محلّ البحث تعتبر تحذيرا من ارتكاب مثل هذه الأعمال حفاظا على اعتبار الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

البداية كانت خطابا إلى الرّسول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ) .

ومن الواضح أنّ هذا التحريم ليس تحريما شرعيّا ، بل هو ـ كما يستفاد من الآيات اللاحقة ـ قسم من قبل الرّسول الكريم ، ومن المعروف أنّ القسم على ترك بعض المباحات ليس ذنبا.

وبناء على هذا فإنّ جملة( لِمَ تُحَرِّمُ ) لم تأت كتوبيخ وعتاب ، وإنّما هي نوع من الإشفاق والعطف.

تماما كما نقول لمن يجهد نفسه كثيرا لتحصيل فائدة معيّنة من أجل العيش ثمّ لا يحصل عليها ، نقول له : لماذا تتعب نفسك وتجهدها إلى هذا الحدّ دون أن تحصل على نتيجة توازي ذلك التعب؟

ثمّ يضيف في آخر الآية :( وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وهذا العفو والرحمة إنّما هو لمن تاب من زوجات الرّسول اللاتي رتّبن ذلك العمل وأعددناه. أو أنّها إشارة إلى أنّ الرّسول ما كان ينبغي له أن يقسم مثل هذا القسم الذي سيؤدّي ـ احتمالا ـ إلى ـ جرأة وتجاسر بعض زوجاته عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويضيف في الآية اللاحقة أنّ الله قد أوضح طريق التخلّص من مثل هذا

٤٤١

القسم :( قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ) (١) أي أعط كفّارة القسم وتحرّر منه.

ويذكر أنّ الترك إذا كان راجحا على العمل فيجب الالتزام بالقسم والحنث فيه ذنب تترتّب كفّارة عليه ، أمّا في الموارد التي يكون فيها الترك شيئا مرجوحا مثل «الآية مورد البحث» فإنّه يجوز الحنث في القسم ، ولكن من الأفضل دفع كفّارة من أجل الحفاظ على حرمة القسم واحترامه(٢) .

ثمّ يضيف :( وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

فقد أنجاكم من مثل هذه الأقسام ووضع لكم طريق التخلّص منها طبقا لعلمه وحكمته.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ النبي أعتق رقبة بعد هذا القسم وحلّل ما كان قد حرّمه بالقسم.

وفي الآية اللاحقة يتعرّض لهذا الحادث بشكل أوسع :( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ) .

ما هذا السرّ الذي أسرّه النبي لبعض زوجاته ثمّ لم يحفظنه؟

طبقا لما أوردناه في أسباب النزول فإنّ هذا السرّ يتكوّن من أمرين :

الأوّل : تناول العسل عند زوجته (زينب بنت جحش).

والثاني : تحريم العسل على نفسه في المستقبل.

أمّا الزوجة التي أذاعت السرّ ولم تحافظ عليه فهي «حفصة» حيث أنّها نقلت ذلك الحديث الذي سمعت به إلى عائشة.

__________________

(١) «الراغب» في «المفردات» ، يقول : إذا جاءت كلمة «فرض» مع «على» فإنّها تدلّ على الوجوب ، وأمّا إذا جاءت معها «لام» فإنّها تدلّ على عدم المنع وبهذا يكون الفرض في الآية السابقة هو السماح والإباحة وليس الوجوب. وعبارة «تحلّة» ـ مصدر من باب تفعيل ـ بمعنى إباحة والحلّية ، أو بتعبير آخر العمل على فتح عقدة القسم ، وهو الكفّارة.

(٢) كفّارة القسم حسب ما يستفاد من الآية (٨٦) من سورة المائدة عبارة عن إطعام عشرة مساكين ، أو إكساؤهم ، أو تحرير رقبة. وإن كان لا يقدر على شيء من ذلك فصيام ثلاثة أيّام.

٤٤٢

أمّا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد اطّلع على إفشاء هذا السرّ عن طريق الوحي ، وذكر بعضه «لحفصة» ومن أجل عدم إحراجها كثيرا لم يذكر لها القسم الثاني (ولعلّ القسم الأوّل يتعلّق بأصل شرب العسل ، والثاني هو تحريم العسل على نفسه).

وعلى كلّ فإنّه :( فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) .

ويتّضح من مجموع هذه الآيات أنّ بعض زوجات الرّسول لم يكتفين بإيذاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامهنّ ، بل لا يحفظن سرّه ، وحفظ السرّ من أهمّ صفات الزوجة الصالحة الوفيّة لزوجها ، وكان تعامل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهنّ على العكس من ذلك تماما إلى الحدّ الذي لم يذكر لها السرّ الذي أفشته كاملا لكي لا يحرجها أكثر ، واكتفى بالإشارة إلى جزء منه.

ولهذا جاء في الحديث عن الإمام عليعليه‌السلام : «ما استقصى كريم قطّ ، لأنّ الله يقول :( عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ) (١) .

ثمّ يتحدّث القرآن مع زوجتي الرّسول اللتين كانتا وراء هذا الحادث بقوله :( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) .

وقد اتّفق المفسّرون الشيعة والسنّة على أنّ تلك الزوجتين هما «حفصة بنت عمر» و «عائشة بنت أبي بكر».

«صغت» من مادّة «صغو» على وزن «عفو» بمعنى الميل إلى شيء ما ، لذلك يقال «صغت النجوم» «أي مالت النجوم إلى الغروب» ولهذا جاء اصطلاح «إصغاء» بمعنى الاستماع إلى حديث شخص آخر. والمقصود من «صغت قلوبكما» أي مالت من الحقّ إلى الباطل وارتكاب الذنب(٢) .

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ٣٩٢.

(٢) طبقا للتفسير الذي ذكرناه والذي اختاره أكثر المفسّرين فإنّ هناك شيئا محذوفا في الآية تقديره «إن تتوبا إلى الله كان خير لكما» أو تقدير آخر مشابه ، ولكن احتمل بعض آخر أنّه ليس هناك محذوف في الآية وجملة (صغت قلوبكما) جزاء الشرط (بشرط أن يكون الميل إلى الحقّ وليس العكس).

٤٤٣

ثمّ يضيف تعالى :( وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ) .

ويتّضح من هذا كم تركت هذه الحادثة من أثر مؤلم في قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروحه العظيمة ، ورغم قدرة الرّسول المتكاملة نشاهد أنّ الله يدافع عنه إذ يعلن حماية جبرائيل والمؤمنين له.

ومن الجدير بالذكر أنّه ورد في صحيح البخاري (ما مضمونه) عن ابن عبّاس أنّه قال : سألت عمر : من كانت المرأتان اللتان تظاهرتا على النبي من أزواجه ، فقال : تلك حفصة وعائشة ، قال : فقلت والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا قال : فلا تفعل ما ظننت أنّ عندي من علم فاسألني فإن كان لي علم خبّرتك به ، قال ثمّ قال عمر : والله إن كنّ في الجاهلية ما تعدّ للنساء أمرا حتّى أنزل الله فيهنّ ما أنزل وقسم لهنّ ما قسم ..»(١) .

وفي تفسير الدرّ المنثور ، ورد أيضا عن ابن عبّاس ضمن حديث مفصّل أنّه قال : قال عمر : «.. علمت بعد هذه الحادثة أنّ النبي اعتزل جميع النساء ، وأقام في «مشربة أمّ إبراهيم» ، فأتيته وقلت : يا رسول الله هل طلّقت نساءك؟ قال : لا. قلت : الله أكبر ، كنّا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر من ذلك فو الله إنّ أزواج النبي ليراجعنه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل فقلت لابنتي حفصة لا تفعلي ذلك أبدا وإن فعلته جارتك (يعني عائشة) لأنّك لست هي ..»(٢) .

__________________

ولكن هذا الاحتمال بعيد جدّا لأنّ الشرط جاء بصيغة الفعل المضارع بينما الجزاء بصيغة الفعل الماضي وهذا غير جائز في عرف أكثر النحويين ، ويذكر أنّ «قلوبكما» جاءت بصيغة الجمع لا المثنى ، وذلك لتلافي اجتماع ألفاظ التثنية بصورة متتالية الذي لا يتناسب مع بلاغة القرآن وفصاحته.

(١) صحيح البخاري ، ج ٦ ، ص ١٩٥.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٤٣.

٤٤٤

في آخر آية من هذه الآيات يخاطب الله تعالى جميع نساء النبي بلهجة لا تخلو من التهديد :( عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً ) .

لذا فهو ينذرهنّ ألّا يتصورن أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوف لن يطلّقهن ، أو يتصوّرن أنّ النبي لا يستبدلهنّ بنساء أخريات أفضل منهنّ ، وذلك ليكففن عن التآمر عليه وإلّا فسيحرمن من شرف منزلة «زوجة الرّسول» إلى الأبد ، وستأخذ نساء أخريات أفضل منهنّ هذا اللقب الكريم.

* * *

بحوث

١ ـ صفات الزوجة الصالحة :

يضع القرآن الكريم عدّة صفات للمرأة الصالحة التي يمكنها أن تكون نموذجا يقتدى به في انتخاب الزوجة اللائقة.

الأوّل «الإسلام» ثمّ «الإيمان» أي الإعتقاد الذي ينفذ ويترسّخ في أعماق قلب الإنسان. ثمّ حالة «القنوت» أي التواضع وطاعة الزوج. بعد ذلك «التوبة» ويقصد أنّ الزوجة إذا ما ارتكبت ذنبا بحقّ زوجها فإنّها سرعان ما تتوب وتعتذر عن ذلك. وتأتي بعد ذلك «العبادة» التي جعلها الله سبحانه ليطهّر بها قلب الإنسان وروحه ويصنعها من جديد ، ثمّ «إطاعة أوامر الله» والورع عن محارمه.

وممّا يذكر أنّ جماعة من المفسّرين ـ بل أكثرهم ـ اعتبروا كلمة «سائح» بمعنى «صائم» ولكن طبقا لما أورده «الراغب» في «المفردات» فإنّ الصوم على قسمين : «صوم حكمي» : وهو الامتناع عن تناول الطعام والماء ، و «صوم حقيقي» : وهو امتناع أعضاء الإنسان عن ارتكاب المعاصي.

والمقصود بالصوم هنا هو المعنى الثاني ، «إذ أنّ مناسبات الحال والمقام تقوّي

٤٤٥

قول الراغب وتجعله مناسبا ، غير أنّه يجب أن يعلم أنّ السائح فسّر أيضا بمعنى السائر في طريق طاعة الله»(١) .

ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن لم يعط أهميّة تذكر للباكر وغير الباكر ، فإنّه عند ما ذكر الصفات المعنوية للزوجة الصالحة ذكر هذه المسألة بصورة عابرة ودون أي تركيز.

٢ ـ من هم (صالح المؤمنين)؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ صالح المؤمنين ، لها معان واسعة تشمل جميع المؤمنين الصالحين الأتقياء الذين كمل إيمانهم ، ورغم أنّ كلمة (صالح) وردت هنا بصيغة المفرد ، ولكن يمكن أن يستفاد منها العموم لأنّها تتضمّن معنى الجنس(٢) .

ولكن ما هو المصداق الأكمل والأتمّ لهذا المصطلح؟

يستفاد من روايات عديدة أنّ المقصود هو الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام .

في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام يقول : «لقد عرّف رسول الله عليا أصحابه مرّتين : أمّا مرّة فحيث قال : «من كنت مولاه فعلي مولاه» وأمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية :( فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) أخذ رسول الله بيد علي فقال : أيّها الناس ، هذا صالح المؤمنين!!؟»

وقد نقل هذا المعنى في كتب عديدة لعلماء أهل السنّة منهم العلّامة «الثعلبي» و «الكنجي» في «كفاية الطالب» و «أبو حيّان الأندلسي» و «السبط ابن الجوزي»

__________________

(١) «سائح» من مادّة «السياحة» وكانت تطلق في الأصل بمعنى الجولان في العالم ، بدون زاد ومتاع ، والعيش اعتمادا على مساعدات الناس ، لذلك فالصائم الذي يمسك عن الطعام حتّى يحين وقت الإفطار ، شبيه بالسائح ، من هذه الناحية ، لذا أطلقت هذه اللفظة «السائح» على «الصائم».

(٢) يرى البعض أنّ كلمة «صالح» هنا ، تأتي بمعنى الجمع ، نظرا لأنّ واو «صالحوا» حذفت للإضافة لذا فإنّها لم تظهر في رسم الخطّ القرآني إلّا أنّ هذا المعنى بعيد في نظرنا.

٤٤٦

وغيرهم(١) .

وقد أورد جمع من المفسّرين منهم «السيوطي» في «الدرّ المنثور» في ذيل الآية مورد البحث و «القرطبي» في تفسيره المعروف ، وكذلك «الآلوسي» في «روح المعاني» في تفسير هذه الآية أوردوا هذه الرواية.

وبعد أن نقل مؤلّف (روح البيان) هذه الرواية عن (مجاهد) قال : ويؤيّد هذه الرواية الحديث المعروف : «حديث المنزلة» الذي وصف فيه الرّسول مكانة عليعليه‌السلام منه بقوله لعلي «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» نظرا لأنّ عنوان الصالحين استعمل في القرآن الكريم للإشارة إلى الأنبياء. منها( وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ ) (سورة الأنبياء الآية ٧٢) و( أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (٢) . (حيث أطلق في الاولى على مجموع الأنبياء وفي الثانية على يوسف).

ولكون علي بمنزلة هارون فإنّه سيكون كذلك مصداقا لـ (الصالح) (فتأمّل)! خلاصة القول : أنّ هناك عددا كثيرا من الأحاديث وردت في هذا المجال ، فبعد أن نقل المفسّر المعروف (المحدّث البحراني) في تفسير البرهان رواية في هذا المجال عن محمد بن عبّاس(٣) أنّه جمع ٥٢ حديثا تتناول هذا الموضوع من طريق الشيعة والسنّة ثم قام هو بنقل بعضها(٤) .

٣ ـ عدم رضا الرّسول عن بعض زوجاته

هناك على طول التاريخ عظماء كثيرون لم يحظوا بزوجات تناسب شأنهم واهتماماتهم ، ونتيجة لعدم توفّر الشروط اللازمة بزوجاتهم ، فقد ظلّوا يعانون من

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣١٦.

(٢) يوسف ، الآية ١٠١.

(٣) يبدو أنّ محمّد بن عبّاس هنا هو (أبو عبد الله المعروف بـ «ابن الحجّام» مؤلّف كتاب «ما أنزل من القرآن في أهل البيت» الذي قال جمع من العلماء : إنّه لم يؤلّف كتاب مثله إلى الآن) جامع الرواة ، ج ٢ ، ص ١٣٤.

(٤) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٣٥٣ ، ذيل الحديث ٢.

٤٤٧

ذلك كثيرا ، وقد ذكر لنا القرآن الكريم نماذج من هذه المعاناة وقعت للأنبياء العظام.

وربّما توضّح الآيات السابقة أنّ معاناة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعض أزواجه كانت من هذا القبيل ، فنظرا لوجود الغيرة والتسابق فيما بينهنّ كنّ يسبّبن متاعب للنبي الكريم. فقد كنّ أحيانا يعترضن عليه أو يفشين سرّه ، الأمر الذي جعل القرآن الكريم يوجّه لهنّ خطابا مباشرا بالتوبيخ وأصدر أقوى البيانات في هذا المجال ، حتّى أنّه هدّدهنّ بالطلاق. وقد لا حظنا الرّسول قد غضب على زوجاته وأظهر عدم رضاه لمدّة شهر تقريبا بعد نزول هذه الآيات أملا في إصلاحهنّ.

ويمكن أن نلاحظ بشكل واضح ـ من خلال حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّ بعض زوجاته لم يدركن مقام النبوّة فحسب ، بل قد يتعاملن معه كإنسان عادي ، وأحيانا يتعرضنّ له بالإهانة.

وبناء على هذا فإنّه لا معنى للإصرار على أنّ جميع زوجات الرّسول كنّ على قدر عال من الكمال واللياقة ، خصوصا مع الأخذ بالاعتبار صراحة الآيات السابقة.

ولم يكن هذا المعنى مقتصرا على حياة الرّسول فقط ، فبعد وفاته نقل لنا التاريخ أمثلة مشابهة ، خاصّة في قصّة حرب الجمل والموقف من خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جرى من امور ليس هنا مجال الخوض فيها.

ومن الواضح أنّ الآيات السابقة تقول بشكل صريح : إنّ الله سيعطي النبي زوجات صالحات تتوفّر فيهنّ الصفات المذكورة في الآيات إذا طلّقكن وسرحكن ، وهذا يكشف عن أنّ هناك من زوجات الرّسول ممّن لا تتوفّر فيهنّ تلك الصفات والشروط.

ويؤيّد ذلك ما جاء في سورة الأحزاب حول زوجات الرّسول.

٤٤٨

٤ ـ إفشاء السرّ

إنّ حفظ السرّ والمحافظة عليه وعدم إفشائه ، ليس فقط من صفات المؤمنين ، بل هي صفة ينبغي توفّرها بكلّ إنسان ذي شخصية قويّة محترمة ، وتتجلّى أهميّة هذه الصفة أكثر مع الأصدقاء والأقرباء وبالأخصّ بين الزوج والزوجة. وقد لا حظنا في الآيات السابقة كيف أنّ القرآن لام أزواج النبي بشدّة ووبّخهنّ على إفشائهنّ للسرّ وعدم محافظتهنّ عليه.

ورد عن أمير المؤمنين قوله : «جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ ومصادقة الأخيار ، وجمع الشرّ في الإذاعة ومؤاخاة الأشرار»(١) .

٥ ـ لا تحرّموا على أنفسكم ما أحلّه الله لكم

من المؤكّد أنّ الله لم يحلّل أو يحرّم شيئا إلّا طبقا لحسابات ومصالح دقيقة ، وبناء على هذا فلا مجال لأن يقوم الإنسان بتحليل الحرام أو تحريم الحلال حتّى مع القسم ، فإنّ الحنث جائز في مثل هذه الموارد.

نعم ، إذا كان مورد القسم من المباحات التي يكره عملها أو الأولى تركها ، يجب الالتزام بالقسم حينئذ.

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٤٦٩ ، مادّة الكتمان.

٤٤٩

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) )

التّفسير

قوا أنفسكم وأهليكم النار :

تخاطب الآيات السابقة جميع المؤمنين ، وترسم لهم المنهج الصالح لتربية الزوجات والأولاد والأسرة بشكل عامّ ، فهي تقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا

٤٥٠

أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) .

وذلك بحفظ النفس من الذنوب وعدم الاستسلام للشهوات والأهواء ، وحفظ العائلة من الانحراف بالتعليم والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتهيئة الأجواء الصالحة والمحيط الطاهر من كلّ رذيلة ونقص.

وينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهي منذ اللحظات الاولى لبناء العائلة ، أي منذ أوّل مقدّمات الزواج ، ثمّ مع أوّل لحظة لولادة الأولاد ، ويراعى ويلاحظ بدقّة حتّى النهاية.

وبعبارة اخرى : إنّ حقوق الزوجة والأولاد لا تقتصر على توفير المسكن والمأكل ، بل الأهمّ تربية نفوسهم وتغذيتها بالأصول والتعاليم الإسلامية وتنشئتها نشأة تربوية صحيحة.

والتعبير بـ «قوا» إشارة إلى أنّ ترك الأطفال والزوجات دون أيّة متابعة أو إرشاد سيؤدّي إلى هلاكهم ودخولهم النار شئنا أم أبينا. لذا عليكم أن تقوهم وتحذّروهم من ذلك.

«الوقود» هو المادّة القابلة للاشتعال مثل (الحطب) وهو بمعنى المعطي لشرارة النار كالكبريت ـ مثلا ـ فإنّ العرب يطلقون عليه (الزناد).

وبناء على هذا فإنّ نار جهنّم ليس كنيران هذا العالم ، لأنّها تشتعل من داخل البشر أنفسهم ومن داخل الصخور وليس فقط صخور الكبريت التي أشار إليها بعض المفسّرين ، فإنّ لفظ الآية مطلق يشمل جميع أنواع الصخور.

وقد اتّضح في هذا العصر أنّ كلّ قطعة من الصخور تحتوي على مليارات المليارات من الذرّات التي إذا ما تحرّرت الطاقة الكافية فيها فسينتج عن ذلك نار هائلة يصعب على الإنسان تصوّرها.

وقال بعض المفسّرين : إنّ «الحجارة» عبارة عن تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها.

٤٥١

ويضيف القرآن قائلا :( عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

وبهذا لا يبقى طريق للخلاص والهروب ، ولن يؤثّر البكاء والالتماس والجزع والفزع.

ومن الواضح أنّ أصحاب الأعمال والمكلّفين بتنفيذها ، ينبغي أن تكون معنوياتهم وروحيّتهم تنسجم مع تلك المهام المكلّفين بتنفيذها. ولهذا يجب أن يتّصف مسئولو العذاب والمشرفون عليه بالغلظة والخشونة ، لأنّ جهنّم ليست مكانا للرحمة والشفقة ، وإنّما هي مكان الغضب الإلهي ومحلّ النقمة والسخط الإلهيين. ولكن هذه الغلظة والخشونة لا تخرج هؤلاء عن حدّ العدالة والأوامر الإلهية. إنّما :( يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) دون أيّة زيادة أو نقصان.

وتساءل بعض المفسّرين حول تعبير (لا يعصون) الذي ينسجم مع القول بعدم وجود تكليف يوم القيامة. ولكن يجب الانتباه إلى أنّ الطاعة وعدم العصيان من الأمور التكوينية لدى الملائكة لا التشريعية.

بتعبير آخر : إنّ الملائكة مجبولون على الطاعة غير مختارين ، إذ لا رغبة ولا ميل لهم إلى سواها.

في الآية اللاحقة يخاطب الكفّار ويصف وضعهم في ذلك اليوم العصيب بقوله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

قد جاءت هذه الآية بعد الآية السابقة التي خاطب بها المؤمنين ، ليكون واضحا أنّ عدم الالتزام بأوامر الله وعدم الاهتمام بالنساء والأولاد والأهل قد تكون نتيجته وعاقبته كعاقبة الكفّار يوم القيامة.

والتعبير بـ( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يؤيّد هذه الحقيقة مرّة اخرى ، وهي أنّ جزاء المؤمنين يوم القيامة إنّما هو أعمالهم نفسها التي تظهر أمامهم وترافقهم.

وممّا يؤيّد ذلك أيضا التعبير الذي ورد في الآية السابقة الذي يقول إنّ نار جهنّم :

٤٥٢

( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) .

وممّا يجدر ذكره أنّ عدم قبول الاعتذار ناتج عن كونه نوعا من التوبة ، والتوبة لا تقبل في غير هذا العالم ، سواء كان قبل دخول النار أو بعد دخولها.

ويلقي القرآن الضوء في الآية اللاحقة على طريق النجاة من النار حيث يقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) .

نعم. إنّ أوّل خطوة على طريق النجاة هي التوبة والإقلاع عن الذنب ، التوبة التي يكون هدفها رضا الله والخوف منه. التوبة الخالصة من أي هدف آخر كالخوف من الآثار الاجتماعية والآثار الدنيوية للذنوب. وأخيرا التوبة التي يفارق بها الإنسان الذنب ويتركه إلى الأبد.

ومن المعلوم أنّ حقيقة التوبة هي الندم على الذنب ، وشرطها التصميم على الترك في المستقبل. وأمّا إذا كان العمل قابلا لأن يجبر ويعوّض فلا بدّ من الجبران والتعويض ، والتعبير بـ( يُكَفِّرَ عَنْكُمْ ) إشارة إلى هذا المعنى. وبناء على هذا يمكننا تلخيص أركان التوبة بخمسة امور (ترك الذنب ، الندم ، التصميم على الاجتناب في المستقبل ، جبران ما مضى ، الاستغفار).

«نصوح» من مادّة نصح ، بمعنى طلب الخير بإخلاص ، ولذلك يقال للعسل الخالص بأنّه (ناصح) وبما أنّ من يريد الخير واقعا يجب أن يكون عمله توأما للإتقان جاءت كلمة «نصح» أحيانا بهذا المعنى ، ولذا يقال للبناء المتين بأنّه «نصاح» ـ على وزن كتاب ـ ويقال للخيّاط «ناصح» ، وكلا المعنيين ـ أي الخلوص والمتانة ـ يجب توفّرهما في التوبة النصوح(١) .

وأمّا حول المعنى الحقيقي للتوبة النصوح؟ فقد وردت تفاسير مختلفة

__________________

(١) يتصوّر البعض أنّ «نصوح» اسم شخص معيّن ، وذكروا له قصّة مفصّلة ، ولكن يجب الالتفات إلى أنّ «نصوح» ليس اسما لشخص ، بل يعطي معنى وصفيّا رغم أنّه لا يبعد صحّة القصّة المذكورة.

٤٥٣

ومتعدّدة حتّى أوصلها البعض إلى ٢٣ تفسيرا(١) .

غير أنّ جميع هذه التفاسير تعود إلى حقيقة واحدة وفروعها والأمور المتعلّقة بها وشرائطها المختلفة.

ومن هذه التفاسير القول بأنّ التوبة (النصوح) يجب أن تتوفّر فيها أربعة شروط : الندم الداخلي ، الاستغفار باللسان ، ترك الذنب ، والتصميم على الاجتناب في المستقبل.

وقال البعض الآخر بأنّها (أي التوبة النصوح) ذات شروط ثلاثة (الخوف من عدم قبولها ، والأمل بقبولها ، والاستمرار على طاعة الله.

أو أنّ التوبة «النصوح» التي تجعل الذنوب دائما أمام أعين أصحابها ، ليشعر الإنسان بالخجل منها.

أو أنّها تعني إرجاع المظالم والحقوق إلى أصحابها ، وطلب التحليل وبراءة الذمّة من المظلومين ، والمداومة على طاعة الله.

أو هي التي تشتمل على امور ثلاثة : قلّة الأكل ، قلّة القول ، قلّة النوم.

أو التوبة النصوح هي التي يرافقها بكاء العين ، واشمئزاز القلب من الذنوب وما إلى ذلك من فروع التوبة الواقعية وهي التوبة الخالصة التامّة الكاملة.

جاء في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما سأله معاذ بن جبل عن «التوبة النصوح» أجابه قائلا : «أن يتوب التائب ثمّ لا يرجع في الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع»(٢) .

وبهذا التعبير اللطيف يتّضح أنّ التوبة يجب أن تحدث انقلابا في داخل النفس الإنسانية ، وتسدّ عليها أي طريق للعودة إلى الذنب ، وتجعل من الرجوع أمرا مستحيلا كما يستحيل إرجاع اللبن إلى الضرع والثدي.

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٦ و٦٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣١٨.

٤٥٤

وقد جاء هذا المعنى في روايات اخرى ، وكلّها توضّح الدرجة العالية للتوبة النصوح ، فإنّ الرجوع ممكن في المراتب الدنيا من التوبة ، وتتكرّر التوبة حتّى يصل الإنسان إلى المرحلة التي لا يعود بعدها إلى الذنب.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى آثار التوبة الصادقة النصوح بقوله :( عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

( وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) .

( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) .

( نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ) ويضيء لهم طريقهم في المحشر ويوصلهم إلى الجنّة.

وهنا يتوجّهون إلى الله بطلب العفو :( يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

وبذلك تكون التوبة (النصوح) لها خمس ثمرات مهمّة :

الاولى : غفران الذنوب والسيّئات.

الثانية : دخول الجنّة المملوءة بنعم الله.

الثالثة : عدم الفضيحة في ذلك اليوم العصيب الذي ترتفع فيه الحجب وتظهر فيه حقائق الأشياء ، ويفتضح الكاذبون الفجّار. نعم في ذلك اليوم سيكون للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين شأن عظيم ، لأنّهم لم ولن يقولوا إلّا ما هو واقع.

الرابع : أنّ نور إيمانهم وعملهم يتحرّك بين أيديهم فيضيء طريقهم إلى الجنّة.

(واعتبر بعض المفسّرين أنّ «النور» الذي يتحرّك أمامهم إنّما هو نور العمل ، وكان لنا تفسير آخر أوردناه في ذيل الآية ١٢ من سورة الحديد).

الخامس : يتجهون إلى الباري أكثر من ذي قبل ، ويرجونه تكميل نورهم والغفران الكامل لذنوبهم.

* * *

٤٥٥

بحثان

١ ـ تعليم وتربية العائلة

من الواضح أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عامّة على جميع الناس ولا تخصّ بعضا دون آخر. غير أنّ مسئولية الإنسان تجاه زوجته وأبنائه أكد من غيرها وأشدّ إلزاما ، كما يتجلّى ذلك بشكل واضح من الروايات الواردة في مصادر عديدة ، وكذلك الآيات السابقة التي تدعو الإنسان لأن يبذل أقصى جهده لتربية أهله وتعليمهم ، ونهيهم عن ارتكاب الذنوب وحثّهم على اكتساب الخيرات ، ولا ينبغي عليه أن يقنع ويكتفي بتوفير الغذاء الجسمي لهم.

وبما أنّ المجتمع عبارة عن عدد معيّن من وحدات صغيرة تدعى «العائلة» فإنّ الاهتمام بالعائلة وتربيتها تربية إسلامية صحيحة سيجعل أمر إصلاح المجتمع أسهل وأيسر.

وتبرز هذه المسؤولية أكثر وتكتسب أهميّة خاصّة في العصر الراهن ، حيث تجتاح المجتمع موجات من الفساد والضلال الخطرة ، وتحتاج إلى وضع برنامج دقيق ومدروس لتربية العائلة لمواجهة هذه الموجات دون التأثّر بها والانجراف مع تيارها.

فنار الآخرة ليست هي النار الوحيدة التي يكون مصدرها الإنسان نفسه ومن داخله ، بل نار الدنيا هي الاخرى تستمدّ وجودها من هذا الإنسان ، لهذا يجب على كلّ إنسان أن يقي نفسه وعائلته من هذه النار.

جاء في الحديث أنّ أحد الصحابة سأل النبي بعد نزول الآية السابقة : كيف أقي أهلي ونفسي من نار جهنّم ، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تأمرهم بما أمر الله ، وتنهاهم عمّا نهاهم الله ، إن أطاعوك كنت قد وقيتهم ، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك»(١) .

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٧٢.

٤٥٦

وفي حديث آخر جامع ولطيف عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ألا كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته ، فالأمير على الناس راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم ، ألا فكلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته»(١) .

ونختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير هذه الآية قال فيه :

«علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم»(٢) .

٢ ـ التوبة باب إلى رحمة الله

كثيرا ما تهجم على الإنسان الذنوب واللوابس ـ خاصّة في بدايات توجّهه وسلوكه إلى الله ـ وإذا أغلقت جميع أبواب العودة والرجوع بوجهه ، فإنّه سيبقى في نهجه هذا إلى الأبد ، ولهذا نجد الإسلام قد فتح بابا للعودة وسمّاه «التوبة» ، ودعا جميع المذنبين والمقصّرين إلى دخول هذا الباب لتعويض وجبران الماضي.

يقول الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام في مناجاة التائبين : «إلهي أنت الذي فتحت لعبادك بابا إلى عفوك سمّيته التوبة ، فقلت( تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه!!»(٣) .

وقد شدّدت الروايات على أهميّة التوبة إلى الحدّ الذي نقرأ في الحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها»(٤) .

__________________

(١) (مجموعة ورام) ، ج ١ ، ص ٦.

(٢) (الدرّ المنثور) ، ج ٦ ، ص ٢٤٤.

(٣) المناجاة الخامسة عشر.

(٤) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب التوبة ، الحديث ٨.

٤٥٧

كلّ هذه الروايات العظيمة تحثّ وتؤكّد على هذا الأمر الحياتي المهمّ.

لكن ينبغي التأكيد على أنّ التوبة ليست مجرّد (لقلقة لسان) وتكرار قول (استغفر الله) وإنّما للتوبة شروط وأركان مرّت الإشارة إليها في تفسير التوبة النصوح في الآيات السابقة.

وكلّما تحقّقت التوبة بتلك الشروط والأركان فإنّها ستؤتي ثمارها وتعفي آثار الذنب من قلب وروح الإنسان تماما ، ولذا ورد في الحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ»(١) .

وقد وردت بحوث اخرى عن التوبة في ذيل الآية (١٧) من سورة النساء وفي ذيل الآية (٥٣) من سورة الزمر.

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب التوبة ، الحديث ١٠.

٤٥٨

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢) )

التّفسير

نماذج من النساء المؤمنات والكافرات :

بما أنّ المنافقين يفرحون لإفشاء أسرار الرّسول وإذاعة الأخبار الداخلية عن بيته ، ويرحبون ببروز المشاجرات والاختلافات بين زوجاته ـ التي مضت

٤٥٩

الإشارة إليها في الآيات السابقة ـ بل إنّهم كانوا يساهمون في إشاعة تلك الأخبار وإذاعتها بشكل أوسع ، نظرا لكلّ ذلك فقد خاطب القرآن الكريم الرّسول بأن يشدّد على المنافقين والكافرين ويغلّظ عليهم. حيث يقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

الجهاد ضدّ الكفّار قد يكون مسلّحا أو غير مسلّح ، أمّا الجهاد ضدّ المنافقين فإنّه بدون شكّ جهاد غير مسلّح ، لأنّ التاريخ لم يحدّثنا أبدا عن أنّ الرّسول خاض مرّة معركة مسلّحة ضدّ المنافقين. لهذا ورد في الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ رسول الله لم يقاتل منافقا قطّ إنّما يتألّفهم»(١) .

وبناء على ذلك فإنّ المراد من الجهاد ضدّ المنافقين إنّما هو توبيخهم وإنذارهم وتحذيرهم ، بل وتهديدهم وفضحهم ، أو تأليف قلوبهم في بعض الأحيان. فللجهاد معنى واسع يشمل جميع ذلك. والتعبير بـ «أغلظ عليهم» إشارة إلى معاملتهم بخشونة وفضحهم وتهديدهم ، وما إلى ذلك.

ويبقى هذا التعامل الخاصّ مع المنافقين ، أي عدم الصدام المسلّح معهم ، ما داموا لم يحملوا السلاح ضدّ الإسلام وذلك بسبب أنّهم مسلمون في الظاهر ، وتربطهم بالمسلمين روابط كثيرة لا يمكن معها محاربتهم كالكفّار ، أمّا إذا حملوا السلاح فيجب أن يقابلوا بالمثل ، لأنّهم سوف يتحوّلون إلى (محاربين).

ولم يحدث مثل ذلك أيّام حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّه حدث في خلافة أمير المؤمنين عليعليه‌السلام حيث خاض ضدّهم معركة مسلّحة.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المقصود من «الجهاد ضدّ المنافقين» الذي ورد ذكره في الآية السابقة هو إجراء الحدود الشرعية بحقّهم ، فإنّ أكثر الذين كانوا تجرى عليهم الحدود هم من المنافقين. ولكن لا دليل على ذلك ، كما لا دليل على

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣١.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624