الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 624
المشاهدات: 185278
تحميل: 4716


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 185278 / تحميل: 4716
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 18

مؤلف:
العربية

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١

سورة

القلم

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥١٢

«سورة القلم»

محتوى السورة :

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة ، إلّا أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكيّة ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصا أخلاقه البارّة السامية الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسم البارئعزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٥١٣

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٧ ـ وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها ، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن).

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة سورة القلم :

نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال : «من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله»(٢) .

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصّا مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥١٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) )

التّفسير

عجبا لأخلاقك السامية :

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى :( ن ) .

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة ، خصوصا في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلّا أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

٥١٥

وبناء على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقا.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى :( وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء ، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عند ما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عند ما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصا. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاولى التي نزلت على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حديث يقول تعالى :

٥١٦

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (١) .

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ ، وهذا دليل أيضا على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها : (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي) ، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر) ، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة( ما يَسْطُرُونَ ) مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(٢) .

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) .

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلّا فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ ابتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك :( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي غير منقطع ، ولم لا

__________________

(١) العلق ، الآية ١ ـ ٥.

(٢) اعتبر البعض أنّ (ما) في (ما يسطرون) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنّها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : (ما يسطرونه) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير (ما يسطرون فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلّا أنّ المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.

٥١٧

يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التّهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

«ممنون» من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من «المنّة» ، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضا : إنّ المقصود من( غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بقوله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه ، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عند ما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس ـ لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاء بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك؟

«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخلق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ ، وكثرة البذل

٥١٨

والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا.

وفسّر الخلق العظيم أيضا بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله :( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) .

( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي من منكم هو المجنون(١) .

«مفتون» : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون.

نعم ، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلّا أنّ للناس عقلا وإدراكا ، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك ، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّا ، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم ، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئعزوجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام

__________________

(١) (الباء) في (بأيّكم) زائدة و (أيّكم) مفعول للفعلين السابقين.

٥١٩

الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الأمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اخرى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

وبلحاظ معرفة البارئعزوجل بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو انحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشا حينما رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم الإمام عليعليه‌السلام على الآخرين ويجلّه ويعظّمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله :( ن وَالْقَلَمِ ) وأقسم بذلك ، وإنّك يا محمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتّهامات ، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام عليعليه‌السلام (١) .

* * *

بحثان

١ ـ دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقا ـ هو ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٤ ، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنّة).

٥٢٠