الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196886 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الآيات

( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) )

التّفسير

يوم البعث والنشور :

تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفّار الذين كذّبوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يذعنوا للحقّ حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.

والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضّحة المصير البائس الذي ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة.

يقول سبحانه إنّ هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار ، بل جاءهم من الأخبار ما يوجب انزجارهم عن القبائح والذنوب :( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) وذلك ليلقي عليهم الحجّة.

وبناء على هذا فلا يوجد نقص في تبليغ الدعاة الإلهيين ، وما يوجد من

٣٠١

نقصان أو خلل يمكن فيهم ، حيث ليس لديهم روح تواقة لمعرفة الحقّ ولا آذان صاغية ، ونفوسهم متنكّبة عن التقوى والتدبّر في الآيات الإلهية.

والقصد من «الأنباء» الإخبار عن الأمم والأقوام السابقة الذين هلكوا بألوان العذاب المدمّر الذي حلّ بهم ، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفّار ، حيث اتّضحت كلّ تلك الأخبار في القرآن الكريم.

ويضيف تعالى :( حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ) فهذه الآيات حكم إلهيّة بليغة ومواعظ مؤثّرة ، إلّا أنّها لا تفيد أهل العناد(١) (٢) .

تبيّن هذه الآية أن لا نقص في «فاعلية الفاعل» ، أو تبليغ الرسل. لكن الأمر يكمن في مدى استعداد الناس وأهليتهم لقبول الدعوة الإلهيّة ، وإلّا فإنّ الآيات القرآنية والرسل والأخبار التي وردتهم عن الأمم السابقة والأخبار التي تنبؤهم عن أحوال يوم القيامة كلّ هذه الأمور هي حكمة بالغة ومؤثّرة في النفوس الخيّرة ذات الفطرة السليمة.

الآية التالية تؤكّد على أنّ هؤلاء ليسوا على استعداد لقبول الحقّ ، فأتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف ، وهو الدعوة إلى الحساب ، حيث يقول سبحانه :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ) (٣) .

وعلى هذا تكون عبارة :( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ) عبارة مستقلّة ومنفصلة عن جملة :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) . لكن البعض يرى أنّ كلّ واحدة من الجملتين مكمّلة للأخرى ، حيث يذهبون إلى أنّ قوله تعالى :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) جاءت بصيغة الأمر للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعراض عن المشركين الذين يرجون الشفاعة منه يوم القيامة عند ما يدعوهم

__________________

(١) (حكمة بالغة) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه حكمة بالغة).

(٢) نذر جمع نذير ويعني (المنذرين) والمقصود بالمنذرين هي الآيات القرآنية وأخبار الأمم والأنبياء الذين وصل صوتهم إلى أسماع الناس ، ويحتمل البعض أنّ (نذر) مصدر بمعنى إنذار. لكن المعنى الأوّل هو الأنسب. وضمنا فإنّ (ما) في عبارة (ما تغن بالنذر) نافية وليست استفهامية.

(٣) في الآية أعلاه (يوم) يتعلّق بمحذوف تقديره (اذكر) ويحتمل البعض أنّها تتعلّق بـ (يخرجون) ولكن ذلك مستبعد.

٣٠٢

الداعي الإلهي للحساب. وهذا الرأي مستبعد جدّا.

وهنا يثار السؤال التالي : هل الداعي هو الله سبحانه؟ أم الملائكة؟ أم إسرافيل الذي يدعو الناس ليوم الحشر عند ما ينفخ في الصور؟ أم جميع هؤلاء؟

ذكر المفسّرون احتمالات عدّة للإجابة على هذا التساؤل ، ولكن بالرجوع إلى قوله تعالى :( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) ،(١) يرجّح الرأي الأوّل. رغم أنّ الآيات اللاحقة تتناسب مع كون الداعي هم الملائكة المختّصون بشؤون الحساب والجزاء.

أمّا المراد من( شَيْءٍ نُكُرٍ ) (٢) فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن معلوما من حيث وقته قبل قيام الساعة ، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم ، أو جميع هذه الأمور ، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.

وفي الآية اللاحقة يبيّن الله سبحانه وتعالى توضيحا أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أنّ هؤلاء يخرجون من القبور في حالة :( خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ ) .

نسبة «الخشوع» هنا للأبصار لأنّ المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته ، لذلك فإنّها تتحوّل عنه وتطرّق نحو الأسفل.

والتشبيه هنا بالجراد المنتشر لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه ، كما هي حركة انتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والاضطراب خلافا للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصّة في الجو ، مضافا إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.

نعم ، إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة ، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة كما في قوله

__________________

(١) الإسراء ٢

(٢) (نكر) مفرد من مادّة (نكارة) وتعني الشيء المبهم المخيف.

٣٠٣

تعالى :( وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ) .(١)

والحقيقة أنّ هذا التشبيه هو ما ورد أيضا في الآية (٤) من سورة القارعة حيث يقول سبحانه :( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) .

وأمّا قوله تعالى :( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) فإنّ كلمة «مهطعين» تأتي من مادّة (إهطاع) أي مدّ الرقبة ، والبعض يرجعها إلى النظر بانتباه أو الركض بسرعة نحو الشيء ، ويحتمل أن تكون كلّ واحدة من هذه المعاني هي المقصودة ، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب ، لأنّ الإنسان عند سماعه لصوت موحش يمدّ رقبته على الفور وينتبه إلى مصدر الصوت ، ويمكن أن تكون هذه المفاهيم مجتمعة في الآية الكريمة حيث أنّ بمجرّد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثمّ يتبعه التوجّه بالنظر نحوه ، ثمّ الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهيّة العادلة عند دعوتهم إليها.

وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفّار والظالمين ، لذا يضيف سبحانه معبّرا عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله :( يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ) .

والحقّ أنّه يوم صعب وعسير. وهذا ما يؤكّده البارئعزوجل بقوله :( وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ) .(٢)

ويستفاد من هذا التعبير أنّ يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.

* * *

__________________

(١) الحجّ ، ٢.

(٢) الفرقان ، ٢٦.

٣٠٤

مسألة

لماذا كان يوم القيامة يوما عسيرا؟ :

ولماذا لا يكون عسيرا؟ في الوقت الذي يحاط فيه المجرمون بكلّ أجواء الرهبة والوحشة ، وخاصّة عند ما يستلمون صحائف أعمالهم حيث يصطرخون :( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) ،(١) هذا من جهة.

ومن جهة اخرى فإنّهم يواجهون بما ليس في الحسبان ، حيث يحاسبون بدقّة حتّى على أصغر الأعمال التي أدّوها ، سواء كانت صالحة أم طالحة :( إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) .(٢)

ومن جهة ثالثة ، لا سبيل يومئذ للتكفير عن الذنوب والتعويض بالطاعة ، والاعتذار عن التقصير ، حيث لا عذر يقبل ولا مجال للعودة مرّة اخرى إلى الحياة يقول تعالى :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .(٣)

ونقرأ كذلك في قوله تعالى :( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .(٤) . ولكن هيهات.

ومن جهة رابعة فإنّ العذاب الإلهي شديد ومرعب إلى درجة تنسي الامّهات أولادها ، وتسقط الحوامل أجنّتهن ، ويكون الجميع يومئذ في حيرة وذهول وفقدان للوعي كالسكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد ، قال تعالى :( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى

__________________

(١) الكهف ، ٤٩.

(٢) لقمان ، ١٦.

(٣) البقرة ، ٤٨.

(٤) الأنعام ، ٢٧.

٣٠٥

النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) .(١)

والدليل على اضطراب وهلع العاصين هو حالة التشبّث بالافتداء بكلّ ما في الدنيا أملا في الخلاص من العذاب الأليم ، قال تعالى :( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ، كَلَّا إِنَّها لَظى ) .(٢)

إذا ، هل يمكن مع كلّ هذه الأوصاف والأوصاف الأخرى المهولة التي وردت في آيات اخرى أن يكون ذلك اليوم يوما مريحا وبعيدا عن الهمّ والغمّ والشدّة؟!

(حفظنا الله جميعا في ظلّ لطفه ورعايته).

* * *

__________________

(١) الحجّ ، ٢.

(٢) المعارج ، ١١ ـ ١٥.

٣٠٦

الآيات

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) )

التّفسير

قصّة قوم نوح عبرة وعظة :

جرت السنّة القرآنية في كثير من الموارد أنّ الله سبحانه يستعرض حالة الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذارا وتوضيحا (للكفّار والمجرمين) بأنّ الاستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدّي بهم إلّا إلى المصير البائس الذي لاقته الأقوام السابقة.

٣٠٧

وفي هذه السورة ، إكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة ، في إثارات وإشارات مختصرة ومعبّرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة ابتداء من قوم نوح كما في قوله تعالى :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) . فمضافا إلى تكذيبه واتّهامه بالجنون صبّوا عليه ألوان الأذى والتعذيب ومنعوه من الاستمرار في أداء رسالته.

فتارة يقولون له مهدّدين ومنذرين( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) .(١)

وتارة اخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتّى يفقد وعيه ، ولكنّه ما أن يفيق إلى وعيه حتّى يقول : «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»(٢) .

وخلاصة القول فإنّ قوم نوح مارسوا كلّ وسيلة لأذى نبيّهم ، ومع ذلك فإنّه لم يتوقّف عن التبليغ والإرشاد أملا في هدايتهم.

والجدير بالذكر أنّنا نلاحظ أنّ لفظ (التكذيب) قد ورد مرّتين ، ولعلّ السبب أنّه ورد في الحالة الاولى (مختصرا) وفي الثانية (مفصّلا).

والتعبير بـ «عبدنا» إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في الواقع يبارزون الله تعالى لا مجرّد شخص «نوح».

كلمة (وازدجر) أصلها (زجر) بمعنى الطرد ، وهو الإبعاد المقترن بصوت شديد ، كما أنّه يطلق على كلّ عمل يراد منه منع الشخص من الاستمرار به.

والظريف في هذه الآية أنّ الفعل (قالوا) أتى بصورة فعل معلوم (وازدجر) بصيغة فعل مجهول ولعلّ ذلك للإشارة إلى أنّ عدم ذكر الفاعل هنا للترفّع عن ذكر قوم نوح بسبب سوء وقبح الأعمال التي مارسوها والتي كانت أقذر وأقبح من أقوالهم ، ممّا يكون سببا في عدم ذكرهم بالصيغة المعلومة كما في قوله تعالى :

__________________

(١) الشعراء ، ١١٦.

(٢) تفسير الكشّاف وأبو الفتوح والرازي هامش الآية مورد البحث

٣٠٨

( قالُوا ) .

ثمّ يضيف تعالى أنّ نوح عند ما يئس من هداية قومه تماما :( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (١) .

والغلبة المذكورة في الآية الكريمة لم تكن غلبة في الحجّة والدليل أو البرهان على عدم صحّة الدعوة ، وإنّما كانت تتجسّد بالظلم والجناية والتكذيب والإنكار وأنواع الزجر والضغوط ولهذا فإنّ هؤلاء القوم لا يستحقّون البقاء ، فانتقم لنا منهم وانصرنا عليهم.

نعم ، فهذا النّبي العظيم كان يطلب من الله المغفرة لقومه ما دام يأمل في هدايتهم وصلاحهم ، ولكن عند ما يئس منهم غضب عليهم ولعنهم ودعا ربّه أنّ ينتقم منهم.

ثمّ يشير هنا إشارة معبّرة وقويّة في كيفية العذاب الذي ابتلوا به وصبّ عليهم حيث يقول سبحانه :( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) .

إنّ تعبير انفتاح أبواب السماء لتعبير رائع جدّا ، ويستعمل عادة عند هطول الأمطار الغزيرة.

(منهمر) من مادّة (همر) على وزن (صبر) وتعني النّزول الشديد للدموع أو الماء ، ويستعمل هذا التعبير أيضا عند ما يستدر الحليب من الضرع حتّى النهاية.

والعجيب هنا أنّه ورد في أقوال المفسّرين أنّ قوم نوح كانوا قد أصيبوا بالجدب لعدّة سنوات قد خلت ، وكانوا يرتقبون بتلهّف سقوط المطر عليهم ، وفجأة ينزل المطر ولكن لا ليحيي أرضهم ويزيد خيرهم بل ما حقا ومميتا لهم(٢) .

ويذكر أنّ الماء الذي أدّى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط ، بل

__________________

(١) (انتصر) : طلب العون كما في الآية (٤١) سورة الشورى ، وهنا جاءت بمعنى طلب الانتقام على أساس العدل والحكمة كما فسّرها البعض في التقدير (انتصر لي).

(٢) روح المعاني هامش الآية مورد البحث.

٣٠٩

كان من تفجير العيون في الأرض حيث يقول تعالى :( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ) (١) وهكذا اختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدّر وملأ البسيطة :( فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) .

إنّ هذا التعبير يجسّد حالة الطوفان الذي غمر الأرض ، إلّا أنّ بعض المفسّرين فسّروا عبارة (قد قدر) بقولهم : إنّ كميّتي المياه المتدفّقة من الجانبين المتقابلين كانتا متساويتين في مقاديرهما بصورة دقيقة ، إلّا أنّ الرأي الأوّل هو الأرجح.

وخلاصة الأمر : إنّ الماء قد فار من جميع جهات الأرض وفجّرت العيون وهطلت الأمطار من السماء ، واتّصل الماء بعضه ببعض وشكّل بحرا عظيما وطوفانا شديدا.

وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان ، لأنّ ما قيل فيها من الآيات السابقة يعتبر كافيا فتنتقل إلى سفينة نجاة نوحعليه‌السلام حيث يقول تعالى :( وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ) .

(دسر) جمع (دسار) على وزن (كتاب) ، كما يقول الراغب في المفردات ، أنّها في الأصل بمعنى الإبعاد أو النهر بشدّة مقترنا مع حالة عدم الرضا ، ولكون المسمار عند ما يتعرّض للطرق الشديد يدخل في الخشب وما شاكل فيقال له (دسار).

وذكر قسم من المفسّرين أنّ معنى هذه الكلمة هو (الحبل) مشيرين بذلك إلى حبال أشرعة السفينة وما إلى ذلك ، والتّفسير الأوّل هو الأرجح نظرا لذكر كلمة (ألواح).

على كلّ حال ، فإنّ التعبير القرآني هنا ظريف ، لأنّه كما يقول البارئعزوجل بأنّنا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم ، الذي غمر كلّ شيء أودعنا أمر نجاة

__________________

(١) «عيونا» : يمكن أن تكون تميّزا للأرض والتقدير فجرنا عيون الأرض ، ثمّ إنّ العيون مفعول به منفصل وقد جاءت بصورة تمييز كي تعبّر عن المبالغة والأهميّة وكأنّ الأرض جميعا تحوّلت إلى عيون.

٣١٠

نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب ، وأنّها أدّت هذه الوظيفة على أحسن وجه ، وهكذا تتجلّى القدرة الإلهيّة العظيمة.

ويمكن أن يستفاد من هذا التعبير طبيعة البساطة التي كانت عليها سفن ذلك الزمان والتي هي بعيدة عن التعقيد والتكلّف قياسا مع السفن المتقدّمة في العصور اللاحقة. ومع ذلك فإنّ سفينة نوحعليه‌السلام كان حجمها بالقدر المطلوب وطبق الحاجة ، وطبقا للتواريخ فإنّ نوحعليه‌السلام قد أمضى عدّة سنين في صنعها كي يتمكّن من وضع (من كلّ زوجين إثنين) من مختلف الحيوانات فيها.

ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصّصة لنجاة نوحعليه‌السلام حيث يقول سبحانه( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) أي أنّ هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهيّة ، وتشقّ الأمواج العالية بقوّة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.

إنّ التعبير (بأعيننا) كناية ظريفة للدلالة على المراقبة والرعاية للشيء ويتجسّد هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى في الآية (٣٧) من سورة هود :( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) .

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) هو الإشارة إلى الشخصيات المهمّة التي كانت على ظهر السفينة ، وبناء على هذا فإنّ المقصود من قوله تعالى :( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) (١) أنّ تلك السفينة كانت تحمل عباد الله الخالصين المخلصين ، ونظرا لطبيعة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في الآيات القرآنية الاخرى فإنّ الرأي الأوّل هو الأصحّ.

ويحتمل أيضا أنّ المراد بجملة (بأعيننا) هو الملائكة التي كان لها الأثر في هداية سفينة نوحعليه‌السلام ، ولكن هذا الرأي ضعيف أيضا لسبب أعلاه.

ثمّ يضيف تعالى :( جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ) (٢) .

__________________

(١) «أعين» جمع عين ، وإحدى معانيها العين الباصرة ، والمعنى الآخر لها هو : الشخصية المعتبرة ، ولها معان اخرى.

(٢) يجدر بالملاحظة هنا أنّ فعل (كفر) مبني للمجهول ، والمراد به نوحعليه‌السلام الذي كفر به ، وليس فعلا معلوما يشير إلى

٣١١

نعم إنّ نوحعليه‌السلام كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهيّة عظيمة وموهبة من مواهبه الكبيرة على البشرية ، إلّا أنّ قومه الحمقى كفروا به وبرسالته(١) .

ثمّ يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصّة العظيمة موضع العظّة والإعتبار :( وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

والحقيقة أنّ كلّ ما كان يستحقّ الذكر في هذه القصّة قد قيل ، وكلّما ينبغي للإنسان الواعي المتّعظ أن يدركه فهو موجود.

واستنادا إلى هذا التّفسير المنسجم مع الآيات السابقة واللاحقة ، فإنّ الضمير في (تركناها) يرجع إلى قصّة الطوفان وماضي نوحعليه‌السلام ومخالفيه. ولكن البعض يرى أنّ المراد هو (سفينة نوح) لأنّها بقيت مدّة من الزمن شاخصة لأنظار العالم ، وكلّما يراها أحد تتجسّد أمامه قصّة الطوفان الذي حلّ بقوم نوحعليه‌السلام ، ومع علمنا بأنّ بقايا سفينة نوحعليه‌السلام كانت حتّى عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنّ البعض من المعاصرين ادّعى رؤية بقاياها في جبال (آرارات) في القفقاز ، عندئذ يمكن أن يكون المعنيان مقصودين في الآية الكريمة.

ولهذا فإنّ قصّة نوحعليه‌السلام كانت آية للعالمين ، وكذا سفينته التي بقيت ردحا من الزمن بين الناس(٢) .

وفي الآية اللاحقة يطرح الله سبحانه سؤالا معبّرا ومهدّدا للكافرين الذين اتّبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

هل هذه حقيقة واقعة ، أم قصّة واسطورة؟

__________________

الكفّار.

(١) إذا لم يكن في الآية شيء مقدّر فيكون نائب الفاعل للفعل (كفر) هو شخص نوحعليه‌السلام حين أنّهعليه‌السلام يكون النعمة التي (كفر) بها ، أمّا إذا قلنا أنّ للآية محذوف مقدّر ، فيكون تقديره (كفر به) فعندئذ تكون إشارة إلى عدم الإيمان بنوحعليه‌السلام وتعاليمه.

(٢) لقد ذكرت أبحاث مفصّلة حول قصة قوم نوحعليه‌السلام في هامش الآيات الكريمة ٢٥ ـ ٤٩ من سورة هود

٣١٢

ويضيف مؤكّدا هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

نعم إنّ هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسّد لعناصر التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها ، وحيوية عباراته وصراحتها في عرض المطالب ترغيبا وتهديدا ، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير بالإضافة إلى قوّة دلائله وأحكامها ومنطقه المتين ، واحتوائه على كلّ ما يلزم من عناصر التأثير لذا فإنّ القلوب المهيأة لقبول الحقّ والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج العقل تنجذب بصورة متميّزة ، والشاهد على هذا أنّ التأريخ الإسلامي يذكر لنا قصصا عديدة عجيبة محيّرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيّرة.

ولكن ما العمل حينما تكون النطفة لبذرة ما ميتة ، حتّى لو هيّأ لزراعتها أخصب الأراضي ، وسقيت بماء الكوثر ، واعتني بها من قبل أمهر المزارعين ، فإنّها لن تنمو ولن تزهر وتثمر أبدا.

* * *

٣١٣

الآيات

( كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) )

التّفسير

مصير قوم عاد :

تستعرض الآيات الكريمة أعلاه وباختصار أخبار نموذج آخر من الكفّار والمجرمين بعد قوم نوح ، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكّب طريق الحقّ والهداية الإلهية.

وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى :( كَذَّبَتْ عادٌ ) .

لقد بذل هودعليه‌السلام غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحقّ الذي جاء به من عند الله ، وكانعليه‌السلام كلّما ضاعف سعيه وجهده لانتشالهم من الكفر والضلال ازدادوا إصرارا ونفورا ولجاجة في غيّهم وغرورهم الناشئ من الثراء والإمكانات المادية ، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة انغماسهم في الشهوات ، جعلتهم صمّ الآذان ،

٣١٤

عمّي العيون ، فجازاهم الله بعقاب أليم وعذاب شديد ، ولهذا تشير الآية الكريمة باختصار حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول سبحانه :( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) .

«صرصر» من مادّة (صرّ) على وزن (شرّ) ، وفي الأصل تعني (الإغلاق والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد ، ولأنّ الرياح التي عذّبوا بها كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز ، لذا اطلق عليها (صرصر).

أمّا (نحس) ففي الأصل معناها (الاحمرار الشديد) الذي يظهر في الأفق أحيانا ، كما يطلق العرب أيضا كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان ، ثمّ أطلق هذا المصطلح على كلّ (شؤم) مقابل (السعد).

«مستمر» صفة لـ (يوم) أو لـ (نحس) ومفهومه في الحالة الاولى هو استمرار حوادث ذلك اليوم كما في قوله تعالى :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) .(١)

وتعني في الحالة الثانية استمرار نحوسة ذلك اليوم حتّى هلك الجميع.

كما يفسّر البعض معنى (النحس) بأنّه حالة الجو المكفهر المغبّر ، لأنّ العاصفة كانت مغبرة إلى درجة أنّها لم تسمح برؤية بعضهم البعض. وعند ما شاهدوا العاصفة من بعيد ظنّوا أنّها غيوم محملة بالأمطار متّجهة نحوهم ، وسرعان ما تبيّن لهم أنّها ريح عاتية لا تبقي ولا تذر أمرت بعذابهم والانتقام منهم ، كما في قوله تعالى :( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ. مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) .(٢)

إنّ هذين التّفسيرين غير متنافيين ، ويمكن جمعهما في معنى الآية الكريمة

__________________

(١) الحاقّة ، ٧

(٢) الأحقاف ، ٢٤.

٣١٥

مورد البحث.

ثمّ يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله :( تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) .

«منقعر» من مادّة (قعر) بمعنى أسفل الشيء أو نهايته ، ولذا يستعمل هذا المصطلح بمعنى قلع الشيء من أساسه.

كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا التعبير أنّ ضخامة الهياكل وقوّة الأبدان التي كان عليها قوم عاد لم تغنهم من فتك الريح بهم وهلاكهم حيث ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ قوم عاد حاولوا التخلّص من العذاب الذي باغتهم وذلك بأن التجأوا إلى حفر عميقة وملاجئ تحت الأرض لحفظ أنفسهم ، ولكن دون جدوى حيث أنّ الريح كانت من القوّة بحيث قلعتهم من أعماق تلك الحفر وقذفت بهم من جهة إلى اخرى ، حتّى قيل أنّها كانت تدحرجهم وتجعل أعلى كلّ منهم أسفله وتفصل رؤوسهم عن أجسادهم.

«أعجاز» جمع (عجز) ـ على وزن (رجل) ـ بمعنى خلف أو تحت ، وقد شبّهوا بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأنّ شدّة الريح قطّعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتّجاهها ، وبقيت أجسادهم المقطّعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطّعة الرؤوس ، ثمّ قلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.

وللسبب المذكور أعلاه ، يكرّر الله سبحانه وتعالى إنذاره للكفّار بقوله :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان والعصيان ، فعليكم أن تتفكّروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي سلكوه!!

وفي نهاية القصّة يؤكّد قوله سبحانه :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) فهل هنالك من آذان صاغية وقلوب واعية لهذا النداء الإلهي والإنذار

٣١٦

الربّاني؟.

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) حيث تكرّرت مرّتين : الأولى : في بداية الحديث عن قصّة قوم عاد ، والثانية : في نهايتها. ولعلّ سبب هذا الاختلاف بين قوم عاد والأقوام الاخرى ، أنّ عذاب قوم عاد كان أكثر شدّة وانتقاما ، رغم أنّ جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.

* * *

بحث

سعد الأيّام ونحسها :

الشيء المتعارف بين الناس ، هو أنّ بعض الأيّام سعيدة ومباركة ، والبعض الآخر نحس ومشؤوم ، مع وجود اختلاف كثير في تشخيصها.

ويدور الحديث حول مدى قبولها إسلاميا ، وهل أنّها مأخوذة من تعاليم الإسلام أم لا؟.

من الناحية العقلية لا يعدّ اختلاف أجزاء الزمان من هذه الجهة محالا ، بأن يتّصف بعضها بالنحوسة والاخرى بالبركة والسعد. ولا نملك أي استدلال عقلي لإثبات أو نفي هذا المعنى ، ولهذا نستطيع القول : إنّ هذا الأمر بهذا القدر شيء ممكن ، ولكنّه غير ثابت من الناحية العقلية.

وبناء على ذلك فإذا كانت لدينا دلائل شرعية لهذا المعنى ثبتت عن طريق الوحي فلا مانع من قبولها ، بل الالتزام بها.

وحول (نحس الأيّام) تشير الآيات القرآنية مرّتين إلى هذا الموضوع ، الاولى في الآيات مورد البحث ، والثانية : في قوله تعالى :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً

٣١٧

صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) (١) (٢) .

وفي مقابل «النحوسة» فإنّنا نلاحظ في بعض الآيات القرآنية تعبير (مبارك) كما في قوله تعالى حول ليلة القدر :( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) .(٣)

وقلنا إنّ «نحس» مأخوذ في الأصل من صورة الاحمرار الشديد في الأفق ، الذي يشبه النار المتوهّجة الخالية من الدخان والتي يطلق عليها (النحاس). وبهذه المناسبة استعمل في معنى الشؤم.

ومن هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم لم يتطرّق لهذه المسألة إلّا من خلال إشارة مغلقة فقط. لكنّنا حينما نقرأ في الكتب الإسلامية ، يواجهنا العديد من الرّوايات في هذا المجال ، مع العلم أنّ الكثير منها ضعيف ، وأنّ البعض الآخر منها موضوع أو ملفّق ، أو مشوب بالخرافات. وليست جميعا كذلك ، بل هناك ما هو معتبر منها وموضع اطمئنان كما يؤكّد المفسّرون صحّة ذلك من خلال تفسير الآيات أعلاه.

ويذكر لنا المحدّث الكبير العلّامة المجلسي روايات عديدة في هذا المجال في بحار الأنوار(٤) .

وفي هذا المجال نستطيع إيراد الملاحظات التالية :

أ ـ لقد ذكروا في روايات عديدة (سعد ونحس) الأيّام ، وكذلك الحوادث التي وقعت فيها ، حيث نقرأ في الرّواية التالية في أسئلة الشامي لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : (أخبرني عن يوم الأربعاء والتطيّر منه وثفله ، وأي أربعاء هو) ، قالعليه‌السلام : «آخر أربعاء من الشهر ، وهو المحاق ، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه ، ويوم الأربعاء أرسل

__________________

(١) يجدر الانتباه إلى أنّ نحسات جاءت صفة للأيّام ، وذلك يعني أنّ الأيّام المذكورة وصفت بالنحوسة ، في الوقت الذي ذكرت كلمة (يوم) في الآية الكريمة (في يوم نحس مستمر) إضافة لـ (النحس) وليست وصفا ولكن بقرينة الآية أعلاه يجب القول : إنّ الإضافة هنا تكون إضافة موصوف إلى صفة (يرجى الانتباه).

(٢) فصّلت ، ١٦.

(٣) الدخان ، ٣.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٥٩ كتاب السماء والعالم ، ص ١ ـ ٩١ وما بعدها.

٣١٨

اللهعزوجل الريح على قوم عاد»(١) .

ومن هنا فإنّ الكثير من المفسّرين يرتّبون أثرا على هذه الرّوايات ، ويعتبرون أنّ آخر أربعاء من كلّ شهر هو يوم نحس ، ويطلقون عليه (أربعاء لا تدور) أي لا تتكرّر.

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ اليوم الأوّل من كلّ شهر هو سعد ومبارك ، وذلك لأنّ آدمعليه‌السلام خلق في هذا اليوم ، وكذلك فإنّ اليوم ٢٦ من كلّ شهر يوم مبارك ، حيث : (ضرب موسى فيه البحر فانفلق)(٢) .

كما أنّ اليوم الثالث من كلّ شهر ، هو يوم نحس ، نزع عن آدم وحواء لباسهما وأخرجا من الجنّة(٣) .

كما أنّ اليوم السابع من كلّ شهر هو يوم مبارك ، لأنّ نوحعليه‌السلام قد ركب في السفينة (ونجا من الغرق)(٤) .

ونقرأ في الحديث التالي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا المعنى حول يوم (النوروز) حيث يقول :

«... يوم مبارك استوت فيه سفينة نوح على الجودي ، وهو اليوم الذي نزل فيه جبرائيل على النبي ، وهو اليوم الذي حمل فيه رسول الله أمير المؤمنين على منكبه حتّى رمى أصنام قريش من فوق البيت الحرام فهشّمها وهو اليوم أمر النّبي أصحابه أن يبايعوا عليا بإمرة المؤمنين ...»(٥) .

وقد اقترن سعد ونحس الأيّام بذكر بعض الوقائع التأريخية الحسنة والسيّئة كما في العديد من الرّوايات ، فمثلا ما ذكر عن يوم عاشوراء الذي اعتبره الامويون

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٨٣ حديث (٢٥).

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٠٥.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٨.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦١.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ٩٢.

٣١٩

يوم سعد لمّا حقّقوا فيه وبظنّهم من انتصار على أهل البيتعليه‌السلام نلاحظ الرّوايات تنهى بشدّة عن التبرّك في مثل هذا اليوم ، كما تحذر من ادّخار الأقوات السنوية فيه ، والابتعاد عن أجواء الاحتفالات التي كان يقيمها الامويون في هذا اليوم وكذلك تؤكّد على تعطيل الأعمال فيه.

ومن ملاحظة مجموعة الرّوايات السابقة ، دفع البعض أن يفسّر مسألة سعد ونحس الأيّام على أنّها مجعولة من أجل شدّ المسلمين بهذه الحوادث التاريخيّة المهمّة ، وحثّهم عمليّا على تطبيق ما تستلزمه تلك الحوادث من التفاعل وما تفرزه من معطيات ، وكذلك الابتعاد عن محطّات الحوادث السيّئة واجتناب سبلها.

ويمكن أن يصدّق هذا التّفسير في قسم من هذه الرّوايات ولا يصدق على القسم الآخر منها ، ذلك لأنّ المستفاد من البعض منها أنّ هنالك تأثيرا ملموسا في بعض الأيّام (إيجابا وسلبا) وليس لنا تفسير أو علم لهذا التأثير.

ب ـ ممّا يجدر الانتباه إليه أنّ هنالك من يفرط في موضوع سعد ونحس الأيّام ، بحيث إنّهم يمتنعون من الشروع بأي عمل إلّا بالاعتماد على هذه الخلفية ، وبذلك يفوتون عليهم فرصا كثيرة يمكن الاستفادة منها.

وبدلا من التعمّق في البحث الموضوعي الذي تحسب فيه حسابات الربح والخسارة والاستفادة من الفرص والتجارب الثرية فإنّهم يرجعون كسب الأرباح إلى سعد الأيّام والانتكاسات والخسارة إلى شؤم الأيّام وهذا المنهج يعبّر عن الانهزام من الواقع والهروب من الحقيقة والإفراط في التعليل الخرافي لحوادث الحياة الذي يجب أن نحذّره ونتجنّبه بشدّة.

والجدير بنا في هذه المسائل أن لا نعطي آذانا صاغية لأقوال المنجّمين والإشاعات المنتشرة في الأجواء الاجتماعية المتخلّفة ، ولا لحديث أولئك الذين يدّعون المعرفة المستقبلية لفأل الأشخاص ، ونستمرّ في حياتنا العملية بجهد حثيث وخطى ثابتة وبالتوكّل على الله وبروح موضوعية بعيدة عن التأثّر بهذه

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

الغاضبة.

وأضاف قسم آخر في توضيح هذا المعنى ، أنّهم يريدون قتلك بالحسد عن طريق العين ، وهو ما يعتقد به الكثير من الناس ، لوجود الأثر المرموز في بعض العيون والتي يمكن أن تؤثّر على الطرف الآخر بنظرة خاصّة تميت المنظور.

٢ ـ وقال البعض الآخر : إنّها كناية عن نظرات ملؤها الحقد والغضب ، كما يقال عرفا : إنّ فلانا نظر إليّ نظرة وكأنّه يريد التهامي أو قتلي.

٣ ـ ويوجد تفسير آخر للآية الكريمة يحتمل أن يكون أقرب التفاسير ، وهو أنّ الآية الكريمة أرادت أن تظهر التناقض والتضادّ لدى هؤلاء المعاندين ، وذلك أنّهم يعجبون ويتأثّرون كثيرا عند سماعهم الآيات القرآنية بحيث يكادون أن يصيبوك بالعين (لأنّ الإصابة بالعين تكون غالبا في الأمور التي تثير الإعجاب كثيرا) إلّا أنّهم في نفس الوقت يتّهمونك بالجنون ، وهذا يمثّل التناقض حقّا. إذ أين الجنون ولغو الكلام وأين هذه الآيات المثيرة للإعجاب والنافذة في القلوب؟

إنّ هؤلاء ذوي العقول المريضة لا يدركون ما يقولون وما وقعوا فيه من التناقض فيما ينسبونه إليك.

وعلى كلّ حال فإنّ ما يتعلّق بموضوع حقيقة إصابة العين وصحّتها ـ من وجهة النظر الإسلامية أو عدمها ، وكذلك من وجهة نظر العلوم الحديثة ، فهذا ما سنستعرضه في البحوث التالية إن شاء الله.

وأخيرا يضيف تعالى في آخر آية :( وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) .

حيث أنّ معارف القرآن الكريم واضحة ، وإنذاراته موقظة ، وأمثاله هادفة ، وترغيباته وبشائره مربّية ، وبالتالي فهو عامل وسبب ليقظة النائمين وتذكرة للغافلين ، ومع هذا فكيف يمكن أن ينسب الجنون إلى من جاء به؟

وتماشيا مع هذا الرأي فإنّ (ذكر) على وزن (فكر) تكون بمعنى (المذكّر).

وفسّرها البعض الآخر بمعنى (الشرف) ، وقالوا : إنّ هذا القرآن شرف لجميع

٥٦١

العالمين ، وهذا ما هو وارد ـ أيضا ـ في قوله تعالى :( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) (١) .

إلّا أنّ (الذكر) هنا بمعنى المذكّر والمنبّه ، بالإضافة إلى أنّ أحد أسماء القرآن الكريم هو (الذكر) وبناء على هذا ، فإنّ التّفسير الأوّل أصحّ حسب الظاهر.

* * *

بحث

هل أنّ إصابة العين لها حقيقة؟

يعتقد الكثير من الناس أنّ لبعض العيون آثارا خاصّة عند ما تنظر لشيء بإعجاب ، إذ ربّما يترتّب على ذلك الكسر أو التلف ، وإذا كان المنظور إنسانا فقد يمرض أو يجنّ

إنّ هذه المسألة ليست مستحيلة من الناحية العقلية ، حيث يعتقد البعض من العلماء المعاصرين بوجود قوّة مغناطيسية خاصّة مخفية في بعض العيون بإمكانها القيام بالكثير من الأعمال ، كما يمكن تدريبها وتقويتها بالتمرين والممارسة ، ومن المعروف أنّ «التنويم المغناطيسي» يكون عن طريق هذه القوّة المغناطيسية الموجودة في العيون.

إنّ (أشعة ليزر) هي عبارة عن شعاع لا مرئي يستطيع أن يقوم بعمل لا يستطيع أي سلاح فتّاك القيام به ، ومن هنا فإنّ القبول بوجود قوّة في بعض العيون تؤثّر على الطرف المقابل ، وذلك عن طريق أمواج خاصّة ليس بأمر مستغرب.

ويتناقل الكثير من الأشخاص أنّهم رأوا بامّ أعينهم أشخاصا لهم هذه القوّة المرموزة في نظراتهم ، وأنّهم قد تسبّبوا في إهلاك آخرين (أشخاص وحيوانات وأشياء) وذلك بإصابتهم بها.

__________________

(١) الزخرف ، الآية ٤٤.

٥٦٢

لذا فلا ينبغي الإصرار على إنكار هذه الأمور. بل يجدر تقبّل احتمال وجود مثل هذا الأمر من الناحية العقلية والعلمية.

كما جاء في بعض الرّوايات الإسلامية ـ أيضا ـ ما يؤيّد وجود مثل هذا الأمر بصورة إجمالية كما في الرواية التالية : «إنّ أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله إنّ بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال : نعم ، فلو كان شيء يسبق القدر لسبقه العين».(المقصود من (الرقية) هي الأدعية التي يكتبونها ويحتفظ بها الأشخاص لمنع الإصابة بالعين ويقال لها التعويذة أيضا)(١) .

وجاء في حديث آخر أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : النّبي رقى حسنا وحسينا فقال : «أعيذكما بالكلمات التامّة وأسمائه الحسنى كلّها عامّة ، من شرّ السامّة والهامّة ، ومن شرّ كلّ عين لامّة ، ومن شرّ حاسد إذا حسد» ثمّ التفت النّبي إلينا فقال : هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق(٢) .

وجاء في نهج البلاغة أيضا : «العين حقّ ، والرقى حقّ»(٣) .

ولمّا كانت الأدعية توسّلا للبارئعزوجل في دفع الشرّ وجلب الخير ، فبأمر من الله تعالى يمنع تأثير القوّة المغناطيسية للعيون ، ولا مانع من ذلك ، كما أنّ للأدعية تأثيرا في كثير من العوامل والأسباب الضارّة وتبطل مفعولها بأمر الله تعالى.

كما يجدر الالتفات إلى هذه النقطة ـ أيضا ـ وهي : إنّ قبول تأثير الإصابة بالعين بشكل إجمالي لا يعني الإيمان بالأعمال الخرافية ، وممارسات الشعوذة التي تنتشر بين العوام ، إذ أنّ ذلك مخالف لأوامر الشرع ، ويثير الشكّ في أصل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤١.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٠٠.

(٣) نهج البلاغة ، من الكلمات القصار جملة (٤٠٠) ، (نقل هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري ، ج ٧ ، ص ١٧١ باب (العين حقّ) ولما ذكرناه فالعين حقّ) وكذلك في (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) ، كما نقل هذا المعنى من منابع مختلفة ج ٤ ، ص ٤٥١.

٥٦٣

الموضوع عند غير المسلمين بهذه المسائل ، كما أنّ هذه الأعمال تربك وتشوش الكثير من الحقائق بما يدس بها من الأوهام والخرافات ، وبذلك يكون الانطباع عنها سلبيا في الأذهان.

اللهمّ : احفظنا بحفظك من شرّ الأشرار ، ومكائد الأعداء.

ربّنا ، تفضّل علينا بالصبر والاستقامة في سبيل تحصيل رضاك.

إلهي ، وفّقنا للاستفادة من نعمك اللامتناهية وأداء شكرها قبل أن تسلب منّا.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة القلم

* * *

٥٦٤
٥٦٥

سورة

الحاقّة

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥٦٦

«سورة الحاقّة»

محتوى السورة :

تدور موضوعات سورة الحاقّة حول ثلاثة محاور :

المحور الأوّل : وهو أهمّ محاور هذه السورة ، يرتبط بمسائل يوم القيامة وبيان خصوصياتها ، وقد وردت فيه ثلاثة أسماء من أسماء يوم القيامة وهي : (الحاقّة) و (القارعة) و (الواقعة).

أمّا المحور الثاني : فتدور أبحاثه حول مصير الأقوام الكافرين ، خصوصا قوم عاد وثمود وفرعون ، وتشتمل على إنذارات شديدة لجميع الكفّار ومنكري يوم البعث والنشور.

وتتحدّث أبحاث المحور الثالث حول عظمة القرآن الكريم ، ومقام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجزاء المكذّبين.

فضيلة تلاوة سورة الحاقّة

جاء في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الحاقّة حاسبه الله حسابا يسيرا»(١) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : (أكثروا من قراءة الحاقّة ، فإنّ قراءتها في الفرائض والنوافل من الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى الله)(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٢.

(٢) المصدر السابق.

٥٦٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) )

التّفسير

الطغاة والعذاب الأليم :

تبدأ هذه السورة بعنوان جديد ليوم القيامة ، يقول تعالى :( الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ) (١) والمراد من الحاقّة هو اليوم الذي سيتحقّق حتما.

ذهب أغلب المفسّرين إلى أنّ (الحاقّة) اسم من أسماء يوم القيامة ، باعتباره

__________________

(١) هناك وجهات نظر عدّة في إعراب جملة (الحاقّة ، ما الحاقّة) ، إلّا أنّ الأنسب في هذه الآراء هو أن يقال : إنّ (الحاقّة) مبتدأ ، و (ما) الاستفهامية مبتدأ ثان و (الحاقّة) الثانية خبر للمبتدأ الثاني ، وجملة (ما الحاقّة) خبر للمبتدأ الأوّل.

٥٦٨

قطعي الوقوع ، كما هو بالنسبة لـ (الواقعة) في سورة (الواقعة) ، وقد جاء في الآية (١٦) من هذه السورة الاسم نفسه ، وهذا يؤكّد يقينية ذلك اليوم العظيم.

«ما الحاقّة» : تعبير لبيان عظمة ذلك اليوم ، كما يقال : إنّ فلانا إنسان ، يا له من إنسان ، ويقصد من هذا التعبير وصف إنسانيّته دون تقييد حدّها.

والتعبير بـ( ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ) للتأكيد مرّة اخرى على عظمة الأحداث في ذلك اليوم العظيم حتّى أنّ البارئعزوجل يخاطب رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّك لا تعلم ما هو ذلك اليوم؟(١) .

وكما لا يمكن أن يدرك الجنين الذي في بطن امّه المسائل المتعلّقة بالدنيا ، فإنّ أبناء الدنيا كذلك ليس بمقدورهم إدراك الحوادث التي تكون في يوم القيامة.

ويحتمل أنّ المقصود من (الحاقّة) هو الإشارة إلى العذاب الإلهي الذي يحلّ فجأة في هذه الدنيا بالمشركين والمجرمين والطغاة وأصحاب الهوى والمتمرّدين على الحقّ.

كما فسّرت (القارعة) التي وردت في الآية اللاحقة بهذا المعنى ـ أيضا وبلحاظ أنّ هذا التّفسير يتناسب بصورة أكثر مع ما جاء في الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حلول العذاب الشديد بقوم عاد وثمود وفرعون وقوم لوط ، فقد ذهب بعض المفسّرين إلى هذا الرأي أيضا.

وجاء في تفسير (علي بن إبراهيم) قوله : إنّ (الحاقّة هي الحذر من نزول العذاب) وهو نظير ما جاء في الآية التالية :( وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ ) (٢) (٣)

ثمّ تستعرض الآيات الكريمة اللاحقة مصير الأقوام الذين أنكروا يوم

__________________

(١) ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ جملة (ما أدراك) تتحدّث عن المسائل المعلومة والمسلّمة ، بينما جاءت (وما يدريك) في الموارد والمسائل المبهمة. مجمع البيان ج ١٠ ، ص ٣٤٣ ، كما نقل بعض المفسّرين هذا المعنى أيضا ومنهم القرطبي.

(٢) تفسير (علي بن إبراهيم) ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، ومما يجدر الانتباه إليه أن كلمة (الحاقة) و (الحاق) من مادة واحدة.

(٣) المؤمن ، الآية ٤٥.

٥٦٩

القيامة ، وكذلك نزول العذاب الإلهي في الدنيا ، حيث يضيف تعالى :( كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) .

لقد كان (قوم ثمود) يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام ، فبعث الله النبي صالحعليه‌السلام إليهم ، ودعاهم إلى الإيمان بالله إلّا أنّهم لم يستجيبوا له ، بل حاربوه وتحدّوه في إنزال العذاب الذي أوعدهم به إن كان صادقا ، وفي هذه الحالة من التمرّد الذي هم عليه ، سلّط الله عليهم (صاعقة مدمّرة) أنهت كلّ وجودهم في لحظات ، فخربت بيوتهم وقصورهم المحكمة ، وتهاوت أجسادهم على الأرض.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ القرآن الكريم يعبّر عن عقاب هؤلاء الأقوام المتمردين بـ (العذاب الشديد) ، وقد كان العذاب الشديد بصور متعدّدة حيث عبّر عنه بـ (الطاغية) كما جاء في الآية مورد البحث واخرى بال (رجفة) كما جاء في سورة الأعراف الآية (٧٨) وثالثة كان بصورة (صاعقة) كما ورد في سورة فصّلت الآية (١٣) ، ورابعة كان على شكل (صيحة) كما جاء في سورة هود الآية (٦٧).

وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه التعابير ترجع إلى معنى واحد ، لأنّ الصاعقة دائما تكون مقرونة : بصوت عظيم ، ورجفة على النقطة التي تقع فيها ، وعذاب طاغ عظيم.

ثمّ تتطرّق الآية اللاحقة لتحدّثنا عن مصير (قوم عاد) الذين كانوا يسكنون في أرض الأحقاف الواقعة (في شبه جزيرة العرب أو اليمن) وكانوا ذوي قامات طويلة ، وأجساد قوية ، ومدن عامرة ، وأراض خضراء خصبة ، وحدائق نضرة وكان نبيّهم (هود)عليه‌السلام يدعوهم إلى الهدى والإيمان بالله إلّا أنّهم أصرّوا على كفرهم وتمادوا في طغيانهم وتمرّدوا على الحقّ ، فانتقم الله منهم شرّ انتقام ، وأقبرهم تحت الأرض بعد أن سلّط عليهم عذابا شديدا مؤلما ، سنوضّح شرحه في

٥٧٠

الآيات التالية.

يقول تعالى :( وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ) .

«صرصر» على وزن (دفتر) تقال للرياح الباردة أو المقترنة بصوت وضوضاء ، أو المسمومة ، وقد ذكر المفسّرون هذه المعاني الثلاث في تفسيرها ، والجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضا.

«عاتية» من مادّة (عتو) على وزن (علو) بمعنى التمرّد على القانون الطبيعي للرياح وليست على أمر الله.

ثمّ تبيّن الآية التالية وصفا آخر لهذه الرياح المدمّرة ، حيث يقول تعالى :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ) .

«حسوما» من مادّة (حسم) على وزن (رسم) بمعنى إزالة آثار شيء ما ، وقيل للسيف (حسام) على وزن (غلام) ، ويقال : (حسم) أحيانا لوضع الشيء الحارّ على الجرح للقضاء عليه من الأساس.

لقد حطّمت وأفنت هذه الريح المدمّرة في الليالي السبع والأيّام الثمانية جميع معالم حياة هؤلاء القوم ، والتي كانت تتميّز بالابّهة والجمال ، واستأصلتهم من الجذور(١) .

ويصوّر لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى :( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) .

إنّه لتشبيه رائع يصوّر لنا ضخامة قامتهم التي اقتلعت من الجذور ، بالإضافة إلى خواء نفوسهم ، حيث أنّ العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسادهم من جهة إلى اخرى.

«خاوية» من مادّة (خواء) على وزن (حواء) في الأصل بمعنى كون الشيء

__________________

(١) «حسوما» جاءت هنا صفة لـ (سبع ليال وثمانية أيّام) ، كما اعتبرها البعض (حالا) لل (ريح) أو (مفعولا به).

٥٧١

خاليا ، ويطلق هذا التعبير أيضا على البطون الجائعة ، والنجوم الخالية من المطر (كما في إعتقاد عرب الجاهلية) ، وتطلق كذلك على الجوز الأجوف الفارغ من اللب.

ويضيف في الآية التالية :( فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ) (١) .

نعم لم يبق اليوم أي أثر لقوم عاد ، بل حتّى مدنهم العامرة ، وعماراتهم الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شيء يذكر أبدا.

لقد بحثنا قصّة قوم عاد بصورة مفصّلة في التّفسير الأمثل ، تفسير الآيات (٥٨ ـ ٦٠) من سورة هود.

* * *

__________________

(١) (باقية) : صفة لموصوف مقدر ، وكانت في الأصل (نفس باقية).

٥٧٢

الآيات

( وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) )

التّفسير

أين الآذان الواعية؟

بعد ما استعرضت الآيات الكريمة السابقة الأحداث التي مرّت بقومي عاد وثمود ، وتستمرّ هذه الآيات في التحدّث عن الأقوام الاخرى كقوم (نوح) وقوم (لوط) لتكون درسا وعبرة لمن وعى وكان له قلب سليم يقول تعالى( وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ ) .

ال «خاطئة» بمعنى الخطأ و (لكليهما معنى مصدري) والمراد من الخطأ هنا هو الشرك والكفر والظلم والفساد وأنواع الذنوب.

ال «المؤتفكات» جمع (مؤتفكة) من مادّة (ائتفاك) بمعنى الانقلاب ، وهي هنا

٥٧٣

إشارة إلى ما حصل في مدن قوم لوط ، حيث انقلبت بزلزلة عظيمة.

والمقصود بـ( وَمَنْ قَبْلَهُ ) هم الأقوام الذين كانوا قبل قوم فرعون ، كقوم شعيب ، وقوم نمرود الذين تطاولوا على رسولهم.

ثمّ يضيف تعالى :( فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً ) .

لقد خالف الفراعنة (موسى وهارون)عليهما‌السلام وواجهوهما بمنتهى العنف والتشكيك والملاحقة وكذلك كان موقف أهل مدينة (سدوم) من لوطعليه‌السلام الذي بعث لهدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم وهكذا كان ـ أيضا ـ موقف أقوام آخرين من رسلهم حيث التطاول. والتشكيك والإعراض والتحدّي

إنّ كلّ مجموعة من هؤلاء الأقوام المتمردّين قد ابتلاهم الله بنوع من العذاب ، وأنزل عليه رجزا من السماء بما يستحقّون ، فالفراعنة أغرقهم الله سبحانه في وسط النيل الذي كان مصدرا لخيراتهم وبركة بلدهم وإعمار أراضيهم وديارهم ، وقوم لوط سلّط الله عليهم (الزلزال) الشديد ثمّ (مطر من الحجارة) ممّا أدّى إلى موتهم وفنائهم من الوجود.

«رابية» و (ربا) من مادّة واحدة ، وهي بمعنى الإضافة ، والمقصود بها هنا العذاب الصعب والشديد جدّا.

لقد جاء شرح قصّة قوم فرعون في الكثير من سور القرآن الكريم ، وجاءت بتفصيل أكثر في ما ورد من سورة الشعراء الآية (١٠ ـ ٦٨) يراجع التّفسير الأمثل ، وكذلك في سورة الأعراف من الآية (١٠٣ ـ ١٣٧) راجع التّفسير الأمثل ، وكذلك في سورة طه من الآية (٢٤ ـ ٧٩) راجع التّفسير الأمثل.

وجاءت قصّة لوط أيضا في الكثير من السور القرآنية من جملتها ما ورد في سورة الحجر الآية (٦١ ـ ٧٧) في التّفسير الأمثل.

وأخيرا تعرّض بإشارة موجزة إلى مصير قوم نوح والعذاب الأليم الذي حلّ بهم ، قال تعالى :( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ) .

٥٧٤

إنّ طغيان الماء كان بصورة غطّى فيها السحاب ومن هنا جاء تعبير (طغى) حيث هطل مطر غزير جدّا وكأنّه السيل ينحدر من السماء ، وفاضت عيون الأرض ، والتقت مياههما بحيث أصبح كلّ شيء تحت الماء (القوم وبيوتهم وقصور أكابرهم ومزارعهم وبساتينهم ...) ولم تنج إلّا مجموعة المؤمنين التي كانت مع نوحعليه‌السلام في سفينة.

جملة (حملناكم) كناية عن حمل وإنقاذ أسلافنا وأجدادنا من الغرق ، وإلّا ما كنّا في عالم هذا الوجود(١) .

ثمّ يبيّن الله سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب ، حيث يقول تعالى :( لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) .

إنّنا لم نرد الانتقام منكم أبدا ، بل الهداية والخير والسعادة ، كنّا نروم أن تكونوا في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المكرم.

«تعيها» من مادّة (وعى) على وزن (سعى) يقول (الراغب) في المفردات ، و (ابن منظور) في لسان العرب : إنّها في الأصل بمعنى الاحتفاظ بشيء معيّن في القلب ، ومن هنا قيل لإناء (وعاء) لأنّه يحفظ الشيء الذي يوضع فيه ، وقد ذكرت هذه الصفة (الوعي) للآذان في الآيات مورد البحث ، وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها.

والإنسان تارة يسمع كلاما إلّا أنّه كأن لم يسمعه ، وفي التعبير السائد : يسمع بإذن ويخرجه من الاخرى.

وتارة اخرى يسمع الكلام ويفكّر فيه ويتأمّله. ويجعل ما فيه خير في قلبه ،

__________________

(١) ومن هنا قال البعض : إنّ للآية محذوف تقديره (حملنا آباؤكم).

٥٧٥

ويعتبر الإيجابي منه منارا يسير عليه في طريق حياته وهذا ما يعبّر عنه بـ (الوعي).

* * *

تعقيب

١ ـ فضيلة اخرى من فضائل الإمام عليعليه‌السلام

جاء في كثير من الكتب الإسلامية المعروفة ـ أعمّ من كتب التّفسير والحديث ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال عند نزول الآية أعلاه( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) : «سألت ربّي ـ أن يجعلها اذن علي» ، وبعد ذلك كان يقول الإمام عليعليه‌السلام : «ما سمعت من رسول الله شيئا قطّ فنسيته ، إلّا وحفظته»(١) .

ونقل في (غاية المرام) ستّة عشر حديثا في هذا المجال عن طريق الشيعة وأهل السنّة ، كما ينقل (المحدّث البحراني) أيضا في تفسير (البرهان) عن (محمّد بن عبّاس) ثلاثين حديثا في هذا المجال نقلت عن طريق العامّة والخاصّة.

وهذه فضيلة عظيمة لقائد الإسلام العظيم الإمام عليعليه‌السلام حيث يكون موضع أسرار الرّسول ، ووارث علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا السبب فإنّ الجميع كانوا يرجعون إليه ـ الموافق له والمخالف ـ بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك عند ما يواجهون المشاكل الاجتماعية والعلمية المختلفة ، ويطلبون منه التدخّل في حلّها ، كما تحدّثنا بذلك كتب التواريخ بشكل تفصيلي.

__________________

(١) تفسير (القرطبي) ، ج ١٠ ، ص ٦٧٤٣ ، و (مجمع البيان) ، (وروح المعاني) ، و (روح البيان) ، و (أبو الفتوح الرازي) و (الميزان) نهاية الآيات مورد البحث ، وجاء هذا الحديث أيضا في مناقب ابن المغازلي الشافعي) ص ٢٦٥ (الطبعة الإسلامية).

٥٧٦

٢ ـ التناسب بين (الذنب) و (العقاب)

وردت في الآيات أعلاه تعبيرات ملفتة للنظر ، فتعبير (الطاغية) جاء في مورد العذاب الذي سلّط على قوم ثمود ، وعبارة (العاتية) جاءت في مورد العذاب الذي حلّ بقوم عاد ، وبالنسبة إلى ما أصاب قوم فرعون وقوم لوط فقد ورد تعبير (الرابية) كما وردت عبارة (طغى الماء) فيما يتعلّق بطبيعة العذاب الذي شمل قوم نوح والملاحظ من التعبيرات السابقة أنّها جميعا تشترك في مفهوم واحد وهو : (الطغيان والتمرّد) وهو نتيجة طبيعية لما كانت عليه هذه الأقوام جميعا أي إنّ عذاب هؤلاء الطغاة تحقّق بطغيان بعض المواهب الإلهية للناس أعمّ من الماء والهواء والتراب والنار.

كما أنّ هذه التعبيرات ـ أيضا ـ تؤكّد على حقيقة مهمّة ، وهي أنّ العقوبات التي نواجهها في الدنيا والآخرة ما هي إلّا تجسيد لحقيقة أعمالنا ، وأنّ أعمالنا نحن البشر تعود علينا خيرا كانت أم شرّا.

* * *

٥٧٧

الآيات

( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) )

التّفسير

الصّيحة العظيمة :

استمرارا لما تعرّضت له الآيات الاولى من هذه السورة ، والتي كانت تتعلّق بمسألة الحشر والقيامة ، تعرض لنا هذه الآيات صورة عن الحوادث العظيمة في ذلك اليوم الرهيب بأسلوب محرّك ومؤثّر في النفوس كي تحيط الإنسان علما بما ينتظره من حوادث ذات شأن كبير في ذلك الموقف الرهيب.

يقول تعالى في البداية :( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) .

لقد بيّنا فيما سبق أنّ ممّا يستفاد من القرآن الكريم أنّ نهاية عالم الدنيا وبداية عالم الآخرة تكون بصوت مفاجئ عظيم ، وذلك ما عبّر عنه بـ (نفخة الصور).

٥٧٨

ولهذا السبب استعمل البوق في الماضي والحاضر للاستفادة منه في جمع وتهيئة الجيوش ، وكذلك في الإعلان عن موعد الاستراحة ، حيث يتمّ العزف بألحان مختلفة حسب طبيعة الموضوع. الذي يعلن عنه ، فالعزف للنوم والاستراحة يختلف عن عزف التجمّع والتهيّؤ للحركة والتدريب

إنّ مسألة انتهاء هذا العالم ، وبداية العالم الجديد عالم الآخرة ، هي عند الله بسيطة وهيّنة في مقابل قدرته العظيمة ، فبأمر واحد وفي لحظة مفاجئة ينتهي ويفنى من في السموات والأرضين ، وبأمر آخر يلبس سبحانه الجميع لباس الحياة ويستعدّون للحساب ، وهذا هو مقصود الآية الكريمة.

لقد تحدّثنا بصورة مفصّلة حول خصوصيات (الصور) وكيفية (النفخ) فيه ، وعدد النفخات ، والفاصلة الزمنية بين كلّ نفخة ، وذلك في تفسير سورة (الزمر) الآية ٦٨ من التّفسير الأمثل ، لذا لا نرى ضرورة لتكرار ذلك.

والشيء الوحيد الذي نذكّر به هنا هو (نفخة الصور) وكما أشرنا أعلاه فهي (نفختان) : (نفخة الموت) ، و (نفخة الحياة الجديدة) ، لكن هل المقصود في هذه الآية الكريمة هو (النفخة الاولى) أم (الثانية)؟ فهذا ما لا يوجد فيه رأي موحّد بين المفسّرين ، لأنّ الآيات التي ستأتي لاحقا بعضها يتناسب مع نفخة الموت ، والآخر يتناسب مع نفخة الحياة والحشر ، إلّا أنّ منطوق الآيات بشكل إجمالي في رأينا تتناسب أكثر مع النفخة الاولى التي تحصل فيها نهاية عالم الدنيا.

ثمّ يضيف تعالى :( وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) .

«دكّ» كما يقول الراغب في المفردات ، وفي الأصل بمعنى (الأرض المستوية) ولأنّ الأرض غير المستوية تحتاج إلى الدك حتّى تستوي ، لذا استعمل هذا المصطلح في الكثير من الموارد بمعنى «الدق الشديد».

كما يستفاد من مصادر اللغة أنّ أصل معنى (دك) هو (الدقّ والتخريب) ولازم

٥٧٩

ذلك الإستواء ، لذا استعمل هذا المصطلح في هذا المعنى أيضا(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ المقصود من هذه الكلمة ـ في الآية مورد البحث ـ هو الدقّ الشديد للجبال والأراضي اللامستوية بعضها ببعض بحيث تستوي وتتلاشى فيها جميع التعرجات.

ثمّ يضيف تعالى :( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) .

في ذلك اليوم العظيم لا تتلاشى فيه الأرض والجبال فحسب ، بل يقع حدث عظيم آخر ، وذلك قوله تعالى :( وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) وذلك بيان لما تتعرّض له ، الأجرام السماوية العظيمة من انفلاقات وتناثر وتلاشي ، حيث تضطرب هذه الأجرام الهائلة وتتحوّل فيها النظام إلى فوضى والتماسك إلى ضعف ، والاستحكام إلى خواء بشكل عجيب. وذلك من خلال حركات وتحوّلات مرعبة جدّا ، كما يعبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى :( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ) الرحمن.

وبعبارة اخرى فإنّ الأرض والسماء الحاليتين تتدمران وتنتهيان ، ويحدث عالم جديد على انقاض العالم السابق يكون أكمل وأتمّ وأعلى من عالمنا الدنيوي.

( وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها ) .

«أرجاء» جمع (رجا) بمعنى جوانب وأطراف شيء معيّن ، و (الملك) هنا بالرغم من ذكرها بصيغة المفرد ، إلّا أنّ المقصود بها هو الجنس والجمع.

إنّ ملائكة الرحمن ـ في الآية أعلاه ـ يصطفون على جوانب وأطراف السماوات ينتظرون تلقّي أمر الواحد الأحد لإنجازه بمجرد الإشارة ، وكأنّهم جنود جاهزون لما يؤمرون به.

__________________

(١) «أقرب الموارد» (مادّة : دك).

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624