الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196848 / تحميل: 5658
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الفريقين ، فأمّا من يحمل أرضية شموله بالعفو الإلهي فسيلتحق بركب المتقين ، وأمّا من ثقلت كفة ذنوبه فسيحشر مع القابعين في أودية النّار ، ولكنها لا تكون مكانهم ومأواهم الأبدي.

* * *

٤٠١

الآيات

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦) )

التّفسير

يوما لقيامة : الوقت المجهول!

تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة) : فتقول أوّلا :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) (١) .

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع

__________________

(١) جاءت كلمة «المرسى» بهذا الموضع مصدرا ، على مالها من استعمال اخرى ، فتأتي تارة اسم زمان ومكان ، وتارة اخرى اسم مفعول من «الإرساء» ، معناها المصدري هو : الوقوع والثبات ، ويستخدم المرسى كمكان لتوقف السفن ، وفي تثبيت الجبال على سطح الأرض ، وكقوله تعالى في الآية (٤١) من سورة هود :( وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) ، والآية (٣٢) من سورة النازعات :( وَالْجِبالَ أَرْساها ) .

٤٠٢

القيامة ، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها ، ويقول :( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) .

فما خفّي عليك (يا محمّد) ، فمن باب أولى أن يخفى على الآخرين ، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه الله لنفسه ، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقا!

وكما قلنا ، فسّر خفاء موعد الحق يرجع لأسباب تربوية ، فإذا كان ساعة قيام القيامة معلومة فستحل الغفلة على جميع إذا كانت بعيدة ، وبالمقابل ستكون التقوى اضطرارا والورع بعيدا عن الحرية والإختيار إذا كانت قريبة ، والأمران بطبيعتهما سيقتلان كلّ أثر تربوي مرجو.

وثمّة احتمالات اخرى قد عرضها بعض المفسّرين ، ومنها : إنّك لم تبعث لبيان وقت وقوع يوم القيامة ، وإنّما لتعلن وتبيّن وجودها (وليس لحظة وقوعها).

ومنها أيضا : إنّ قيامك وظهورك مبيّن وكاشف عن قرب وقوع يوم القيامة بدلالة ما

روي عن النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما جمع بين سبابتيه وقال : «بعثت أنا والقيامة كهاتين»(١)

ولكنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره وأقرب.

وتقول الآية التالية :( إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ) .

فالله وحده هو العالم بوقت موعدها دون غيره ولا فائدة من الخوض في معرفة ذلك.

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآيتين : (٣٤) من سورة لقمان :( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ، وفي الآية (١٨٧) من سورة الأعراف :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) .

وقيل : المراد بالآية ، تحقق القيامة بأمر الله ، ويشير هذا القول إلى بيان علّة ما

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩ ، وذكرت ذات الموضوع في : تفاسير (مجمع البيان) ، (القرطبي) ، (في ظلال القرآن) بالإضافة لتفسير اخرى ، في ذيل الآية (١٨) من سورة محمّد.

٤٠٣

ورد في الآية السابقة ، ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.

وتسهم الآية التالية في التوضيح :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) .

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحقّ ، وإنذار من لا يأبى بعقاب أخروي أليم ، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

مع ملاحظة ، أنّ الإنذار الموجه في الآية فيمن يخاف ويخشى وعقاب الله ، هو يشابه الموضوع الذي تناولته الآية (٢) من سورة البقرة :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

ويشير البيان القرآني إلى أثر الدافع الذاتي في طلب الحقيقة وتحسس المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان أمام خالقه ، فإذا افتقد الإنسان إلى الدافع المحرك فسوف لا يبحث فيما جاءت به كتب السماء ، ولا يستقر له شأن في أمر المعاد ، بل وحتى لا يستمع لإنذارات الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام .

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس إلّا قليلا :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) .

فعمر الدنيا وحياة البرزخ من السرعة في الانقضاء ليكاد يعتقد الناس عند وقوع القيامة ، بأنّ كلّ عمر الدنيا والبرزخ ما هو إلّا سويعات معدودة!

وليس ببعيد لأنّ عمر الدنيا قصير بذاته ، وليس من الصواب أن نقايس بين زمني الدنيا والآخرة ، لأنّ الفاني ليس كالباقي.

«عشيّة» : العصر. و «الضحى» : وقت انبساط الشمس وامتداد النهار.

وقد نقلت الآيات القرآنية بعض أحاديث المجرمين في يوم القيامة ، فيما يختص بمدّة لبثهم في عالم البرزخ

فتقول الآية (١٠٣) من سورة طه :( يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ) ، و( يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ) .

وتقول الآية (٥٥) من سورة الروم :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما

٤٠٤

لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) .

واختلاف تقديرات مدّة اللبث ، يرجع لاختلاف القائلين ، وكلّ منهم قد عبّر عن قصر المدّة حسب ما يتصور ، والقاسم المشترك لكلّ التقديرات هو أنّ المدّة قصيرة جدّا ويكفي طرق باب هذا الموضوع بإيقاظ الغافل من خدره.

اللهمّ! هب لنا الأمن والسلامة في العوالم الثلاث ، الدنيا والبرزخ والقيامة

يا ربّ! لا ينجو من عقاب وشدائد يوم القيامة إلّا من رحمته بلطفك ، فاشملنا بخاصة لطفك ورحمتك

إلهي! اجعلنا ممن يخاف مقامك وينهى نفسه عن الهوى ، ولا تجعل لنا غير الجنّة مأوى

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النّازعات

* * *

٤٠٥
٤٠٦

سورة

عبس

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية

٤٠٧
٤٠٨

«سورة عبس»

محتوى السورة :

تبحث هذه السورة على قصرها مسائل مختلفة مهمّة تدور بشكل خاص حول محور المعاد ، ويمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية.

١ ـ عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحقّ بأسلوب غير لائق.

٢ ـ أهمية القرآن الكريم.

٣ ـ كفران الإنسان للنعم والمواهب الإلهية.

٤ ـ بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حسّ الشكر في الإنسان.

٥ ـ الإشارة إلى بعض الوقائع والحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفّار ذلك اليوم العظيم.

وتسمية هذه السورة بهذا الاسم بمناسبة الآية الاولى منها.

فضيلة السورة :

ورد في الحديث النّبوي الشريف أنّ : «من قرأ سورة «عبس» جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر»(١)

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٥.

٤٠٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) )

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب الله تعالى بشكل إجمالي ، عتابه لشخص قدّم المال والمكانة الاجتماعية على طلب الحق أمّا من هو المعاتب؟ فقد اختلف فيه المفسّرون ، لكنّ المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم ، ما يلي :

إنّها نزلت في عبد الله بن ام مكتوم ، إنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبي واميّة بن خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعهم ، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين) ، فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلمني ممّا علمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه ، وقال في

٤١٠

نفسه : يقول هؤلاء الصناديد ، إنّما أتباعه العميان والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فنزلت الآية.

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه قال : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي» ، ويقول له : «هل لك من حاجة».

واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين(١) .

والرأي الثّاني في شأن نزولها : ما

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّها نزلت في رجل من بني اميّة ، كان عند النّبي ، فجاء ابن ام مكتوم ، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك ، وأنكره عليه»(٢) .

وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ الآيات (٨ ـ ١٠) في السورة يمكن أن تكون قرينة ، حيث تقول :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير من ينطبق عليه هذا الخطاب الربّاني.

ويحتجّ الشريف المرتضى على الرأي الأوّل ، بأنّ ما في آية( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) لا يدل على أنّ المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّ العبوس ليس من صفاته مع أعدائه ، فكيف به مع المؤمنين المسترشدين! ووصف التصدّي للأغنياء والتلهي عن الفقراء ممّا يزيد البون سعة ، وهو ليس من أخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، بدلالة قول الله تعالى في الآية (٤) من سورة (ن) ، والتي نزلت قبل سورة عبس ، حيث وصفه الباري :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول ، فإنّ فعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال هذه لا يخرج من كونه (تركا للأولى) ، وهذا ما لا ينافي العصمة ،

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٧.

(٢) المصدر السابق.

٤١١

وللأسباب التالية :

أوّلا : على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق ، وتحطيم صف أعدائه.

ثانيا : إنّ العبوس أو الانبساط مع الأعمى سواء ، لأنّه لا يدرك ذلك ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد الله بن ام مكتوم» لم يراع آداب المجلس حينها ، حيث أنّه قاطع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين ، ولكن بما أنّ الله تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الاعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلا على عظمة شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية ، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى) ، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق فيه ، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضا) فلا داعي لاستعتاب نفسه

ومن مكارم خلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد الله بن ام مكتوم ، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والاستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا ، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك ، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين.

ونأتي لنقول ثانية : إنّ المشهور بين المفسّرين في شأن النّزول ، هو نزولها في شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى.

* * *

٤١٢

التّفسير

عتاب ربّاني!

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات ، ننتقل إلى تفسيرها :

يقول القرآن أولا :( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) .

لماذا؟ :( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) .

( وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) ، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ) ، فإن لم يحصل على التقوى ، فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة ، فتنفعه ذلك(١) .

ويستمر العتاب :( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ) ، من اعتبر نفسه غنيا ولا يحتاج لأحد.

( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) ، تتوجّه إليه ، وتسعى في هدايته ، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر ، كما أشارت لهذا الآيتان (٦ و٧) من سورة العلق :( ... إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) .(٢)

( وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) ، أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان ، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن ، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحقّ ، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كلّ أولئك الأغنياء المتحجرين.

__________________

(١) والفرق بين الآية والتي قبلها ، هو أنّ الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة ، في حين أنّ الحديث في الآية المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي ، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة ، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من التذكير ، سواء كانت الفائدة تامّة أم مختصرة. وقيل : إنّ الفرق بين الآيتين ، هو أنّ الأولى تشير إلى التطهير من المعاصي ، والثانية تشير إلى كسب الطاعات وإطاعة أمر الله عزوجل. والأوّل يبدو أقرب للصحة.

(٢) يقول الراغب في مفرداته : (غنى واستغنى وتغنى وتغانى) بمعنى واحد ، ويقول في (تصدّى) : إنّها من (الصدى) ، أي الصوت الراجع من الجبل.

٤١٣

وتأتي العتاب مرّة اخرى تأكيدا :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ) ، في طلب الهداية

( وَهُوَ يَخْشى ) (١) ، فخشيته من الله هي التي دفعته للوصول إليك ، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها ، ويعمل على مقتضاها.

( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (٢) .

ويشير التعبير بـ «أنت» إلى أنّ التغافل عن طالبي الحقيقة ، ومهما كان يسيرا ، فهو ليس من شأن من مثلك ، وإن كان هدفك هداية الآخرين ، فبلحاظ الأولويات ، فإنّ المستضعف الظاهر القلب والمتوجه بكلّه إلى الحقّ ، هو أولى من كلّ ذلك الجمع المشرك.

وعلى أيّة حال : فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى غيره ، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق ، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ الله لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف.

وعلّة ذلك ، إنّ الطبقة المحرومة من الناس تمثل : السند المخلص للإسلام دائما الأتباع الأوفياء لأئمّة دين الحق ، المجاهدين الصابرين في ميدان القتال والشهادة ، كما تشير إلى هذا المعنى رسالة أمير المؤمنينعليه‌السلام لمالك الأشتر : «وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأئمّة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم»(٣) .

* * *

__________________

(١) يراد بالخشية هنا : الخوف من الله تعالى ، الذي يدفع الإنسان ليتحقق بعمق وصولا لمعرفته جلّ اسمه ، وكما يعبر المتكلمون عنه بـ وجوب معرفة الله بدليل دفع الضرر المحتمل. واحتمل الفخر الرازي : يقصد بالخشية ، الخوف من الكفّار ، أو الخوف من السقوط على الأرض لفقدانه البصر. وهذا بعيد جدّا.

(٢) «التلهي» : من (اللهو). ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والاستغفال بغيره ، ليقف في قبال «التصّدي».

(٣) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٤١٤

الآيات

( كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) )

التّفسير

تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس ، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق) ، ، فتقول( كَلَّا ) فلا ينبغي لك أن تعيد الكرّة ثانية.

( إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) ، إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد ، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين ، أولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضا ، كون الآيات ،( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

٤١٥

وفتقول الآية : إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة ، لا يمتلك من الصحة شيئا ، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان ، ودليلها فيها ، وكلّ من اقترب منها سيجد أثر ذلك في نفسه (ما عدا المعاندين).

وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكّر :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (١) .

نعم ، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرّباني ، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كلّ الآذان ، وما على الإنسان إلّا أن يستفيد منها أو لا يستفيد.

ثمّ يضيف : أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق) :( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) .

«الصحف» : جمع (صحيفة) بمعنى اللوح أو الورقة ، أو أيّ شيء يكتب عليه.

فالآية تشير إلى أنّ القرآن قد كتب على ألواح من قبل أن ينزّل على النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي ، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وسياق الآية وارتباطها مع ما سبقها من آيات وما سيليها : لا ينسجم مع ما قيل من أنّ المقصود بالصحف هنا هو ، كتب الأنبياء السابقين.

وكذا الحال بالنسبة لما قيل من كون «اللوح المحفوظ» ، لأنّ «اللوح والمحفوظ» لا يعبر عنه بصيغة الجمع ، كما جاء في الآية : «صحف».

وهذه الصحف المكرمة :( مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) .

فهي مرفوعة القدر عند الله ، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرّفين ، ولكونها خالية من قذارة الباطل ، فهي أطهر من أن تجد فيها أثرا لأيّ تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

__________________

(١) يعود ضمير : «ذكره» إلى ما يعود إليه ضمير «إنّها» ، وسبب اختلاف الصيغة بين الضميرين هو أنّ ضمير «إنّها» يرجع إلى الآيات القرآنية ، و «ذكره» إلى القرآن ، فجاء الأوّل مؤنثا والثّاني مذكرا.

٤١٦

وهي كذلك :( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) ، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء :( كِرامٍ بَرَرَةٍ ) .

«سفرة» : جمع (سافر) من (سفر) على وزن (قمر) ، ولغة : بمعنى كشف الغطاء عن الشيء ، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم ، ويطلق على الكاتب اسم (السافر) ، وعلى الكتاب (سفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما وعليه فالسفرة هنا ، بمعنى : الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النّبي ، أو الكاتبين لآياته.

وقيل : هم حفّاظ وقرّاء وكتّاب القرآن والعلماء ، الذين يحافظون على القرآن من أيدي العابثين وتلاعب الشياطين في كلّ عصر ومصر.

ويبدو هذا القول بعيدا ، لأنّ الحديث في الآيات كان يدور حول زمان نزول الوحي على صدر الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس عن المستقبل.

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، في وقوله : «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة»(١) . بجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة ، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم ، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم ، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

ونستنتج من كلّ ما تقدم : بأنّ من يسعى في حفظ القرآن وإحياء مفاهيمه وأحكامه ممارسة ، فله من المقام ما للكرام البررة.

«كرام» : جمع (كريم) ، بمعنى العزيز المحترم ، وتشير كلمة «كرام» في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند الله وعلو منزلتهم.

وقيل : «كرام» : إشارة إلى طهارتهم من كلّ ذنب ، بدلالة الآيتين (٢٦ و٢٧) من سورة الأنبياء :( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٨.

٤١٧

«بررة» : جمع (بار) ، من (البرّ) ، بمعنى التوسع ، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة اسم (البر) ، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خير وشمول بركاته على الآخرين.

و «البررة» : في الآية ، بمعنى : إطاعة الأمر الإلهي ، والطهارة من الذنوب.

ومن خلال ما تقدم تتوضح لنا ثلاث صفات للملائكة.

الاولى : إنّهم «سفرة» حاملين وحيه جلّ شأنه.

الثّانية : إنّهم أعزاء ومكرمون.

الثالثة : طهرة أعمالهم عن كلّ تقاعس أو مفسدة.

وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى الله ، ومنها ما في صحف المكرمة من تذكير وتوجيه ولكنّ الإنسان يبقى عنيدا متمردا :( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) (١) .

«الكفر» : في هذا الموضوع قد يحتمل على ثلاثة معان عدم الإيمان ، الكفران وعدم الشكر جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كلّ المستويات ، وهو المعنى الجامع والمناسب للآية ، لأنّها تعرضت لأسباب الهداية والإيمان ، فيما تتحدث الآيات التي تليها عن بيان النعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى.

( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) : كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا ، وزجره لمن يكفر بآياته.

ثمّ يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي ، والذي غالبا ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة :( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) ؟

__________________

(١) «قتل الإنسان» : نوع من اللعن ، وهو أشدّها عن الزمخشري في (الكشاف). «ما» ، في «ما أكفره» : للتعجب ، التعجب من السير في متاهات الكفر والضلال ، مع ما للحق من سبيل واضحة ، وتوفير مختلف مصاديق واللطف والرحمة والرّبانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ النجاة.

٤١٨

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة ، ثمّ صنع منه مخلوقا موزونا مستويا قدّر فيه جميع أموره في مختلف مراحل حياته :( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) .

فلم لا يتفكر الإنسان بأصل خلقته؟!

لم ينسى تفاهة مبدأه؟!

ألّا يجدر به أن يتأمل في قدرة الباري سبحانه ، وكيف جعله موجودا بديع الهيئة والهيكل من تلك النطفة الحقيرة القذرة!! ألا يتأمل!!

فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات ، ومع ما منحه الله من مواهب واستعدادات لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

«قدّره» : من (التقدير) ، وهو الحساب في الشيء وكما بات معلوما أنّ أكثر من عشرين نوعا من الفلزات وأشباه الفلزات داخلة في التركيب (البيولوجي) للإنسان ، ولكلّ منها مقدارا معينا ومحسوبا بدقّة متناهية من حيث الكمية الكيفية ، بل ويتجاوز التقدير حدّ البناء الطبيعي للبدن ليشمل حتى الاستعدادات والغرائز والميول المودعة في الإنسان الفرد ، بل وفي المجموع العام للبشرية ، وقد وضع الحساب في مواصفات تكوينية ليتمكن الإنسان بواسطتها من الوصول إلى السعادة الإنسانية المرجوة.

وتتجلّى عظمة تقدير الخالق سبحانه في تلك النطفة الحقيرة القذرة التي تتجلّى بأبهى صورها جمالا وجلالا ، حيث لو جمعنا الخلايا الأصلية للإنسان (الحيامن) لجميع البشر ، ووضعناها في مكان واحد ، لكانت بمقدار حمصة! نعم

فقد أودعت في هذا المخلوق العاقل الصغير كلّ هذه البدائع والقابليات.

وقيل : التقدير بمعنى التهيئة.

وثمّة احتمال آخر ، يقول التقدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.

٤١٩

فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كلّ هذه القدرة والاستطاعة ، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض ، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كلّ ما يحيط بها من قوى(١) .

ولا مانع من الأخذ بالتفاسير الثلاث جملة واحدة.

ويستمر القرآن في مشوار المقال :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) يسّر له طريق تكامله حينما كان جنينا في بطن امّه ، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.

ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن امّه يكون على الهيئة التالية : رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل ، ووجهه متجها صوب ظهر امّه ، وما أن تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئة فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته! وقد تشذ بعض حالات لولادة ، بحيث يكون الطفل في بطن امّه في هيئة مغايرة للطبيعة ، ممّا تسبب كثير من السلبيات على وضع الام عموما.

وبعد ولادته : يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي ، ثمّ مرحلة نمو الغرائز ، فالرشد في مسير الهداية الايمانية والروحية ، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان ورحيا وإيمانيا.

وبلاغة بيان القرآن قد جمعت كلّ ذلك في جملة واحدة :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) .

والملفت للنظر أنّ الآية المباركة تؤكّد على حرية اختيار الإنسان حين قالت أنّ الله تعالى يسّر وسهّل له الطريق الى الحق ، ولم تقل أنّه تعالى أجبره على

__________________

(١) يقول الراغب في مفردات : «قدّره» (بالتشديد) : أعطاه القدرة ، ويقال : قدّرني الله على كذا وقواني عليه».

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

ثمّ يقول تعالى :( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) .

إنّ حملة العرش بالرغم من أنّهم لم يشخّصوا بصورة صريحة في هذه الآية وهل هم من الملائكة أم من جنس آخر؟ إلّا أنّ ظاهر تعبير الآية الكريمة أنّهم من الملائكة ، ومن غير المعلوم أنّ المقصود بـ (ثمانية) هل هم ثمانية ملائكة؟ أم ثمانية مجاميع من الملائكة؟ سواء كانت هذه المجاميع صغيرة أو كبيرة.

جاء في الروايات الإسلامية أنّ حملة العرش في عالم الدنيا أربعة أشخاص أو أربع (مجاميع) إلّا أنّهم في يوم القيامة يكونون ضعف ذلك ، كما نقرأ ذلك في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (إنّهم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية)(١) .

أمّا ما يتعلّق بحقيقة العرش ، وماهية الملائكة ، فذلك كما يلي :

المقصود بـ (العرش) كما هو واضح ليس تختا ممّا يكون للسلاطين ، ولكنّه ـ كما بيّنا سابقا في تفسير كلمة (العرش) ـ بأنّها تعني (مجموعة عالم الوجود) حيث أنّه عرش حكومة الله سبحانه ، ويدبّر حكومته تعالى من خلاله بواسطة الملائكة الذين هم جاهزون لتنفيذ أمره سبحانه.

وجاء في رواية اخرى أنّ حملة العرش في يوم القيامة أربعة من الأوّلين ، وأربعة من الآخرين ، والأشخاص الأوّلون الأربعة هم : (نوح) و (إبراهيم) ، و (موسى) ، و (عيسى) ، أمّا الأشخاص الآخرون الأربعة فهم (محمّد) و (علي) و (الحسن) ، و (الحسين)(٢) .

وهذا الحديث من الممكن أن يكون إشارة إلى مقام شفاعتهم للأوّلين والآخرين ، والشفاعة ـ عادة ـ تكون لمن هم أهل لها ، وممّن لهم لياقة لنيلها ، ومع ذلك فإنّه يوضّح المفهوم الواسع للعرش.

__________________

(١) تفسير (علي بن إبراهيم) ج ٢ ، ص ٣٨٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٦.

٥٨١

أمّا إذا كان حملة العرش ثمانية مجاميع ، فمن الطبيعي أن تتعهّد المجاميع للقيام بهذه المهمّة ، سواء كان هؤلاء من الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء ، وممّا تقدّم نلاحظ أنّ قسما من تدبير نظام وشؤون ذلك اليوم هو من مهمّة الملائكة وقسم من الأنبياء ، حيث أنّ الجميع جاهزون لتنفيذ أمر الله ، ويتحرّك بإرادته تعالى.

هنالك آراء في أنّ الضمير في (فوقهم) هل يرجع إلى «البشر»؟ أم إلى (الملائكة)؟ وبما أنّ الحديث في الجملة السابقة كان حول الملائكة ، فإنّ الضمير يرجع إليهم حسب الظاهر ، وبهذه الصورة فإنّ الملائكة تحيط بالعالم من جميع جهاته ، ولهذا فإنّ المقصود بـ (من فوقهم) هو (العلو من حيث المقام).

وهنالك احتمال بأنّ حملة عرش الله هم أشخاص أعلى وأفضل من الملائكة ، وتماشيا مع هذا الاحتمال فإنّ ما جاء في الحديث السابق منسجم معه ، حيث ورد فيه أنّ حملة عرش الله هم ثمانية من الأنبياء والأولياء.

وبما أنّ الحوادث المتعلّقة بيوم القيامة ليست واضحة لنا نحن سكنة هذا العالم المحدود ، لذا فليس بمقدورنا إذا إدراك المسائل المتعلّقة بحملة العرش في ذلك اليوم. إنّ الذي نتحدّث به عن هذه الأمور ما هو إلّا شبح يتراءى لنا من بعيد في ظلّ الآيات الإلهية ، وإلّا فلا تتمّ رؤية الحقيقة بدون معايشة الواقع(١) .

وممّا يجدر ملاحظته أنّ في (النفخة الاولى للصور) يموت ويفنى جميع من في السموات والأرض ، وبناء على هذا فإنّ مسألة بحث «حملة العرش» مرتبط «بالنفخة الثانية» ، حيث يتمّ إحياء الجميع ، وبالرغم من أنّه لم يأت ذكر للنفخة الثانية في الآية أعلاه ، إلّا أنّ ذلك يتّضح من خلال القرائن ، والمطالب التي سترد في الآيات اللاحقة تتعلّق بالنفخة الثانية أيضا(٢) .

* * *

__________________

(١) تطرقنا مرارا في هذا التّفسير إلى المعاني التي وردت حول (العرش) لغويا وقرآنيا ، ومن ضمن ما بحثناه حول هذه المسألة ما جاء في نهاية الآية ٥٤ من سورة الأعراف.

(٢) في الحقيقة أنّه توجد آية محذوفة بتقدير «ثمّ نفخ فيه اخرى».

٥٨٢

الآيات

( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) )

التّفسير

يا أهل المحشر : اقرؤا صحيفة أعمالي

قلنا في تفسير الآيات السابقة أنّ (نفخ الصور) يحدث مرّتين.

الاولى : عند ما يأمر تعالى بنهاية العالم وموت الأحياء وتلاشي الوجود.

والثانية : بحدوث العالم الجديد ، عالم الآخرة حيث البعث والنشور ، وكما ذكرنا فإنّ بداية الآيات تخبرنا عن النفخة الاولى ، ولم تستعرض تفاصيل النفخة الثانية.

واستمرارا للحديث في هذا الصدد ، وخصوصيات العالم الجديد الذي

٥٨٣

سيكون عند النفخة الثانية ، تحدّثنا هذه الآيات عن شيء من ذلك حيث يقول تعالى :( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) .

«تعرضون» من مادّة (عرض) بمعنى عرض شيء معيّن ، بضاعة أو غيرها.

وممّا لا شكّ فيه أنّ جميع ما في الوجود ـ بشرا وغيره ـ هو بين يدي الله سبحانه ، سواء في هذه الدنيا أو في عالم الآخرة ، إلّا أنّ هذا الأمر يظهر ويتّضح بصورة أشدّ في يوم القيامة ، كما في مسألة حاكمية الله المطلقة والدائمة على عالم الوجود ، حيث تتّضح في يوم القيامة أكثر من أي وقت آخر.

إنّ جملة :( تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ الأسرار الخاصّة بالإنسان وما يحاول إخفاءه يتحوّل في ذلك اليوم إلى حالة من الظهور والوضوح كما يقول تعالى :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) (١)

في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفيّة فحسب ، بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيّات الجميع فإنّها هي الاخرى تبرز وتظهر ، وهذا أمر عظيم جدّا ، بل إنّه أعظم من انفجار الأجرام السماوية وتلاشي الجبال ـ كما يقول البعض ـ حيث الفضيحة الكبرى للطالحين ، والعزّة والرفعة للمؤمنين بشكل لا نظير له ، يوم يكون الإنسان عريانا ليس من حيث الجسم فقط ، بل أعماله وأسراره الخفية تكون على رؤوس الأشهاد ، نعم لا يبقى أمر مخفي من وجودنا وكياننا أجمع في ذلك اليوم العظيم.

ويمكن أن يكون المراد هو الإشارة للإحاطة العلمية لله تعالى بجميع المخلوقات ، ولكن التّفسير الأوّل أنسب.

لذا يقول سبحانه بعد ذلك :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) (٢) .

__________________

(١) الطارق ، الآية ٩.

(٢) «هاؤم» كما يقول أصحاب اللغة هي بمعنى (خذوا) وإذا كان المخاطب جمع مذكر ، فيقال : (هاؤم) ، وإذا جمعت جمع

٥٨٤

إنّ الفرحة تملؤه بصورة لا مثيل لها ، حتّى يكاد يطير من شدّة فرحته ، حيث أنّ كلّ ذرّة من ذرّات وجوده تغمرها الغبطة والسعادة والشكر لله سبحانه على هذه النعم والتوفيق والهداية التي منّ الله بها عليه ويصرخ (الحمد لله).

ثمّ يعلن بافتخار عظيم فيقول :( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) (١) .

«ظنّ» في مثل هذه الموارد تكون بمعنى (اليقين) إنّه يريد أن يقول : إنّ ما تفضّل به الله تعالى عليّ كان بسبب إيماني بهذا اليوم ، والحقيقة أنّ الإيمان بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى ، والتعهّد والإحسان بالمسؤولية ، وهذا من أهمّ عوامل تربية الإنسان.

ثمّ يبيّن الله تعالى في الآيات اللاحقة جانبا من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حيث يقول :( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) (٢) .

وبالرغم من أنّ الجملة أعلاه تجسّد كلّ ما يستحقّ أن يقال في هذا الموضوع ، إلّا أنّه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر :( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ) .

إنّ الجنّة التي تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قطّ ، ولم يسمع بها ، ولم يتصور مثلها.

( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) (٣) .

حيث لا جهد مكلّف ولا مشقّة ولا صعوبة في قطف الثمار ، ولا عائق يحول من الاقتراب للأشجار المحمّلة بالثمار ، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون

__________________

مؤنث (هائن) وإذا كان مفردا مذكرا كان (هاء) وتكون (بالفتح) ، وإذا كان مفردا مؤنثا فإنّ (الهاء) تكون مكسورة ، وللتثنية هاؤما ، يقول الراغب في المفردات : (هاء) تستعمل بمعنى الأخذ ، و (هات) بمعنى العطاء.

(١) ال «هاء» في (حسابيه) تكون (هاء الاستراحة) ، أو (هاء السكتة) ، وليس لها معنى خاص. أيضا في (كتابيه).

(٢) «الرضا» تكون عادة حالة وصفة للأشخاص ، إلّا أنّه سبحانه جعلها صفة للحياة نفسها في الآية أعلاه ، وهذه تمثّل نهاية التأكيد ، يعني أنّها حياة يعمّها الرضا والسرور.

(٣) «قطوف» جمع (قطف) على وزن (حزب) بمعنى أنّ الثمر قد اقتطف ، وتأتي أحيانا بمعنى الثمار المهيّئة للاقتطاف أيضا.

٥٨٥

استثناء.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يوجّه البارئعزوجل خطابه المملوء بالحبّ والمودّة والاعتزاز إلى أهل الجنّة بقوله :( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) .

وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها الله لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم الصالحة التي ادّخروها ليوم كان فيه الحساب الحقّ ، وأرسلوها سلفا أمامهم ، وإنّ الأعمال الخيّرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظلّ الرحمة الإلهية واللطف الربّاني.

* * *

ملاحظات

١ ـ تفسير آخر لكلمة (العرش)

جاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «حملة العرش ـ والعرش العلم ـ ثمانية ، أربعة منّا ، وأربعة ممّن شاء الله»(١) .

وجاء أيضا في حديث آخر لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «فالذين يحملون العرش ، هم العلماء ، الذين حمّلهم الله علمه»(٢) .

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه قال : «العرش ليس هو الله ، والعرش اسم علم وقدرة»(٣) .

إنّ ما يستفاد من هذه الأحاديث ـ بشكل عام ـ أنّ للعرش تفسيرا آخر بالإضافة إلى التّفسير السابق الذي ذكرناه سابقا ـ وهو (صفات الله) ـ صفات مثل

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٠٦ (حديث ٢٨).

(٢) المصدر السابق ، (حديث ٢٦).

(٣) المصدر السابق ، (حديث ٢٧).

٥٨٦

(العلم) و (القدرة) ، وبناء على هذا ، فإنّ حملة العرش الإلهي هم حملة علمه ، وكلّما كان الإنسان أو الملك أكثر علما ، كان له سهم أكبر في حمل العرش العظيم.

ومن هنا فإنّ هذه الحقيقة تتبلور بصورة أفضل وهي : أنّ العرش ليس تختا جسمانيا يشبه تخوت السلاطين ، بل له معان عديدة كنائية مختلفة إذا استعمل منسوبا إلى الله تعالى.

٢ ـ مقام الإمام عليعليه‌السلام وشيعته

جاء في روايات عديدة أنّ الآية :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) نزلت في حقّ الإمام عليعليه‌السلام وشيعته(١) .

٣ ـ جواب على سؤال

والسؤال المطروح هو : هل أنّ دعوة المؤمنين لأهل المحشر لقراءة كتاب حسابهم وصحيفة أعمالهم ـ طبقا لما جاء في الآية الكريمة :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) ـ تعني أنّ صحيفة أعمالهم خالية من أي ذنب؟

وفي مقام الجواب يمكن أن نستفيد من بعض الأحاديث منها حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «يدني الله العبد يوم القيامة ، فيقرره بذنوبه كلّها ، حتى إذا راى أنّه قد هلك قال الله تعالى : إنّي سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثمّ يعطى كتاب حسناته بيمينه»(٢) (٢).

وقال البعض أيضا : إنّ الله تعالى يبدّل سيّئات المؤمنين في ذلك اليوم إلى (حسنات) وبذلك لا تبدو أي نقطة سوداء في صحائف أعمالهم.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٦٦.

(٢) (في ضلال القرآن) ج ٨ ، ص ٢٥٦.

٥٨٧

الآيات

( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) )

التّفسير

يا ليتني متّ قبل هذا :

كان الحديث في الآيات السابقة عن (أصحاب اليمن) حيث صحائف أعمالهم بأيديهم اليمنى ، ويوجّهون نداءهم إلى أهل المحشر بكلّ فخر للاطلاع على صحيفة أعمالهم وقراءتها ، ثمّ يدخلون جنّات الخلد حيث تكون مستقرّهم الأبدي.

أمّا هذه الآيات فتستعرض الطرف المقابل لأصحاب اليمين وهم (أصحاب الشمال) وتقدّم مقارنة بين المجموعتين ، حيث يقول تعالى :( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ، فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ) (١) .

__________________

(١) ال (هاء) في (كتابيه) و (حسابيه) و (ماليه) و (سلطانيه) وكذلك في الكلمات التي ستأتي في الآيات اللاحقة هي

٥٨٨

( وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) (١) .

نعم ، في ذلك اليوم العظيم ، يوم البعث ويوم البروز والظهور ، يوم الحساب والمحكمة الإلهية العظيمة ، حيث تتوضّح وتنكشف حقيقة الأعمال القبيحة والسيّئة للإنسان وعند ما يواجهها يبدأ يجأر ويصرخ ويطلق الزفرات الساخنة المتلاحقة من الأعماق على المصير السيء الذي أوصل نفسه إليه ، والشرّ الذي جلبه عليها ، ويتمنّى أن يقطع علاقته بماضيه الأسود تماما ، ويتمنّى أن يموت ويفنى ويتخلّص من هذه الفضيحة الكبيرة المهلكة ، ويعبّر عن هذا الشعور قوله تعالى :( وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) (٢)

وذكرت تفاسير اخرى ـ أيضا ـ لمعنى قوله :( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) منها أنّ المقصود من (القاضية) هي الموتة الاولى ، يعني يا ليتنا لم نحي مرّة اخرى ونبعث من جديد ، في حين كان أقبح شيء في نظرهم هو الموت ، ويتمنّى هؤلاء أن لو استمرّ موتهم ولم يواجهوا الخزي في حياتهم الثانية في المحكمة الإلهية العادلة.

وقيل أنّ المقصود من «القاضية» (نفخة الصور) الاولى حيث عبّر عنها بـ (القارعة) أيضا ، ويعني ذلك تمنّيهم عدم حدوث النفخة الثانية ، لذا فهم يقولون : يا ليت لم تكن هذه النفخة ، إلّا أنّ التّفسير الذي تحدّثنا عنه في البداية أنسب من الجميع.

ثمّ يضيف تعالى مستعرضا اعتراف المجرمين بذنوبهم فيقول :( ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ) فالأموال التي كنت أجمعها في الدنيا لم تنقذني الآن ولم تعنّي ولم تدفع عنّي الأهوال أو تحلّ مشاكلي.

__________________

(هاء السكتة) أو (الاستراحة) وكما قلنا فإنّ هذه الهاء ليس لها معنى خاصّ ، بل إنّها تعتبر وقفا لطيفا في مثل هذه الكلمات ، ولها تناسب مع الوضع الروحي وحالة الأشخاص الذين يقولون مثل هذا الكلام (يرجى الانتباه لذلك).

(١) جملة (كانت القاضية) لها محذوف تقديره : (كانت هذه الحالة القاضية).

(٢) النبأ ، الآية ٤٠.

٥٨٩

( هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) فليست أموالي لم تسعفني في هذه الشدّة ، بل أنّ قدرتي ومقامي وسلطتي هي الاخرى هلكت وزالت عنّي.

وخلاصة الأمر : إنّ الأموال والمقام والسلطان والقوّة كلّها لم تفدني ولم تدفع عنّي ما أنا ملاقيه من عقاب على ما أسرفت في السابق ، وقد وقفت بين يدي محكمة العدل الإلهي ، وأنا لا أملك أي قوّة تنفعني في هذا اليوم ، فقد ذهبت قدرتي ، وقطع أملي من كلّ شيء ، وتعطّلت بي الأسباب. وهكذا يكون المجرمون في نهاية الذلّ والخزي والندم ، ولات ساعة مندم.

اعتبر البعض معنى ال (سلطان) هنا هو الدليل والبرهان الذي يكون عاملا في الإنتصار ، وبذلك يكون تفسير الآية ، أنّ المذنب يقول في ذلك اليوم : إنّي لا أملك أي دليل وحجّة أستطيع بها تبرير أعمالي في حضرة البارئعزوجل .

وقيل أيضا أنّ المراد من (السلطان) هنا ليس السلطة الحكومية ، ذلك لأنّ الداخلين إلى جهنّم ليسوا جميعا سلاطين أو أمراء ، بل إنّ المراد هو سلطة الإنسان على نفسه وحياته وإرادته ، ولكن بما أنّ الكثير من أهل النار كانوا يتمتعون بسلطة ونفوذ في عالم الدنيا ، أو أنّهم كانوا من أصحاب الأموال لذا يمكن اعتبار وجهة النظر هذه صحيحة حسب الظاهر.

* * *

ملاحظة

بعض القصص المثيرة :

نقلت في هذا المجال قصص كثيرة تؤكّد على المفاهيم العامّة التي احتوتها الآيات الكريمة أعلاه ، كموضع شاهد وعبرة وتأييد لما ذهبت إليه الآيات المباركات ، لتكون درسا لأولئك الذين جعلوا (المال والسلطان) همّهم الأوّل ، وانغمسوا حتّى الأذقان في الغفلة والغرور والذنوب من أجلهما ، ومن جملتها ما

٥٩٠

يلي :

١ ـ نقل في (سفينة البحار) عن كتاب (النصائح) ما نصّه : (عند ما اشتدّ مرض هارون الرشيد في خراسان أمر بإحضار طبيب من طوس ، ثمّ أوصى أن يعرض إدراره مع إدرار قسم من المرضى والأصحاء على الطبيب ، ففحص الطبيب قناني الإدرار الواحدة بعد الاخرى ، حتّى وصل إلى القنينة قال : قولوا لصاحب هذه القنينة أن يوصي ، لأنّ قواه قد انهدّت وبنيته قد هدمت ، فعند سماع هارون هذا الكلام يئس من حياته ، وتلا هذه الأبيات الشعرية :

إنّ الطبيب بطبّه ودوائه

لا يستطيع دفاع نحب قد أتى

ما للطبيب يموت بالداء الذي

قد كان يبرئ مثله فيما مضى

وفي هذه الأثناء سمع الناس يتداولون خبر موته ، ولكي يبطل مفعول هذه الإشاعة ، أمر باستحضار دابة ، وطلب أن يركب عليها ، وعند ما امتطى الدابة ضعفت أرجلها عن حمله ، قال : أنزلوني ، فإنّ الذي أشاع هذه الشائعة قد صدق. ثمّ أمر بجلب أكفان له ، واختار كفنا منها نال إعجابه ، وقال احضروا لي قبرا بالقرب من فراشي هذا ، ثمّ نظر إلى قبره ، وتلا هذه الآيات :( ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) (١) .

٢ ـ ونقل ـ أيضا ـ في نفس المصدر عن العالم الكبير (الشيخ البهائي) ما نصّه هكذا : (كان هنالك رجل كثير الحساب لنفسه واسمه (توبة) ، حوّل عمره البالغ ستّين عاما إلى أيّام فكان مجموعها (٢١٥٠٠) وعند ذلك قال : يا ويلي إذا لم أكن قد أذنبت في اليوم إلّا ذنبا واحدا فإنّ مجموع ذنوبي الآن يربو على واحد وعشرين ألف ذنب؟ فكيف الاقي ربّي بواحد وعشرين ألف ذنب؟ وبينما هو في

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٥٢٣ ، مادّة رشد.

٥٩١

هذه الحال إذ صرخ صرخة سقط على أثرها على الأرض وسلّم روحه إلى بارئها)(١) .

٣ ـ ورد في كتاب «اليتيمة» للثعالبي أنّه لمّا حانت وفاة عضد الدولة لم يتحرّك لسانه إلّا بهذه الآية( ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) .

* * *

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٤٨٨ مادّة ذنب (باقتباس).

٥٩٢

الآيات

( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) )

التّفسير

خذوه فغلّوه :

استمرارا للآيات السابقة التي كانت تتحدّث عن (أصحاب الشمال) الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى ، فتنطلق الآهات والأنّات ، ويتمنّى أحدهم الموت ـ يشير تعالى في الآيات أعلاه إلى قسم من العذاب الذي يلاقونه يوم القيامة فيقول :( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ) .

«غلّوه» من مادّة (غلّ) ، وكما قلنا سابقا أنّ المراد هو السلسلة التي كانوا يربطون بها أيدي وأرجل المجرمين إلى أعناقهم مقترن بالكثير من المشقّة والألم.

٥٩٣

( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) .

«السلسلة» في الأصل مأخوذة من مادّة (تسلسل) بمعنى الاهتزاز والارتعاش ، لأنّ حلقات السلسلة الحديدية تهتزّ وتتحرّك.

التعبير بـ (سبعون ذراعا) يمكن أن يكون من باب (الكثرة) إذ أنّ العدد سبعين كثيرا ما يستعمل للكثرة ، كما يمكن أن يكون المقصود هو العدد (سبعون) نفسه ، وعلى كلّ حال ، فإنّ مثل هذا الزنجير يطوق به المجرمون بحيث يربطون به من كلّ جانب.

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه السلاسل الطويلة ليست لشخص واحد. بل لمجاميع يربط كلّ منها بسلسلة ، وذكر هذه العقوبة بعد ذكر الغلّ في الآيات السابقة يتناسب أكثر مع هذا المعنى.

«ذراع» : بمعنى الفاصلة بين الساعة ونهاية الأصابع ، (وقياسها بحدود نصف متر) وكانت وحدة الطول المستعملة عند العرب ، وهي قياس طبيعي ، وقال البعض إنّ (الذراع) الوارد في الآية الكريمة هو غير الذراع المتعارف عليه ، حيث أنّ كلّ وحدة منه تمثّل فواصل عظيمة ، ويربط بهذا الزنجير جميع أهل جهنّم.

ونكرّر هنا مرّة اخرى قولنا أنّ المسائل المرتبطة بالقيامة لا نستطيع تصويرها بالكامل بواسطة بياننا نحن سكّان الدنيا ، إلّا أنّنا نعكس شبحا ـ فقط ـ من خلال ما جاء في الآيات والروايات.

التعبير بـ (ثمّ) في هذه الآية يوضّح لنا أنّ المجرمين بعد دخولهم في النار يربطون بالسلسلة ذات السبعين ذراعا ، وهذه عقوبة جديدة لهم. كما يوجد احتمال أنّ هذه السلاسل الفردية أو الجماعية تكون قبل الدخول في جهنّم ، و (ثم) جاءت للتأخير في الذكر.

وتتطرق الآيتان التاليتان لبيان السبب الرئيسي لهذا العذاب العسير ، فيقول

٥٩٤

تعالى :( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) .

وكلّما كان الأنبياء والأولياء ورسل الله تعالى يدعونه للتوجّه إلى (الواحد الأحد) لم يكن ليقبل ، ولذا فإنّ ارتباطه بالخالق كان مقطوعا بصورة تامّة.

( وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) .

وبهذا الشكل فإنّ هؤلاء قد قطعوا علاقتهم مع (الخلق) أيضا.

وبهذا اللحاظ فإنّ العامل الأساسي لبؤس هؤلاء المجرمين هو قطع علاقتهم مع (الخالق) و (الخلق).

ويستفاد من التعبير السابق ـ بصورة واضحة ـ أنّه يمكن تلخيص أهمّ الطاعات والعبادات وأوامر الشرع بهذين الأساسين : (الإيمان) و (إطعام) المسكين) وهذا يمثّل إشارة إلى الأهميّة البالغة لهذا العمل الإنساني العظيم والحقيقة كما يقول البعض : إنّ أردأ العقائد هو (الكفر) كما أنّ أقبح الرذائل الأخلاقية هو (البخل).

والطريف في التعبير أنّه لم يقل (كان لا يطعم) ، بل قال : كان لا يحثّ الآخرين على الإطعام ، إشارة إلى :

أوّلا : إنّ حلّ مشكلة المحتاجين وإشباع الجائعين لا يمكن أن يتغلّب عليها شخص واحد ، بل يجب دعوة الآخرين أيضا للمساهمة بمثل هذا العمل ، ليعمّ الخير والفضل والإحسان جميع الناس.

ثانيا : قد يكون الشخص عاجزا عن إطعام المساكين ، ولكن الجميع بإمكانهم حثّ الآخرين على ذلك.

ثالثا : محاربة صفة البخل ، حيث أنّ من صفات البخيل أنّه يمتنع عن العطاء والبذل ، ولا يرغب أو يرتاح لبذل وعطاء الآخرين أيضا.

وينقل أنّ شخصا من القدماء كان يأمر زوجته بأن تطبخ طعاما أكثر من

٥٩٥

حاجتهم لإعطاء المساكين ، ثمّ كان يقول : (أخرجنا نصف السلسلة من أعناقنا وذلك بالإيمان بالله ، والنصف الآخر بالإطعام)(١) .

ثمّ يضيف تعالى :( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ ) أي صديق مخلص وحميم( وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) أي القيح والدم.

والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ (الجزاء) و (العمل) لهؤلاء الجماعة متناسبان تماما ، فبسبب قطع علاقتهم بالله ، فليس لهم هنالك من صديق ولا حميم ، كما أنّ سبب امتناعهم عن إطعام المحتاجين فإنّ طعامهم في ذلك اليوم لن يكون إلّا القيح والدم ، لأنّهم حرموا المساكين من الإطعام وتركوهم نهبا للجوع والألم في الوقت الذي كانوا يتمتّعون لسنين طويلة بألذّ وأطيب الأطعمة.

يقول الراغب في المفردات : «غسلين» غسالة أبدان الكفّار في النار ، إلّا أنّ المتعارف عليه أنّ المقصود به هو الدم والقيح النازل من أجسام أهل النار ، ويحتمل أنّ (الراغب) قد قصد هذا المعنى أيضا.

كما أنّ التعبير بـ (الطعام) يناسب هذا المعنى كذلك.

وهنا يطرح سؤال ، وهو متعلّق بما ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى :( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) (٢) ، وقد فسّروا (الضريع) بأنّه نوع من الشوك.

وكذلك ما ورد بهذا الشأن في قوله تعالى :( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ) (٣) ، وقد فسّروا (الزقوم) بأنّه نبات مرّ غير مستساغ الطعم ذو رائحة نتنة حيث يكثر وجود مثل هذا النبات في أرض (تهامة) وهو مرّ وحارق وذو صمغ.

والسؤال هو : كيف يمكن الجمع بين هذه الآيات والآية مورد البحث؟

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٩ ، ص ٥١.

(٢) الغاشية ، الآية ٦.

(٣) الدخان ، ٤٣ ـ ٤٤.

٥٩٦

قال البعض في الجواب : إنّ هذه الكلمات الثلاث (الضريع ، والزقوم ، والغسلين) إشارة إلى موضوع واحد وهو (نبات خشن غير مستساغ الطعم يكون طعام أهل النار).

وقيل : إنّ أهل النّار في طبقات مختلفة ، وإنّ كلّ صنف من هذه النباتات والأطعمة يكون غذاء لمجموعة منهم ، أو طبقة من طبقاتهم.

وقيل : إنّ غذاء أهل النار هو (الزقوم والضريع) ، وشرابهم (الغسلين) ، والتعبير بـ (الطعام) عن الشراب في هذه الآية ليس بالجديد.

ويضيف سبحانه في آخر آية مورد البحث في قوله تعالى للتأكيد :( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ (خاطئ) تقال للشخص الذي يرتكب خطأ عمدا ، أمّا (المخطئ) فتطلق على من ارتكب خطأ بصورة مطلقة (عمدا أو سهوا) وبناء على ما تقدّم فإنّ طعام أهل جهنّم خاصّ للأشخاص الذين سلكوا درب الشرك والكفر والبخل والطغيان تمردّا وعصيانا وعمدا.

* * *

ملاحظة

بداية وضع الحركات على حروف القرآن الكريم :

أخرج «البيهقي» في شعب الإيمان عن «صعصعة بن صوحان» قال : جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال : كيف هذا الحرف «لا يأكله إلّا الخاطون» كلّ والله يخطو؟ (أي إنّ جميع الناس تخطو وتمشي فهل انّ الجميع سوف يأكل من هذا الطعام؟) فتبسّم علي وقال : يا أعرابي (لا يأكله إلّا الخاطئون) قال : صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليسلّم عبده ، ثمّ التفت عليعليه‌السلام إلى أبي الأسود

٥٩٧

فقال : «إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئا يستدلّون به على صلاح ألسنتهم ، فرسم لهم الرفع والنصب والخفض»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير (الدرّ المنثور) لجلال الدين السيوطي ، ج ٨ ، ص ٢٧٥.

٥٩٨

الآيات

( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) )

التّفسير

القرآن كلام الله قطعا :

بعد الأبحاث التي مرّت بنا في الآيات السابقة حول القيامة وما أعدّه الله سبحانه للمؤمنين والكفّار ، يبيّن البارئعزوجل في هذه الآيات بحثا وافيا حول القرآن والنبوّة ، ليكون البحثان (النبوّة) و (المعاد) كلا منهما مكمّلا للآخر.

يقول الراغب في البداية :( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ) .

المعروف أنّ كلمة (لا) زائدة وللتأكيد في مثل هذه الموارد ، ولكن ذهب البعض إلى أنّ (لا) تعطي معنى النفي أيضا ، ويعني ذلك أنّني لا اقسم بهذا الأمر ، لأنّه أوّلا : لا توجد ضرورة لمثل هذا القسم. وثانيا : يجب أن يكون القسم باسم

٥٩٩

الله ، إلّا أنّ هذا القول ضعيف ، والمناسب هو المعنى الأوّل ، إذ ورد في القرآن الكريم قسم باسم الله وبغيره في الكثير من الآيات.

جملة( بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ) لها معنى واسع ، حيث تشمل كلّ ما يراه البشر وما لا يراه ، وبعبارة اخرى تشمل كلّ عالم (الشهود) و (الغيب).

وقد ذكرت احتمالات اخرى لتفسير هاتين الآيتين ، منها : أنّ المقصود من عبارة( بِما تُبْصِرُونَ ) هو عالم الخلقة ، ومن( وَما لا تُبْصِرُونَ ) هو الخالقعزوجل .

وقيل إنّ المقصود بالأولى هو النعم الظاهرية ، وفي الثانية النعم الباطنية. أو أنّ المقصود بهما : البشر والملائكة على التوالي ، أو الأجسام والأرواح ، أو الدنيا والآخرة.

إلّا أنّ سعة مفهوم هاتين العبارتين يمنع من تحديدهما. وبناء على هذا فإنّ كلّ ما يدخل في دائرة المشاهدة وما هو خارج عنها مشمول للقسم ، إلّا أنّه يستبعد شمولهما للبارئعزوجل ، بلحاظ أنّ جعل الخالق مقترنا بالخلق أمر غير مناسب ، خصوصا مع تعبير (ما) الذي جاء في الآية الكريمة والذي يستعمل في الغالب لغير العاقل.

ويستفاد ضمنا من هذا التعبير بصورة جيّدة أنّ الأمور والأشياء التي لا يراها الإنسان كثيرة جدّا ، وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة ، وهي أنّ المحسوسات التي تحيطنا تشمل دائرة محدودة من الموجودات ـ والأشياء غير المحسوسة ـ سواء في مجال الألوان والأصوات والأمواج والمذاقات وغيرها ـ هي في الواقع أوسع دائرة من الأمور الحسيّة.

فالنجوم التي يمكن رؤيتها في مجموع نصفي الكرة الأرضية بحدود خمسة آلاف نجمة ، طبقا لحسابات علماء الفلك ، أمّا النجوم التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة فهي تعدّ بالمليارات.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624