الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 624
المشاهدات: 185391
تحميل: 4733


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 185391 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 18

مؤلف:
العربية

الآيات

( سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) )

التّفسير

المسابقة المعنوية الكبرى!!

بعد ما بيّنت الآيات السابقة قيمة هذه الدنيا المتواضعة الفانية ، وكيف أنّ الناس فيها منهمكون في اللذات والتكاثر والتفاخر وجمع الأموال تأتي الآيات

٦١

مورد البحث لتدعو الناس إلى العمل للحصول على موقع في الدار الآخرة ، ذلك الموقع المتّسم بالثبات والبقاء والخلود ، وتدعوهم إلى السباق في هذا المجال وبذل الجهد فيه ، حيث يقول سبحانه :( سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) .

وفي الحقيقة أنّ مغفرة الله هي مفتاح الجنّة ، تلك الجنّة التي عرضها السماوات والأرض وقد أعدّت من الآن لضيافة المؤمنين ، حتّى لا يقول أحد إنّ الجنّة نسيئة ودين ولا أمل في النسيئة ، فعلى فرض أنّها نسيئة فانّها أقوى من كلّ نقد ، لأنّها ضمن وعد الله القادر على كلّ شيء وأصدق من كلّ وعد ، فكيف الحال وهي موجودة الآن وبصورة نقد؟!

وقد ورد نفس هذا المعنى في سورة آل عمران (الآية رقم ١٣٣) مع اختلاف بسيط ، حيث إنّ في الآية مورد البحث جاءت كلمة (سابقوا) من مادّة (المسابقة) وهنا لك وردت كلمة (سارعوا) من مادّة (المسارعة) ، وكلاهما قريب من الآخر بالنظر إلى مفهوم باب «المفاعلة» حيث تتجسّد غلبة شخصين أحدهما على الآخر.

والاختلاف الآخر هو أنّها هنا لك قد جاءت بوصف :( عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) وهنا جاءت :( عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) وإذا دقّقنا قليلا يتّضح أنّ هذين التعبيرين يوضّحان حقيقة واحدة أيضا.

ويقول سبحانه هناك :( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) وهنا يقول :( أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

ولأنّ المتّقين ثمرة شجرة الإيمان الحقيقي ، فإنّ هذين التعبيرين في الواقع كلّ منها لازم وملزوم للآخر.

وبهذه الصورة فإنّ الإثنين يتحدّثان عن حقيقة واحدة ببيانين مختلفين ، ولهذا فما ذكره البعض من أنّ الآية (سورة آل عمران تشير إلى «جنّة المقرّبين» ، وآية مورد البحث تشير إلى «جنّة المؤمنين» ، صحيح حسب الظاهر.

وعلى كل حال فالتعبير بـ (عرض) هنا ليس في مقابل (الطول) كما قال بعض

٦٢

المفسّرين حيث كانوا يبحثون عن طول تلك الجنّة التي عرضها مثل السماء والأرض ، ولهذا السبب فإنّهم واجهوا صعوبة في توجيه ذلك ، حيث إنّ العرض في مثل هذه الاستعمالات بمعنى «السعة».

والتعبير بـ «المغفرة» قبل البشارة بالجنّة ـ الذي ورد في الآيتين ـ هو إشارة لطيفة إلى أنّه ليس من اللائق الدخول إلى الجنّة والقرب من الله قبل المغفرة والتطهير.

وممّا ينبغي ملاحظته أنّ المسارعة لمغفرة الله لا بدّ أن تكون عن طريق أسبابها كالتوبة والتعويض عن الطاعات الفائتة ، وأساسا فانّ طاعة اللهعزوجل يعني تجنّب المعاصي ، ولكنّنا نجد في بعض الأحاديث تأكيد على القيام بالواجبات وبعض المستحبّات كالتقدّم للصفّ الأوّل في الجماعة ، أو الصفّ الأوّل في الجهاد ، أو تكبيرة الإحرام مع إمام الجماعة ، أو الصلاة في أوّل وقتها ، فهذه من قبيل بيان المصداق ولا يقلّل شيئا من المفهوم الواسع للآية.

ويضيف تعالى في نهاية الآية :( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

ومن المؤكّد أنّ جنّة بذلك الاتّساع وبهذه النعم ، ليس من السهل للإنسان أن يصل إليها بأعماله المحدودة ، لذا فإنّ الفضل واللطف والرحمة الإلهية ـ فقط ـ هي التي تستطيع أن تمنحه ذلك الجزاء العظيم في مقابل اليسير من أعماله ، إذ أنّ الجزاء الإلهي لا يكون دائما بمقياس العمل ، بل إنّه بمقياس الكرم الإلهي.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يرينا بوضوح أنّ الثواب والجزاء لا يتناسب مع طبيعة العمل ، حيث أنّه نوع من التفضل والرحمة.

ولمزيد من التأكيد على عدم التعلّق بالدنيا ، وعدم الفرح والغرور عند إقبالها ، أو الحزن عند إدبارها ، يضيف سبحانه :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي

٦٣

أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (١) .

نعم ، إنّ المصائب التي تحدث في الطبيعة كالزلازل والسيول والفيضانات والآفات المختلفة ، وكذلك المصائب التي تقع على البشر كالموت وأنواع الحوادث المؤلمة التي تشمل الإنسان ، فإنّها مقدّرة من قبل ومسجّلة في لوح محفوظ.

والجدير بالانتباه أنّ المصائب المشار إليها في الآية هي المصائب التي لا يمكن التخلّص منها ، وليست ناتجة عن أعمال الإنسان. (بتعبير آخر الحصر هنا حصر إضافي).

والشاهد في هذا الكلام قوله تعالى :( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (٢)

وبملاحظة أنّ الآيات يفسّر بعضها البعض الآخر يتبيّن لنا عند ما نضع هاتين الآيتين جنبا إلى جنب أنّ المصائب التي يبتلى بها الإنسان على نوعين :

الأوّل : المصائب التي تكون مجازاة وكفّارة للذنوب ، كالظلم والجور والخيانة والانحراف وأمثالها ، فإنّها تكون مصدرا للكثير من مصائب الإنسان.

الثاني : من المصائب هو ما لا تكون للإنسان يد فيه ، وتكون مقدّرة وحتمية وغير قابلة للاجتناب حيث يبتلي فيها الفرد والمجتمع ، لذا فإنّ الكثير من الأنبياء والأولياء والصالحين يبتلون بمثل هذه المصائب.

إنّ هذه المصائب لها فلسفة دقيقة حيث أشرنا إليها في أبحاث معرفة الله والعدل الإلهي ومسألة الآفات والبلايا.

__________________

(١) بالنسبة لعود الضمير في (نبرأها) فقد ذكروا احتمالات متعدّدة حيث اعتبر البعض أنّ مرجعها للأرض والأنفس ، والبعض الاخر اعتبرها للمصيبة ، وبعض جميعها ، إلّا أنّه بالنظر إلى ذيل الآية فإنّ المعنى الأوّل هو الأنسب لأنّه يريد أن يقول : حتّى قبل خلق السماء والأرض وخلقكم فإنّ هذه المصائب مقدّرة.

(٢) الشورى ، الآية ٣٠.

٦٤

ونقرأ في هذا الصدد القصّة التالية : عند ما أدخل الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام مغلولا مكبّلا في مجلس يزيد بن معاوية ، فالتفت يزيد إلى الإمام ، وقرأ آية سورة الشورى :( ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) وكان يريد أن يظهر أنّ مصائبكم كانت نتيجة أعمالكم ، وبهذا أراد الطعن ، بالإمامعليه‌السلام بهذا الكلام ، إلّا أنّ الإمام ردّ عليه فورا وقال : كلّا ، ما نزلت هذه فينا ، إنّما نزلت فينا :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) (١) .

ولنا بحث مفصّل في هذا المجال في تفسير الآية رقم ٣٠ من سورة الشورى(٢) .

أتباع أهل البيت أيضا عرفوا نفس المعنى ، في هذه الآية ، إذ نقل أنّ الحجّاج عند ما جيء له بسعيد بن جبير وصمّم على قتله ، بكى رجل من الحاضرين. قال سعيد : وما يبكيك؟ فأجاب : للمصاب الذي حلّ بك ، قال : لا تبك فقد كان في علم الله أن يكون ذلك ، ألم تسمع قوله تعالى :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) (٣) .

ومن الطبيعي أنّ كلّ الحوادث التي تحدث في هذا العالم مسجّلة في لوح محفوظ وفي علم اللهعزوجل اللّامحدود ، وإذا أشرنا هنا إلى المصائب التي تقع في الأرض وفي الأنفس فقط ، فلأنّ موضوع الحديث بهذا الاتّجاه ، كما سنرى في الآية اللاحقة التي يستنتج منها الموضوع نفسه.

وبالضمن فإنّ جملة :( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) تشير إلى تسجيل وحفظ كلّ هذه الحوادث في لوح محفوظ مع كثرتها البالغة ، وذلك سهل يسير على الله تعالى.

والمقصود من «اللوح المحفوظ» هو : العلم اللامتناهي لله سبحانه ، أو صحيفة

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤٧.

(٢) كان لدينا بحث آخر في نهاية الآية (٧٨) ، (٧٩) من سورة النساء والتي تتناسب مع الآيات مورد البحث.

(٣) روح البيان ج ٩ ، ص ٣٧٥.

٦٥

عالم الخلقة ونظام العلّة والمعلول ، والتي هي مصداق العلم الفعلي لله سبحانه «فتدبّر».

ولنلاحظ الآن ما هي فلسفة تقدير المصائب في اللوح المحفوظ ، ومن ثمّ بيان هذه الحقيقة في القرآن الكريم؟

الآية اللاحقة تزيح هذا الحجاب عن هذا السرّ المهمّ حيث يقول تعالى :( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) .

هاتان الجملتان القصيرتان تحلّان ـ في الحقيقة ـ إحدى المسائل المعقّدة لفلسفة الخلقة ، لأنّ الإنسان يواجه دائما مشاكل وصعوبات وحوادث مؤسفة في عالم الوجود ، ويسأل دائما نفسه هذا السؤال وهو : رغم أنّ الله رحمن رحيم وكريم ، فلما ذا هذه الحوادث المؤلمة؟!

ويجيب سبحانه أنّ هدف ذلك هو : ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشدّوا إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة كما ورد في الآية أعلاه.

والمطلوب أن تتعاملوا مع هذا المعبر والجسر الذي اسمه الدنيا بشكل لا تستولي على لباب قلوبكم ، وتفقدوا معها شخصيّتكم وكيانكم وتحسبون أنّها خالدة وباقية ، حيث إنّ هذا الانشداد هو أكبر عدوّ لسعادتكم الحقيقية ، حيث يجعلكم في غفلة عن ذكر الله ويمنعكم من مسيرة التكامل.

هذه المصائب هي إنذار للغافلين وسوط على الأرواح التي تعيش الغفلة والسبات ، ودلالة على قصر عمر الدنيا وعدم خلودها وبقائها.

والحقيقة أنّ المظاهر البرّاقة لدار الغرور تبهر الإنسان وتلهيه بسرعة عن ذكر الحقّ سبحانه ، وقد يستيقظ فجأة ويرى أنّ الوقت قد فات وقد تخلّف عن الركب.

هذه الحوادث كانت ولا تزال في الحياة ، وستبقى بالرغم من التقدّم العلمي العظيم ، ولن يستطيع العلم أن يمنع حدوثها ونتائجها المؤلمة ، كالزلازل والطوفان والسيول والأمطار وما إلى ذلك وهي درس من قسوة الحياة وصرخة مدوّية

٦٦

فيها

وهذا لا يعني أن يعرض الإنسان عن الهبات الإلهية في هذا العالم أو يمتنع من الاستفادة منها ، ولكن المهمّ ألّا يصبح أسيرا فيها ، وألّا يجعلها هي الهدف والنقطة المركزية في حياته.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم استعمل لفظ (فاتكم) للدلالة على ما فقده الإنسان من أشياء ، أمّا ما يخصّ الهبات والنعم التي حصل عليها فإنّه ينسبها لله ، (بما آتاكم) ، وحيث أنّ الفوت والفناء يكمن في ذات الأشياء ، وهذا الوجود هو من الفيض الإلهي.

نعم ، إنّ هذه المصائب تكسر حدّة الغرور والتفاخر وحيث يقول سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) .

«مختال» من مادّة (خيال) بمعنى متكبّر ، لأنّ التكبّر من التخيّل ، أي من تخيّل الإنسان الفضل لنفسه ، وتصوّره أنّه أعلى من الآخرين. و (فخور) صيغة مبالغة من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفتخر كثيرا على الآخرين.

والشخص الوحيد الذي يبتلى بهذه الحالات هو المغرور الذي أسكرته النعم ، وهذه المصائب والآفات بإمكانها أن توقظه عن هذا السكر والغفلة وتهديه إلى سير التكامل.

ومن ملاحظة ما تقدّم أعلاه فإنّ المؤمنين عند ما يرزقون النعم من قبل الله سبحانه فإنّهم يعتبرون أنفسهم مؤتمنين عليها ، ولا يأسفون على فقدانها وفواتها ، ولا يغفلون ويسكرون بوجودها. إذ يعتبرون أنفسهم كالأشخاص المسؤولين عن بيت المال إذ يستلمون في يوم أموالا كثيرة ويدفعونها في اليوم الثاني ، وعندئذ لا يفرحون باستلامها ، ولا يحزنون على إعطائها.

وكم هو تعبير رائع ما قاله أمير المؤمنينعليه‌السلام حول هذه الآية : «الزهد كلّه بين كلمتين في القرآن الكريم قال تعالى :( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما

٦٧

آتاكُمْ ) ، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه»(١) .

والنقطة الاخرى الجديرة بالملاحظة هي أنّ هذا الأصل ـ وجود المصائب ـ في حياة الإنسان أمر قدّر عليه طبقا لسنّة حكيمة ، حيث أنّ الدنيا في حالة غير مستقرّة ، وهذا الأصل يعطي للإنسان الشجاعة لتحمّل المصائب ويمنحه الصلاة والسكينة أمام الحوادث ويكون مانعا له من الجزع والضجر

ونؤكّد مرّة اخرى أنّ هذا يتعلّق ـ فقط ـ بالمصائب المقدّرة والغير قابلة للردّ ، وإلّا فإنّ المصائب والمصاعب التي تكون بسبب ذنوب الإنسان وتسامحه في الطاعات ، والالتزامات الإلهيّة ، فإنّها خارجة عن هذا البحث ، ولمواجهتها لا بدّ من وضع برنامج صحيح في حياة الإنسان.

وننهي هذا البحث بما ذكر في التاريخ حيث نقل عن بعض المفسّرين ما يلي : قال : «قتيبة بن سعيد»(٢) : دخلت على إحدى قبائل العرب فرأيت صحراء مملوءة بجمال ميّتة لا تعدّ ، وكانت بقربي امرأة عجوز فسألتها : لمن هذه الجمال؟ قالت : لذلك الرجل الجالس فوق التل الذي تراه يغزل ، فذهبت إليه وقلت : هل هذا كلّه لك؟ قال : كانت باسمي ، قلت : ما الذي جرى وأصبحن بهذا الحال؟ فأجابني ـ دون الإشارة إلى علّة موتهنّ ـ إنّ المعطي قد أخذ. قلت : هل ضجرت لما أصابك؟ وهل قلت شيئا بعد مصابك؟ قال : بلى. وأنشد هذين البيتين :

لا والذي أنا عبد من خلائقه

والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن

ما سرّني أنّ إبلي في مباركها

وما جرى من قضاء الله لم يكن

أنا راض برضى الله تعالى فقط وكلّما يقدّر فأنا أقبله(٣) .

وفي آخر آية مورد البحث نلاحظ توضيحا وتفسيرا لما جاء في الآيات

__________________

(١) نهج البلاغة ، كلمات قصار ٤٣٩.

(٢) قتيبة بن سعيد أحد المحدّثين الذي يروي عن مالك بن أنس (منتهى الأرب).

(٣) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٥٣ وجاء نظير هذا المعنى في تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ٣٧٦.

٦٨

السابقة ، والذي يوضّح حقيقة الإنسان المختال الفخور حيث يقول عنه تعالى :( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) (١) .

نعم ، إنّ الانشداد العميق لزخارف الدنيا ينتج التكبّر والغرور ، ولازم التكبّر والغرور هو البخل ودعوة الآخرين للبخل. أمّا البخل فلأنّ التكبّر والغرور كثيرا ما يكون بسبب ثراء الإنسان الذي يدفعه إلى أن يحرص عليه ، وبالتالي يبخل في إنفاقه ، ومن هنا فإنّ لازمة الغرور والتكبّر هو البخل.

أمّا دعوة الآخرين إلى البخل ، فلأنّ سخاء الآخرين سيفضح غيرهم من البخلاء ، هذا أوّلا ، والثاني أنّ البخيل يحبّ البخل ، لذا فإنّه يدعو للشيء الذي يرغب فيه.

ولكي لا يتصوّر أنّ تأكيد الله سبحانه على الإنفاق وترك البخل ، أو كما عبّرت عنه الآيات السابقة بـ (القرض لله) مصدره احتياج ذاته المقدّسة ، فإنّه يقول في نهاية الآية :( وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) .

بل نحن كلّنا محتاجون إليه وهو الغني عنّا جميعا ، لأنّ جميع خزائن الوجود عنده وتحت قبضته ، ولأنّه جامع لصفات الكمال فإنّه يستحقّ كلّ شكر وثناء.

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه تتحدّث عن البخل المالي. إلّا أنّه لا ينحصر عليه ، لأنّ مفهوم البخل واسع يستوعب في دائرته البخل في العلم وأداء الحقوق وما إلى ذلك أيضا.

* * *

__________________

(١) «الذين» بدل من (كلّ مختال فخور) وتفسير الكشّاف ذيل الآية مورد البحث) وبالضمن يجدر الانتباه إلى أنّ البدل والمبدّل منه ليس بالضرورة أن يتطابقا في المعرفة والنكرة.

٦٩

الآية

( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) )

التّفسير

الهدف الأساس من بعثة الأنبياء :

ابتدأ الله سبحانه وتعالى عباده بالنعم فكانت رحمته ولطفه ومغفرته ، ونعمه الكثيرة التي لا تحصى والتي أشير إليها في الآيات السابقة ولأنّ هذه النعم تحتاج إلى تقنين في استعمالها ، ونظم وشرائط لنيل نتائجها المرجوّة ، لذا فانّه يحتاج إلى قيادة تقوم بمباشرتها والإشراف عليها وإعطاء التوجيهات الإلهية بشأنها ، وهؤلاء القادة يجب أن يكونوا (قادة إلهيين) والآية مورد البحث ـ التي تعتبر من أكثر الآيات القرآنية محتوى ـ تشير إلى هذا المعنى ، وتبيّن هدف إرسال الأنبياء ومناهجهم بصورة دقيقة ، حيث يقول سبحانه :( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ

٧٠

وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .

«البيّنات» هي الدلائل الواضحة ، ولها معنى واسع يشمل المعجزات والدلائل العقليّة التي تسلّح بها الأنبياء والرسل الإلهيّون.

المقصود من (كتاب) هو نفس الكتب السماوية ، ولأنّ روح وحقيقة الجميع شيء واحد ، لذا فإنّ التعبير بـ (كتاب) جاء بصيغة مفرد.

وأمّا «الميزان» فيعني وسيلة للوزن والقياس ، ومصداقها الحسّي هو الميزان الذي يقاس به وزن البضائع ، ومن الواضح أنّ المقصود هو المصداق المعنوي ، أي الشيء الذي نستطيع أن نقيس به كلّ أعمال الإنسان ، وهي الأحكام والقوانين الإلهيّة أو الأفكار والمفاهيم الرّبّانية ، أو جميع هذه الأمور التي هي معيار لقياس الأعمال الصالحة والسيّئة.

وبهذه الصورة فإنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل وهي : «الدلائل الواضحة» ، و «الكتب السماوية» ، و «معيار قياس الحقّ من الباطل» والجيّد من الرديء. ولا يوجد مانع من أن يكون القرآن (بيّنة) أي معجزة ، وهو كذلك كتاب سماوي ومبيّن للأحكام والقوانين ، أي أنّ الأبعاد الثلاثة تصبّ في محتوى واحد وهي موجودة في القرآن الكريم.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الهدف من تعبئة هؤلاء الرجال العظام بهذه الأسلحة الأساسية ، هو إقامة القسط والعدل.

وفي الحقيقة أنّ هذه الآية تشير إلى أحد الأهداف العديدة لإرسال الرسل ، لأنّنا نعلم أنّ بعث الأنبياء وسعيهم كان من أجل أهداف عدّة :

منها : التعليم والتربية ، كما جاء في الآية التالية :( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) (١) .

__________________

(١) الجمعة ، الآية ٢.

٧١

والهدف الآخر كسر الأغلال والقيود التي أسّرت الإنسان ، كما قال تعالى :( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) (١) .

والهدف الثالث إكمال القيم الأخلاقية ، كما جاء في الحديث المشهور : «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»(٢) .

والهدف الرابع إقامة القسط والعدل ، الذي أشير إليه في الآية مورد البحث.

وبهذا الترتيب نستطيع تلخيص بعثة الأنبياء في الأهداف التالية : (الثقافية ، الأخلاقية ، السياسية ، الاجتماعية).

ومن الواضح أنّ المقصود من الرسل في الآية مورد البحث ، وبقرينة إنزال الكتب ، هم الأنبياء أولي العزم ومن يمثّلهم.

وممّا يجدر ذكره أنّ المقصود من التعبير القرآني :( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) أي أن يتحرّك الناس أنفسهم لتحقيق القسط ، وليس المقصود أن يلزم الأنبياء على إقامة القسط ، ولهذا يمكن القول بأنّه المراد من الآية وهدفها هو أن يعمل الناس بمفاهيم القسط ويتحرّكوا لتطبيقها.

والمهمّ أن يتربّى الناس على العدل والقسط بحيث يصبحون وأعين له داعين إليه ، منفّذين لبرامجه وسائرين في هذا الاتّجاه بأنفسهم.

ثمّ إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقائدي والروحي عاليا ، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان ، ويقفون في طريق القسط والعدل ، واستمرارا لمنهج الآية هذه يقول سبحانه :( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) .

نعم ، إنّ هذه الأسلحة الثلاثة التي وضعت تحت تصرّف الأنبياء هي بهدف أن تكون الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الأنبياء فاعلة ومؤثّرة ، وتحقّق أهدافها

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٥٧.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٣٧٢ باب حسن الخلق نهاية الحديث الأوّل.

٧٢

المنشودة ، فقد وضع الحديد والبأس الشديد في خدمة رسل الله.

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ تعبير (أنزلنا) يعكس لنا أنّ الحديد جاء من كرات سماوية إلى الأرض ، إلّا أنّ الصحيح أنّ التعبير بـ (الإنزال) في مثل هذه الحالات هو إشارة إلى الهبات التي تعطى من المقام الأعلى إلى المستوى الأدنى ، ولأنّ خزائن كلّ شيء عند الله تعالى فهو الذي خلق الحديد لمنافع مختلفة ، فعبّر عنه بالإنزال ، وهنا حديث لأمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسيره لهذا القسم من الآية حيث قال : «إنزاله ذلك خلقه إيّاه»(١) .

كما نقرأ في الآية (٦) من سورة الزمر حول الحيوانات حيث يقول سبحانه :( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) .

وفسّر البعض (أنزلنا) بأنّها من مادّة (نزل) على وزن (شبر) بمعنى الشيء الذي يهيّأ لاستقبال الضيوف ، ولكن الظاهر أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

«البأس» في اللغة بمعنى الشدّة والقسوة والقدرة ، ويقال للحرب والمبارزة (بأس) أيضا ، ولذا فإنّ المفسّرين فسّروها بأنّها الوسائل الحربية ، أعمّ من الدفاعية والهجومية ، و

نقل في رواية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «يعني السلاح وغير ذلك»(٢) .

والواضح أنّ هذا من قبيل بيان المصداق.

والمقصود من «المنافع» هنا هو كلّ ما يفيد الإنسان من الحديد ، وتتبيّن الأهميّة البالغة للحديد في حياة الإنسان أنّ البشرية قد بدأت عصرا جديدا بعد اكتشافه ، سمّي بعصر الحديد ، لأنّ هذا الاكتشاف قد غيّر الكثير من معالم الحياة في أغلب المجالات ، وهذا يمثّل أبعاد كلمة (المنافع) في الآية الكريمة أعلاه.

وقد أشير إلى هذا المعنى بآيات مختلفة في القرآن ، منها قوله تعالى بشأن

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٠ ، حديث ١٠٠.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٠ ، حديث ١٠١.

٧٣

تصميم ذي القرنين على صنع سدّه العظيم :( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) (١) .

وكذلك قوله سبحانه :( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ) (٢) وذلك عند ما شمل لطفهعزوجل داودعليه‌السلام بتليين الحديد له ليستطيع أن يصنع دروعا منه يقلّل فيها أخطار الحروب وهجمات العدو.

ثمّ يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية ، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلا ، حيث يقول تعالى :( وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) .

المقصود من (علم الله) هنا هو التحقّق العيني ليتوضّح من هم الأشخاص الذين يقومون بنصرة الله ومبدئه ، ويقومون بالقسط؟ ومن هم الأشخاص الذين يتخلّفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة؟

ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في قوله تعالى :( ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (٣) .

وبهذه الصورة نلاحظ أنّ المسألة هنا مسألة اختبار وتمحيص واستخراج الصفوة التي استجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي ، وهذا هو هدف آخر من الأهداف الأساسية في هذا البرنامج.

ومن الطبيعي أنّ المقصود بـ (نصرة الله) أنّها نصرة الدين والمبدأ والحاملين وحي الرسالة ، وإقامة الحقّ والقسط وإلّا فإنّ الله ليس بحاجة إلى نصرة أحد ، بل الكلّ محتاج إليه ، ولتأكيد هذا المعنى تنتهي الآية بقوله تعالى :( إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) .

حيث بإمكانه سبحانه أن يغيّر ما يشاء من العالم ، بل يقلبه رأسا على عقب

__________________

(١) الكهف ، الآية ٩٦.

(٢) سبأ ، الآية ١٠ ـ ١١.

(٣) آل عمران ، الآية ١٧٩.

٧٤

بإشارة واحدة ، ويهلك أعداءه ، وينصر أولياءه وبما أنّ الهدف الأساس له سبحانه هو التربية وتكامل البشر ، لذا فقد دعاهمعزوجل إلى نصرة مبدأ الحقّ.

* * *

تعقيب

١ ـ الحدود بين القوّة والمنطق

رسمت الآية أعلاه صورة وافية ومفصّلة من وجهة النظر الإسلامية في مجال التربية والتعليم ، وتوسعة دائرة العدل وإقامة القسط في المجتمع الإنساني.

ففي البداية أكّدت الآية على ضرورة الاستفادة من الدلائل والبيّنات والكتب السماوية ، وضوابط القيم ، وبيان الأحكام والقوانين وذلك لترسي أساسا لثورة فكرية وثقافية متينة مرتكزة على قاعدة من العقل والمنطق.

إلّا أنّه في حالة عدم جدوى تلك الوسائل والأساليب ، وحين الوصول إلى طريق مغلق في الاستفادة من الأسلوب المتقدّم بسبب تعنّت الطواغيت ، ومواجهة الاستكبار لرسل الحقّ والقسط ، والإعراض عن قيم وضوابط وأحكام (الكتاب والميزان) فهنا يأتي دور «الحديد» الذي فيه «بأس شديد» حين يوجّه صفعة قويّة على رؤوس الجبابرة بهذا السلاح كي يستسلموا للقسط والعدل ودعوة الحقّ التي جاء بها الأنبياءعليهم‌السلام ، ومن الطبيعي أنّ نصرة المؤمنين أساسيّة في هذا المجال.

وورد حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصدد حيث قال : «بعثت بالسيف بين يديّ الساعة ، حتّى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي ، تحت ظلّ رمحي»(١) .

وهذا الحديث إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور بحمل السلاح أمام الكفر

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٨٣.

٧٥

والاستكبار ، ولكن لا بلحاظ أنّ هذا هو الأصل والأساس في المنهج الإسلامي كما جاء ذلك صراحة في الآية الكريمة أعلاه.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «الخير كلّه في السيف ، وتحت السيف ، وفي ظلّ السيف»(١) .

وجاء عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في هذا الصدد : «إنّ اللهعزوجل فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره ، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلّا به»(٢) .

ونختم حديثنا بقول آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقيم الناس إلّا بالسيف ، والسيوف مقاليد الجنّة والنار»(٣) .

وبناء على هذا فإنّ القادة الإلهيين يحملون في يد الكتب السماوية وهي مشعل الحقّ ، وباليد الاخرى السيف. يدعون الناس أوّلا بالعقل والمنطق إلى الحقّ والعدل ، فإنّ أعرض الطواغيت عن المنطق ، ورفض المستكبرون الاستجابة لنهج الحقّ والعقل عندئذ يأتي دور السيف والقوّة لتحقيق أهدافهم الإلهية.

٢ ـ الحديد واحتياجات الحياة الأساسية

بعض المفسّرين شرح هدف الآية أعلاه بما يلي :

إنّ الحياة الإنسانية بصورة عامّة تتقوّم بأربعة مرتكزات (الزراعة ، والحياكة ، أي الصناعة ، ـ والسكن ، والسلطة) ، ولهذا السبب فإنّ الحاجات الأساسية للإنسان باعتباره موجودا اجتماعيا تتركّز بـ (الغذاء والسكن واللباس) والتي لا يستطيع أن يوفّرها لنفسه بصورة فردية ، ومسألة تأمينها بشكل عام لا بدّ أن تكون بواسطة المجتمع ولأنّ كلّ مجتمع لا يخلو من تزاحم المصالح ، وكذلك العديد من المشاكل

__________________

(١) فروع الكافي ، ج ٥ ، ص ٨ ، حديث ١١ ، ١٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) فروع الكافي ، ج ٥ ، ص ٢ ، حديث ١.

٧٦

والتعقيدات. لهذا ، فإنّه بحاجة إلى (سلطة) تجري العدل فيه وترعى الحقوق وتنظّم الحياة والملفت هنا أنّ هذه الاسس الأربعة المتقدّمة الذكر تعتمد جميعها بشكل أساسي على الحديد ، وعلينا أن نتصوّركم ستكون حياة الإنسان صعبة لو لم يكن هذا المعدن (الحديد) في خدمتها.

ولأنّ الحاجة إليه ماسّة ومتزايدة ، فإنّ الله سبحانه قد وفّره بحيث سهّل ويسّر عملية الحصول عليه ، وبالرغم من عدم إغفال الدور المفيد لكلّ من الفلّزات الاخرى ، إلّا أنّ الحديد يبقى له دور أساس في حياة الإنسان.

ومن هنا يتوضّح مقصود قول اللهعزوجل :( فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) (١) .

* * *

__________________

(١) مقتبس من التّفسير الكبير فخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٤٢.

٧٧

الآيتان

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) )

التّفسير

تعاقب الرسل واحدا بعد الآخر :

للقرآن الكريم منهجه المتميّز ، ومن خصوصياته أنّه بعد بيان سلسلة من الأصول العامّة يشير ويذكّر بمصير الأقوام السابقة ، لكي يكون ذلك شاهدا وحجّة.

وهنا أيضا يتجسّد هذا المنهج : حيث يشير في المقدّمة إلى إرسال الرسل مع

٧٨

البيّنات والكتاب والميزان والدعوة إلى الإيمان بالحقّ ، لنيل مرضاته سبحانه والفوز بالسعادة الأبديّة ثمّ يتحدّث عن بعض الأمم السابقة وأنبيائهم ويعكس هذه الاسس في منهج دعوتهم.

ويبدأ بشيوخ الأنبياء وبداية سلسلة رسل الحقّ ، نوح وإبراهيمعليهما‌السلام ، حيث يقول سبحانه :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) .

وممّا يؤسف له أنّ الكثيرين لم يستفيدوا من هذا الميراث العظيم ، والنعم الإلهيّة الفيّاضة ، والهبات والألطاف العميمة ، حيث يقولعزوجل :( فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) .

نعم ، لقد بدأت النبوّة بنوحعليه‌السلام توأما مع الشريعة والمبدأ ، ومن ثمّ إبراهيمعليه‌السلام من الأنبياء اولي العزم في امتداد خطّ الرسالة ، وهكذا حلقات متواصلة على مرّ العصور والقرون ، فإنّ القادة الإلهيين من ذريّة إبراهيمعليه‌السلام يتصدّون للقيام بمسؤولية الرسالة ، إلّا أنّ المستفيد من هذا النور الإلهي العظيم هم القلّة أيضا ، في حين أنّ الغالبية سلكت طريق الانحراف.

ثمّ يشير إشارة مختصرة إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم بعيسىعليه‌السلام آخر رسول قبل نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول سبحانه :( ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا ) .

حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق ، وتعاقبوا في حملها الواحد بعد الآخر ، حتّى وصل الدور إلى السيّد المسيحعليه‌السلام :( وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) .

«قفّينا» من (قفا) بمعنى الظهر ، ويقال للقافية قافية بسبب أنّ بعضها يتبع بعضا ، وتطلق عادة على الحروف المتشابهة في آخر كلّ بيت من بيوت الشعر ، والمقصود في الجملة من الآية أعلاه أنّ الأنبياء جاءوا بلحن واحد وأهداف منسجمة ، الواحد تلو الآخر ، وبدأوا وأكملوا التعليمات التي حملوها من الله إلى أقوامهم

٧٩

وهذا التعبير جميل جدّا ، وهو إشارة لطيفة إلى مبدأ وحدة الرسالات وتوحيد النبوّة.

ثمّ يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيّد المسيحعليه‌السلام حيث يقول :( وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ ) ويستمرّ متحدّثا عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه :( وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) .

ويرى بعض المفسّرين أنّ مصطلحي «الرأفة» و «الرحمة» بمعنى واحد ، إلّا أنّ قسما آخر اعتبرهما مختلفين وقالوا : إنّ «الرأفة» تعني الرغبة في دفع الضرر ، و «الرحمة» تعني الرغبة في جلب المنفعة.

ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالبا ، لأنّ قصد الإنسان ابتداء هو دفع الضرر ومن ثمّ يفكّر في جلب المنفعة.

وممّا يدلّل به على هذا الرأي ما استفيد من آية حدّ الزاني والزانية حيث يقول سبحانه :( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ) (١) .

إنّ موضوع الرأفة والرحمة بالنسبة للأتباع الحقيقيين للسيّد المسيحعليه‌السلام لم يذكر في هذه الآية فقط ، بل ورد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى :( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) (٢)

وبالرغم من أنّ الآية الكريمة أخذت بنظر الإعتبار مسيحيي الحبشة وشخص «النجاشي» بالذات ، حيث آوى المسلمين وعاملهم بإحسان ومحبّة خاصّة ، إلّا أنّها بشكل عام تشير إلى الرأفة والرحمة والعواطف الإيجابية للمسيحيين الحقيقيين.

ومن الطبيعي ألّا يكون المقصود هنا المسيحيين الذين يمارسون أقذر

__________________

(١) النور ، الآية ٢.

(٢) المائدة ، الآية ٨٢.

٨٠