الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196908 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الآيات

( سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) )

التّفسير

المسابقة المعنوية الكبرى!!

بعد ما بيّنت الآيات السابقة قيمة هذه الدنيا المتواضعة الفانية ، وكيف أنّ الناس فيها منهمكون في اللذات والتكاثر والتفاخر وجمع الأموال تأتي الآيات

٦١

مورد البحث لتدعو الناس إلى العمل للحصول على موقع في الدار الآخرة ، ذلك الموقع المتّسم بالثبات والبقاء والخلود ، وتدعوهم إلى السباق في هذا المجال وبذل الجهد فيه ، حيث يقول سبحانه :( سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) .

وفي الحقيقة أنّ مغفرة الله هي مفتاح الجنّة ، تلك الجنّة التي عرضها السماوات والأرض وقد أعدّت من الآن لضيافة المؤمنين ، حتّى لا يقول أحد إنّ الجنّة نسيئة ودين ولا أمل في النسيئة ، فعلى فرض أنّها نسيئة فانّها أقوى من كلّ نقد ، لأنّها ضمن وعد الله القادر على كلّ شيء وأصدق من كلّ وعد ، فكيف الحال وهي موجودة الآن وبصورة نقد؟!

وقد ورد نفس هذا المعنى في سورة آل عمران (الآية رقم ١٣٣) مع اختلاف بسيط ، حيث إنّ في الآية مورد البحث جاءت كلمة (سابقوا) من مادّة (المسابقة) وهنا لك وردت كلمة (سارعوا) من مادّة (المسارعة) ، وكلاهما قريب من الآخر بالنظر إلى مفهوم باب «المفاعلة» حيث تتجسّد غلبة شخصين أحدهما على الآخر.

والاختلاف الآخر هو أنّها هنا لك قد جاءت بوصف :( عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) وهنا جاءت :( عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) وإذا دقّقنا قليلا يتّضح أنّ هذين التعبيرين يوضّحان حقيقة واحدة أيضا.

ويقول سبحانه هناك :( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) وهنا يقول :( أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

ولأنّ المتّقين ثمرة شجرة الإيمان الحقيقي ، فإنّ هذين التعبيرين في الواقع كلّ منها لازم وملزوم للآخر.

وبهذه الصورة فإنّ الإثنين يتحدّثان عن حقيقة واحدة ببيانين مختلفين ، ولهذا فما ذكره البعض من أنّ الآية (سورة آل عمران تشير إلى «جنّة المقرّبين» ، وآية مورد البحث تشير إلى «جنّة المؤمنين» ، صحيح حسب الظاهر.

وعلى كل حال فالتعبير بـ (عرض) هنا ليس في مقابل (الطول) كما قال بعض

٦٢

المفسّرين حيث كانوا يبحثون عن طول تلك الجنّة التي عرضها مثل السماء والأرض ، ولهذا السبب فإنّهم واجهوا صعوبة في توجيه ذلك ، حيث إنّ العرض في مثل هذه الاستعمالات بمعنى «السعة».

والتعبير بـ «المغفرة» قبل البشارة بالجنّة ـ الذي ورد في الآيتين ـ هو إشارة لطيفة إلى أنّه ليس من اللائق الدخول إلى الجنّة والقرب من الله قبل المغفرة والتطهير.

وممّا ينبغي ملاحظته أنّ المسارعة لمغفرة الله لا بدّ أن تكون عن طريق أسبابها كالتوبة والتعويض عن الطاعات الفائتة ، وأساسا فانّ طاعة اللهعزوجل يعني تجنّب المعاصي ، ولكنّنا نجد في بعض الأحاديث تأكيد على القيام بالواجبات وبعض المستحبّات كالتقدّم للصفّ الأوّل في الجماعة ، أو الصفّ الأوّل في الجهاد ، أو تكبيرة الإحرام مع إمام الجماعة ، أو الصلاة في أوّل وقتها ، فهذه من قبيل بيان المصداق ولا يقلّل شيئا من المفهوم الواسع للآية.

ويضيف تعالى في نهاية الآية :( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

ومن المؤكّد أنّ جنّة بذلك الاتّساع وبهذه النعم ، ليس من السهل للإنسان أن يصل إليها بأعماله المحدودة ، لذا فإنّ الفضل واللطف والرحمة الإلهية ـ فقط ـ هي التي تستطيع أن تمنحه ذلك الجزاء العظيم في مقابل اليسير من أعماله ، إذ أنّ الجزاء الإلهي لا يكون دائما بمقياس العمل ، بل إنّه بمقياس الكرم الإلهي.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يرينا بوضوح أنّ الثواب والجزاء لا يتناسب مع طبيعة العمل ، حيث أنّه نوع من التفضل والرحمة.

ولمزيد من التأكيد على عدم التعلّق بالدنيا ، وعدم الفرح والغرور عند إقبالها ، أو الحزن عند إدبارها ، يضيف سبحانه :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي

٦٣

أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (١) .

نعم ، إنّ المصائب التي تحدث في الطبيعة كالزلازل والسيول والفيضانات والآفات المختلفة ، وكذلك المصائب التي تقع على البشر كالموت وأنواع الحوادث المؤلمة التي تشمل الإنسان ، فإنّها مقدّرة من قبل ومسجّلة في لوح محفوظ.

والجدير بالانتباه أنّ المصائب المشار إليها في الآية هي المصائب التي لا يمكن التخلّص منها ، وليست ناتجة عن أعمال الإنسان. (بتعبير آخر الحصر هنا حصر إضافي).

والشاهد في هذا الكلام قوله تعالى :( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (٢)

وبملاحظة أنّ الآيات يفسّر بعضها البعض الآخر يتبيّن لنا عند ما نضع هاتين الآيتين جنبا إلى جنب أنّ المصائب التي يبتلى بها الإنسان على نوعين :

الأوّل : المصائب التي تكون مجازاة وكفّارة للذنوب ، كالظلم والجور والخيانة والانحراف وأمثالها ، فإنّها تكون مصدرا للكثير من مصائب الإنسان.

الثاني : من المصائب هو ما لا تكون للإنسان يد فيه ، وتكون مقدّرة وحتمية وغير قابلة للاجتناب حيث يبتلي فيها الفرد والمجتمع ، لذا فإنّ الكثير من الأنبياء والأولياء والصالحين يبتلون بمثل هذه المصائب.

إنّ هذه المصائب لها فلسفة دقيقة حيث أشرنا إليها في أبحاث معرفة الله والعدل الإلهي ومسألة الآفات والبلايا.

__________________

(١) بالنسبة لعود الضمير في (نبرأها) فقد ذكروا احتمالات متعدّدة حيث اعتبر البعض أنّ مرجعها للأرض والأنفس ، والبعض الاخر اعتبرها للمصيبة ، وبعض جميعها ، إلّا أنّه بالنظر إلى ذيل الآية فإنّ المعنى الأوّل هو الأنسب لأنّه يريد أن يقول : حتّى قبل خلق السماء والأرض وخلقكم فإنّ هذه المصائب مقدّرة.

(٢) الشورى ، الآية ٣٠.

٦٤

ونقرأ في هذا الصدد القصّة التالية : عند ما أدخل الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام مغلولا مكبّلا في مجلس يزيد بن معاوية ، فالتفت يزيد إلى الإمام ، وقرأ آية سورة الشورى :( ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) وكان يريد أن يظهر أنّ مصائبكم كانت نتيجة أعمالكم ، وبهذا أراد الطعن ، بالإمامعليه‌السلام بهذا الكلام ، إلّا أنّ الإمام ردّ عليه فورا وقال : كلّا ، ما نزلت هذه فينا ، إنّما نزلت فينا :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) (١) .

ولنا بحث مفصّل في هذا المجال في تفسير الآية رقم ٣٠ من سورة الشورى(٢) .

أتباع أهل البيت أيضا عرفوا نفس المعنى ، في هذه الآية ، إذ نقل أنّ الحجّاج عند ما جيء له بسعيد بن جبير وصمّم على قتله ، بكى رجل من الحاضرين. قال سعيد : وما يبكيك؟ فأجاب : للمصاب الذي حلّ بك ، قال : لا تبك فقد كان في علم الله أن يكون ذلك ، ألم تسمع قوله تعالى :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) (٣) .

ومن الطبيعي أنّ كلّ الحوادث التي تحدث في هذا العالم مسجّلة في لوح محفوظ وفي علم اللهعزوجل اللّامحدود ، وإذا أشرنا هنا إلى المصائب التي تقع في الأرض وفي الأنفس فقط ، فلأنّ موضوع الحديث بهذا الاتّجاه ، كما سنرى في الآية اللاحقة التي يستنتج منها الموضوع نفسه.

وبالضمن فإنّ جملة :( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) تشير إلى تسجيل وحفظ كلّ هذه الحوادث في لوح محفوظ مع كثرتها البالغة ، وذلك سهل يسير على الله تعالى.

والمقصود من «اللوح المحفوظ» هو : العلم اللامتناهي لله سبحانه ، أو صحيفة

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤٧.

(٢) كان لدينا بحث آخر في نهاية الآية (٧٨) ، (٧٩) من سورة النساء والتي تتناسب مع الآيات مورد البحث.

(٣) روح البيان ج ٩ ، ص ٣٧٥.

٦٥

عالم الخلقة ونظام العلّة والمعلول ، والتي هي مصداق العلم الفعلي لله سبحانه «فتدبّر».

ولنلاحظ الآن ما هي فلسفة تقدير المصائب في اللوح المحفوظ ، ومن ثمّ بيان هذه الحقيقة في القرآن الكريم؟

الآية اللاحقة تزيح هذا الحجاب عن هذا السرّ المهمّ حيث يقول تعالى :( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) .

هاتان الجملتان القصيرتان تحلّان ـ في الحقيقة ـ إحدى المسائل المعقّدة لفلسفة الخلقة ، لأنّ الإنسان يواجه دائما مشاكل وصعوبات وحوادث مؤسفة في عالم الوجود ، ويسأل دائما نفسه هذا السؤال وهو : رغم أنّ الله رحمن رحيم وكريم ، فلما ذا هذه الحوادث المؤلمة؟!

ويجيب سبحانه أنّ هدف ذلك هو : ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشدّوا إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة كما ورد في الآية أعلاه.

والمطلوب أن تتعاملوا مع هذا المعبر والجسر الذي اسمه الدنيا بشكل لا تستولي على لباب قلوبكم ، وتفقدوا معها شخصيّتكم وكيانكم وتحسبون أنّها خالدة وباقية ، حيث إنّ هذا الانشداد هو أكبر عدوّ لسعادتكم الحقيقية ، حيث يجعلكم في غفلة عن ذكر الله ويمنعكم من مسيرة التكامل.

هذه المصائب هي إنذار للغافلين وسوط على الأرواح التي تعيش الغفلة والسبات ، ودلالة على قصر عمر الدنيا وعدم خلودها وبقائها.

والحقيقة أنّ المظاهر البرّاقة لدار الغرور تبهر الإنسان وتلهيه بسرعة عن ذكر الحقّ سبحانه ، وقد يستيقظ فجأة ويرى أنّ الوقت قد فات وقد تخلّف عن الركب.

هذه الحوادث كانت ولا تزال في الحياة ، وستبقى بالرغم من التقدّم العلمي العظيم ، ولن يستطيع العلم أن يمنع حدوثها ونتائجها المؤلمة ، كالزلازل والطوفان والسيول والأمطار وما إلى ذلك وهي درس من قسوة الحياة وصرخة مدوّية

٦٦

فيها

وهذا لا يعني أن يعرض الإنسان عن الهبات الإلهية في هذا العالم أو يمتنع من الاستفادة منها ، ولكن المهمّ ألّا يصبح أسيرا فيها ، وألّا يجعلها هي الهدف والنقطة المركزية في حياته.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم استعمل لفظ (فاتكم) للدلالة على ما فقده الإنسان من أشياء ، أمّا ما يخصّ الهبات والنعم التي حصل عليها فإنّه ينسبها لله ، (بما آتاكم) ، وحيث أنّ الفوت والفناء يكمن في ذات الأشياء ، وهذا الوجود هو من الفيض الإلهي.

نعم ، إنّ هذه المصائب تكسر حدّة الغرور والتفاخر وحيث يقول سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) .

«مختال» من مادّة (خيال) بمعنى متكبّر ، لأنّ التكبّر من التخيّل ، أي من تخيّل الإنسان الفضل لنفسه ، وتصوّره أنّه أعلى من الآخرين. و (فخور) صيغة مبالغة من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفتخر كثيرا على الآخرين.

والشخص الوحيد الذي يبتلى بهذه الحالات هو المغرور الذي أسكرته النعم ، وهذه المصائب والآفات بإمكانها أن توقظه عن هذا السكر والغفلة وتهديه إلى سير التكامل.

ومن ملاحظة ما تقدّم أعلاه فإنّ المؤمنين عند ما يرزقون النعم من قبل الله سبحانه فإنّهم يعتبرون أنفسهم مؤتمنين عليها ، ولا يأسفون على فقدانها وفواتها ، ولا يغفلون ويسكرون بوجودها. إذ يعتبرون أنفسهم كالأشخاص المسؤولين عن بيت المال إذ يستلمون في يوم أموالا كثيرة ويدفعونها في اليوم الثاني ، وعندئذ لا يفرحون باستلامها ، ولا يحزنون على إعطائها.

وكم هو تعبير رائع ما قاله أمير المؤمنينعليه‌السلام حول هذه الآية : «الزهد كلّه بين كلمتين في القرآن الكريم قال تعالى :( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما

٦٧

آتاكُمْ ) ، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه»(١) .

والنقطة الاخرى الجديرة بالملاحظة هي أنّ هذا الأصل ـ وجود المصائب ـ في حياة الإنسان أمر قدّر عليه طبقا لسنّة حكيمة ، حيث أنّ الدنيا في حالة غير مستقرّة ، وهذا الأصل يعطي للإنسان الشجاعة لتحمّل المصائب ويمنحه الصلاة والسكينة أمام الحوادث ويكون مانعا له من الجزع والضجر

ونؤكّد مرّة اخرى أنّ هذا يتعلّق ـ فقط ـ بالمصائب المقدّرة والغير قابلة للردّ ، وإلّا فإنّ المصائب والمصاعب التي تكون بسبب ذنوب الإنسان وتسامحه في الطاعات ، والالتزامات الإلهيّة ، فإنّها خارجة عن هذا البحث ، ولمواجهتها لا بدّ من وضع برنامج صحيح في حياة الإنسان.

وننهي هذا البحث بما ذكر في التاريخ حيث نقل عن بعض المفسّرين ما يلي : قال : «قتيبة بن سعيد»(٢) : دخلت على إحدى قبائل العرب فرأيت صحراء مملوءة بجمال ميّتة لا تعدّ ، وكانت بقربي امرأة عجوز فسألتها : لمن هذه الجمال؟ قالت : لذلك الرجل الجالس فوق التل الذي تراه يغزل ، فذهبت إليه وقلت : هل هذا كلّه لك؟ قال : كانت باسمي ، قلت : ما الذي جرى وأصبحن بهذا الحال؟ فأجابني ـ دون الإشارة إلى علّة موتهنّ ـ إنّ المعطي قد أخذ. قلت : هل ضجرت لما أصابك؟ وهل قلت شيئا بعد مصابك؟ قال : بلى. وأنشد هذين البيتين :

لا والذي أنا عبد من خلائقه

والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن

ما سرّني أنّ إبلي في مباركها

وما جرى من قضاء الله لم يكن

أنا راض برضى الله تعالى فقط وكلّما يقدّر فأنا أقبله(٣) .

وفي آخر آية مورد البحث نلاحظ توضيحا وتفسيرا لما جاء في الآيات

__________________

(١) نهج البلاغة ، كلمات قصار ٤٣٩.

(٢) قتيبة بن سعيد أحد المحدّثين الذي يروي عن مالك بن أنس (منتهى الأرب).

(٣) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٥٣ وجاء نظير هذا المعنى في تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ٣٧٦.

٦٨

السابقة ، والذي يوضّح حقيقة الإنسان المختال الفخور حيث يقول عنه تعالى :( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) (١) .

نعم ، إنّ الانشداد العميق لزخارف الدنيا ينتج التكبّر والغرور ، ولازم التكبّر والغرور هو البخل ودعوة الآخرين للبخل. أمّا البخل فلأنّ التكبّر والغرور كثيرا ما يكون بسبب ثراء الإنسان الذي يدفعه إلى أن يحرص عليه ، وبالتالي يبخل في إنفاقه ، ومن هنا فإنّ لازمة الغرور والتكبّر هو البخل.

أمّا دعوة الآخرين إلى البخل ، فلأنّ سخاء الآخرين سيفضح غيرهم من البخلاء ، هذا أوّلا ، والثاني أنّ البخيل يحبّ البخل ، لذا فإنّه يدعو للشيء الذي يرغب فيه.

ولكي لا يتصوّر أنّ تأكيد الله سبحانه على الإنفاق وترك البخل ، أو كما عبّرت عنه الآيات السابقة بـ (القرض لله) مصدره احتياج ذاته المقدّسة ، فإنّه يقول في نهاية الآية :( وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) .

بل نحن كلّنا محتاجون إليه وهو الغني عنّا جميعا ، لأنّ جميع خزائن الوجود عنده وتحت قبضته ، ولأنّه جامع لصفات الكمال فإنّه يستحقّ كلّ شكر وثناء.

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه تتحدّث عن البخل المالي. إلّا أنّه لا ينحصر عليه ، لأنّ مفهوم البخل واسع يستوعب في دائرته البخل في العلم وأداء الحقوق وما إلى ذلك أيضا.

* * *

__________________

(١) «الذين» بدل من (كلّ مختال فخور) وتفسير الكشّاف ذيل الآية مورد البحث) وبالضمن يجدر الانتباه إلى أنّ البدل والمبدّل منه ليس بالضرورة أن يتطابقا في المعرفة والنكرة.

٦٩

الآية

( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) )

التّفسير

الهدف الأساس من بعثة الأنبياء :

ابتدأ الله سبحانه وتعالى عباده بالنعم فكانت رحمته ولطفه ومغفرته ، ونعمه الكثيرة التي لا تحصى والتي أشير إليها في الآيات السابقة ولأنّ هذه النعم تحتاج إلى تقنين في استعمالها ، ونظم وشرائط لنيل نتائجها المرجوّة ، لذا فانّه يحتاج إلى قيادة تقوم بمباشرتها والإشراف عليها وإعطاء التوجيهات الإلهية بشأنها ، وهؤلاء القادة يجب أن يكونوا (قادة إلهيين) والآية مورد البحث ـ التي تعتبر من أكثر الآيات القرآنية محتوى ـ تشير إلى هذا المعنى ، وتبيّن هدف إرسال الأنبياء ومناهجهم بصورة دقيقة ، حيث يقول سبحانه :( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ

٧٠

وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .

«البيّنات» هي الدلائل الواضحة ، ولها معنى واسع يشمل المعجزات والدلائل العقليّة التي تسلّح بها الأنبياء والرسل الإلهيّون.

المقصود من (كتاب) هو نفس الكتب السماوية ، ولأنّ روح وحقيقة الجميع شيء واحد ، لذا فإنّ التعبير بـ (كتاب) جاء بصيغة مفرد.

وأمّا «الميزان» فيعني وسيلة للوزن والقياس ، ومصداقها الحسّي هو الميزان الذي يقاس به وزن البضائع ، ومن الواضح أنّ المقصود هو المصداق المعنوي ، أي الشيء الذي نستطيع أن نقيس به كلّ أعمال الإنسان ، وهي الأحكام والقوانين الإلهيّة أو الأفكار والمفاهيم الرّبّانية ، أو جميع هذه الأمور التي هي معيار لقياس الأعمال الصالحة والسيّئة.

وبهذه الصورة فإنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل وهي : «الدلائل الواضحة» ، و «الكتب السماوية» ، و «معيار قياس الحقّ من الباطل» والجيّد من الرديء. ولا يوجد مانع من أن يكون القرآن (بيّنة) أي معجزة ، وهو كذلك كتاب سماوي ومبيّن للأحكام والقوانين ، أي أنّ الأبعاد الثلاثة تصبّ في محتوى واحد وهي موجودة في القرآن الكريم.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الهدف من تعبئة هؤلاء الرجال العظام بهذه الأسلحة الأساسية ، هو إقامة القسط والعدل.

وفي الحقيقة أنّ هذه الآية تشير إلى أحد الأهداف العديدة لإرسال الرسل ، لأنّنا نعلم أنّ بعث الأنبياء وسعيهم كان من أجل أهداف عدّة :

منها : التعليم والتربية ، كما جاء في الآية التالية :( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) (١) .

__________________

(١) الجمعة ، الآية ٢.

٧١

والهدف الآخر كسر الأغلال والقيود التي أسّرت الإنسان ، كما قال تعالى :( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) (١) .

والهدف الثالث إكمال القيم الأخلاقية ، كما جاء في الحديث المشهور : «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»(٢) .

والهدف الرابع إقامة القسط والعدل ، الذي أشير إليه في الآية مورد البحث.

وبهذا الترتيب نستطيع تلخيص بعثة الأنبياء في الأهداف التالية : (الثقافية ، الأخلاقية ، السياسية ، الاجتماعية).

ومن الواضح أنّ المقصود من الرسل في الآية مورد البحث ، وبقرينة إنزال الكتب ، هم الأنبياء أولي العزم ومن يمثّلهم.

وممّا يجدر ذكره أنّ المقصود من التعبير القرآني :( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) أي أن يتحرّك الناس أنفسهم لتحقيق القسط ، وليس المقصود أن يلزم الأنبياء على إقامة القسط ، ولهذا يمكن القول بأنّه المراد من الآية وهدفها هو أن يعمل الناس بمفاهيم القسط ويتحرّكوا لتطبيقها.

والمهمّ أن يتربّى الناس على العدل والقسط بحيث يصبحون وأعين له داعين إليه ، منفّذين لبرامجه وسائرين في هذا الاتّجاه بأنفسهم.

ثمّ إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقائدي والروحي عاليا ، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان ، ويقفون في طريق القسط والعدل ، واستمرارا لمنهج الآية هذه يقول سبحانه :( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) .

نعم ، إنّ هذه الأسلحة الثلاثة التي وضعت تحت تصرّف الأنبياء هي بهدف أن تكون الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الأنبياء فاعلة ومؤثّرة ، وتحقّق أهدافها

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٥٧.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٣٧٢ باب حسن الخلق نهاية الحديث الأوّل.

٧٢

المنشودة ، فقد وضع الحديد والبأس الشديد في خدمة رسل الله.

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ تعبير (أنزلنا) يعكس لنا أنّ الحديد جاء من كرات سماوية إلى الأرض ، إلّا أنّ الصحيح أنّ التعبير بـ (الإنزال) في مثل هذه الحالات هو إشارة إلى الهبات التي تعطى من المقام الأعلى إلى المستوى الأدنى ، ولأنّ خزائن كلّ شيء عند الله تعالى فهو الذي خلق الحديد لمنافع مختلفة ، فعبّر عنه بالإنزال ، وهنا حديث لأمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسيره لهذا القسم من الآية حيث قال : «إنزاله ذلك خلقه إيّاه»(١) .

كما نقرأ في الآية (٦) من سورة الزمر حول الحيوانات حيث يقول سبحانه :( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) .

وفسّر البعض (أنزلنا) بأنّها من مادّة (نزل) على وزن (شبر) بمعنى الشيء الذي يهيّأ لاستقبال الضيوف ، ولكن الظاهر أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

«البأس» في اللغة بمعنى الشدّة والقسوة والقدرة ، ويقال للحرب والمبارزة (بأس) أيضا ، ولذا فإنّ المفسّرين فسّروها بأنّها الوسائل الحربية ، أعمّ من الدفاعية والهجومية ، و

نقل في رواية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «يعني السلاح وغير ذلك»(٢) .

والواضح أنّ هذا من قبيل بيان المصداق.

والمقصود من «المنافع» هنا هو كلّ ما يفيد الإنسان من الحديد ، وتتبيّن الأهميّة البالغة للحديد في حياة الإنسان أنّ البشرية قد بدأت عصرا جديدا بعد اكتشافه ، سمّي بعصر الحديد ، لأنّ هذا الاكتشاف قد غيّر الكثير من معالم الحياة في أغلب المجالات ، وهذا يمثّل أبعاد كلمة (المنافع) في الآية الكريمة أعلاه.

وقد أشير إلى هذا المعنى بآيات مختلفة في القرآن ، منها قوله تعالى بشأن

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٠ ، حديث ١٠٠.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٠ ، حديث ١٠١.

٧٣

تصميم ذي القرنين على صنع سدّه العظيم :( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) (١) .

وكذلك قوله سبحانه :( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ) (٢) وذلك عند ما شمل لطفهعزوجل داودعليه‌السلام بتليين الحديد له ليستطيع أن يصنع دروعا منه يقلّل فيها أخطار الحروب وهجمات العدو.

ثمّ يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية ، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلا ، حيث يقول تعالى :( وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) .

المقصود من (علم الله) هنا هو التحقّق العيني ليتوضّح من هم الأشخاص الذين يقومون بنصرة الله ومبدئه ، ويقومون بالقسط؟ ومن هم الأشخاص الذين يتخلّفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة؟

ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في قوله تعالى :( ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (٣) .

وبهذه الصورة نلاحظ أنّ المسألة هنا مسألة اختبار وتمحيص واستخراج الصفوة التي استجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي ، وهذا هو هدف آخر من الأهداف الأساسية في هذا البرنامج.

ومن الطبيعي أنّ المقصود بـ (نصرة الله) أنّها نصرة الدين والمبدأ والحاملين وحي الرسالة ، وإقامة الحقّ والقسط وإلّا فإنّ الله ليس بحاجة إلى نصرة أحد ، بل الكلّ محتاج إليه ، ولتأكيد هذا المعنى تنتهي الآية بقوله تعالى :( إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) .

حيث بإمكانه سبحانه أن يغيّر ما يشاء من العالم ، بل يقلبه رأسا على عقب

__________________

(١) الكهف ، الآية ٩٦.

(٢) سبأ ، الآية ١٠ ـ ١١.

(٣) آل عمران ، الآية ١٧٩.

٧٤

بإشارة واحدة ، ويهلك أعداءه ، وينصر أولياءه وبما أنّ الهدف الأساس له سبحانه هو التربية وتكامل البشر ، لذا فقد دعاهمعزوجل إلى نصرة مبدأ الحقّ.

* * *

تعقيب

١ ـ الحدود بين القوّة والمنطق

رسمت الآية أعلاه صورة وافية ومفصّلة من وجهة النظر الإسلامية في مجال التربية والتعليم ، وتوسعة دائرة العدل وإقامة القسط في المجتمع الإنساني.

ففي البداية أكّدت الآية على ضرورة الاستفادة من الدلائل والبيّنات والكتب السماوية ، وضوابط القيم ، وبيان الأحكام والقوانين وذلك لترسي أساسا لثورة فكرية وثقافية متينة مرتكزة على قاعدة من العقل والمنطق.

إلّا أنّه في حالة عدم جدوى تلك الوسائل والأساليب ، وحين الوصول إلى طريق مغلق في الاستفادة من الأسلوب المتقدّم بسبب تعنّت الطواغيت ، ومواجهة الاستكبار لرسل الحقّ والقسط ، والإعراض عن قيم وضوابط وأحكام (الكتاب والميزان) فهنا يأتي دور «الحديد» الذي فيه «بأس شديد» حين يوجّه صفعة قويّة على رؤوس الجبابرة بهذا السلاح كي يستسلموا للقسط والعدل ودعوة الحقّ التي جاء بها الأنبياءعليهم‌السلام ، ومن الطبيعي أنّ نصرة المؤمنين أساسيّة في هذا المجال.

وورد حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصدد حيث قال : «بعثت بالسيف بين يديّ الساعة ، حتّى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي ، تحت ظلّ رمحي»(١) .

وهذا الحديث إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور بحمل السلاح أمام الكفر

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٨٣.

٧٥

والاستكبار ، ولكن لا بلحاظ أنّ هذا هو الأصل والأساس في المنهج الإسلامي كما جاء ذلك صراحة في الآية الكريمة أعلاه.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «الخير كلّه في السيف ، وتحت السيف ، وفي ظلّ السيف»(١) .

وجاء عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في هذا الصدد : «إنّ اللهعزوجل فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره ، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلّا به»(٢) .

ونختم حديثنا بقول آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقيم الناس إلّا بالسيف ، والسيوف مقاليد الجنّة والنار»(٣) .

وبناء على هذا فإنّ القادة الإلهيين يحملون في يد الكتب السماوية وهي مشعل الحقّ ، وباليد الاخرى السيف. يدعون الناس أوّلا بالعقل والمنطق إلى الحقّ والعدل ، فإنّ أعرض الطواغيت عن المنطق ، ورفض المستكبرون الاستجابة لنهج الحقّ والعقل عندئذ يأتي دور السيف والقوّة لتحقيق أهدافهم الإلهية.

٢ ـ الحديد واحتياجات الحياة الأساسية

بعض المفسّرين شرح هدف الآية أعلاه بما يلي :

إنّ الحياة الإنسانية بصورة عامّة تتقوّم بأربعة مرتكزات (الزراعة ، والحياكة ، أي الصناعة ، ـ والسكن ، والسلطة) ، ولهذا السبب فإنّ الحاجات الأساسية للإنسان باعتباره موجودا اجتماعيا تتركّز بـ (الغذاء والسكن واللباس) والتي لا يستطيع أن يوفّرها لنفسه بصورة فردية ، ومسألة تأمينها بشكل عام لا بدّ أن تكون بواسطة المجتمع ولأنّ كلّ مجتمع لا يخلو من تزاحم المصالح ، وكذلك العديد من المشاكل

__________________

(١) فروع الكافي ، ج ٥ ، ص ٨ ، حديث ١١ ، ١٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) فروع الكافي ، ج ٥ ، ص ٢ ، حديث ١.

٧٦

والتعقيدات. لهذا ، فإنّه بحاجة إلى (سلطة) تجري العدل فيه وترعى الحقوق وتنظّم الحياة والملفت هنا أنّ هذه الاسس الأربعة المتقدّمة الذكر تعتمد جميعها بشكل أساسي على الحديد ، وعلينا أن نتصوّركم ستكون حياة الإنسان صعبة لو لم يكن هذا المعدن (الحديد) في خدمتها.

ولأنّ الحاجة إليه ماسّة ومتزايدة ، فإنّ الله سبحانه قد وفّره بحيث سهّل ويسّر عملية الحصول عليه ، وبالرغم من عدم إغفال الدور المفيد لكلّ من الفلّزات الاخرى ، إلّا أنّ الحديد يبقى له دور أساس في حياة الإنسان.

ومن هنا يتوضّح مقصود قول اللهعزوجل :( فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) (١) .

* * *

__________________

(١) مقتبس من التّفسير الكبير فخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٤٢.

٧٧

الآيتان

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) )

التّفسير

تعاقب الرسل واحدا بعد الآخر :

للقرآن الكريم منهجه المتميّز ، ومن خصوصياته أنّه بعد بيان سلسلة من الأصول العامّة يشير ويذكّر بمصير الأقوام السابقة ، لكي يكون ذلك شاهدا وحجّة.

وهنا أيضا يتجسّد هذا المنهج : حيث يشير في المقدّمة إلى إرسال الرسل مع

٧٨

البيّنات والكتاب والميزان والدعوة إلى الإيمان بالحقّ ، لنيل مرضاته سبحانه والفوز بالسعادة الأبديّة ثمّ يتحدّث عن بعض الأمم السابقة وأنبيائهم ويعكس هذه الاسس في منهج دعوتهم.

ويبدأ بشيوخ الأنبياء وبداية سلسلة رسل الحقّ ، نوح وإبراهيمعليهما‌السلام ، حيث يقول سبحانه :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) .

وممّا يؤسف له أنّ الكثيرين لم يستفيدوا من هذا الميراث العظيم ، والنعم الإلهيّة الفيّاضة ، والهبات والألطاف العميمة ، حيث يقولعزوجل :( فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) .

نعم ، لقد بدأت النبوّة بنوحعليه‌السلام توأما مع الشريعة والمبدأ ، ومن ثمّ إبراهيمعليه‌السلام من الأنبياء اولي العزم في امتداد خطّ الرسالة ، وهكذا حلقات متواصلة على مرّ العصور والقرون ، فإنّ القادة الإلهيين من ذريّة إبراهيمعليه‌السلام يتصدّون للقيام بمسؤولية الرسالة ، إلّا أنّ المستفيد من هذا النور الإلهي العظيم هم القلّة أيضا ، في حين أنّ الغالبية سلكت طريق الانحراف.

ثمّ يشير إشارة مختصرة إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم بعيسىعليه‌السلام آخر رسول قبل نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول سبحانه :( ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا ) .

حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق ، وتعاقبوا في حملها الواحد بعد الآخر ، حتّى وصل الدور إلى السيّد المسيحعليه‌السلام :( وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) .

«قفّينا» من (قفا) بمعنى الظهر ، ويقال للقافية قافية بسبب أنّ بعضها يتبع بعضا ، وتطلق عادة على الحروف المتشابهة في آخر كلّ بيت من بيوت الشعر ، والمقصود في الجملة من الآية أعلاه أنّ الأنبياء جاءوا بلحن واحد وأهداف منسجمة ، الواحد تلو الآخر ، وبدأوا وأكملوا التعليمات التي حملوها من الله إلى أقوامهم

٧٩

وهذا التعبير جميل جدّا ، وهو إشارة لطيفة إلى مبدأ وحدة الرسالات وتوحيد النبوّة.

ثمّ يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيّد المسيحعليه‌السلام حيث يقول :( وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ ) ويستمرّ متحدّثا عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه :( وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) .

ويرى بعض المفسّرين أنّ مصطلحي «الرأفة» و «الرحمة» بمعنى واحد ، إلّا أنّ قسما آخر اعتبرهما مختلفين وقالوا : إنّ «الرأفة» تعني الرغبة في دفع الضرر ، و «الرحمة» تعني الرغبة في جلب المنفعة.

ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالبا ، لأنّ قصد الإنسان ابتداء هو دفع الضرر ومن ثمّ يفكّر في جلب المنفعة.

وممّا يدلّل به على هذا الرأي ما استفيد من آية حدّ الزاني والزانية حيث يقول سبحانه :( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ) (١) .

إنّ موضوع الرأفة والرحمة بالنسبة للأتباع الحقيقيين للسيّد المسيحعليه‌السلام لم يذكر في هذه الآية فقط ، بل ورد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى :( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) (٢)

وبالرغم من أنّ الآية الكريمة أخذت بنظر الإعتبار مسيحيي الحبشة وشخص «النجاشي» بالذات ، حيث آوى المسلمين وعاملهم بإحسان ومحبّة خاصّة ، إلّا أنّها بشكل عام تشير إلى الرأفة والرحمة والعواطف الإيجابية للمسيحيين الحقيقيين.

ومن الطبيعي ألّا يكون المقصود هنا المسيحيين الذين يمارسون أقذر

__________________

(١) النور ، الآية ٢.

(٢) المائدة ، الآية ٨٢.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وتجد هذه المزيّة ظاهرة كمال الظُهور في رُكن الدولة، حين كَتب له المرزبان ابن بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة بقبض عضُد الدولة وأبي الفتح بن العميد على والده وعَمّيه سَنة أربع وستّين وثلاثمئة، ويذكر له الحيلة الّتي تمّت عليه، فألقى بنفسه عن سريره إلى الأرض وتمرّغ عليها، وامتنع مِن الأكل والشُرب عدّة أيّام، ومَرِض مرضاً لم يستقلّ منه باقي حياته، ولمّا كاتب ابن بقية رُكن الدولة بحاله وحال بختيار كَتب رُكن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممَّن احتمى لبختيار يأمرهم بالثبات والصبر، ويُعرّفهم أنّه على المسير إلى العراق لإخراج عضُد الدولة وإعادة بختيار، فاضطربت النواحي على عضُد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه، وانقطعت عنه مواد فارس والبحر، وسترى ذلك مبسوطاً في ترجمة عضُد الدولة - إن شاء الله - وجواب رسول عضُد الدولة الّذي أرسله لوالده يدلي إليه بعُذره ويُبيّن له أسباب قبضه على بختيار، فردّ رُكن الدولة الرسول ردّاً قبيحاً ولم يقبل لابنه عُذراً، وكان الرسول أبا الفتح بن العميد الّذي اتخذ شتّى الوسائط لاسترضائه عليه، وما ذنبه إلاّ أداؤه رسالة ابنه، ولم يرضَ إلاّ بإعادة عضُد الدولة إلى فارس مملكته وتقرير العراق لبختيار، فأنت ترى أنّ رُكن الدولة عرّض مملكة ولده، بل حياته للخطر في سبيل صلته لرحمِه، ومُراعاته لابن أخيه مُعزّ الدولة الّذي كان يُحبّه محبّة شديدة؛ لأنّه رباه فكان عنده بمنزلة الولد.

وفاة رُكن الدولة ومُلك عضُد الدولة:

في المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة تُوفّي رُكن الدولة أبو علي الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضُد الدولة، وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة، وكان ابنه عضُد الدولة قد عاد مِن بغداد بعد أن أطلق بختيار على الوجه الّذي قد تقرّر، وظهر عند الخاصّ والعامّ غَضَب والده عليه، فخاف أنْ يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختلّ مُلكه، وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير والده يطلب منه أنْ يتوصّل مع أبيه وإحضاره عنده، وأنْ يعهد إليه بالمُلك بعده، فسعى أبو الفتح في ذلك فأجابه إليه رُكن الدولة، وكان قد وجد في نفسه خِفّة، فسار مِن الريّ إلى أصبهان، فوصلها في جمادى الأُولى سنة خمس وستّين وثلاثمئة،

١٨١

وأحضر ولده عضُد الدولة مِن فارس، وجمع عنده أيضاً سائر أولاده بأصبهان، فعمِل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها رُكن الدولة وأولاده والقوّاد والأجناد، فلمّا فَرِغوا مِن الطعام عهِد رُكن الدولة إلى ولده عضُد الدولة بالمُلك بعده، وجعل لولده فَخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيّد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحُكم أخيما عضُد الدولة، وخلع عضُد الدولة على سائر الناس ذلك اليوم الأقبية والأكسية على زيّ الديلم، وحيّاه القوّاد وإخوته بالريحان على عادتهم مع مُلوكهم، وأوصى رُكن الدولة أولاده بالاتّفاق، وترك الاختلاف وخلع عليهم، ثُمّ سار عن أصبهان في رجب نحو الريّ فدام مرضه إلى أنْ تُوفّي فأُصيب به الدين والدُنيا جميعاً لاستكمال جميع خلال الخير فيه، وكان عُمره قد زاد على سبعين سَنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سَنة.

بعض سيرته:

قال ابن الأثير:

بعد هذا الّذي نقلنا عن تاريخه الكامل - ذاكراً بعض سيرته - كان حليماً، كريماً، واسع الكرم، كثير البذل، حَسِن السياسة لرعاياه وجُنده، رؤوفاً بهم، عادلاً في الحُكم بينهم، وكان بعيد الهمّة، عظيم الجدّ والسعادة، مُتحرّجاً مِن الظُلم، مانعاً لأصحابه منه، عفيفاً عن الدِماء، يرى حقنها واجباً، إلاّ فيما لا بُدّ مِنه، وكان يُحامي على أهل البيوتات، أو كان يُجري عليهم الأرزاق، ويصونهم عن التبذل، وكان يَقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة، وينتصب لردِّ المظالم، ويتعهّد العلويّين بالأموال الكثيرة، ويتصدّق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات، ويُلين جانبه للخاصّ والعام.

قال له بعض أصحابه في ذلك، وذَكر له شدّة مرداويج على أصحابه، فقال:

انظر كيف اخترم ووثب عليه أخصّ أصحابه به وأقربهم منه؛ لعُنفه وشدّته، وكيف عمرتُ وأحبّني الناس للين جانبي. وحُكي عنه أنّه سار في سفر، فنزل في خركاه قد ضُربت له قِبَل أصحابه، وقُدّم إليه طعام، فقال لبعض أصحابه:

لأيّ شيء قيل في المثل: خيرُ الأشياءِ في القريةِ الإمارة.

فقال صاحبه: لقعودك في الخركاه وهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاه ولا طعام، فضحك وأعطاه الخركاه والطعام.

فانظر إلى هذا الخُلُق ما

١٨٢

أحسنه ما أجمله، وفي فعله في حادثة بختيار ما يَدلّ على كمال مروءته وحُسن عهده وصلته لرحمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكان له حُسن عهد ومودّة وإقبال.

قال ابن خلكان في وَفَياته:

وكان مسعوداً ورُزق السعادة في أولاده الثلاثة، وقَسّم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن قيام، وتُوفّي رُكن الدولة ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت مِن المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة بالري، ودُفن في مشهده، ومولده تقديراً في سَنة أربع وثمانين، قال أبو إسحاق الصابي: ومَلك أربعاً وأربعين سَنة وشهراً وتسعة أيّام، وتولّى بعده ولده مؤيّد الدولة رحمهما الله تعالى.

وقال ابن كثير في حوادث سنة ٣٥٦:

فيها قَسّم رُكن الدولة بن بويه ممالكه بين أولاده (الثلاثة) عندما كَبُرت سِنّه، فجعل لولده عضُد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيَّد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدينور، وجعل ولده أبا العبّاس في كنف عضُد الدولة وأوصاه به.

أمّا ذكره بلاد فارس فيما اختص به ولده عضُد الدولة، فإنّ بلاد فارس لم تكن مِن ممالكه، بل كانت مملكة أخيه عِماد الدولة الّذي لم يُرزق وَلداً ذَكراً يرثها منه، بل عهِد بها لعضُد الدولة كما مرّ بيان ذلك في ترجمة عِماد الدولة.

وقال في حوادث سنة (٣٦٦):

فيها توفّي رُكن الدولة بن علي بن بويه، وقد جاوز التسعين سَنة، ثُمّ ذَكر بعد ذلك قَصد عضُد الدولة العراق ليأخذها مِن ابن عمّه بختيار، والتقائه به في الأهواز، وانهزامه منه، واستظهاره عليه وإذلاله، ثُمّ القبض على وزيره ابن بقية إلى أنْ قال: وكذلك أمرُ رُكن الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح بن العميد لموجدة تقدّمت منه إليه.

وفي ذلك أغلاط نربأ بابن كثير أنْ يرتكبها:

الأول: جعله عليّاً أباً لرُكن الدولة، وعلي وهو عماد الدولة أكبر الأُخوة الثلاثة أخو رُكن الدولة.

الثاني: قوله: إنّ رُكن الدولة قد جاوز التسعين، وقد عرفتَ ممّا نقلناه عن ابن الأثير وابن خلكان، أمّا الأوّل فيقول إنّ عُمره قد زاد على السبعين، والثاني يُقدّر عُمره باثنتين وثمانين سَنة، فقول ابن كثير قولاً ثالث، إنْ كانت التسعين غير مُحرّفة عن السبعين.

الثالث: قوله: إنّ رُكن الدولة أمرَ بالقبض

١٨٣

على وزير أبيه أبي الفتح، فإنّ أبا رُكن الدولة وهو بويه لم يكن مَلكاً ليستوزر، وإنّما كان أولاده الثلاثة مُلوكاً، وأوسطهم سِنّاً رُكن الدولة، وأبو الفتح كان وزير رُكن الدولة بعد أبيه أبي الفضل بن العميد، والآمر بالقبض عليه هو عضُد الدولة، وكان ذلك بعد وفاة أبيه رُكن الدولة، وإنّنا لَنَحسَب هذه الأغلاط مِن تحريف الناسخين؛ لأنّه مِن المُستبعد أنْ تقع مِن هذا المؤرّخ الكبير.

الثالث: أبو الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه مُعزّ الدولة:

هو أصغر الأُخوة الثلاثة مُؤسّسي الدولة البويهيّة، وقد كنّاه بعضُ المُؤرّخين بأبي الحسن، وهي كُنية أخيه عماد الدولة والحسن اسم رُكن الدولة.

قال ابن خلكان:

وهو عمُّ عضُد الدولة وأحد مُلوك الديلم، كان صاحب العراق والأهواز، وكان يُقال له الأقطع؛ لأنّه كان مقطوع اليد اليُسرى وبعض أصابع اليُمنى.

مولده ووفاته:

وُلد في سَنة ثلاث وثلاثمئة، وتُوفّي يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سَنة ستّ وخمسين وثلاثمئة ببغداد، ودفن في داره، ثُمّ نُقل إلى مشهد بُني له في مقابر قُريش.

أوّل عهده في المُلك:

قال ابن خلكان في سبب تلقيبه بالأقطع:

إنّه كان في مَبدأ عُمره وحداثة سِنّه تَبَعاً لأخيه عِماد الدولة، وكان قد توجّه إلى كرمان بإشارة أخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة، فلمّا وصلها سمِع به صاحبها، فتركها ورَحل إلى سجستان مِن غَير حَرب فملكها، وكان بتلك الأعمال طائفة مِن الأكراد قد تغلّبوا عليها، وكانوا يحملون لصاحب كرمان في كلّ سَنة شيئاً مِن المال بشرط أنْ لا يطأوا بِساطه، فلمّا وصلَ مُعزّ الدولة سَيّر إليه رئيس القوم، وأخذ عُهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثُمّ أشار عليه كاتبه بنقض العهد، وأنْ يسري إليهم على غَفلة، ويأخذ أموالهم وذخائرهم ففعل

١٨٤

مُعزّ الدولة ذلك، وقصدهم في الليل في طريق مُتوعّرة فأحسّوا به، فقعدوا له على مَضيق، فلمّا وصل إليهم بعسكره ثاروا عليهم مِن جميع الجوانب، فقتلوا وأسروا، ولم يَفلُت منهم إلاّ اليسير، ووقع بمُعزّ الدولة ضربات كثيرة، وطاحت يدُه اليُسرى وبعض أصابع يده اليمنى، وأُثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده، وسقط بين القتلى، ثُمّ سَلُم بعد ذلك.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢٤:

في هذه السَنة سار أبو الحُسين أحمد بن بويه المُلقَّب بمُعزّ الدولة إلى كرمان، وسببُ ذلك أنّ عِماد الدولة بن بويه وأخاه رُكن الدولة لمّا تمكّنا مِن بلاد فارس وبلاد الجبل، وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبدّ بها، رأيا أنْ يُسيّراه إلى كرمان ففعلا ذلك، وسار إلى كرمان في عسكرٍ ضَخم شثجعان، فلمّا بَلغَ السيرجان استولى عليها وجبى أموالها وأنفقها في عسكره، وكان إبراهيم بن سيمجور والدواني يُحاصِر محمّد بن غلياس بن اليسع بقلعة هُناك بعساكر نصر بن أحمد صاحب خُراسان، فلمّا بَلغَه إقبال مُعزّ الدولة سار عن كرمان إلى خُراسان، ونَفّس عن محمّد بن إلياس، فتَخلّص مِن القلعة، وسار إلى مدينته بَم، وهي على طرف المفازة بين كرمان وسجستان، فسار إليه أحمد بن بويه، فرَحل مِن مكانه إلى سجستان بغير قتال، فسار أحمد إلى جيرفت - وهي قصبة كرمان - واستخلف على بَم بعض أصحابه، فلمّا قارب جيرفت أتاه رسول عليّ بن الزنجي المعروف بعلي كلويه، وهو رئيس القفص والبلوص، وكان هو وأسلافه مُتغلّبين على تلك الناحية، إلاّ أنّهم يُجاملون كلّ سلطان يَرِد البلاد، ويُطيعونه ويَحملون إليه مالاً مَعلوماً ولا يطؤون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع أحمد مِن قبوله إلاّ بعد دُخول جيرفت، فتأخّر عليّ بن كلويه نحو عشرة فراسخ، ونَزل بمكان صَعِب المَسلك، ودخل أحمد بن بويه جيرفت، واصطلح هو وعلي وأخذ رهائنه وخَطَب له، فلمّا استقرّ الصُلح وانفصل الأمر أشار بعضُ أصحاب ابن بويه عليه بأنْ يَقصد عليّاً ويَغدر به، ويَسري إليه سرّاً على غَفلة، وأطمعه في أمواله وهوّن عليه أمره بسكونه إلى الصُلح، فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك لحداثة سِنّه، وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة، وكان عليّ مُحترزاً، ومَن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه، فساعة تَحرّك بلغته الأخبار، فجمع أصحابه ورتَبَهُم بمضيق على الطريق، فلمّا اجتاز بهم ابن بويه ثاروا به ليلاً مِن

١٨٥

جوانبه، فقتلوا في أصحابه وأسروا، ولم يُفلِت منهم إلاّ اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة، ووقعت ضربة منها في يَده اليُسرى فقطعتها مِن نصف الذراع، وأصاب يده اليُمنى ضَربة أُخرى سقط منها بعض أصابعه، وسقط مثخناً بالجراح بين القتلى، وبلغ الخَبر بذلك إلى جيرفت فهرب كلّ مَن بها مِن أصحابه، ولمّا أصبح علي كلويه تتبّع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين قد أشرف على التلف، فحمله إلى جيرفت، وأحضر له الأطبّاء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رُسله يَعتذر إلى أخيه عماد الدولة بن بويه، ويُعرّفه غدر أخيه، ويَبذل مِن نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقرّ بينهما الصُلح، وأطلق عليّ كلّ مَن عنده مِن الأسرى وأحسن إليهم، ووصل الخبر إلى محمّد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه، فسار مِن سجستان إلى البلد المعروف بجنابة، فتوجّه إليه ابن بويه وواقعه، ودامت الحرب بينهما عِدّة أيّام، فانهزم ابن إلياس، وعاد أحمد بن بويه ظافراً، وسار نحو علي كلويه لينتقم منه، فلمّا قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلاً في ليلة شديدة المَطر ن فأثّروا فيهم، وقتلوا ونهبوا وعادوا، وبقي ابن بويه باقي ليلته، فلمّا أصبح سار نحوهم فقَتَل منهم عدداً كثيراً، وانهزم علي كلويه، وكتب ابن بويه إلى أخيه عِماد الدولة بما جرى له مَعه ومع ابن إلياس وهزيمته، فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائداً مِن قوّاده يأمره بالعودة إلى فارس ويُلزمه بذلك. فعاد إلى أخيه، وأقام عنده باصطخر إلى أن قصدهم أبو عبد الله البريدي منهزماً مِن ابن رائق وبجكم، فأطمع عماد الدولة في العراق وسهّل عليه مُلكه.

استيلاء مُعزّ الدولة على الأهواز:

كان مِن نتيجة إطماع البريدي عِماد الدولة في العراق، وتسهيله عليه مُلكه أنْ سار مُعزّ الدولة في سَنة ستّ وعشرين إلى الأهواز وتلك البلاد، فملكها واستولى عليها ومعه البريدي، وترك البريدي ولديه أبا الحسن محمّداً وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة رهينة وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان، فسار لحربهم فانهزم مِن بين أيديهم، وكان سَبَب الهزيمة أنّ المطر اتّصل أيّاماً كثيرة، فعطلت أوتار قُسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي

١٨٦

النشّاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا مُعزّ الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثُمّ انهزموا إلى تستر، فاستولى مُعزّ الدولة على عسكر مكرم، وسار بجكم إلى تستر مِن الأهواز، وأخذ معه جماعة مِن أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل مِن الطرق إلى ابن رائق يُعلمه الخبر، ويقول له:

إن العسكر مُحتاج إلى المال، فإن كان معك مائتا ألف دينار فتُقيم بواسط حتّى نَصل إليك ونُنفق فيهم المال، وقد مرّ تفصيل ذلك كلّه في أخبار عِماد الدولة، فليُرجَع إليها.

مُخالفة البريدي على مُعزّ الدولة:

في أخبار عِماد الدولة في تلك الصفحات - الّتي ذَكر فيها استيلاء مُعزّ الدولة - خبر خلاف البريدي عليه بعد تمهيده لأخيه عِماد الدولة، وله أمر الاستيلاء على العراق وإبقاء ولديه رهينة عند عماد الدولة، واستقرار البريدي أخيراً في البصرة، وبقاء مُعزّ الدولة في الأهواز، ثُمّ تقلّبت على البريدي أُمور وأحوال، وهو لم يكن يَثبُت على حال، ولا يُبرم عهداً إلاّ، وهو يَضمر في دخيلة نفسه نقضه.

ذهاب مُعزّ الدولة إلى البصرة وعوده منها على غير ما يُريد:

في المُحرّم سَنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة وصل مُعزّ الدولة إلى البصرة، فحارب البريدييّن وأقام عليهم مدّة، ثُمّ استأمن جماعة مِن قوّاد إلى البريديّين، فاستوحش مِن الباقين فانصرف عنهم.

وصول مُعزّ الدولة إلى واسط وعوده عنها:

في آخر رجب سنة ٣٣٣هـ وصل مُعزّ الدولة إلى مدينة واسط، فسمع تورون به، فسار هو والمُستكفي بالله مِن بغداد إلى واسط، فلمّا سَمِع مُعزّ الدولة بمسيرهم إليه فارقها سادس رمضان.

استيلاء مُعزّ الدولة على بغداد:

لمّا مات تورون ووُلّي مكانه شيرزاد، وزاد هذا الأجناد زيادة ضاقت عليه الأموال بسببها، فكثر الظُلم والاعتداء على الناس كَاتبَ ينال كوشة - وكان يلي لشيرزاد عمل واسط - مُعزّ الدولة وهو بالأهواز يَستقدِمه، ودخل

١٨٧

في طاعته، فسار مُعزّ الدولة نحوه، فاضطرب الناس ببغداد، فلمّا وصل إلى باجسرى اختفى المُستكفي بالله وابن شيرزاد، فلمّا استَتر شيرزاد سار الأتراك إلى الموصل، فلمّا أبعدوا ظهر المُستكفي، وعاد إلى بغداد إلى دار الخلافة، وقدم أبو محمّد الحسن بن محمّد المهلبي صاحب مُعزّ الدولة إلى بغداد، فاجتمع بابن شيرزاد بالمكان الّذي استتر فيه، ثُمّ اجتمع بالمُستكفي، فأظهر المُستكفي السُرور بقدوم مُعزّ الدولة، وأعلمه أنّه إنّما استَتَر مِن الأتراك ليتَفرّقوا فيحصل الأمر لمُعزّ الدولة بلا قِتال، ووصل مُعزّ الدولة إلى بغداد حادي عشر جمادى الأولى سنة ٣٣٤، فنزل بباب الشماسيّة، ودخل مِن الغد إلى الخليفة المُستكفي وبايعه وحَلف له المُستكفي، وسأله مُعزّ الدولة أنْ يأذن لابن شيرزاد بالظُهور، وأنْ يأذن أنْ يَستكتبه، فأجابه إلى ذلك، فظَهر ابن شيرزاد، ولقي مُعزّ الدولة فولاّه الخراج وجباية الأموال، وخَلعَ الخليفة على مُعزّ الدولة، ولقّبه ذلك اليوم مُعزّ الدولة، ولقّب أخاه عليّاً عِماد الدولة، ولقّب أخاه الحسن رُكن الدولة، وأمَر أنْ تُضرب ألقابهم وكُناهم على الدنانير والدراهم، ونَزَل مُعزّ الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور الناس، فلحِق الناس مِن ذلك شدّة عظيمة، وصار - نزول الجيش في دور الناس - رسماً عليهم بعد ذلك، وهو أوّل مَن فعله ببغداد، ولم يُعرف بها قبله، وأُقيم للمُستكفي بالله كلّ يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكان ربما تأخرت عنه، فأُقرّت له مع ذلك ضياع سُلّمت إليه تولاّها أبو أحمد الشيرازي كاتبه.

خَلْعُ المُستكفي بالله:

وفي هذه السنة خُلِعَ المُستكفي بالله لثمان بقين مِن جمادى الآخرة؛ وكان سبَبُ ذلك أنّ علم القهرمانة صنعتْ دعوةً عظيمةً حضرها جماعةٌ مِن قوّاد الديلم والأتراك، فاتّهمها مُعزّ الدولة أنّها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمُستكفي، ويُزيلوا مُعزّ الدولة، فساء ظنّه لذلك لمّا رأى مِن إقدام عَلَم، وحضر اسفهدوت عند مُعزّ الدولة، وقال:

قد راسلني الخليفة في أنْ ألقاه مُتنكّراً، فلمّا مضى اثنتان وعشرون يوماً مِن جمادى الآخرة حضر مُعزّ الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خُراسان، ومُعزّ الدولة جالس، ثُمّ حَضَر رجلان مِن نُقباء الدَيلم يصيحان، فتناولا يد المُستكفي بالله، فظّن أنّهما يُريدان تقبيلهُا، فمدّها إليهما فجذباه عن سريره

١٨٨

وجعلا عِمامته في حَلقه، ونهض مُعزّ الدولة، واضطرب الناس، ونهبت الأموال، وساق الديلميّان المُستكفي بالله ماشياً إلى دار مُعزّ الدولة، فاعتُقل بها، ونُهبت دار الخلافة حتّى لم يبقَ بها شيء، وقُبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المُستكفي، وأُخذت عَلَم القهرمانة فقُطع لسانها.

خلافة المُطيع واستيلاء مُعزّ الدولة على أُمور الخلافة:

لمّا وُلّي المُستكفي بالله الخلافة خافه المُطيع واستَتَرَ منه، فطلبه المُستكفي أشدّ الطَلَب، فلم يظفر به، فلمّا قدِم مُعزّ الدولة بغداد قيل إنّ المطيع انتقل إليه واستتر عنده، وأغراه بالمُستكفي حتّى قبض عليه وسَمله، فلمّا قُبِض المُستكفي بويعَ للمُطيع لله بالخلافة، ولقُب المطيع لله، وأُحضر المُستكفي عنده فسلّم عليه بالخلافة، وأُشهد على نفسه بالخَلع، وازداد أمر الخلافة إدباراً، ولم يبقَ لهم مِن الأمر شيء البتّة، وكانوا يُراجَعون ويؤخذ أمرهم فيما يُفعل والحرمةُ قائمةٌ بعض الشيء، فلمّا كان أيّام مُعزّ الدولة زال ذلك جميعه، بحيث إنّ الخليفة لم يبقَ له وزير، إنّما كان له كاتب يُدير إقطاعه وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمُعزّ الدولة يستوزر لنفسه مَن يريد، وكان مِن أعظم الأسباب في ذلك أنّ الديلم كانوا يتشيّعون ويُغالون في التشيّع، ويعتقدون أنّ العباسيّين قد غصبوا الخلافة وأخذوها مِن مُستحقّيها، فلم يكنْ عِندهم باعث ديني يَحثّهم على الطاعة، حتّى لقد بلغني أنّ مُعزّ الدولة استشار جماعة مِن خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة مِن العباسيّين، والبيعة للمُعزّ لدين الله العلوي، أو لغيره مِن العلويّين، فكلّهم أشار عليه بذلك ما عدا بعض خواصّه، فإنّه قال :

ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنّه ليس مِن أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مُستحلّين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك مَن تعتقد أنت وأصحابك صحّة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن ذلك، وتسلم مُعزّ الدولة العراق بأسره، ولم يبقَ بيد الخليفة منه شيء البتة، إلاّ ما أقطعه مُعزّ الدولة ممّا يقوم ببعض حاجته.

هذا ما جاء في كامل ابن الأثير، أمّا ما جاء مِن تعليله عَدم إخلاص الديلم الطاعة للعباسيّين، واستشارة مُعزّ الدولة خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة منهم إلى المُعزّ لدين الله العلوي أو لغيره مِن العلويين، ففي ذلك

١٨٩

بَعْد:

(١) إنّ الديلم مِن الشيعة الإماميّة، والإماميّة كما لا يَرون صحّة الخلافة العباسيّة ووجوب طاعة الخُلفاء العباسيّين، لا يرون وجوب طاعة مَن يليها مِن العلويّين أيضاً، سواء أكانوا سُنّة أم شيعة، ومذهبهم في الإمامة والخلافة مَعروف، وهي أنّها لا تكون إلاّ بالنصّ.

(٢) إنّ مُعزّ الدولة الّذي يَركن إليه أخوه عِماد الدولة، وهو مؤسّس الدولة البويهيّة، والداهية المُحنّك في الاستيلاء على العراق، ويفوض إليه هذا الأمر، وهو جدّ عليم أنّ ذلك لا يَتطلّب الشجاعة وقوّة الجيش وكثرة العدد فحسب، بل يَتطلّب الحكمة والتدبير وبراعة السياسة، ولا سيّما في قُطر كقُطر العراق، والطامحون في الاستيلاء عليه والنُفوذ على سُلطان الخلافة مِن التُرك والأكراد والعرب والديلم كثيرون، فهل يخفى على مُعزّ الدولة أنّ مِثل هذه المُحاولة لا تتمّ له إنْ قصد إليها، وهل يَجهل أنّ صرف الخلافة عن العباسيّين ليست مِن الأُمور الهيّنة، وحتّى مِن الشيعة العَرب مَن يتعصّب لها، دع ما لها مِن العصبيّة السنيّة مِن مُختلف العناصر، على أنّه لا يجهل أنّ إفريقيا قاعدة الخُلفاء العلويّين لا تَزيد في نُفوذ سلطانه، بل هي أحوج إلى مَن يردّ عنها أيدي المُتغلّبين، دع ما بين ممالك أخَويه وبين العراق مِن قُرب المسافات، والبُعد ما بينها وبين إفريقية، ولِقُربِ المواصلات وبُعدها أثرها البيِّن في سَوق الجيوش، ونقل العَتاد إذا احتاج إلى نجدتهم.

(٣) على افتراض صحَّة الخلافة العلويّة عند الإماميّة الاثني عشريّة، ومُعزّ الدولة والديالمة منهم، فهل يَرون صحّة خلافة مَن لم يكن على طريقتهم ومَذهبهم؟ فهل والحالة هذه لا يرون خلافة العلوي الإسماعيلي أو غيره أصحّ مِن خلافة العبّاسي السُنّي؟

فأنت ترى أنّ مُحاولة مِثل هذا الأمر لا تنطبق على المذهب الإماميّ، ولا على السياسة الملكيّة الرشيدة، وهُما ممّا لا يجهلهما مُعزّ الدولة ومُستشاروه.

الحربُ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني:

في رجب سنة ٣٣٤ جرت حربٌ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني انتهت بفوز مُعزّ الدولة في المُحرّم سَنة ٣٣٥ فاستقرار الصُلح بينه وبين ناصر الدولة. وقد بسطنا ذلك في تاريخ بني حَمدان وأخبار ناصر الدولة.

١٩٠

إقطاع البلاد وتخريبها واضطراب الأُمور:

وفي هذه السَنة شَغَبَ الجُند على مُعزّ الدولة وأسمعوه المكروه، فضمن لهم إيصال أرزاقهم في مُدّة ذكرها لهم، فاضطرّ إلى خبط الناس وأخذ الأموال مِن غير وجوهها، وأقطع قوّاده وأصحاب القُرى جميعها الّتي للسلطان وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وزالت أيدي العُمّال، وكانت البلاد قد خَرِبَت مِن الاختلاف والغلاء والنَهب، فأخذ القوّاد القُرى العامرة، وزادت عِمارتها معهم، وتَوفّر دخلها بسَبَب الجاه، فلم يُمكن مُعزّ الدولة العود عليهم بذلك.

وأما الأتباع، فإنّ الّذي أخذوه ازداد خَراباً فردّوه، وطلبوا العوض عنه فعُوّضوا، وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القُرى وتسوية طُرقها، فهلكت وبطل الكثير منها، وأخذ غُلمّان المُقطعين في ظُلم وتحصيل العاجل، فكان أحدُهم إذا عجز الحاصل تمّمه بمُصادراتها.

ثُمّ إنّ مُعزّ الدولة فوّض حماية كلّ موضع إلى بعض أكابر أصحابه، فاتّخذه مُسكناً وأطمعه، فاجتمع إليهم الأُخوة وصار القوّاد يَدّعون الخسارة في الحاصل، فلا يقدر وزيره ولا غيره على تحقيق ذلك، فإنْ اعترضهم مُعترض صاروا أعداءً له، فتُركوا وما يُريدون، فازداد طَمعهم ولم يقِفوا عند غاية، فتَعذّر على مُعزّ الدولة جَمعُ ذخيرة تكون للنوائب والحوادث، وأكثَرَ مِن إعطاء غُلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم، وتولّد مِن ذلك الوحشة والمُنافرة، فكان منهُما البلاء على مُعزّ الدولة.

صُلح مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السنة اصطلح مُعزّ الدولة وأبو القاسم البريدي، وضَمِن أبو القاسم مدينة واسط وأعمالها منه.

استقرار مُعزّ الدولة ببغداد وإعادة المُطيع إلى دار الخلافة وصُلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة:

في المُحرّم سَنة ٣٣٥ استقرّ مُعزّ الدولة ببغداد، وأعاد المُطيع لله إلى دار الخلافة بعد أن استوثق منه، وفيها اصطلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة

١٩١

كما سبق بيان ذلك، وكانت الرُسل تَتردّد بينهما بغير عِلمٍ مِن الأتراك التورونيّة.

اختلاف مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السَنة اختلف مُعزّ الدولة وأبو القاسم بن البريدي والي البصرة، فأرسل مُعزّ الدولة جيشاً إلى واسط، فسيَّر إليهم ابن البريدي جيشاً مِن البصرة في المّاء وعلى الظَهر، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب البريدي، وأُسِر مِن أعيانهم جماعة كثيرة.

استيلاء مُعزّ الدولة على البصرة:

في سنة ٣٣٦ سار مُعزّ الدولة ومعه المُطيع لله إلى البصرة؛ لاستنقاذها مِن يد أبي القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي، وسلكوا البريّة إليها، فأرسل القرامطة مِن هَجَر إلى مُعزّ الدولة يُنكرون عليه مسيره إلى البريّة بغير أمرهم وهي لهم، فلم يُجبهم عن كتابهم، وقال للرسول:

قل لهم: مَن أنتم حتّى تستأمروا، وليس قصدي مِن أخذ البصرة غيركم، وستعلمون ما تقولون منّي.

ولمّا وصل مُعزّ الدولة إلى الدرهميّة استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسم في الرابع والعشرين مِن ربيع الآخر إلى هَجَر والتجأ إلى القرامطة، ومَلَك مُعزّ الدولة البصرة، فانحلّت الأسعار ببغداد انحلالاً كثيراً، وسار مُعزّ الدولة مِن البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عِماد الدولة، وأقام الخليفة وأبو جعفر الصيمري بالبصرة، وخالف كوركير - وهو مِن أكابر القوّاد - على مُعزّ الدولة، فسيّر إليه الصيمري فقاتله فانهزم كوركير، وأُخذ أسيراً فحبسه مُعزّ الدولة بقلعة رامهرمز، ولقي مُعزّ الدولة أخاه عِماد الدولة بأرجان في شعبان، وقبَّلَ الأرض بين يديه، وكان يقف قائماً عنده فيأمره بالجلوس فلا يفعل، ثُمّ عاد إلى بغداد، وعاد المُطيع أيضاً إليها، وأظهر مُعزّ الدولة أنّه يُريد أنْ يسيرَ إلى الموصل، فتردّدت الرُسل بينه وبين ناصر الدولة واستقر الصُلح، وحَمل المّال إلى مُعزّ الدولة فسكت عنه.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل

١٩٢

قاصداً ناصر الدولة، وانتهى الأمر مَعه إلى ما مرَّ في ترجمة رُكن الدولة.

حرب الصيمري وزير مُعزّ الدولة لعِمران بن شاهين وعوده بأمر مُعزّ الدولة بعد تَضييقه على عِمران:

في سنة ٣٣٨ استفحل أمرُ عِمران بن شاهين وقوي شأنه، وخافته القوافل حتّى انتهى الأمر بتسيير مُعزّ الدولة وزيره أبي جعفر الصيمري لمُحاربته، فعودته بأمره مِن محاربته، بسبب موت أخيه عماد الدولة، واضطراب جيشه بفارس، وإرسال الصيمري إلى شيراز لإصلاح الأُمور فيها، وقد ذكرنا ذلك في تاريخ بني عِمران بن شاهين، كما استوفينا جميع أخبارهم مِن مُبتدأ أمرهم إلى انتهائه، فليُطلَب في موضعه مِن هذا التاريخ.

وفي سنة ٣٣٩ توفّي أبو جعفر محمّد بن أحمد الصيمري بأعمال الجامدة الّتي كانت تحت سلطة عِمران بن شاهين، وكان قد عاد مِن فارس مُحاصِراً لابن شاهين، فاستوزر مُعزّ الدولة بعده أبا محمّد الحسن بن محمّد المهلبي، وكان يَخلُف الصيمري بحضرة مُعزّ الدولة، فعرف أحوال الدواوين، فامتحنه مُعزّ الدولة، فرأى فيه ما يُريد مِن الأمانة والكفاية والمَعرفة بمصالح الدولة وحُسن السيرة، فاستوزره ومكّنه مِن وزارته فأحسن السيرة، وأزال كثيراً مِن المظالم خُصوصاً بالبصرة، فإنّ البريديّين كانوا قد أظهروا فيها كثيراً مِن المظالم، فأزالها وقرّب أهل العِلم والأدب وأحسن إليهم، وتنقّل في البلاد لكشف ما فيها مِن المظالم وتخليص الأموال، فحَسُن أثره رحمه الله.

مُعاودة مُعزّ الدولة حرب عِمران بن شاهين:

في هذه السنة بعد موت الصيمري ازداد ابن شاهين قوّة وجُرأة، فسيّر إليه مُعزّ الدولة جيشاً يقوده المهلبي، فانهزم جيش المهلبي، وجرتْ أُمور انتهت بمُصالحة مُعزّ الدولة لابن شاهين، وتقليده له أعمال البطائح ممّا زاد في استفحال أمره، ولا يُفيد تفاصيل هذه الأخبار؛ لأنّها مبسوطة في تاريخ دولة بني شاهين مِن هذا الكتاب.

١٩٣

حِصار يوسف بن وجيه البصرة وانهزامه:

في سنة ٣٤١ سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في البحر والبرّ إلى البصرة فحصرها، وكان سَبَب ذلك أنْ مُعزّ الدولة لمّا سلك البريّة إلى البصرة، وأرسل القرامطة يُنكرون عليه ذلك، وأجابهم بما سبق ذِكره في غير هذا المكان، عَلِم يوسف بن وجيه استيحاشهم مِن مُعزّ الدولة، فكَتب إليهم يُطمعهم في البصرة، وطلب منهم أنْ يَمدّوه مِن ناحية البر، فأمدّوه بجمع كثير منهم، وسار يوسف في البحر فبلغَ الخبر إلى الوزير المهلبي، وقد فرغ مِن الأهواز والنظر فيها، فسار مُجدّاً في العساكر إلى البصرة، فدخلها قَبل وصول يوسف إليها وشحنها بالرجال، وأمدَّه مُعزّ الدولة بالعساكر وما يحتاج إليه، وتحارب هو وابن وجيه أيّاماً، ثُمّ انهزم ابن وجيه وظَفرَ المهلبي بمراكبه وما معه مِن سلاح وغيره.

ضَربُ مُعزّ الدولة وزيره المهلبي بالمقارع:

وفي هذه السنة في ربيع الأوّل ضَربَ مُعزّ الدولة وزيره أبا محمّد المهلبي بالمقارع مئةً وخمسين مقرعة، ووكّل به في داره ولم يَعزله مِن وزارته، وكان نَقِم عليه أُموراً ضربه بسببها.

الخطبة لمُعزّ الدولة في مكة:

في سنة ٣٤٢ سيَّر الحجّاج الشريفين أبا الحسن محمّد بن عبد الله وأبا عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويّين، فجرى بينهما وبين عساكر المصريّين مِن أصحاب ابن طغج حَرب شديدة، وكان الظفر لهُما فُخطِب لمُعزّ الدولة بمكّة، فلمّا خرجا مِن مكّة لحقهما عسكر مصر فقاتلهما، فظفرا به أيضاً.

وفي سنة ٣٤٣ وقعت الحرب بمكّة بين أصحاب مُعزّ الدولة، فخُطب بمكة والحجاز لرُكن الدولة ومُعزّ الدولة وولده عزّ الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.

١٩٤

إرسالُ مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش لشهرزور:

وفي هذه السَنة أرسل مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور في رجب، ومعه المنجنيقات لفتحها، فسار إليها وأقام بتلك الولاية إلى المُحرّم مِن سَنة أربع وأربعين وثلاثمئة، فعاد ولم يُمكنه فتحها؛ لأنّه اتّصل به خروج عساكر خُراسان إلى الري.

مَرض مُعزّ الدولة وانتقاض ابن شاهين:

في سنة ٣٤٣ في ذي القعدة عرض لمُعزّ الدولة مَرض، وهو دوام الإنعاظ - يُسمى فريافسمس - مع وجع شديد في ذَكَرِه مع تَوتُّر أعصابه، وكان مُعزّ الدولة خوّاراً في أمراضه، فأرجف الناس به، واضطربت بغداد، فاضطرّ إلى الرُكوب فركب في ذي الحجّة على ما به مِن شِدّة المرض، فلمّا كان في المُحرّم مِن سنة ٣٤٤ أوصى إلى ابنه بختيار، وقلَّده الأمر بعده وجعله أمير الأُمراء، وبلغَ عِمران بن شاهين أنّ مُعزّ الدولة قد مات، فجرتْ منه أُمور أدّت إلى انفساخ الصُلح، وقد ذُكِر هذا في دولة بني شاهين.

إنجاده أخاه رُكن الدولة بعسكر لمُدافعة الخُراسانيّة:

وفي هذه السَنة استمدّ أخوه رُكن الدولة لمُدافعة الخُراسانيّة الخارجين إلى مملكته في الري، فأمدّه بعسكر مُقدّمهم الحاجب سبكتكين، وقد مرَّ خَبر ذلك في ترجمة رُكن الدولة.

عصيان روزبهان على مُعزّ الدولة:

في سَنة ٣٤٥ خَرج روزبهان بن ونداد خرشيد الديلمي على مُعزّ الدولة، وعصى عليه، وخرج أخوه بلكا بشيراز، وخرج أخوهما أسفار بالأهواز، ولحق به روزبهان إلى الأهواز، وكان يُقاتل عِمران بالبطيحة، فعاد إلى واسط وسار إلى الأهواز في رَجب وبها الوزير المهلبي، فأراد مُحاربة روزبهان فاستأمن رجاله إلى روزبهان، فانحاز المهلبي عنه، وورد الخبر بذلك إلى مُعزّ الدولة فلم يُصدّق به، لإحسانه إليه، لأنّه رفعه بعد الضِعَة ونَوّه

١٩٥

بذِكره بعد الخُمول، فتجّهز مُعزّ الدولة إلى محاربته، ومال الديلم بأسرهم إلى روزبهان، ولقوا مُعزّ الدولة بما يَكره، واختلفوا عليه وتتابعوا على المسير إلى روزبهان، وسار مُعزّ الدولة عن بغداد خامس شعبان، وخرج الخليفة المُطيع لله مُنحدراً إلى مُعزّ الدولة؛ لأنّ ناصر الدولة لمّا بَلغه الخبر سيَّر العساكر مِن الموصل مع ولده أبي المرجا جابر لقصد بغداد والاستيلاء عليها، فلمّا بَلغَ ذلك الخليفة انحدر مِن بغداد، فأعاد مُعزّ الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممَّن يثقُ بهم مِن عسكره إلى بغداد، فشَغبَ الديلم الّذين ببغداد، فوُعِدوا بأرزاقهم فسكنوا، وهُم على قنوط مِن مُعزّ الدولة.

وأمّا مُعزّ الدولة، فإنّه سار إلى أنْ بلغ قنطرة أدبق فنزل هُناك، وجعل على الطرق مَن يحفظ أصحاب الديلم مِن الاستئمان إلى روزبهان؛ لأنّهم كانوا يأخذون العطاء منه ثُمّ يهربون عنه، وكان اعتماد مُعزّ الدولة على أصحابه الأتراك ومماليكه ونَفَرٌ يسيرٌ مِن الديلم، فلمّا كان سلخ رمضان أراد مُعزّ الدولة العُبور هو وأصحابه الّذين يثقُ بهم إلى مُحاربة روزبهان، فاجتمع الديلم وقالوا لمُعزّ الدولة:

إنْ كُنّا رجالك فأخرجنا معك نقاتل بين يديك، فإنّه لا صبر لنا على القعود مع الصبيان والغُلمّان، فإنْ ظفرت كان الاسم لهؤلاء دوننا، وإنْ ظفرَ عدوّك لَحِقنا العار. وإنّما قالوا هذا الكلام خديعة ليُمكّنهم مِن العبور معه فيتمكّنون منه، فلمّا سمع قولهم سألهم التوقّف، وقال:

إنّما أُريد أنْ أذوق حَربهم ثُمّ أعود، فإذا كان الغد لقيناهم بأجمعنا وناجزناهم. وكان يُكثر لهم العطاء فأمسكوا عنه، وعبر مُعزّ الدولة وعبر أصحابه كراديس تتناوب الحملات، فما زالوا كذلك إلى غروب الشمس، ففني نشّاب الأتراك وتعبوا، وشكوا إلى مُعزّ الدولة ما أصابهم مِن التَعب، وقالوا:

نَستريح الليلة ونعود غَداً، فعلِم مُعزّ الدولة أنّه إنْ رجِع رجف إليه روزبهان والديلم، وثار معهم أصحابه الدَيلم يهلُك ولا يُمكنه الهَرب، فبكى بين يَدَي أصحابه وكان سريع الدمعة، ثُمّ سألهم أنْ تُجمع الكراديس كلّها ويحملوا حَملة واحدة، وهو في أوّلهم فإمّا أنْ يَظفروا، وإمّا أنْ يُقتل أوّل مَن يُقتل، فطالبوه بالنشاب، فقال:

قد بقيَ مع صغار الغُلمّان نشّاب فخذوه واقسّموه، وكان جماعة صالحة مِن الغُلمّان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد وعليهم اللبس الجيّد، كانوا سألوا مُعزّ الدولة أنْ يأذن لهم في الحرب فلم يَفعل، وقال:

إذا جاء وقت يَصلح لكم أذنت لكُم في القتال، فوجّه إليهم

١٩٦

تلك الساعة مَن يأخذ منهم النشّاب، وأومأ مُعزّ الدولة إليهم بيده أنْ اقبلوا منه، وسلّموا إليه النشّاب، فظنّوا أنّه يأمرهم بالحملة، فحملوا وهُم مستريحون، فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها، وألقوا بعضها فوق بعض فصاروا خَلفهم، وحمل مُعزّ الدولة فيمَن معه باللتوت، فكانت الهزيمة على روزبهان وأصحابه، وأُخذ روزبهان أسيراً وجماعة مِن قوّاده، وقتَل مِن أصحابه خَلق كثير، وكَتب مُعزّ الدولة بذلك، فلمْ يُصدِق الناس لما علموا مِن قُوّة روزبهان وضعف مُعزّ الدولة، وعاد إلى بغداد ومَعَه روزبهان يراه الناس، وسَيَّر سبكتكين إلى أبي المرجا بن ناصر الدولة، وكان بعكبرا فلم يَلحقه؛ لأنّه لمّا بلغه الخبر عاد إلى الموصل، وسَجن مُعزّ الدولة روزبهان، فبلغه أنْ الديلم قد عزموا على إخراجه قهراً، والمُبايعة له فأخرجه ليلاً وغَرّقه.

وأمّا أخو روزبهان الّذي خرج بشيراز، فإنّ الأُستاذ أبا الفضل بن العميد سار إليه في الجيوش فقاتله فظفرَ به، وأعاد عضُد الدولة بن رُكن الدولة إلى مُلكه، وانطوى خبَر روزبهان وأخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار، فقَبض مُعزّ الدولة على جماعة مِن الديلم وترك مَن سواهم، واصطنع الأتراك وقدّمهم، وأمرهم بتوبيخ الديلم والاستطالة عليهم، ثُمّ أطلق للأتراك إطلاقات زائدة على واسط والبصرة، فساروا لقبضها مُدلين بما صنعوا، فأخربوا البلاد ونهبوا الأموال، وصار ضرَرُهم أكثر مِن نفعهم.

استيلاء مُعزّ الدولة على الموصل:

لم يكن ناصر الدولة يَثبت مع مُعزّ الدولة على عَهد وصلح، فما يَبرم معه عهداً وصُلحاً حتّى يُنقضه ما بين عشيّة، كلمّا لاحت له فرصة الخروج فقد اختلفا كثيراً، وانتهى اختلافهما إلى اتّفاق وسُرعان ما يعود ناصر الدولة فينسخ ذلك الاتّفاق، وقد عرفت في خَبر خُروج روزبهان وأخَوَيه أنْ ناصر الدولة انتهزها فُرصة فسيّر ولده أبا المرجا إلى بغداد، وكان ذلك بعد صُلح معقود على ألفَي ألف درهم كلّ سَنة، ولكنّ ناصر الدولة أخّر حمل المال مُضافاً إلى ما أساء إليه في وقت الشدّة، وكان ذلك في سنة ٣٤٧، ممّا اضطرّ مُعزّ الدولة للتجهُّز إلى الموصل، فسار نحوها في مُنتصف جمادى الأولى ومعه وزيره المهلبي، وانتهى الأمر بعد مواقع وحُروب بينهما إلى فِرار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدين في

١٩٧

حلب، وتوسّط سيف الدولة في الصُلح وكفالته المال المُرتّب عليه، إلى غير ذلك ممّا بسطناه في تاريخ الحمدانيّين أحد أجزاء هذا الكتاب.

زواجُ مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة بابنة عمّه مُعزّ الدولة:

في سنة ٣٤٨ سار مؤيّد الدولة بن رُكن الدولة مِن الريّ إلى بغداد، فتَزوّج بابنة عمّه مُعزّ الدولة، ونقلها معه إلى الري، ثُمّ عاد إلى أصبهان.

بِناءُ مُعزّ الدولة دورَه ببغداد بعد إبلاله مِن مرض أقلقه:

في المُحرّم سنة ٣٥٠هـ مرض مُعزّ الدولة وامتنع عليه البول، ثُمّ كان يبول بعد جُهد ومشقّة دماً، وتبعه البول والحصار، فاشتدّ جَزعه وقلقه، وأحضر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين، فأصلح بينهما ووصّاهما بابنه بختيار، وسلّم جميع ماله إليه، ثُمّ إنّه عوفي، فعَزِم على المسير إلى الأهواز؛ لأنّه اعتقد أنّ ما اعتاده مِن الأمراض إنّما هو بسبب مقامه ببغداد، وظنّ أنّه إنْ عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه مِن الصحّة ونَسيَ الكِبَر والشباب، فلمّا انحدر إلى كلواذا ليتوجّه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمَقام، وأنْ يُفكّر في هذه الحَركة ولا يَعجل، فأقام بها، ولم يُؤثِر أحدٌ مِن أصحابه انتقاله لمُفارَقة أوطانهم، وأسَفَاً على بغداد كيف تَخرب بانتقال دار المَلك عنها، فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد، وأنْ يبني بها له داراً في أعلى بغداد لتكون أرقّ هواء وأصفى ماء ففعل، وشَرع في بناء داره في موضع المسناة المُعزيّة، فكان مَبلَغ ما خَرَجَ عليها إلى أنْ مات: ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسَبَب ذلك إلى مُصادرة جماعة مِن أصحابه.

تَوليتهُ القضاءِ بالضمان:

في هذه السَنة تولّى قضاء القضاة أبو العبّاس بن عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب، وضَمِن أنْ يؤدّي كلّ سَنة مئتي ألف دِرهم، وهو أوّل مَن ضَمِن القضاء، وكان ذلك أيام مُعزّ الدولة، ولم يُسمع بذلك قبله، فلم يأذن له الخليفة المُطيع لله بالدخول عليه، وأمر بأنْ لا يحضر الموكب لِما ارتكبه مِن ضمان القضاء، ثُمّ ضُمِنَت بعدُ الحُسبة والشَرطة ببغداد.

١٩٨

استئمانُ أبي القاسم أخي عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة:

في هذه السَنة وصل أبو القاسم أخو عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة مُستأمِناً.

ما كُتِبَ على مساجد بغداد بأمر مُعزّ الدولة:

في ربيع الآخر مِن سنة ٣٥١هـ كَتب عامّة الشيعة ببغداد بأمر مُعزّ الدولة على المساجد ما هذه صورته:(لُعِن معاوية بن أبي سفيان، ولُعِن مَن غَصب فاطمة (رضي الله عنها) فَدكاً، ومَن مَنع مِن أنْ يُدفن الحسن عند قبر جدّه (عليه السلام)، ومَن نفى أبا ذرٍّ الغفاري، ومَن أخرج العبّاس مِن الشورى).

فأمّا الخليفة، فكان مَحكوماً عليه لا يقدر على المَنع، وأمّا مُعزّ الدولة، فبأمره كان ذلك، فلمّا كان الليل حكّه بعضُ الناس، فأراد مُعزّ الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير أبو محمّد المهلبي بأنْ يَكتب مكان ما مُحي:(لعن الله الظالمين لآل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)) ، ولا يَذكر أحداً في اللعن إلاّ معاوية، ففعل ذلك.

وفاةُ المهلبي وأُمور غريبة صدرت مِن مُعزّ الدولة:

في جمادى الآخرة سن ٣٥٢هـ سار الوزير المهلبي وزير مُعزّ الدولة في جيش كَثيف إلى عُمان ليفتحها، فلمّا بلغَ البحر اعتلّ واشتدّت عِلّته فأُعيد إلى بغداد فدُفن بها، وقبضَ مُعزّ الدولة أمواله وذخائره وكلّ ما كان له، وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه حتّى ملاّحه ومَن خدمه يوماً واحداً، فقبض عليهم وحبسهم، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، وكانت مُدّة وزارته ثلاث عشرة سَنة وثلاثة أشهر، وكان كريماً فاضلاً ذا عقل ومروءة فمات بموته الكرم، ونظر في الأُمور بعده أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي، وأبو الفَرَج محمّد بن العبّاس بن فسانجس مِن غير تسمية لأحدهما بوزارة.

أمرُ مُعزّ الدولة الناس بإبطال أعمالهم وإقامة عزاء الحسين بن علي (عليه السلام):

في عاشر المُحرّم مِن هذه السَنة أمر مُعزّ الدولة الناس أنْ يُغلقوا دكاكينهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأنْ يُظهروا النياحة ويلبسوا قباباً

١٩٩

عملوها بالمسوح، وأنْ يَخرُج النساء مُنشرات الشُعور، مُسودّات الوجوه، قد شققنَ ثيابهنّ، يَدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسُنّة قُدرة على المنع منه؛ لكثرة الشيعة، ولأنّ السلطان معهم.

ومُعزّ الدولة هو أوّل مَن سنَّ هذه السُنّة، وألزم الناس بها في كلِّ يوم عاشر مِن مُحرّم كلّ سَنة، وكانت مَثارة فِتن بين السُنّة والشيعة.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

وفي رجب سنة ٣٥٣هـ سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل وملكها، وبعد تضييقه على ناصر الدولة وفراره منه أعاده إليه، وقرّر بينهما الصُلح، وقد استوفينا خَبر ذلك في أخبار الحمدانيّين فلا نُعيده.

طاعةُ أهل عُمان مُعزّ الدولة وما كان مِنهم:

وفي سنة ٣٥٤هـ سيَّر مُعزّ الدولة عسكراً إلى عُمان، فلقوا أميرها وهو نافع مولى يوسف بن وجيه، وكان يوسف قد هَلك ومَلكَ نافع البلد بعده، وكان أسود، فدخل نافع في طاعة مُعزّ الدولة، وخطب له وضرب له اسمه على الدينار والدرهم، فلمّا عادَ العسكر عنه وثب به أهل عُمان فأخرجوه عنهم، وأدخلوا القرامطة الهَجريّين إليهم، وتَسلّموا البَلد فكانوا يُقيمون فيها نهاراً ويَخرجون ليلاً إلى مُعسكرهم، وكتبوا إلى أصحابهم بهَجَر يُعرّفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.

ما تَجدّد لعُمان واستيلاء مُعزّ الدولة عليها:

بعد هرب نافع عن عُمان واستيلاء القرامطة عليها، كان معهم كاتب يُعرَف بعلي بن أحمد ينظر في أُمور البلد، وكان بعُمان قاضٍ له عشيرة وجاه، فاتّفق هو وأهل البلد أنْ يَنصبوا في الإمرة رجلاً يُعرف بابن طغان، وكان مِن صِغار القوّاد بعُمان وأدناهم مَرتبة، فلمّا استقرّ في الإمرة خافَ ممَّن فوقه مِن القوّاد، فقبضَ على ثمانين قائداً، فقتل بعضهم وغَرّق بعضهم، وقَدِم البلد ابنا أُخت رجُل ممَّن قد غرَّقهم فأقاما مُدّة، ثُمّ إنّهما دخلا على طغان يوماً مِن أيّام السلام، فسلما عليه فلمّا تقوّض المجلس قتلاه، فاجتمع

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624