الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135128 / تحميل: 5318
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

١
٢

سُورَة

المَعَارِج

مَكيَّة

وَعَدَدُ آياتُهَا أربَعَ وَأربَعُونَ آية

٣
٤

«سورة المعارج»

مكية وعدد اياتها اربع وأربعون اية «سورة المعارج»

محتوى السورة :

المعروف بين المفسّرين هو أنّ سورة المعارج من السور المكّية ، وعلى أساس ما ينقله (فهرست ابن النديم) و (كتاب نظم الدرر) و (تناسق الآيات والسور) المطابق لما نقله (تاريخ القرآن) لأبي عبد الله الزنجاني أنّ هذه السورة هي السورة السابعة والسبعون والتي نزلت في مكّة.

ولكن هذا يتنافى مع كون بعض آياتها مدنية ، وهذا ليس منحصرا في سورة المعارج ، فإنّ كثيرا من سور القرآن الكريم هي مكّية ولكنّها تحوي على آية أو آيات مدنية في نفس الوقت ، وبالعكس بعض السور المدنية تحوي على آيات مكّية.

ولقد نقل العلّامة الأمينيرحمه‌الله نماذج كثيرة من هذا الموضوع في كتابه (الغدير) ، وهناك روايات كثيرة سوف يأتي ذكرها بعد إن شاء الله تدل على أنّ الآيات الأولى من هذه السورة هي آيات مدنية.

على أية حال فإنّ خصوصيات السور المكّية كالبحث حول اصول الدين وخاصّة المعاد وإنذار المشركين والمخالفين ، وهذه الخصوصيات واضحة جدّا في هذه السورة ، وعلى هذا فإنّ لهذه السورة أربعة أقسام :

القسم الأوّل : يتحدث عن العذاب السريع الذي حلّ بأحد الأشخاص ممن أنكر أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : لو كان هذا القول حقّا فلينزل عليّ العذاب. فنزل (الآية ١ ـ ٣).

القسم الثّاني : ذكر الكثير من خصوصيات يوم القيامة ومقدماتها وحالات

٥

الكفار في ذلك اليوم.

القسم الثّالث : توضح هذه السورة بعض الصفات الإنسانية الحسنة والسيئة والتي تعيّن هذا الشخص من أهل الجنان أم من أهل النّار.

القسم الرّابع : يشمل إنذارات تخصّ المشركين والمنكرين وتبيان مسألة المعاد وينهى بذلك السورة.

فضيلة هذه السورة :

نقرأ في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ (سأل سائل) أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون»

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «من أدمن قراءة (سأل سائل) لم يسأله الله يوم القيامة عن ذنب عمله وأسكنه جنّته مع محمّد». ونقل مثله عن الإمام الصّادقعليه‌السلام .

من البديهي أنّ الإنسان يحصل على مثل هذا الثّواب العظيم إذا كانت قراءته بإيمان وعقيدة ، وثمّ يقترن ذلك بالعمل ، لا أن يقرأ الآيات والسور من دون أن تؤثر في روحه وفكره وعمله شيئا.

* * *

٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) )

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسّرين وأصحاب الحديث أحاديث عن سبب نزول هذه الآية وحاصلها : أنّه عند ما نصّب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاعليه‌السلام في يوم (غدير خم) قال في حقّه : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ولم ينقض مدّة حتى انتشر ذلك في البلاد والمدن ، فقدم النعمان بن حارث الفهري على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال] : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصّوم والصّلاة والزكاة فقبلناها ، ثمّ لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله.

فقال : «والله ، والذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله» فولى النعمان بن حارث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) وما ذكرناه هو مضمون ما روي عن أبي القاسم الحسكاني في مجمع البيان بإسناده إلى أبي عبد الله الصّادقعليه‌السلام (١) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٥٢.

٧

هذا المعني مروي عن كثير من المفسّرين من العامّة ، فقد نقل رواة الحديث هذا المعنى بشيء من الاختلاف البسيط.

وينقل «العلّامة الأميني» ذلك في كتابه (الغدير) عن ثلاثين عالما مشهورا من أهل السنّة (مع ذكر السند والنّص) ومن ذلك :

تفسير غريب القرآن (للحافظ أبي عبيد الهروي).

تفسير شفاء الصدور (لأبي بكر النقاشي الموصلي).

تفسير الكشف والبيان (لأبي إسحاق الثعالبي).

تفسير أبي بكر يحيى (القرطبي).

تذكرة أبو إسحاق (الثعلبي).

كتاب فرائد السمطين (للحمويني).

كتاب درر السمطين (للشّيخ محمّد الزرندي).

كتاب السراج المنير (لشمس الدين الشّافعي).

كتاب (سيرة الحلبي).

كتاب نور الأبصار (للسّيد مؤمن الشبلنجي).

وكتاب شرح الجامع الصّغير للسيوطي من (شمس الدين الشّافعي وغير ذلك.(١) وفي كثير من هذه الكتب علم ورد أنّ هذه الآيات قد نزلت بهذا الشأن ، وبالطبع هناك اختلاف بشأن الحارث بن النعمان أو جابر بن نذر أو النعمان بن حارث الفهري ، ومن الواضح أنّ هذا الأمر لا يؤثر في أصل المطلب.

بالطبع أنّ بعض المفسّرين أو المحدّثين بفضائل الإمام عليعليه‌السلام من أهل السنّة يتقبلون ذلك ، ولكن على مضض وعدم ارتياح ، وتمسكوا بإشكالات

__________________

(١) الغدير ، ج ١ ، ص ٢٣٩ ـ ٢٤٦.

٨

مختلفة على سبب نزول الآية ، وسنوضح في نهاية المطاف بإذن الله بحثا تفسيريا عن هذا الموضوع.

* * *

التّفسير

العذاب العاجل :

من هنا تبدأ سورة المعارج حيث تقول :( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) ، هذا السائل كما قلنا في سبب النزول هو النعمان بن الحارث أو النضر بن الحارث وكان هذا بمجرّد تعيين الإمام عليعليه‌السلام خليفة ووليّا في (غدير خم) وانتشار هذا الخبر في البلاد ، حيث رجع مغتاظا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : هل هذا منك أم من عند الله؟ فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصرّحا : «من عند الله» ، فازداد غيظة وقال : اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فرماه الله بحجارة من السماء فقتله.(١)

هناك تفسير آخر أعم من هذا التّفسير وأعم منه ، وهو أنّ سائل سأله لمن هذا العذاب الذي تتحدث عنه؟ فيأتي الجواب في الآية الاخرى :( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

وحسب تفسير ثالث يكون هذا السائل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي دعا على الكافرين بالعذاب فنزل.

ولكن مع أنّ التّفسير الأوّل أكثر ملاءمة للآية فإنّه منطبق تماما على روايات سبب النزول.

ثمّ يضيف بأنّ هذا العذاب خاص بالكفار ولا يستطيع أحد دفعه عنهم :

__________________

(١) الباء في (بعذاب واقع) حسب هذا التفسير باء زائدة للتأكيد وفي نظر البعض تعني (عن) ، وهذا ممّا يطابق التّفسير الثّاني (يجب الالتفات إلى أنّ السؤال إذا كان بصيغة الطلب يتعدى بمفعولين وإذا كان بمعنى الاستفسار يكون مفعوله الثّاني مع (عن).

٩

( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .(١)

وتصف الآية الاخرى من ينزل العذاب منه ، وهو الله ذي المعارج فتقول الآية :( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) ، أي صاحب السماء التي يعرج إليها الملائكة.

«المعرج» جمع «معرج» بمعنى المصعد أو المكان الذي منه يصعدون ، إذ أنّ الله جعل للملائكة مقامات مختلفة يتوجهون بها إلى قربه بالتدريج ، وقد وصف الله تعالى بذي المعارج.

نعم ، الملائكة المأمورون بتعذيب الكفّار والمجرمين ، والذين هبطوا على إبراهيمعليه‌السلام ، وأخبروه بأنّهم قد أمروا بإبادة قوم لوط ، وفعلوا ذلك إذ قلبوا بلاد أولئك القوم الفاسقين رأسا على عقب.

وهم الذين أمروا كذلك بتعذيب المجرمين الباقين.

وقيل المراد ب ـ (المعارج) الفضائل والمواهب الإلهية ، وقيل المراد بها (الملائكة) ، ولكن المعنى الأوّل هو أنسب ، وهو ملائم للمفهوم اللّغوي.

* * *

ملاحظة :

إشكالات المعاندين الواهية!

كثيرا ما نرى في مورد الآيات أو الرّوايات التي تذكر فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام إصرار البعض إلى حدّ ما في أن يغضّ النظر عنها ، أو يقوم بتوجيهها توجيها محرّفا ويدقق في أمرها بوسوسة بالغة ، في حين أنّ هذه الفضائل لو كانت واردة في الآخرين لقبلوها بسهولة وبساطة.

النموذج الحي الكلام هو الإشكالات السباعية التي ذكرها ابن تيمية في

__________________

(١) (واقع) صفة للعذاب و (للكافرين) صفة ثانية و (ليس له دافع) صفة ثالثة وقد احتمل أن (الكافرين) له علاقة ب ـ (العذاب) وإذا كانت (اللام) تعني (على) فإنّها ستتعلق ب ـ (واقع).

١٠

كتابه (منهاج السنّة) في أحاديث مروية في أسباب نزول الآيات المذكورة وهي :

١ ـ حديث قصّة يوم الغدير بعد رجوع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّة الوداع أي في السنة العاشرة للهجرة ، في حين أنّ السورة المعارج من السور المكّية وقد نزلت قبل الهجرة.

الجواب : كما بيّنا من قبل فإنّ كثيرا من السور تسمّى مكّية في حين أنّ بعض آياتها مدنية كما يقول المفسّرون ، وبالعكس فإنّ هناك سورا مدنية نزلت بعض آياتها في مكّة.

٢ ـ جاء في الحديث أنّ (الحارث بن النعمان) حضر عند النّبي في (الأبطح) ، والمعروف أنّ (الأبطح) ، واد في مكّة ، وهذا لا يتفق مع نزول الآية بعد حادثة الغدير.

الجواب : إنّ كلمة الأبطح وردت في بعض الرّوايات ، لا كلّ الرّوايات ، كما أنّ الأبطح والبطحاء تعني كل أرض صحراء رملية وتجري فيها السيول ، وكذلك هناك مناطق في المدينة تسمّى بالأبطح والبطحاء ، وقد أشار العرب إلى ذلك في كثير من أقوالهم وأشعارهم.

٣ ـ المشهور أنّ آية :( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ )

الجواب : ليس منّا من يقول : إنّ حادثة الغدير هي سبب نزول تلك الآية ، بل الحديث هو في آية :( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) وأمّا الآية (٣٣) من سورة الأنفال فهي أنّ الحارث بن النعمان قد استخدمها في كلامه ، وهذا لا يرتبط بأسباب النزول ، ولكن العصبية المفرطة تجعل الإنسان غافلا عن هذا الموضوع الواضح.

٤ ـ يقول القرآن المجيد :( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) الأنفال الآية (٣٣) ، تقول الآية : لم ينزل العذاب أبدا ما دام الرسول فيهم.

١١

الجواب : المعروف أنّ العذاب العام والجماعي مرفوع عن الأمّة لأجل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا العذاب الخاص والفردي فقد نزل مرارا على بعض الأفراد ، والتاريخ الإسلامي شاهد على أنّ أناسا معدودين مثل «أبي زمعة» و «مالك بن طلالة» و «الحكم بن أبي العاص» وغيرهم قد ابتلوا بالعذاب للعن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم أو بدون ذلك.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ الآية السالفة لها تفاسير أخرى ، وطبقا لذلك فإنّ لا يمكن الاستدلال بها في المكان (راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية ٣٣ الأنفال).

٥ ـ إذا كان سبب النزول هذا صحيحا فلا بدّ أن يكون معروفا كقصّة أصحاب الفيل؟

الجواب : إنّ سبب النزول لهذه الآية معروف ومشهور ، كما أشرنا من قبل ، إلى حدّ ألّف فيه ثلاثون كتابا من كتب التّفسير والحديث ، والعجيب بعدئذ أن نتوقع من حادثة خاصّة أن تعطي انعكاسا وأثرا كقصّة أصحاب الفيل ، في حين أنّ تلك القصّة كانت لها صفة عامّة ، وقد استولت على أنحاء مكّة ، وأبيدت فيها جيوش كبيرة ، وأمّا قصّة الحارث بن النعمان ، فإنّها كانت تخصّ فردا واحدا فقط!.

٦ ـ ما يستفاد من هذا الحديث هو أنّ الحارث بن النعمان كان معتقدا بأسس واصول الإسلام ، فكيف يمكن لمسلم يعاصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبتلى بمثل هذا العذاب؟

الجواب : هذا الإحتجاج ناشئ أيضا من التعصب الأعمى ، لأنّ الأحاديث المذكورة سلفا تشير إلى أنّه لم ينكر نبوّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، بل أنّه أنكر حتى الشهادة بالوحدانية ، واعترض على الأمر الإلهي الذي صدر للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ عليعليه‌السلام وهذا يدل على أشدّ مراحل الكفر والارتداد.

٧ ـ لا نجد اسما للحارث بن النعمان في الكتب المشهورة كالاستيعاب الذي جاء فيه ذكر الصحابة.

١٢

الجواب : ما جاء في هذا الكتاب ومثله من ذكر الصحابة يرتبط فقط بقسم من الصحابة ، فمثلا في كتاب (أسد الغابة) الذي يعدّ من أهم الكتب وفيه يذكر أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عدّ منهم فقط سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسين صحابيا ، في حين أننا نعلم أنّ الجمع الذي كان حاضرا عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع مائة ألف أو يزيدون ، وممّا لا شك فيه أنّ كثيرا من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأت ذكرهم في هذه الكتب.

* * *

١٣

الآيات

( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) )

التّفسير

يوم مقداره خمسين ألف سنة :

بعد إيراد قصّة العذاب الدنيوي الذي أصاب من طلب العذاب تبحث الآيات أمر المعاد والعذاب الأخروي للمجرمين في ذلك اليوم.

في البداية يقول تعالى :( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ـ أي إلى الله ـ( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المشهور أنّ المراد من عروج الملائكة هو العروج الروحي ، وليس العروج الجسمي ، يعني أنّهم يسرعون في التقرب إلى المقام الإلهي وهم مهيّئون لاستلام الأوامر في ذلك اليوم الذي يراد به يوم القيامة ، وكما قلنا سابقا في تفسير الآية (١٧) من سورة الحاقة من أنّ المراد من الآية( وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها ) هو اليوم الذي يجتمعون فيه في السماء ينتظرون لتنفيذ ما

١٤

يأمرون(١) .

والمراد بالرّوح هو (الرّوح الأمين) وهو أكبر الملائكة ، وهذا ما أشير إليه أيضا في سورة القدر حيث يقول تعالى :( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) ومن الطبيعي أنّ الرّوح لها معان مختلفة بحسب تناسب مع القرائن الموجودة ، فمن الممكن أن يعطي في كلّ موضوع معنى خاص ، والرّوح يراد به روح الإنسان ، وكذا يراد منه القرآن ، وبمعنى روح القدس ، وبمعنى ملك الوحي ، كلّ ذلك من معاني الرّوح ، وهذا ما يشار إليه في بقية آيات القرآن.

وأمّا المراد بكون (خمسين ألف سنة) هو ذلك اليوم الذي بحيث لو وقع في الدنيا كان مقداره خمسين ألف سنة من سني الدنيا ، وهذا لا ينافي ما جاء في الآية (٥) من سورة السجدة من إنّ ذلك يوم مقداره ألف سنة ، ولأجل ذلك ذكر في الرّوايات أنّ ليوم القيامة خمسين موقفا ، وكلّ موقف منه يطول بمقدار ألف سنة.(٢)

واحتمل البعض أيضا أنّ هذا العدد (خمسين ألف سنة) للكثرة لا العدد ، أي أنّ ذلك اليوم طويل جدّا.

على أيّ حال فقد كان هذا ما يخصّ المجرمين والظلمة والكفار ، ولهذا روي في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه سأل سائل من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية عن طول ذلك اليوم؟ فقال : «والذي نفس محمّد بيده إنّه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا»(٣) .

__________________

(١) وردت تفاسير اخرى لعروج الملائكة لا يمكن الاعتماد على أيّ منها ومن ذلك : المراد من الزمان هي الفترة التي بدأت الملائكة بالصعود والنزول منذ بداية الدنيا إلى نهايتها تكون مقدار خمسين ألف سنة ، وهذا هو عمر الحياة ولكن الآيات التي. تليها تدلّ على أنّ الحديث يخصّ يوم القيامة ولا يخصّ الدّنيا (فتدبّر). (٢) نقل هذا الحديث في أمالي الشّيخ بإسناده إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو مطابق لما نقله الحويزي في كتابه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤١٣.

(٣) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٥٣ ، والقرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٧٦١.

١٥

ثمّ يخاطب الله تعالى رسوله الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية الأخرى ويقول :( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ) .

المراد بـ (الصبر الجميل) هو ما ليس فيه شائبة الجزع والتأوه والشكوى ، وفي غير هذا الحال لا يكون جميلا.(١)

ثمّ يضيف :( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً ) إنّهم لا يصدقون بوجود مثل ذلك اليوم الذي يحاسب فيه جميع الخلائق حتى أصغر حديث وعمل لهم ، وذلك في اليوم مقداره خمسون ألف سنة ، ولكنّهم في الواقع ما عرفوا الله وفي قلوبهم ريب بقدرة الله.

إنّهم يقولون : كيف يمكن جمع العظام البالية والتراب المتناثر في كل حدب وصوب ثمّ يردّ إلى الحياة؟ (وقد ذكر القرآن كلامهم هذا في كثير من آياته) ثمّ كيف يمكن أن يكون اليوم بمقدار خمسين ألف سنة.

الطريف أنّ العلم الحاضر يقول : إنّ مقدار كلّ يوم في أي من الأجرام السماوية يختلف عن بعضها الآخر ، لأنّ دوران الجرم السماوي حول نفسه مرّة واحدة تابع إلى فترة زمنية معينة ، ولهذا فإنّ اليوم في القمر بمقدار أسبوعين على ما هو في الأرض ، حتى أنّهم يقولون : يمكن أن تقل سرعة الحركة الوضعية للأرض وذلك بمرور الزمن ويصبح اليوم الواحد فيها كالشهر أو كالسنة أو مئات السنين ، ونحن لا نقول ، إنّ الزمان في يوم القيامة كذلك ، بل نقول إن اليوم الذي يبلغ مقداره خمسين ألف سنة ، ليس عجيبا في مقاييس عالم الدنيا.

* * *

__________________

(١) بسطنا الكلام في معنى الصبر الجميل في التفسير الأمل ، ج ٧ (من الطبعة العربية) في قصّة النّبي يعقوب ويوسفعليهما‌السلام .

١٦

الآيات

( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) )

التّفسير

تضيف هذا الآيات على البحوث السابقة حول القيامة إيضاحات أكثر ، حيث يقول الله تعالى :( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) (١) ،( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) .

«المهل» : على وزن (قفل) وهو المذاب من المعدن كالنحاس والذهب وغيرهما ، ويراد له أحيانا دردي الزيت المتخلف من زيت الزيتون ، وهذا هو ما

__________________

(١) لـ (يوم) احتمالات متعددة في الإعراب ، ولكن الأفضل أن يكون بدلا من (قريبا) في الآية السابقة أو متعلقا بفعل محذوف مثل (اذكر).

١٧

يناسب المعنى الأوّل ، وإن لم يكن هناك اختلاف في مقام التشبيه.

«العهن» : مطلق الصوف المصبوغ ألوانا.

نعم ، في مثل ذلك اليوم تتلاشى السموات وتذوب ، تتدكدك الجبال ثمّ تتناثر في الهواء كالصوف في مهب الرّيح ، وبما أنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فإنّها شبهت بالصوف المصبوغ بالألوان ، ثمّ يتحقق عالم جديد وحياة جديدة للبشرية بعد كلّ هذا الخراب.

وعند ما يحلّ يوم القيامة في ذلك العالم الجديد فسيكون فيه الحساب عسيرا ومرعبا بحيث ينشغل كل بنفسه ، ولا يفكر بالآخر حتى لو كان من خلّص اصدقائه وأحبائه :( وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) (١) .

الكلّ مشغول بنفسه ، ويفكر بخلاص نفسه يقول في سورة عبس (٣٧) :( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (٢) .

ولا يعني ذلك أنّ الأصدقاء والأقرباء ينكر بعضهم بعضا ، بل إنّهم يعرفونهم ويقول تعالى :( يُبَصَّرُونَهُمْ ) (٣) ، غاية الأمر هو أنّ هول الموقف ووحشته لا يمكنه من التفكر بغيره.

وإكمالا للحديث وتوضيحا لذلك الموقف الموحش ، يضيف تعالى :( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ) .

وليس ببنيه فحسب بل ، يودّ أن يفتدي العذاب بزوجته وأخيه أيضا( وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ) .

( وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ) أي عشيرته وأقربائه الذين كان يأوي إليهم في الدنيا :

__________________

(١) «الحميم» : تقدم أنه في الأصل يعني الماء المغلي والمحرق ثمّ اطلق كذلك على الأصدقاء المخلصين والحقيقيين.

(٢) وردت تفاسير اخرى ، منها : لا يسأل أحد عن أحوال الآخر لأنّ أحوالهم ظاهرة في وجوههم ، وإذا كانت ظاهرة فلا مبرر للسؤال ، ولا يمكن أحد تحمل المسؤولية ، مسئولية أعماله عن الآخرين ولكن التّفسير الأوّل هو الأصح.

(٣) مع أنّ «حميم» قد جاء في المرحلتين بصورة المفرد ، فقد جاء في «يبصرونهم» ضمير بصورة الجمع لأنّ له معنى جنسي.

١٨

( وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) .

نعم ، إنّ عذاب الله شديد في ذلك اليوم المهول الى حدّ يودّ الإنسان فيه أن يفدي أعزّته وهم أربع مجاميع : «الأولاد ، الزوجات ، الإخوان ، عشيرته الأقربون الناصرون له» فيضحي بهم لخلاص نفسه ، وليس فقط أولئك بل إنّه مستعد للافتداء بمن في الأرض جميعا لينجي نفسه!

«يود» : من (الود) على وزن (حبّ) أي يحب ويتمنى ، ويقول الراغب : يمكن استعمال أحد المعنيان (بل الاثنان معا).

«يفتدي» : من (الفداء) أي حفظ النفس من المصائب والمشاكل بوسيلة تسديد أو دفع شيء ما.

«الفصيلة» : هي العشيرة والعائلة التي انفصل وتولّد منها الإنسان.

«تؤيه» : من (الإيواء) من الشدائد واللجوء إليها ويأوي إليها في النسب.

وقال بعض المفسّرين بأنّ (ثمّ) في( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) تدل على أنّهم يعملون أنّ هذا الافتداء لا ينفع شيئا ، وأنّه محال (لأنّ ثمّ تأتي عادة في المسافة والبعد).

ولكنّه يجيب على كلّ هذه الأماني والآمال في قوله :( كَلَّا ) أي لا تقبل الفدية والافتداء.

( إِنَّها لَظى ) نار ملتهبة تحرق كلّ من بجانبها وفي مسيرها.

( نَزَّاعَةً لِلشَّوى ) تقلع اليد والقدم وجلد الوجه.

«لظى» : تعني لهيب النّار الخالص ، وهي اسم من أسماء جهنم أيضا ، يمكن الأخذ بالمعنيين الآية.

«نزاعة» : أي أنّها تقتلع وتفصل بالتوالي.

و «شوى» : الأطراف كاليد والأرجل ، وتأتي أحيانا بمعنى الشواء ، ولكن المراد هنا هو المعنى الأوّل ، لأنّه عند ما تتصل النّار المحرقة وليبها بشيء فإنّها تحرق وتفصل أوّلا الأطراف والجوانب وفروع ذلك.

١٩

ويرى بعض من المفسّرين أنّ الشوى هو جلد البدن ، والبعض يقول أنّه أم الرأس ، والبعض الآخر : يفسّره بلحم الساق ، وقد أجمع الجميع على المعنى الأوّل الذي قلناه ، والعجيب أنّه مع هذا الحال فليس في الأمر موت!

ثمّ يشير إلى من يكون فريسة لمثل هذه النّار ، فيقول :( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى ) .

وبهذا فإنّ هذه النّار المحرقة تدعو أولئك المجرمين إلى نفسها سواء بلسان حالها وجاذبيتها الخاصّة المودعة فيها تجاه المجرمين ، أو بلسان مقالها الذي أعطاها الله إيّاها : إنّها تدعو أولئك المتصفين : بهاتين الصفتين الإعراض عن الإيمان وعدم طاعة الله ورسوله ، ومن جهة أخرى يفكرون دائما بجمع الأموال من الحرام والحلال وادخارها من دون أن يلتفتوا إلى حقوق البائسين والمحرومين ، أو أنّهم يجهلون فلسفة المال الذي يعتبر من النعم الإلهية.

* * *

٢٠

الآيات

( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) )

التّفسير

أوصاف المؤمنين :

بعد ذكر أوصاف الصالحين وجوانب من أنواع العذاب في يوم القيامة ، يأتي هنا وصف المؤمنين للتعرف عن سبب انقسام النّاس إلى صنفين ، وهنا : المعذبون والناجون ، يقول أوّلا :( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ) .

( إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ) .

يراد بـ «الهلوع» كما يقول المفسّرون وأصحاب اللغة «الحريص» ، وآخرون

٢١

فسّروه بالجزع ، وبناء على التّفسير الأوّل فإنّه يشار إلى ثلاثة أمور رذيلة يتصف بها هؤلاء وهي : الحرص ، والجزع ، والبخل ، وللتّفسير الثّاني صفتان هما : الجزع ، والبخل ، لأنّ الثّانية والثّالثة هي تفسير لمعنى الهلوع.

وهنا احتمال آخر وهو أنّ المعنيين يجتمعان في هذه الكلمة ، لأنّ هاتين الصفتين متلازمتان مع بعضهما ، فالناس الحريصون غالبا ما يكونون بخلاء ، ويجزعون عند الشدائد ، بالعكس أيضا صحيح.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو كيف أنّ الله خلق الإنسان للسعادة والكمال وجعل فيه الشرّ والسوء؟

وهل يمكن أن يخلق الله شيئا ذا متصفا بصفة ، ثمّ وبعد يذم خلقه؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ القرآن الكريم يصرّح في سورة التين الآية (٤) :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) .

بالتأكيد ليس من أن ظاهر الإنسان حسن وباطنه سيء ، بل إنّ الخلقة الكلية للإنسان هي في صورة «أحسن تقويم». وهناك كذلك آيات أخرى تمدح المقام الرفيع للإنسان ، فكيف تتفق هذه الآيات مع الآية التي نحن بصددها؟

أجوبة هذه الأسئلة تتّضح بالالتفات إلى نقطة واحدة ، وهي أنّ الله خلق القوى والغرائز والصفات في الإنسان كوسائل لتكامل الإنسان وبلوغ سعادته ، لكن عند ما يستخدمها الإنسان في الطريق المنحرف ويسيء تدبيرها والاستفادة منها فستكون العاقبة هي التعاسة والشرّ والفساد ، فمثلا الحرص هو الذي لا يتيح فرصة الإنسان للتوقف عن السعي والحركة والاكتفاء بما لديه من نعمة وهو العطش المحرق الذي يسيطر على الإنسان ، فلو أنّ هذه الصفة وقعت في الطريق العلم لوجدنا الإنسان حريصا على التعلم ، أو بعبارة أخرى يتعطش العلم ويعشقه ، وبذلك سوف يكون سببا لكماله ، وأمّا إذا أخذت مسيرها في الماديات فإنّها ستكون سببا للتعاسة والبخل ، وبتعبير آخر : إنّ هذا الصفة فرع من فروع حبّ

٢٢

الذات ، وحبّ الذات غريزة توصل الإنسان إلى الكمال ، ولكن إذا انحرف في مسيرة فإنّه سوف يجرّه إلى الحسد والبخل وإلى غير ذلك.

وفي هذا الشأن هناك مواهب أخرى أيضا بهذا الشكل : إنّ الله أودع قدرة عظيمة في قلب الذرة ، من المؤكد أنّها نافعة ومفيدة ، ولكن إذا ما اسيء استخدام هذه القدرة وصنع من ذلك القنابل الفتاكة ولم يستخدم في توليد الطاقة الكهربائية والوسائل الصناعية والسلية الأخرى ، فسيكون مدعاة للشرّ والفساد ، وبالتعمق فيما ذكرنا يمكن أن الجمع في ما ورد في الإنسان وذلك من خلال الآيات القرآنية المبيّنة لحالات الإنسان(١) .

ثمّ تذكر الآيات الكريمة صفات الأشخاص الجيدين على شكل استثناء ، وتبيّن لهم تسع صفات ايجابية بارزة ، فيقول تعالى :( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) .

( الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) .

هذا هي الخصوصية الأولى لهم وأنّهم مرتبطين بالله بشكل دائم ، وهذه الرابطة تتوثق بالصلاة ، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصلاة التي تربي روح الإنسان وتذكره دائما بالله تعالى ، والسير بهذا الاتجاه سوف يمنعه من الغفلة والغرور ، والغرق في بحر الشهوات ، والوقوع في قبضة الشيطان وهوى النفس.

ومن الطبيعي أنّ المراد من الإدامة على الصلاة ليس أن يكون دائما في حال الصلاة ، بل هو المحافظة على أوقات الصلاة المعينة.

من المعروف أنّ كل عمل جيد يقوم به الإنسان إنّما يترك فيه أثرا صالحا فيما لو كان مستديما ، ولهذا نقرأ في الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ أحبّ الأعمال إلى الله ما دام وإنّ قلّ»(٢) .

__________________

(١) هناك توضيح آخر أوردناه تحت عنوان «الإنسان في القرآن الكريم» في ذيل الآية (١٣) لسورة يونس من هذا التّفسير.

(٢) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ، ج ٢ ، ص ١٦٠.

٢٣

ونلاحظ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه»(١) .

وورد في حديث عنهعليه‌السلام أنّه قال : «هذه الآية تعني النافلة ، آية( وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) (والتي تأتي فيما بعد) تعني صلاة الفريضة». وتجوز هذه المراعاة هنا ، إذ أنّ التعبير بالمحافظة هو ما يناسب الصلاة الواجبة والتي يجب المحافظة على أوقاتها المعينة ، وأمّا التعبير بالمداومة فهو ما يناسب الصلاة المستحبة وذلك بأنّ الإنسان يمكنه الإتيان بها أحيانا وتركها أحيانا أخرى.

على كل حال بعد توضيح أهميّة الصلاة وأنّها من أهم الأعمال ومن أهم أوصاف المؤمنين تنتقل الآيات إلى ذكر الصفة الثّانية فيضيف تعالى :( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .

وبهذا سوف يحافظون على ارتباطهم بالخالق من جهة ، وعلاقتهم بخلق الله من جهة اخرى.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ المراد هنا من «حقّ المعلوم» هو الزّكاة المفروضة التي فيها المقدار المعين ، وموارد صرف ذلك المقدار هو السائل والمحروم ، ولكن هذه السورة مكّية وحكم الزّكاة لم يكن قد نزل في مكّة ، ولو فرض نزوله لم يكن هناك تعيّن للمقدار ، ولذا يعتقد البعض أنّ المراد من حقّ المعلوم هو شيء غير الزّكاة والذي يجب على الإنسان منحه للمحتاجين ، والشّاهد على هذا ما نقل عن الإمام الصّادقعليه‌السلام عند ما سئل عن تفسير هذه الآية وهل هذا شيء غير الزّكاة فقالعليه‌السلام : «هو الرجل يؤتيه الله الثروة من المال ، فيخرج منه الألف والألفين والثلاثة وآلاف والأقل والأكثر ، فيصل به رحمه ، ويحمل به الكلّ عن قومه»(٢) .

والفرق بين «السائل» و «المحروم» هو أنّ السائل يفصح عن حاجته ويسأل ،

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤١٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤١٧ ، حديث ٢٥ ـ ٢٧.

٢٤

والمحروم هو الذي لا يسأل لتعففه وحيائه ، وجاء في حديث عن الإمام الصّادقعليه‌السلام : «المحروم من يجد المشقّة في كسبه وعمله وهو محارف»(١) .

هذا الحديث هو أيضا يوافق ذلك التّفسير المذكور سلفا ، لأن مثل هؤلاء يكونون متعففين.

في جاء في تفسيرنا هذا في ذيل الآية (١٩) من سورة الذرايات بحث حول الحقّ المذكور وتفسير السائل والمحروم.

على كلّ ، فإنّ هذا العمل له أثره الاجتماعي في مجاهدة الفقر والحرمان من جهة ، ومن جهة أخرى يترك آثارا خلقية جيدة على الذين يؤدّون ذلك العمل ، وينتزع ما في قلوبهم وأرواحهم من أدران الحرص والبخل وحبّ الدنيا.

الآية الأخرى أشارت الى الخصوصية الثّالثة لهم فيضيف :( وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ )

والخصوصية الرّابعة هي :( وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) .

( إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ) .

إنّهم يؤمنون من جهة بيوم الدين ، ومع الالتفات الى كلمة «يصدقون» وهو فعل مضارع يدل على الاستمرارية ، فهذا يعني إنّهم باستمرار يدركون أنّ في الأمر حسابا وجزاء ، بعض المفسّرين فسّر ذلك المعنى «بالتصديق العملي» أي الإتيان بالواجبات وترك المحرمات ، ولكن الآية ظاهرها الإطلاق ، أي أنّها تشمل التصديق العلمي والعملي.

ولكن من الممكن أن هناك من يؤمن بيوم الدين ويرى نفسه ممن لا يعاقب ، لذا تقول :( وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) يعني أنّهم يدركون أهمية الأمر ، فلا يستكثرون حسناتهم ولا يستصغرون سيئاتهم ، ولهذا ورد في الحديث

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٥

عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو ينصح ولده : «بني خف الله أنّك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يقبلها منك ، وأرج الله رجاء أنّك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك»(١) .

وحتى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : «لن يدخل الجنّة أحدا عمله».

قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟

قال : «ولا أنا ، إلّا أن يتغمدني الله برحمته».

* * *

__________________

(١) جامع الأخبار ص ١١٣

٢٦

الآيات

( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) )

التّفسير

القسم الآخر من صفات أهل الجنّة :

في الآيات السابقة ذكرت أربعة أوصاف من الأوصاف الخاصّة بالمؤمنين الصادقين من أهل الجنان ، وفي هذه الآيات ذكر لخمسة من الأوصاف الأخرى فيكون المجموع تسعة أوصاف.

في الوصف الأوّل يقول اللهعزوجل :( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ (١) حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) .

__________________

(١) «فروج» جمع «فرج» وهو كناية عن الآلة التناسلية.

٢٧

لا شك في أنّ الغريزة الجنسية من غرائز الإنسان الشديدة والطاغية ، والكثير من الجرائم الكبيرة سببها هي هذه الغريزة ، ولذا كانت السيطرة على هذه الغريزة وحفظ حدودها من العلامات المهمّة للتقوى ، وبهذا ذكرت أهمية السيطرة على هذه الغريزة بعد تبيان أهمية الصلاة وإعانة المحتاجين والإيمان بيوم القيامة والإشفاق من عذاب الله.

وقد جاء في الذيل الآية استثناء يدلّ على أنّ منطق الإسلام يرفض أن يقف الإنسان موقفا سلبيا تماما من هذه الغريزة ويكون كالرهبان والقسيسين يسير بخلاف قانون الخلقة ، وهذا العمل غالبا ما يكون محالا وعلى فرض إمكانه فهو أمر غير منطقي ، ولهذا نجد الرهبان من لم يستطيعوا أيضا حذف هذه الغريزة من حياتهم ، وإذا لم يكونوا قد تزوجوا بالطريقة الرسمية فإنّ الكثير منهم ينصرف إلى ارتكاب الفحشاء عند الاختلاء.

الفضائح الناتجة من هذا المسلك ليست قليلة ، فقد كشف المؤرخون المسيحيون مثل (ول دورانت) وغيره النقاب عن ذلك.

المراد ب ـ «الأزواج» الزوجات الدائمة والمؤقتة فإنّه يشمل الإثنين ، وقد ظنّ البعض أنّ هذه الآية تنهى عن الزواج المؤقت وللم يعلموا أنّ ذلك هو نوع من الزواج.

وفي الآية الأخرى يؤكّد بشكل أكثر على نفس الموضوع فيضيف :( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ )

وبهذه الطريقة فإنّ الإسلام يخطط لمجتمع يحافظ على غرائزه الفطرية ، ولا يؤدّي به إلى الغرق بالفحشاء والفساد الجنسي والمضارّ الناتجة منه ، وبالطبع أنّ للجواري في نظر الإسلام كثيرا من شرائط الزوجة والضوابط القانونية للزوج وإن كان الموضوع منتف أساسا في زماننا الحاضر.

عندئذ يشير إلى الصفات السادسة والسابعة ، فيقول :( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ

٢٨

وَعَهْدِهِمْ راعُونَ )

من الطبيعي أنّ لأمانة معنى واسع وليست هي الأمانات المادية المتنوعة للناس فحسب ، بل أنّها تشمل الأمانات الإلهية وأمانات الأنبياء وكلّ الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

إنّ كلّ نعمة من النعم الإلهية هي من أماناته تعالى ، منها المقامات الاجتماعية وبالخصوص المسؤولون في الدولة فإنّها تعتبر من أهم الأمانات ، ولهذا ورد في الحديث عن الإمام الباقر والإمام الصّادقعليهما‌السلام في تفسير الآية( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) ، بأنّ المراد من الأمانات هنا «الولاية والحاكمية»(١) ، وقرأنا كذلك في سورة الأحزاب (٧٢) ، إنّ التكليف والمسؤولية تعني الأمانة الإلهية الكبيرة.( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) والأهم من ذلك كله هو الدين والشريعة الإلهية وكتاب الله ، وهو من الأمانات الكبيرة التي يجب الحفاظ عليها بالسعي.

«العهد» : وله مفهوم واسع أيضا ، يشمل العهود الإنسانية وكذلك العهود الإلهية ، لأنّ العهد هو كل ما التزم به الإنسان لغيره ، وممّا لا شك فيه أنّ الإيمان بالله وبرسوله يعني الالتزام بما كلّف به.

الإسلام أعطى أهمية بالغة لحفظ الأمانات والعهود والالتزام بها ، وقد عرف ذلك بأنّه أهمّ علامات الإيمان.

ولمزيد من الاطلاع راجع تفسيرنا هذا ، ذيل الآية (٥٨) من سورة النساء.

ويضيف في الوصف الثامن :( وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ ) لأنّ القيام بالشهادة العادلة وترك كتمانها من أهم بنود إقامة العدل في المجتمع البشري.

وقد يرفض بعض الناس أداء الشهادة بحجّة إننا لماذا نشتري عداوة هذا

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٣٨٠.

٢٩

وذاك ، ونسبب المتاعب لأنفسنا بأداء الشهادة ، هؤلاء أشخاص لا يبالون بالحقوق الإنسانية ويفقدون الروح الاجتماعية ، ولا يؤمنون بتطبيق العدالة ، ولهذا نرى القرآن الكريم في كثير من آياته يدعو المسلمين إلى أداء الشهادة ويعدّ كتمانها ذنبا(١) .

وفي الوصف الأخير ، وهو الوصف التاسع من هذه المجموعة ، يعود مرّة أخرى إلى موضوع الصلاة ، كما كان البدء بالصلاة ، يقول تعالى :( وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) .

وكما أشرنا سابقا أنّ الصلاة هنا بملاحظة القرائن تشير إلى الفريضة ، وفي الآية السابقة تشير إلى النافلة.

ومن الطبيعي أن الوصف الأوّل كان إشارة إلى المداومة ، ولكن الخطاب هنا حول حفظ آداب وشروط الصلاة وخصائصها ، والآداب التي تكمن في ظاهر الصلاة والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر من جهة ، وتقوي روح الصلاة بحضور القلب من جهة أخرى وتمحو الأخلاق الرذيلة التي تكون كحجر عشرة أمام قبولها ، ولهذا لا يعتبر ذكرها مرّة أخرى من قبيل التكرار.

هذه البداية والنهاية تشير إلى أنّ الصلاة من بين الصفات الحميدة المذكورة هي الأهم ، ولم لا تكون كذلك والصلاة هي المدرسة العالية للتربية ، وأهم وسيلة لتهذيب النفوس المجتمع.

وفي النهاية تبيّن الآية الأخيرة عاقبة المتّصفين بهذه الأوصاف ، كما بيّنت في الآيات السابقة المسير النهائي للمجرمين ، فيقول تعالى هنا في جملة مختصرة وغنية بالمعاني :( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) .(٢)

__________________

(١) البقرة ، ٢٨٣ و١٤٠ ، المائدة ، ١٠٦ ، الطلاق ، ٢.

(٢) «في جنات» خبر ب ـ «أولئك» و «مكرمون» خبر ثان أو أنّه خبر و «في جنات» متعلق به «تمعن».

٣٠

لماذا لا يكونون مكرمين؟ وهم ضيوف الله ، وقد وفرّ الله القادر الرحمن لهم جميع وسائل الضيافة ، وفي الحقيقة أنّ هذين التعبيرين «جنات» و «مكرمون» إشارة إلى النعم المادية والمعنوية التي يغرق فيها هؤلاء المكرمين.

* * *

٣١

الآيات

( فَما لـ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) )

التّفسير

الطمع الواهي في الجنّة :

جاء البحث في الآيات السابقة من هذه السورة حول علامات المؤمنين والكفار ، ومصير كلّ من المجموعتين ، في الآيات يعود ليوضح أحوال الكفار واستهزاءهم بالمقدسات.

قال البعض : إنّ هذه الآيات نزلت في جماعة من المشركين فعند ما كان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلو على المسلمين آيات المعاد ، كان هؤلاء الكفار يقدمون من كلّ صوب وحدب ويقولون : إذا كان هناك معاد فإنّ حالنا في الآخرة أحسن من حال من آمن بك ، كما أنّ حالنا في هذه الدنيا أحسن منهم.

٣٢

يقول القرآن الكريم في جوابهم :( فَما لـ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) أي يقبلون نحوك من كل جانب مسرعين.

( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ ) أي جماعات متفرقين.

( أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ) بأي إيمان وبأي عمل يستحقون ذلك؟!

«مهطعين» : جمع مهطع ، وتعني الذي يمدّ عنقه مقبلا على شيء بسرعة للبحث عنه ، وأحيانا تأتي ـ فقط ـ بمعنى مدّ العنق لاستطلاع الأمر.

«عزين» : جمع عزة ، على وزن «هبة» وتعني جماعات في متفرقين ، وأصلها «عزو» ـ على وزن جذب ـ بمعنى النسبة ، وبما أنّ كلّ جماعة يرتبط أفرادها بعضهم ببعض بنسبة معينة : أو يهدفون إلى غرض معين أطلقت كلمة «عزة» على الجماعة.

على كل حال فإنّ المشركين المتكبرين كان لهم الكثير من الادعاءات الباطلة الواهية ، وكانت الرّفاهية في حياتهم الدنيوية وغالبا ما كان يتمّ ذلك بطريق غير مشروع كالإغارة والسلب وغير ذلك ما كان يجعلهم يظنون بأنّهم قد حصلوا على هذه المقامات العالية ولمكانتهم عند الله ، فكانوا ينسبون إلى أنفسهم المقامات الرفيعة في يوم القيامة.

صحيح أنّهم لم يكونوا يعتقدون بالمعاد بتلك الصورة التي يبيّنها القرآن ، ولكنّهم كانوا يحتملون وقوعه أحيانا ، ويقولون : إذا وقع المعاد فإنّ حالنا في العالم الآخر سيكون كذا كذا ، ولعلهم كانوا يريدون بذلك الاستهزاء.

وهنا يجيبهم القرآن المجيد فيقول :( كَلَّا ) ليس الأمر كذلك وليس لهم حقّ الدخول إلى الجنّة( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) .

في الحقيقة أنّ الله يريد بهذه الجملة أن يحطم غرورهم ، لأنّه يقول : إنّكم تعلمون جيدا مم خلقناكم؟ من نطفة قذرة ، من ماء آسن مهين ، فلما ذا كلّ هذا

٣٣

الغرور؟ ويجيب ثانيا على المستهزئين بالمعاد فيقول : إذا كنتم في شك من المعاد فتمعنوا في حال هذه النطفة ، وانظروا كيف خلقنا موجودا بديعا من قطرة ماء قذرة يتطور فيها الجنين كلّ يوم يتّخذ شكلا جديدا ، ألم يقدر خالق الإنسان من هذه النطفة أن يعيد إليه الحياة بعد دفنه.

ثالثا : كيف يطمعون في الجنّة وفي صحائفهم كل هذه الذنوب؟ لأنّ الموجود الذي خلق من نطفة لا يمكن أن يكون له قيمة مادية ، وإذا كانت له قيمة وكرامة فإنّ ذلك لإيمانه وعمله الصالح ، وأولئك قد فقدوا هذه الصفات ، فكيف ينتظرون الدخول إلى الجنّة؟!(١)

ثمّ يقول تعالى مؤكّدا ذلك :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) .

لعل هذه الجملة إشارة إلى أنّنا لسنا قادرين على أن نعيد لهم الحياة بعد الموت فحسب ، بل إنّنا نستطيع أن نبدله إلى أكمل الموجودات وأفضلها ، ولا يمنعنا من ذلك شيء.

وعلى هذا فإنّ السياق هو إدامة لبحث المعاد ، أو هو إشارة إلى أنّنا نهلككم جزاء لأعمالكم ولا يمنعنا من ذلك شيء ، ونستبدل بكم مؤمنين وأعين ، ليكونوا أنصارا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يضرّنا ذلك شيئا ، ولهذا إن كنّا نلح عليكم أن تؤمنوا فليس من باب العجز والاحتياج ، بل من أجل تربية البشرية وهدايتها.

يمكن أن يكون المراد ب ـ( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) بأن الله الذي يقدر على أن يجعل للشمس العظيمة مشرقا ومغربا جديدين في كل يوم ، ويكون بنظام دقيق من دون أية زيادة ونقصان مدى ملايين السنين قادر على أن يعيد الإنسان

__________________

(١) هناك احتمالات أخرى في تفسير هذه الآية : أنّ المراد من جملة «ممّا يعلمون» هو أنّنا خلقناهم ووهبنا لهم العقل والشعور لا كالحيوانات والبهائم ، ولهذا فإنّهم مسئولون عن أعمالهم ، وهناك مراد آخر وهو أنّنا خلقناهم لأهداف هم يعلمونها وهي التكليف والطاعة ، ولكن هذه الاحتمالات بعيدة ، ولذا فإنّ أكثر المفسّرين ذهبوا إلى المعنى المذكور سابقا.

٣٤

مرّة أخرى إلى الحياة الجديدة ويستبدلهم بقوم أفضل منهم.

* * *

ملاحظة

ربّ المشارق والمغارب :

قد يأتي تعبير المشرق والمغرب في أحيانا بصيغة المفرد كالآية (١١٥) من سورة البقرة :( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) وأحيانا بصيغة المثنى كما في الآية (١٧) من سورة الرحمن :( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) وأحيانا أخرى بصيغة الجمع( الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) كالآية التي هو مورد بحثنا.

البعض من ذوي النظرات الضيقة يظنون تضاد هذه التعابير ، في حين أنّها مترابطة ، وكل منها يشير إلى بيان خاص ، فالشمس في كلّ يوم تطلع من نقطة جديدة ، وتغرب من نقطة جديدة أخرى ، وعلى هذا الأساس لدينا بعدد أيّام السنة مشارق ومغارب ، ومن جهة أخرى فإنّ من بين كل هذه المشارق والمغارب هناك مشرقان ومغربان ممتازان ، إذ أن أحدهما يظهر في بدء الصيف أي الحد الأعلى لبلوغ ذروة ارتفاع الشمس في المدار الشمالي ، والآخر في بدء الشتاء أي الحد الأدنى لنزول الشمس في المدار الجنوبي ، (ويعبرون عن أحدهما بمدار «رأس السرطان» ، وعن الآخر بمدار «رأس الجدي» ،) وقد اعتمد على ذلك لأنّهما واضحان تماما ، بالإضافة إلى هذين المشرقين والمغربين الآخرين الّذين سمّيا بالمشرق والمغرب والاعتداليان (وهو أوّل الربيع وأوّل الخريف ، عند تساوي ساعات الليل والنهار في جميع الدنيا) ولذا ذهب البعض إلى هذا المعنى في تفسير الآية : «ربّ المشرقين والمغربين» وهو معنى مقبول أيضا.

وأمّا ما جاء بصيغة المفرد فإنّ المراد به ماهيته ، لأنّ الملاحظ فيه أصل

٣٥

المشرق والمغرب بدون الالتفات إلى الأفراد ، وبهذا الترتيب فإنّ لكلّ من العبارات المختلفة أعلاه مسألة تلفت نظر الإنسان إلى التغييرات المختلفة لطلوع وغروب الشمس ، والتغيير المنتظم لمدارات الشمس.

* * *

٣٦

الآيات

( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤) )

التّفسير

كأنّهم يهرعون إلى الأصنام!!

هذه الآيات وهي آخر آيات سورة المعارج جاءت لتنذر وتهدد الكفار المعاندين والمستهزئين ، يقول سبحانه :( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) (١) .

لا يلزم الاستدلال والموعظة أكثر من هذا ، فإنّهم لا يتعضون وليس لهم الاستعداد للاستيقاظ ، دعهم يخوضون في أباطيلهم وأراجيفهم كما يلعب الأطفال حتى يحين يومهم الموعود ، يوم البعث ويرون كل شيء بأعينهم!

__________________

(١) «يخوضوا» من أصل خوض ـ على وزن حوض ـ وتعني في الأصل الحركة في الماء ، ثمّ جاءت بصيغة الكناية في موارد يغطس فيه الإنسان في الباطل.

٣٧

هذه الآية وبهذا التعبير وردت في سورة الزخرف (٨٣).

ثمّ تبيّن الآية التالية اليوم الموعود ، وتذكر بعض علامات ذلك اليوم المرعب فيقول تعالى :( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) .

يا له من تعبير عجيب ، إنّه وصف يوم القيامة في وقت يتجهون فيه سراعا إلى محكمة العدل الإلهي اتجاها يشبه إسراعهم في يوم احتفال أو عزاء باتجاه أصنام ، ولكن أين ذلك من هذا؟ إنّه في الحقيقة استهزاء بعقائدهم المجونة التي كانوا يعتقدون بها في الدنيا.

«الأجداث» : جمع جدث ـ على وزن (عبث) ـ وتعني القبر.

«سراع» : جمع سريع ، مثل (ظراف وظريف) وتعني الحركة السريعة للشيء أو الإنسان.

«نصب» : جمع نصيب ، ويقول البعض : إنّه جمع نصب ـ على وزن (سقف) ـ المراد منه هو ما ينصب كعلامة ، وتطلق على الأصنام الحجرية إذ كانوا ينصبونها في مكان ما ليعبدوها ويقدّم لها القرابين ثمّ يلطخون دماءها عليها ، واختلافه مع الصنم هو أنّ الصنم كان على هيئة صورة وشكل خاص ، وأمّا النصب فهو قطعة من الحجر لا شكل له ، وكانوا يعبدونه لسبب ما ، ونقرأ في الآية (٣) من سورة المائدة :( وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) أي أنّ من جملة اللحوم المحرّمة هي ما يذبحون من الحيوانات على النصب.

«يوفضون» : من (إفاضة) وتعني الحركة السريعة المشابهة لحركة الماء المنحدر من العين ، وقال البعض : إنّ المراد من النصب في الآية التي نحن بصددها هو الأعلام التي ينصبونها في وسط الجيش أو القوافل ، وعلى كل منهم أن يوصل نفسه بسرعة إليها ، ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب.

ثمّ تذكر الآيات حالات أخرى لهؤلاء فتضيف :( خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ

٣٨

ذِلَّةٌ ) (١) من شدّة الهول والوحشة وقد غرقوا في ذلّة مهينة وفي آخر الآية يتابع قوله :( ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) .

نعم هذا هو اليوم الموعود الذي كان يسخرون منه ويقولون أحيانا : لنفترض أنّ هناك يوما كهذا ، فإنّ حالنا في ذلك اليوم هو أفضل من حال المؤمنين ، ولكنّهم لا يجرؤون أن يرفعوا رؤوسهم في ذلك اليوم لشدّة الخوف والوحشة ، وقد تعفرت وجوههم ورؤوسهم بغبار الذلّة ، وغرقوا في كل الهموم الهائلة ، ومن المؤكّد أنّهم يندمون في ذلك اليوم ، ولكن ما الفائدة؟

اللهم : ألبسنا ثوب رحمتك في ذلك اليوم المهول.

ربّنا : إنّ مصائد الشيطان وحبائله قوية ، وهوى النفس غالب ، والآمال الطويلة والبعيدة خداعة ، فترحم علينا باليقظة وعدم الانحراف عن المسار الصحيح.

اللهم : اجعلنا ممن آمن ووفى بعهده وبذل عمره في طاعتك.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المعارج

* * *

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المعارج

__________________

(١) «ترهقهم» من أصل (رهق) على وزن (سقف) ويراد به غشيان الشيء بقهر.

٣٩
٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511