الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135824 / تحميل: 5380
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

١
٢

سُورَة

المَعَارِج

مَكيَّة

وَعَدَدُ آياتُهَا أربَعَ وَأربَعُونَ آية

٣
٤

«سورة المعارج»

مكية وعدد اياتها اربع وأربعون اية «سورة المعارج»

محتوى السورة :

المعروف بين المفسّرين هو أنّ سورة المعارج من السور المكّية ، وعلى أساس ما ينقله (فهرست ابن النديم) و (كتاب نظم الدرر) و (تناسق الآيات والسور) المطابق لما نقله (تاريخ القرآن) لأبي عبد الله الزنجاني أنّ هذه السورة هي السورة السابعة والسبعون والتي نزلت في مكّة.

ولكن هذا يتنافى مع كون بعض آياتها مدنية ، وهذا ليس منحصرا في سورة المعارج ، فإنّ كثيرا من سور القرآن الكريم هي مكّية ولكنّها تحوي على آية أو آيات مدنية في نفس الوقت ، وبالعكس بعض السور المدنية تحوي على آيات مكّية.

ولقد نقل العلّامة الأمينيرحمه‌الله نماذج كثيرة من هذا الموضوع في كتابه (الغدير) ، وهناك روايات كثيرة سوف يأتي ذكرها بعد إن شاء الله تدل على أنّ الآيات الأولى من هذه السورة هي آيات مدنية.

على أية حال فإنّ خصوصيات السور المكّية كالبحث حول اصول الدين وخاصّة المعاد وإنذار المشركين والمخالفين ، وهذه الخصوصيات واضحة جدّا في هذه السورة ، وعلى هذا فإنّ لهذه السورة أربعة أقسام :

القسم الأوّل : يتحدث عن العذاب السريع الذي حلّ بأحد الأشخاص ممن أنكر أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : لو كان هذا القول حقّا فلينزل عليّ العذاب. فنزل (الآية ١ ـ ٣).

القسم الثّاني : ذكر الكثير من خصوصيات يوم القيامة ومقدماتها وحالات

٥

الكفار في ذلك اليوم.

القسم الثّالث : توضح هذه السورة بعض الصفات الإنسانية الحسنة والسيئة والتي تعيّن هذا الشخص من أهل الجنان أم من أهل النّار.

القسم الرّابع : يشمل إنذارات تخصّ المشركين والمنكرين وتبيان مسألة المعاد وينهى بذلك السورة.

فضيلة هذه السورة :

نقرأ في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ (سأل سائل) أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون»

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «من أدمن قراءة (سأل سائل) لم يسأله الله يوم القيامة عن ذنب عمله وأسكنه جنّته مع محمّد». ونقل مثله عن الإمام الصّادقعليه‌السلام .

من البديهي أنّ الإنسان يحصل على مثل هذا الثّواب العظيم إذا كانت قراءته بإيمان وعقيدة ، وثمّ يقترن ذلك بالعمل ، لا أن يقرأ الآيات والسور من دون أن تؤثر في روحه وفكره وعمله شيئا.

* * *

٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) )

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسّرين وأصحاب الحديث أحاديث عن سبب نزول هذه الآية وحاصلها : أنّه عند ما نصّب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاعليه‌السلام في يوم (غدير خم) قال في حقّه : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ولم ينقض مدّة حتى انتشر ذلك في البلاد والمدن ، فقدم النعمان بن حارث الفهري على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال] : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصّوم والصّلاة والزكاة فقبلناها ، ثمّ لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله.

فقال : «والله ، والذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله» فولى النعمان بن حارث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) وما ذكرناه هو مضمون ما روي عن أبي القاسم الحسكاني في مجمع البيان بإسناده إلى أبي عبد الله الصّادقعليه‌السلام (١) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٥٢.

٧

هذا المعني مروي عن كثير من المفسّرين من العامّة ، فقد نقل رواة الحديث هذا المعنى بشيء من الاختلاف البسيط.

وينقل «العلّامة الأميني» ذلك في كتابه (الغدير) عن ثلاثين عالما مشهورا من أهل السنّة (مع ذكر السند والنّص) ومن ذلك :

تفسير غريب القرآن (للحافظ أبي عبيد الهروي).

تفسير شفاء الصدور (لأبي بكر النقاشي الموصلي).

تفسير الكشف والبيان (لأبي إسحاق الثعالبي).

تفسير أبي بكر يحيى (القرطبي).

تذكرة أبو إسحاق (الثعلبي).

كتاب فرائد السمطين (للحمويني).

كتاب درر السمطين (للشّيخ محمّد الزرندي).

كتاب السراج المنير (لشمس الدين الشّافعي).

كتاب (سيرة الحلبي).

كتاب نور الأبصار (للسّيد مؤمن الشبلنجي).

وكتاب شرح الجامع الصّغير للسيوطي من (شمس الدين الشّافعي وغير ذلك.(١) وفي كثير من هذه الكتب علم ورد أنّ هذه الآيات قد نزلت بهذا الشأن ، وبالطبع هناك اختلاف بشأن الحارث بن النعمان أو جابر بن نذر أو النعمان بن حارث الفهري ، ومن الواضح أنّ هذا الأمر لا يؤثر في أصل المطلب.

بالطبع أنّ بعض المفسّرين أو المحدّثين بفضائل الإمام عليعليه‌السلام من أهل السنّة يتقبلون ذلك ، ولكن على مضض وعدم ارتياح ، وتمسكوا بإشكالات

__________________

(١) الغدير ، ج ١ ، ص ٢٣٩ ـ ٢٤٦.

٨

مختلفة على سبب نزول الآية ، وسنوضح في نهاية المطاف بإذن الله بحثا تفسيريا عن هذا الموضوع.

* * *

التّفسير

العذاب العاجل :

من هنا تبدأ سورة المعارج حيث تقول :( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) ، هذا السائل كما قلنا في سبب النزول هو النعمان بن الحارث أو النضر بن الحارث وكان هذا بمجرّد تعيين الإمام عليعليه‌السلام خليفة ووليّا في (غدير خم) وانتشار هذا الخبر في البلاد ، حيث رجع مغتاظا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : هل هذا منك أم من عند الله؟ فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصرّحا : «من عند الله» ، فازداد غيظة وقال : اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فرماه الله بحجارة من السماء فقتله.(١)

هناك تفسير آخر أعم من هذا التّفسير وأعم منه ، وهو أنّ سائل سأله لمن هذا العذاب الذي تتحدث عنه؟ فيأتي الجواب في الآية الاخرى :( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

وحسب تفسير ثالث يكون هذا السائل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي دعا على الكافرين بالعذاب فنزل.

ولكن مع أنّ التّفسير الأوّل أكثر ملاءمة للآية فإنّه منطبق تماما على روايات سبب النزول.

ثمّ يضيف بأنّ هذا العذاب خاص بالكفار ولا يستطيع أحد دفعه عنهم :

__________________

(١) الباء في (بعذاب واقع) حسب هذا التفسير باء زائدة للتأكيد وفي نظر البعض تعني (عن) ، وهذا ممّا يطابق التّفسير الثّاني (يجب الالتفات إلى أنّ السؤال إذا كان بصيغة الطلب يتعدى بمفعولين وإذا كان بمعنى الاستفسار يكون مفعوله الثّاني مع (عن).

٩

( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .(١)

وتصف الآية الاخرى من ينزل العذاب منه ، وهو الله ذي المعارج فتقول الآية :( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) ، أي صاحب السماء التي يعرج إليها الملائكة.

«المعرج» جمع «معرج» بمعنى المصعد أو المكان الذي منه يصعدون ، إذ أنّ الله جعل للملائكة مقامات مختلفة يتوجهون بها إلى قربه بالتدريج ، وقد وصف الله تعالى بذي المعارج.

نعم ، الملائكة المأمورون بتعذيب الكفّار والمجرمين ، والذين هبطوا على إبراهيمعليه‌السلام ، وأخبروه بأنّهم قد أمروا بإبادة قوم لوط ، وفعلوا ذلك إذ قلبوا بلاد أولئك القوم الفاسقين رأسا على عقب.

وهم الذين أمروا كذلك بتعذيب المجرمين الباقين.

وقيل المراد ب ـ (المعارج) الفضائل والمواهب الإلهية ، وقيل المراد بها (الملائكة) ، ولكن المعنى الأوّل هو أنسب ، وهو ملائم للمفهوم اللّغوي.

* * *

ملاحظة :

إشكالات المعاندين الواهية!

كثيرا ما نرى في مورد الآيات أو الرّوايات التي تذكر فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام إصرار البعض إلى حدّ ما في أن يغضّ النظر عنها ، أو يقوم بتوجيهها توجيها محرّفا ويدقق في أمرها بوسوسة بالغة ، في حين أنّ هذه الفضائل لو كانت واردة في الآخرين لقبلوها بسهولة وبساطة.

النموذج الحي الكلام هو الإشكالات السباعية التي ذكرها ابن تيمية في

__________________

(١) (واقع) صفة للعذاب و (للكافرين) صفة ثانية و (ليس له دافع) صفة ثالثة وقد احتمل أن (الكافرين) له علاقة ب ـ (العذاب) وإذا كانت (اللام) تعني (على) فإنّها ستتعلق ب ـ (واقع).

١٠

كتابه (منهاج السنّة) في أحاديث مروية في أسباب نزول الآيات المذكورة وهي :

١ ـ حديث قصّة يوم الغدير بعد رجوع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّة الوداع أي في السنة العاشرة للهجرة ، في حين أنّ السورة المعارج من السور المكّية وقد نزلت قبل الهجرة.

الجواب : كما بيّنا من قبل فإنّ كثيرا من السور تسمّى مكّية في حين أنّ بعض آياتها مدنية كما يقول المفسّرون ، وبالعكس فإنّ هناك سورا مدنية نزلت بعض آياتها في مكّة.

٢ ـ جاء في الحديث أنّ (الحارث بن النعمان) حضر عند النّبي في (الأبطح) ، والمعروف أنّ (الأبطح) ، واد في مكّة ، وهذا لا يتفق مع نزول الآية بعد حادثة الغدير.

الجواب : إنّ كلمة الأبطح وردت في بعض الرّوايات ، لا كلّ الرّوايات ، كما أنّ الأبطح والبطحاء تعني كل أرض صحراء رملية وتجري فيها السيول ، وكذلك هناك مناطق في المدينة تسمّى بالأبطح والبطحاء ، وقد أشار العرب إلى ذلك في كثير من أقوالهم وأشعارهم.

٣ ـ المشهور أنّ آية :( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ )

الجواب : ليس منّا من يقول : إنّ حادثة الغدير هي سبب نزول تلك الآية ، بل الحديث هو في آية :( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) وأمّا الآية (٣٣) من سورة الأنفال فهي أنّ الحارث بن النعمان قد استخدمها في كلامه ، وهذا لا يرتبط بأسباب النزول ، ولكن العصبية المفرطة تجعل الإنسان غافلا عن هذا الموضوع الواضح.

٤ ـ يقول القرآن المجيد :( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) الأنفال الآية (٣٣) ، تقول الآية : لم ينزل العذاب أبدا ما دام الرسول فيهم.

١١

الجواب : المعروف أنّ العذاب العام والجماعي مرفوع عن الأمّة لأجل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا العذاب الخاص والفردي فقد نزل مرارا على بعض الأفراد ، والتاريخ الإسلامي شاهد على أنّ أناسا معدودين مثل «أبي زمعة» و «مالك بن طلالة» و «الحكم بن أبي العاص» وغيرهم قد ابتلوا بالعذاب للعن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم أو بدون ذلك.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ الآية السالفة لها تفاسير أخرى ، وطبقا لذلك فإنّ لا يمكن الاستدلال بها في المكان (راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية ٣٣ الأنفال).

٥ ـ إذا كان سبب النزول هذا صحيحا فلا بدّ أن يكون معروفا كقصّة أصحاب الفيل؟

الجواب : إنّ سبب النزول لهذه الآية معروف ومشهور ، كما أشرنا من قبل ، إلى حدّ ألّف فيه ثلاثون كتابا من كتب التّفسير والحديث ، والعجيب بعدئذ أن نتوقع من حادثة خاصّة أن تعطي انعكاسا وأثرا كقصّة أصحاب الفيل ، في حين أنّ تلك القصّة كانت لها صفة عامّة ، وقد استولت على أنحاء مكّة ، وأبيدت فيها جيوش كبيرة ، وأمّا قصّة الحارث بن النعمان ، فإنّها كانت تخصّ فردا واحدا فقط!.

٦ ـ ما يستفاد من هذا الحديث هو أنّ الحارث بن النعمان كان معتقدا بأسس واصول الإسلام ، فكيف يمكن لمسلم يعاصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبتلى بمثل هذا العذاب؟

الجواب : هذا الإحتجاج ناشئ أيضا من التعصب الأعمى ، لأنّ الأحاديث المذكورة سلفا تشير إلى أنّه لم ينكر نبوّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، بل أنّه أنكر حتى الشهادة بالوحدانية ، واعترض على الأمر الإلهي الذي صدر للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ عليعليه‌السلام وهذا يدل على أشدّ مراحل الكفر والارتداد.

٧ ـ لا نجد اسما للحارث بن النعمان في الكتب المشهورة كالاستيعاب الذي جاء فيه ذكر الصحابة.

١٢

الجواب : ما جاء في هذا الكتاب ومثله من ذكر الصحابة يرتبط فقط بقسم من الصحابة ، فمثلا في كتاب (أسد الغابة) الذي يعدّ من أهم الكتب وفيه يذكر أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عدّ منهم فقط سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسين صحابيا ، في حين أننا نعلم أنّ الجمع الذي كان حاضرا عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع مائة ألف أو يزيدون ، وممّا لا شك فيه أنّ كثيرا من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأت ذكرهم في هذه الكتب.

* * *

١٣

الآيات

( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) )

التّفسير

يوم مقداره خمسين ألف سنة :

بعد إيراد قصّة العذاب الدنيوي الذي أصاب من طلب العذاب تبحث الآيات أمر المعاد والعذاب الأخروي للمجرمين في ذلك اليوم.

في البداية يقول تعالى :( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ـ أي إلى الله ـ( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المشهور أنّ المراد من عروج الملائكة هو العروج الروحي ، وليس العروج الجسمي ، يعني أنّهم يسرعون في التقرب إلى المقام الإلهي وهم مهيّئون لاستلام الأوامر في ذلك اليوم الذي يراد به يوم القيامة ، وكما قلنا سابقا في تفسير الآية (١٧) من سورة الحاقة من أنّ المراد من الآية( وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها ) هو اليوم الذي يجتمعون فيه في السماء ينتظرون لتنفيذ ما

١٤

يأمرون(١) .

والمراد بالرّوح هو (الرّوح الأمين) وهو أكبر الملائكة ، وهذا ما أشير إليه أيضا في سورة القدر حيث يقول تعالى :( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) ومن الطبيعي أنّ الرّوح لها معان مختلفة بحسب تناسب مع القرائن الموجودة ، فمن الممكن أن يعطي في كلّ موضوع معنى خاص ، والرّوح يراد به روح الإنسان ، وكذا يراد منه القرآن ، وبمعنى روح القدس ، وبمعنى ملك الوحي ، كلّ ذلك من معاني الرّوح ، وهذا ما يشار إليه في بقية آيات القرآن.

وأمّا المراد بكون (خمسين ألف سنة) هو ذلك اليوم الذي بحيث لو وقع في الدنيا كان مقداره خمسين ألف سنة من سني الدنيا ، وهذا لا ينافي ما جاء في الآية (٥) من سورة السجدة من إنّ ذلك يوم مقداره ألف سنة ، ولأجل ذلك ذكر في الرّوايات أنّ ليوم القيامة خمسين موقفا ، وكلّ موقف منه يطول بمقدار ألف سنة.(٢)

واحتمل البعض أيضا أنّ هذا العدد (خمسين ألف سنة) للكثرة لا العدد ، أي أنّ ذلك اليوم طويل جدّا.

على أيّ حال فقد كان هذا ما يخصّ المجرمين والظلمة والكفار ، ولهذا روي في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه سأل سائل من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية عن طول ذلك اليوم؟ فقال : «والذي نفس محمّد بيده إنّه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا»(٣) .

__________________

(١) وردت تفاسير اخرى لعروج الملائكة لا يمكن الاعتماد على أيّ منها ومن ذلك : المراد من الزمان هي الفترة التي بدأت الملائكة بالصعود والنزول منذ بداية الدنيا إلى نهايتها تكون مقدار خمسين ألف سنة ، وهذا هو عمر الحياة ولكن الآيات التي. تليها تدلّ على أنّ الحديث يخصّ يوم القيامة ولا يخصّ الدّنيا (فتدبّر). (٢) نقل هذا الحديث في أمالي الشّيخ بإسناده إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو مطابق لما نقله الحويزي في كتابه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤١٣.

(٣) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٥٣ ، والقرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٧٦١.

١٥

ثمّ يخاطب الله تعالى رسوله الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية الأخرى ويقول :( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ) .

المراد بـ (الصبر الجميل) هو ما ليس فيه شائبة الجزع والتأوه والشكوى ، وفي غير هذا الحال لا يكون جميلا.(١)

ثمّ يضيف :( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً ) إنّهم لا يصدقون بوجود مثل ذلك اليوم الذي يحاسب فيه جميع الخلائق حتى أصغر حديث وعمل لهم ، وذلك في اليوم مقداره خمسون ألف سنة ، ولكنّهم في الواقع ما عرفوا الله وفي قلوبهم ريب بقدرة الله.

إنّهم يقولون : كيف يمكن جمع العظام البالية والتراب المتناثر في كل حدب وصوب ثمّ يردّ إلى الحياة؟ (وقد ذكر القرآن كلامهم هذا في كثير من آياته) ثمّ كيف يمكن أن يكون اليوم بمقدار خمسين ألف سنة.

الطريف أنّ العلم الحاضر يقول : إنّ مقدار كلّ يوم في أي من الأجرام السماوية يختلف عن بعضها الآخر ، لأنّ دوران الجرم السماوي حول نفسه مرّة واحدة تابع إلى فترة زمنية معينة ، ولهذا فإنّ اليوم في القمر بمقدار أسبوعين على ما هو في الأرض ، حتى أنّهم يقولون : يمكن أن تقل سرعة الحركة الوضعية للأرض وذلك بمرور الزمن ويصبح اليوم الواحد فيها كالشهر أو كالسنة أو مئات السنين ، ونحن لا نقول ، إنّ الزمان في يوم القيامة كذلك ، بل نقول إن اليوم الذي يبلغ مقداره خمسين ألف سنة ، ليس عجيبا في مقاييس عالم الدنيا.

* * *

__________________

(١) بسطنا الكلام في معنى الصبر الجميل في التفسير الأمل ، ج ٧ (من الطبعة العربية) في قصّة النّبي يعقوب ويوسفعليهما‌السلام .

١٦

الآيات

( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) )

التّفسير

تضيف هذا الآيات على البحوث السابقة حول القيامة إيضاحات أكثر ، حيث يقول الله تعالى :( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) (١) ،( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) .

«المهل» : على وزن (قفل) وهو المذاب من المعدن كالنحاس والذهب وغيرهما ، ويراد له أحيانا دردي الزيت المتخلف من زيت الزيتون ، وهذا هو ما

__________________

(١) لـ (يوم) احتمالات متعددة في الإعراب ، ولكن الأفضل أن يكون بدلا من (قريبا) في الآية السابقة أو متعلقا بفعل محذوف مثل (اذكر).

١٧

يناسب المعنى الأوّل ، وإن لم يكن هناك اختلاف في مقام التشبيه.

«العهن» : مطلق الصوف المصبوغ ألوانا.

نعم ، في مثل ذلك اليوم تتلاشى السموات وتذوب ، تتدكدك الجبال ثمّ تتناثر في الهواء كالصوف في مهب الرّيح ، وبما أنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فإنّها شبهت بالصوف المصبوغ بالألوان ، ثمّ يتحقق عالم جديد وحياة جديدة للبشرية بعد كلّ هذا الخراب.

وعند ما يحلّ يوم القيامة في ذلك العالم الجديد فسيكون فيه الحساب عسيرا ومرعبا بحيث ينشغل كل بنفسه ، ولا يفكر بالآخر حتى لو كان من خلّص اصدقائه وأحبائه :( وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) (١) .

الكلّ مشغول بنفسه ، ويفكر بخلاص نفسه يقول في سورة عبس (٣٧) :( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (٢) .

ولا يعني ذلك أنّ الأصدقاء والأقرباء ينكر بعضهم بعضا ، بل إنّهم يعرفونهم ويقول تعالى :( يُبَصَّرُونَهُمْ ) (٣) ، غاية الأمر هو أنّ هول الموقف ووحشته لا يمكنه من التفكر بغيره.

وإكمالا للحديث وتوضيحا لذلك الموقف الموحش ، يضيف تعالى :( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ) .

وليس ببنيه فحسب بل ، يودّ أن يفتدي العذاب بزوجته وأخيه أيضا( وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ) .

( وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ) أي عشيرته وأقربائه الذين كان يأوي إليهم في الدنيا :

__________________

(١) «الحميم» : تقدم أنه في الأصل يعني الماء المغلي والمحرق ثمّ اطلق كذلك على الأصدقاء المخلصين والحقيقيين.

(٢) وردت تفاسير اخرى ، منها : لا يسأل أحد عن أحوال الآخر لأنّ أحوالهم ظاهرة في وجوههم ، وإذا كانت ظاهرة فلا مبرر للسؤال ، ولا يمكن أحد تحمل المسؤولية ، مسئولية أعماله عن الآخرين ولكن التّفسير الأوّل هو الأصح.

(٣) مع أنّ «حميم» قد جاء في المرحلتين بصورة المفرد ، فقد جاء في «يبصرونهم» ضمير بصورة الجمع لأنّ له معنى جنسي.

١٨

( وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) .

نعم ، إنّ عذاب الله شديد في ذلك اليوم المهول الى حدّ يودّ الإنسان فيه أن يفدي أعزّته وهم أربع مجاميع : «الأولاد ، الزوجات ، الإخوان ، عشيرته الأقربون الناصرون له» فيضحي بهم لخلاص نفسه ، وليس فقط أولئك بل إنّه مستعد للافتداء بمن في الأرض جميعا لينجي نفسه!

«يود» : من (الود) على وزن (حبّ) أي يحب ويتمنى ، ويقول الراغب : يمكن استعمال أحد المعنيان (بل الاثنان معا).

«يفتدي» : من (الفداء) أي حفظ النفس من المصائب والمشاكل بوسيلة تسديد أو دفع شيء ما.

«الفصيلة» : هي العشيرة والعائلة التي انفصل وتولّد منها الإنسان.

«تؤيه» : من (الإيواء) من الشدائد واللجوء إليها ويأوي إليها في النسب.

وقال بعض المفسّرين بأنّ (ثمّ) في( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) تدل على أنّهم يعملون أنّ هذا الافتداء لا ينفع شيئا ، وأنّه محال (لأنّ ثمّ تأتي عادة في المسافة والبعد).

ولكنّه يجيب على كلّ هذه الأماني والآمال في قوله :( كَلَّا ) أي لا تقبل الفدية والافتداء.

( إِنَّها لَظى ) نار ملتهبة تحرق كلّ من بجانبها وفي مسيرها.

( نَزَّاعَةً لِلشَّوى ) تقلع اليد والقدم وجلد الوجه.

«لظى» : تعني لهيب النّار الخالص ، وهي اسم من أسماء جهنم أيضا ، يمكن الأخذ بالمعنيين الآية.

«نزاعة» : أي أنّها تقتلع وتفصل بالتوالي.

و «شوى» : الأطراف كاليد والأرجل ، وتأتي أحيانا بمعنى الشواء ، ولكن المراد هنا هو المعنى الأوّل ، لأنّه عند ما تتصل النّار المحرقة وليبها بشيء فإنّها تحرق وتفصل أوّلا الأطراف والجوانب وفروع ذلك.

١٩

ويرى بعض من المفسّرين أنّ الشوى هو جلد البدن ، والبعض يقول أنّه أم الرأس ، والبعض الآخر : يفسّره بلحم الساق ، وقد أجمع الجميع على المعنى الأوّل الذي قلناه ، والعجيب أنّه مع هذا الحال فليس في الأمر موت!

ثمّ يشير إلى من يكون فريسة لمثل هذه النّار ، فيقول :( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى ) .

وبهذا فإنّ هذه النّار المحرقة تدعو أولئك المجرمين إلى نفسها سواء بلسان حالها وجاذبيتها الخاصّة المودعة فيها تجاه المجرمين ، أو بلسان مقالها الذي أعطاها الله إيّاها : إنّها تدعو أولئك المتصفين : بهاتين الصفتين الإعراض عن الإيمان وعدم طاعة الله ورسوله ، ومن جهة أخرى يفكرون دائما بجمع الأموال من الحرام والحلال وادخارها من دون أن يلتفتوا إلى حقوق البائسين والمحرومين ، أو أنّهم يجهلون فلسفة المال الذي يعتبر من النعم الإلهية.

* * *

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أظهرهم لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماويّة خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم، و من شأنّ الآية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس أن يعقّبها عذاب الاستئصال و الهلاك القطعيّ إن لم يؤمنوا بها، و هؤلاء الكفّار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك.

و بالجملة لو أنزل الله الملائكة و الحال هذا الحال - هم يقترحون آية فاصلة تظهر الحقّ و تميط الباطل - لأنزلهم بالحقّ الفاصل المميّز و ما كانوا إذا منظرين بل يهلكون و يقطع دابرهم، هذا محصّل ما ذكره بعضهم.

و قيل: المراد بالحقّ في الآية الموت و المعنى ما نزّل الملائكة على الناس إلّا مصاحبا للحقّ الّذي هو الموت و ما كانوا إذا منظرين، و كأنّه مأخوذ من قوله تعالى:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) الآية.

و قيل: المراد بالحقّ الرسالة أي ما نزّل الملائكة إلّا بالوحي و الرسالة و كأنّه مأخوذ من نحو قوله:( قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحقّ ) النساء: ١٧٠( و قولهفَقَدْ كَذَّبُوا بِالحقّ لَمَّا جاءَهُمْ ) الأنعام: ٥.

فهذه وجوه مذكورة في تفسير الآية و دونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير و هي جميعاً لا تخلو من شي‏ء و هو أنّ شيئاً منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ ) فنزول الملائكة لا يختصّ بعذاب الاستئصال فقط و لا بالموت فقط، و لا بالوحي و الرسالة فقط، و توجيه الآية بما يختصّ بأحد المعاني الثلاث المذكورة للحقّ يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها إطلاق الآية كما هو ظاهر لمن راجع الوجوه المقرّرة آنفاً.

و يمكن أن يقرّر معنى الآية باستمداد من التدبّر في آيات اُخر أنّ ظرف الحياة المادّيّة أعني هذه النشأة الدنيويّة ظرف يختلط فيه الحقّ و الباطل من غير أن يتمحّض الحقّ في الظهور بجميع خواصّه و آثاره كما يشير إليه قوله تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحقّ وَ الْباطِلَ ) الرعد: ١٧، و قد تقدّم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شي‏ء من الحقّ إلّا و هو يحتمل شيئاً من اللبس و الشكّ كما يصدّقه

١٠١

استقراء الموارد الّتي صادفناها مدى أعمارنا، و من الشاهد عليه قوله تعالى:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩ و الظرف ظرف الامتحان و الاختيار و لا اختيار إلّا مع إمكان التباس الحقّ بالباطل و اختلاط الخير و الشرّ بنحو حتّى يقف الإنسان على ملتقى الطريقين و منشعب النجدين فيستدلّ على الخير و الشرّ بآثارهما و أماراتهما ثمّ يختار ما يستحقّه من السعادة و الشقاوة.

و أمّا عالم الملائكة و ظرف وجودهم فإنّما هو عالم الحقّ غير مشوب بشي‏ء من الباطل كما يدلّ عليه قوله تعالى:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦ و قوله:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧.

فمقتضى الآيات و ما في معناها أنّهم في أنفسهم مخلوقات شريفة و وجودات طاهرة نورانيّة منزّهة عن النّقص و الشين لا تحتمل الشرّ و الشقاء و ليس عندها إمكان الفساد و المعصية و التقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادّيّ المبنيّ على أساس الإمكان و الاختيار و جواز الصلاح و الفساد و الطاعة و المعصية و السعادة و الشقاء جميعاً، و سيوافيك البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد إن شاء الله.

و سيأتي أيضاً أنّ الإنسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحقّ ما دام متوغّلاً في هذا العالم المادّيّ متورّطا في ورطات الشهوات و الأهواء كأهل الكفر و الفسوق إلّا ببطلان عالمهم و خروجهم إلى العالم الحقّ و ظهوره عليهم و انكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ و هذا هو العالم الّذي يسمّى بالنسبة إلى الإنسان آخرة.

فتبيّن أنّ ظهور عالم الملائكة للناس المتوغّلين في عالم المادّة متوقّف على تبدّل الظرف و الانتقال من الدّنيا إلى الآخرة و هو الموت اللّهمّ إلّا في المصطفين من عباد الله و أوليائه المطهّرين من أقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم أهليّة مشاهدة الغيب و هم في عالم الشهادة كالأنبياءعليهم‌السلام .

و لعلّ ما قدّمناه هو المراد بقوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا

١٠٢

إِذاً مُنْظَرِينَ ) ، فإنّهم إنّما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الأصليّة حتّى يصدّقوا و هذا الحال لا تتمهّد لهم إلّا بالموت كما قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ إلى أن قال يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: ٢٣.

و قد اجتمع المعنيان في قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩ يقول تعالى: لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدّقة للنبوّة كان لازمه القضاء عليهم و هلاكهم و لو قلّدنا الملك النبوّة و الرّسالة كان لازمه أن نصوّره في صورة رجل من الإنسان، و أن نوقفه موقفاً يحتمل اللبس فإنّ الرسالة إحدى وسائل الامتحان و الابتلاء الإلهيّ و لا امتحان إلّا بما يحتمل السعادة و الشقاء و الفوز و الخيبة و يجوز معه النجاة و الهلاك و لو توصّل إلى الرسالة بما يضطرّ العقول إلى الإيمان و يلجئ النفوس إلى القبول و اليقين لبطل ذلك كلّه.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) صدر الآية مسوق سوق الحصر، و ظاهر السياق أنّ الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردّهم القرآن بأنّه من أهذار الجنون و أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجنون لا عبرة بما صنع و لا حجر و من اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدّقوه في دعوته و أنّ القرآن كتاب سماويّ حقّ.

و المعنى - على هذا و الله أعلم - أنّ هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتّى يعجزوك و يبطلوه بعنادهم و شدّة بطشهم و تتكلّف لحفظه ثمّ لا تقدر، و ليس نازلاً من عند الملائكة حتّى يفتقر إلى نزولهم و تصديقهم إيّاه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالاً تدريجيّاً و إنّا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.

فهو ذكر حيّ خالد مصون من أن يموت و ينسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكراً مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته و سياقه بحيث يتغيّر به صفة كونه ذكراً لله مبيّناً لحقائق معارفه.

١٠٣

فالآية تدلّ على كون كتاب الله محفوظاً من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكراً لله سبحانه فهو ذكر حيّ خالد.

و نظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظاً بحفظ الله مصونا من التحريف و التصرّف بأيّ وجه كان من جهة كونه ذكراً له سبحانه قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ اللّام في الذكر للعهد الذكريّ و أنّ المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربّما يورد على الآية أنّها لو دلّت على نفي التحريف من القرآن لأنّه ذكر لدلّت على نفيه من التوراة و الإنجيل أيضاً لأنّ كلّا منهما ذكر مع أنّ كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.

و ذلك أنّ الآية بقرينة السياق إنّما تدلّ على حفظ الذكر الّذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، و لا دلالة فيها على علّيّة الذكر للحفظ الإلهيّ و دوران الحكم مداره.

و سنستوفي البحث عمّا يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اُذينة عن رفاعة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله: لا يدخل الجنّة إلّا مسلم فيومئذ يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسلمين. ثمّ قال:( ذرهم يأكلوا و يتمتّعوا و يلههم الأمل) أي شغلهم( فسوف يعلمون) .

أقول: و روى العيّاشيّ، عن عبدالله بن عطاء المكّيّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : في تفسير الآية مثله.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط و ابن مردويه بسند صحيح عن

١٠٤

جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ناسا من اُمّتي يعذّبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثمّ يعيّرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحّد إلّا أخرجه الله تعالى من النار. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ بطرق اُخرى عن أبي موسى الأشعريّ و أبي سعيد الخدري و أنس بن مالك عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و ابن شاهين في السنّة عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أصحاب الكبائر من موحّدي الاُمم كلّها الّذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين و لا تائبين من دخل منهم جهنّم لا تزرق أعينهم، و لا تسودّ وجوههم، و لا يقرنون بالشياطين و لا يغلّون بالسلاسل، و لا يجرّعون الحميم، و لا يلبسون القطران حرّم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد، و صورهم على النار من أجل السجود.

فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه، و منهم من تأخذه النار إلى عقبيه، و منهم من تأخذه النار إلى فخذيه، و منهم من تأخذه النار إلى حجزته، و منهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم و أعمالهم، و منهم من يمكث فيها شهراً ثمّ يخرج منها، و منهم من يمكث فيها سنة ثمّ يخرج منها، و أطولهم فيها مكثاً بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى.

فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود و النصارى و من في النار من أهل الأديان و الأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله و كتبه و رسله فنحن و أنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضباً لم يغضبه لشي‏ء فيما مضى فيخرجهم إلى عين بين الجنّة و الصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثمّ يدخلون الجنّة مكتوب في جباههم: هؤلاء الجهنّميّون عتقاء الرحمن فيمكثون في الجنّة ما شاء الله أن يمكثوا.

ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكاً فيمحوه ثمّ

١٠٥

يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقي فيها يسمّرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه، و يشتغل عنهم أهل الجنّة بنعيمهم و لذّاتهم، و ذلك قوله:( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أقول: الطرثوث نبت و حميل السيل غثاؤه، و قد روي من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا.

و فيه، أخرج أحمد و ابن مردويه عن أبي سعيد: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غرس عوداً بين يديه و آخر إلى جنبه و آخر بعده. قال: أ تدرون ما هذا؟ قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: فإنّ هذا الإنسان و هذا أجله و هذا أمله فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك.

أقول: و روي ما يقرب من معناه بطرق عن أنس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في المجمع، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى، و طول الأمل، فإنّ اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ، و طول الأمل ينسي الآخرة.

و في تفسير القمّيّ،: في قوله تعالى:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) قال: قالعليه‌السلام : لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا و هلكوا.

( كلام في أنّ القرآن مصون عن التحريف في فصول)

( الفصل ١- الاستدال علي نفي التحريف بالقرآن)

من ضروريّات التاريخ أنّ النبيّ العربيّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء قبل أربعة عشر قرناً - تقريباً - و ادّعى النبوّة و انتهض للدّعوة و آمن به اُمّة من العرب و غيرهم، و أنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن و ينسبه إلى ربّه متضمّن لجمل المعارف و كلّيّات الشريعة الّتي كان يدعو إليها، و كان يتحدّى به و يعدّه آية لنبوّته، و أنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الّذي جاء به و قرأه على الناس المعاصرين له في

١٠٦

الجملة بمعنى أنّه لم يضع من أصله بأن يفقد كلّه ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه و ينسب إليه و يشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهذه اُمور لا يرتاب في شي‏ء منها إلّا مصاب في فهمه و لا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين و المؤالفين.

و إنّما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شي‏ء يسير كالجملة أو الآية(١) أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها، و أمّا جلّ الكتاب الإلهيّ فهو على ما هو في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يضع و لم يفقد.

ثمّ إنّا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامّة آياته و نجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفّتين واجداً لما وصف به من أوصاف تحدّى بها من غير أن يتغيّر في شي‏ء منها أو يفوته و يفقد.

فنجده يتحدّى بالبلاغة و الفصاحة و نجد ما بأيدينا مشتملاً على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله و لا يشابهه شي‏ء من كلام البلغاء و الفصحاء المحفوظ منهم و المرويّ عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك و هذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه الجلود و القلوب.

و نجده يتحدّى بقوله:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء: ٨٢ بعدم وجود اختلاف فيه و نجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء و أوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلّا و يرفعه آية اُخرى، و ما من خلاف أو مناقضة يتوهّم بادئ الرأي من شطر إلّا و هناك ما يدفعه و يفسّره.

و نجده يتحدّى بغير ذلك ممّا لا يختصّ فهمه بأهل اللغة العربيّة كما في قوله:

__________________________________________________

(١) كقول بعض من غير المنتحلين بالإسلام أن قوله تعالى: ( إنّك ميّت و إنّهم ميّتون ) من وضع أبي بكر وضعه حين سمع عمر و هو شاهر سيفه يهدد بالقتل من قال: إنّ النبيّ مات فقرأها على عمر فصرفه.

١٠٧

( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) إسراء: ٨٨ و قوله:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق: ١٤ ثمّ نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحقّ الّذي لا مرية فيه، و يهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من اُصول المعارف الحقيقيّة و كلّيّات الشرائع الفطريّة و تفاصيل الفضائل الخلقيّة من غير أن نعثر فيها على شي‏ء من النقيصة و الخلل أو نحصل على شي‏ء من التناقض و الزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها و كثرتها حيّة بحياة واحدة مدبّرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنيّة و الأصل الّذي إليه ينتهي الجميع و يرجع و هو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل و هو يعود إلى كلّ منها بالتركيب.

و نجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء و اُممهم و نجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم و يفصّل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين و يناسب نزاهة ساحة النبوّة و خلوصها للعبوديّة و الطاعة و كلّما طبّقنا قصّة من القصص القرآنيّة على ما يماثلها ممّا ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.

و نجده يورد آيات في الملاحم و يخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح أو بالتلويح ثمّ نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدّقة.

و نجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنّه نور و أنّه هاد يهدي إلى صراط مستقيم و إلى الملّة الّتي هي أقوم و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من ذلك و لا يهمل من أمر الهداية و الدلالة و لا دقيقة.

و من أجمع الأوصاف الّتي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذكر لله فإنّه يذكر به تعالى بما أنّه آية دالّة عليه حيّة خالدة و بما أنّه يصفه بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و يصف سنّته في الصنع و الإيجاد، و يصف ملائكته و كتبه و رسله، و يصف شرائعه و أحكامه، و يصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة و هو المعاد و رجوع الكلّ إليه سبحانه، و تفاصيل ما يؤل إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء، و الجنّة و النار.

١٠٨

ففي جميع ذلك ذكر الله، و هو الّذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنّه ذكر و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من معنى الذكر.

و لكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن عبّر عنه بالذكر في الآيات الّتي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان و التغيير و التحريف كقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى‏ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢ فذكر تعالى أنّ القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالاً و لا في مستقبل الزمان لا بإبطال و لا بنسخ و لا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريّته عنه.

و كقوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الحجر: ٩ أطلق الذكر و أطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كلّ زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكريّة و يبطل كونه ذكراً لله سبحانه بوجه.

و من سخيف القول إرجاع ضمير( لَهُ ) إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه مدفوع بالسياق و إنّما كان المشركون يستهزؤن بالنبيّ لأجل القرآن الّذي كان يدّعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا:( وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) و قد مرّ تفسير الآية.

فقد تبيّن ممّا فصّلناه أنّ القرآن الّذي أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وصفه بأنّه ذكر محفوظ على ما اُنزل مصون بصيانة إلهيّة عن الزيادة و النقيصة و التغيير كما وعد الله نبيّه فيه.

و خلاصة الحجّة أنّ القرآن أنزله الله على نبيّه و وصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصّة لو كان تغيّر في شي‏ء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثّر فقد آثار تلك الصفة قطعاً لكنّا نجد القرآن الّذي بأيدينا واجداً

١٠٩

لآثار تلك الصفات المعدودة على أتمّ ما يمكن و أحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئاً من صفاته فالّذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه فلو فرض سقوط شي‏ء منه أو تغيّر في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثّر في شي‏ء من أوصافه كالإعجاز و ارتفاع الاختلاف و الهداية و النوريّة و الذكريّة و الهيمنة على سائر الكتب السماويّة إلى غير ذلك، و ذلك كآية مكرّرة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب و نحوها.

( الفصل ٢- الاستدلال عليه بالحديث)

و يدلّ على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن و في حلّ عقد المشكلات.

و كذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين:( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) الحديث فلا معنى للأمر بالتمسّك بكتاب محرّف و نفي الضلال أبداً ممّن تمسّك به.

و كذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، و ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في الأخبار الفقهيّة و من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام و لا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأنّ أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصّص.

على أنّ لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أنّ الأمر بالعرض إنّما هو لتمييز الصدق من الكذب و الحقّ من الباطل و من المعلوم أنّ الدسّ و الوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدسّ و الوضع في المعارف الاعتقاديّة و قصص الأنبياء و الاُمم الماضين و أوصاف المبدإ و المعاد أكثر و أوفر و يؤيّد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليّات و ما يحذو حذوها ممّا أمر الجعل فيها أوضح و أبين.

١١٠

و كذا الأخبار الّتي تتضمّن تمسّك أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بمختلف الآيات القرآنيّة في كلّ باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتّى في الموارد الّتي فيها آحاد من الروايات بالتحريف، و هذا أحسن شاهد على أنّ المراد في كثير من روايات التحريف من قولهمعليهم‌السلام كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن و التأويل.

و كذا الروايات الواردة عن أميرالمؤمنين و سائر الأئمّة من ذرّيّتهعليهم‌السلام في أنّ ما بأيدي الناس قرآن نازل من عندالله سبحانه و إن كان غير ما ألّفه عليّعليه‌السلام من المصحف و لم يشركوهعليه‌السلام في التأليف في زمن أبي بكر و لا في زمن عثمان و من هذا الباب‏ قولهمعليهم‌السلام لشيعتهم:( اقرؤا كما قرأ النّاس) .

و مقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألّفه عليّعليه‌السلام في شي‏ء فإنّما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات الّتي لا يؤثّر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئاً و لا في الأوصاف الّتي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختلّ به آثارها.

فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الّذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير أن يفقد شيئاً من أوصافه الكريمة و آثارها و بركاتها.

( الفصل ٣- كلام مثبتي التحريف و جوابه)

ذهب جماعة من محدّثي الشيعة و الحشويّة و جماعة من محدّثي أهل السنّة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص و التغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.

و احتجّوا على نفي الزيادة بالإجماع و على وقوع النقص و التغيير بوجوه كثيرة.

١١١

أحدها: الأخبار الكثيرة المرويّة من طرق الشيعة و أهل السنّة الدالّة على سقوط بعض السور و الآيات و كذا الجمل و أجزاء الجمل و الكلمات و الحروف في الجمع الأوّل الّذي اُلّف فيه القرآن في زمن أبي بكر و كذا في الجمع الثاني الّذي كان في زمن عثمان و كذا التغيير و هذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة و غيرها، و قد ادّعى بعضهم أنّها تبلغ ألفي حديث، و روتها أهل السنّة في صحاحهم كصحيحي البخاريّ و مسلم و سنن أبي داود و النسائيّ و أحمد و سائر الجوامع و كتب التفاسير و غيرها و قد ذكر الآلوسيّ في تفسيره أنّها فوق حدّ الإحصاء.

و هذا غير ما يخالف فيه مصحف عبدالله بن مسعود المصحف المعروف ممّا ينيف على ستّين موضعا، و ما يخالف فيه مصحف اُبيّ بن كعب المصحف العثمانيّ و هو في بضع و ثلاثين موضعا، و ما يختلف فيه المصاحف العثمانيّة الّتي اكتتبها و أرسلها إلى الآفاق و هي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكّة و إلى الشام و إلى البصرة و إلى الكوفة و إلى اليمن و إلى البحرين و حبس واحدا بالمدينة و الاختلاف الّذي فيما بينها يبلغ خمسة و أربعين حرفاً، و قيل: بضع و خمسين حرفاً.(١)

و غير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانيّة و الجمع الأوّل في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأوّل في المثاني و سورة براءة في المئين و هما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجي‏ء روايته.

و غير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبدالله بن مسعود و اُبيّ ابن كعب على ما وردت به الرواية و بين المصاحف العثمانيّة و غير الاختلافات القرائيّة الشاذّة الّتي رويت عن الصحابة و التابعين فربّما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.

الوجه الثاني: أنّ العقل يحكم بأنّه إذا كان القرآن متفرّقاً متشتّتاً منتشراً عند الناس و تصدّى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.

الوجه الثالث: ما روته العامّة و الخاصّة: أنّ عليّاعليه‌السلام اعتزل الناس بعد رحلة

__________________________________________________

(١) ذكره ابن طاووس في سعد السعود.

١١٢

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يرتد إلّا للصّلاة حتّى جمع القرآن ثمّ حمله إلى الناس و أعلمهم أنّه القرآن‏ الّذي أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد جمعه فردّوه و استغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت و لو لم يكن بعض ما فيه مخالفاً لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحملة إليهم و إعلامهم و دعوتهم إليه وجه، و قد كانعليه‌السلام أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر و قال في الحديث المتّفق عليه: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ.

الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنّه يقع في هذه الاُمّة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة، بالقذّة و قد حرّفت بنو إسرائيل كتاب نبيّهم على ما يصرّح به القرآن الكريم و الروايات المأثورة، فلا بدّ أن يقع نظيره في هذه الاُمّة فيحرّفوا كتاب ربّهم و هو القرآن الكريم.

ففي صحيح البخاريّ، عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموه قلنا: يا رسول الله بآبائنا و اُمّهاتنا اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟

و الرواية مستفيضة مرويّة في جوامع الحديث عن عدّة من الصحابة كأبي سعيد الخدريّ - كما مرّ - و أبي هريرة و عبدالله بن عمر، و ابن عبّاس و حذيفة و عبدالله بن مسعود و سهل بن سعد و عمر بن عوف و عمرو بن العاص و شدّاد بن أوس و المستورد بن شدّاد في ألفاظ متقاربة.

و هي مرويّة مستفيضة من طرق الشيعة عن عدّة من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في تفسير القمّيّ، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتركبنّ سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة لا تخطؤن طريقهم و لا تخطئ شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه قالوا: اليهود و النصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة فيكون أوّل ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة.

و الجواب عن استدلالهم بإجماع الاُمّة على نفي تحريف القرآن بالزيادة

١١٣

بأنّها حجّة مدخولة لكونها دوريّة.

بيان ذلك: أنّ الإجماع ليس في نفسه حجّة عقليّة يقينيّة بل هو عند القائلين باعتباره حجّة شرعيّة لو أفاد شيئاً من الاعتقاد فإنّما يفيد الظنّ سواء في ذلك محصّله و منقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أنّ الإجماع المحصّل مفيد للقطع و ذلك أنّ الّذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات الّتي تفيدها آحاد الأقوال و الواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلّا الظنّ بإصابة الواقع، و انضمام القول الثاني الّذي يوافقه إليه إنّما يفيد قوّة الظنّ دون القطع لأنّ القطع اعتقاد خاصّ بسيط مغاير للظنّ و ليس بالمركّب من عدّة ظنون.

و هكذا كلّما انضمّ قول إلى قول و تراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظنّ قوّة و تراكمت الظنون و اقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدّم، هذا في المحصّل من الإجماع و هو الّذي نحصّله بتتبّع جميع الأقوال و الحصول على كلّ قول قول، و أمّا المنقول منه الّذي ينقله الواحد و الاثنان من أهل العلم و البحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلّا الظنّ إن أفاد شيئاً من الاعتقاد.

فالإجماع حجّة ظنّيّة شرعيّة دليل اعتبارها عند أهل السنّة مثلاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تجتمع اُمّتي على خطإ أو ضلال) و عند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.

فحجية الإجماع بالجملة متوقّفة على صحّة النبوّة و ذلك ظاهر، و صحّة النبوّة اليوم متوقّفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية و فصل القول و خاصّة الإعجاز فإنّه لا دليل حيّاً خالداً على خصوص نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة، و مع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر لا وثوق بشي‏ء من آياته و محتوياته أنّه كلام الله محضا و بذلك تسقط الحجّة و تفسد الآية، و مع سقوط كتاب الله عن الحجّيّة يسقط الإجماع عن الحجّيّة.

١١٤

و لا ينفع في المقام ما قدّمناه في أوّل الكلام أنّ وجود القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريّات التاريخ.

و ذلك لأنّ مجرّد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعيّ لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر في كلّ آية أو جملة اُريد التمسّك بها لإثبات مطلوب.

و الجواب عن الوجه الأوّل الّذي اُقيم لوقوع التحريف بالنقص و التغيير و هو الّذي تمسّك فيه بالأخبار:

أما أوّلاً فبأنّ التمسّك بالأخبار بما أنّها حجّة شرعيّة يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسّك بالإجماع بنظير البيان الّذي تقدّم آنفاً.

فلا يبقى للمستدلّ بها إلّا أن يتمسّك بها بما أنّها أسناد و مصادر تاريخيّة و ليس فيها حديث متواتر و لا محفوف بقرائن قطعيّة تضطرّ العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرّقة متشتّتة مختلفة منها صحاح و منها ضعاف في أسنادها و منها قاصرة في دلالتها فما أشذّ منها ما هو صحيح في سنده تامّ في دلالته.

و هذا النوع على شذوذه و ندرته غير مأمون فيه الوضع و الدسّ فإنّ انسراب الإسرائيليّات و ما يلحق بها من الموضوعات و المدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره و لا حجّيّة في خبر لا يؤمن فيه الدسّ و الوضع.

و مع الغضّ عن ذلك فهي تذكر من الآيات و السور ما لا يشبه النظم القرآنيّ بوجه، و مع الغضّ عن جميع ذلك فإنّها مخالفة للكتاب مردودة:

أمّا ما ذكرنا أنّ أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها، و السالم منها من هذه العلل أقلّ قليل.

و أمّا ما ذكرنا أنّ منها ما هو قاصر في دلالتها فإنّ كثيراً ممّا وقع فيها من الآيات المحكيّة من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرّفة و ذلك كما في روضة الكافي، عن أبي الحسن الأوّل: في قول الله:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ - فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب -وَ قُلْ لَهُمْ

١١٥

فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً ) .

و ما في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) قال:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا - عمّا اُمرتم به -فإنّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.

و يلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات الّتي تذكر هذه الآية هكذا:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ - في عليّ -) و الآية نازلة في حقّهعليه‌السلام ، و ما روي: أنّ وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا:( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ - بنو تميم -أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) فظنّ أنّ في الآية سقطا.

و يلحق بهذا الباب أيضاً ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن و انطباقه كما ورد في قوله:( وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا - آل محمّد حقّهم -) و ما ورد من قوله:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ - في ولاية عليّ و الأئمّة من بعده -فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) و هي كثيرة جدّاً.

و يلحق بها أيضاً ما اُتبع فيه القراءة بشي‏ء من الذكر و الدعاء فتوهّم أنّه من سقط القرآن كما في الكافي، عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن التوحيد فقال: كلّ من قرأ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ و آمن بها فقد عرف التوحيد، قال:( قلت‏ ظ) كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرؤها الناس و زاد فيه كذلك الله ربّي كذلك الله ربّي.

و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرّفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالّتي وردت في قوله تعالى:( وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) ففي بعضها أنّ الآية هكذا:( و لقد نصركم الله ببدر و أنتم ضعفاء) و في بعضها:( و لقد نصركم الله ببدر و أنتم قليل) .

و هذا الاختلاف ربّما كان قرينة على أنّ المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة و يؤيّده ما ورد في بعضها من قولهعليه‌السلام : لا يجوز وصفهم بأنّهم

١١٦

أذلّة و فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و ربّما لم يكن إلّا من التعارض و التنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على‏ ما ورد في روايات الخاصّة و العامّة و هي في بعضها: إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة. و في بعضها: الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة، و في بعضها «بما قضيا من اللذّة» و في بعضها آخرها:( نكالا من الله و الله عليم حكيم) و في بعضها:( نَكالًا مِنَ اللهِ وَ اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

و كآية الكرسيّ على التنزيل الّتي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا:( اللهُ لا إِلهَ إلّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة فلا يظهر على غيبه أحداً( مَنْ ذَا الّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ - إلى قوله -وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) و الحمد لله ربّ العالمين.

و في بعضها - إلى قوله -( هُمْ فِيها خالِدُونَ ) و الحمد لله ربّ العالمين، و في بعضها هكذا:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ - و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم -) إلخ. و في بعضها:( عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام ربّ العرش العظيم) و في بعضها: عالم الغيب و الشهادة العزيز الحكيم.

و ما ذكره بعض المحدّثين أنّ اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتّفاقها في أصل التحريف. مردود بأنّ ذلك لا يصلح ضعف الدلالة و دفع بعضها لبعض.

و أمّا ما ذكرنا من شيوع الدسّ و الوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع و الإيجاد و قصص الأنبياء و الاُمم و الأخبار الواردة في تفاسير الآيات و الحوادث الواقعة في صدر الإسلام و أعظم ما يهمّ أمره لأعداء الدين و لا يألون جهدا في إطفاء نوره و إخماد ناره و إعفاء أثره هو القرآن الكريم الّذي هو الكهف المنيع و الركن الشديد الّذي يأوي إليه و يتحصّن به المعارف

١١٧

الدينيّة و السند الحيّ الخالد لمنشور النبوّة و موادّ الدعوة لعلمهم بأنّه لو بطلت حجّة القرآن لفسد بذلك أمر النبوّة و اختلّ نظام الدين و لم يستقرّ من بنيته حجر على حجر.

و العجب من هؤلاء المحتجّين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على تحريف كتاب الله سبحانه و إبطال حجيّته، و ببطلان حجّة القرآن تذهب النبوّة سدى و المعارف الدينيّة لغا لا أثر لها، و ما ذا يغني قولنا: إنّ رجلا في تاريخ كذا ادّعى النبوّة و أتى بالقرآن معجزة أمّا هو فقد مات و أمّا قرآنه فقد حرف، و لم يبق بأيدينا ممّا يؤيّد أمره إلّا أنّ المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه و أنّ القرآن الّذي جاء به كان معجزاً دالّاً على نبوّته، و الإجماع حجّة لأنّ النبيّ المذكور اعتبر حجيّته أو لأنّه يكشف مثلاً عن قول أئمّة أهل بيته؟.

و بالجملة احتمال الدسّ - و هو قريب جدّاً مؤيّد بالشواهد و القرائن - يدفع حجّيّة هذه الروايات و يفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجّيّة شرعيّة و لا حجّيّة عقلائيّة حتّى ما كان منها صحيح الأسناد فإنّ صحّة السند و عدالّة رجال الطريق إنّما يدفع تعمّدهم الكذب دون دسّ غيرهم في اُصولهم و جوامعهم ما لم يرووه.

و أمّا ما ذكرناه أنّ روايات التحريف تذكر آيات و سوراً لا يشبه نظمها النظم القرآنيّ بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنّه يعثر فيها بشي‏ء كثير من ذلك كسورتي الخلع و الحفد اللّتين رويتا بعدّة من طرق أهل السنّة فسورة الخلع هي: بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ إنّا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك و سورة الحفد هي:( بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ إيّاك نعبد و لك نصلّي و نسجد و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى نقمتك إنّ عذابك بالكافرين ملحق) .

و كذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية و غيرها أقاويل مختلقة رام واضعها أن يقلّد النظم القرآنيّ فخرج الكلام عن الاُسلوب العربيّ المألوف و لم يبلغ النظم الإلهيّ المعجز فعاد يستبشعه الطبع و ينكره الذوق و لك أن تراجعها

١١٨

حتّى تشاهد صدق ما ادّعيناه و تقضي أنّ أكثر المعتنين بهذه السور و الآيات المختلقة المجعولة إنّما دعاهم إلى ذلك التعبّد الشديد بالروايات و الإهمال في عرضها على الكتاب، و لو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنّها ليست بكلام إلهيّ نظرة.

و أمّا ما ذكرنا أنّ روايات التحريف على تقدير صحّة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرّد مخالفتها لظاهر قوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) و قوله:( وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) الآيتان حتّى تكون مخالفة ظنّيّة لكون ظهور الألفاظ من الأدلّة الظنّيّة بل المراد مخالفتها للدلالة القطعيّة من مجموع القرآن الّذي بأيدينا حسب ما قرّرناه في الحجّة الاُولى الّتي أقمناها لنفي التحريف.

كيف لا؟ و القرآن الّذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته و أبعاضه غير ناقص و لا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقيّة و علومه الإلهيّة الكلّيّة و الجزئيّة المرتبطة بعضها ببعض المترتّبة فروعها على اُصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواصّ النظم القرآنيّ الّذي وصفه الله بها.

و الجواب عن الوجه الثاني أنّ دعوى الامتناع العاديّ مجازفة بيّنة نعم يجوّز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلّا أن تقوم قرائن تدلّ على ذلك و هي قائمة كما قدّمنا، و أمّا أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العاديّ فلا.

و الجواب عن الوجه الثالث أنّ جمعهعليه‌السلام القرآن و حمله إليهم و عرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شي‏ء من الحقّائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعيّة إلّا أن يكون في شي‏ء من ترتيب السور أو الآيات من السور الّتي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة.

و لو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج و دافع فيه و لم يقنع بمجرّد إعراضهم عمّا جمعه و استغنائهم عنه كما روي عنهعليه‌السلام في موارد شتّى و لم ينقل عنهعليه‌السلام فيما

١١٩

روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته و لا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك، و جبّههم على إسقاطها أو تحريفها.

و هل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين و تحرّزاً عن شقّ العصا فإنّما كان يتصوّر ذلك بعد استقرار الأمر و اجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع و قبل أن يقع في الأيدي و يسير في البلاد.

و ليت شعري هل يسعنا أن ندّعي أنّ ذاك الجمّ الغفير من الآيات الّتي يرون سقوطها و ربّما ادّعوا أنّها تبلغ الاُلوف كانت جميعاً في الولاية أو كانت خفيّة مستورة عن عامّة المسلمين لا يعرفها إلّا النزر القليل منهم مع توفّر دواعيهم و كثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلّما نزل و تعلّمه و بلوغ اجتهاد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تبليغه و إرساله إلى الآفاق و تعليمه و بيانه، و قد نصّ على ذلك القرآن قال تعالى:( وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢ و قال:( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤ فكيف ضاع؟ و أين ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل أنّه سقط في آية من أوّل سورة النساء بين قوله:( وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) و قوله:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية، و ما ورد من طرق أهل السنّة أنّ سورة براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة، و أنّ الأحزاب كانت أعظم من البقرة و قد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!.

أو أنّ هذه الآيات - و قد دلّت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة - كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسّرين من أهل السنّة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أنّ من القرآن ما أنساه الله و نسخ تلاوته.

فما معنى إنساء الآية و نسخ تلاوتها؟ أ كان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة و آية نكاح الزانية و الزاني و آية العدّة و غيرها؟ و هم مع ذلك يقسّمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة و العمل معا و منسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.

أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتّى أبطلها الله بإمحاء

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511