الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135806 / تحميل: 5375
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

كرارا ، ولهذا نقرأ في حديث أمير المؤمنينعليه‌السلام : «اصبر من الإيمان كالرأس من الجسد»(١) ، ولقد كان الصبر والاعتدال أحد الأصول المهمّة لمناهج الأنبياء والمؤمنين. وكلما ازدادت عليهم المحن ازداد صبرهم.

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال حول أجر الصابرين : «قال الله تعالى : إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ، ثمّ استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا».

ثمّ أنّ الآيات الشريفة وفي تعقيب لأمر ورد في الآيات السابقة في إطار القيام وإنذار المشركين ، توكّد مرّة اخرى على الإنذار والتحذير ، فيقول تعالى :( فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) .

وردت احتمالات متعددة في تركيب هذه الجملة ، أفضلها ما جاء في كتاب (البيان في غريب إعراب القرآن) والذي يقول : (ذلك مبتدأ ويومئذ بدل ويوم عسير خبره) ، والملاحظ أنّ (ناقور) هي في الأصل من نقر ، ويعني الدق المؤدي إلى الإثقاب ومنها سمّي المنقار ، وهو ما تمتلكه الطيور لدق الأشياء وثقبها ، ولذلك يطلق اسم النّاقور على مزمار الذي يخرق صوته اذن الإنسان وينفذ إلى دماغه.

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ في نهاية الدنيا وبدء المعاد بنفخ في الصور مرّتين ، أي أن له صوتين موحشين ومرعبين يملآن مسامع العالم بأسره ، أوّلهما صوت الموت ، والثّاني صوت اليقظة والحياة ، ويعبر عنهما (نفخة الصور الاولى) و (نفخة الصور الثّانية) وهذا الآية تشير إلى نفخة الصور الثّانية ، والتي يكون معها

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ٨٢.

١٦١

يوم البعث وهو يوم صعب وثقيل على الكفّار ، ولقد كان لنا بحث مفصل حول الصور ونفخة الصور في ذيل الآية (٦٨) من سورة الزمر.

على كل حال فإنّ الآيات المذكورة أعلاه تشير إلى حقيقة أنّ مشاكل الكفّار تظهر الواحدة بعد الأخرى في يوم نفخة البعث ، وهو يوم أليم ومفجع ، ويركّع أقوى الناس.

* * *

١٦٢

الآيات

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) )

سبب النّزول

ذكر سببان هذه الآيات ، هما :

١ ـ اجتمعت قريش في دار الندوة فالتفت الوليد بن المغيرة إليهم ، وكان الوليد شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب ، وقال : وحدوا قولكم ، فإنّ العرب يأتونكم من كل صوب ويسألونكم عمّا خفي عنهم لما عندكم من المنزلة السامية ، ثمّ قال : ماذا تقولون في الرجل ـ وكان يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قالوا : شاعر. فقبض الوليد وجهه ، وقال إنّنا سمعنا الشعر وما هو شعر ، قالوا : كاهن ، قال : هل يصدر منه كلام الكهنة عند استماعكم إليه؟ هل يتحدث عن الغيب؟ قالوا : مجنون. قال : لا يظهر عليه أثر الجنون. قالوا : ساحر : قال : كيف؟ قالوا : يفرق بين الحبيب وحبيبه ، فقال : بلى ـ لافتراق من كان يسلّم عن جماعته ، فتفرّقوا وصاروا يمرون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينادونه يا ساحر يا ساحر ، فسمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك

١٦٣

واغتم لهذا الأمر ، فنزلت بالآيات المذكورة في صدر السورة حتى الآية (٢٥) لمواساة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقيل : لما نزلت عليه :( حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ) قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته ، فلما فطن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية ، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه مخزوم ، فقال : والله ، لقد سمعت من محمّد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجن ، وإنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر وأنّ أسفله لمغدق ، وإنّه ليعلو وما يعلى ، ثمّ انصرف إلى منزله.

فقالت قريش : صبا ـ والله ـ الوليد ، والله لتصبأنّ قريش كلّها ، وكان يقال للوليد ريحانة قريش ، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه ، فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزينا ، فقال له الوليد : ما أراك حزينا يا ابن أخي ، قال : هذه قريش يعيبونك على كبر سنّك ، ويزعمون أنّك مدحت كلام محمّد فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ، فقال : أتزعمون أنّ محمّدا مجنون ، فهل رأيتموه يخنق قط؟ فقالوا : اللهمّ لا.

قال : أتزعمون أنّه كاهن ، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟ قالوا : اللهم لا.

قال : أتزعمون أنّه شاعر ، فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قط؟ قالوا : اللهمّ لا.

قال : أتزعمون أنّه كذّاب ، فهل جربتم على شيئا من الكذب؟ قالوا : اللهمّ لا ، وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوّة من صدقه ، فقالت قريش للوليد : فما هو؟! فتفكر في نفسه ، ثمّ نظر وعبس ، فقال : ما هو إلّا ساحر ، ما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٦ ؛ نقل المفسّرون سبب النزول هذا مع الاختلاف البسيط كالقرطبي والمراغي والفخر الرازي في ظلال القرآن والميزان وغير ذلك.

١٦٤

التّفسير

الوليد بن المغيرة الثري المغرور :

تواصل هذه الآيات إنذار الكفّار والمشركين كما في الآيات السابقة مع فارق ، وهو أنّ الآيات السابقة كانت تنذر الكافرين بشكل عام ، وهذه تنذر أفرادا معينين بتعابير قوية وبليغة بأشدّ الإنذارات ، فيقول تعالى :( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) والآيات الآتية نزلت في الوليد بن المغيرة كما قلنا ، وهو من أقطاب قريش المشهورين و (وحيدا) يمكن أن يكون وصفا للخالق جلّ شأنه ، ويمكن أن يكون للمخلوق ، وهناك احتمالان للمعنى الأوّل للوحيد.

الأوّل : ذرني وحيدا مع هذا الكافر لاعذّبه عذابا شديدا.

والآخر : دعني ومن خلقته حال كوني وحيدا لا يشاركني في خلقه أحد ، ثمّ دبّرت أمره أحسن التدبير ، ولا تحلّ بيني وبينه لكونه منكرا لنعمائي.

وأمّا المعنى الثّاني فهناك احتمالات أيضا ، فقد يكون المعنى : دعني ومن خلقته حال كونه وحيدا في بطن امّه وعند ولادته لا أموال عنده ولا أولاد ، ثمّ وهبته من نعمائي.

أو أنّه سمّي نفسه بذلك كما في المقولة المشهورة : «أنا الوحيد ابن الوحيد ، ليس لي في العرب نظير ، ولا لأبي نظير(١) »! وذكر المعنى في الآية استهزاء بقوله وأحسن الوجوه الأربعة أوّلها.

ثمّ يضيف تعالى :( وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً ) .

«الممدود» : يعني في الأصل المبسوط ، ويشير إلى كثرة أمواله وحجمها.

وقيل : إنّ أمواله بلغت حدّا من الكثرة بحيث ملك الإبل والخيول والأراضي الشاسعة ما بين مكّة والطائف ، وقيل إنّه يملك ضياع ومزارع دائمة الحصاد ، وله

__________________

(١) تفسير ذيل الآيات المذكورة للفخر الرازي ، والكشاف والمراغي والقرطبي ، ويستفاد من بين الرّوايات الواردة في معنى الوحيد أنّه ولد الزنا الذي ليس له أب ، ولا قرينة للرّواية في تفسير الآية وليس لمعنى الرواية تناسب مع الآية.

١٦٥

مائة ألف دينار ذهب ، وكل هذه المعاني تجتمع في كلمة «الممدود».

ثمّ أشار تعالى إلى قوته في قوله :( وَبَنِينَ شُهُوداً ) .

إذا كانوا يعينونه على حياته ، وحضورهم إنس وراحة له ، وما كانوا مضطرين لأن يضربوا في الأرض طلبا للعيش ، ويتركوا أباهم وحيدا ، إذ كان له عشرة بنين كما في الرّوايات.

ثمّ يستطرد بذكر النعم التي وهبها له ، يقول تعالى :( وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ) ولم يهبه ما ينفع من المال والأولاد فحسب ، بل أغدق عليه ما يريد من جاء وقوّة.

«التمهيد» : من (المهد) وهو ما يستخدم لنوم الطفل ، ويطلق على ما يتهيأ من وسائل الراحة والمقام وانتظام الأمور. وفي المجموع له معان واسعة تشمل المواهب الحياتية والوسائل الحديثة والتوفيق.

ولكنّه كفر بما أنعم الله عليه وهو بذلك يريد المزيد :( ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) ، وليس هذا منحصرا بالوليد ، بل إنّ عبيد الدنيا على هذه الشاكلة أيضا ، فلن يروى عطشهم مطلقا ، ولو أعطوا الأقاليم السبعة لما اكتفوا بذلك.

والآية الأخرى تردع الوليد بشدّة ، يقول تعالى :( كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ) ومع أنّه كان يعلم أنّ هذا القرآن ليس من كلام الجن أو الإنس ، بل متجذر في الفطرة ، وله جاذبية خاصّة وأغصان مثمرة. فكان يعاند ويعتبر ذلك سحرا ومظهره ساحرا.

«العنيد» : من (العناد) وقيل هو المخالفة والعناد مع المعرفة ، أي أنّه يعلم بأحقّية الشيء ثمّ يخالفه عنادا ، والوليد مصداق واضح لهذا المعنى.

والتعبير بـ (كان) يشير إلى مخالفته المستمرة والدائمة.

وأشار في آخر آية إلى مصيره المؤلم بعبارات قصيرة وغنية في المعنى ، فيقول تعالى :( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) .

«سأرهقه» : من (الإرهاف) وهو غشيان الشيء بالعنف ، وتعني أيضا فرض

١٦٦

العقوبات الصعبة ، جاء بمعنى الابتلاء بأنواع العذاب ، والصعود ، إشارة إلى ما سيناله من سوء العذاب ، ويستعمل في العمل الشاق ، إذا يشق صعود الجبل ، ولذا فسّر البعض ذلك بالعذاب الإلهي ، وقيل هو جبل في النار يصعد فيه الكافر عنفا ثمّ يهوي ، وهو كذلك فيه أبدا.

ويحتمل أن يراد به العذاب الدنيوي للوليد بن المغيرة ، فقد ذكر التاريخ عنه أنّه بلغ ذروة الجاه والرفاه في حياته ، ثمّ عاقبه الله تعالى بنقصان ماله وولده حتى هلك(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٢٩ ، ص ١٣١.

١٦٧

الآيات

( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) )

التّفسير

( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) في هذه الآيات توضيحات كثيرة عمّن أعطاه الله المال والبنين وخالف بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي الوليد بن المغيرة ، يقول تعالى :( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ) .

لا بأس بالتفكير ، وهو حسن ، ولكن يشترط أن يكون في طريق الحق ، وتفكر ساعة أفضل من عبادة أو عمر بكامله ، لما يمكن أن يتغير مصير الإنسان فيها ، وأمّا إذا كان التفكر في طريق الكفر والفساد فهو مذموم ، وتفكر «الوليد» كان من هذه النوع.

«قدّر» : من التقدير ، وهو التهيؤ لنظم أمر في الذهن والتصميم على تطبيقه ، ثمّ يضيف في مذمته :( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) بعدئذ يؤكّد ذلك فيضيف :( ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) وهذا إشارة لما قيل في سبب النّزول حيث كان يرى توحيد الأقوال فيما

١٦٨

يقذف به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعند ما سمّوه بالشاعر لم يقبل بذلك ، فقالوا : كاهن فلم يقبل ، قالوا : مجنون فرفض ، فقالوا : ساحر ، قال : بلى ، وذلك لمخالفتهم فكرة السحر الذي كان يفرق بين المرء وأهله ، أو يجمع الواحد والآخر ، وإنّما ظهر ذلك في عصر الإسلام ، قد عبّر القرآن عن هذه الحالة التي حدثت عند الوليد بتعبير مختصر وبليغ لمطالعته للأمر وتفكره ، ثمّ تقديره لذلك وإن كان أصل الاقتراح من قريش ، وعلى كل حال فإنّ تكرار المعنى في الآيتين دليل على دهاء الوليد في تفكره الشيطاني ، ولذا كانت شدّة تفكره سببا للتعجب.

بعدئذ يضيف الله تعالى :( ثُمَّ نَظَرَ ) ، أي نظر بعد التفكر والتقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر مهمّ ليطمئن من استحكامه وانسجامه :( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) ، بهذه الأقوال يظهره عداءه للقرآن المجيد ، وذلك بعد تفكره الشيطاني ، وبقوله هذا صار يمدح القرآن من حيث لا يدري ، وإذا أشار إلى جاذبية القرآن الخارقة وتسخيره للقلوب ، وسحر القرآن الذي يسحر القلوب كما في قولته ، وما كان للقرآن من شبه بسحر الساحرين ، بل إنّه كلام منطقي وموزون ، وهذا هو دليل على نزول الوحي به ، وليس هو بكلام البشر ، بل صدر من عالم ما وراء الطبيعة من علم الله اللامتناهي ، الذي جمع في انسجامه واستحكامه كلّ المحاسن.

«عبس» : يعبس عبوسا ، والعبوس الذي يقبض وجهه.

«بسر» : من (البسور) وتعني أحيانا العجلة في إتمام العمل الذي لو يحن حان وقته ، وأحيانا بمعنى قبض الوجه وتغيره ، والمعنى الثّاني يناسب العبس ، وعلى المعنى الأوّل يكون إشارة إلى اتّخاذ القرار العاجل في الصاق ما لا يليق بالقرآن المجيد.

«يؤثر» : من (الأثر) ، وهو ما يروى عن الماضين ممّا بقي من الآثار ، وقيل من «الإيثار» بمعنى الترجيح والتقديم.

١٦٩

وممّا يؤيد المعنى الأوّل أنّ الوليد يقول : إنّه سحر يروى ويتعلم من السحرة.

وعلى المعنى الثّاني فإنّه يقول : سحر تؤثر حلاوته في قلوب الناس وبالتالي فإنّ الناس يرجحونه على غيره.

على كلّ حال هو إقرار ضمني بإعجاز القرآن. وليس للقرآن أي علاقة وتشبيه بأعمال السحرة ، فهو كلام رصين عميق المعاني وجذاب لا نظير له كما يقول الوليد ، فإنّه ليس من كلام البشر ، وإن كان كذلك لكانوا قد أتوا بمثله ، وهذا ما دعا إليه القرآن كرارا ، فلم يستطع أحد من بلغاء العرب أن يأتي بمثله ، بل سورة من مثله ، وهذه هي معجزة.

* * *

١٧٠

الآيات

( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) )

التّفسير

المصير المشؤوم :

في هذه الآيات بيان للعقوبات المؤلمة لمن أنكر القرآن والرسالة ، وكذب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ما أشارت إليه الآيات السابقة فيقول الله تعالى :( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) .

«سقر» : في الأصل من «سقر» على وزن فقر ، بمعنى التغير والذوبان من أثر حرارة الشمس ، هو من أحد أسماء جهنم ، كثير ما ذكر في القرآن ، واختيار هذا الاسم يشير إلى العذاب المهول لجهنّم الذي يلتهم أهلها ، وقيل هي درك من دركاتها المهولة ، ثمّ يبيّن عظمة وشدّة عذاب النّار فيقول :( وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ) .

أي إنّ العذاب يكون شديدا إلى حدّ يخرج عن دائرة التصور ، ولا يخطر على بال أحد ، كما هو الحال في عدم إدراك عظمة النعم الإلهية في الجنان.

( لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ) .

قد تكون هذه الآية إشارة إلى أنّ نار جهنّم بخلاف نار الدنيا التي ربّما تركت

١٧١

بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه ، وإذا نالت إنسانا مثلا نالت جسمه وصفاته الجسمية وتبقى روحه وصفاته الروحية في أمان منها ، وأمّا «سقر» فلا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلّا نالته واحتوته بجميع وجوده ، فهي نار شاملة تستوعب جميع من القي فيها ، وقيل : إنّ المعنى لا يموتون فيها ولا يحيون ، أي يبقون بين الموت والحياة ، كما جاء في الآية (١٣) من سورة الأعلى :( لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ) .

أو أنّها لا تبقي على جسد شيئا من العظام أو اللحم ، فيتّضح أنّ مفهوم الآية أنّها لا تحرقهم تماما ، لأنّ هذا المعنى لا يتفق والآية (٥٦) من سورة النساء حيث يقول تعالى :( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ )

ثمّ ينتقل إلى بيان وصف آخر للنّار المحرقة فيضيف :( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ) (١) .

إنّها تجعل الوجه مظلما أسود أشدّ سوادا من الليل.

«بشر» : جمع بشرة ، وتعني الجلد الظاهر للجسد.

«لوّاحة» : من مادة (لوح) وتعني أحيانا الظاهر ، وأحيانا بمعنى التغيير ، ويكون المعنى بمقتضى التّفسير الأوّل : (أنّ جهنم ظاهرة للعيان).

كما جاء في الآية (٣٦) من سورة النّازعات :( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى ) وبمقتضى التّفسير الثّاني يكون المعنى : أنّها تغير لون الجلود.

وفي آخر آية من آيات مورد البحث يقول تعالى :( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) .(٢)

إنّهم ليسوا مأمورين بالرحم والشفقة ، بل إنّهم مأمورين بالعذاب والغلظة ، وأمّا الآية الأخرى التي تليها فإنّها تشير إلى أنّ هذا العدد هم ملائكة العذاب ، وقيل إنّها تشير إلى تسع عشرة مجموعة من الملائكة ، وليس تسعة عشر نفرا ، ودليل ذلك قوله تعالى :( وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) .

__________________

(١) لواحة : خبر مبتدأ محذوفة تقديره (هي لواحة).

(٢) (عليها) خبر مقدم ، وتسعة عشر مبتدأ مؤخر ، وهي مبنية على الفتح ، ولذا لم ترفع في الظاهر ، وقيل إنّ سببه يتضمّن معنى واو العاطفة.

١٧٢

وأمّا عن سبب اختيار هذا العدد من ملائكة العذاب ، فلا يدري أحد عن ذلك شيئا ، ولكن احتمل البعض أنّ المراد من ذلك هو لكون أكبر عدد للأحاد وأقل عدد للعشرات ، وقيل لكون اصول الأخلاق الرذيلة ترجع إلى ١٩ أصل ظاهرة وباطنة ،

فلذا تكون كلّ رذيلة من الرّذائل عاملا للعذاب الإلهي ، وإنّ طبقات جهنّم هي تسع عشرة طبقة أي بعددها ، ولكل طبقة ملك أو مجموعة من الملائكة مأمورين بالعذاب.

ومن المؤكّد أنّ الأمور المرابطة بالقيامة والجنان والجحيم ، وجزئياتها وخصوصياتها غير واضحة لدنيا تمام الوضوح ، ونحن نعيش في هذا المحيط المحدود ، والذي نعرفه إنّما يتعلق بكلياتها ، لذا نجد في الرّوايات أنّ لهذه الملائكة قدرات عظيمة بحيث يمكن لكل ملك أت يقذف قبيلة كبيرة في جهنّم بسهولة ، ومن هنا يتّضح ضعف وعجز أفكار أناس من قبيل أبي جهل ، إذ أنّه لما سمع بالآية جاء مستهزئا إلى قريش ، وقال : ثكلتكم أمهاتكم ألم تسمعوا ما يقوله ابن أبي كبشة (بعني بذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) يقول إنّ خزنة النّار تسعة عشر وأنتم الدّهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟!

فقال أبو الأسد الجمحي وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة شعر فاكفوني أنتم اثنين(٢) لقد أراد السفهاء أن يطفئوا بهذه السخرية نور الحق ، وأن يتخلصوا بذلك من الفناء المحتم.

* * *

__________________

(١) قال البعض في علّة تسمية قريش النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الاسم ، فقد قيل لوجود رجل يدعي أبو كبشة ، وهو من خزاعة قد تنحى عن عبادة الأصنام في عصر الجاهلية ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينئذ يعارض عبادة الأصنام بشدّة فنسبوا الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبي كبشة ، وقيل إنّ أبي كبشة أحد أجداد امّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن على كلّ حال لا شك في أنّهم أرادوا بذلك السخرية لأنّ الكبش في لغة العرب تستخدم في المدح ويسمّى بذلك الأبطال والقواد.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٨ ، وتفاسير اخرى.

١٧٣

ملاحظة

ملائكة العذاب تسعة عشر :

هذه الآية تشير بوضوح إلى عدد خزنة جهنم بأنّهم تسعة عشر نفرا أو تسعة عشرة مجموعة ، والآيات التي تليها تعتمد على هذا المعنى ، ولكن العجب من أنّ بعض الفرق المنحرفة تصر على قدسية هذا العدد ، وتسعى إلى أن تجعل من عدد شهور السنة وأيّام نظاما يدور حول محور هذا العدد ، بخلاف جميع الموازين الطبيعية والفلكية! وجعلوا أحكامهم العملية مطابقا لذلك النظام ، والأعجب من ذلك أنّ كاتبا من الكتاب يمكن أن تكون له علاقة بتنظيماتهم يصرّ إصرارا عجيبا ومضحكا على أن يجعل كل ما في القرآن موجّه على أساس هذا العدد ، وفي الموارد الكثيرة في القرآن التي لا تتفق مع هذا العدد المرغوب عنده يعمد إلى إضافة أو حذف ما يرغب فيه ليتفق مع ذلك العدد أو مع مضاربه ، وإيراد مطاليبها والإجابة عليها يمكن أن تعتبر إتلافا للوقت.

نعم فالمذهب الجهنمي يجب أن يدور حول عدد جهنمي ، وجماعة جهنميون يجب أن يتوافقوا مع عدد ملائكة العذاب.

* * *

١٧٤

الآية

( وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) )

التّفسير

لم هذا العدد من أصحاب النّار؟

ذكر الله سبحانه وتعالى كما قرأنا في الآيات السابقة عدد خزنة جهنم ومأموريها وهم تسعة عشر نفرا (أو مجموعة) ، وكذا قرأنا أنّ ذكر هذا العدد صار سببا للحديث بين أوساط المشركين والكفّار ، واتّخذ بعضهم ذلك سخرية ، وظنّ القليل منهم أنّ الغلبة على أولئك ليس أمرا صعبا ، الآية أعلاه والتي هي أطول آيات هذه السورة تجيب عليهم وتوضح حقائق كثيرة في هذا الصدد.

١٧٥

فيقول تعالى أوّلا :( وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) (١) .

ملائكة أقوياء مقتدرون وكما يعبّر القرآن غلاظ شداد قساة ، في مقابل المذنبين بجمعهم الغفير وهم ضعفاء عاجزون.

ثمّ يضيف تعالى :( وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

وهذا الاختبار من وجهين :

أوّلا : لأنّهم كانوا يستهزئون بالعدد تسعة عشر ، ويتساءلون عن سبب اختيار هذا العدد ، في حين لو وضع عدد آخر لكانوا قد سألوا السؤال نفسه.

والوجه الثّاني : أنّهم كانوا يستقلون هذا العدد ويسخرون من ذلك بقولهم : لكل واحد منهم عشرة منّا ، لتكسر شوكتهم.

في حين أنّ ملائكة الله وصفوا في القرآن بأنّ نفرا منهم يؤمرون بإهلاك قوم لوطعليه‌السلام ويقلبون عليهم مدينتهم ، مضافا إلى ما أشير إليه سابقا حول اختيار عدد تسعة عشر لأصحاب النّار.

ثمّ يضيف تعالى أيضا :( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) .

ورد في رواية أنّ جماعة من اليهود سألوا أحد أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عدد خزنة النّار فقال : «الله ورسوله أعلم» فهبط جبرائيلعليه‌السلام على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآية( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) .(٢)

وسكوت هؤلاء اليهود وعدم اعتراضهم على هذا الجواب يدلّ على أنّه موافقا لما هو مذكور في كتبهم ، وهذا مدعاة لازدياد يقينهم بنبوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصار قبولهم هذا سببا في تمسك المؤمنين بإيمانهم وعقائدهم.

لذا تضيف الآية في الفقرة الأخرى :( وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ) .

__________________

(١) أصحاب النّار : ذكرت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن وكلّها تعني الجهنميين ، إلّا في هذا الموضع فإنّها بمعنى خزنة جهنم ، وذكر هذه العبارة يشير إلى أنّ كلمة «سقر» في الآيات السابقة تعني جهنّم بكاملها وليس قسما خاصّا منها.

(٢) نقل هذا الحديث البيهقي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تفسير المراغي ، ج ٢٩ ، ص ١٣٤).

١٧٦

ثمّ تعود مباشرة بعد ذكر هذه الآية إلى التأكيد على تلك الأهداف الثلاثة ، إذ يعتمد مجددا على إيمان أهل الكتاب ، ثمّ المؤمنين ، ثمّ على اختبار الكفّار والمشركين ، فيقول :( وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً ) (١) .

وأمّا من يقصد به في قوله :( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) فقيل المراد منهم المنافقون ، لأنّ هذا التعبير كثيرا ما ورد فيهم في آيات القرآن كما هو في الآية (١٠) من سورة البقرة التي تتحدث حول المنافقين بقرينة الآيات السابقة لها واللاحقة حيث نقرأ :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) وبهذا الدليل تمسكوا بمدنية الآية السابقة ، لأنّ المنافقين نشؤوا في المدينة عند اقتدار الإسلام وليس بمكة ، ولكن تحقيق موارد ذكر هذه العبارة في القرآن الكريم يشير إلى أنّ هذه العبارة غير منحصرة بالمنافقين ، بل أطلقت على جميع الكفّار والمعاندين والمحاربين لآيات الحقّ ، وعطفت أحيانا على المنافقين حيث يمكن أن يكون دليلا على ثنائيتهم ، فمثلا نقرأ في الآية (٤٩) من سورة الأنفال :( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ) وكذا في الآيات الأخرى ، لذا ليس هناك دليل على نفي مكية الآية ، خصوصا لما من توافق وارتباط كامل من الآيات السابقة لها والتي تشير بوضوح إلى مكيّتها.

ثمّ يضيف حول كيفية استفادة المؤمنين والكفّار الذين في قلوبهم مرض من كلام الله تعالى : فيقول تعالى :( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) .

إنّ الجمل السابقة تشير بوضوح إلى أنّ المشيئة والإرادة الإلهية لهداية البعض وإضلال البعض الأخر ليس اعتباطا ، فإنّ المعاندين والذين في قلوبهم

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ اللام في (ليستيقن) هي لام التعليل وفي (ليقول) لام العاقبة ويمكن أن يكون قد تكرر لهذا الدليل في حين لو كان بمعنى واحد لما كان هناك ضرورة للتكرار ، وبعبارة اخرى أن تيقن المؤمنين هو لإرادة وأمره ، وأمّا حديث الكفّار فليس من إرادته وأمره تعالى شأنه ، بل هو عاقبة هذا الأمر.

١٧٧

مرض لا يستحقون إلّا الضلال ، والمؤمنون والمسلّمون لأمر الله هم المستحقون للهدى.

ويقول في نهاية الآية :( وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ ) .

فالحديث عن التسعة عشر من خزنة النّار ، ليس لتحديد ملائكة الله تعالى ، بل إنّهم كثيرون جدّا أنّ الرّوايات تصفهم أنّهم يملؤون السموات والأرض ، وليس هناك موضع قدم في العالم إلّا وفيه ملك يسبح لله!

واحتمل المفسّرون احتمالات عديدة في من يعود الضمير «هي» ، فقيل : يعود على الجنود ومنهم خزنة النّار ، وقيل : على سقر ، وقيل : على آيات القرآن (السورة) ، والقول الأوّل أنسب وأوجه ، وإن كانت بقية الأقوال مدعاة للتذكر والإيقاظ والمعرفة ، ولأنّ الأوّل يبيّن حقيقة أنّ الله تعالى إنّما اختار لنفسه ملائكة وأخبر عن عددهم ليكون ذكرى لمن يتعظ بها ، لا لكونه غير قادر على معاقبة كل المذنبين والمعاندين.

* * *

ملاحظة :

عدد جنود الرّب!

حضور الله تعالى في كلّ مكان واتساع قدرته في العالم يفهمنا أنّ ذاته المقدّسة غير محتاجة لأي ناصر أو معين ، لكنّه ، لإظهار عظمته للخلائق ولتكون ذكرى لمن يتعظ اختار ملائكة وجنودا كثيرين مطيعين لأمره تعالى.

وقد ذكرت الرّوايات عبارات عجيبة حول كثرة وعظمة وقدرة جنود الله والسماع لهذه الأخبار يثير العجب والدهشة ولا تتفق مع مقاييسنا المتعارفة ، ولذا نقنع بقراءة أوّل.

١٧٨

خطبة في نهج البلاغة للإمام عليعليه‌السلام حول هذا الموضوع حيث يقولعليه‌السلام : «ثمّ فتق ما بين السموات العلا ، فملأهن أطوارا من ملائكته ، فهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، صافون لا يتزايلون ، ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة ، وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربّهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدونه بالأماكن ، ولا يشيرون إليه بالنظائر»

وكما قلنا سابقا إنّ لكلمة (ملك) مفهوما واسعا حيث يشمل الملائكة الذين يملكون العقل والشعور والطاعة والتسليم ، وكذلك كثير من عناصر وقوى عالم الوجود.

ولنا شرح مفصل حول هذا الموضوع في تفسير الآيات الأولى لسورة فاطر وما يليها.

* * *

١٧٩

الآيات

( كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) )

التّفسير

استمرارا للبحث مع المنكرين لنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واليوم الآخر تؤكّد الآيات التالية في أقسام عديدة على مسألة القيامة والجحيم وعذابها ، فيقول تعالى :( كَلَّا وَالْقَمَرِ ) .

«كلّا» : حرف ردع وإنكار لما تقدم أو ردع لما سيأتي ، ويعني هنا نفي تصور المشركين والمنكرين بجهنّم وعذابها ، والساخرين بخزنة جهنّم بقرينة الآيات السابقة.

وأقسم بالقمر لأنّه إحدى الآيات الإلهية الكبرى ، لما فيه من الخلقة والدوران المعظم والنور والجمال والتغييرات التدريجية الحاصلة فيه لتعيين الأيّام باعتباره تقويما حيّا كذلك.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511