الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135875 / تحميل: 5382
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

كرارا ، ولهذا نقرأ في حديث أمير المؤمنينعليه‌السلام : «اصبر من الإيمان كالرأس من الجسد»(١) ، ولقد كان الصبر والاعتدال أحد الأصول المهمّة لمناهج الأنبياء والمؤمنين. وكلما ازدادت عليهم المحن ازداد صبرهم.

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال حول أجر الصابرين : «قال الله تعالى : إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ، ثمّ استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا».

ثمّ أنّ الآيات الشريفة وفي تعقيب لأمر ورد في الآيات السابقة في إطار القيام وإنذار المشركين ، توكّد مرّة اخرى على الإنذار والتحذير ، فيقول تعالى :( فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) .

وردت احتمالات متعددة في تركيب هذه الجملة ، أفضلها ما جاء في كتاب (البيان في غريب إعراب القرآن) والذي يقول : (ذلك مبتدأ ويومئذ بدل ويوم عسير خبره) ، والملاحظ أنّ (ناقور) هي في الأصل من نقر ، ويعني الدق المؤدي إلى الإثقاب ومنها سمّي المنقار ، وهو ما تمتلكه الطيور لدق الأشياء وثقبها ، ولذلك يطلق اسم النّاقور على مزمار الذي يخرق صوته اذن الإنسان وينفذ إلى دماغه.

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ في نهاية الدنيا وبدء المعاد بنفخ في الصور مرّتين ، أي أن له صوتين موحشين ومرعبين يملآن مسامع العالم بأسره ، أوّلهما صوت الموت ، والثّاني صوت اليقظة والحياة ، ويعبر عنهما (نفخة الصور الاولى) و (نفخة الصور الثّانية) وهذا الآية تشير إلى نفخة الصور الثّانية ، والتي يكون معها

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ٨٢.

١٦١

يوم البعث وهو يوم صعب وثقيل على الكفّار ، ولقد كان لنا بحث مفصل حول الصور ونفخة الصور في ذيل الآية (٦٨) من سورة الزمر.

على كل حال فإنّ الآيات المذكورة أعلاه تشير إلى حقيقة أنّ مشاكل الكفّار تظهر الواحدة بعد الأخرى في يوم نفخة البعث ، وهو يوم أليم ومفجع ، ويركّع أقوى الناس.

* * *

١٦٢

الآيات

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) )

سبب النّزول

ذكر سببان هذه الآيات ، هما :

١ ـ اجتمعت قريش في دار الندوة فالتفت الوليد بن المغيرة إليهم ، وكان الوليد شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب ، وقال : وحدوا قولكم ، فإنّ العرب يأتونكم من كل صوب ويسألونكم عمّا خفي عنهم لما عندكم من المنزلة السامية ، ثمّ قال : ماذا تقولون في الرجل ـ وكان يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قالوا : شاعر. فقبض الوليد وجهه ، وقال إنّنا سمعنا الشعر وما هو شعر ، قالوا : كاهن ، قال : هل يصدر منه كلام الكهنة عند استماعكم إليه؟ هل يتحدث عن الغيب؟ قالوا : مجنون. قال : لا يظهر عليه أثر الجنون. قالوا : ساحر : قال : كيف؟ قالوا : يفرق بين الحبيب وحبيبه ، فقال : بلى ـ لافتراق من كان يسلّم عن جماعته ، فتفرّقوا وصاروا يمرون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينادونه يا ساحر يا ساحر ، فسمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك

١٦٣

واغتم لهذا الأمر ، فنزلت بالآيات المذكورة في صدر السورة حتى الآية (٢٥) لمواساة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقيل : لما نزلت عليه :( حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ) قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته ، فلما فطن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية ، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه مخزوم ، فقال : والله ، لقد سمعت من محمّد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجن ، وإنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر وأنّ أسفله لمغدق ، وإنّه ليعلو وما يعلى ، ثمّ انصرف إلى منزله.

فقالت قريش : صبا ـ والله ـ الوليد ، والله لتصبأنّ قريش كلّها ، وكان يقال للوليد ريحانة قريش ، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه ، فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزينا ، فقال له الوليد : ما أراك حزينا يا ابن أخي ، قال : هذه قريش يعيبونك على كبر سنّك ، ويزعمون أنّك مدحت كلام محمّد فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ، فقال : أتزعمون أنّ محمّدا مجنون ، فهل رأيتموه يخنق قط؟ فقالوا : اللهمّ لا.

قال : أتزعمون أنّه كاهن ، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟ قالوا : اللهم لا.

قال : أتزعمون أنّه شاعر ، فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قط؟ قالوا : اللهمّ لا.

قال : أتزعمون أنّه كذّاب ، فهل جربتم على شيئا من الكذب؟ قالوا : اللهمّ لا ، وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوّة من صدقه ، فقالت قريش للوليد : فما هو؟! فتفكر في نفسه ، ثمّ نظر وعبس ، فقال : ما هو إلّا ساحر ، ما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٦ ؛ نقل المفسّرون سبب النزول هذا مع الاختلاف البسيط كالقرطبي والمراغي والفخر الرازي في ظلال القرآن والميزان وغير ذلك.

١٦٤

التّفسير

الوليد بن المغيرة الثري المغرور :

تواصل هذه الآيات إنذار الكفّار والمشركين كما في الآيات السابقة مع فارق ، وهو أنّ الآيات السابقة كانت تنذر الكافرين بشكل عام ، وهذه تنذر أفرادا معينين بتعابير قوية وبليغة بأشدّ الإنذارات ، فيقول تعالى :( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) والآيات الآتية نزلت في الوليد بن المغيرة كما قلنا ، وهو من أقطاب قريش المشهورين و (وحيدا) يمكن أن يكون وصفا للخالق جلّ شأنه ، ويمكن أن يكون للمخلوق ، وهناك احتمالان للمعنى الأوّل للوحيد.

الأوّل : ذرني وحيدا مع هذا الكافر لاعذّبه عذابا شديدا.

والآخر : دعني ومن خلقته حال كوني وحيدا لا يشاركني في خلقه أحد ، ثمّ دبّرت أمره أحسن التدبير ، ولا تحلّ بيني وبينه لكونه منكرا لنعمائي.

وأمّا المعنى الثّاني فهناك احتمالات أيضا ، فقد يكون المعنى : دعني ومن خلقته حال كونه وحيدا في بطن امّه وعند ولادته لا أموال عنده ولا أولاد ، ثمّ وهبته من نعمائي.

أو أنّه سمّي نفسه بذلك كما في المقولة المشهورة : «أنا الوحيد ابن الوحيد ، ليس لي في العرب نظير ، ولا لأبي نظير(١) »! وذكر المعنى في الآية استهزاء بقوله وأحسن الوجوه الأربعة أوّلها.

ثمّ يضيف تعالى :( وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً ) .

«الممدود» : يعني في الأصل المبسوط ، ويشير إلى كثرة أمواله وحجمها.

وقيل : إنّ أمواله بلغت حدّا من الكثرة بحيث ملك الإبل والخيول والأراضي الشاسعة ما بين مكّة والطائف ، وقيل إنّه يملك ضياع ومزارع دائمة الحصاد ، وله

__________________

(١) تفسير ذيل الآيات المذكورة للفخر الرازي ، والكشاف والمراغي والقرطبي ، ويستفاد من بين الرّوايات الواردة في معنى الوحيد أنّه ولد الزنا الذي ليس له أب ، ولا قرينة للرّواية في تفسير الآية وليس لمعنى الرواية تناسب مع الآية.

١٦٥

مائة ألف دينار ذهب ، وكل هذه المعاني تجتمع في كلمة «الممدود».

ثمّ أشار تعالى إلى قوته في قوله :( وَبَنِينَ شُهُوداً ) .

إذا كانوا يعينونه على حياته ، وحضورهم إنس وراحة له ، وما كانوا مضطرين لأن يضربوا في الأرض طلبا للعيش ، ويتركوا أباهم وحيدا ، إذ كان له عشرة بنين كما في الرّوايات.

ثمّ يستطرد بذكر النعم التي وهبها له ، يقول تعالى :( وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ) ولم يهبه ما ينفع من المال والأولاد فحسب ، بل أغدق عليه ما يريد من جاء وقوّة.

«التمهيد» : من (المهد) وهو ما يستخدم لنوم الطفل ، ويطلق على ما يتهيأ من وسائل الراحة والمقام وانتظام الأمور. وفي المجموع له معان واسعة تشمل المواهب الحياتية والوسائل الحديثة والتوفيق.

ولكنّه كفر بما أنعم الله عليه وهو بذلك يريد المزيد :( ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) ، وليس هذا منحصرا بالوليد ، بل إنّ عبيد الدنيا على هذه الشاكلة أيضا ، فلن يروى عطشهم مطلقا ، ولو أعطوا الأقاليم السبعة لما اكتفوا بذلك.

والآية الأخرى تردع الوليد بشدّة ، يقول تعالى :( كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ) ومع أنّه كان يعلم أنّ هذا القرآن ليس من كلام الجن أو الإنس ، بل متجذر في الفطرة ، وله جاذبية خاصّة وأغصان مثمرة. فكان يعاند ويعتبر ذلك سحرا ومظهره ساحرا.

«العنيد» : من (العناد) وقيل هو المخالفة والعناد مع المعرفة ، أي أنّه يعلم بأحقّية الشيء ثمّ يخالفه عنادا ، والوليد مصداق واضح لهذا المعنى.

والتعبير بـ (كان) يشير إلى مخالفته المستمرة والدائمة.

وأشار في آخر آية إلى مصيره المؤلم بعبارات قصيرة وغنية في المعنى ، فيقول تعالى :( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) .

«سأرهقه» : من (الإرهاف) وهو غشيان الشيء بالعنف ، وتعني أيضا فرض

١٦٦

العقوبات الصعبة ، جاء بمعنى الابتلاء بأنواع العذاب ، والصعود ، إشارة إلى ما سيناله من سوء العذاب ، ويستعمل في العمل الشاق ، إذا يشق صعود الجبل ، ولذا فسّر البعض ذلك بالعذاب الإلهي ، وقيل هو جبل في النار يصعد فيه الكافر عنفا ثمّ يهوي ، وهو كذلك فيه أبدا.

ويحتمل أن يراد به العذاب الدنيوي للوليد بن المغيرة ، فقد ذكر التاريخ عنه أنّه بلغ ذروة الجاه والرفاه في حياته ، ثمّ عاقبه الله تعالى بنقصان ماله وولده حتى هلك(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٢٩ ، ص ١٣١.

١٦٧

الآيات

( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) )

التّفسير

( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) في هذه الآيات توضيحات كثيرة عمّن أعطاه الله المال والبنين وخالف بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي الوليد بن المغيرة ، يقول تعالى :( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ) .

لا بأس بالتفكير ، وهو حسن ، ولكن يشترط أن يكون في طريق الحق ، وتفكر ساعة أفضل من عبادة أو عمر بكامله ، لما يمكن أن يتغير مصير الإنسان فيها ، وأمّا إذا كان التفكر في طريق الكفر والفساد فهو مذموم ، وتفكر «الوليد» كان من هذه النوع.

«قدّر» : من التقدير ، وهو التهيؤ لنظم أمر في الذهن والتصميم على تطبيقه ، ثمّ يضيف في مذمته :( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) بعدئذ يؤكّد ذلك فيضيف :( ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) وهذا إشارة لما قيل في سبب النّزول حيث كان يرى توحيد الأقوال فيما

١٦٨

يقذف به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعند ما سمّوه بالشاعر لم يقبل بذلك ، فقالوا : كاهن فلم يقبل ، قالوا : مجنون فرفض ، فقالوا : ساحر ، قال : بلى ، وذلك لمخالفتهم فكرة السحر الذي كان يفرق بين المرء وأهله ، أو يجمع الواحد والآخر ، وإنّما ظهر ذلك في عصر الإسلام ، قد عبّر القرآن عن هذه الحالة التي حدثت عند الوليد بتعبير مختصر وبليغ لمطالعته للأمر وتفكره ، ثمّ تقديره لذلك وإن كان أصل الاقتراح من قريش ، وعلى كل حال فإنّ تكرار المعنى في الآيتين دليل على دهاء الوليد في تفكره الشيطاني ، ولذا كانت شدّة تفكره سببا للتعجب.

بعدئذ يضيف الله تعالى :( ثُمَّ نَظَرَ ) ، أي نظر بعد التفكر والتقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر مهمّ ليطمئن من استحكامه وانسجامه :( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) ، بهذه الأقوال يظهره عداءه للقرآن المجيد ، وذلك بعد تفكره الشيطاني ، وبقوله هذا صار يمدح القرآن من حيث لا يدري ، وإذا أشار إلى جاذبية القرآن الخارقة وتسخيره للقلوب ، وسحر القرآن الذي يسحر القلوب كما في قولته ، وما كان للقرآن من شبه بسحر الساحرين ، بل إنّه كلام منطقي وموزون ، وهذا هو دليل على نزول الوحي به ، وليس هو بكلام البشر ، بل صدر من عالم ما وراء الطبيعة من علم الله اللامتناهي ، الذي جمع في انسجامه واستحكامه كلّ المحاسن.

«عبس» : يعبس عبوسا ، والعبوس الذي يقبض وجهه.

«بسر» : من (البسور) وتعني أحيانا العجلة في إتمام العمل الذي لو يحن حان وقته ، وأحيانا بمعنى قبض الوجه وتغيره ، والمعنى الثّاني يناسب العبس ، وعلى المعنى الأوّل يكون إشارة إلى اتّخاذ القرار العاجل في الصاق ما لا يليق بالقرآن المجيد.

«يؤثر» : من (الأثر) ، وهو ما يروى عن الماضين ممّا بقي من الآثار ، وقيل من «الإيثار» بمعنى الترجيح والتقديم.

١٦٩

وممّا يؤيد المعنى الأوّل أنّ الوليد يقول : إنّه سحر يروى ويتعلم من السحرة.

وعلى المعنى الثّاني فإنّه يقول : سحر تؤثر حلاوته في قلوب الناس وبالتالي فإنّ الناس يرجحونه على غيره.

على كلّ حال هو إقرار ضمني بإعجاز القرآن. وليس للقرآن أي علاقة وتشبيه بأعمال السحرة ، فهو كلام رصين عميق المعاني وجذاب لا نظير له كما يقول الوليد ، فإنّه ليس من كلام البشر ، وإن كان كذلك لكانوا قد أتوا بمثله ، وهذا ما دعا إليه القرآن كرارا ، فلم يستطع أحد من بلغاء العرب أن يأتي بمثله ، بل سورة من مثله ، وهذه هي معجزة.

* * *

١٧٠

الآيات

( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) )

التّفسير

المصير المشؤوم :

في هذه الآيات بيان للعقوبات المؤلمة لمن أنكر القرآن والرسالة ، وكذب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ما أشارت إليه الآيات السابقة فيقول الله تعالى :( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) .

«سقر» : في الأصل من «سقر» على وزن فقر ، بمعنى التغير والذوبان من أثر حرارة الشمس ، هو من أحد أسماء جهنم ، كثير ما ذكر في القرآن ، واختيار هذا الاسم يشير إلى العذاب المهول لجهنّم الذي يلتهم أهلها ، وقيل هي درك من دركاتها المهولة ، ثمّ يبيّن عظمة وشدّة عذاب النّار فيقول :( وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ) .

أي إنّ العذاب يكون شديدا إلى حدّ يخرج عن دائرة التصور ، ولا يخطر على بال أحد ، كما هو الحال في عدم إدراك عظمة النعم الإلهية في الجنان.

( لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ) .

قد تكون هذه الآية إشارة إلى أنّ نار جهنّم بخلاف نار الدنيا التي ربّما تركت

١٧١

بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه ، وإذا نالت إنسانا مثلا نالت جسمه وصفاته الجسمية وتبقى روحه وصفاته الروحية في أمان منها ، وأمّا «سقر» فلا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلّا نالته واحتوته بجميع وجوده ، فهي نار شاملة تستوعب جميع من القي فيها ، وقيل : إنّ المعنى لا يموتون فيها ولا يحيون ، أي يبقون بين الموت والحياة ، كما جاء في الآية (١٣) من سورة الأعلى :( لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ) .

أو أنّها لا تبقي على جسد شيئا من العظام أو اللحم ، فيتّضح أنّ مفهوم الآية أنّها لا تحرقهم تماما ، لأنّ هذا المعنى لا يتفق والآية (٥٦) من سورة النساء حيث يقول تعالى :( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ )

ثمّ ينتقل إلى بيان وصف آخر للنّار المحرقة فيضيف :( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ) (١) .

إنّها تجعل الوجه مظلما أسود أشدّ سوادا من الليل.

«بشر» : جمع بشرة ، وتعني الجلد الظاهر للجسد.

«لوّاحة» : من مادة (لوح) وتعني أحيانا الظاهر ، وأحيانا بمعنى التغيير ، ويكون المعنى بمقتضى التّفسير الأوّل : (أنّ جهنم ظاهرة للعيان).

كما جاء في الآية (٣٦) من سورة النّازعات :( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى ) وبمقتضى التّفسير الثّاني يكون المعنى : أنّها تغير لون الجلود.

وفي آخر آية من آيات مورد البحث يقول تعالى :( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) .(٢)

إنّهم ليسوا مأمورين بالرحم والشفقة ، بل إنّهم مأمورين بالعذاب والغلظة ، وأمّا الآية الأخرى التي تليها فإنّها تشير إلى أنّ هذا العدد هم ملائكة العذاب ، وقيل إنّها تشير إلى تسع عشرة مجموعة من الملائكة ، وليس تسعة عشر نفرا ، ودليل ذلك قوله تعالى :( وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) .

__________________

(١) لواحة : خبر مبتدأ محذوفة تقديره (هي لواحة).

(٢) (عليها) خبر مقدم ، وتسعة عشر مبتدأ مؤخر ، وهي مبنية على الفتح ، ولذا لم ترفع في الظاهر ، وقيل إنّ سببه يتضمّن معنى واو العاطفة.

١٧٢

وأمّا عن سبب اختيار هذا العدد من ملائكة العذاب ، فلا يدري أحد عن ذلك شيئا ، ولكن احتمل البعض أنّ المراد من ذلك هو لكون أكبر عدد للأحاد وأقل عدد للعشرات ، وقيل لكون اصول الأخلاق الرذيلة ترجع إلى ١٩ أصل ظاهرة وباطنة ،

فلذا تكون كلّ رذيلة من الرّذائل عاملا للعذاب الإلهي ، وإنّ طبقات جهنّم هي تسع عشرة طبقة أي بعددها ، ولكل طبقة ملك أو مجموعة من الملائكة مأمورين بالعذاب.

ومن المؤكّد أنّ الأمور المرابطة بالقيامة والجنان والجحيم ، وجزئياتها وخصوصياتها غير واضحة لدنيا تمام الوضوح ، ونحن نعيش في هذا المحيط المحدود ، والذي نعرفه إنّما يتعلق بكلياتها ، لذا نجد في الرّوايات أنّ لهذه الملائكة قدرات عظيمة بحيث يمكن لكل ملك أت يقذف قبيلة كبيرة في جهنّم بسهولة ، ومن هنا يتّضح ضعف وعجز أفكار أناس من قبيل أبي جهل ، إذ أنّه لما سمع بالآية جاء مستهزئا إلى قريش ، وقال : ثكلتكم أمهاتكم ألم تسمعوا ما يقوله ابن أبي كبشة (بعني بذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) يقول إنّ خزنة النّار تسعة عشر وأنتم الدّهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟!

فقال أبو الأسد الجمحي وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة شعر فاكفوني أنتم اثنين(٢) لقد أراد السفهاء أن يطفئوا بهذه السخرية نور الحق ، وأن يتخلصوا بذلك من الفناء المحتم.

* * *

__________________

(١) قال البعض في علّة تسمية قريش النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الاسم ، فقد قيل لوجود رجل يدعي أبو كبشة ، وهو من خزاعة قد تنحى عن عبادة الأصنام في عصر الجاهلية ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينئذ يعارض عبادة الأصنام بشدّة فنسبوا الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبي كبشة ، وقيل إنّ أبي كبشة أحد أجداد امّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن على كلّ حال لا شك في أنّهم أرادوا بذلك السخرية لأنّ الكبش في لغة العرب تستخدم في المدح ويسمّى بذلك الأبطال والقواد.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٨ ، وتفاسير اخرى.

١٧٣

ملاحظة

ملائكة العذاب تسعة عشر :

هذه الآية تشير بوضوح إلى عدد خزنة جهنم بأنّهم تسعة عشر نفرا أو تسعة عشرة مجموعة ، والآيات التي تليها تعتمد على هذا المعنى ، ولكن العجب من أنّ بعض الفرق المنحرفة تصر على قدسية هذا العدد ، وتسعى إلى أن تجعل من عدد شهور السنة وأيّام نظاما يدور حول محور هذا العدد ، بخلاف جميع الموازين الطبيعية والفلكية! وجعلوا أحكامهم العملية مطابقا لذلك النظام ، والأعجب من ذلك أنّ كاتبا من الكتاب يمكن أن تكون له علاقة بتنظيماتهم يصرّ إصرارا عجيبا ومضحكا على أن يجعل كل ما في القرآن موجّه على أساس هذا العدد ، وفي الموارد الكثيرة في القرآن التي لا تتفق مع هذا العدد المرغوب عنده يعمد إلى إضافة أو حذف ما يرغب فيه ليتفق مع ذلك العدد أو مع مضاربه ، وإيراد مطاليبها والإجابة عليها يمكن أن تعتبر إتلافا للوقت.

نعم فالمذهب الجهنمي يجب أن يدور حول عدد جهنمي ، وجماعة جهنميون يجب أن يتوافقوا مع عدد ملائكة العذاب.

* * *

١٧٤

الآية

( وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) )

التّفسير

لم هذا العدد من أصحاب النّار؟

ذكر الله سبحانه وتعالى كما قرأنا في الآيات السابقة عدد خزنة جهنم ومأموريها وهم تسعة عشر نفرا (أو مجموعة) ، وكذا قرأنا أنّ ذكر هذا العدد صار سببا للحديث بين أوساط المشركين والكفّار ، واتّخذ بعضهم ذلك سخرية ، وظنّ القليل منهم أنّ الغلبة على أولئك ليس أمرا صعبا ، الآية أعلاه والتي هي أطول آيات هذه السورة تجيب عليهم وتوضح حقائق كثيرة في هذا الصدد.

١٧٥

فيقول تعالى أوّلا :( وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) (١) .

ملائكة أقوياء مقتدرون وكما يعبّر القرآن غلاظ شداد قساة ، في مقابل المذنبين بجمعهم الغفير وهم ضعفاء عاجزون.

ثمّ يضيف تعالى :( وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

وهذا الاختبار من وجهين :

أوّلا : لأنّهم كانوا يستهزئون بالعدد تسعة عشر ، ويتساءلون عن سبب اختيار هذا العدد ، في حين لو وضع عدد آخر لكانوا قد سألوا السؤال نفسه.

والوجه الثّاني : أنّهم كانوا يستقلون هذا العدد ويسخرون من ذلك بقولهم : لكل واحد منهم عشرة منّا ، لتكسر شوكتهم.

في حين أنّ ملائكة الله وصفوا في القرآن بأنّ نفرا منهم يؤمرون بإهلاك قوم لوطعليه‌السلام ويقلبون عليهم مدينتهم ، مضافا إلى ما أشير إليه سابقا حول اختيار عدد تسعة عشر لأصحاب النّار.

ثمّ يضيف تعالى أيضا :( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) .

ورد في رواية أنّ جماعة من اليهود سألوا أحد أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عدد خزنة النّار فقال : «الله ورسوله أعلم» فهبط جبرائيلعليه‌السلام على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآية( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) .(٢)

وسكوت هؤلاء اليهود وعدم اعتراضهم على هذا الجواب يدلّ على أنّه موافقا لما هو مذكور في كتبهم ، وهذا مدعاة لازدياد يقينهم بنبوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصار قبولهم هذا سببا في تمسك المؤمنين بإيمانهم وعقائدهم.

لذا تضيف الآية في الفقرة الأخرى :( وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ) .

__________________

(١) أصحاب النّار : ذكرت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن وكلّها تعني الجهنميين ، إلّا في هذا الموضع فإنّها بمعنى خزنة جهنم ، وذكر هذه العبارة يشير إلى أنّ كلمة «سقر» في الآيات السابقة تعني جهنّم بكاملها وليس قسما خاصّا منها.

(٢) نقل هذا الحديث البيهقي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تفسير المراغي ، ج ٢٩ ، ص ١٣٤).

١٧٦

ثمّ تعود مباشرة بعد ذكر هذه الآية إلى التأكيد على تلك الأهداف الثلاثة ، إذ يعتمد مجددا على إيمان أهل الكتاب ، ثمّ المؤمنين ، ثمّ على اختبار الكفّار والمشركين ، فيقول :( وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً ) (١) .

وأمّا من يقصد به في قوله :( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) فقيل المراد منهم المنافقون ، لأنّ هذا التعبير كثيرا ما ورد فيهم في آيات القرآن كما هو في الآية (١٠) من سورة البقرة التي تتحدث حول المنافقين بقرينة الآيات السابقة لها واللاحقة حيث نقرأ :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) وبهذا الدليل تمسكوا بمدنية الآية السابقة ، لأنّ المنافقين نشؤوا في المدينة عند اقتدار الإسلام وليس بمكة ، ولكن تحقيق موارد ذكر هذه العبارة في القرآن الكريم يشير إلى أنّ هذه العبارة غير منحصرة بالمنافقين ، بل أطلقت على جميع الكفّار والمعاندين والمحاربين لآيات الحقّ ، وعطفت أحيانا على المنافقين حيث يمكن أن يكون دليلا على ثنائيتهم ، فمثلا نقرأ في الآية (٤٩) من سورة الأنفال :( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ) وكذا في الآيات الأخرى ، لذا ليس هناك دليل على نفي مكية الآية ، خصوصا لما من توافق وارتباط كامل من الآيات السابقة لها والتي تشير بوضوح إلى مكيّتها.

ثمّ يضيف حول كيفية استفادة المؤمنين والكفّار الذين في قلوبهم مرض من كلام الله تعالى : فيقول تعالى :( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) .

إنّ الجمل السابقة تشير بوضوح إلى أنّ المشيئة والإرادة الإلهية لهداية البعض وإضلال البعض الأخر ليس اعتباطا ، فإنّ المعاندين والذين في قلوبهم

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ اللام في (ليستيقن) هي لام التعليل وفي (ليقول) لام العاقبة ويمكن أن يكون قد تكرر لهذا الدليل في حين لو كان بمعنى واحد لما كان هناك ضرورة للتكرار ، وبعبارة اخرى أن تيقن المؤمنين هو لإرادة وأمره ، وأمّا حديث الكفّار فليس من إرادته وأمره تعالى شأنه ، بل هو عاقبة هذا الأمر.

١٧٧

مرض لا يستحقون إلّا الضلال ، والمؤمنون والمسلّمون لأمر الله هم المستحقون للهدى.

ويقول في نهاية الآية :( وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ ) .

فالحديث عن التسعة عشر من خزنة النّار ، ليس لتحديد ملائكة الله تعالى ، بل إنّهم كثيرون جدّا أنّ الرّوايات تصفهم أنّهم يملؤون السموات والأرض ، وليس هناك موضع قدم في العالم إلّا وفيه ملك يسبح لله!

واحتمل المفسّرون احتمالات عديدة في من يعود الضمير «هي» ، فقيل : يعود على الجنود ومنهم خزنة النّار ، وقيل : على سقر ، وقيل : على آيات القرآن (السورة) ، والقول الأوّل أنسب وأوجه ، وإن كانت بقية الأقوال مدعاة للتذكر والإيقاظ والمعرفة ، ولأنّ الأوّل يبيّن حقيقة أنّ الله تعالى إنّما اختار لنفسه ملائكة وأخبر عن عددهم ليكون ذكرى لمن يتعظ بها ، لا لكونه غير قادر على معاقبة كل المذنبين والمعاندين.

* * *

ملاحظة :

عدد جنود الرّب!

حضور الله تعالى في كلّ مكان واتساع قدرته في العالم يفهمنا أنّ ذاته المقدّسة غير محتاجة لأي ناصر أو معين ، لكنّه ، لإظهار عظمته للخلائق ولتكون ذكرى لمن يتعظ اختار ملائكة وجنودا كثيرين مطيعين لأمره تعالى.

وقد ذكرت الرّوايات عبارات عجيبة حول كثرة وعظمة وقدرة جنود الله والسماع لهذه الأخبار يثير العجب والدهشة ولا تتفق مع مقاييسنا المتعارفة ، ولذا نقنع بقراءة أوّل.

١٧٨

خطبة في نهج البلاغة للإمام عليعليه‌السلام حول هذا الموضوع حيث يقولعليه‌السلام : «ثمّ فتق ما بين السموات العلا ، فملأهن أطوارا من ملائكته ، فهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، صافون لا يتزايلون ، ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة ، وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربّهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدونه بالأماكن ، ولا يشيرون إليه بالنظائر»

وكما قلنا سابقا إنّ لكلمة (ملك) مفهوما واسعا حيث يشمل الملائكة الذين يملكون العقل والشعور والطاعة والتسليم ، وكذلك كثير من عناصر وقوى عالم الوجود.

ولنا شرح مفصل حول هذا الموضوع في تفسير الآيات الأولى لسورة فاطر وما يليها.

* * *

١٧٩

الآيات

( كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) )

التّفسير

استمرارا للبحث مع المنكرين لنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واليوم الآخر تؤكّد الآيات التالية في أقسام عديدة على مسألة القيامة والجحيم وعذابها ، فيقول تعالى :( كَلَّا وَالْقَمَرِ ) .

«كلّا» : حرف ردع وإنكار لما تقدم أو ردع لما سيأتي ، ويعني هنا نفي تصور المشركين والمنكرين بجهنّم وعذابها ، والساخرين بخزنة جهنّم بقرينة الآيات السابقة.

وأقسم بالقمر لأنّه إحدى الآيات الإلهية الكبرى ، لما فيه من الخلقة والدوران المعظم والنور والجمال والتغييرات التدريجية الحاصلة فيه لتعيين الأيّام باعتباره تقويما حيّا كذلك.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بمثلها وما يقابل العرض بمثله عندنا ، وعند المخالف بنقد البلد(١) .

مسألة ١٥١ : النصاب المعتبر في قيمة مال التجارة هنا هو أحد النقدين : الذهب أو الفضة دون غيرهما ، فلو اشترى بأحد النصب في المواشي مال التجارة وقصرت قيمة الثمن عن نصاب أحد النقدين ، ثم حال الحول كذلك فلا زكاة.

ولو قصر الثمن عن نصاب المواشي بأن اشترى بأربع من الإِبل متاع التجارة وكانت قيمة الثمن أو السلعة تبلغ نصاباً من أحد النقدين تعلّقت الزكاة به.

إذا عرفت هذا ، فالنصاب الأول قد عرفت أنّه عشرون ديناراً أو مائتا درهم ، فإذا بلغت القيمة أحدهما ثبتت الزكاة ، ثم الزائد إن بلغ النصاب الثاني وهو أربعة دنانير أو أربعون درهماً ثبتت فيه الزكاة وهو ربع عُشرة أيضاً ، وإلّا فلا ، ولم يعتبر الجمهور النصاب الثاني كالنقدين ، وقد سلف.

مسألة ١٥٢ : إذا اشترى سلعاً للتجارة في أشهر متعاقبة ، وقيمة كلّ واحد نصاب‌ يزكّي كلّ سلعة عند تمام حولها ، ولم يضمّ بعضها إلى بعض.

وإن كانت الاُولى نصاباً فحال حولها وهي نصاب وحال حول الثانية والثالثة وقيمة كلّ منهما أقلّ من نصاب أخذ من الأول الزكاة خمسة دراهم ، ومن الثاني والثالث من كلّ أربعين درهماً درهم.

ولو كان العرض الأول ليس بنصاب وكمل بالثاني نصاباً فحولهما من حين ملك الثاني ، ولا يضمّ الثالث إليهما ، بل ابتداء الحول من حين ملكه ، وتثبت فيه الزكاة - وإن كان أقلّ من النصاب الأول - إذا بلغ النصاب الثاني ، لأنّ قبله نصاباً.

مسألة ١٥٣ : إذا اشترى عرضاً للتجارة بأحد النقدين‌ ، وكان الثمن‌

____________________

(١) المجموع ٦ : ٦٦ - ٦٧ ، فتح العزيز ٦ : ٧٦.

٢٢١

نصاباً ، قال الشيخ : كان حولُ السلعة حولَ الأصل(١) ؛ وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأصحاب الرأي ، لأنّ زكاة التجارة تتعلّق بالقيمة وقيمته هي الأثمان نفسها لكنها كانت ظاهرةً فخفيت.

ولأنّ النماء في الغالب إنّما يحصل في التجارة بالتقليب ، فلو كان ذلك يقطع الحول لكان السبب الذي تثبت فيه الزكاة [ لأجله ](٢) مانعا منها(٣) .

ولو قيل : إن كان الثمن من مال تجارة بنى على حوله وإلاّ استأنف ، كان وجها.

ولو كان أقلّ من النصاب فلا زكاة ، فإن ظهر ربح حتى بلغ به نصاباً جرى في الحول من حين بلوغ النصاب عند علمائنا أجمع ، وهو أحد وجهي الشافعية ، والآخر : أنّه يبنى على الحول من حين الشراء ، لأنّه يعتبر النصاب في آخر الحول على الأقوى من وجهيه(٤) .

فروع :

أ - لو اشتراه بنصاب من السائمة فإن كانت للقُنية فالأقرب انقطاع حول السائمة ، ويبتدئ حول التجارة من يوم الشراء ؛ لاختلاف الزكاتين في القدر والتعلّق ، وهو أحد وجهي الشافعي ، وفي الآخر : يبني عليه كالنقدين(٥) .

وإن كانت للتجارة فالوجه البناء على حولها.

ب - البناء على حول الأصل إنّما يكون لو اشتراه بعين النصاب ، ولو‌

____________________

(١) الخلاف ٢ : ٩٤ ، المسألة ١٠٨ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٢٠ - ٢٢١.

(٢) زيادة أثبتناها من المغني والشرح الكبير.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٥ - ٦٣٦ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٨ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣ - ٥٤.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤.

(٥) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٠١.

٢٢٢

اشتراه في الذمة ونقد النصاب في الثمن انقطع حول الثمن نقداً كان أو ماشيةً ، وابتدأ حول التجارة من يوم الشراء ، لأنّ النصاب لم يتعيّن للصرف إلى هذه الجهة.

ج - لو اشترى عرضاً للتجارة بعرض للقُنية كأثاث البيت كان حول السلعة من حين ملكها للتجارة ، وبه قال الشافعي وأحمد(١) .

وقال مالك : لا يدور في حول التجارة إلّا أن يشتريها بمال تجب فيه الزكاة كالذهب والفضة(٢) .

د - لو باع مال التجارة بالنقد من الذهب أو الفضة وقصد بالأثمان غير التجارة انقطع الحول ، وبه قال الشافعي(٣) ، لأنّه مال تجب الزكاة في عينه دون قيمته فانقطع الحول بالبيع به كالسائمة.

وقال أحمد : لا ينقطع ، لأنّه من جنس القيمة التي تتعلّق الزكاة بها فلم ينقطع الحول معها به(٤) .

والفرق : أنّ قصد التجارة انقطع ، وتعلّقت به حول زكاة اُخرى.

ولو قصد بالثمن التجارة ، فالأقرب عدم الانقطاع ، وبنى على حول الأول ؛ لأنّا لا نشترط في زكاة التجارة بقاء الأعيان بل القَيِم.

ه- لو أبدل عرض التجارة بما تجب الزكاة في عينه كالسائمة ولم يَنْو به التجارة لم يبن حول أحدهما على الآخر إجماعاً ؛ لأنّهما مختلفان ، وإن أبدله بعرض للقُنية بطل الحول.

و - لو اشتراه بنصاب من السائمة لم يبن على حوله إجماعاً ، لأنّهما مختلفان.

____________________

(١) المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٢ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٧.

(٢) حلية العلماء ٣ : ١٠٣.

(٣ و ٤ ) المغني ٢ : ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٦.

٢٢٣

ز - لا يشترط بقاء عين السلعة طول الحول إجماعاً ، بل قيمتها وبلوغ القيمة النصاب.

مسألة ١٥٤ : لا تجتمع زكاة التجارة والمالية في مالٍ واحد‌ اتّفاقاً ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا ثني(١) في الصدقة )(٢) .

فلو ملك نصاباً من السائمة فحال الحول ، والسوم ونية التجارة موجودان قدّمت زكاة المال عندنا ؛ لأنّها واجبة دون زكاة التجارة ؛ لاستحبابها.

ومن قال بالوجوب اختلفوا ، فالذي قاله الشيخ - تفريعاً على الوجوب - : تقديم المالية أيضاً(٣) ؛ وبه قال الشافعي - في الجديد - لأنّها أقوى ؛ لانعقاد الإجماع عليها واختصاصها بالعين فكانت أولى(٤) .

وقال أبو حنيفة والثوري ومالك وأحمد والشافعي في القديم : يزكّيه زكاة التجارة ، لأنّها أحظّ للمساكين ، لتعلّقها بالقيمة فتجب فيما زاد بالحساب ، لأنّ الزائد عن النصاب قد وجد سبب وجوب زكاته فتجب كما لو لم يبلغ بالسوم نصاباً(٥) .

ونمنع اعتبار ترجيح المساكين ، بل مراعاة المالك أولى ؛ لأنّ الصدقة مواساة فلا تكون سبباً لإِضرار المالك ولا موجبة للتحكّم في ماله.

____________________

(١) أي : لا تؤخذ الزكاة مرّتين في السنة. النهاية لابن الأثير ١ : ٢٢٤.

(٢) كنز العمّال ٦ : ٣٣٢ / ١٥٩٠٢.

(٣) الخلاف ٢ : ١٠٤ ، المسألة ١٢٠ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٢٢.

(٤) الاُم ٢ : ٤٨ ، المجموع ٦ : ٥٠ ، فتح العزيز ٦ : ٨١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٨.

(٥) المبسوط للسرخسي ٢ : ١٧٠ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٨ ، المجموع ٦ : ٥٠ ، فتح العزيز ٦ : ٨١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المنتقى للباجي ٢ : ١٢١ ، وفيها ما عدا المجموع قال مالك بوجوب زكاة العين ؛ على خلاف ما نسب إليه المصنّف ، وأمّا في المجموع فلم يتعرض النووي لقوله.

٢٢٤

فروع :

أ - لو انتفى السوم ثبتت زكاة التجارة وإن كان النصاب ثابتاً ، وكذا لو انتفى النصاب وحصل السوم ؛ لعدم التصادم.

ب - لو فقد شرط زكاة التجارة بأن قصر الثمن عن النصاب أو طلبت بخسارة وجبت زكاة المال إجماعاً ، لعدم التضاد.

ج - لو سبق تعلّق وجوب المالية بأن يملك أربعين من الغنم قيمتها دون مائتي درهم ثم صارت في نصف الحول تعدل مائتين قدّمت زكاة المال ، لثبوت المقتضي في آخر الحول ، السالم عن معارضة المانع.

وقال بعض الجمهور بتأخّر وجوب الزكاة حتى يتم حول التجارة ، لأنّه أنفع للفقراء(١) . وهو ممنوع.

وعلى ما اخترناه إذا تمّ حول التجارة لم يزك الزائد عن النصاب ، لأنّه قد زكّى العين فلا يتعلّق بالقيمة.

وقال بعض الجمهور : تجب زكاة التجارة في الزائد عن النصاب ، لوجود المقتضي فإنّه مال للتجارة حال عليه الحول وهو نصاب(٢) .

وهو ممنوع ؛ لوجود المانع وهو تعلّق الزكاة بالعين.

د - لو اشترى أرضاً أو نخلاً للتجارة فزرعت الأرض وأثمر النخل فاتّفق حولهما بأن يكون بدوّ الصلاح في الثمرة واشتداد الحبّ عند تمام الحول ، وكانت قيمة الأرض والنخل بمفردها نصابا للتجارة فإنّه يزكّي الثمرة والحبّ زكاة العشر ، ويزكّي الأصل زكاه القيمة ، ولا تثبت في الثمرة الزكاتان ، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور(٣) ، لأنّ زكاة العُشر أحظّ للفقراء فإنّ العُشر أكثر من ربع العُشر ، ولأنّ زكاة المال متّفق عليها.

____________________

(١ و ٢ ) المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٩.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤١.

٢٢٥

وقال أحمد : يزكّي الجميع زكاة التجارة ؛ لأنّه مال تجارة فتجب فيه زكاتها كالسائمة(١) .

والفرق : زكاة السوم أولى ، على أنّا نقول بموجبه هناك.

ه- لو اشترى أربعين سائمة للتجارة فعارض بها(٢) في أثناء الحول بأربعين سائمة للتجارة أيضاً ، فإن شرطنا في المالية بقاء عين النصاب سقطت وثبتت زكاة التجارة ، لعدم المانع ، وإلّا أوجبنا زكاة المال.

ولو عارضها بأربعين للقُنية سقطت زكاة التجارة وانعقد حول المالية من المعارضة.

ولو اشترى أربعين للقُنية وأسامها ، ثم عراضها في أثناء الحول بأربعين سائمة للتجارة انعقد حول المالية أو التجارة - على الخلاف - من حين المعارضة.

و - عبد التجارة يخرج عنه الفطرة وزكاة التجارة على ما يأتي.

ز - لو اشترى معلوفة للتجارة ثم أسامها ، فإن كان بعد تمام الحول ثبتت زكاة التجارة في الحول الأوّل ، وانعقد حول الماليّة من حين الإسامة ، وإن كان في الأثناء احتمل زكاة التجارة عند تمام الحول ؛ لعدم المانع ، وانعقاد حول الماليّة من حين الإِسامة.

مسألة ١٥٥ : إذا نوى بعرض التجارة القُنية صار للقنية وسقطت الزكاة‌ عند علمائنا - وبه قال الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي(٣) - لأنّ القُنية الأصل ، ويكفي في الردّ إلى الأصل مجرّد النيّة ، ولأنّ نيّة التجارة شرط لثبوت الزكاة في‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤١.

(٢) المعارضة : بيع المتاع بالمتاع لا نقد فيه. النهاية - لابن الأثير - ٣ : ٢١٤ « عرض ».

(٣) المجموع ٦ : ٤٩ - ٥٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٠ - ٦٣١.

٢٢٦

العروض ، فإذا نوى القنية زال الشرط.

وقال مالك في رواية : لا يسقط حكم التجارة بمجرّد النية كما لو نوى بالسائمة العلف(١) .

والفرق أنّ الإِسامة شرط دون نيّتها فلا ينتفي الوجوب إلّا بانتفاء السوم.

وإذا صار العرض للقُنية بنيّتها فنوى به التجارة لم يصر للتجارة بمجرّد النية على ما قدّمناه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي(٢) .

تذنيب : لو كانت عنده ماشية للتجارة نصف حول فنوى بها الإسامة وقطع نية التجارة انقطع حول التجارة واستأنف حولا للماليّة - وبه قال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي(٣) - لأنّ حول التجارة انقطع بنيّة الاقتناء ، وحول السوم لا يبنى على حول التجارة.

والوجه : أنّها إن كانت سائمةً ابتداء الحول وجبت المالية عند تمامه - وبه قال إسحاق(٤) - لأنّ السوم سبب لوجوب الزكاة وجد في جميع الحول خالياً عن المعارض فتجب به الزكاة ، كما لو لم ينو التجارة.

مسألة ١٥٦ : المشهور عندنا وعند الجمهور أنّ نماء مال التجارة بالنتاج مال تجارة أيضاً‌ - وهو أحد قولي الشافعي(٥) - لأنّ الولد بعض الاُمّ فحكمه حكمها ، فلو اشترى جواري للتجارة فأولدت كانت الأولاد تابعةً لها ، هذا إذا لم تنقص قيمة الاُمّ بالولادة ، فإن(٦) نقصت جعل الولد جابراً بقدر قيمته ؛ لأنّ‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩ ، المجموع ٦ : ٤٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤١.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٢ - ٦٣٣.

(٤) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٣.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٦٥.

(٦) في « ف » والطبعة الحجرية : فلو.

٢٢٧

سبب النقصان انفصاله.

وللشافعي قول آخر : إنّه ليس مالَ التجارة ؛ لأنّ الفائدة التي تحصل من عين المال لا تناسب الاستنماء بطريق التجارة(١) . وهو ممنوع.

إذا ثبت هذا ، فإنه يبتدئ بالحول في النتاج من حين انفصاله ، ولا يبني على حول الأصل ، خلافاً للشافعي(٢) ، وقد سبق(٣) .

فروع :

أ - لو اشترى من الماشية السائمة نصاباً للتجارة فنتجت ، فعندنا تقدّم زكاة المال ، ولا يتبع النتاج الاُمّهات في الحول ، فلم ينعقد سبب المالية في النتاج ، فيبقى سبب التجارة سالماً عن المعارض ، فينعقد حولها من حين الانفصال ، فتثبت الزكاة فيها بعد الحول ، ثم يعتبر حول المالية إن حصل السوم.

ب - لا يبنى النصاب هنا على نصاب الاُمّهات بمعنى أنه يقوّم النتاج بأحد النقدين فإن بلغت قيمته مائتي درهم أو عشرين ديناراً تعلّقت الزكاة به ، ولا يضمّ إلى الاُمّهات في النصاب ، لأنّ الاُمّهات لها زكاة بانفرادها ، ولا يكفي في اعتبار نصابها أربعون درهماً أو أربعة دنانير ، وإن كانت قيمة الاُمهات نصاباً فإشكال.

ج - لو اشترى حديقة للتجارة فأثمرت عنده ، وقلنا : إنّ ثمار التجارة مال تجارة ، أو اشتراها وهي مثمرة مع الثمار فبدا الصلاح عنده حكمنا بوجوب زكاة المال في الثمرة على ما قدّمناه.

ولا تسقط به زكاة التجارة عن قيمة الأشجار - وهو أحد وجهي‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٦٥.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٦٦.

(٣) سبق في المسألة ٣٤.

٢٢٨

الشافعية(١) - لأنّه ليس فيها زكاة مال حتى تسقط بها زكاة التجارة.

وفي الآخر : تسقط ، لأنّ المقصود منها ثمارها وقد أخذنا زكاتها(٢) .

وهو ممنوع.

وكذا لا تسقط عن أرض الحديقة.

وللشافعية طريقان : أحدهما : طرد الوجهين(٣) . والثاني : القطع بعدم السقوط ، لبُعد الأرض عن التبعية ؛ لأنّ الثمار خارجة عن الشجرة ، والشجرة حاصلة ممّا اُودع في الأرض لا من نفسها(٤) .

وأمّا الثمار التي اُخرج الزكاة المالية منها فإنّ حول التجارة ينعقد عليها أيضاً ، وتثبت الزكاة فيها في الأحوال المستقبلة للتجارة وإن كانت الماليّة لا تتكرر ، ويحسب ابتداء الحول للتجارة من وقت إخراج العشر بعد القطاف لا من وقت بدوّ الصلاح ، لأنّ عليه [ بعد ](٥) بدوّ الصلاح تربية [ الثمار ](٦) للمساكين ، فلا يجوز أن يحسب عليه وقت التربية.

د - لو اشترى أرضاً مزروعة للتجارة فأدرك الزرع ، والحاصل نصاب تعلّقت زكاة المال بالزرع ثم يبتدئ حول زكاة التجارة بعد التصفية ، وللشافعية الوجوه السابقة(٧) في الثمرة.

ولو اشترى أرضاً للتجارة وزرعها ببذر القُنية فعليه العُشر في الزرع ، وزكاة التجارة في الأرض ، ولا تسقط زكاة التجارة عن الأرض بأداء العُشر إجماعاً.

ه- الدَّين لا يمنع من زكاة التجارة كما لا يمنع من زكاة العين.

____________________

(١ و ٢ ) المجموع ٦ : ٥٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٣.

(٣) أي : الوجهان اللذان تقدّما آنفاً.

(٤) المجموع ٦ : ٥٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٣ - ٨٤.

(٥ و ٦ ) زيادة يقتضيها السياق.

(٧) سبق في المسألة ١٥٤ الوجهان للشافعي ، وانظر : فتح العزيز ٦ : ٨٣ ، والمجموع ٦ : ٥٢.

٢٢٩

الفصل الثاني

في باقي الأنواع التي تستحب فيها الزكاة‌

مسألة ١٥٧ : كلّ ما يخرج من الأرض من الغلّات غير الأربع تستحب فيها الزكاة‌ إن كان ممّا يكال أو يوزن كالعدس والماش والاُرز والذرّة وغيرها بشرط بلوغ النصاب في الغلّات الأربع - وهو خمسة أوسق - لعموم قولهعليه‌السلام : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )(١) .

والقدر المخرج هو العشر إن سقي سيحاً أو بعلاً أو عذياً ، ونصفه إن سقي بالقرب والدوالي كما في الغلّات.

ولو اجتمعا حكم للأغلب ، فإن تساويا قسّط ويؤخذ من نصفه العشر ومن نصفه نصف العُشر ، وتثبت بعد إخراج المؤن كالواجب.

ولا زكاة في الخُضراوات.

وفي ضمّ ما يزرع مرّتين في السنة كالذرّة بعضه مع بعض نظر ، وكذا الدّخن ، والأقرب : الضمّ ، لأنّها في حكم زرع عام واحد.

____________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٣٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٧٣ / ٩٧٩ ، سنن أبي داود ٢ : ٩٤ / ١٥٥٨ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٢ / ٦٢٦ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٢ / ١٧٩٤ ، سنن الدارقطني ٢ : ٩٩ / ٢٠ ، مسند أحمد ٢ : ٤٠٣ ، و ٣ : ٩٧ ، وسنن البيهقي ٤ : ١٢١.

٢٣٠

ويدلّ على استحباب الزكاة بعد ما تقدّم : قول الصادقعليه‌السلام : « كلّ ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة » وقال : « جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الصدقة في كلّ شي‌ء أنبتته الأرض إلّا الخضر والبقول وكلّ شي‌ء يفسد من يومه »(١) .

وقالعليه‌السلام وقد سأله زرارة في الذرة شي‌ء؟ فقال : « الذرّة والعدس والسّلت والحبوب فيها مثل ما في الحنطة والشعير ، وكلّ ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق التي تجب فيها الزكاة فعليه فيه الزكاة»(٢) .

أمّا الخُضر فلا زكاة فيها إلّا أن تباع ، ويحول على ثمنها الحول ، وتكون الشرائط موجودةً فيه ، لقول الصادقعليه‌السلام : « ليس على الخضر ولا على البطيخ ولا على البقول وأشباهه زكاة إلّا ما اجتمع عندك من غلّة فبقي عندك سنة »(٣) .

وسأل زرارة الصادقعليه‌السلام هل في القَضْب(٤) شي‌ء؟ قال : « لا »(٥) .

وسأل الحلبي ، الصادقعليه‌السلام ما في الخضرة؟ قال : « وما هي؟ » قلت : القضب والبطيخ ومثله من الخضر. فقال : « لا شي‌ء عليه إلّا أن يباع مثله بمال فيحول عليه الحول ففيه الصدقة » وعن شجر العضاة(٦) من الفرسك(٧) وأشباهه فيه زكاة؟ قال : « لا » قلت : فثمنه(٨) ؟ قال : « ما حال‌

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٦٥ / ١٧٦ ، والكافي ٣ : ٥١٠ / ٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٦٥ / ١٧٧.

(٣) الكافي ٣ : ٥١١ / ١ ، التهذيب ٤ : ٦٦ / ١٧٩.

(٤) القضب : كلّ نبت اقتضب واُكل طريّاً. مجمع البحرين ٢ : ١٤٤ « قضب ».

(٥) التهذيب ٤ : ٦٦ / ١٨٠.

(٦) العضاة : كلّ شجر يعظم وله شوك. الصحاح ٦ : ٢٢٤٠ « عضه ».

(٧) الفرسك : ضرب من الخوخ ليس يتفلّق عن نواه. الصحاح ٤ : ١٦٠٣ « فرسك ».

(٨) في « ف » والتهذيب : قيمته.

٢٣١

عليه الحول من ثمنه فزكِّه »(١) .

مسألة ١٥٨ : لا تجب الزكاة في الخيل‌ بإجماع أكثر العلماء ، وبه قال - في الصحابة - عليعليه‌السلام وعمر وابنه ، وفي التابعين : عمر بن عبد العزيز وعطاء والنخعي والشعبي والحسن البصري ، وفي الفقهاء : مالك والشافعي والأوزاعي والليث بن سعد واحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد(٢) .

لما رواه عليعليه‌السلام : « أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق »(٣) .

وقالعليه‌السلام : ( ليس في الجَبْهة ولا في النخّة ولا في الكسعة صدقة )(٤) والجبهة : الخيل ؛ والنخة : الرقيق ، والكسعة : الحمير(٥) .

وقال ابن قتيبة : هي العوامل من الإِبل والبقر والحمير.

ومن طريق الخاصة قول الباقرعليه‌السلام : « وليس في الحيوان غير هذه الثلاثة الأصناف شي‌ء »(٦) وعنى الإِبل والبقر والغنم.

وللأصل ، ولأنّ كلّ جنس لا تجب الزكاة في ذكورة إذا انفردت لا تجب في إناثه ، ولكونه كالحُمُر.

وقال أبو حنيفة : إن كانت ذكوراً وإناثاً وجب فيها ، وإن كانت إناثاً منفردة فروايتان ، وكذا إن كانت ذكوراً منفردة ؛ لما رواه الصادقعليه‌السلام عن الباقر‌

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥١٢ / ٣ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٢.

(٢) المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، المجموع ٥ : ٣٣٩ ، بداية المجتهد ١ : ٢٥٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٣.

(٣) سنن البيهقي ٤ : ١١٨ ، وشرح معاني الآثار ٢ : ٢٨ ، ومسند أحمد ١ : ١٢١ و ١٤٥.

(٤) سنن البيهقي ٤ : ١١٨ ، وغريب الحديث - للهروي - ١ : ٧.

(٥) قاله أبو عبيدة كما في غريب الحديث - للهروي - ١ : ٧.

(٦) التهذيب ٤ : ٢ / ٢ ، الاستبصار ٢ : ٢ / ٢.

٢٣٢

عليه‌السلام عن جابر أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( في الخيل السائمة في كلّ فرس دينار )(١) .

ولأنّه يطلب نماؤه من جهة السوم فأشبه النعم(٢) .

والحديث محمول على الاستحباب ، والنعم يضحّى بجنسها ، وتجب(٣) فيها من عينها ، بخلاف الخيل.

مسألة ١٥٩ : أجمع علماؤنا على استحباب الزكاة في الخيل بشروط ثلاثة : السوم والأنوثة والحول ، لأنّ زرارة قال للصادقعليه‌السلام : هل في البغال شي‌ء؟ قال : « لا » فقلت : فكيف صار على الخيل ولم يصر على البغال؟ فقال : « لأنّ البغال لا تلقح ، والخيل الإِناث ينتجن ، وليس على الخيل الذكور شي‌ء » قال ، قلت : هل على الفرس والبعير يكون للرجل يركبها شي‌ء؟ فقال : « لا ، ليس على ما يعلف شي‌ء ، إنّما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها(٤) عامها الذي يقتنيها فيه الرجل ، فأمّا ما سوى ذلك فليس فيه شي‌ء »(٥) .

مسألة ١٦٠ : قدر المخرج عن الخيل‌ عن كلّ فرس عتيق ديناران في كلّ حول ، وعن البرذون دينار واحد عند علمائنا ، لقول الباقر والصادقعليهما‌السلام : « وضع أمير المؤمنينعليه‌السلام على الخيل العتاق الراعية في كلّ‌

____________________

(١) سنن البيهقي ٤ : ١١٩.

(٢) المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٣ - ١٤ ، فتح الباري ٣ : ٢٥٥.

(٣) أي : تجب الزكاة.

(٤) ورد في النُسخ الخطية المعتمدة في التحقيق ، والطبعة الحجرية : مراحها. وما أثبتناه من المصادر ، والمرج : الموضع الذي ترعى فيه الدواب. الصحاح ١ : ٣٤٠ ، القاموس المحيط ١ : ٢٠٧ « مرج ».

(٥) الكافي ٣ : ٥٣٠ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٧ - ٦٨ / ١٨٤.

٢٣٣

فرس في كلّ عام دينارين ، وجعل على البراذين ديناراً »(١) .

وقال أبو حنيفة : يتخيّر صاحبها إن شاء أعطى من كلّ فرس ديناراً ، وإن شاء قوّمها وأعطى ربع عُشر قيمتها ؛ لما رواه جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام عن أبيه الباقرعليه‌السلام عن جابر : ( أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( في الخيل السائمة في كلّ فرس دينار )(٢) .

وهو دليل لنا لا له.

مسألة ١٦١ : العقار المتّخذ للنماء تستحب الزكاة في حاصله‌ ، ولا يشترط فيه الحول ولا النصاب ؛ للعموم ، بل يخرج ممّا يحصل منه ربع العُشر ، فإن بلغ نصاباً وحال عليه الحول وجبت الزكاة ، لوجود المقتضي ، ولا تستحب الزكاة في شي‌ء غير ذلك من الأثاث والأمتعة والأقمشة المتّخذة للقنية بإجماع العلماء.

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣٠ / ١ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٣ ، الاستبصار ٢ : ١٢ / ٣٤.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، فتح الباري ٣ : ٢٥٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٤ ، وانظر أيضاً : سنن البيهقي ٤ : ١١٩.

٢٣٤

٢٣٥

المقصد الرابع

في الإِخراج‌

وفيه فصول :

الأول : في من تخرج الزكاة إليه.

وفيه مباحث‌

٢٣٦

٢٣٧

الأول : في الأصناف‌

مسألة ١٦٢ : أصناف المستحقين للزكاة ثمانية‌ بإجماع العلماء ، وهُم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله :( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (١) .

وقد اختلف الفقهاء في الفقراء والمساكين أيّهما أسوأ حالاً ، فقال الشيخ : الفقير : الذي لا شي‌ء له ، والمسكين هو : الذي له بُلغة من العيش لا تكفيه(٢) . فجعل الفقير أسوأ حالاً ، وبه قال الشافعي والأصمعي(٣) ، لأنّه تعالى بدأ به ، والابتداء يدلّ على شدّة العناية والاهتمام في لغة العرب.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله استعاذ من الفقر(٤) ، وقال : ( اللّهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين )(٥) .

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٤٦ ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ٢٠٦.

(٣) المجموع ٦ : ١٩٦ - ١٩٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٥١ - ١٥٢ ، المغني ٧ : ٣١٣.

(٤) سنن النسائي ٨ : ٢٦١ ، سنن البيهقي ٧ : ١٢ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٥٤٠ - ٥٤١ ، مسند أحمد ٢ : ٣٠٥ ، ٣٢٥ ، ٣٥٤.

(٥) سنن الترمذي ٤ : ٥٧٧ / ٢٣٥٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٨١ / ٤١٢٦ ، سنن البيهقي ٧ : ١٢ ، المستدرك - للحاكم - ٤ : ٣٢٢.

٢٣٨

ولقوله تعالى( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) (١) وهي تساوي جملة من المال.

ولأنّ الفقر مشتق من كسر الفقار وذلك مهلك.

وقال آخرون : المسكين أسوأ حالاً من الفقير(٢) . وبه قال أبو حنيفة والفراء وثعلب وابن قتيبة ، واختاره أبو إسحاق(٣) ؛ لقوله تعالى( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) (٤) وهو المطروح على التراب ، لشدّة حاجته ، ولأنّه يؤكّد به ، ولقول الشاعر :

أمّا الفقير الذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد(٥)

والمروي عن أهل البيتعليهم‌السلام هذا ، قال الصادقعليه‌السلام : « الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين أجهد منه ، والبائس أجهدهم »(٦) .

ولا فائدة للفرق بينهما في هذا الباب ؛ لأنّ الزكاة تدفع إلى كُلّ منهما ، والعرب تستعمل كلّ واحد منهما في معنى الآخر.

نعم يحتاج إلى الفرق بينهما في باب الوصايا والنذور وغيرهما ، والضابط في الاستحقاق : عدم الغنى الشامل لهما.

مسألة ١٦٣ : قد وقع الإِجماع على أنّ الغني لا يأخذ شيئاً من الزكاة‌ من‌

____________________

(١) الكهف : ٧٩.

(٢) منهم : الشيخ المفيد في المقنعة : ٣٩ ، وسلّار في المراسم : ١٣٢.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ٣ : ٨ ، اللباب ١ : ١٥٣ - ١٥٤ ، المجموع ٦ : ١٩٦ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٢ ، المغني ٧ : ٣١٣ ، تفسير غريب القرآن - لابن قتيبة - : ١٨٨ ، أحكام القرآن - للجصّاص - ٣ : ١٢٢.

(٤) البلد : ١٦.

(٥) البيت للراعي ، كما في تهذيب اللغة - للأزهري - ٩ : ١١٤.

(٦) الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٦ ، التهذيب ٤ : ١٠٤ / ٢٩٧.

٢٣٩

نصيب الفقراء ؛ للآية(١) ، ولقولهعليه‌السلام : ( لا تحلّ الصدقة لغني )(٢) .

ولكن اختلفوا في الغنى المانع من الأخذ ، فللشيخ قولان ، أحدهما : حصول الكفاية حولاً له ولعياله(٣) ، وبه قال الشافعي ومالك(٤) ، وهو الوجه عندي ، لأنّ الفقر هو الحاجة.

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ) (٥) أي المحاويج إليه ، ومن لا كفاية له محتاج.

وقولهعليه‌السلام : ( لا تحلّ الصدقة إلّا لثلاثة : رجل أصابته فاقة حتى يجد سداداً من عيش ، أو قواماً من عيش )(٦) .

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « لا تحل(٧) لغني » يعني الصدقة ، قال هارون بن حمزة فقلت له : الرجل يكون له ثلاثمائة درهم في بضاعته وله عيال ، فإن أقبل عليها أكلها عياله ولم يكتفوا بربحها؟ قال : « فلينظر ما يستفضل منها فيأكله هو ومن يسعه ذلك ، وليأخذ لمن لم يسعه من عياله »(٨) .

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١١٨ / ١٦٣٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٨٩ / ١٨٣٩ ، سنن الترمذي ٣ : ٤٢ / ٦٥٢ ، سنن النسائي ٥ : ٩٩ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٤٠٧ ، مسند أحمد ٢ : ١٦٤ ، ١٩٢ ، ٣٨٩ و ٥ : ٣٧٥.

(٣) الخلاف ، كتاب قسم الصدقات ، المسألة ٢٤ ، المبسوط للطوسي ١ : ٢٥٦.

(٤) المجموع ٦ : ١٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٣ ، المغني ٢ : ٥٢٢ و ٧ : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٩.

(٥) فاطر : ١٥.

(٦) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٢ / ١٠٤٤ ، سنن أبي داود ٢ : ١٢٠ / ١٦٤٠ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٢٠ / ٢ ، سنن الدارمي ١ : ٣٩٦ ، وفيها بدل ( لا تحل الصدقة ) : ( لا تحل المسألة ).

(٧) في المصدر : « لا تصلح ».

(٨) التهذيب ٤ : ٥١ / ١٣٠.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511