الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135872 / تحميل: 5382
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ثمّ يضيف :( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) ،( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) .(١)

في الحقيقة أنّ هذه الأقسام الثلاثة مرتبطة بعضها بالآخر ومكملة للآخر ، وكذلك لأنّنا كما نعلم أنّ القمر يتجلى في الليل ، ويختفي نوره في النهار لتأثير الشمس عليه ، والليل وإن كان باعثا على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل ، ولكن الليل المظلم يكون جميلا عند ما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضيء وآخر السحر ، وطلوع الصبح المنهي الليل المظلم أصفى وأجمل من كل شيء حيث يثير في الإنسان إلى النشاط ويجعله غارقا في النور الصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنيا مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات (الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد) ، ثمّ ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى :( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) .(٢)

إنّ الضمير في (إنّها) إمّا يرجع إلى «سقر» ، وإمّا يرجع إلى الجنود ، أو إلى مجموعة الحوادث في يوم القيامة ، وأيّا كانت فإنّ عظمتها واضحة.

ثمّ يضيف تعالى :( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) .(٣)

لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفّار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفا أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة ، بل :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) فهنيئا لمن يتقدم ، وتعسا وترحا لمن يتأخر.

واحتمل البعض كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه ، وقيل هو تقدم النفس

__________________

(١) «أسفر» من مادة (سفر) على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب ، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيها جميلا لطلوع الشمس.

(٢) «كبر» : جمع كبرى وهي كبيرة ، وقيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنّم ، هذا المعنى لا يتفق مع ما أشرنا إليه من قبل وكذا مع الآيات.

(٣) «نذيرا» : حال للضمير في «أنّها» الذي يرجع إلى سقر ، وقيل هو تمييز ، ولكنه يصح فيما لو كان النذير مصدرا يأتي بمعنى (الإنذار) ، والمعنى الأوّل أوجه.

١٨١

الإنسانية وتكاملها أو تأخرها وانحطاطها ، والمعنى الأوّل والثّالث هما المناسبان ، دون الثّاني.

* * *

١٨٢

الآيات

( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) )

التّفسير

لم صرتم من أصحاب الجحيم؟

إكمالا للبحث الذي ورد حول النّار وأهلها في الآيات السابقة ، يضيف تعالى في هذه الآيات :( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) .

«رهينة» : من مادة (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض ، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها ، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت ، وإلّا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائما ، ونقل عن أهل اللغة أنّ أحد

١٨٣

معانيها الملازمة والمصاحبة(١) ، فيكون المعنى : الكلّ مقترنون بمعية أعمالهم سواء الصالحون أم المسيئون.

لذا يضيف مباشرة :( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنّة بدون حساب.(٢)

وهناك أقوال كثيرة حول المقصود من أصحاب اليمين :

فقيل هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم ، وقيل هم المؤمنون الذين لم يرتكبوا ذنبا أبدا ، وقيل هم الملائكة ، وقيل غير ذلك والمعنى الأوّل يطابق ظاهر الآيات القرآنية المختلفة ، وما له شواهد قرآنية ، فهم ذو وإيمان وعمل صالح ، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٣) .

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنّة بلا حساب ، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل ، كما جاء في سورة الإنشقاق آية (٧) :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) .

ونقل المفسّر المشهور «القرطبي» وهو من أهل السنة تفسير هذه الآية عن الإمام الباقرعليه‌السلام فقال : «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت فهم مرتهنون».(٤)

وأورد هذا الحديث مفسّرون آخرون منهم صاحب مجمع البيان ونور

__________________

(١) لسان العرب مادة : رهن.

(٢) قال الشّيخ الطوسي في التبيان أن الاستثناء هنا هو منقطع وقال آخرون كصاحب (روح البيان) أنّه متصل ، وهذا الاختلاف يرتبط كما ذكرنا بالتفسيرات المختلفة لمعنى الرهينة ، وما يطابق ما اخترناه من التّفسير هو أن الاستثناء هنا منقطع وعلى التفسير الثّاني يكون متصلا.

(٣) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٧٨.

١٨٤

الثقلين والبعض الآخر أورده تذييلا لهذه الآيات.

ثمّ يضيف مبيّنا جانبا من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم :

( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ) (١) ( عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) .

يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النّار ، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النّار والتحدث معهم ، ولكن ماذا سيجيب المجرمون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها :

الاولى :( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) .

لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة بالله تعالى ، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط الله المستقيم.

والأخرى :( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) .

وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين ، ولكن الظاهر أنه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموما بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسّرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة ، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سببا في دخول النّار ، وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى على أنّ الزّكاة كانت قد فرضت بمكّة بصورة إجمالية ، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.

والثّالثة :( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) .

كنّا نؤيد ما يصدر ضدّ الحقّ في مجالس الباطل. نقوم بالترويج لها ، وكنّا معهم

__________________

(١) «يتساءلون» : وهو وإن كان من باب (تفاعل) الذي يأتي عادة في الأعمال المشتركة بين اثنين أو أكثر ، ولكنه فقد هذا المعنى هنا كما في بعض الموارد الأخرى ، ولمعنى يسألون ، وتنكير الجنات هو لتبيان عظمتها و (في جنات) خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو في جنات.

١٨٥

أين ما كانوا ، وكيف ما كانوا ، وكنّا نصدق أقوالهم ، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحقّ.

«نخوض» : من مادة (خوض) على وزن (حوض) ، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء ، ويطلق على الدخول والتلوث بالأمور ، والقرآن غالبا ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.

(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات الله للاستهزاء أو ما تروج فيها البدع ، أو المزاح الواقح ، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الافتخار والتلذذ بذكرها ، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والاتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك ، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الاستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

وأخيرا يضيف :( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) .

من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية ، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم ، ويرفع كلّ مانع هذا الطريق ، خصوصا إذا استمر إلى آخر العمر ، على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ الكفار هم مكلّفون بفروع الدين ، كما هم مكلّفون بالأصول ، وكذلك تشير إلى أن الأركان الاربعة ، أي الصلاة والزّكاة وترك مجالس أهل الباطل ، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان ، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكانا للمصلين الواقعيين ، والمؤتين الزّكاة ، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

بالطبع فإنّ الصلاة هي عبادة الله ، ولكنّها لا تنفع إذا لم يمتلك الإنسان الإيمان به تعالى ، ولهذا فإنّ أداءها رمز للإيمان والإعتقاد بالله والتسليم لأوامره ، ويمكن القول إنّ هذه الأمور الأربعة تبدأ بالتوحيد ينتهي بالمعاد ، وتحقق العلاقة والرابطة بين الإنسان والخالق ، وكذا بين المخلوقين أنفسهم.

١٨٦

والمشهور بين المفسّرين أنّ المراد من (اليقين) هنا هو الموت ، لأنّه يعتبر أمر يقيني للمؤمن والكافر ، وإذا شك الإنسان في شيء ما فلا يستطيع أن يشك بالموت ونقرأ أيضا في الآية (٩٩) من سورة الحجر :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

ولكن ذهب البعض إلى أنّ اليقين هنا يعني المعرفة الحاصلة بعد موت الإنسان وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة ، وهذا ما يتفق نوعا ما مع التّفسير الأوّل.

وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى :( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) .

فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل الله والائمّة ، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل ، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية ، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية ، لا يكن للماء الزلال أن يحييها ، وبعبارة أخرى كما قلنا في بحث الشفاعة ، فإنّ الشفاعة من (الشفع) وتعني ضم الشيء إلى آخر ، ومعنى هذا الحديث هو أنّ المشفّع له يكون قد قطع قسطا من الطريق وهو متأخر عن الركب في مآزق المسير ، فتضم إليه شفاعة الشافع لتعينه على قطع بقية الطريق(١) .

وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند الله ، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة ، وكذلك توكّد على أنّ للشفاعة شروطا وأنّها لا تعني إعطاء الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب ، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وإيصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع ، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين الله تعالى والأولياء.

* * *

__________________

(١) التّفسير الأمثل ، المجلد الأوّل ، ذيل الآية (٤٨) من سورة البقرة.

١٨٧

ملاحظة :

شفعاء يوم القيامة :

نستفيد من هذه الآيات والآيات القرآنية الأخرى أنّ الشفعاء كثيرون في يوم القيامة (مع اختلاف دائرة شفاعتهم) ويستفاد من مجموع الرّوايات الكثيرة والمنقولة من الخاصّة والعامّة أنّ الشفعاء يشفعون للمذنبين لمن فيه مؤهلات الشفاعة :

١ ـ الشفيع الأوّل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما نقرأ في حديث حيث قال : «أنا أوّل شافع في الجنّة»(١) .

٢ ـ الأنبياء من شفعاء يوم القيامة ، كما ورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع الأنبياء في كلّ من يشهد أن لا إله إلّا الله مخلصا فيخرجونهم منها»(٢) .

٣ ـ الملائكة من شفعاء يوم المحشر ، كما نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يؤذن للملائكة والنّبيين والشّهداء أن يشفعوا»(٣) .

٤ ، ٥ ـ الأئمّة المعصومين وشيعتهم كما قال في ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال : «لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة»(٤)

٦ ، ٧ ـ العلماء والشّهداء كما ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء»(٥) .

وورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يشفع الشّهيد في سبعين إنسانا

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٣٠.

(٢) مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ١٢.

(٣) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٤٣.

(٤) الخصال للصدوقرحمه‌الله ، ص ٦٢٤.

(٥) سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ١٤٤٣.

١٨٨

من أهل بيته»(١) .

وفي حديث آخر نقله المجلسي في بحار الأنوار : «إنّ شفاعتهم تقبل في سبعين ألف نفر»(٢) .

ولا منافاة بين الرّوايتين إذ أنّ عدد السبعين والسبعين ألف هي من أعداد الكثرة.

٨ ـ القرآن كذلك من الشفعاء في يوم القيامة كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «واعلموا أنّه (القرآن) شافع مشفع»(٣) .

٩ ـ من مات على الإسلام فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بلغ الرجل التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفّع في أهله»(٤) .

١٠ ـ العبادة : كما جاء في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»(٥) .

١١ ـ ورد في بعض الرّوايات أنّ العمل الصالح كأداء الأمانة يكون شافعا في يوم القيامة.(٦)

١٢ ـ والطريف هو ما يستفاد من بعض الرّوايات من أنّ الله تعالى أيضا يكون شافعا للمذنبين في يوم القيامة ، كما ورد في الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع النّبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي»(٧) .

والرّوايات كثيرة في هذه الباب وما ذكرناه هو جانب منها.(٨)

__________________

(١) سنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٠٠ ، ص ١٤.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ، ١٧٦.

(٤) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٨٩.

(٥) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ١٧٤.

(٦) مناقب ابن شهر آشوب ، ج ٢ ، ص ١٤.

(٧) صحيح البخاري ، ج ٩ ، ص ١٤٩.

(٨) للاستيضاح يمكن مراجعة كتاب مفاهيم القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٨٨ ـ ٣١١.

١٨٩

ونكرر أنّ للشفاعة شروطا لا يمكن بدونها التشفع وهذا ما جاء في الآيات التي بحثناها والتي تشير بصراحة الى عدم تأثير شفاعة الشفعاء في المجرمين ، فالمهم أن تكون هناك قابلية للتشفع ، لأنّ فاعلية الفاعل لوحدها ليست كافية (أوردنا شرحا مفصلا في هذا الباب في المجلد الأوّل في بحث الشفاعة)

* * *

١٩٠

الآيات

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦) )

التّفسير

يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد :

تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النّار ، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحقّ والحقيقة.

فيقول الله تعالى أوّلا :( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (١) لم يفرّون من دواء

__________________

(١) «ما» مبتدأ و (لهم) خبر و (معرضين) حال الضمير لهم (وعن التذكرة) جار ومجرور ومتعلق بالمعرضين ، وقيل تقديم (عن التذكرة) على (معرضين) دلالة على الحصر أي أنّهم أعرضوا عن التذكرة المفيدة فقط ، على كل حال فإنّ المراد من التذكرة هنا كلّ ما هو نافع ومفيد وعلى رأسها القرآن المجيد.

١٩١

القرآن الشافي؟ لم يطعنون في صدر الطبيب الحريص عليهم؟ حقّا إنّه مثير( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) .

«حمر» : جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي ، بقرينة فرارهم من قبضة الأسد والصياد ، وبعبارة أخرى أنّ هذه الكلمة ذات مفهوم عام يشمل الحمار الوحشي والأهلي.

«قسورة» : من مادة (قسر) أي القهر والغلبة ، وهي أحد أسماء الأسد ، وقيل هو السهم ، وقيل الصيد ، ولكن المعنى الأوّل أنسب.

والمشهور أنّ الحمار الوحشي يخاف جدّا من الأسد ، حتى أنّه عند ما يسمع صوته يستولي عليه الرعب فيركض إلى كلّ الجهات كالمجنون ، خصوصا إذا ما حمل الأسد على فصيل منها ، فإنّها تتفرق في كل الجهات بحيث يعجب الناظر من رؤيتها.

وهذا الحيوان وحشي ويخاف من كل شيء ، فكيف به إذا رأى الأسد المفترس؟!

على كل حال فإنّ هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح ، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور ، وكذلك لتوحشّهم من كل شيء ، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.

( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (١) ، وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من الله تعالى أن ينزل على كلّ واحد منهم كتابا.

وهذا نظير ما جاء في الآية (٩٣) من سورة الإسراء :( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى

__________________

(١) «صحف» : جمع صحيفة ، وهي الورقة التي لها وجهان ، وتطلق كذلك على الرسالة والكتاب.

١٩٢

تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وكذا في الآية (١٢٤) من سورة الأنعام حيث يقول :( قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) .

وعلى هذا فإنّ كلّا منهم يتنظر أن يكون نبيّا من اولي العزم! وينزل عليه كتابا خاصّا من الله بأسمائهم ، ومع كل هذا فليس هناك من ضمان في أن يؤمنوا بعد كل ذلك.

وجاء في بعض الرّوايات أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا نؤمن بك حتى تأتينا بصحف من السماء عليها فلان ابن فلان من ربّ العالمين ، ويأتي الأمر علنا باتباعك والإيمان بك.(١)

ولذا يضيف في الآية الأخرى :( كَلَّا ) ليس كما يقولون ويزعمون ، فإنّ طلب نزول مثل لهذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية ، والحقيقة( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) .

إذا كانوا يخافون الآخرة فما كانوا يتذرعون بكل هذه الذرائع ، ما كانوا ليكذبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كانوا ليستهزئوا بآيات الله تعالى ، ولا بعدد ملائكته ، ومن هنا يتّضح أثر الإيمان بالمعاد في التقوى والطهارة من المعاصي والذنوب الكبيرة ، والحقّ يقال إن الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنسانا متكبرا ومغرورا وظالما إلى إنسان مؤمن متواضع ومتق عادل.

ثمّ يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطئ :( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) .

إنّ القرآن الكريم قد أوضح الطريق ، ودعانا إلى التبصر فيه ، وأنار لنا السبيل

__________________

(١) تفسير القرطبي ، والمراغي ، وتفاسير اخرى.

١٩٣

ليرى الإنسان موضع أقدامه ، وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلّا بتوفيق من الله وبمشيئته تعالى ، وما يذكرون إلّا ما يشاء الله.

ولهذا الآية عدّة تفاسير :

إحداها : كما ذكرناه سابقا ، وهو أن الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلّا بالتوسل بالله تعالى وطلب الموفقية منه.

وطبيعي أن هذا الإمداد والتوفيق الإلهي لا يتمّ إلّا بوجود أرضية مساعدة لنزوله.

والتّفسير الآخر : ما جاء في الآية السابقة :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) يمكن أن يوجد وهما وأنّ كل شيء مرتبط بإرادة الإنسان نفسه ، وأنّ إرادته مستقلة في كل الأحوال ، وتقول هذه الآية رافعة بذلك هذا الاشتباه ، إنّ الإنسان مرتبط بالمشيئة الإلهية ، وإن هذه الآية مختارا حرّا وهذه المشيئة هي الحاكمة على كل هذا العالم الموجود ، وبعبارة اخرى : إنّ هذا الاختبار والحرية والمعطاة للإنسان في بمشيئته تعالى وإرادته ، ويمكن سلبها أنّى شاء.

وأمّا التّفسير الثّالث فإنّه يقول : إنّهم لا يمكنهم الإيمان إلّا أن يشاء الله ذلك ويجبرهم ، ونعلم أنّ الله لا يجبر أحدا على الإيمان أو الكفر ، والتّفسير الأوّل والثّاني أنسب وأفضل.

وفي النهاية يقول :( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) .

فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكا له تعالى شأنه ، وأن يأملوا مغفرته ، وفي الحقيقة ، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية ، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة ، لذا نقرأ

في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «قال الله : أنا أهل

١٩٤

أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئا أن ادخله الجنّة»(١) .

وبالرغم من أنّ المفسّرين ـ كما رأينا ـ قد أخذوا التقوى هنا بمعناها المفعولي ، وقالوا إنّ الله تعالى أهل لأن يتّقى من الشرك والمعصية ، ولكن هناك احتمالا آخر ، وهو أنّ تؤخذ بمعناها الفاعلي ، أي أن الله أهل للتقوى من كلّ أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخاف الحكمة ، وما عند العباد من التقوى هو قبس ضعيف من ما عند الله ، وإنّ كان التعبير بالتقوى بمعناه الفاعلي والذي يقصد به الله تعالى قليل الاستعمال ، على كل حال فإنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف ، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.

ونتعرض هنا بالدعاء إليه خاضعين متضرعين تعالى :

ربّنا! اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة.

اللهم! إن لم تشملنا ألطافك فإنّنا لا نصل إلى مرادنا ، فامنن علينا بعنايتك.

اللهم! أعنّا على طريق مليء بالمنعطفات والهموم والمصائد الشيطانية الصعبة ، وأعنا على الشيطان المتهيئ لإغوائنا ، فبغير عونك لا يمكننا المسير في هذا الطريق.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة المدّثّر

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٥.

١٩٥
١٩٦

سورة

القيامة

مكيّة

وعدد آياتها أربعون آية

١٩٧
١٩٨

«سورة القيامة»

محتوى السورة :

كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلّا بعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين ، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور :

١ ـ المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

٢ ـ المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

٣ ـ المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والانتقال إلى العالم الآخر.

٤ ـ الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.

فضيلة السورة :

في حديث روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنّه كا مؤمنا بيوم القيامة ، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة»(١) .

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام قال : «من أدمن قراءة( لا أُقْسِمُ ) وكان يعمل بها ، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره ، في أحسن صورة

__________________

(١) مجمع البيان ، ١٠ ـ ، ص ٣٩٣.

١٩٩

تبشّره وتضحك في وجهه ، حتى يجوز الصراط والميزان»(١) .

والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستفيد منه في القرائن التي في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرّواية حيث يقول : «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها» ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.

* * *

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢٠٠

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) )

التّفسير

قسما بيوم القيامة والنفس اللوامة :

تبدأ هذه السورة بقسمين غزيرين بالمعاني ، فيقول تعالى :( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) وهناك أقوال للمفسّرين في ذلك ، فقيل أنّ (لا) زائدة للتأكيد وأنّها لا تنفي القسم ، بل تؤكّده ، وقيل وربّما نافية ، والغاية في ذلك هو أن يقول لا أقسم بذلك لأهمية هذا الموضوع (كالقول لا أقسم بحياتك لأنّها أعلى من القسم).

وأخذ أغلب المفسّرين بالتّفسير الأوّل ، ولكن البعض الآخر بالتّفسير الثّاني حيث قالوا إنّ (لا) الزائدة لا تأتي في أوّل الكلام بل في وسطه ، والأوّل هو الأصح ظاهرا. لأنّ القرآن الكريم قد أقسم بأمور هي أهم من القيامة ، كالقسم بذات الله

٢٠١

المقدّسة ، لذا ليس هناك دليل على عدم القسم هنا بيوم القيامة ، وهناك مثال لاتّخاذ لا الزائدة في أوّل الكلام ، وهو ما ورد في أشعار «امرئ القيس» حيث استعمل «لا» الزائدة في بداية قصائده الشعرية

لا وأبيك ابنة العامر

لا يدعي القوم أني أفر

ولكن ما نعتقده أنّ البحث ليس مهمّا حول ما إذا كانت (لا) نافية أو زائدة ، وذلك لأنّ نتيجة القولين هي واحدة وهي بيان أهمية الموضوع الذي أقسم لأجله.

المهم أنّ نرى ما هي العلاقة والرّابطة الموجودة بين القسمين.

الحقيقة أنّ أحد دلائل وجود «المعاد» هو وجود «محكمة الوجدان» الموجودة أعماق الإنسان ، والتي تنشط وتسر عند الإقدام لإنجاز عمل صالح ، وبهذه الطريقة تثبت صاحبها وتكافئه ، وعند ارتكاب الأعمال السيئة والرذيلة فإنّها سوف تقوم بتقريع صاحبها وتأنّبه وتعذبه إلى حدّ أنّه قد يقدم على الانتحار للتخلص ممّا يمرّ فيه من عذاب الضمير.

وفي الحقيقة أنّ الضمير هو الذي أصدر حكم الإعدام ، وتمّ تنفيذ ذلك بنفسه ، إنّ دوي النفس اللوامة في وجود الإنسان واسع جدّا ، وهي قابلة للتمعن والمطالعة في كلّ الأحوال وفي بحث الملاحظات نشير إلى ذلك بشكل واسع.

عند ما يكون (العالم الصغير) أي وجود الإنسان محكمة في قلبه ، فكيف يمكن للعالم الكبير أن لا يملك محكمة عدل عظمى؟

فمن هنا نفهم وجود البعث والقيامة بواسطة وجود الضمير الأخلاقي ، ومن هنا تتّضح الرابطة الظريفة بين القسمين ، وبعبارة أخرى فإنّ القسم الثّاني هو دليل على القسم الأوّل.

وأمّا ما يراد بـ «النفس اللوامة»(١) فهناك أقوال كثيرة ومختلفة قد ذكرت

__________________

(١) اللوامة : صيغة مبالغة وتعني كثيرة اللوم.

٢٠٢

للمفسّرين ، وأحد تلك التّفاسير المشهورة هو ما ذكرناه آنفا ، وهو أنّ أنّها «الوجدان الأخلاقي» الذي يلوم الإنسان في الدنيا على المعصية ويحفّزه على إصلاح ما بدا منه.

والتّفسير الآخر هو أنّ المراد بالنفس الإنسانية بصورة عامة التي تلوم صاحبها يوم القيامة ، فإذا كان مؤمنا فإنّها تلومه على عدم الإكثار من الصالحات وعلى قلّة الطاعة ، وإن كان كافرا فإنّها تلوم على كفره وشركه وفجوره.

وأمّا الآخر : فالمراد نفس الكافر التي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر ومعصية.

والوجه الأوّل يناسب الآية السابقة والتي تليها ، أجل إنّ لمحكمة الضمير مقاما ومنزلة عظيمة ولهذا يقسم الله بها ، ويستعظم قدرها ، وهي بحقّ عظيمة القدر ، لأنّها أحد العوامل المهمّة لخلاص لإنسان بشرط أن تكون واعية ويقظة وغير عاجزة بسبب الذنوب والآثام.

وممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ جواب القسم محذوف ، وهذا ما تدل عليه الآيات التالية والتقدير «لتبعثن يوم القيامة» أو «أنّكم تبعثون» فيكون المعنى : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أنّكم تبعثون يوم القيامة وتجزون ما كنتم تفعلون.

ومن الظريف أنّ القسم جاء بيوم القيامة على وجود يوم القيامة ، وذلك لأنّه إلى درجة من الوضوح والبداهة أنّه يمكن القسم به حتى في مقابل المنكرين.

ثمّ يستفهم تعالى في الآية الأخرى للتوبيخ فيضيف :( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) .

ورد في رواية أنّ أحد المشركين وهو «عدي بن أبي ربيعة» كان جارا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأل النّبي عن أمر القيامة فأخبره به ، فقال عدي : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ، أو يجمع الله هذه العظام؟ فنزلت هذه الآيات وأجابته على

٢٠٣

ذلك ، ولذا قال فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اللهم اكفني شر جاري سوء»(١) .

وهناك نظائر لهذا المعنى في الآيات القرآنية الأخرى ، منها الآية (٧٨) من سورة (يس) حيث إنّ منكرا من منكري المعاد كانت بيده عظاما ، فقال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) ؟

والتعبير بكلمة «يحسب» التي هي من الحسبان وتعني الظن ، إشارة إلى أنّ المنكرين لا يؤمنون بما يقولون ، بل يعتمدون على ما يظنون من الوهم.

ولكن نرى أنّه قد اعتمد على العظام خاصّة ، وهذا لكون دوام بقاء العظام أكثر من غيرها من أجزاء الجسد ، ولذا تكون إعادتها تكون تربا متأثرا بعيدا في نظر عديمي الإيمان.

ثمّ إنّ العظام من الأركان المهمّة في بدن الإنسان ، لأنّها تشكل أعمدة البدن ، وكلّ الحركات والتغيرات المهمّة الحاصلة في البدن وكذلك فعاليات المختلفة تتمّ بواسطة العظام ، وكثرة وتنوع أشكال ومقاييس العظام في جسم الإنسان من عجائب الخلقة الإلهية ، تتّضح أهميتها عند ما تتعطل فقرة واحدة من فقرات الظهر عن العمل وتسبب في شلّ حركة البدن.

«البنان» : أطراف الأصابع ، وقيل الأصابع ، وفي المعنيين إشارة إلى أنّ الله تعالى ليس القادر على جمع العظام وإرجاعها إلى صورتها الأولى فحسب ، بل إنّه تعالى يسوي العظام الصغيرة والظريفة والدقيقة للأصابع على ما كانت عليها في الخلق الأوّل ، والأعجب من ذلك يمكنه تعالى اعادة بصمات الأصابع كما كانت عليه أيضا.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة لطيفة إلى الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع والتي نادرا ما تتساوى هذه الخطوط عند شخصين.

__________________

(١) أورد هذه الرواية المراغي ، وكذلك ذكرت في روح المعاني ، وتفسير الصافي بتفاوت يسير.

٢٠٤

وبتعبير آخر إنّ هذ الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع هي المعرّفة لشخص الإنسان ، ولذا صار بصم الأصابع في عصرنا هذا أمرا علميا ، وبهذه الطريقة يمكن كشف الكثير من السراق والمجرمين ، فيكفي في كشف السارق وضعه أصابعه على مقبض الباب ، أو زجاجة الغرفة ، أو قفل الصندوق وبقاء أثر خطوط أنامله عليها ، ثمّ يؤخذ من ذلك الطبع نموذج وتتمّ مقابلته مع آثار أصابع اللصوص السابقين التي أخذت منهم سلفا ، وهكذا يعرف المجرم والسارق.

وفي الآية الأخرى إشارة إلى أحد العلل الحقيقة لإنكار المعاد فيقول :( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) ، إنّهم يريدون أن يكذبوا بالبعث وينكروا المعاد ، ليتسنى لهم الظلم وارتكاب المحارم والتنصل عن المسؤولية أمام الخلق ، وذلك لأنّ الإيمان بالمعاد والقيامة ومحكمة العدل الإلهية بمثابة سدّ عظيم في مقابل المعاصي والذنوب والنفس الأمارة تريد كسر هذا السدّ وهذا الطوق ليفجر الإنسان مدى عمره ويعمل ما يشاء ، وهذا ليس منحصرا بالأزمنة السابقة ، بل إنّ إحدى علل الميول إلى المادية وإنكار المبدأ والمعاد في هذا العصر هو كسب الحرية للفجور والهروب من المسؤولية ، وتحطيم كل القوانين الإلهية ، وإلّا فإنّ دلائل المبدأ والمعاد واضحة ، وقد ورد في تفسير علي بن ابراهيم في توضيح معنى هذه الآية حيث قال : يقدّم الذنب ويؤخر التوبة ويقول سوف أتوب.

وقيل المراد من «الفجور» و «التكذيب» ، فيكون المعنى ، يريد أن يكذب بالبعث الذي سوف يقع أمامه ، ولكن التفسير الأوّل أنسب.

ثمّ يضيف بعد ذلك :( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) .

أجل ، إنّه يستفهم مستنكرا عن وقوع يوم القيامة ويهرب ممّا كلّف به لكي يفسح لنفسه طريق الفجور أمامه ، والجدير بالذكر أنّ سؤالهم هذا عن وقت حدوث القيامة لا يعني أنّهم يؤمنون بأصل القيامة ، بل هو مقدّمة لإنكار أصل القيامة كالذي يقول : (فلان سوف يقدم من السفر) وإذا ما تأخر فترة من الزمن يعترض من ينكر قدوم ذلك المسافر فيقول : (متى سوف يأتي المسافر)؟

٢٠٥

ملاحظات

١ ـ محكمة الضمير أو القيامة الصغرى

نستفيد من آيات القرآن المجيد أنّ للنفس الإنسانية ثلاث مراحل :

١ ـ النفس الامارة : وهي النفس العاصية التي تدعو الإنسان إلى الرذائل والقبائح باستمرار ، وتزيّن له الشهوات ، وهذا ما أشارت إليه امرأة عزيز مصر حينما نظرت إلى عاقبة أمرها فقالت :( وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) .(١) ؟

٢ ـ النفس اللوامة : وهي ما أشير إليها في الآيات التي ورد البحث فيها ، وهي نفس يقظة وواعية نسبيا ، فهي تزل أحيانا لعدم حصولها على حصانة كافية مقابل الذنوب ، وتقع في شبك الآثام إلّا أنّها تستيقظ بعد فترة لتتوب وترجع إلى مسير السعادة ، وانحرافها ممكن ، إلّا أنّ ذلك يكون مؤقتا وليس دائما ولا يمضي عليها كثير وقت حتى تعود إلى الملامة والتوبة.

وهذا هو ما يذكرونه تحت عنوان (الضمير الأخلاقي) ويكون هذا قويا جدّا عند بعض الأفراد ، وضعيفا وعاجزا عند آخرين ، ولكن النفس اللوامة لا تموت بكثرة الذنوب عند أي انسان.

٣ ـ النفس المطمئنة : وهي النفس المتكاملة المنتهية إلى مرحلة الاطمئنان والطاعة والمنتهية إلى مقام التقوى والإحساس بالمسؤولية وليس من السهل انحرافها ، وهذا ما ورد في وقوله تعالى :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) (٢) .

__________________

(١) يوسف ، ٥٣.

(٢) الفجر ، ٢٧ ـ ٢٨.

٢٠٦

على كل حال فإنّ النفس اللوامة كما قلنا هي كالقيامة الصغرى في داخل الروح والتي تقوم بمحاسبة الإنسان ، ولذا تحس أحيانا بالهدوء والاستقرار بعد القيام بالأعمال الصالحة وتمتلئ بالسرور والفرح والنشاط.

وبالعكس فإنّها تبتلي أحيانا بكابوس الرذائل والجرائم الكبيرة وأمواج الغم والحيرة ، ويحترق بذلك باطن الإنسان حتى يتنفر من الحياة ، وربّما يبلغ ألم الوجدان أنّه يقدم على تسليم نفسه إلى المحاكم القضائية ليرتقي منصة الإعدام لخلاص نفسه من قبضة هذا الكابوس.

هذه المحكمة الداخلية العجيبة لها شبه عجيب بمحكمة القيامة.

١ ـ إنّ القاضي والشاهد والمنفذ للأحكام واحد ، كما في يوم القيامة :( عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ ) (١) .

٢ ـ إنّ هذه المحكمة ترفض كلّ توصية ورشوة وواسطة كما هو الحال في محكمة يوم القيامة ، فيقول تعالى :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) (٢) .

٣ ـ إنّ محكمة الضمير تحقق وتدقق الملفات المهمّة بأقصر مدّة وتصدر الحكم بأسرع وقت ، فلا استئناف في ذلك ، ولا إعادة نظر ، ولا تحتاج في ذلك شهورا وسنين ، وهذا هو ما نقرأه أيضا في محكمة البعث :( وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (٣) .

٤ ـ مجازاتها وعقوباتها ليست كعقوبات المحاكم الرسمية العالمية ، فإنّ

__________________

(١) الزمر ، ٤٦.

(٢) البقرة ، ٤٨.

(٣) الرعد ، ٤١.

٢٠٧

شرر النيران تتقد في الوهلة الاولى في أعماق القلب والروح ، ثمّ تسري إلى الخارج ، فتعذب روح الإنسان أوّلا ، ثمّ تظهر آثارها في الجسم وملامح الوجه وطبيعة النوم والأكل ، فيعبّر تعالى عن ذلك في قوله :( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) (١) .

٥ ـ عدم احتياج هذه المحكمة إلى شهود ، بل إنّ المعلومات التي يعطيها الإنسان المتهم بنفسه والذي يكون شاهدا على نفسه هي التي تقبل منه ، نافعة كانت له أم ضارة! كما تشهد ذرات وجود الإنسان حتى يداه وجلده على أعماله في محكمة البعث فيقول تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ) (٢) .

وهذا التشبيه العجيب بين المحكمتين دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد ، لأنّه كيف يمكن أن يكون في الإنسان الذي يعتبر قطرة صغيرة في محيط الوجود العظيم هكذا حساب ومحاكم مليئة بالرموز والأسرار في حين لا يوجد حساب ومحاكم في هذا العالم الكبير؟ فهذا ما لا يصدق.

٢ ـ أسماء القيامة في القرآن المجيد

إنّ قسما مهمّا من معارف القرآن ومسائله العقائدية يدور حول محور القيامة والبعث ، لأنّ له تأثيرا مهمّا في تربية الإنسان وتكامل سلوكه ، ولهذا اليوم العظيم أسماء كثيرة في القرآن ، وكل منها تبيّن بعدا من أبعاد ذلك اليوم ، يمكن أن تكون هذه الأسماء بحدّ ذاتها انعكاس للكثير من المسائل المتعلقة بهذا الجانب.

يقول المرحوم الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء : «إنّ تحت كلّ اسم من هذه الأسماء سرّ خفي ، ولكل نعت معنى مهم لا بدّ من السعي الجاد لإدراك هذه

__________________

(١) الهمزة ، ٦ ـ ٧.

(٢) سورة فصلت ، ٢٠.

٢٠٨

المعاني ومعرفة أسرارها ، فقد ذكر أكثر من فئة اسم ليوم القيامة يمكن الاستفادة منها أو من أكثرها في القرآن المجيد ، كيوم الحسرة ، يوم القيامة ، يوم المحاسبة ، يوم المسألة ، يوم الواقعة ، يو القارعة ، يوم الراجفة ، يوم الرادفة ، يوم الطلاق ، يوم الفراق ، يوم الحساب ، يوم التناد ، يوم العذاب ، يوم الفرار ، يوم الحق ، يوم الحكم ، يوم الفصل ، يوم الجمع ، يوم الدين ، يوم تبلى السرائر ، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ، يوم يفر المرء من أخيه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، يوم التغابن ...»(١) .

ولكن أشهر أسماء ذلك هو اليوم «يوم القيامة» الذي ذكر سبعين مرّة في القرآن ، ويحكي عن قيام عامّة العباد والبعث والعظيم للناس ، والتوجه إلى ذلك اليوم يدفع الناس لأداء وظائفهم وتكاليفهم في هذه الدنيا.

وباعتقادنا أنه يكفي للانتباه من نوم الغفلة والغرور والأخذ بعنان وزمام النفس العاصية وتربيتها وتعليمها أن نتفكر في هذه الأسماء ونتصور حالنا في ذلك اليوم ، يوم يحضر الجميع أمام الله العظيم وترفع الستائر وتظهر الأسرار وتتزين الجنان وتتوقد جهنم ، ويحضر الجميع عند ميزان العدل الإلهي.

«اللهم اجعل لنا عندك ملجأ في ذلك اليوم»

* * *

__________________

(١) المحجة البيضاء ، ج ٨ ، ص ٣٣١.

٢٠٩

الآيات

( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) )

التّفسير

الإنسان نعم الحكم لنفسه :

أنهت الآيات السابقة بسؤال كان قد وجهه المنكرون للبعث يوم القيامة ، وهو يوم القيامة متى يأتي ذلك اليوم؟ وهذه الآيات هي التي تجيب عن هذه السؤال.

فتشير أوّلا إلى الحوادث السابقة للبعث ، أي إلى التحول العظيم وانعدام القوانين الحاصل في الأنظمة الكونية فيقول تعالى :( فَإِذا بَرِقَ ) (١) ( الْبَصَرُ ) بمعنى

__________________

(١) «برق» : من مادة برق ـ على وزن فرق ـ وهو الضوء الظاهر من بين السحب ويطلق على كل ما هو وضاء ، و «برق البصر» في هذه الآية إشارة إلى الحركة الشديدة ، والاضطراب الشديد للبصر من شدة الهول والخوف ، وقيل هو سكون حدقة العين

٢١٠

اضطراب العين ودورانها من شدّة الخوف والرعب( وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) .

ذكرت معان متعددة للمفسّرين في ما يراد بالجمع بين الشمس والقمر ، فقيل هو اجتماعهما ، أو طلوعهما كليهما من المشرق وغروبهما من المغرب ، وقيل اجتماعهما بعد زوال نوريهما(١) ويحتمل أن ينجذب القمر تدريجيا بواسطة الشمس وباتجاهها ثم اجتماعهما معا بعد ذلك ، وينتهي بالتالي ضياؤهما.

على كلّ حال فقد أشير هنا إلى ظاهرتين من أهم الظواهر الانقلابية لأواخر الدنيا ، أي إلى زوال نور القمر واجتماع الشمس والقمر مع البعض ، وهو ما أشير إليه في الآيات القرآنية الأخرى أيضا ، فيقول تعالى في سورة التكوير :( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) أي إذا أظلمت الشمس ، ونعلم أن ضوء القمر من الشمس ، وعند ما يزول نور الشمس يزول بذلك نور القمر ، وبالتالي تدخل الكرة الأرضية في ظلام دامس وعتمة مرعبة.

وبهذه الطريقة والتحول العظيم ينتهي العالم ، ثم يبدأ بعث البشرية بتحول عظيم آخر (بنفخة الصور الثانية والتي تعتبر نفخة الحياة) فيقول الإنسان في ذلك اليوم :( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) (٢) .

أجل ، الكفرة والمذنبون الذين كذبوا بيوم الدين يبحثون عن ملجأ في ذلك اليوم لشدّة خجلهم ، ويطلبون سبل الفرار لثقل خطاياهم وخوفهم من العذاب ، كما كانوا يبحثون عن طريق الفرار في الدنيا عند ما كانوا يواجهون حادثة خطيرة ،

__________________

والنظر بدهشة إلى نقطة وغالبا ما تكون علامة الرعب ، وهناك شواهد كثيرة على هذا المعنى في أشعار العرب تشير إلى إبراق البصر يراد به التحير ، والتفسير الأول أوجه.

(١) يقول الطبرسي في «مجمع البيان» الجمع ثلاثة أنواع : جمع في المكان ، وجمع في الزمان ، وجمع الأوصاف في الشيء الواحد (كاجتماع العلم والعدالة في الإنسان) ولكن الجمع الذي يراد به اشتراك شيئين في الصفة كزوال نوريّ القمر والشمس معا هو تعبير مجازي (إذ لا بدّ من الاستفادة من القرينة) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٥.

(٢) «المفر» : اسم مكان من الفرار ، واحتمله البعض الآخر مصدرا ولكنه بعيد.

٢١١

فيقيسون ذلك اليوم بهذا! ولكن سرعان ما يقال لهم :( كَلَّا لا وَزَرَ ) (١) .

فلا ملجأ إلّا إلى الله تعالى :( إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) وذكرت لهذه الآية تفاسير أخرى غير التفسير المذكور أعلاه منها : إن الحكم النهائي لذلك اليوم هو بيد الله تعالى.

أو إن المقر النهائي للإنسان في الجنّة أو النّار هو بيد الله.

أو أن الاستقرار للمحاكمة والحساب يومئذ يكون عنده ، ولكن بالتوجه إلى الآية التي تليها نرى أن ما قلناه هو الأنسب والأوجه.

ويعتقد البعض أن هذه الآية هي من الآيات التي تبين خط مسير التكامل الأبدي للإنسان ، وهي من جملة الآيات التي تقول :( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (٢) و( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (٣) و( أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) (٤) (٥) .

وبعبارة أوضح أنّ الناس في حركة دائبة في هذا الطريق الطويل من حدود العدم إلى إقليم الوجود ، ولا يزالون في حركة في هذا الإقليم نحو الوجود المطلق ، والوجود الأزلي ، وأن هذه الحركة والسلوك التكاملي في استمرار الى الأبد ما داموا لا ينحرفون عن هذا الصراط المستقيم حيث يدخلون في كل يوم مرحلة جديدة من التقرب إلى الله تعالى ، وإذا انحرفوا عن مسيرهم فإنهم سوف يسقطون وينتهون

عندئذ يضيف في إدامة هذا الحديث :( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) أمّا عن معنى هاتين العبارتين فقد ذكرت لهما تفاسير عديدة :

__________________

(١) «وزر» : على وزن قمر ، وتعني في الأصل الملاجئ الجبلية وأمثالها ، ومنها يطلق على الوزير لما يلتجأ به في الأمور ، وعلى كل حال فإنّها تعني في هذه الآية كل نوع من الملجأ والمخبأ.

(٢) التغابن ، ٣.

(٣) الإنشقاق ، ٦.

(٤) النجم ، ٤٢.

(٥) هناك نظرات أخرى في تفسير هذه الآيات وضحنا ذلك في تذييلها.

٢١٢

أوّلا : المراد هو ما قدم من الأعمال في حياته ، أو الآثار الباقية منه بعد موته ، ممّا ترك بين الناس من السنن الصالحة والسيئة والتي يعملون ويسيرون بها ووصول حسناتها وسيئاتها إليه. أو الكتب والمؤلفات والأبنية القائمة على الخير والشرّ ، والأولاد الصالحين والطالحين التي تصل آثارهم إليه.

والثّاني : يمكن أن يراد به الأعمال الأولى التي أتى بها. والأعمال الأخيرة التي أتى بها في عمره ، وبعبارة أخرى أنّه ينبّأ بجميع أعماله.

والثّالث : أنّ المراد هو ما قدم من ماله لنفسه وما ترك لورثته ، وقيل : ما قدم من الذنوب ، وما أخر من طاعة الله أو بالعكس.

والوجه الأوّل هو الأنسب ، لما ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير «(ينبّؤ) بما قدم من خير وشرّ ، ما أخر من سنّة ليس بها من بعده فإن كان شرّا كان عليه مثل وزرهم ، ولا ينقص من وزرهم شيئا ، وإن كان خيرا كان له مثل أجورهم ، ولا ينقص من أجورهم شيئا»(١) .

ثم يضيف في الآية الأخرى ويقول : إنّ الله وملائكته يطلعون العباد على أعمالهم ، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك ، لأنّ نفسه وأعضاءه هم الشهود عليه في ذلك اليوم ، فيقول تعالى :( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ) .

سياق هذه الآيات في الحقيقة هو نفس سياق الآيات التي تشير إلى شهادة الأعضاء على أعمال الإنسان ، كالآية (٢٠) من سورة فصلت حيث يقول الله تعالى :( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

والآية (٥) من سورة يس :( وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

وعلى هذا فإنّ أفضل شاهد على الإنسان في تلك المحكمة الإلهية للقيامة

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٦ ومثله في تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٩١.

٢١٣

هو نفسه ، لأنه أعرف بنفسه من غيره ، وإن كان الله تعالى قد أعطاه شواهد أخرى كثيرة لإتمام الحجّة عليه.

«بصيرة» : لها معنى مصدري بمعنى (الرؤيا والاطلاع) ، ومعنى وصفي (الشخص المطّلع) ولذا فسّره البعض بمعنى (الحجة والدليل والبرهان) والذي هو واهب للمعرفة(١) .

«معاذير» : جمع (معذرة) وتعني في الأصل البحث عمّا تمحى به آثار الذنوب ، وقد تكون أحيانا أعذارا واقعية ، وأخرى صورية وظاهرية.

وقيل : المعاذير جمع معذار ، وهو الستر ، والمعنى وإن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه ، والأوّل أوجه.

على كل حال فإن الحاكم على الحساب والجزاء في ذلك اليوم العظيم هو المطّلع على الأسرار الداخلية والخارجية ، وكذلك نفس الإنسان المحاسب لنفسه ، كما جاء في الآية (١٤) من سورة الإسراء :( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) .

إنّ الآيات مورد بحثنا وإن كانت تتحدث كلّها عن المعاد والقيامة ، فإنّ مفهومها واسع ، ولذا فإنّها تشمل عالم الدنيا ، وتعلم الناس بأحوال أنفسهم وإنّه كان فيهم من يكتم ويغطي وجهه الحقيقي بالكذب والاحتيال والتظاهر والمراءاة.

لذا ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال : «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيئا أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك ، والله سبحانه يقول :( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية»(٢) .

__________________

(١) «التاء» : مصدر على الاحتمال الأوّل ، وتاء التأنيث على الاحتمال الثّاني ، لأنّه يراد بالإنسان هنا الجوارح أو النفس ، فالتأنيث مجازي ، وقيل إن التاء تاء المبالغة للأخبار بشدّة معرفة الإنسان بنفسه.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٦ (وأورد الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه في كتاب الصيام ، ج ٢ ، ص ١٣٣ باب حد المرض الذي يفطر صاحبه الحديث ١٩٤١).

٢١٤

وورد أيضا في حديث صيام المريض عن الصادقعليه‌السلام عند ما سأله أحد أصحابه : ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ فأجاب الإمام : «بل الإنسان على نفسه بصيرة ، هو أعلم بما يطيق»(١)

* * *

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢١٥

الآيات

( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) )

التّفسير

إنّ علينا جمعه وقرآنه :

هذه الآيات بمثابة الجملة الاعتراضية التي تتداخل أحيانا في كلام المتحدث. كمن يكون مشغولا بالخطابة في مجلس ما والناس مجتمعون في آخر المجلس ، والحال أنّ صدر المجلس خال ، فيقطع حديثه مؤقتا ، ويدعو الحاضرين للتقدم لينفتح الطريق للقادمين ، ثم يستأنف حديثه مجددا ، أو كالأستاذ الذي يقطع حديثه لينبه طالبا ، وبعد ذلك يكمل حديثه.

فعند ما يسمع شخص ما حديث الأستاذ عن طريق شريط كاسيت يرى إشكالا في استمراريّة الحديث ، ويتعجب لما يرى من عدم الترابط بين الجمل ، ولكن مع التمعن في شرائط المجلس الخاصّة يتّضح فلسفة هذه الجمل المعترضة.

بعد هذه المقدمة البسيطة نتّجه إلى تفسير الآيات التي يراد بحثها ، حيث يترك الله تعالى الحديث عن القيامة وأحوال المؤمنين والكفرة مؤقتا ، ليعطي

٢١٦

تذكرة مختصرة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حول القرآن فيقول :( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) لهذه الآية أقوال متعددة للمفسّرين ، وعلى المجموع ذكرت لها ثلاثة تفاسير :

الأوّل : هو التفسير المشهور الذي نقل عن ابن عباس في كتب الحديث ، وهو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا نزل عليه الوحي ليقرأ عليه القرآن ، تعجّل بقراءته ليحفظه وذلك لحبه الشديد للقرآن ، فنهاه الله عن ذلك وقال :( إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) .

الثّاني : نعلم أن للقرآن نزولين هما : نزول دفعي ، أي نزوله بتمامه على قلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة القدر ، ونزول تدريجي والذي كان أمده ٢٣ عامّا ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعجل في إبلاغ الرسالة أحيانا قبل النزول التدريجي للآيات أو قراءة ما يرافق تلك الآيات ، فنهاه الله عن ذلك. وأمره أن يبلّغ ويتلو ما ينزل عليه في حينه ، وعلى هذا يكون مضمون هذه الآية كالآية (١١٤) من سورة طه :( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) .

وليس في هذين التفسيرين اختلاف واسع ، ويكون المعنى : لا ينبغي للنّبي أن يعجل في استلام الوحي.

الثّالث : ولم يذهب اليه إلّا القليل ، وهو أنّ المخاطبين في هذه الآيات هم المذنبون ، وذلك في يوم القيامة حيث يأمرون بمحاسبة أنفسهم وذكر أعمالهم ، ويقال لهم : لا تعجلوا في ذلك ، ومن الطبيعي أنّهم سوف يتضجرون عند ذكرهم لسيئاتهم ويمرون عليها باستعجال ، فيأمرون بالتأني في قراءتها واتباع الملائكة عند ذكر الملائكة لأعمالهم ، وطبقا لهذا التفسير لا تكون هذه الآية كجملة معترضة ، بل مرتبطة مع الآيات السابقة واللاحقة لها. لأن جميعها تتحدث عن أحوال القيامة والمعاد ، وأمّا التفسير الأوّل والثّاني فيناسبان شكل الجملة المعترضة.

ولكن التفسير الثّالث بعيد وخاصّة مع الالتفات الى ذكر اسم القرآن في الآيات اللاحقة ، ويشير سياق الآيات إلى أن المراد هو أحد التفسيرين السابقين.

٢١٧

ولا إشكال في الجمع بينهما بالرغم من أنّ سياق الآيات اللاحقة يؤيّد التفسير الأول أي المشهور (فتدبّر).

ثمّ يضيف :( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) (١) وبالتالي لا تقلق على جمع القرآن ، نحن نجمعه ونتلوه عليك بواسطة الوحي.

ثم يقول تعالى :( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) ، ثمّ يضيف :( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) .

فيكون جمع القرآن وقراءته لك وتبيينه وتفصيل معانيه بعهدتنا ، فلا تقلق على شيء ، فالذي أنزل الوحي هو الذي يحفظه ، وأمّا ما يعهد إليك هو اتباعك له وإبلاغك الرسالة للناس ، وعن بعضهم أنّ المراد من الجمع ليس الجمع في لسان الوحي ، بل جمعه في صدر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقراءته على لسانه أي لا تعجل إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ونثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت.

على كل حال فإن هذه العبارات تؤيد التفسير الأوّل ، وهو أن الوحي النازل بواسطة جبرئيلعليه‌السلام عند ما كان يهبط على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقرأ عليه القرآن كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكرر الآيات بسرعة لئلا ينساها. وهنا جاء الأمر من الله أن أهدأ واطمئن فإنّه تعالى هو الذي يجمع الآيات ويبيّنها. وهذه الآيات تبيّن ضمنيا أصالة القرآن ، وحفظه من أي تغيّر وانحراف ، لأنّ الله تعالى عهد بجمعه وقراءته وتبيينه.

وورد في أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بعد نزول هذه الآيات إذا أتاه جبرئيلعليه‌السلام أطرق ، فإذا ذهب قرأ كما وعده الله(٢) .

* * *

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أن «القرآن» في هذه الآية والآية التي تليها هو مصدر ويراد به القراءة.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٧.

٢١٨

الآيات

( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) )

التّفسير

الوجوه الضاحكة والوجوه العابسة في ساحة القيامة :

ترجع هذه الآيات مرّة أخرى لتكمل البحوث المتعلقة بالمعاد.

وخصوصيات أخرى من القيامة ، وكذلك تبيّن علل إنكار المعاد فيقول تعالى( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) (١) فليس الأمر كما يتصور من أن دلائل المعاد خفيّة ولا يمكنكم الاطلاع عليها ، بل إنّكم عشقتكم الدنيا. ولهذا السبب تركتم الآخرة( وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) .

إنّ الشك في قدرة الله تعالى وجمع العظام وهي رميم ليس هو الدافع لإنكار

__________________

(١) قال البعض إن (كلّا) إشارة الى نفي تدبرهم للقرآن المجيد ، وليس هذا المعنى صحيحا لأن المخاطب هو نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولها جانب اعتراضي كما قلنا في الآيات المتعلقة بالقرآن ، وأمّا الآيات التي نحن بصدد البحث فيها فإنّها تتميم للآيات السابقة حول القيامة.

٢١٩

المعاد ، بل إنّ حبّكم الشديد للدنيا والشهوات والميول المغرية هي التي تدفعكم الى رفع الموانع عن طريق ملذاتكم ، وبما أنّ المعاد والشريعة الإلهية توجد موانع وحدودا كثيرة على هذا الطريق ، لذا تتمسكون بإنكار أصل الموضوع ، وتتركون الآخرة بتمامها.

وكما ذكرنا سابقا أنّ إحدى العلل المهمّة للميول الى المادية وإنكار المبدأ والمعاد هو كسب الحرية المطلقة للانجراف وراء الشهوات واللذات والذنوب ، ولا ينحصر هذا في العهود السابقة ، بل يتجلّى هذا المعنى في عالم اليوم بصورة أوضح.

وهاتان الآيتان تؤكّدان ما ورد في الآيات السابقة والتي قال فيها تعالى شأنه :( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) وقال أيضا :( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) .

ثمّ ينتهي إلى تبيان أحوال المؤمنين الصالحين والكفّار المسيئين في ذلك اليوم ، فيقول تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) .

«ناضرة» : من مادة (نضرة) وتعني البهجة الخاصّة التي يحصل عليها الإنسان عند وفور النعمة والرفاه ، ووفورها يلازم السرور والجمال والنورانية ، أي أنّ لون محياهم تحكي عن أحوالهم ، كيف أنّهم أغرقوا في النعم الإلهية ، وهذا شبيه لما جاء في الآية (٢٤) من سورة المطفّفين :( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) .

هذا من ناحية العطايا المادية ، وأمّا عن العطايا الروحية فيقول تعالى :( إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) نظرة بعين القلب وعن طريق شهود الباطن ، نظرة تجذبهم إلى الذات الفريدة وإلى ذلك الكمال والجمال المطلقين ، وتهبهم اللذة الروحانية والحال الذي لا يوصف ، إذ أنّ لحظة منها أفضل من الدنيا وما فيها. والجدير بالذكر أن تقديم (إلى ربّها) على (ناظرة) تفيد الحصر ، أي ناظرة إلى الله فقط لا إلى غيره.

وإذا قيل إنّ أهل الجنان ينظرون إلى غير الله تعالى أيضا ، فإنّنا نقول : إذا نظروا

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511