الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135917 / تحميل: 5386
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) )

التّفسير

قسما بيوم القيامة والنفس اللوامة :

تبدأ هذه السورة بقسمين غزيرين بالمعاني ، فيقول تعالى :( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) وهناك أقوال للمفسّرين في ذلك ، فقيل أنّ (لا) زائدة للتأكيد وأنّها لا تنفي القسم ، بل تؤكّده ، وقيل وربّما نافية ، والغاية في ذلك هو أن يقول لا أقسم بذلك لأهمية هذا الموضوع (كالقول لا أقسم بحياتك لأنّها أعلى من القسم).

وأخذ أغلب المفسّرين بالتّفسير الأوّل ، ولكن البعض الآخر بالتّفسير الثّاني حيث قالوا إنّ (لا) الزائدة لا تأتي في أوّل الكلام بل في وسطه ، والأوّل هو الأصح ظاهرا. لأنّ القرآن الكريم قد أقسم بأمور هي أهم من القيامة ، كالقسم بذات الله

٢٠١

المقدّسة ، لذا ليس هناك دليل على عدم القسم هنا بيوم القيامة ، وهناك مثال لاتّخاذ لا الزائدة في أوّل الكلام ، وهو ما ورد في أشعار «امرئ القيس» حيث استعمل «لا» الزائدة في بداية قصائده الشعرية

لا وأبيك ابنة العامر

لا يدعي القوم أني أفر

ولكن ما نعتقده أنّ البحث ليس مهمّا حول ما إذا كانت (لا) نافية أو زائدة ، وذلك لأنّ نتيجة القولين هي واحدة وهي بيان أهمية الموضوع الذي أقسم لأجله.

المهم أنّ نرى ما هي العلاقة والرّابطة الموجودة بين القسمين.

الحقيقة أنّ أحد دلائل وجود «المعاد» هو وجود «محكمة الوجدان» الموجودة أعماق الإنسان ، والتي تنشط وتسر عند الإقدام لإنجاز عمل صالح ، وبهذه الطريقة تثبت صاحبها وتكافئه ، وعند ارتكاب الأعمال السيئة والرذيلة فإنّها سوف تقوم بتقريع صاحبها وتأنّبه وتعذبه إلى حدّ أنّه قد يقدم على الانتحار للتخلص ممّا يمرّ فيه من عذاب الضمير.

وفي الحقيقة أنّ الضمير هو الذي أصدر حكم الإعدام ، وتمّ تنفيذ ذلك بنفسه ، إنّ دوي النفس اللوامة في وجود الإنسان واسع جدّا ، وهي قابلة للتمعن والمطالعة في كلّ الأحوال وفي بحث الملاحظات نشير إلى ذلك بشكل واسع.

عند ما يكون (العالم الصغير) أي وجود الإنسان محكمة في قلبه ، فكيف يمكن للعالم الكبير أن لا يملك محكمة عدل عظمى؟

فمن هنا نفهم وجود البعث والقيامة بواسطة وجود الضمير الأخلاقي ، ومن هنا تتّضح الرابطة الظريفة بين القسمين ، وبعبارة أخرى فإنّ القسم الثّاني هو دليل على القسم الأوّل.

وأمّا ما يراد بـ «النفس اللوامة»(١) فهناك أقوال كثيرة ومختلفة قد ذكرت

__________________

(١) اللوامة : صيغة مبالغة وتعني كثيرة اللوم.

٢٠٢

للمفسّرين ، وأحد تلك التّفاسير المشهورة هو ما ذكرناه آنفا ، وهو أنّ أنّها «الوجدان الأخلاقي» الذي يلوم الإنسان في الدنيا على المعصية ويحفّزه على إصلاح ما بدا منه.

والتّفسير الآخر هو أنّ المراد بالنفس الإنسانية بصورة عامة التي تلوم صاحبها يوم القيامة ، فإذا كان مؤمنا فإنّها تلومه على عدم الإكثار من الصالحات وعلى قلّة الطاعة ، وإن كان كافرا فإنّها تلوم على كفره وشركه وفجوره.

وأمّا الآخر : فالمراد نفس الكافر التي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر ومعصية.

والوجه الأوّل يناسب الآية السابقة والتي تليها ، أجل إنّ لمحكمة الضمير مقاما ومنزلة عظيمة ولهذا يقسم الله بها ، ويستعظم قدرها ، وهي بحقّ عظيمة القدر ، لأنّها أحد العوامل المهمّة لخلاص لإنسان بشرط أن تكون واعية ويقظة وغير عاجزة بسبب الذنوب والآثام.

وممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ جواب القسم محذوف ، وهذا ما تدل عليه الآيات التالية والتقدير «لتبعثن يوم القيامة» أو «أنّكم تبعثون» فيكون المعنى : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أنّكم تبعثون يوم القيامة وتجزون ما كنتم تفعلون.

ومن الظريف أنّ القسم جاء بيوم القيامة على وجود يوم القيامة ، وذلك لأنّه إلى درجة من الوضوح والبداهة أنّه يمكن القسم به حتى في مقابل المنكرين.

ثمّ يستفهم تعالى في الآية الأخرى للتوبيخ فيضيف :( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) .

ورد في رواية أنّ أحد المشركين وهو «عدي بن أبي ربيعة» كان جارا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأل النّبي عن أمر القيامة فأخبره به ، فقال عدي : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ، أو يجمع الله هذه العظام؟ فنزلت هذه الآيات وأجابته على

٢٠٣

ذلك ، ولذا قال فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اللهم اكفني شر جاري سوء»(١) .

وهناك نظائر لهذا المعنى في الآيات القرآنية الأخرى ، منها الآية (٧٨) من سورة (يس) حيث إنّ منكرا من منكري المعاد كانت بيده عظاما ، فقال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) ؟

والتعبير بكلمة «يحسب» التي هي من الحسبان وتعني الظن ، إشارة إلى أنّ المنكرين لا يؤمنون بما يقولون ، بل يعتمدون على ما يظنون من الوهم.

ولكن نرى أنّه قد اعتمد على العظام خاصّة ، وهذا لكون دوام بقاء العظام أكثر من غيرها من أجزاء الجسد ، ولذا تكون إعادتها تكون تربا متأثرا بعيدا في نظر عديمي الإيمان.

ثمّ إنّ العظام من الأركان المهمّة في بدن الإنسان ، لأنّها تشكل أعمدة البدن ، وكلّ الحركات والتغيرات المهمّة الحاصلة في البدن وكذلك فعاليات المختلفة تتمّ بواسطة العظام ، وكثرة وتنوع أشكال ومقاييس العظام في جسم الإنسان من عجائب الخلقة الإلهية ، تتّضح أهميتها عند ما تتعطل فقرة واحدة من فقرات الظهر عن العمل وتسبب في شلّ حركة البدن.

«البنان» : أطراف الأصابع ، وقيل الأصابع ، وفي المعنيين إشارة إلى أنّ الله تعالى ليس القادر على جمع العظام وإرجاعها إلى صورتها الأولى فحسب ، بل إنّه تعالى يسوي العظام الصغيرة والظريفة والدقيقة للأصابع على ما كانت عليها في الخلق الأوّل ، والأعجب من ذلك يمكنه تعالى اعادة بصمات الأصابع كما كانت عليه أيضا.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة لطيفة إلى الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع والتي نادرا ما تتساوى هذه الخطوط عند شخصين.

__________________

(١) أورد هذه الرواية المراغي ، وكذلك ذكرت في روح المعاني ، وتفسير الصافي بتفاوت يسير.

٢٠٤

وبتعبير آخر إنّ هذ الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع هي المعرّفة لشخص الإنسان ، ولذا صار بصم الأصابع في عصرنا هذا أمرا علميا ، وبهذه الطريقة يمكن كشف الكثير من السراق والمجرمين ، فيكفي في كشف السارق وضعه أصابعه على مقبض الباب ، أو زجاجة الغرفة ، أو قفل الصندوق وبقاء أثر خطوط أنامله عليها ، ثمّ يؤخذ من ذلك الطبع نموذج وتتمّ مقابلته مع آثار أصابع اللصوص السابقين التي أخذت منهم سلفا ، وهكذا يعرف المجرم والسارق.

وفي الآية الأخرى إشارة إلى أحد العلل الحقيقة لإنكار المعاد فيقول :( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) ، إنّهم يريدون أن يكذبوا بالبعث وينكروا المعاد ، ليتسنى لهم الظلم وارتكاب المحارم والتنصل عن المسؤولية أمام الخلق ، وذلك لأنّ الإيمان بالمعاد والقيامة ومحكمة العدل الإلهية بمثابة سدّ عظيم في مقابل المعاصي والذنوب والنفس الأمارة تريد كسر هذا السدّ وهذا الطوق ليفجر الإنسان مدى عمره ويعمل ما يشاء ، وهذا ليس منحصرا بالأزمنة السابقة ، بل إنّ إحدى علل الميول إلى المادية وإنكار المبدأ والمعاد في هذا العصر هو كسب الحرية للفجور والهروب من المسؤولية ، وتحطيم كل القوانين الإلهية ، وإلّا فإنّ دلائل المبدأ والمعاد واضحة ، وقد ورد في تفسير علي بن ابراهيم في توضيح معنى هذه الآية حيث قال : يقدّم الذنب ويؤخر التوبة ويقول سوف أتوب.

وقيل المراد من «الفجور» و «التكذيب» ، فيكون المعنى ، يريد أن يكذب بالبعث الذي سوف يقع أمامه ، ولكن التفسير الأوّل أنسب.

ثمّ يضيف بعد ذلك :( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) .

أجل ، إنّه يستفهم مستنكرا عن وقوع يوم القيامة ويهرب ممّا كلّف به لكي يفسح لنفسه طريق الفجور أمامه ، والجدير بالذكر أنّ سؤالهم هذا عن وقت حدوث القيامة لا يعني أنّهم يؤمنون بأصل القيامة ، بل هو مقدّمة لإنكار أصل القيامة كالذي يقول : (فلان سوف يقدم من السفر) وإذا ما تأخر فترة من الزمن يعترض من ينكر قدوم ذلك المسافر فيقول : (متى سوف يأتي المسافر)؟

٢٠٥

ملاحظات

١ ـ محكمة الضمير أو القيامة الصغرى

نستفيد من آيات القرآن المجيد أنّ للنفس الإنسانية ثلاث مراحل :

١ ـ النفس الامارة : وهي النفس العاصية التي تدعو الإنسان إلى الرذائل والقبائح باستمرار ، وتزيّن له الشهوات ، وهذا ما أشارت إليه امرأة عزيز مصر حينما نظرت إلى عاقبة أمرها فقالت :( وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) .(١) ؟

٢ ـ النفس اللوامة : وهي ما أشير إليها في الآيات التي ورد البحث فيها ، وهي نفس يقظة وواعية نسبيا ، فهي تزل أحيانا لعدم حصولها على حصانة كافية مقابل الذنوب ، وتقع في شبك الآثام إلّا أنّها تستيقظ بعد فترة لتتوب وترجع إلى مسير السعادة ، وانحرافها ممكن ، إلّا أنّ ذلك يكون مؤقتا وليس دائما ولا يمضي عليها كثير وقت حتى تعود إلى الملامة والتوبة.

وهذا هو ما يذكرونه تحت عنوان (الضمير الأخلاقي) ويكون هذا قويا جدّا عند بعض الأفراد ، وضعيفا وعاجزا عند آخرين ، ولكن النفس اللوامة لا تموت بكثرة الذنوب عند أي انسان.

٣ ـ النفس المطمئنة : وهي النفس المتكاملة المنتهية إلى مرحلة الاطمئنان والطاعة والمنتهية إلى مقام التقوى والإحساس بالمسؤولية وليس من السهل انحرافها ، وهذا ما ورد في وقوله تعالى :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) (٢) .

__________________

(١) يوسف ، ٥٣.

(٢) الفجر ، ٢٧ ـ ٢٨.

٢٠٦

على كل حال فإنّ النفس اللوامة كما قلنا هي كالقيامة الصغرى في داخل الروح والتي تقوم بمحاسبة الإنسان ، ولذا تحس أحيانا بالهدوء والاستقرار بعد القيام بالأعمال الصالحة وتمتلئ بالسرور والفرح والنشاط.

وبالعكس فإنّها تبتلي أحيانا بكابوس الرذائل والجرائم الكبيرة وأمواج الغم والحيرة ، ويحترق بذلك باطن الإنسان حتى يتنفر من الحياة ، وربّما يبلغ ألم الوجدان أنّه يقدم على تسليم نفسه إلى المحاكم القضائية ليرتقي منصة الإعدام لخلاص نفسه من قبضة هذا الكابوس.

هذه المحكمة الداخلية العجيبة لها شبه عجيب بمحكمة القيامة.

١ ـ إنّ القاضي والشاهد والمنفذ للأحكام واحد ، كما في يوم القيامة :( عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ ) (١) .

٢ ـ إنّ هذه المحكمة ترفض كلّ توصية ورشوة وواسطة كما هو الحال في محكمة يوم القيامة ، فيقول تعالى :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) (٢) .

٣ ـ إنّ محكمة الضمير تحقق وتدقق الملفات المهمّة بأقصر مدّة وتصدر الحكم بأسرع وقت ، فلا استئناف في ذلك ، ولا إعادة نظر ، ولا تحتاج في ذلك شهورا وسنين ، وهذا هو ما نقرأه أيضا في محكمة البعث :( وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (٣) .

٤ ـ مجازاتها وعقوباتها ليست كعقوبات المحاكم الرسمية العالمية ، فإنّ

__________________

(١) الزمر ، ٤٦.

(٢) البقرة ، ٤٨.

(٣) الرعد ، ٤١.

٢٠٧

شرر النيران تتقد في الوهلة الاولى في أعماق القلب والروح ، ثمّ تسري إلى الخارج ، فتعذب روح الإنسان أوّلا ، ثمّ تظهر آثارها في الجسم وملامح الوجه وطبيعة النوم والأكل ، فيعبّر تعالى عن ذلك في قوله :( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) (١) .

٥ ـ عدم احتياج هذه المحكمة إلى شهود ، بل إنّ المعلومات التي يعطيها الإنسان المتهم بنفسه والذي يكون شاهدا على نفسه هي التي تقبل منه ، نافعة كانت له أم ضارة! كما تشهد ذرات وجود الإنسان حتى يداه وجلده على أعماله في محكمة البعث فيقول تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ) (٢) .

وهذا التشبيه العجيب بين المحكمتين دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد ، لأنّه كيف يمكن أن يكون في الإنسان الذي يعتبر قطرة صغيرة في محيط الوجود العظيم هكذا حساب ومحاكم مليئة بالرموز والأسرار في حين لا يوجد حساب ومحاكم في هذا العالم الكبير؟ فهذا ما لا يصدق.

٢ ـ أسماء القيامة في القرآن المجيد

إنّ قسما مهمّا من معارف القرآن ومسائله العقائدية يدور حول محور القيامة والبعث ، لأنّ له تأثيرا مهمّا في تربية الإنسان وتكامل سلوكه ، ولهذا اليوم العظيم أسماء كثيرة في القرآن ، وكل منها تبيّن بعدا من أبعاد ذلك اليوم ، يمكن أن تكون هذه الأسماء بحدّ ذاتها انعكاس للكثير من المسائل المتعلقة بهذا الجانب.

يقول المرحوم الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء : «إنّ تحت كلّ اسم من هذه الأسماء سرّ خفي ، ولكل نعت معنى مهم لا بدّ من السعي الجاد لإدراك هذه

__________________

(١) الهمزة ، ٦ ـ ٧.

(٢) سورة فصلت ، ٢٠.

٢٠٨

المعاني ومعرفة أسرارها ، فقد ذكر أكثر من فئة اسم ليوم القيامة يمكن الاستفادة منها أو من أكثرها في القرآن المجيد ، كيوم الحسرة ، يوم القيامة ، يوم المحاسبة ، يوم المسألة ، يوم الواقعة ، يو القارعة ، يوم الراجفة ، يوم الرادفة ، يوم الطلاق ، يوم الفراق ، يوم الحساب ، يوم التناد ، يوم العذاب ، يوم الفرار ، يوم الحق ، يوم الحكم ، يوم الفصل ، يوم الجمع ، يوم الدين ، يوم تبلى السرائر ، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ، يوم يفر المرء من أخيه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، يوم التغابن ...»(١) .

ولكن أشهر أسماء ذلك هو اليوم «يوم القيامة» الذي ذكر سبعين مرّة في القرآن ، ويحكي عن قيام عامّة العباد والبعث والعظيم للناس ، والتوجه إلى ذلك اليوم يدفع الناس لأداء وظائفهم وتكاليفهم في هذه الدنيا.

وباعتقادنا أنه يكفي للانتباه من نوم الغفلة والغرور والأخذ بعنان وزمام النفس العاصية وتربيتها وتعليمها أن نتفكر في هذه الأسماء ونتصور حالنا في ذلك اليوم ، يوم يحضر الجميع أمام الله العظيم وترفع الستائر وتظهر الأسرار وتتزين الجنان وتتوقد جهنم ، ويحضر الجميع عند ميزان العدل الإلهي.

«اللهم اجعل لنا عندك ملجأ في ذلك اليوم»

* * *

__________________

(١) المحجة البيضاء ، ج ٨ ، ص ٣٣١.

٢٠٩

الآيات

( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) )

التّفسير

الإنسان نعم الحكم لنفسه :

أنهت الآيات السابقة بسؤال كان قد وجهه المنكرون للبعث يوم القيامة ، وهو يوم القيامة متى يأتي ذلك اليوم؟ وهذه الآيات هي التي تجيب عن هذه السؤال.

فتشير أوّلا إلى الحوادث السابقة للبعث ، أي إلى التحول العظيم وانعدام القوانين الحاصل في الأنظمة الكونية فيقول تعالى :( فَإِذا بَرِقَ ) (١) ( الْبَصَرُ ) بمعنى

__________________

(١) «برق» : من مادة برق ـ على وزن فرق ـ وهو الضوء الظاهر من بين السحب ويطلق على كل ما هو وضاء ، و «برق البصر» في هذه الآية إشارة إلى الحركة الشديدة ، والاضطراب الشديد للبصر من شدة الهول والخوف ، وقيل هو سكون حدقة العين

٢١٠

اضطراب العين ودورانها من شدّة الخوف والرعب( وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) .

ذكرت معان متعددة للمفسّرين في ما يراد بالجمع بين الشمس والقمر ، فقيل هو اجتماعهما ، أو طلوعهما كليهما من المشرق وغروبهما من المغرب ، وقيل اجتماعهما بعد زوال نوريهما(١) ويحتمل أن ينجذب القمر تدريجيا بواسطة الشمس وباتجاهها ثم اجتماعهما معا بعد ذلك ، وينتهي بالتالي ضياؤهما.

على كلّ حال فقد أشير هنا إلى ظاهرتين من أهم الظواهر الانقلابية لأواخر الدنيا ، أي إلى زوال نور القمر واجتماع الشمس والقمر مع البعض ، وهو ما أشير إليه في الآيات القرآنية الأخرى أيضا ، فيقول تعالى في سورة التكوير :( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) أي إذا أظلمت الشمس ، ونعلم أن ضوء القمر من الشمس ، وعند ما يزول نور الشمس يزول بذلك نور القمر ، وبالتالي تدخل الكرة الأرضية في ظلام دامس وعتمة مرعبة.

وبهذه الطريقة والتحول العظيم ينتهي العالم ، ثم يبدأ بعث البشرية بتحول عظيم آخر (بنفخة الصور الثانية والتي تعتبر نفخة الحياة) فيقول الإنسان في ذلك اليوم :( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) (٢) .

أجل ، الكفرة والمذنبون الذين كذبوا بيوم الدين يبحثون عن ملجأ في ذلك اليوم لشدّة خجلهم ، ويطلبون سبل الفرار لثقل خطاياهم وخوفهم من العذاب ، كما كانوا يبحثون عن طريق الفرار في الدنيا عند ما كانوا يواجهون حادثة خطيرة ،

__________________

والنظر بدهشة إلى نقطة وغالبا ما تكون علامة الرعب ، وهناك شواهد كثيرة على هذا المعنى في أشعار العرب تشير إلى إبراق البصر يراد به التحير ، والتفسير الأول أوجه.

(١) يقول الطبرسي في «مجمع البيان» الجمع ثلاثة أنواع : جمع في المكان ، وجمع في الزمان ، وجمع الأوصاف في الشيء الواحد (كاجتماع العلم والعدالة في الإنسان) ولكن الجمع الذي يراد به اشتراك شيئين في الصفة كزوال نوريّ القمر والشمس معا هو تعبير مجازي (إذ لا بدّ من الاستفادة من القرينة) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٥.

(٢) «المفر» : اسم مكان من الفرار ، واحتمله البعض الآخر مصدرا ولكنه بعيد.

٢١١

فيقيسون ذلك اليوم بهذا! ولكن سرعان ما يقال لهم :( كَلَّا لا وَزَرَ ) (١) .

فلا ملجأ إلّا إلى الله تعالى :( إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) وذكرت لهذه الآية تفاسير أخرى غير التفسير المذكور أعلاه منها : إن الحكم النهائي لذلك اليوم هو بيد الله تعالى.

أو إن المقر النهائي للإنسان في الجنّة أو النّار هو بيد الله.

أو أن الاستقرار للمحاكمة والحساب يومئذ يكون عنده ، ولكن بالتوجه إلى الآية التي تليها نرى أن ما قلناه هو الأنسب والأوجه.

ويعتقد البعض أن هذه الآية هي من الآيات التي تبين خط مسير التكامل الأبدي للإنسان ، وهي من جملة الآيات التي تقول :( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (٢) و( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (٣) و( أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) (٤) (٥) .

وبعبارة أوضح أنّ الناس في حركة دائبة في هذا الطريق الطويل من حدود العدم إلى إقليم الوجود ، ولا يزالون في حركة في هذا الإقليم نحو الوجود المطلق ، والوجود الأزلي ، وأن هذه الحركة والسلوك التكاملي في استمرار الى الأبد ما داموا لا ينحرفون عن هذا الصراط المستقيم حيث يدخلون في كل يوم مرحلة جديدة من التقرب إلى الله تعالى ، وإذا انحرفوا عن مسيرهم فإنهم سوف يسقطون وينتهون

عندئذ يضيف في إدامة هذا الحديث :( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) أمّا عن معنى هاتين العبارتين فقد ذكرت لهما تفاسير عديدة :

__________________

(١) «وزر» : على وزن قمر ، وتعني في الأصل الملاجئ الجبلية وأمثالها ، ومنها يطلق على الوزير لما يلتجأ به في الأمور ، وعلى كل حال فإنّها تعني في هذه الآية كل نوع من الملجأ والمخبأ.

(٢) التغابن ، ٣.

(٣) الإنشقاق ، ٦.

(٤) النجم ، ٤٢.

(٥) هناك نظرات أخرى في تفسير هذه الآيات وضحنا ذلك في تذييلها.

٢١٢

أوّلا : المراد هو ما قدم من الأعمال في حياته ، أو الآثار الباقية منه بعد موته ، ممّا ترك بين الناس من السنن الصالحة والسيئة والتي يعملون ويسيرون بها ووصول حسناتها وسيئاتها إليه. أو الكتب والمؤلفات والأبنية القائمة على الخير والشرّ ، والأولاد الصالحين والطالحين التي تصل آثارهم إليه.

والثّاني : يمكن أن يراد به الأعمال الأولى التي أتى بها. والأعمال الأخيرة التي أتى بها في عمره ، وبعبارة أخرى أنّه ينبّأ بجميع أعماله.

والثّالث : أنّ المراد هو ما قدم من ماله لنفسه وما ترك لورثته ، وقيل : ما قدم من الذنوب ، وما أخر من طاعة الله أو بالعكس.

والوجه الأوّل هو الأنسب ، لما ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير «(ينبّؤ) بما قدم من خير وشرّ ، ما أخر من سنّة ليس بها من بعده فإن كان شرّا كان عليه مثل وزرهم ، ولا ينقص من وزرهم شيئا ، وإن كان خيرا كان له مثل أجورهم ، ولا ينقص من أجورهم شيئا»(١) .

ثم يضيف في الآية الأخرى ويقول : إنّ الله وملائكته يطلعون العباد على أعمالهم ، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك ، لأنّ نفسه وأعضاءه هم الشهود عليه في ذلك اليوم ، فيقول تعالى :( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ) .

سياق هذه الآيات في الحقيقة هو نفس سياق الآيات التي تشير إلى شهادة الأعضاء على أعمال الإنسان ، كالآية (٢٠) من سورة فصلت حيث يقول الله تعالى :( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

والآية (٥) من سورة يس :( وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

وعلى هذا فإنّ أفضل شاهد على الإنسان في تلك المحكمة الإلهية للقيامة

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٦ ومثله في تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٩١.

٢١٣

هو نفسه ، لأنه أعرف بنفسه من غيره ، وإن كان الله تعالى قد أعطاه شواهد أخرى كثيرة لإتمام الحجّة عليه.

«بصيرة» : لها معنى مصدري بمعنى (الرؤيا والاطلاع) ، ومعنى وصفي (الشخص المطّلع) ولذا فسّره البعض بمعنى (الحجة والدليل والبرهان) والذي هو واهب للمعرفة(١) .

«معاذير» : جمع (معذرة) وتعني في الأصل البحث عمّا تمحى به آثار الذنوب ، وقد تكون أحيانا أعذارا واقعية ، وأخرى صورية وظاهرية.

وقيل : المعاذير جمع معذار ، وهو الستر ، والمعنى وإن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه ، والأوّل أوجه.

على كل حال فإن الحاكم على الحساب والجزاء في ذلك اليوم العظيم هو المطّلع على الأسرار الداخلية والخارجية ، وكذلك نفس الإنسان المحاسب لنفسه ، كما جاء في الآية (١٤) من سورة الإسراء :( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) .

إنّ الآيات مورد بحثنا وإن كانت تتحدث كلّها عن المعاد والقيامة ، فإنّ مفهومها واسع ، ولذا فإنّها تشمل عالم الدنيا ، وتعلم الناس بأحوال أنفسهم وإنّه كان فيهم من يكتم ويغطي وجهه الحقيقي بالكذب والاحتيال والتظاهر والمراءاة.

لذا ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال : «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيئا أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك ، والله سبحانه يقول :( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية»(٢) .

__________________

(١) «التاء» : مصدر على الاحتمال الأوّل ، وتاء التأنيث على الاحتمال الثّاني ، لأنّه يراد بالإنسان هنا الجوارح أو النفس ، فالتأنيث مجازي ، وقيل إن التاء تاء المبالغة للأخبار بشدّة معرفة الإنسان بنفسه.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٦ (وأورد الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه في كتاب الصيام ، ج ٢ ، ص ١٣٣ باب حد المرض الذي يفطر صاحبه الحديث ١٩٤١).

٢١٤

وورد أيضا في حديث صيام المريض عن الصادقعليه‌السلام عند ما سأله أحد أصحابه : ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ فأجاب الإمام : «بل الإنسان على نفسه بصيرة ، هو أعلم بما يطيق»(١)

* * *

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢١٥

الآيات

( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) )

التّفسير

إنّ علينا جمعه وقرآنه :

هذه الآيات بمثابة الجملة الاعتراضية التي تتداخل أحيانا في كلام المتحدث. كمن يكون مشغولا بالخطابة في مجلس ما والناس مجتمعون في آخر المجلس ، والحال أنّ صدر المجلس خال ، فيقطع حديثه مؤقتا ، ويدعو الحاضرين للتقدم لينفتح الطريق للقادمين ، ثم يستأنف حديثه مجددا ، أو كالأستاذ الذي يقطع حديثه لينبه طالبا ، وبعد ذلك يكمل حديثه.

فعند ما يسمع شخص ما حديث الأستاذ عن طريق شريط كاسيت يرى إشكالا في استمراريّة الحديث ، ويتعجب لما يرى من عدم الترابط بين الجمل ، ولكن مع التمعن في شرائط المجلس الخاصّة يتّضح فلسفة هذه الجمل المعترضة.

بعد هذه المقدمة البسيطة نتّجه إلى تفسير الآيات التي يراد بحثها ، حيث يترك الله تعالى الحديث عن القيامة وأحوال المؤمنين والكفرة مؤقتا ، ليعطي

٢١٦

تذكرة مختصرة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حول القرآن فيقول :( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) لهذه الآية أقوال متعددة للمفسّرين ، وعلى المجموع ذكرت لها ثلاثة تفاسير :

الأوّل : هو التفسير المشهور الذي نقل عن ابن عباس في كتب الحديث ، وهو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا نزل عليه الوحي ليقرأ عليه القرآن ، تعجّل بقراءته ليحفظه وذلك لحبه الشديد للقرآن ، فنهاه الله عن ذلك وقال :( إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) .

الثّاني : نعلم أن للقرآن نزولين هما : نزول دفعي ، أي نزوله بتمامه على قلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة القدر ، ونزول تدريجي والذي كان أمده ٢٣ عامّا ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعجل في إبلاغ الرسالة أحيانا قبل النزول التدريجي للآيات أو قراءة ما يرافق تلك الآيات ، فنهاه الله عن ذلك. وأمره أن يبلّغ ويتلو ما ينزل عليه في حينه ، وعلى هذا يكون مضمون هذه الآية كالآية (١١٤) من سورة طه :( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) .

وليس في هذين التفسيرين اختلاف واسع ، ويكون المعنى : لا ينبغي للنّبي أن يعجل في استلام الوحي.

الثّالث : ولم يذهب اليه إلّا القليل ، وهو أنّ المخاطبين في هذه الآيات هم المذنبون ، وذلك في يوم القيامة حيث يأمرون بمحاسبة أنفسهم وذكر أعمالهم ، ويقال لهم : لا تعجلوا في ذلك ، ومن الطبيعي أنّهم سوف يتضجرون عند ذكرهم لسيئاتهم ويمرون عليها باستعجال ، فيأمرون بالتأني في قراءتها واتباع الملائكة عند ذكر الملائكة لأعمالهم ، وطبقا لهذا التفسير لا تكون هذه الآية كجملة معترضة ، بل مرتبطة مع الآيات السابقة واللاحقة لها. لأن جميعها تتحدث عن أحوال القيامة والمعاد ، وأمّا التفسير الأوّل والثّاني فيناسبان شكل الجملة المعترضة.

ولكن التفسير الثّالث بعيد وخاصّة مع الالتفات الى ذكر اسم القرآن في الآيات اللاحقة ، ويشير سياق الآيات إلى أن المراد هو أحد التفسيرين السابقين.

٢١٧

ولا إشكال في الجمع بينهما بالرغم من أنّ سياق الآيات اللاحقة يؤيّد التفسير الأول أي المشهور (فتدبّر).

ثمّ يضيف :( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) (١) وبالتالي لا تقلق على جمع القرآن ، نحن نجمعه ونتلوه عليك بواسطة الوحي.

ثم يقول تعالى :( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) ، ثمّ يضيف :( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) .

فيكون جمع القرآن وقراءته لك وتبيينه وتفصيل معانيه بعهدتنا ، فلا تقلق على شيء ، فالذي أنزل الوحي هو الذي يحفظه ، وأمّا ما يعهد إليك هو اتباعك له وإبلاغك الرسالة للناس ، وعن بعضهم أنّ المراد من الجمع ليس الجمع في لسان الوحي ، بل جمعه في صدر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقراءته على لسانه أي لا تعجل إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ونثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت.

على كل حال فإن هذه العبارات تؤيد التفسير الأوّل ، وهو أن الوحي النازل بواسطة جبرئيلعليه‌السلام عند ما كان يهبط على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقرأ عليه القرآن كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكرر الآيات بسرعة لئلا ينساها. وهنا جاء الأمر من الله أن أهدأ واطمئن فإنّه تعالى هو الذي يجمع الآيات ويبيّنها. وهذه الآيات تبيّن ضمنيا أصالة القرآن ، وحفظه من أي تغيّر وانحراف ، لأنّ الله تعالى عهد بجمعه وقراءته وتبيينه.

وورد في أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بعد نزول هذه الآيات إذا أتاه جبرئيلعليه‌السلام أطرق ، فإذا ذهب قرأ كما وعده الله(٢) .

* * *

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أن «القرآن» في هذه الآية والآية التي تليها هو مصدر ويراد به القراءة.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٧.

٢١٨

الآيات

( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) )

التّفسير

الوجوه الضاحكة والوجوه العابسة في ساحة القيامة :

ترجع هذه الآيات مرّة أخرى لتكمل البحوث المتعلقة بالمعاد.

وخصوصيات أخرى من القيامة ، وكذلك تبيّن علل إنكار المعاد فيقول تعالى( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) (١) فليس الأمر كما يتصور من أن دلائل المعاد خفيّة ولا يمكنكم الاطلاع عليها ، بل إنّكم عشقتكم الدنيا. ولهذا السبب تركتم الآخرة( وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) .

إنّ الشك في قدرة الله تعالى وجمع العظام وهي رميم ليس هو الدافع لإنكار

__________________

(١) قال البعض إن (كلّا) إشارة الى نفي تدبرهم للقرآن المجيد ، وليس هذا المعنى صحيحا لأن المخاطب هو نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولها جانب اعتراضي كما قلنا في الآيات المتعلقة بالقرآن ، وأمّا الآيات التي نحن بصدد البحث فيها فإنّها تتميم للآيات السابقة حول القيامة.

٢١٩

المعاد ، بل إنّ حبّكم الشديد للدنيا والشهوات والميول المغرية هي التي تدفعكم الى رفع الموانع عن طريق ملذاتكم ، وبما أنّ المعاد والشريعة الإلهية توجد موانع وحدودا كثيرة على هذا الطريق ، لذا تتمسكون بإنكار أصل الموضوع ، وتتركون الآخرة بتمامها.

وكما ذكرنا سابقا أنّ إحدى العلل المهمّة للميول الى المادية وإنكار المبدأ والمعاد هو كسب الحرية المطلقة للانجراف وراء الشهوات واللذات والذنوب ، ولا ينحصر هذا في العهود السابقة ، بل يتجلّى هذا المعنى في عالم اليوم بصورة أوضح.

وهاتان الآيتان تؤكّدان ما ورد في الآيات السابقة والتي قال فيها تعالى شأنه :( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) وقال أيضا :( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) .

ثمّ ينتهي إلى تبيان أحوال المؤمنين الصالحين والكفّار المسيئين في ذلك اليوم ، فيقول تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) .

«ناضرة» : من مادة (نضرة) وتعني البهجة الخاصّة التي يحصل عليها الإنسان عند وفور النعمة والرفاه ، ووفورها يلازم السرور والجمال والنورانية ، أي أنّ لون محياهم تحكي عن أحوالهم ، كيف أنّهم أغرقوا في النعم الإلهية ، وهذا شبيه لما جاء في الآية (٢٤) من سورة المطفّفين :( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) .

هذا من ناحية العطايا المادية ، وأمّا عن العطايا الروحية فيقول تعالى :( إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) نظرة بعين القلب وعن طريق شهود الباطن ، نظرة تجذبهم إلى الذات الفريدة وإلى ذلك الكمال والجمال المطلقين ، وتهبهم اللذة الروحانية والحال الذي لا يوصف ، إذ أنّ لحظة منها أفضل من الدنيا وما فيها. والجدير بالذكر أن تقديم (إلى ربّها) على (ناظرة) تفيد الحصر ، أي ناظرة إلى الله فقط لا إلى غيره.

وإذا قيل إنّ أهل الجنان ينظرون إلى غير الله تعالى أيضا ، فإنّنا نقول : إذا نظروا

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

منقصة في الطبيعة المأمور بها لاجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها كما في الصلاة في الحمام فان تشخصها بتشخص وقوعها فيه لا يناسب كونها معراجا وان لم يكن نفس الكون في الحمام في الصلاة بمكروه ولا حزازة فيه اصلا بل كان راجحا كما لا يخفى وربما يحصل لها لاجل تخصصها بخصوصية شديدة الملائمة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد والامكنة الشريفة، وذلك لان الطبيعة المأمور بها في حد نفسها إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملائمة ولا عدم الملائمة لها مقدار من المصلحة والمزية كالصلاة في الدار مثلا وتزداد تلك المزية فيما كان تشخصها بما له شدة الملائمة وتنقص فيما إذا لم تكن له ملائمة ولذلك ينقص ثوابها تارة ويزيد أخرى ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيتها فيه

______________________________

(قوله: منقصة في الطبيعة) يعني نقصا في وفاء الطبيعة المأمور بها بالمرتبة الخاصة من المصلحة التي تفي بها لو لم تكن متشخصة بذلك المشخص ولا بد من أن يكون المقدار الفائت مما لا يجب تداركه وإلا كان النهي تحريميا لو لم يمكن تداركه. أولا يصح النهي أصلا لو أمكن تداركه بل يكون المكلف مخيرا بين فعل الفرد المذكور مع التدارك وبين فعل غيره من الافراد، ومن أن يكون المقدار الباقي الذي يحصله الفرد ملزما وإلا كان مستحبا لا فردا للواجب (قوله: وربما يحصل) شروع في دفع اشكال اجتماع الوجوب والاستحباب في العبادات المستحبة (قوله: ولذلك ينقص) قد تقدم ان الثواب والعقاب بمراتبهما ليسا تابعين لمراتب المصلحة والمفسدة بل هما تابعان لمراتب الانقياد والتجري نعم مراتب التجري تختلف باختلاف مراتب الاهتمام المختلفة باختلاف مراتب المصلحة والمفسدة وأما مراتب الانقياد فتختلف باختلاف مراتب المشقة فزيادة العقاب تدل على تأكد المصلحة الفائتة والمفسدة المرتكبة وأما زيادة الثواب فلا تدل عليه نعم الوعد بزيادة الثواب يدل على مزيد الاهتمام الناشئ عن زيادة المصلحة (ومنه) يظهر أنه لا يصح نقص الثواب عن مقدار الاستحقاق الا ان يكون المراد النقص عن المرتبة

٣٨١

إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الافراد ويكون أكثر ثوابا منه وليكن هذا مراد من قال: إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا، ولا يرد عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الاخرى بالكراهة ولزوم اتصاف ما لا مزية فيه ولا منقصة بالاستحباب لانه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة، لما عرفت من أن المراد من كونه أقل ثوابا إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها ولا منقصة من المشخصات، وكذا كونه أكثر ثوابا. ولا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصح الا للارشاد بخلاف القسم الاول فانه يكون فيه مولويا وان كان حمله على الارشاد بمكان من الامكان

______________________________

الموعود بها لا المستحقة (قوله: ارشادا إلى مالا) بل ارشادا إلى المنقصة في متعلقه فيوجب ذلك بعثا إلى مالا نقصان فيه وكانه المراد كما تقدم نظيره (قوله: بلزوم اتصاف) هذا يرد لو كان المراد أقل ثوابا من بعض الافراد مطلقا وكذا لزوم اتصاف... الخ، فانه يرد لو كان المراد من الاستحباب أكثرية الثواب بالنسبة إلى بعض الافراد مطلقا (قوله: في هذا القسم) يعني بالنسبة إلى التوجيه المختص به لا بالنظر إلى توجيهه بما مر في القسم الاول فانه لا يتعين فيه ذلك (قوله: إلا للارشاد) لان كونه مولويا ولو تنزيهيا كراهتيا يتوقف على ثبوت مفسدة في متعلقه أو مصلحة في نقيضه مزاحمة لمصلحته والمفروض انه ليس كذلك إذ كان متعلقه ذا مصلحة وليس في نقيضه مصلحة كما في القسم الاول إلا ان يقال: إن ترك العبادة وإن لم يكن ملازما لعنوان ذي مصلحة أو متحدا معه إلا أن فعلها ملازم لفوات مقدار من المصلحة وحيث أن فوات ذلك المقدار مبغوض حقيقة كان ملازمه مبغوضا عرضا فيصح النهي عنه بالعرض والمجاز. نعم لو لم يكن فعل الفرد ملازما لفوات ذلك المقدار لامكان تداركه ولو بالاعادة في فرد آخرتم ما ذكر ثم إنك عرفت في القسم الاول إمكان أن يكون النهي لمفسدة في ملازمه ويمكن ذلك أيضا في هذا القسم لكن لازمه خروج الفرد عن كونه

٣٨٢

(وأما القسم الثالث) فيمكن ان يكون النهى فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان ويمكن أن يكون على الحقيقة ارشادا إلى غيرها من سائر الافراد مما لا يكون متحدا معه أو ملازما له إذ المفروض التمكن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان اصلا. هذا على القول بجواز الاجتماع، وأما على الامتناع فكذلك في صورة الملازمة، وأما في صورة الاتحاد وترجيح جانب الامر - كما هو المفروض -

______________________________

واجبا لما عرفت من أنه لا مزاحمة بين المقتضي التعييني والمقتضي التخييري فان الاول يؤثر ولو كان استحبابيا والثاني يسقط ولو كان وجوبيا إذ لا تزاحم حقيقة بينهما لامكان الجمع بينهما بفعل غير المكروه من الافراد فيثبت النهي عن الملازم وتخرج العبادة عن كونها فردا للمأمور به بما هو كذلك نعم يكون التقرب بملاك الامر كما تقدم والله سبحانه اعلم (قوله: فيمكن أن يكون) يعني بعد ما كان المبغوض حقيقة هو العنوان المتحد مع العبادة فتعلق النهي بنفس العبادة يمكن أن يكون عرضيا بالمعنى المتقدم ويكون مولويا ويمكن ان يكون حقيقا ويكون إرشاديا إلى ثبوت مفسدة في العنوان المتحد مع العبادة أو الملازم لها لكن عرفت أن الحقيقي - ولو كان إرشاديا - ما يدل على ثبوت مفسدة في متعلقه لا في غيره ولو كان متحدا معه، فلو حمل النهي على الارشاد كان عرضيا أيضا، ومنه يظهر تعين جعله مولويا عرضيا لا ارشاديا كذلك لان الاول أوفق بظاهر النهي نعم لو كان حمله على الارشاد يقتضي كونه حقيقيا دار الامر بين كل من التصرفين ولا معين لاحدهما (قوله: ارشادا إلى) قد تقدم مثل هذا التعبير المبني على المسامحة وسيأتي أيضا (قوله: مما لا يكون) بيان للافراد يعني الافراد التي لا تتحد مع العنوان المنهي عنه حقيقة ولا تلازمه (قوله: هذا على القول) يعني هذا الذي ذكرناه من أن العبادة بنفسها مأمور بها وأن العنوان المتحد معها أو الملازم لها هو المنهي عنه حقيقة يتم على الاجتماع إذ مبنى الاجتماع عدم التنافي

٣٨٣

حيث أنه صحة العبادة فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني فيحمل على ما حمل عليه فيه طابق النعل بالنعل حيث أنه بالدقة يرجع إليه، إذ على الامتناع ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلا من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملائمة كما عرفت وقد انقدح بما ذكرناه أنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة باقلية الثواب في القسم الاول مطلقا وفي هذا القسم على القول بالجواز،

______________________________

بين الامر والنهي بعنوانين ويتم ايضا على الامتناع إذا كان العنوان ملازما للعبادة لا متحدا معها لان القول بالامتناع يختص بصورة اتحاد العنوانين ولا يجري في صورة تلازمهما غاية الامر أن امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم يؤدي إلى امتناع فعليتهما معا لكن يصح الاتيان بالعبادة حينئذ ولو لملاك الامر كما تقدم في الضد وكذا يتم أيضا على الامتناع وترجيح جانب الامر في صورة الاتحاد فتصح العبادة للامر بها فعلا (قوله: حيث انه صحة) ضمير (أن) راجع إلى المفروض يعني حيث أن المفروض صحة العبادة فهو ملازم لتقديم جانب الامر إذ مع تقديم النهي لا مجال للصحة كما تقدم (قوله: فيكون حال النهي) يعني حيث كان المفروض صحة العبادة الملازم لتعلق الامر الفعلي بها على الامتناع فالنهي المتعلق بها يمتنع أن يكون مولويا لمنافاته لصحتها فيحمل على الارشاد إلى نقص في مصلحتها من جهة اقترانها بالخصوصية الخاصة كما تقدم في القسم الثاني (قوله: إذ على الامتناع) هذا التخصيص غير ظاهر (قوله: في القسم الاول) إذ لا قصور في مصلحة العبادة ليقل ثوابها ومنه يظهر عدم صحة التفسير المذكور في القسم الثاني أيضا بناء على توجيهه بما في القسم الاول (قوله: على القول بالجواز) فانه أيضا لا قصور في المصلحة وكذا على القول بالامتناع في صورة الملازمة. نعم على الامتناع والاتحاد لابد من الالتزام بنقص المصلحة كما ذكر فتكون أقل ثوابا بناء على ما تقدم منه من تبعية كمية الثواب لكمية المصلحة

٣٨٤

كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها وان الامر الاستحبابي يكون على نحو الارشاد إلى أفضل الافراد مطلقا على نحو الحقيقة، ومولويا اقتضائيا كذلك، وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب أو متحد معه على القول بالجواز (ولا يخفى) أنه لا يكاد يأتي القسم الاول ههنا فان انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد ايجابه لا أنه يوجب استحبابه أصلا ولو بالعرض والمجاز

______________________________

(قوله: كما انقدح حال) العبادة المستحبة (تارة) تكون أكثر مصلحة لتشخصها بما له دخل في ذلك (وأخرى) ينطبق عليها عنوان ذو مصلحة ويتحد معها (وثالثة) يلازمها عنوان كذلك ولا ريب في امكان كون الامر في الجميع إرشاديا حقيقيا كما في الاولى وعرضيا كما في الاخيرتين وأما كونه مولويا فهو ممتنع في الاولى للزوم اجتماع الاستحباب والوجوب في شئ واحد بعنوان واحد وكذا في الثانية - بناء على الامتناع - أما على الجواز فلا ضير فيه لانه بعنوانين ويكون تعلقه بالعبادة عرضيا، وفى الثالثة يجوز لو جاز اختلاف المتلازمين في الحكم ويكون تعلقه بالعبادة عرضيا أيضا ويمتنع لو امتنع. نعم لا بأس بتعلق الارادة الاستحبابية به فتتأكد مع الوجوبية في الاولى وفى الثانية على القول بالامتناع لاتحاد المتعلق حينئذ ولا كذلك على الجواز لتعدده فلا مجال للتأكد كالثالثة (قوله: مطلقا على) الاطلاق في قبال التقييد الآتي ذكره في المولوي الفعلي فيعم جميع الصور التي أشرنا إليها (قوله: على نحو الحقيقة) قد عرفت الاشكال فيه في الاخيرتين (قوله: كذلك) يعني مطلقا على نحو الحقيقة وعرفت أيضا التأمل فيه (قوله: فيما كان ملاكه) يعني في مورد كان ملاك الامر الاستحبابي ملازمة العبادة لعنوان مستحب (قوله: على القول بالجواز) قيد للمتحد إذ على الامتناع تمتنع فعلية الاستحباب مع فعلية الوجوب لتضادهما وعرفت الامتناع في الملازم أيضا (قوله: يؤكد إيجابه)

٣٨٥

إلا على القول بالجواز، وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان فانه لو لم يؤكد الايجاب لما يصحح الاستحباب الا اقتضائيا بالعرض والمجاز فتفطن (ومنها) أن أهل العرف يعدون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا وعاصيا من وجهين فإذا امر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص كما مثل به الحاجبي والعضدي فلو خاطه في ذاك المكان عد مطيعا لامر الخياطة وعاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان (وفيه) - مضافا إلى المناقشة في المثال بأنه ليس من باب الاجتماع ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة

______________________________

يعني يكون حينئذ واجبا وجوبا أكيدا ناشئا عن مصلحة اكيدة ولا يكون مستحبا لا فعليا ولا اقتضائيا كما هو الحال في سائر موارد الوجوب الاكيد بخلاف القسمين الاخيرين فان العبادة المستحبة لما كان لها بدل غير مستحب صح ان يقال: انها واجبة ومستحبة، ولو كان الاستحباب اقتضائيا لا فعليا (أقول): لا فرق بين ما له بدل وما لا بدل له لان المصلحة القائمة بالعنوان إذا كان يجوز الترخيص في تركها حيث لم تكن لزومية فضمها إلى المصلحة اللزومية لا يوجب تأكد الوجوب فيكون في الموضوع وجوب فعلى واستحباب اقتضائي نعم يوجب تأكد الارادة وليست هي الوجوب ولا منتزع منها - مع أنه لو أوجبت تأكد الوجوب اقتضت ذلك حتى فيما له بدل لعدم الفرق فتكون العبادة المتحدة مع العنوان واجبة وجوبا أكيدا والبدل واجبا وجوبا غير أكيد (فالتحقيق) مجئ الاقسام الثلاثة بلا فرق بين العبادة المكروهة والمستحبة (قوله: إلا على القول) إذ على هذا القول يكون موضوع المصلحة الوجوبية غير موضوع المصلحة الاستحبابية فيمتنع تأكد الوجوب لتعدد الموضوع وكذا في صورة تلازم العنوان المستحب فانه أيضا يمتنع التأكد وحينئذ يثبت وجوب لموضوع المصلحة الزومية واستحباب لموضوع المصلحة الاستحبابية لكن الاستحباب لا يكون فعليا لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم بل يكون اقتضائيا لا غير (قوله: إلا اقتضائيا) وكذا في المتحد على القول بالجواز (قوله: غير متحد مع الخياطة) إذ الخياطة صفة

٣٨٦

وجودا اصلا كما لا يخفى (المنع) إلا عن صدق احدهما إما الاطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الامر أو العصيان فيما غلب جانب النهي لما عرفت من البرهان على الامتناع (نعم) لا بأس بصدق الاطاعة بمعنى حصول الغرض والعصيان في التوصليات وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها إلا فيما صدر من المكلف فعلا غير محرم وغير مبغوض عليه كما تقدم (بقي) الكلام في حال التفصيل من بعض الاعلام والقول بالجواز عقلا والامتناع عرفا (وفيه) أنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلا طريق العقل فلا معنى لهذا التفصيل إلا ما اشرنا إليه من النظر المسامحي غير المبتنى على التدقيق والتحقيق وأنت خبير بعدم العبرة به بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقيق وقد عرفت فيما تقدم أن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الامر والنهي بل في الاعم فلا مجال لان يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه تناف لا يجتمعان في واحد ولو

______________________________

قائمة بالثوب فكيف تكون متحدة مع الكون القائم بالمكلف إلا أن يراد من الخياطة حركة اليد المؤدية إليها ومن الكون في المكان ما يعم الحركة فيه (قوله: المنع إلا عن) يعني نمنع صدق الاطاعة والمعصية معا بل تصدق إحداهما لا غير (قوله: من بعض الاعلام) هو السيد الطباطبائي (ره) وربما استظهر من السلطان والمحقق القمي (ره) في بعض كلماته ونسب إلى الاردبيلي (قوله: إلا طريق) إذ الجواز والامتناع من أحكام العقل (قوله: بل في الاعم) يعني الاعم مما كان مدلولا عليه بالصيغة اللفظية أو بغيرها من أنواع الدال (اقول): عموم الدال لا ينفع بعد اتحاد المدلول فإذا بني على الامتناع في مدلول الصيغة لابد أن يبنى على الامتناع في غيره لان الامتناع من ذاتيات المدلول لا لخصوصية الدال فتأمل جيدا (قوله: المداليل) يعني اللفظية (قوله: ولعله كان) هذا من تتمة التوهم (قوله: حسب تعيينه) يعني تعيين العرف والله سبحانه ولي التوفيق وله الحمد فانه به حقيق

٣٨٧

بعنوانين وان كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين فتدبر

وينبغى التنبيه على أمور

(الاول) أن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وان كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه - لو كان - مؤثرا له كما إذا لم يكن بحرام

______________________________

تنبيهات الاجتماع

(قوله: وان كان يوجب ارتفاع) لقبح التكليف حال الاضطرار بل امتناعه لما عرفت من أن قوام التكليف إحداث الداعي العقلي ليترتب عليه صرف العبد قدرته في موافقته من فعل أو ترك وهذا مما لا يتأتى مع الاضطرار - مضافا إلى أدلة رفع الاضطرار من الآيات والروايات فإذا ارتفع التكليف تبعه العقاب نعم يبقى الاشكال في صحة العبادة حينئذ مع كون الفعل مبغوضا في نفسه ومحرما لولا الاضطرار وسيأتي (قوله: مع بقاء ملاك وجوبه) إذ من المعلوم ان الاضطرار ليس من العناوين الموجبة ذاتا لارتفاع ملاك التكليف اعني المصلحة والمفسدة بل يجوز أن يكون الملاك مشروطا بالاختيار فبطروء الاضطرار يرتفع لارتفاع شرطه وان لا يكون مشروطا بالاختيار فبطروء الاضطرار لا يرتفع بل يبقى الفعل على ما هو عليه من المصلحة أو المفسدة (قوله: لو كان موثرا) كان تامة فاعلها ضمير الملاك (وموثرا) حال من ملاكه يعني بعد سقوط التحريم يبقى ملاك الوجوب موثرا في الوجوب ومقتضيا له لسقوط ملاك التحريم عن صلاحية المزاحمة له فيترتب عليه أثره فعلا (فان قلت): الاضطرار كما يرفع التحريم يمنع من ثبوت الوجوب فان الاختيار شرط في التكليف مطلقا بلا فرق بين الوجوب والتحريم

٣٨٨

بلا كلام الا انه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدى إليه لا محالة فان الخطاب بالزجر عنه حينئذ وان كان ساقطا الا أنه حيث يصدر عنه مبغوضا عليه وعصيانا لذاك الخطاب ومستحقا عليه العقاب لا يصلح لان يتعلق به الايجاب، وهذا في الجملة مما لا شبهة فيه ولا ارتياب وإنما الاشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره مما ينحصر به التخلص عن محذور الحرام كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسطها بالاختيار

______________________________

وغيرهما فكيف يثبت الوجوب لثبوت ملاكه بعد ارتفاع التحريم (قلت): محل الكلام ما إذا كان ملاك الوجوب ثابتا في فرد من الطبيعة المحرمة لا في نفس الطبيعة مطلقا والاضطرار إلى الطبيعة لا يكون اضطرارا إلى خصوص الفرد الواجد لملاك الوجوب فيجوز تعلق الوجوب به ويكون باعثا إليه. نعم يشكل ذلك لو كانت المفسدة أقوى لان الفعل يكون مرجوحا حينئذ ولا يجوز الامر بما هو مرجوح والاضطرار لا يوجب رجحان الوجود على العدم كي يكون الفعل راجحا ولو بالعرض نعم يكون واجبا عقلا لا شرعا نظير ارتكاب أقل القبيحين (قوله: بلا كلام) متعلق بقوله: يوجب، (قوله: الا انه إذا لم يكن) يعني ان ثبوت الوجوب يختص بغير هذه الصورة (قوله: بأن يختار) بيان للاضطرار بسوء الاختيار وضمير (إليه) راجع إلى الاضطرار (قوله: وان كان ساقطا) لان الزجر مساوق للانزجار كما عرفت فيمتنع بامتناعه (قوله: ومستحقا عليه) لانه مخالفة مستندة إلى الاختيار (قوله: لا يصلح لان يتعلق) لان الملاك المصحح لتعلق التحريم به قبل الاضطرار إليه مناف لملاك الوجوب فثبوت الوجوب له يكون بلا ملاك فيمتنع، ومنه يظهر اندفاع توهم أن ثبوت الوجوب له بعد الاضطرار لا يستدعي اجتماع الحكمين المتضادين لان المفروض سقوط التحريم بمجرد الاضطرار فالوجوب - على تقدير ثبوته - لا يكون مجتمعا مع التحريم ووجه الاندفاع ما عرفت الاشارة إليه من ان تضاد الاحكام إنما هو لتنافي ملاكاتها

٣٨٩

في كونه منهيا عنه أو مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه فيه أقوال. هذا على الامتناع، وأما على القول بالجواز فعن أبى هاشم انه مأمور به ومنهي عنه واختاره الفاضل القمي ناسبا له إلى اكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء (والحق) أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه وعصيان له بسوء الاختيار ولا يكاد يكون مأمورا به كما إذا لم يكن هناك توقف(١) عليه أو بلا انحصار به

______________________________

ففرض ثبوت ملاك التحريم - كما هو لازم القول بكونه معصية - كاف في المنع عن تعلق الوجوب وسيأتي انشاء الله لذلك مزيد توضيح (قوله: في كونه منهيا عنه) ظرف مستقر خبر الاشكال (قوله: حكم المعصية) يعني استحقاق الذم والعقاب (قوله: أو بدونه) يعني أو مأمورا به بلا حكم المعصية (قوله: هذا على الامتناع) هذا التخصيص غير ظاهر فان أدلة الاقوال تقتضي عدم الفرق في كل قول منها بين الجواز والامتناع فلاحظها (قوله: وظاهر الفقهاء) لم يتضح وجه الاستظهار المذكور مع أن المشهور بين اصحابنا القول بالامتناع نعم ظاهر كثير منهم صحة صلاة الغاصب حال الخروج بل عن المنتهى الاجماع عليه لكنه لا يدل على كون الخروج مامورا به ومنهيا عنه فراجع (قوله: لم يكن هناك توقف) لا يخفى أن من توسط أرضا غصبا صار مضطرا إلى ارتكاب الحرام بمقدار أقل زمان يمكنه فيه الخروج ويكون مختارا فيما زاد على ذلك المقدار لامكان الخروج فلا يكون مرتكبا للحرام، وظاهر المتن توقف ترك التصرف الزائد على المقدار المضطر إليه على الخروج فيكون الخروج مقدمة له لكن صرح

______________

(١) لا يخفى انه لا توقف هاهنا حقيقة بداهة ان الخروج انما هو مقدمة للكون في خارج الدار لا مقدمة لترك الكون فيها الواجب لكونه ترك الحرام نعم بينهما ملازمة لاجل التضاد بين الكونين ووضوح الملازمة بين وجود الشئ وعدم ضده فيجب الكون في خارج الدار عرضا لوجوب ملازمه حقيقة فتجب مقدمته كذلك وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على ان مثل الخروج يكون مقدمة لما هو الواجب من ترك الحرام فافهم. منه قدس سره (*)

٣٩٠

وذلك ضرورة انه حيث كان قادرا على ترك الحرام رأسا لا يكون عقلا معذورا في مخالفته فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره ويكون معاقبا عليه كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه أو مع عدم الانحصار به ولا يكاد يجدي توقف انحصار التخلص عن الحرام به لكونه بسوء الاختيار

______________________________

في حاشيته على المقام بمنع ذلك (وتوضيح) ما ذكر أن من المعلوم امتناع ان يكون الشئ الواحد في زمان واحد في مكانين لتضاد الكونين وحينئذ فكون المكلف في الزمان المعين في مكان ملازم لعدم كونه في مكان آخر - على ما عرفت في مبحث الضد من ملازمة احد الضدين لعدم الآخر من دون مقدمية بينهما أصلا - فكون المكلف في الزمان الزائد على زمان الخروج في المكان المباح ملازم لعدم كونه في المكان المغصوب لا أنه مقدمة له وإذا لم يكن مقدمة له لم يكن الخروج مقدمة له أيضا لان الخروج مقدمة إعدادية للكون في المكان المباح وما يكون مقدمة لاحد الضدين لا يكون مقدمة لعدم الآخر لان ما يكون مقدمة لاحد المتلازمين لا يكون مقدمة للملازم الآخر. نعم تصح نسبة المقدمية إليه بالعرض لا بالحقيقة (قوله: وذلك ضرورة أنه) هذا لا يصلح تعليلا إلا لاحد جزئي الدعوى (أعني كونه منهيا عنه وأنه عصيان للنهي) لا للجزء الآخر (أعني كونه ليس مأمورا به) فهو ينفي القول الثالث لا الثاني الا بملاحظة ما تقدم من أن ما يصدر مبغوضا وعصيانا لا يصلح لان يتعلق به الوجوب (قوله: كان قادرا على) يعني كان قبل الدخول في الارض المغصوبة قادرا على ترك التصرف الحرام لقدرته على ترك الدخول فان من لم يدخل في الارض لم يتصرف فيها أصلا لا بالدخول ولا بالخروج وإذا كان قادرا على ذلك كان التصرف في الارض بنحو الدخول أو بالخروج بعد الدخول حراما مقدورا على تركه فيكون معصية (قوله: فيما اضطر إلى) وهو التصرف بعد الدخول (قوله: بسوء اختياره) يعني اختياره للدخول (قوله: بلا توقف) يعني بلا أن يتوقف عليه التخلص (قوله: أو مع عدم) فان مقدمة الواجب إذا كانت محرمة ولا ينحصر التوصل إلى

٣٩١

(ان قلت): كيف لا يجديه ومقدمة الواجب واجبة ؟ (قلت) إنما تجب المقدمة لو لم تكن محرمة ولذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة مع اشتراكهما في المقدمية، واطلاق الوجوب بحيث ربما يترشح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها إنما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرمة والمفروض ههنا

______________________________

الواجب بفعلها لا تكون واجبة (قوله: إن قلت كيف) يعني ان الحكم بوجوب المقدمة عقلي والحكم العقلي لا يقبل التخصيص فكيف يحكم بعدم وجوب الخروج مع أنه مقدمة للتخلص الواجب ؟ (قوله: إلا على ما هو المباح) مقدمة الواجب (تارة) تكون منحصرة بالمباح (وأخرى) منحصرة بالحرام (وثالثة) غير منحصرة باحدهما بأن تكون ذات فردين مباح وحرام (فان كانت) من الاول فلا ريب في ترشح الوجوب عليها - بناء على وجوب المقدمة - فتكون حينئذ مباحة بالذات واجبة بالعرض لكن وجوبها فعلي إن كانت اباحتها لا اقتضائية لعدم التزاحم بين المقتضي واللا مقتضي وإذا كانت اباحتها اقتضائية تزاحم مقتضيها مع مقتضي الوجوب فيكون الاثر للاقوى منهما، وان كانت من الثاني وقع التزاحم بين مقتضي الحرمة في المقدمة وبين مقتضي الوجوب في ذيها فيؤخذ بالاقوى منهما فان كان مقتضي الحرمة فيها أقوى بقيت على تحريمها وسقط وجوب ذيها، وإن كان مقتضي الوجوب فيها أقوى سقط تحريمها ووجبت مطلقا على المشهور أو في حال فعل الواجب بعدها بناء على المقدمة الموصلة، ومع تساوي المقتضيين تثبت الاباحة لكل منهما لا مطلقا بل بنحو يلازم إعمال احد المقتضيين فيجوز فعل المقدمة في ظرف فعل الواجب أعني ذاها على القول بالمقدمة الموصلة، وعلى المشهور يجوز فعل المقدمة المحرمة وان لم يفعل بعدها الواجب كما تقدم في مبحث المقدمة (وان كانت) من الثالث ثبت الوجوب للفرد المباح تعيينا ولا يثبت للمحرم لان مناط الوجوب تخييري ومناط التحريم تعييني والاول وإن كان

٣٩٢

وإن كان ذلك الا انه كان بسوء الاختيار ومعه لا يتغير عما هو عليه من الحرمة والمبغوضية والا لكانت الحرمة معلقة على ارادة المكلف واختياره لغيره وعدم حرمته مع اختياره له وهو كما ترى - مع أنه خلاف الفرض

______________________________

أقوى لا يزاحم الثاني وإن كان أضعف (قوله: وإن كان ذلك) يعني أهمية الواجب وهو التخلص عن الغصب من ترك الحرام وهو الخروج لكنه لا يخلو من تأمل لان الخروج نوع من الغصب فحرمته تثبت بمناط حرمة الغصب لا بمناط آخر فلا مقتضي للاهمية، وطول الزمان وان كان له دخل في زيادة الاهتمام لكنه لا يطرد إذ قد يكون زمان الخروج أطول من زمان التخلص المتوقف عليه كما لو علم بموت المالك بعد الخروج في زمان أقصر من زمان الخروج مع كونه وارثا له فالوجه في ترجح الخروج كونه أقل المحذورين وأهون القبيحين كما سيأتي (قوله: والا لكانت الحرمة) ظاهر العبارة أن المراد هو أنه لو كان الخروج واجبا بعد الدخول لزم كون حرمته معلقة على الكون في المكان المباح الملازم لترك الدخول، وعدمها معلقا على إرادته أي الخروج لكن لزوم اللازم الثاني غير ظاهر إذ الوجوب إنما يناط - عند القائل به - بمجرد الدخول ولو مع إرادة المكث فانه بالدخول حيث يتردد أمر الداخل بين المكث والخروج يكون الخروج واجبا ليتخلص به عن الغصب فلا يكون عدم حرمته معلقا على ارادته. نعم يتم ما ذكر لو كان أمر المكلف دائرا بين ترك الدخول وبين الدخول مع الخروج فهو إما أن يريد ترك الدخول أو يريد الدخول والخروج فمع الاول يكون الخروج حراما ومع الثاني لا يكون حراما، لكن محل الكلام ما إذا أمكنه المكث بعد الدخول (قوله: وهو كما ترى) يعني به بطلان كلا اللازمين (أما الاول) فلانه مع الكون في المكان المباح وترك الدخول يكون الخروج خارجا عن محل الابتلاء لمضادته للكون المذكور فلا معنى لحرمته حينئذ (وأما الثاني) فلما تقدم من أن وظيفة التكليف إحداث الارادة فيكون كالعلة لها فلا يكون معلولا لها، وإن شئت قلت: إن الشئ في ظرف

٣٩٣

وأن الاضطرار يكون بسوء الاختيار (ان قلت): إن التصرف في أرض الغير بدون اذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال ولا كلام وأما التصرف بالخروج الذي يترتب عليه رفع الظلم ويتوقف عليه التخلص عن التصرف الحرام فهو ليس بحرام في حال من الحالات بل حاله حال مثل شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الاوقات، ومنه ظهر المنع عن كون جميع أنحاء التصرف في أرض الغير مثلا حراما قبل الدخول وأنه يتمكن من ترك الجميع حتى الخروج، وذلك لانه لو لم يدخل لما كان متمكنا من الخروج وتركه وترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة الا ترك الدخول فمن لم يشرب الخمر لعدم وقوعه في المهلكة التي يعالجها به مثلا لم يصدق عليه الا انه لم يقع في المهلكة لا أنه مما ما شرب الخمر فيها إلا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع كما لا يخفى (وبالجملة) لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقا للتخلص عن الحرام أو سببا له - إلا مطلوبا

______________________________

إرادته يكون واجبا فالتكليف به من قبيل تحصيل الحاصل (قوله: وان الاضطرار) بيان للفرض لان كونه بسوء الاختيار يقتضي كونه محرما وإلا كان من حسن الاختيار (قوله: من الحالات) يعني لا قبل الاضطرار ولا بعده (قوله: وذلك لانه لو) بيان لظهور المنع يعني أن المنع عن الخروج نوع من التكليف والتكليف بجميع أنواعه مشروط بالقدرة وقبل الدخول لا قدرة على الخروج حتى يصح المنع عنه فالمنع عنه حينئذ تكليف بغير المقدور ممتنع، (قوله: وترك الخروج) دفع لتوهم أن ترك الخروج مقدور قبل الدخول فلا وجه لدعوى عدم القدرة عليه (قوله: ليس في الحقيقة) إذ نسبة القدرة إلى الوجود والعدم نسبة واحدة فإذا لم يقدر على الخروج قبل الدخول لم يقدر على تركه أيضا (قوله: لا أنه ما شرب) يعني لا يصدق عليه أنه ممن لم يشرب الخمر في التهلكة (قوله: مصداقا للتخلص) لم يتوهم أحد كونه مصداقا

٣٩٤

ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبية ويحكم عليه بغير المطلوبية (قلت): هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأمورا به وهو موافق لما أفاده شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - على ما في تقريرات بعض الاجلة، لكنه لا يخفى أن ما به التخلص عن فعل الحرام أو ترك الواجب إنما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل وان كان قبيحا ذاتا إذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه ولم يقع بسوء اختياره إما في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام، وإما في الاقدام على ما هو قبيح وحرام لولا أن به التخلص بلا كلام

______________________________

للتخلص بل لا ريب عندهم في كونه مصداقا للغصب (قوله: ويستحيل أن) لان الاتصاف بغير المحبوبية يكون بلا منشأ مصحح (قوله: لكنه لا يخفى أن ما به) حاصل الاشكال أنه إذا توقف فعل الواجب أو ترك الحرام على فعل محرم بحيث دار أمر المكلف بين فعل ذلك المحرم الذي هو المقدمة، وبين تفويت ما يتوقف على ذلك المحرم من فعل الواجب وترك الحرام الذي هو ذو المقدمة فان كان هذا الدوران بغير اختيار المكلف صح دعوى انقلاب ذلك المحرم إلى كونه واجبا من جهة مقدميته لفعل الواجب أو لترك الحرام، أما إذا كان الدوران بسوء اختيار المكلف بحيث كان يمكن المكلف أن يفعل الواجب الذي هو ذو المقدمة بدون فعل الحرام الذي هو المقدمة أو كان يمكنه أن يترك الحرام بدون فعل المحرم الذي هو المقدمة وباختياره أوقع نفسه في الدوران المذكور لا ينقلب المحرم إلى الوجوب بل يبقى على تحريمه (قوله: ولم يقع) يعني ولم يضطر بسوء اختياره إلى الاقتحام في ترك ذي المقدمة أو الاقتحام في فعل الحرام الذي هو المقدمة، (قوله: أو فعل الحرام) معطوف على ترك الواجب وأحدهما على البدل يكون ذا المقدمة (قوله: ما هو قبيح) وهو المقدمة المحرمة (قوله: لو لا أن به التخلص) قيد لقوله: قبيح وحرام، وكذا قوله: بلا كلام، إذ المقدمة محرمة بلا كلام من الخصم لو لا جهة توقف التخلص عليها كالخروج فيما نحن

٣٩٥

كما هو المفروض في المقام ضرورة تمكنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره، (وبالجملة) كان قبل ذلك متمكنا من التصرف خروجا كما يتمكن منه دخولا غاية الامر يتمكن منه بلا واسطة ومنه بالواسطة ومجرد عدم التمكن منه إلا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا كما هو الحال في البقاء فكما يكون تركه مطلوبا في جميع الاوقات فكذلك الخروج - مع أنه مثله في الفرعية على الدخول فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته قبله وبعده كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيته وان كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين، ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة وانه انما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة وان كان العقل يلزمه ارشادا إلى ما هو أهم وأولى بالرعاية من تركه

______________________________

فيه فانه حرام قطعا لو لا شبهة توقف التخلص من الغصب عليه (قوله: كما هو المفروض) قيد لقوله: يتمكن المكلف (قوله: تمكنه منه) أي من التخلص (قوله: اقتحامه فيه) يعني في الحرام (قوله: وبالجملة كان) رد على قول السائل: لانه لو لم يدخل... الخ (قوله: ذلك) اشارة إلى الاقتحام في الحرام بالدخول في الارض (قوله: يتمكن منه) يعني من الدخول (قوله: ومنه) يعني من الخروج (قوله: في جميع الاوقات) حتى قبل الدخول (قوله: مطلوبيته قبله) ضمير مطلوبيته راجع إلى البقاء وضمير (قبله وبعده) راجع إلى الدخول (قوله: وإن كان العقل) يعني بعد ما كان الخروج كالبقاء تصرفا محرما يدور الامر بينه وبين البقاء ويترجح هو عليه في نظر العقل لانه أقل المحذورين. ثم ان الطبعة البغدادية لا تخلو من نقص في المقام وأصل العبارة - كما في بعض النسخ الصحيحة - هكذا: يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين، ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة وأنه انما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن

٣٩٦

لكون الغرض فيه أعظم فمن ترك الاقتحام فيما يؤدى إلى هلاك النفس أو شرب الخمر لئلا يقع في أشد المحذورين منهما فيصدق انه تركهما ولو بتركه ما لو فعله لادى لا محالة إلى أحدهما كسائر الافعال التوليدية حيث يكون العمد إليها بالعمد إلى اسبابها واختيار تركها بعدم العمد إلى الاسباب. وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج وإن كان لازما عقلا للفرار عما هو اكثر عقوبة، ولو سلم عدم الصدق إلا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع فهو غير ضائر بعد تمكنه من الترك ولو على نحو هذه السالبة ومن الفعل بواسطة تمكنه مما هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر

______________________________

الاضطرار إليه بسوء الاختيار وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة وان كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهم وأولى... الخ (قوله: لكن الغرض) كذا في النسخة البغدادية والصحيح: لكون الغرض: وضمير فيه راجع إلى الاهم (قوله: من ترك الاقتحام) كذا في النسخة البغدادية والصحيح: فمن ترك، وجواب الشرط قوله: فيصدق وهذا رد على قول المستدل: فمن لم يشرب... الخ يعني أن من ترك الاقتحام فيما يؤدي إلى أحد الامرين من هلاك النفس وشرب الخمر بأن لم يعرض نفسه للهلاك الذي لا يندفع إلا بشرب الخمر يصدق عليه أنه تارك للهلاك وتارك لشرب الخمر (قوله: كسائر الافعال التوليدية) كان الاولى أن يقول: نظير الافعال التوليدية، فان شرب الخمر ليس من الافعال التوليدية (قوله: بالعمد إلى أسبابها) وان لم يتعلق العمد بها فان العمد المعتبر في ترتب العقاب غير العمد المعتبر في ترتب الثواب إذ يكفي في ترتب العقاب على المسبب العمد إلى السبب مع العلم بترتب المسبب عليه ولا يكفي ذلك في ترتب الثواب بل لا بد من العمد إلى المسبب نفسه (قوله: وان كان لازما) يعني الشرب لاجل العلاج (قوله: الا بنحو السالبة) كما اعترف به المستدل (قوله: فيوقع نفسه) بيان لكيفية التمكن من الفعل،

٣٩٧

ويتخلص بالخروج أو يختار ترك الدخول والوقوع فيهما لئلا يحتاج إلى التخلص والعلاج (إن قلت): كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعا ومعاقبا عليه عقلا مع بقاء ما يتوقف عليه على وجوبه لسقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة ولو كان بسوء الاختيار والعقل قد استقل بأن الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا (قلت): أولا إنما كان الممنوع كالممتنع إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشادا إلى ما هو أقل المحذورين وقد عرفت لزومه بحكمه فانه مع لزوم الاتيان بالمقدمة عقلا لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه فانه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع كما إذا كانت المقدمة ممتنعة (وثانيا) لو سلم فالساقط إنما هو الخطاب فعلا بالبعث والايجاب لا لزوم اتيانه عقلا خروجا عن عهدة ما تنجز عليه سابقا ضرورة أنه لو لم يأت به لوقع في المحذور الاشد ونقض الغرض الاهم حيث

______________________________

(قوله: أو يختار ترك) بيان لكيفية التمكن من الترك (قوله: مع بقاء ما يتوقف) يعني فإذا امتنع الجمع بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها فاما أن يسقط الوجوب فلا باعث على الخروج أو يسقط التحريم وهو المطلوب (قوله: قلت أولا) يعني أن الممنوع شرعا انما كان كالممتنع عقلا من جهة أن المنع الشرعي موجب لمنع العقل وفى ظرف المنع العقلي عن المقدمة لا يترتب البعث العقلي على التكليف بذيها لتضادهما كما لو كانت ممتنعة أما إذا كان العقل لا يمنع من فعل المقدمة بل كان يبعث إلى فعلها لانها أقل المحذورين فلا مانع من التكليف بذي المقدمة ففي الحقيقة لا جمع بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها بل ليس إلا وجوب ذيها لا غير وحرمة المقدمة ساقطة بالاضطرار إلى مخالفتها أو مخالفة الوجوب بضميمة كون مخالفتها أهون المحذورين، لكن سقوط مثل هذا التحريم نظير السقوط بالامتناع لا ينافي كون الفعل ممنوعا عنه شرعا لو لا الامتناع ويستحق العقاب على مخالفته ولو لاجل الامتناع وليس المدعى الا ذلك (قوله: إنما هو الخطاب) التكليف الذي يصلح للسقوط والثبوت ليس الا التكليف الاعتباري وهو جعل الكلفة المساوق للبعث العقلي

٣٩٨

أنه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية بلا حدوث قصور أو طروء فتور فيه أصلا وانما كان سقوط الخطاب لاجل المانع وإلزام العقل به لذلك إرشادا كاف لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والايجاب له فعلا فتدبر جيدا، وقد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه نظرا إلى النهي السابق - مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والايجاب قبل الدخول أو بعده كما في الفصول مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما وهذا أوضح من أن يخفى كيف ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصيانا للنهي السابق وإطاعة للامر اللاحق فعلا ومبغوضا ومحبوبا كذلك بعنوان واحد. وهذا

______________________________

وأما الخطاب فهو لا يقبل ذلك لانه تدريجي متصرم. نعم يصلح للاتصاف بالحسن والقبح فيقال: يحسن الخطاب ويقبح، لكن حسنه وقبحه أيضا منوطان بترتب البعث العقلي عليه وعدمه ولا ينفك أحدهما عن الآخر فمع فرض أهمية الواجب يكون هو المبعوث إليه والواجب والمكلف به والذي يحسن الخطاب به (قوله: انه الآن) يعني بعد الاضطرار والدوران كما كان عليه قبلهما (قوله: السابق) يعني الساقط حين حدوث الاضطرار قبل الخروج ولذا كان الخروج بحكم المعصية لا معصية (قوله: كما في الفصول) واستدل عليه بانه لو كانت مبغوضية شئ في زمان مضادة لمطلوبيته في زمان آخر لامتنع البداء في حقنا مع وضوح جوازه وإنما لا يترتب هنا أثر الاول لرفع البداء له بخلاف المقام... الخ (أقول): المناسب تمثيل المقام بالبداء الحقيقي في حقه سبحانه فإذا كان مستحيلا كانت المحبوبية والمبغوضية في زمان لشئ واحد في زمان واحد كذلك لا بالبداء في حقنا إذ المصحح له في حقنا الجهل بالخصوصيات التي عليها الشئ واقعا والمقام ليس كذلك (قوله: مع اتحاد زمان) فان الفعل الواحد في زمان واحد لا يجتمع فيه ملاكا المحبوبية والمبغوضية ولو في زمانين (قوله: عصيانا للنهي)

٣٩٩

مما لا يرضى به القائل بالجواز فضلا عن القائل بالامتناع كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة كون النهي مطلقا وعلى كل حال وكون الامر مشروطا بالدخول ضرورة منافات حرمة شئ كذلك مع وجوبه في بعض الاحوال (وأما) القول بكونه مأمورا به ومنهيا عنه ففيه - مضافا إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلص وكان بغير اذن المالك وليس التخلص الا منتزعا عن ترك الحرام المسبب(١) عن الخروج لا عنوانا له - أن الاجتماع هاهنا لو سلم انه لا يكون بمحال لتعدد العنوان وكونه مجديا في رفع غائلة التضاد كان محالا لاجل كونه طلب

______________________________

قد عرفت أن تضاد هذه الامور بتوسط تنافي ملاكاتها (قوله: وكون الامر مشروطا) هذا ذكره في الفصول لا بقصد رفع الاشكال بحيثيتي الاطلاق والاشتراط بل لتحقيق اختلاف زماني الحكمين وعليه فلا بد أن يكون المراد بالاطلاق عدم الاشتراط بالدخول لا الشامل لما بعد الدخول بقرينة قوله: فهما غير مجتمعين، وبنائه على سقوط النهي بالاضطرار المسقط له عقلا فكيف يكون له إطلاق يشمل حال الاضطرار ؟ (قوله: بعنوانه سببا) يعني بعنوانه الاولي فيكون واجبا بعنوانه الاولي كما تقدم في مبحث المقدمة (قوله: وكان بغير) يعني وكان بعنوانه الاولي بغير إذن المالك فيكون المحرم الخروج غير

______________

(١) قد عرفت مما علقت على الهامش ان ترك الحرام غير مسبب عن الخروج حقيقة وانما المسبب عنه هو الملازم له وهو الكون في خارج الدار. نعم يكون مسببا عنه مسامحة وعرضا وقد انقدح بذلك انه لا دليل في البين إلا على حرمة الغصب المقتضي لاستقلال العقل بلزوم الخروج من باب انه اقل المحذورين وانه لا دليل على وجوبه بعنوان آخر فحينئذ يجب اعماله ايضا بناء على القول بجواز الاجتماع كاحتمال النهي عن الغصب ليكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه فافهم. (منه قدس سره) (*)

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511