الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135948 / تحميل: 5389
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) )

التّفسير

قسما بيوم القيامة والنفس اللوامة :

تبدأ هذه السورة بقسمين غزيرين بالمعاني ، فيقول تعالى :( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) وهناك أقوال للمفسّرين في ذلك ، فقيل أنّ (لا) زائدة للتأكيد وأنّها لا تنفي القسم ، بل تؤكّده ، وقيل وربّما نافية ، والغاية في ذلك هو أن يقول لا أقسم بذلك لأهمية هذا الموضوع (كالقول لا أقسم بحياتك لأنّها أعلى من القسم).

وأخذ أغلب المفسّرين بالتّفسير الأوّل ، ولكن البعض الآخر بالتّفسير الثّاني حيث قالوا إنّ (لا) الزائدة لا تأتي في أوّل الكلام بل في وسطه ، والأوّل هو الأصح ظاهرا. لأنّ القرآن الكريم قد أقسم بأمور هي أهم من القيامة ، كالقسم بذات الله

٢٠١

المقدّسة ، لذا ليس هناك دليل على عدم القسم هنا بيوم القيامة ، وهناك مثال لاتّخاذ لا الزائدة في أوّل الكلام ، وهو ما ورد في أشعار «امرئ القيس» حيث استعمل «لا» الزائدة في بداية قصائده الشعرية

لا وأبيك ابنة العامر

لا يدعي القوم أني أفر

ولكن ما نعتقده أنّ البحث ليس مهمّا حول ما إذا كانت (لا) نافية أو زائدة ، وذلك لأنّ نتيجة القولين هي واحدة وهي بيان أهمية الموضوع الذي أقسم لأجله.

المهم أنّ نرى ما هي العلاقة والرّابطة الموجودة بين القسمين.

الحقيقة أنّ أحد دلائل وجود «المعاد» هو وجود «محكمة الوجدان» الموجودة أعماق الإنسان ، والتي تنشط وتسر عند الإقدام لإنجاز عمل صالح ، وبهذه الطريقة تثبت صاحبها وتكافئه ، وعند ارتكاب الأعمال السيئة والرذيلة فإنّها سوف تقوم بتقريع صاحبها وتأنّبه وتعذبه إلى حدّ أنّه قد يقدم على الانتحار للتخلص ممّا يمرّ فيه من عذاب الضمير.

وفي الحقيقة أنّ الضمير هو الذي أصدر حكم الإعدام ، وتمّ تنفيذ ذلك بنفسه ، إنّ دوي النفس اللوامة في وجود الإنسان واسع جدّا ، وهي قابلة للتمعن والمطالعة في كلّ الأحوال وفي بحث الملاحظات نشير إلى ذلك بشكل واسع.

عند ما يكون (العالم الصغير) أي وجود الإنسان محكمة في قلبه ، فكيف يمكن للعالم الكبير أن لا يملك محكمة عدل عظمى؟

فمن هنا نفهم وجود البعث والقيامة بواسطة وجود الضمير الأخلاقي ، ومن هنا تتّضح الرابطة الظريفة بين القسمين ، وبعبارة أخرى فإنّ القسم الثّاني هو دليل على القسم الأوّل.

وأمّا ما يراد بـ «النفس اللوامة»(١) فهناك أقوال كثيرة ومختلفة قد ذكرت

__________________

(١) اللوامة : صيغة مبالغة وتعني كثيرة اللوم.

٢٠٢

للمفسّرين ، وأحد تلك التّفاسير المشهورة هو ما ذكرناه آنفا ، وهو أنّ أنّها «الوجدان الأخلاقي» الذي يلوم الإنسان في الدنيا على المعصية ويحفّزه على إصلاح ما بدا منه.

والتّفسير الآخر هو أنّ المراد بالنفس الإنسانية بصورة عامة التي تلوم صاحبها يوم القيامة ، فإذا كان مؤمنا فإنّها تلومه على عدم الإكثار من الصالحات وعلى قلّة الطاعة ، وإن كان كافرا فإنّها تلوم على كفره وشركه وفجوره.

وأمّا الآخر : فالمراد نفس الكافر التي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر ومعصية.

والوجه الأوّل يناسب الآية السابقة والتي تليها ، أجل إنّ لمحكمة الضمير مقاما ومنزلة عظيمة ولهذا يقسم الله بها ، ويستعظم قدرها ، وهي بحقّ عظيمة القدر ، لأنّها أحد العوامل المهمّة لخلاص لإنسان بشرط أن تكون واعية ويقظة وغير عاجزة بسبب الذنوب والآثام.

وممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ جواب القسم محذوف ، وهذا ما تدل عليه الآيات التالية والتقدير «لتبعثن يوم القيامة» أو «أنّكم تبعثون» فيكون المعنى : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أنّكم تبعثون يوم القيامة وتجزون ما كنتم تفعلون.

ومن الظريف أنّ القسم جاء بيوم القيامة على وجود يوم القيامة ، وذلك لأنّه إلى درجة من الوضوح والبداهة أنّه يمكن القسم به حتى في مقابل المنكرين.

ثمّ يستفهم تعالى في الآية الأخرى للتوبيخ فيضيف :( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) .

ورد في رواية أنّ أحد المشركين وهو «عدي بن أبي ربيعة» كان جارا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأل النّبي عن أمر القيامة فأخبره به ، فقال عدي : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ، أو يجمع الله هذه العظام؟ فنزلت هذه الآيات وأجابته على

٢٠٣

ذلك ، ولذا قال فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اللهم اكفني شر جاري سوء»(١) .

وهناك نظائر لهذا المعنى في الآيات القرآنية الأخرى ، منها الآية (٧٨) من سورة (يس) حيث إنّ منكرا من منكري المعاد كانت بيده عظاما ، فقال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) ؟

والتعبير بكلمة «يحسب» التي هي من الحسبان وتعني الظن ، إشارة إلى أنّ المنكرين لا يؤمنون بما يقولون ، بل يعتمدون على ما يظنون من الوهم.

ولكن نرى أنّه قد اعتمد على العظام خاصّة ، وهذا لكون دوام بقاء العظام أكثر من غيرها من أجزاء الجسد ، ولذا تكون إعادتها تكون تربا متأثرا بعيدا في نظر عديمي الإيمان.

ثمّ إنّ العظام من الأركان المهمّة في بدن الإنسان ، لأنّها تشكل أعمدة البدن ، وكلّ الحركات والتغيرات المهمّة الحاصلة في البدن وكذلك فعاليات المختلفة تتمّ بواسطة العظام ، وكثرة وتنوع أشكال ومقاييس العظام في جسم الإنسان من عجائب الخلقة الإلهية ، تتّضح أهميتها عند ما تتعطل فقرة واحدة من فقرات الظهر عن العمل وتسبب في شلّ حركة البدن.

«البنان» : أطراف الأصابع ، وقيل الأصابع ، وفي المعنيين إشارة إلى أنّ الله تعالى ليس القادر على جمع العظام وإرجاعها إلى صورتها الأولى فحسب ، بل إنّه تعالى يسوي العظام الصغيرة والظريفة والدقيقة للأصابع على ما كانت عليها في الخلق الأوّل ، والأعجب من ذلك يمكنه تعالى اعادة بصمات الأصابع كما كانت عليه أيضا.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة لطيفة إلى الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع والتي نادرا ما تتساوى هذه الخطوط عند شخصين.

__________________

(١) أورد هذه الرواية المراغي ، وكذلك ذكرت في روح المعاني ، وتفسير الصافي بتفاوت يسير.

٢٠٤

وبتعبير آخر إنّ هذ الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع هي المعرّفة لشخص الإنسان ، ولذا صار بصم الأصابع في عصرنا هذا أمرا علميا ، وبهذه الطريقة يمكن كشف الكثير من السراق والمجرمين ، فيكفي في كشف السارق وضعه أصابعه على مقبض الباب ، أو زجاجة الغرفة ، أو قفل الصندوق وبقاء أثر خطوط أنامله عليها ، ثمّ يؤخذ من ذلك الطبع نموذج وتتمّ مقابلته مع آثار أصابع اللصوص السابقين التي أخذت منهم سلفا ، وهكذا يعرف المجرم والسارق.

وفي الآية الأخرى إشارة إلى أحد العلل الحقيقة لإنكار المعاد فيقول :( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) ، إنّهم يريدون أن يكذبوا بالبعث وينكروا المعاد ، ليتسنى لهم الظلم وارتكاب المحارم والتنصل عن المسؤولية أمام الخلق ، وذلك لأنّ الإيمان بالمعاد والقيامة ومحكمة العدل الإلهية بمثابة سدّ عظيم في مقابل المعاصي والذنوب والنفس الأمارة تريد كسر هذا السدّ وهذا الطوق ليفجر الإنسان مدى عمره ويعمل ما يشاء ، وهذا ليس منحصرا بالأزمنة السابقة ، بل إنّ إحدى علل الميول إلى المادية وإنكار المبدأ والمعاد في هذا العصر هو كسب الحرية للفجور والهروب من المسؤولية ، وتحطيم كل القوانين الإلهية ، وإلّا فإنّ دلائل المبدأ والمعاد واضحة ، وقد ورد في تفسير علي بن ابراهيم في توضيح معنى هذه الآية حيث قال : يقدّم الذنب ويؤخر التوبة ويقول سوف أتوب.

وقيل المراد من «الفجور» و «التكذيب» ، فيكون المعنى ، يريد أن يكذب بالبعث الذي سوف يقع أمامه ، ولكن التفسير الأوّل أنسب.

ثمّ يضيف بعد ذلك :( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) .

أجل ، إنّه يستفهم مستنكرا عن وقوع يوم القيامة ويهرب ممّا كلّف به لكي يفسح لنفسه طريق الفجور أمامه ، والجدير بالذكر أنّ سؤالهم هذا عن وقت حدوث القيامة لا يعني أنّهم يؤمنون بأصل القيامة ، بل هو مقدّمة لإنكار أصل القيامة كالذي يقول : (فلان سوف يقدم من السفر) وإذا ما تأخر فترة من الزمن يعترض من ينكر قدوم ذلك المسافر فيقول : (متى سوف يأتي المسافر)؟

٢٠٥

ملاحظات

١ ـ محكمة الضمير أو القيامة الصغرى

نستفيد من آيات القرآن المجيد أنّ للنفس الإنسانية ثلاث مراحل :

١ ـ النفس الامارة : وهي النفس العاصية التي تدعو الإنسان إلى الرذائل والقبائح باستمرار ، وتزيّن له الشهوات ، وهذا ما أشارت إليه امرأة عزيز مصر حينما نظرت إلى عاقبة أمرها فقالت :( وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) .(١) ؟

٢ ـ النفس اللوامة : وهي ما أشير إليها في الآيات التي ورد البحث فيها ، وهي نفس يقظة وواعية نسبيا ، فهي تزل أحيانا لعدم حصولها على حصانة كافية مقابل الذنوب ، وتقع في شبك الآثام إلّا أنّها تستيقظ بعد فترة لتتوب وترجع إلى مسير السعادة ، وانحرافها ممكن ، إلّا أنّ ذلك يكون مؤقتا وليس دائما ولا يمضي عليها كثير وقت حتى تعود إلى الملامة والتوبة.

وهذا هو ما يذكرونه تحت عنوان (الضمير الأخلاقي) ويكون هذا قويا جدّا عند بعض الأفراد ، وضعيفا وعاجزا عند آخرين ، ولكن النفس اللوامة لا تموت بكثرة الذنوب عند أي انسان.

٣ ـ النفس المطمئنة : وهي النفس المتكاملة المنتهية إلى مرحلة الاطمئنان والطاعة والمنتهية إلى مقام التقوى والإحساس بالمسؤولية وليس من السهل انحرافها ، وهذا ما ورد في وقوله تعالى :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) (٢) .

__________________

(١) يوسف ، ٥٣.

(٢) الفجر ، ٢٧ ـ ٢٨.

٢٠٦

على كل حال فإنّ النفس اللوامة كما قلنا هي كالقيامة الصغرى في داخل الروح والتي تقوم بمحاسبة الإنسان ، ولذا تحس أحيانا بالهدوء والاستقرار بعد القيام بالأعمال الصالحة وتمتلئ بالسرور والفرح والنشاط.

وبالعكس فإنّها تبتلي أحيانا بكابوس الرذائل والجرائم الكبيرة وأمواج الغم والحيرة ، ويحترق بذلك باطن الإنسان حتى يتنفر من الحياة ، وربّما يبلغ ألم الوجدان أنّه يقدم على تسليم نفسه إلى المحاكم القضائية ليرتقي منصة الإعدام لخلاص نفسه من قبضة هذا الكابوس.

هذه المحكمة الداخلية العجيبة لها شبه عجيب بمحكمة القيامة.

١ ـ إنّ القاضي والشاهد والمنفذ للأحكام واحد ، كما في يوم القيامة :( عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ ) (١) .

٢ ـ إنّ هذه المحكمة ترفض كلّ توصية ورشوة وواسطة كما هو الحال في محكمة يوم القيامة ، فيقول تعالى :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) (٢) .

٣ ـ إنّ محكمة الضمير تحقق وتدقق الملفات المهمّة بأقصر مدّة وتصدر الحكم بأسرع وقت ، فلا استئناف في ذلك ، ولا إعادة نظر ، ولا تحتاج في ذلك شهورا وسنين ، وهذا هو ما نقرأه أيضا في محكمة البعث :( وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (٣) .

٤ ـ مجازاتها وعقوباتها ليست كعقوبات المحاكم الرسمية العالمية ، فإنّ

__________________

(١) الزمر ، ٤٦.

(٢) البقرة ، ٤٨.

(٣) الرعد ، ٤١.

٢٠٧

شرر النيران تتقد في الوهلة الاولى في أعماق القلب والروح ، ثمّ تسري إلى الخارج ، فتعذب روح الإنسان أوّلا ، ثمّ تظهر آثارها في الجسم وملامح الوجه وطبيعة النوم والأكل ، فيعبّر تعالى عن ذلك في قوله :( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) (١) .

٥ ـ عدم احتياج هذه المحكمة إلى شهود ، بل إنّ المعلومات التي يعطيها الإنسان المتهم بنفسه والذي يكون شاهدا على نفسه هي التي تقبل منه ، نافعة كانت له أم ضارة! كما تشهد ذرات وجود الإنسان حتى يداه وجلده على أعماله في محكمة البعث فيقول تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ) (٢) .

وهذا التشبيه العجيب بين المحكمتين دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد ، لأنّه كيف يمكن أن يكون في الإنسان الذي يعتبر قطرة صغيرة في محيط الوجود العظيم هكذا حساب ومحاكم مليئة بالرموز والأسرار في حين لا يوجد حساب ومحاكم في هذا العالم الكبير؟ فهذا ما لا يصدق.

٢ ـ أسماء القيامة في القرآن المجيد

إنّ قسما مهمّا من معارف القرآن ومسائله العقائدية يدور حول محور القيامة والبعث ، لأنّ له تأثيرا مهمّا في تربية الإنسان وتكامل سلوكه ، ولهذا اليوم العظيم أسماء كثيرة في القرآن ، وكل منها تبيّن بعدا من أبعاد ذلك اليوم ، يمكن أن تكون هذه الأسماء بحدّ ذاتها انعكاس للكثير من المسائل المتعلقة بهذا الجانب.

يقول المرحوم الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء : «إنّ تحت كلّ اسم من هذه الأسماء سرّ خفي ، ولكل نعت معنى مهم لا بدّ من السعي الجاد لإدراك هذه

__________________

(١) الهمزة ، ٦ ـ ٧.

(٢) سورة فصلت ، ٢٠.

٢٠٨

المعاني ومعرفة أسرارها ، فقد ذكر أكثر من فئة اسم ليوم القيامة يمكن الاستفادة منها أو من أكثرها في القرآن المجيد ، كيوم الحسرة ، يوم القيامة ، يوم المحاسبة ، يوم المسألة ، يوم الواقعة ، يو القارعة ، يوم الراجفة ، يوم الرادفة ، يوم الطلاق ، يوم الفراق ، يوم الحساب ، يوم التناد ، يوم العذاب ، يوم الفرار ، يوم الحق ، يوم الحكم ، يوم الفصل ، يوم الجمع ، يوم الدين ، يوم تبلى السرائر ، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ، يوم يفر المرء من أخيه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، يوم التغابن ...»(١) .

ولكن أشهر أسماء ذلك هو اليوم «يوم القيامة» الذي ذكر سبعين مرّة في القرآن ، ويحكي عن قيام عامّة العباد والبعث والعظيم للناس ، والتوجه إلى ذلك اليوم يدفع الناس لأداء وظائفهم وتكاليفهم في هذه الدنيا.

وباعتقادنا أنه يكفي للانتباه من نوم الغفلة والغرور والأخذ بعنان وزمام النفس العاصية وتربيتها وتعليمها أن نتفكر في هذه الأسماء ونتصور حالنا في ذلك اليوم ، يوم يحضر الجميع أمام الله العظيم وترفع الستائر وتظهر الأسرار وتتزين الجنان وتتوقد جهنم ، ويحضر الجميع عند ميزان العدل الإلهي.

«اللهم اجعل لنا عندك ملجأ في ذلك اليوم»

* * *

__________________

(١) المحجة البيضاء ، ج ٨ ، ص ٣٣١.

٢٠٩

الآيات

( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) )

التّفسير

الإنسان نعم الحكم لنفسه :

أنهت الآيات السابقة بسؤال كان قد وجهه المنكرون للبعث يوم القيامة ، وهو يوم القيامة متى يأتي ذلك اليوم؟ وهذه الآيات هي التي تجيب عن هذه السؤال.

فتشير أوّلا إلى الحوادث السابقة للبعث ، أي إلى التحول العظيم وانعدام القوانين الحاصل في الأنظمة الكونية فيقول تعالى :( فَإِذا بَرِقَ ) (١) ( الْبَصَرُ ) بمعنى

__________________

(١) «برق» : من مادة برق ـ على وزن فرق ـ وهو الضوء الظاهر من بين السحب ويطلق على كل ما هو وضاء ، و «برق البصر» في هذه الآية إشارة إلى الحركة الشديدة ، والاضطراب الشديد للبصر من شدة الهول والخوف ، وقيل هو سكون حدقة العين

٢١٠

اضطراب العين ودورانها من شدّة الخوف والرعب( وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) .

ذكرت معان متعددة للمفسّرين في ما يراد بالجمع بين الشمس والقمر ، فقيل هو اجتماعهما ، أو طلوعهما كليهما من المشرق وغروبهما من المغرب ، وقيل اجتماعهما بعد زوال نوريهما(١) ويحتمل أن ينجذب القمر تدريجيا بواسطة الشمس وباتجاهها ثم اجتماعهما معا بعد ذلك ، وينتهي بالتالي ضياؤهما.

على كلّ حال فقد أشير هنا إلى ظاهرتين من أهم الظواهر الانقلابية لأواخر الدنيا ، أي إلى زوال نور القمر واجتماع الشمس والقمر مع البعض ، وهو ما أشير إليه في الآيات القرآنية الأخرى أيضا ، فيقول تعالى في سورة التكوير :( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) أي إذا أظلمت الشمس ، ونعلم أن ضوء القمر من الشمس ، وعند ما يزول نور الشمس يزول بذلك نور القمر ، وبالتالي تدخل الكرة الأرضية في ظلام دامس وعتمة مرعبة.

وبهذه الطريقة والتحول العظيم ينتهي العالم ، ثم يبدأ بعث البشرية بتحول عظيم آخر (بنفخة الصور الثانية والتي تعتبر نفخة الحياة) فيقول الإنسان في ذلك اليوم :( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) (٢) .

أجل ، الكفرة والمذنبون الذين كذبوا بيوم الدين يبحثون عن ملجأ في ذلك اليوم لشدّة خجلهم ، ويطلبون سبل الفرار لثقل خطاياهم وخوفهم من العذاب ، كما كانوا يبحثون عن طريق الفرار في الدنيا عند ما كانوا يواجهون حادثة خطيرة ،

__________________

والنظر بدهشة إلى نقطة وغالبا ما تكون علامة الرعب ، وهناك شواهد كثيرة على هذا المعنى في أشعار العرب تشير إلى إبراق البصر يراد به التحير ، والتفسير الأول أوجه.

(١) يقول الطبرسي في «مجمع البيان» الجمع ثلاثة أنواع : جمع في المكان ، وجمع في الزمان ، وجمع الأوصاف في الشيء الواحد (كاجتماع العلم والعدالة في الإنسان) ولكن الجمع الذي يراد به اشتراك شيئين في الصفة كزوال نوريّ القمر والشمس معا هو تعبير مجازي (إذ لا بدّ من الاستفادة من القرينة) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٥.

(٢) «المفر» : اسم مكان من الفرار ، واحتمله البعض الآخر مصدرا ولكنه بعيد.

٢١١

فيقيسون ذلك اليوم بهذا! ولكن سرعان ما يقال لهم :( كَلَّا لا وَزَرَ ) (١) .

فلا ملجأ إلّا إلى الله تعالى :( إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) وذكرت لهذه الآية تفاسير أخرى غير التفسير المذكور أعلاه منها : إن الحكم النهائي لذلك اليوم هو بيد الله تعالى.

أو إن المقر النهائي للإنسان في الجنّة أو النّار هو بيد الله.

أو أن الاستقرار للمحاكمة والحساب يومئذ يكون عنده ، ولكن بالتوجه إلى الآية التي تليها نرى أن ما قلناه هو الأنسب والأوجه.

ويعتقد البعض أن هذه الآية هي من الآيات التي تبين خط مسير التكامل الأبدي للإنسان ، وهي من جملة الآيات التي تقول :( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (٢) و( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (٣) و( أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) (٤) (٥) .

وبعبارة أوضح أنّ الناس في حركة دائبة في هذا الطريق الطويل من حدود العدم إلى إقليم الوجود ، ولا يزالون في حركة في هذا الإقليم نحو الوجود المطلق ، والوجود الأزلي ، وأن هذه الحركة والسلوك التكاملي في استمرار الى الأبد ما داموا لا ينحرفون عن هذا الصراط المستقيم حيث يدخلون في كل يوم مرحلة جديدة من التقرب إلى الله تعالى ، وإذا انحرفوا عن مسيرهم فإنهم سوف يسقطون وينتهون

عندئذ يضيف في إدامة هذا الحديث :( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) أمّا عن معنى هاتين العبارتين فقد ذكرت لهما تفاسير عديدة :

__________________

(١) «وزر» : على وزن قمر ، وتعني في الأصل الملاجئ الجبلية وأمثالها ، ومنها يطلق على الوزير لما يلتجأ به في الأمور ، وعلى كل حال فإنّها تعني في هذه الآية كل نوع من الملجأ والمخبأ.

(٢) التغابن ، ٣.

(٣) الإنشقاق ، ٦.

(٤) النجم ، ٤٢.

(٥) هناك نظرات أخرى في تفسير هذه الآيات وضحنا ذلك في تذييلها.

٢١٢

أوّلا : المراد هو ما قدم من الأعمال في حياته ، أو الآثار الباقية منه بعد موته ، ممّا ترك بين الناس من السنن الصالحة والسيئة والتي يعملون ويسيرون بها ووصول حسناتها وسيئاتها إليه. أو الكتب والمؤلفات والأبنية القائمة على الخير والشرّ ، والأولاد الصالحين والطالحين التي تصل آثارهم إليه.

والثّاني : يمكن أن يراد به الأعمال الأولى التي أتى بها. والأعمال الأخيرة التي أتى بها في عمره ، وبعبارة أخرى أنّه ينبّأ بجميع أعماله.

والثّالث : أنّ المراد هو ما قدم من ماله لنفسه وما ترك لورثته ، وقيل : ما قدم من الذنوب ، وما أخر من طاعة الله أو بالعكس.

والوجه الأوّل هو الأنسب ، لما ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير «(ينبّؤ) بما قدم من خير وشرّ ، ما أخر من سنّة ليس بها من بعده فإن كان شرّا كان عليه مثل وزرهم ، ولا ينقص من وزرهم شيئا ، وإن كان خيرا كان له مثل أجورهم ، ولا ينقص من أجورهم شيئا»(١) .

ثم يضيف في الآية الأخرى ويقول : إنّ الله وملائكته يطلعون العباد على أعمالهم ، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك ، لأنّ نفسه وأعضاءه هم الشهود عليه في ذلك اليوم ، فيقول تعالى :( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ) .

سياق هذه الآيات في الحقيقة هو نفس سياق الآيات التي تشير إلى شهادة الأعضاء على أعمال الإنسان ، كالآية (٢٠) من سورة فصلت حيث يقول الله تعالى :( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

والآية (٥) من سورة يس :( وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

وعلى هذا فإنّ أفضل شاهد على الإنسان في تلك المحكمة الإلهية للقيامة

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٦ ومثله في تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٩١.

٢١٣

هو نفسه ، لأنه أعرف بنفسه من غيره ، وإن كان الله تعالى قد أعطاه شواهد أخرى كثيرة لإتمام الحجّة عليه.

«بصيرة» : لها معنى مصدري بمعنى (الرؤيا والاطلاع) ، ومعنى وصفي (الشخص المطّلع) ولذا فسّره البعض بمعنى (الحجة والدليل والبرهان) والذي هو واهب للمعرفة(١) .

«معاذير» : جمع (معذرة) وتعني في الأصل البحث عمّا تمحى به آثار الذنوب ، وقد تكون أحيانا أعذارا واقعية ، وأخرى صورية وظاهرية.

وقيل : المعاذير جمع معذار ، وهو الستر ، والمعنى وإن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه ، والأوّل أوجه.

على كل حال فإن الحاكم على الحساب والجزاء في ذلك اليوم العظيم هو المطّلع على الأسرار الداخلية والخارجية ، وكذلك نفس الإنسان المحاسب لنفسه ، كما جاء في الآية (١٤) من سورة الإسراء :( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) .

إنّ الآيات مورد بحثنا وإن كانت تتحدث كلّها عن المعاد والقيامة ، فإنّ مفهومها واسع ، ولذا فإنّها تشمل عالم الدنيا ، وتعلم الناس بأحوال أنفسهم وإنّه كان فيهم من يكتم ويغطي وجهه الحقيقي بالكذب والاحتيال والتظاهر والمراءاة.

لذا ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال : «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيئا أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك ، والله سبحانه يقول :( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية»(٢) .

__________________

(١) «التاء» : مصدر على الاحتمال الأوّل ، وتاء التأنيث على الاحتمال الثّاني ، لأنّه يراد بالإنسان هنا الجوارح أو النفس ، فالتأنيث مجازي ، وقيل إن التاء تاء المبالغة للأخبار بشدّة معرفة الإنسان بنفسه.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٦ (وأورد الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه في كتاب الصيام ، ج ٢ ، ص ١٣٣ باب حد المرض الذي يفطر صاحبه الحديث ١٩٤١).

٢١٤

وورد أيضا في حديث صيام المريض عن الصادقعليه‌السلام عند ما سأله أحد أصحابه : ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ فأجاب الإمام : «بل الإنسان على نفسه بصيرة ، هو أعلم بما يطيق»(١)

* * *

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢١٥

الآيات

( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) )

التّفسير

إنّ علينا جمعه وقرآنه :

هذه الآيات بمثابة الجملة الاعتراضية التي تتداخل أحيانا في كلام المتحدث. كمن يكون مشغولا بالخطابة في مجلس ما والناس مجتمعون في آخر المجلس ، والحال أنّ صدر المجلس خال ، فيقطع حديثه مؤقتا ، ويدعو الحاضرين للتقدم لينفتح الطريق للقادمين ، ثم يستأنف حديثه مجددا ، أو كالأستاذ الذي يقطع حديثه لينبه طالبا ، وبعد ذلك يكمل حديثه.

فعند ما يسمع شخص ما حديث الأستاذ عن طريق شريط كاسيت يرى إشكالا في استمراريّة الحديث ، ويتعجب لما يرى من عدم الترابط بين الجمل ، ولكن مع التمعن في شرائط المجلس الخاصّة يتّضح فلسفة هذه الجمل المعترضة.

بعد هذه المقدمة البسيطة نتّجه إلى تفسير الآيات التي يراد بحثها ، حيث يترك الله تعالى الحديث عن القيامة وأحوال المؤمنين والكفرة مؤقتا ، ليعطي

٢١٦

تذكرة مختصرة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حول القرآن فيقول :( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) لهذه الآية أقوال متعددة للمفسّرين ، وعلى المجموع ذكرت لها ثلاثة تفاسير :

الأوّل : هو التفسير المشهور الذي نقل عن ابن عباس في كتب الحديث ، وهو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا نزل عليه الوحي ليقرأ عليه القرآن ، تعجّل بقراءته ليحفظه وذلك لحبه الشديد للقرآن ، فنهاه الله عن ذلك وقال :( إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) .

الثّاني : نعلم أن للقرآن نزولين هما : نزول دفعي ، أي نزوله بتمامه على قلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة القدر ، ونزول تدريجي والذي كان أمده ٢٣ عامّا ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعجل في إبلاغ الرسالة أحيانا قبل النزول التدريجي للآيات أو قراءة ما يرافق تلك الآيات ، فنهاه الله عن ذلك. وأمره أن يبلّغ ويتلو ما ينزل عليه في حينه ، وعلى هذا يكون مضمون هذه الآية كالآية (١١٤) من سورة طه :( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) .

وليس في هذين التفسيرين اختلاف واسع ، ويكون المعنى : لا ينبغي للنّبي أن يعجل في استلام الوحي.

الثّالث : ولم يذهب اليه إلّا القليل ، وهو أنّ المخاطبين في هذه الآيات هم المذنبون ، وذلك في يوم القيامة حيث يأمرون بمحاسبة أنفسهم وذكر أعمالهم ، ويقال لهم : لا تعجلوا في ذلك ، ومن الطبيعي أنّهم سوف يتضجرون عند ذكرهم لسيئاتهم ويمرون عليها باستعجال ، فيأمرون بالتأني في قراءتها واتباع الملائكة عند ذكر الملائكة لأعمالهم ، وطبقا لهذا التفسير لا تكون هذه الآية كجملة معترضة ، بل مرتبطة مع الآيات السابقة واللاحقة لها. لأن جميعها تتحدث عن أحوال القيامة والمعاد ، وأمّا التفسير الأوّل والثّاني فيناسبان شكل الجملة المعترضة.

ولكن التفسير الثّالث بعيد وخاصّة مع الالتفات الى ذكر اسم القرآن في الآيات اللاحقة ، ويشير سياق الآيات إلى أن المراد هو أحد التفسيرين السابقين.

٢١٧

ولا إشكال في الجمع بينهما بالرغم من أنّ سياق الآيات اللاحقة يؤيّد التفسير الأول أي المشهور (فتدبّر).

ثمّ يضيف :( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) (١) وبالتالي لا تقلق على جمع القرآن ، نحن نجمعه ونتلوه عليك بواسطة الوحي.

ثم يقول تعالى :( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) ، ثمّ يضيف :( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) .

فيكون جمع القرآن وقراءته لك وتبيينه وتفصيل معانيه بعهدتنا ، فلا تقلق على شيء ، فالذي أنزل الوحي هو الذي يحفظه ، وأمّا ما يعهد إليك هو اتباعك له وإبلاغك الرسالة للناس ، وعن بعضهم أنّ المراد من الجمع ليس الجمع في لسان الوحي ، بل جمعه في صدر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقراءته على لسانه أي لا تعجل إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ونثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت.

على كل حال فإن هذه العبارات تؤيد التفسير الأوّل ، وهو أن الوحي النازل بواسطة جبرئيلعليه‌السلام عند ما كان يهبط على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقرأ عليه القرآن كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكرر الآيات بسرعة لئلا ينساها. وهنا جاء الأمر من الله أن أهدأ واطمئن فإنّه تعالى هو الذي يجمع الآيات ويبيّنها. وهذه الآيات تبيّن ضمنيا أصالة القرآن ، وحفظه من أي تغيّر وانحراف ، لأنّ الله تعالى عهد بجمعه وقراءته وتبيينه.

وورد في أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بعد نزول هذه الآيات إذا أتاه جبرئيلعليه‌السلام أطرق ، فإذا ذهب قرأ كما وعده الله(٢) .

* * *

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أن «القرآن» في هذه الآية والآية التي تليها هو مصدر ويراد به القراءة.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٧.

٢١٨

الآيات

( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) )

التّفسير

الوجوه الضاحكة والوجوه العابسة في ساحة القيامة :

ترجع هذه الآيات مرّة أخرى لتكمل البحوث المتعلقة بالمعاد.

وخصوصيات أخرى من القيامة ، وكذلك تبيّن علل إنكار المعاد فيقول تعالى( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) (١) فليس الأمر كما يتصور من أن دلائل المعاد خفيّة ولا يمكنكم الاطلاع عليها ، بل إنّكم عشقتكم الدنيا. ولهذا السبب تركتم الآخرة( وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) .

إنّ الشك في قدرة الله تعالى وجمع العظام وهي رميم ليس هو الدافع لإنكار

__________________

(١) قال البعض إن (كلّا) إشارة الى نفي تدبرهم للقرآن المجيد ، وليس هذا المعنى صحيحا لأن المخاطب هو نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولها جانب اعتراضي كما قلنا في الآيات المتعلقة بالقرآن ، وأمّا الآيات التي نحن بصدد البحث فيها فإنّها تتميم للآيات السابقة حول القيامة.

٢١٩

المعاد ، بل إنّ حبّكم الشديد للدنيا والشهوات والميول المغرية هي التي تدفعكم الى رفع الموانع عن طريق ملذاتكم ، وبما أنّ المعاد والشريعة الإلهية توجد موانع وحدودا كثيرة على هذا الطريق ، لذا تتمسكون بإنكار أصل الموضوع ، وتتركون الآخرة بتمامها.

وكما ذكرنا سابقا أنّ إحدى العلل المهمّة للميول الى المادية وإنكار المبدأ والمعاد هو كسب الحرية المطلقة للانجراف وراء الشهوات واللذات والذنوب ، ولا ينحصر هذا في العهود السابقة ، بل يتجلّى هذا المعنى في عالم اليوم بصورة أوضح.

وهاتان الآيتان تؤكّدان ما ورد في الآيات السابقة والتي قال فيها تعالى شأنه :( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) وقال أيضا :( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) .

ثمّ ينتهي إلى تبيان أحوال المؤمنين الصالحين والكفّار المسيئين في ذلك اليوم ، فيقول تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) .

«ناضرة» : من مادة (نضرة) وتعني البهجة الخاصّة التي يحصل عليها الإنسان عند وفور النعمة والرفاه ، ووفورها يلازم السرور والجمال والنورانية ، أي أنّ لون محياهم تحكي عن أحوالهم ، كيف أنّهم أغرقوا في النعم الإلهية ، وهذا شبيه لما جاء في الآية (٢٤) من سورة المطفّفين :( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) .

هذا من ناحية العطايا المادية ، وأمّا عن العطايا الروحية فيقول تعالى :( إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) نظرة بعين القلب وعن طريق شهود الباطن ، نظرة تجذبهم إلى الذات الفريدة وإلى ذلك الكمال والجمال المطلقين ، وتهبهم اللذة الروحانية والحال الذي لا يوصف ، إذ أنّ لحظة منها أفضل من الدنيا وما فيها. والجدير بالذكر أن تقديم (إلى ربّها) على (ناظرة) تفيد الحصر ، أي ناظرة إلى الله فقط لا إلى غيره.

وإذا قيل إنّ أهل الجنان ينظرون إلى غير الله تعالى أيضا ، فإنّنا نقول : إذا نظروا

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١