الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135891 / تحميل: 5384
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والمستفاد من خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عند ما قصد زيارة الحسين (عليه السّلام) قادماً من الكوفة لأواخر عهد الدولة الاُمويّة ذكر باب الحائر وكرّر لفظه، بينما ابن اُخته الحسين اقتصر على ذكر القبر دون إيراد لفظ الباب(1) .

ومن الممكن إن لم يكن يقصد بالباب حدود حومة الحائر وجود بناء على سبيل الإجمال على التربة الطاهرة، وكلاهما يصرّخان إنّهما كانا على خوف ووجل من القتل، وصرح ابن الثمالي بوجود المسلحة المطوّقة للحفرة الطاهرة من الجند الاُموي للحيلولة دون مَنْ يؤم قصده.

كان لحركة الشيعة في استعراضهم لجند الشام بعين الوردة بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي واستماتتهم بطلب ثأر الحسين (عليه السّلام)، وإعادتهم الكرّة تحت لواء إبراهيم الأشتر، واستقصائهم للجندي الاُموي مع زعيمهم ابن زياد، مستهونين غير محتفين بكلّ ما سامهم معاوية من خطوب وخسف، وما أذاقهم من مرّ العذاب وصنوف التنكيل بغارات بسر بن أرطأة، وصلب وقتل وسمل في ولاية زياد بن أبيه وسمرة بن جندب وابن زياد، ممّا خلف أثراً عميقاً سيئاً في نفوس آل مروان ودويّاً هائلاً.

فبعد أن تسنّى لعبد الملك بن مروان وصل حلقات فترة الحكم الذي دهم دور حكم آل أمية بموت يزيد بإقصائه آل الزبير عن منصّة الحكم والإمرة، أراد أن يستأصل الثورة من جذورها؛ لذلك اتّبع سياسة القسوة والشدّة تجاه أهل العراق، وضغط ما لا مزيد عليه لمستزيد، خصوصاً في ولاية الحجاج بن يوسف.

ونهج خلفاؤه عين خططه دون أيّ شذوذ مع تصلّب بالغ؛ كابن هبيرة،

____________________

(1) يقول في خبر طويل بعد أن نزل الغاضرية وقد أدركه الليل، وهدأت العيون ونامت، أقبل بعد أن اغتسل يريد القبر الشريف يقول: حتّى إذا كنت على باب الحير... وساق في خبره وقد كرّر لفظ الباب حيث يقول بعد ذلك: فلمّا انتهيت إلى باب الحائر... (إقبال الأعمال - لابن طاووس / 28)، ومجلد المزار من بحار الأنوار 22 / 120.

٦١

وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر.

فترى ممّا تقدّم أنّ من المستحيل إفساحهم المجال بأن يُشيّد بناء على قبر الحسين (عليه السّلام)، ويكون موضعاً للتعظيم والتقدير؛ ممّا يتنافى وسياستهم المبنية على الكراهية لآل البيت (عليهم السّلام) والتنكيل بشيعتهم.

وإن سلّمنا بتحقق خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي على سبيل استدراك الورود لفظ الباب، من الممكن أن نقول: أي وجود بناء في الفترة بين سنة أربع وستين لإحدى وسبعين، ونلتزم بتغاضي المروانيين من التعرّض لهم، وبقائه ليوم ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي لزيارة الضريح الأقدس.

وورد خبر لا يوثق به ولا يعوّل عليه من أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي بنى على القبر الشريف وأقام حوله قرية(2) .

وقيل: إنّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) أقامت بناء على الرمس الأقدس أمد اقترانها بمصعب في ولايته للكوفة، ففي أمد الفترة لسنة ست وستين عندما أمَّ التوّابون (عند مسيرهم للتلاقي مع جند عين الوردة) التربة الزاكية، وازدحموا على القبر

____________________

(1) جاء في مزار بحار الأنوار - للمولى محمّد باقر المجلسي / 120 ما نصه: (عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى قبر الحسين (عليه السّلام) مستخفياً من أهل الشام حتّى انتهيت إلى كربلاء، فاختفيت في ناحية القرية، حتّى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر، فلمّا دنوت منه... حتّى كاد يطلع الفجر أقبلت... فقلت له عافاك الله، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني ها هنا... وصلّيت الصبح وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام.

(2) ذكر هذا القبر صاحب كنز المصائب دون إسناد، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذا الكتاب لا يُعتمد عليه كثيراً؛ لِما حُشي متنه من الأخبار الغير واردة.

وقد ذكر هذا الخبر عند سرده لما دار بين المختار ومصعب بن الزبير، وعدد المواقع التي دارت بينهم والتي انتصر في جميعها المختار، =

٦٢

كازدحام الناس على الحجر الأسود(1) .

لم يكن حينذاك ما يظلل قبره الشريف أيّ ساتر، واستقصوا أمد البقية من الفترة، المختار بن أبي عبيدة الثقفي، ومصعب، وابن أخيه حمزة؛ فالأخبار الواردة في زيارة الحسين (عليه السّلام) عن السجّاد علي، والباقر(2) محمّد بن علي (عليه السّلام) (لكونهما قضيا حياتهما في الدولة المروانية) يشفان عن خوف ووجل.

وممّا يؤيد وجود بناء بسيط (بل له بعض الشأن) على القبر الشريف في زمن ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة للزيارة، ما جاء من الألفاظ في الزيارات الواردة عن الصادق (سلام الله عليه) لجدّه الحسين (عليه السّلام)(3) ، حيث يقول في خبر: «... بعد الغسل بحيال قبره الشريف في الفرات، فتتوجه إلى القبر حتّى تدخل الحير من جانبه الشرقي، وتقول:...، ثمّ إذا استقبلت القبر...، ثمّ اجلس عند رأسه الشريف...، ثمّ تحوّل عند رجليه...، ثمّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين...، ثمّ تأتي قبور الشهداء»(4) .

وفي خبر المفضل بن عمر عن الصادق (سلام الله عليه): «إذا أتيت باب الحير

____________________

= وهزيمة مصعب، إلى أن تمكّن مصعب من المختار آخر الأمر.

وإذ لم ترد مثل هذه الأخبار في الكتب التأريخية - والمعروف بل المحقّق أنّه لم يكن بين المختار ومصعب من مواقف سوى ما كان بالمذار، ثمّ تحصّن المختار بقصر إمارة الكوفة إلى أن قُتل -؛ لذا قلّ الاعتماد على ما ورد في هذا الكتاب من قيام المختار بتشييد قبر الحسين (عليه السّلام)، وإن كان المحلّ مناسب لإعطاء مثل هذه النسبة له.

كيف لا وقد قام المختار بأخذ ثأر الحسين (عليه السّلام)، وقتل قاتليه وصلبهم، وأحرق بعضهم بالنار؟ فلا يبعد من أن يقوم بتشييد قبره الشريف، إلاّ أنّنا نحكم بوقوع مثل هذا الأمر وجداناً لا استناداً على ما ورد في هذا الكتاب؛ للأسباب السالفة.

(1) تاريخ الطبري 7 / 70، وكان ذلك سنة 65 هـ.

(2) مجلد المزار 22 / 110.

(3) فقد توفي الصادق (عليه السّلام) سنة 148، والثمالي توفي في زمن المنصور.

(4) مجلد المزار / 145.

٦٣

فكبر الله أربعاً، وقل:...»(1) .

وفي خبر ابن مروان عن الثمالي عند آخر فصول الزيارة يقول: ثمّ تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم، وتقول:...(2) .

وفي خبر صفوان الجمّال عن الصادق (عليه السّلام) يقول: «فإذا أتيت باب الحائر فقف... وقل:... ثمّ تأتي باب القبة وقف من حيث يلي الرأس، وقل:...، ثمّ اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السّلام) وقل:...، ثمّ توجه إلى الشهداء وقل:...»(3) .

وفي خبر آخر عن صفوان يقول: «فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل:...، ثمّ ادخل رجلك اليمنى القبر وأخّر اليسرى، ثم ادخل الحائر وقم بحذائه وقل:...»(4) . وهذا ما يدلّك على أنّ له باباً شرقيّاً وغربيّاً.

فخلاصة القول: إنّ المستفاد من هذه الزيارات هو وجود بناء ذو شأن على قبره في عصر الصادق (سلام الله عليه).

ومع هذا فقد كان الاُمويّون يقيمون على قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته، ولم يزل القبر بعد سقوط بني اُميّة وهو بعيد عن كلّ انتهاك؛ وذلك لانشغال الخلفاء العباسيِّين بإدارة شؤون الملك، ولظهورهم بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميِّين، وهو غير خفي أنّ القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان، وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلّهم كانوا من أنصار آل البيت (عليهم السّلام).

ولمّا رسخت قدم العباسيِّين في البلاد، وقمعوا الثورات جاهروا بمعاداة شيعة علي (عليه السّلام)، ولكنّها كانت خفيفة الوطأة أيام السفّاح، فتوارد الزائرون

____________________

(1) المصدر نفسه / 148.

(2) المصدر نفسه / 105.

(3) المصدر نفسه / 159.

(4) المصدر نفسه / 179.

٦٤

لقبر الحسين (عليه السّلام) من شيعته عند سنوح هذه الفرصة جهاراً، واشتدّت الوطأة أيام المنصور بوقيعته بوجوه آل الحسن(1) ، وخفّت ثانية في أيام المهدي والهادي.

فلمّا كانت أيام الرشيد(2) ، وكانت قد استقرّت الأوضاع، وثبتت دعائم الحكم، وقضت على ثورات العلويِّين بما دبّرته من طرق الغدر والخيانة، فأرغمت أنوفهم الحمية، وأخمدت نفوسهم الطاهرة، فأرادت القضاء عليهم في محو قبور أسلافهم، فسلكوا سلوك بني اُميّة؛ إذ أمر الرشيد بهدم قبره الشريف ومحو أثره، فأخذت الشيعة الوسائط بالاهتداء إلى تعيين موضع القبر، وتعيين محلّ الحفرة منها السدرة، فبلغ الرشيد ذلك فأمر بقطعها(3) ، ثمّ وضع المسالح على حدوده إلى أن انتقل إلى طوس ومات فيها.

فلم يتتبع الأمين ذلك لِما كان منشغلاً باللهو والطرب وصنوف المجون والبذل، فاغتنموا الحال وبادروا إلى تشييد قبره الشريف، وقد اتخذوا عليه بناءً عالياً.

ولمّا جاء دور المأمون وتمكّن من سرير الخلافة تنفس الشيعة الصعداء، واستنشقوا ريح الحرية، ولم يتعرّض لذلك، وكان المأمون يتظاهر بحبّه لآل البيت (عليهم السّلام) حبّاً جمّاً حتّى إنّه استعاض بلبس السواد - وهو شعار العباسيِّين - بلبس الخضرة - وهو شعار العلويِّين -، وأوصى بالخلافة من بعده لعلي الرضا

____________________

(1) مروج الذهب - للمسعودي 2 / 171.

(2) الظاهر إنّ الرشيد لم يتعرّض لقبر الحسين (عليه السّلام) إلاّ في اُخريات أيامه، ولعل سبب ذلك غضبه ممّا كان يشاهد من إقبال الناس لزيارة الحسين (عليه السّلام) وتعظيمه والسكنى بجواره، وكان قبل ذلك يجري ما أجرته أمّ موسى من الأموال على الذين يخدمون قبر الحسين في الحير. انظر الطبري 10 / 118. (عادل)

(3) روى ذلك محمّد بن الحسن الطوسي في أماليه / 206 طبع إيران، بسنده إلى جرير بن عبد الحميد، وذكر أنّه عندما سمع جرير بالخبر رفع يديه قائلاً: الله أكبر! جاءنا فيه حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «لعن الله قاطع السدرة» ثلاثاً. فلم نقف على معناه حتّى الآن.

٦٥

ابن موسى الكاظم (عليه السّلام)، ولعل ذلك كيد منه، وكان هذا الوقوع بعد قتل أخيه الأمين، واسترضاء لمناصريه الخراسانيين.

وقد زعم البعض أنّه هو الذي شيّد قبره الشريف، وبنى عليه لهذه الفترة(1) ، وفي ورود أبي السرايا بن السري بن المنصور إلى قبر الحسين (عليه السّلام) أيام المأمون عام تسعة وتسعين بعد المئة حين قام ببيعة محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن السبط، دليل على تشييد قبر الحسين(2) بعد مضي الرشيد إلى طوس.

وبقي الحال على هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة حتّى قام حول قبره الشريف سوقاً، واتخذت دوراً حوله، وأخذ الشيعة بالتوافد إلى قبره للسكنى بجواره، إلى أن كان من المغنّية الشهيرة التي قصدت من سامراء في شعبان زيارة قبره الشريف، وكانت تبعث بجواريها إلى المتوكّل قبل أن يلي الخلافة يغنين له إذا شرب، وقد بعث إليها بعد استخلافه فأخبر بغيبتها، فأسرعت بالرجوع عندما أبلغها الخبر بطلب المتوكّل لها، فبعثت إليه بجارية وكان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟

قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها.

فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟

قالت: إلى قبر الحسين (عليه السّلام).

فاستطير غضباً(3) ، وفيه من بغض آل أبي طالب ما هو غني عن البيان، فبعث بالديزج بعد أن استصفى أملاك المغنّية - وكان الديزج يهودياً قد أسلم - إلى قبر الحسين (عليه السّلام)، وأمره بحرث قبره الشريف ومحوه، وهدم كلّ ما حوله من الدور والأسواق، فمضى لذلك وعمل بما أمر به، وقد حرث نحو مئتي جريب من جهات القبر، فلمّا بلغ الحفرة لم يتقدّم

____________________

(1) نزهة الحرمين - للعلاّمة السيد حسن الصدر (مخطوط) نقلاً عن تسلية المجالس.

(2) انظر مقاتل الطالبيِّين - لأبي الفرج الإصبهاني / 341 ط النجف.

(3) المصدر نفسه / 386.

٦٦

إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء عليه(1) ، فحار الماء عند حدود قبره الشريف(2) ، ثمّ وكّل به المسالح بين كلّ مسلحتين ميل، ولا يزوره أحد إلاّ وأخذوه ووجهوا به إلى المتوكّل(3) ، فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم لِما طرأ على قبره من الجور، ولم يعهد مثله إلى هذا الحد.

فضاق بمحمد بن الحسين الأشناني بعد طول عهده بالزيارة، فوطّن نفسه على المخاطر، وساعده رجل من العطّارين، فخرجا يمكثان النهار ويسيران الليل حتّى بلغا الغاضرية، وخرجا منها نصف الليل، فسارا بين مسلحتين وقد ناموا حتّى دنا من القبر الشريف، فخفى عليهما موضعه، فجعلا يتحرّيان موضع القبر حتّى أتياه وقد قُلع الصندوق الذي كان عليه واُحرق، وفي الموضع اللبن قد خُسف وصار الخندق، فزاراه وانكبّا عليه، وقد شمّا من القبر رائحة ما شمّا مثلها قطّ من الطيب.

فقال الأشناني للعطّار: أي رائحة هذه؟

فقال: والله ما شممت مثلها بشيء من العطر.

فودّعاه وجعلا حوله علامات في عدّة مواضع، وبعد قتل المتوكّل حضر مع بعض الطالبيِّين والشيعة فأخرجوا العلامات وأعادوا القبر إلى ما كان عليه أوّلاً.

وقد نالت الشيعة شيء من الحرية على عهد المنتصر، وكان هذا محبّاً لآل البيت (عليهم السّلام)، مقرّباً لهم، رافعاً مكانتهم، معظّماً قدرهم، ومن حسناته إليهم أنّه شيّد قبر الحسين (عليه السّلام)، ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه(4) ، وذلك في عام السابع والأربعين بعد المئتين.

ولم يُهدم بناء المنتصر ظلماً؛ لعدم تعرّض أخلافه له؛ لِما ظهر من الوهن في دولتهم، وانحلال أمرهم، وتسلّط الأتراك عليهم، وانشغالهم بأنفسهم.

وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة؛ وذلك عندما أمر بأخذ جميع ما اجتمع من هدايا

____________________

(1) المصدر نفسه / 386.

(2) المصدر نفسه / 386.

(3) المصدر نفسه / 387.

(4) فرحة الغري - لعبد الكريم بن طاووس.

٦٧

الملوك والأمراء والوزراء والأشراف من وجوه الشيعة من الأموال والمجوهرات في خزانة الروضة المطهّرة، وأنفقه على العسكر، واعتذر بأنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة(1) ، إلاّ أنّه لم يتعرّض للبناء ولم يمسّه؛ لقصور يده، وضعف شأنه لا لشيء آخر.

وكان البناء الذي شيّد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومئتين(2) ، فقام إلى تجديده محمّد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد بالله العباسي(3) لسنة ثلاث وثمانين ومئتين(4) ، وقد أخذ حال القبر الشريف منذ تشييد المنتصر إيّاه بالعروج إلى مدارج العمران يوماً بعد يوم حيث أمن الناس من إتيانه واتخاذ الدور عند رمسه.

وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه سنة (370 هـ) بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول الضريح وزخرفتها(5) ، وكان آل بويه يناصرون الشيعة.

وقد استحفل التشيّع على عهدهم حتّى إنّ معزّ الدولة أمر سنة 352 بإقامة المآتم في عاشوراء، وكان ذلك أوّل مأتم أُقيم في بغداد.

____________________

(1) المناقب - لابن شهر آشوب، وكان ذلك سنة 511 هـ.

(2) فرحة الغري / 61.

(3) جاء في بحر الأنساب (العائد لخزانة المرحوم الشيخ عبد الحسين شيخ العراقيين الطهراني) عند ذكره لنسب المعتضد بالله العباسي بقوله: وأمر بعمارة مشهد الغري بالكوفة ومشهد كربلاء، وافتقد الخزائن بدار الخلافة، فأخرج منها ما وجده من نهب الواثق من مال مشهد الحسين بن علي (عليه السّلام) وأعاده إليه.

(4) فرحة الغري، وكان محمّد بن زيد هذا دائم التصدّق على العلويِّين في المشاهد؛ فقد بعث في خلافة المعتضد بالله اثنين وثلاثين ألف دينار لمحمد بن ورد ليفرّقها على العلويِّين. (انظر الكامل 6 / 80، والطبري 12 / 346).

(5) تسلية المجالس - لمحمد المجدي (بالفارسية)، طبع حجر.

٦٨

(وعندما عفا عضد الدولة عن عمران بن شاهين البطائحي بنى الرواق المشهور برواق عمران بن شاهين في المشهدين الشريفين الغروي والحائري (على مشرفهما السّلام»(1) .

وفي سنة سبع وأربعمئة هجـ احترق الحرم الشريف إثر اندلاع حريق عظيم كان سببه إشعال شمعتين كبيرتين سقطتا في الليل على التأزير واحترق، وتعدّت النار بعد الحرق القبة إلى الأروقة(2) ، فكان البناء على القبر الشريف بعد وقوع هذا الحريق ما وصفه الطنجي في رحلته، إلاّ أنّي لم أقف على خبر مَنْ شيّد هذا البناء، وفي أيّ تاريخ كان ذلك(3) ، ولعله كان قد تبقى شيء من البناء الذي

____________________

(1) فرحة الغري / 67.

(2) الكامل - لابن الأثير 9 / 110 ط ليدن، و7 / 295 من ط القاهرة، والمنتظم - لابن الجوزي 7 / 283، البداية - لابن كثير 12 / 4، والنجوم الزاهرة - لابن تغري بردى 4 / 241.

(3) ذكر كلّ من العلاّمة السيد حسن الصدر الكاظمي في نزهة الحرمين / 35، والعلامة السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة 4 / 302، ومن أخذ عنهما، أنّ أبا محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان وزير سلطان الدولة البويهي هو الذي جدّد بناء الحائر بعد وقوع هذا الحريق، لكن المصادر التي عوّلوا عليها لم تنسب إلى ابن سهلان هذا سوى بناء سور الحائر وليس تجديد بنائه، كما في المنتظم 7 / 283، والبداية والنهاية 12 / 16، ومجالس المؤمنين / 211، والنجوم الزاهرة 4 / 259.

هذا فضلاً عن أنّ ابن سهلان بدأ ببناء سور الحائر في سنة 400 هـ، أيّ قبل وقوع الحريق بسبعة أعوام، وهي نفس السنة التي أمر ببناء سور على مشهد أمير المؤمنين(عليه السّلام). (الكامل 7 / 249. ط القاهرة).

فقد ورد في المنتظم 7 / 246: وفي جمادى الأولى (سنة 400 هجـ) بدأ ببناء السور على المشهد بالحائر، وكان أبو محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان قد زار هذا المشهد، وأحبّ أن يؤثر فيه مؤثراً، ثمّ ما نذر لأجله أن يعمل عليه سوراً حصيناً مانعاً؛ لكثرة مَنْ يطرق الموضع من العرب، وشرع في قضاء هذا النذر، ففعل وعمل السور، وأحكم وعرض، ونصبت عليه أبواب وثيقة وبعضها حديد، وتمّم وفرغ منه، وتحسّن المشهد به، وحسن الأثر فيه. (عادل).

٦٩

شيّده عضد الدولة، إلى أن شيّد عليه البناء الموجود اليوم على القبر الشريف، أو إنّه قد جدّده بعد الحريق أخلاف عضد الدولة؛ إذ كانت دولتهم قائمة عند وقوع الحريق.

هذا وكان إكمال بناء الحرم في سنة سبع وستين وسبعمئة، وقد أمر بتشييده السلطان أويس الإيلكاني، وأتمّه وأكمله ولده السلطان حسين(1) .

____________________

(1) زينة المجالس - لمحمد المجدي (مخطوط) باللغة الفارسية / 84، والمجدي من معاصري الشيخ البهائي، وقد صنّف كتابه هذا سنة 1004 هجـ، فقد جاء فيه: إلى أن أمر السلطان أويس الإيلكاني، وابنه السلطان حسين ببناء عمارة عالية.

وللسيد المؤلّف (عبد الحسين) ملاحظة مهمة في هذا الخصوص، خطر لي أن أثبتها هنا، يقول: ذكر سماحة السيد محسن الأمين العاملي في المجلد 3 / 593، من أعيان الشيعة، قال فضيلته عن آخر كتاب الأماقي في شرح الإيلاقي لعبد الرحمن العتايقي الحلّي المجاور بالنجف الأشرف، في نسخته المخطوطة في خزانة العلوية الذي تمّت كتابته في محرّم سنة 755 هجـ، قال: (في هذه السنة احترقت الحضرة الغروية (صلوات الله على مشرّفها)، وعادت العمارة وأحسن منها في سنة 760 سبعمئة وستون). انتهى.

أقول: هذا الحريق هو الذي ذكره ابن مهنا الداودي في العمدة / 5، ولكنّه لم يذكر اسم المجدّد للبناء الذي شيّد على الروضة المطهّرة الحيدرية، حيث المدّة تقارب زمن البناء الذي قام به السلطان أويس، وولده السلطان حسين الإيلكانية في سنة (767) على قبر الحسين (سلام الله عليه) الموجود اليوم على الروضة الطاهرة.

من المقتضي أن يكون السلطان حسين الإيلكاني هو منفرداً أقام البناء على الروضة الطاهرة الحيدرية، وبالخاصة لموقع قبورهم التي ظهرت في سنة الخامس عشر بعد الثلاثمئة والألف هـ وسط الصحن الشريف ما يلي باب الطوسي، أحد أبواب الصحن الشريف، في القسم الشمالي من الروضة الزاكية؛ إذ ظهر سرب فيه ثلاثة قبور على أحدهم في القاشاني مرقوم (توفي الشاهزاده الأعظم معزّ الدين عبد الواسع في 15 جمادى الأوّل سنة 790)، وعلى لوح القبر الثاني (هذا ضريح الطفل الصغير سلالة السلاطين الشاهزادة ابن الشيخ أويس (طاب ثراه). توفي يوم الأربعاء حادي عشر محرّم الحرام سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة).

وعلى لوح القبر الثالث (هذا قبر الشاهزادة سلطان بايزيد (طاب ثراه). توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة هلالية)، وعلى قبر آخر (هذا قبر المرحومة السعيدة بايندة السلطان).

وقد ابتدأ حكم الأسرة الإيلكانية الجلائرية في بغداد وآذربايجان بعد موت أبي سعيد بن أولجياتو محمّد خدابنده بقليل بالشيخ حسن الكبير، تقريباً بين سنة تسع وثلاثين وسبعمئة، أو سنة الأربعون، وكانت وفاته سنة 757 هـ، ثمّ تلاه في الحكم ولده السلطان أويس سنة 757 هـ، وتوفي سنة 776 هـ، ثمّ تلاه ولده السلطان حسين من سنة 776 هـ، إلى أن توفي في سنة 784 هـ، ثمّ تلا السلطان حسين أخوه السلطان أحمد الجلائري ابن أويس، إلى أن قُتل في تبريز بين سنة ثلاث عشرة وثمانمئة وأربع عشرة، وبه تقريباً انتهت أيامهم.

٧٠

وكان تاريخ هذا البناء موجوداً فوق المحراب الذي موضعه اليوم الرخام المنعوت بنخل مريم(1) فيما يلي الرأس الشريف، وقد شاهد ذلك التأريخ بنفسه محمّد بن سليمان بن زوير السليماني، وذكره في كتابه المسمّى بـ (الكشكول).

وقد كان إنزال هذا التاريخ سنة السادس عشر بعد المئتين والألف (1216)، ومن موضعه، عند عمل المرايا والتزيينات للحرم الشريف بأمر محمّد علي خان القواينلو كما تشير إلى ذلك الكتابة

____________________

(1) جاء في كتاب (دلائل الدين) تأليف عبد الله ابن الحاج هادي ما ترجمته: روى عن السجّاد (عليه السّلام): أنّ الله تعالى ذكر في القرآن أنّ السيدة مريم (عليها السّلام) عندما أرادت أن تلد ابنها المسيح ابتعدت عن قومها، وذهبت إلى كربلاء - بصورة معجزة - بجنب نهر الفرات، وقد ولد المسيح قرب مكان ضريح الحسين (عليه السّلام)، وفي نفس الليلة عادت السيدة مريم إلى دمشق.

ومصداق هذا الخبر ما ورد عن الباقر (عليه السّلام) - على ما أتذكر - أنّ صخرة على مقربة من قبر الحسين نُصبت في الحائط قد أجمع ساكنوا هذا المقام على أنّ الرأس الشريف قد حزّ على هذه الصخرة، ويقولون أنّ المسيح قد ولد على نفس تلك الصخرة أيضاً.

٧١

الموجودة في أعلى الباب الثالث من أبواب الحرّم المقابل للشبكة المباركة: (واقفه محمّد علي خان القواينلو سنة 1216) هـ.

وكذلك هذا التأريخ موجود بعينه في الكُتيبة القرآنية داخل القبّة على الضريح المقدّس، وفي سنة 920 هـ أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً(1) إلى القبر الشريف،

____________________

(1) عندما دخل الشاه إسماعيل الصفوي الأوّل - مؤسس الدولة الصفوية في إيران والذي يرتقي نسبه إلى الإمام السابع موسى بن جعفر (عليه السّلام) - بغداد فاتحاً سنة 914 هـ كان همّه الأول هو التبرّك بزيارة أجداده الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، فقصد زيارة مرقد الحسين (عليه السّلام)، وعمل ثوباً حريرياً لقبره الشريف، وعلّق اثنى عشر قنديلاً من الذهب أطراف القبر، وفرش تلك الحضيرة القدسية بالبسط، وجلّله بأنواع الحرير والإستبرق، وبذل الأموال الكثيرة لللائذين بقبره الشريف، ثمّ خرج قاصداً النجف الأشرف. (وقد ترجم النص المتقدّم العلاّمة المؤلّف عن (حبيب السير) لخواند مير بالفارسية - مخطوط في 3 مجلدات في مكتبة المؤلّف سنة 1008 هـ).

وقد جاء أيضاً في (عالم آراى عباسي) لإسكندر منشي جـ 2 عن زيارة هذا الشاه ما ترجمته: توجه الشاه من بغداد إلى تربة كربلاء بعد إخلاص النيّة، وتشرّف بزيارة مرقد الحسين المنوّر وشهداء كربلاء، وقد زيّن الروضة وأنعم على المجاورين، ثمّ توجه من هناك إلى زيارة علي المرتضى (عليه السّلام) عن طريق الحلّة. راجع أيضاً فارسنامه ناصري 1 / 93.

وزار كربلاء أيضاً الشاه عباس الأول الصفوي، فقد جاء في فارسنامه ناصري ما ترجمته: غادر الشاه عباس الأول الصفوي أصفهان في سنة 1033 هجري متجهاً نحو بغداد، وفي غرّة ربيع الأوّل من نفس السنة دخل بغداد فاتحاً...، ثمّ توجه إلى النجف الأشرف في محرّم الحرام، وعلى بعد (30) كيلو متر ترجّل عن فرسه وخلع نعله، وأنعم على كافة سكنة النجف، وتوجه بعد ذلك مسروراً فرحاً إلى زيارة كربلاء وطاف بالبقعة الطاهرة، ثمّ أقفل راجعاً إلى بغداد وزار الإمامين الكاظمين وسامراء.

وفي ربيع هذه السنة أعاد الكرّة لزيارة كربلاء والنجف الأشرف، وقبل أعتاب هاتين الحضرتين أدّى لوازم الزيارة، وأهدى من الصناديق القيمة والطنافس الحريرية المطرّزة والديباج الشيء الكثير، ورجع مقفلاً إلى بغداد، وأعاد الزيارة مرّة أخرى إلى الروضة الحسينيّة.

وانظر أيضاً =

٧٢

ولم يرد ما يهمّ خبره من أخلافه الصفوية إلاّ الإقدام بأمور طفيفة لا مجال لذكرها، إلاّ أنّه بلغني - ولم أتثبّت من ذلك أنّ الشاه سليمان الصفوي قام ببناء القسم الشمالي من الصحن المطهّر، والإيوان الكبير الذي فيه المسمّى (بصافي صفا) نسبة إلى الصفويِّين، وليس اليوم في هذا الإيوان دليل على ذلك سوى إنّ الكاشي المعرّق الموجود في سقف هذا الإيوان، والزخارف المعمولة من البورق فيه يستدل منها أنّ بناء هذه الجهة أقدم بناء من الجهات الثلاث للصحن الشريف، فضلاً عن أنّ نقوش الكاشي المعرّق وصنعتها تشبه إلى حدّ كبير نقوش الكاشي المعرّق الموجود في روضة الجوادين (سلام الله عليهما)، وحرم حضرة الرضا (عليه السّلام)، ومقبرة خواجه ربيع، والقدم كاه.

وقد كان في حواشي الكاشي المعرّق الموجود في جنبتي هذا الإيوان - الشرقي والغربي - كُتيبة تنص على اسم الباني وتأريخ بنائه، ولكن مع مرور الزمن تلف واندرس أثره، ومع شديد الأسف لم يسعَ أحد بعد

____________________

= عالم آراي عباسي، وهناك مصدر لا بدّ من الإشارة إليه في هذا الخصوص هو (تاريخ دهامر الألماني) الذي تُرجم من اللغة الفرنسية إلى الفارسية باسم: سلطان التواريخ، في تاريخ سلاطين آل عثمان، يقع في ثلاث مجلدات ضخام، تحتوي على 72 باباً، ينتهي به مؤلفه إلى آخر عهد عبد الحميد الأول العثماني، بعد حرب الروس والأتراك وعقد معاهدة (كنارجة).

وفي سنة 1034 هـ أعاد السلطان مراد الرابع العثماني العراق إلى حوزة دولته، وفي 27 جمادى الأولى سنة 1039 هـ احتل بغداد مرّة أخرى الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول، وزار كربلاء في سنة 1048 هـ في يوم عيد، فقبّل أعتاب ضريح سيد الشهداء وأخيه العباس بعد أن أنذر النذور، وأكرم ذوي الحاجة. (روضة الصفاي ناصري المجلد الثامن).

وفي سنة 1156 هـ توجه نادر شاه من النجف الأشرف إلى تقبيل أعتاب الحسين (عليه السّلام) الذي حرمه مطاف ملائكة الرحمن، وقدّمت زوجته رضية سلطان بيكم كريمة الشاه سلطان حسين الصفوي عشرين ألف نادري لتعمير جامع الحرم الشريف (التاريخ النادري).

٧٣

ذلك لإرجاع هذا النص التأريخي المهم إلى موضعه.

وعندما أرادوا دفن ميرزا موسى الوزير فيه(1) عملوا موضعية الكُتيبة

____________________

(1) وقد شيّد هذا الإيوان الكبير في سنة 1281 هـ من قبل المرحوم ميرزا موسى وزير طهران، لتكون مقبرة له ولعائلته، وقد جدّد المرايا والكُتيبة القرآنية، وزوّق جدرانها الداخلية بالكاشي النفيس.

وقد نظم الشاعر (قلزم) الذي كان من الشعراء الشهيرين في تلك الفترة، هذه القصيدة بالمناسبة:

اي نمودار حريمت حرم عرش برين

ظـل دركـاهت خـركه زده بر عليين

قـدسيان بسته بفرمان تو از عرش كمر

آسمان سوده در ايوان تو بر فرش جبين

بـوده دارلـت شـاهنشه اقـليم شهود

بـيشكا رانـت فـرمان ده سرحد يقين

ظل خركاه تو را قبله كند روح القدس

خاك دركاه تو را سجده برد حور العين

از ازل تـاج شـهادة جه نهادي بر سر

شـد ترا ملك شفاعت همه در زير نكين

از بـهاي كـهر باك تو اين توده خاك

كعبه دين شود وشد سجده كه أهل زمين

إلى أن يقول:

قـصة طـور كـليم الله فاخلع نعليك

هـمه از خاك درت مظهر آيات مبين

عكس از شمسه ايوان تو شد شمس فلك

بر تو اوبر همه كون مكان كشت مكين

سـاكـنان حـرم وجـلال مـلكوت

هـه بـرخاك رهـت بايد خاك نشين

=

٧٤

الموجودة اليوم من المرايا، رُقمت بهذه الآية:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً

____________________

=

بـهر فـراشي حجابت هر شام وسحر

قيصر أز روم كمر بندى وفقفور أز جين

إلى أن يقول:

اين هـمان وادى دوروا تـش شـوق

صـه جـه موسى باميد قبسي خاك نشين

انـدرين عـهد هـمايون از فـو ظـفر

رايـت دولـت اسـلام بر از جرخ برين

شـاه شـاهان جهان ظل خدا كهف زمان

خـسرو مـلك مـلل بـادشاه دولت ودين

شـهـر بـازيكه زأواز كـوي سـخطش

تـااب درشـده در جـحمه كـوه طـنين

مـير فـرخنده نـزادى زد راوكـه بـود

افـتـاب فـلك ورفـعت كـوه وتـمكين

داشـت جـون كوهري آراسته نور صفا

كـرد ايـن صـفه ايـوان صفارا ترين

دولت نـاصرى وسـعى امـام مـلت

أنـدرين عـهد بـود مـحيي آثار جنين

افـتـخار فـضلا قـبله أربـاب فـلاح

بـيشواى دو جـهان بـادشاه شرع مبين

انـكه از بـندكي صـاحب روضـه باك

شـده بـرخا جـكي علم ازل صدر تشين

جون زفيض كف موسى شد اين طور صفا

..........................................

كـلك قـلزم بي تاريخ سخنور شده وكفت

بـا كـف مـوسى آراسـته طـور سنين

٧٥

وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ... ) .

هذا وقام السلطان مراد الرابع العثماني سنة ثمان وأربعين وألف بتعمير وتجديد القبّة السامية، وجصّصها من الخارج(1) .

وفي سنة 1135 هـ نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهّر، وأنفقت على ذلك عشرين ألف نادري.

وقام أغا محمّد خان (الخصي) مؤسس الدولة القاجارية في إيران بتذهيب القبّة السامية للسنة السابعة بعد المئتين والألف الهجرية(2) .

وقد نظم بهذه المناسبة الميرزا سليمان خان المشهور بصباحي الشاعر، مؤرّخاً هذا التذهيب بقوله:

كلك صباحي از اين تاريخ أونوشت

در كبند حسين علي زيب بافت زر

1207 هـ

____________________

(1) لم نعثر على مصدر هذا الخبر، ولكنّه قد جاء في كلشن خلفاء (ص 102 وجه) لنظمي زاده بالتركية: أنّ الوالي علي باشا الوند زادة، بأمر من السلطان مراد الثالث العثماني قد جدّد بناء جامع الحسين وقبّته المنوّرة، وذلك سنة 984 هـ.

وقد أرّخ هذا البناء أحد الشعراء المشهورين بأبيات مطلعها:

بـحمد الله كه از عون الهي

نـموده خـدمت شاه شهيدان

شه كشور ستان خاقان اعظم

مـراد بن سليم ابن سليمان

وقد وهم الأستاذ حسن الكليدار في كتابه (مدينة الحسين / 38) إذ ذكر أنّ هذه الأبيات قد قيلت بمناسبة تشييد القبّة من قبل مراد الرابع العثماني، إلاّ أنّ الصحيح ما ذكرناه. (عادل)

(2) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ - للسان الملك سبيهر / 33 سنة 1206 هـ.

٧٦

وفي أوائل القرن التاسع عشر (1214هـ) أهدى فتح علي شاه القاجاري - أحد ملوك إيران - شبكة فضية(1) ، وهي إلى اليوم موجودة على القبر الشريف، وحوالي هذا التاريخ أمرت زوجته بتذهيب المأذنتين حتّى حدّ الحوض.

وفي سنة 1259 هـ قام محمّد علي شاه - ملك أود - سلطان الهند بتذهيب الإيوان الشريف وصياغة بابه بالفضة.

ويوجد اليوم على الفردة اليمنى من باب الفضة في إيوان الذهب: (هو الله الموفّق المستعان، قد أمر بصنع هذا الباب المفتوح لرحمة الملك المنان، وبإتمام تذهب هذا الإيوان الذي هو مختلف ملائكة الرحمن، وبحفر الحسينيّة وبناء قناطرها التي هي معبر أهل الجنان).

وعلى الفردة الثانية، الجانب الأيسر تتمته: (وتعمير بقعة قدوة الناس مولانا وسيدنا أبو الفضل العباس، السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، السلطان الأعظم والخاقان الأكرم، سلطان الهند، محمّد على شاه (تغمّده الله بغفرانه، وأسكنه فسيح جناته)، وكان ذلك في سنة 1259 هـ ألف ومئتين وتسعة وخمسين).

وقام بعد ذلك أمراء الأكراد البختيارية إلى تزيين المسجد والأروقة، وقد وسع الضلع الغربي من الصحن الشريف، وجدّد بناءه المتغمّد برحمته المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني(2) (شيخ العراقين) من قبل شاه

____________________

(1) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ / 63.

(2) جاء في مستدرك الوسائل - للعلاّمة النوري 3 / 397 في ترجمة الشيخ عبد الحسين الطهراني: (شيخي وأستاذي ومَنْ إليه في العلوم الشرعية استنادي، أفقه الفقهاء، وأفضل العلماء، العالم الرباني، الشيخ عبد الحسين الطهراني... حتّى يقول: وجاهد في الله في محو صولة المبتدعين، وأقام أعلام الشعائر في العتبات العاليات، وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات).

وقد توفي في الكاظمية في 22 شهر رمضان سنة 1286 هـ، ونُقل إلى كربلاء، ودُفن في إحدى حجرات الصحن الحسيني.

٧٧

إيران ناصر الدين شاه القاجاري سنة 1275 هـ، وشيّد إيوانه الكبير وحجر جهتيه.

وقد أنشد الشيخ جابر الكاظمي الشاعر الكبير مؤرّخاً لهذا البناء بالفارسية يقول:

بـنائي ناصر الدين شاه بنا كرد

زخـاك أوست بائين كاخ خضرا

نه صحن وكنبدي جرخي مكوكب

زنـور أو مـنور روي غـبرا

بـراي كـشوار عـرش يـعني

حـسين بـن عـلي دلبند زهرا

بـناي سـال أو جابر همي كوي

أز ايوان شـكست كـسرى

بكو تأريخ ايوانش مؤرخ 1275 هـ

وله تأريخ بالعربية:

لـله إيوانٌ سما رفعةً

فطاول العرشَ به الفرشُ

قال لسانُ الغيب تأريخه

أنت لأملاك السما عرشُ

ولم يحدث بعد ذلك ما يهمّ ذكره سوى ما جدّدت إنشاءه إدارة الأوقاف في العهد الأخير، في القسم الغربي من الصحن؛ لظهور الصدع فيه.

وفي المشهد الحسيني عدّة نقوش وكتابات تدلّ على تواريخ إصلاحه والزيارات فيه؛ ففي أعلى عمود وسط الضلع الجنوبي من شبكة الفولاد المنصوبة على قبر الحسين (عليه السّلام) ما يقابل الوجه الشريف، هذه العبارة: (مَنْ بكى وتباكى على الحسين فله الجنّة صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة 1185 هـ).

وما يقابل الزوايا الأربعة من القبر الشريف عبارة: (واقفه الموفّق بتوفيقات الدارين، ابن محمّد تقي خان اليزدي محمّد حسين سنة 1222 هـ).

٧٨

ويوجد في الإيوان الخارج من جدار الرواق الغربي المقابل للشبكة المباركة في الكاشي، فوق الشباك: (عمل أوسته أحمد المعمار سنة 1296 هـ).

ويستفاد من أبيات منظومة بالفارسية فوق شباك المقبرة الشمالية المقابلة للضريح أنّه بمباشرة الحاج عبد الله ابن القوام على نفقة الحاج محمّد صادق التاجر الشيرازي الأصفهاني الأصل، قد قام بتكميل تعمير سرداب الصحن الحسيني، وتطبيق الأروقة الثلاثة الشرقي والشمالي والغربي بالكاشي في سنة ألف وثلاثمئة الهجرية.

إيضاح ما يوجد في خارطة كربلاء من المواقع

أنهار كربلاء

(النهرين): فرعان يشتقان من عمود الفرات، ويتصلان ببعضهما في قرية نينوى في جوار الحاير الحسيني، ويتجهان إلى الشمال الشرقي إلى الكوفة معاً على سبيل توحيد وتفرد؛ وللفارق يعرفان بنهري كربلاء، يتوضّح على ضوء ما سرده أبو الفرج في المقاتل(1) ، ونورد بين قوسين ما تفرّد بإيراده صاحب الدرّ النظيم(2) :

قال أبو الفرج: لمّا قُتل زيد بن علي دفنه ابنه يحيى، تفرّق عنه الناس ولم يبقَ معه إلاّ عشرة نفر. قال سلمة بن ثابت: قلت له: أين تريد؟

قال: أريد النهرين. ومعه الصياد العبدي.

قلت: إن كنت تريد النهرين فقاتل ها هنا حتّى تُقتل.

قال: اُريد نهري كربلاء (وظننت أنّه يريد أن يتشطط الفرات)، فقلت له: النجاء قبل الصبح. فخرجنا فلمّا

____________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 61 ط القاهرة.

(2) الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم - لجمال الدين الشامي جـ 2 خط.

٧٩

جاوزنا الأبيات سمعنا الأذان، فخرجنا مسرعين، فكلّما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعموني الأرغفة، فأطعمه إيّاها وأصحابي حتّى أتينا نينوى، فدعوت سابقاً فخرج من منزله ودخله يحيى، ومضى سابق إلى الفيوم فأقام به.

(فلمّا خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين فصلّينا الغداة بالنخيلة، ثمّ توجهنا سراعاً قبل نينوى، فقال: اُريد سابقاً مولى بشر بن عبد الملك. فأسرع السير إلى أن انتهينا إلى نينوى وقد أظلمتنا، فأتينا منزل سابق فاستخففت الباب فخرج إلينا).

وذكر ابن كثير في البداية(1) عن محمّد بن عمرو بن الحسن قال: كنّا مع الحسين بنهري كربلاء. وأورد ابن شهر آشوب في المناقب: مضى الحسين قتيلاً يوم عاشوراء بطفّ كربلاء بين نينوى والغاضرية من قرى النهرين(2) .

قال الطبري(3) بعد مهادنة أهل الحيرة لخالد بن الوليد في مفتتح الفتح، وخضوع الدهاقين لأداء جزية وضريبة، وزع بينهم العمال؛ ولتمهيد الأمن أقام مخافر عهد بعمالة النهرين إلى بشر بن الخصاصية، فاتخذ بشر الكويفة ببابنورا قاعدة لعمالته.

وذكر عند حوادث سنة 278 هـ(4) ابتداء أمر القرامطة: وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة، فكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من خوزستان، ومقامه بموضع يُقال له: النهرين، يظهر الزهد والتقشّف، ويسفّ الخوص ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة.

إذا قعد إليه إنسان ذكّره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أنّ الصلاة المفروضة

____________________

(1) ج 8 / 188.

(2) المناقب 4 / 83، ط بمبي.

(3) ج 4 / 17، ط ليدن.

(4) ج 8 / 159، ط الاستقامة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

قال : إنّ سورة (هل أتي) مدنيّة(١) .

٥ ـ ونقل هذا المضمون أيضا بطرق مختلفة عن ابن عباس في (الدرر المنثور)(٢) .

٦ ـ نقل الزمخشري في (تفسير الكشاف) ما هو مشهور في سبب نزول آيات صدر السورة وقال : هي في نذر علي وزوجته وولديهعليهم‌السلام (٣) .

٧ ـ ونقل كذلك جمع كثير من كبار علماء أهل السنة في أنّ سبب نزول الآيات الواردة في صدر السورة( إِنَّ الْأَبْرارَ ) قد نزلت في حق عليّ وفاطمة الزهراء والحسن والحسينعليهم‌السلام وهي شهادة على مدنيّة السورة (لأن ولادة الحسن والحسينعليهما‌السلام كانت في المدينة) كالواحدي في (أسباب المنزل) والبغوي في (معالم التنزيل) وسبط بن الجوزي في (التذكرة) والگنجي الشافعي في (كفاية الطالب) وجمع آخر(٤) .

وهذه المسألة مشهورة بكثرة لغاية أن (محمد بن إدريس الشافعي) وهو أحد الأئمة الأربعة لأهل السنة يقول في شعره :

إلام ، إلام وحتى متى؟

أعاتب في حبّ هذا الفتى!

وهل زوجت فاطم غيره؟

وفي غيره هل أتى هل أتى؟!(٥)

وهناك أدلّة كثيرة في هذا الإطار وسنبيّن قسما منها عند توضيح سبب نزول الآية :( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ) .

ومع ذلك كله فإنّ البعض يصرّ بعصبية على أنّ السورة مكية ، وينكرون ما قيل من الرّوايات التي وردت في حق السورة ونزولها في المدينة وإنكار نزولها

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٢٢١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٦٧٠.

(٤) إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١٥٧ ـ ١٧٠ (مع ذكر أسماء وصفحات كتبهم).

(٥) المصدر السابق.

٢٤١

كذلك في حق علي وأهل بيتهعليهم‌السلام !

وذلك من العجب حقّا ، فأينما تنتهي الآية أو الرواية إلى فضائل علي وأهل البيتعليهم‌السلام يعلو الصراخ والعويل وتظهر الحساسيات الشديدة وكأنّ الإسلام قد وقع في خطر! رغم أنّهم يدّعون أنّ علياعليه‌السلام من الخلفاء الراشدين ومن أئمة الإسلام العظام وأنّهم يتودّدون إلى أهل البيتعليه‌السلام ، ونرى من نتائج حكم الروح الأموية على أفكار هذه الجماعة ووليدة الإعلام المضلل لتلك المرحلة المشؤومة. حفظنا الله من جميع الشبهات.

فضيلة السورة :

في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة (هل أتى) كان جزاؤه على الله جنّة وحريرا»(١) .

وورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس زوجه الله من الحور العين مأة عذراء وأربعة آلاف ثيب وكان مع محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٠٢.

(٢) المصدر السابق.

٢٤٢

الآيات

( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) )

التّفسير

الإنسان مخلوق من النطفة التافهة :

تتحدث الآيات الأولى عن خلق الإنسان ، بالرغم من أنّ أكثر بحوث هذه السورة هي حول القيامة ونعم الجنان ، فتحدثت في البدء عن خلق الإنسان ، لأنّ التوجه والالتفات إلى هذا الخلق يهيء الأرضية للتوجه إلى القيامة والبعث كما شرحنا ذلك سابقا في تفسير سورة القيامة.

فيقول تعالى :( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) (١) .

__________________

(١) «هل» : يراد بها (قد) أو أنّها بمعنى الاستفهام التقريري أو الإنكاري ، ولكن الظاهر فيها الاستفهام التقريري ، فيكون معنى الجملة : (أليس قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا).

٢٤٣

نعم ، كانت ذرات وجود هذا الإنسان متناثرة في كلّ صوب وبين الأتربة ، بين أمواج قطرات ماء البحر. في الهواء المتناثر في جو الأرض ، وهكذا اختفت المواد الأصلية لوجوده في كلّ زاوية من زوايا هذه المحيطات الثلاثة ، وقد ضاع بينها ولا يمكن ذكره مطلقا.

ولكن هل أنّ المراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان ، ويشمل بذلك عموم البشر ، أم أنّ هذا الإنسان يختص بالنبي آدمعليه‌السلام ؟

الآية الأخرى التي تقول :( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) قرينة واضحة على المعنى الأوّل ، وإن كان البعض يرى أنّ الإنسان في الآية الاولى يراد به آدمعليه‌السلام ، والإنسان في الآية الثّانية يراد به أولاده ، ولكن هذا الاختلاف في هذه الفاصلة القصيرة مستبعد جداّ.

وهناك أقوال في تفسير( لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) منها : إنّ الإنسان لم يكن شيئا مذكورا عند ما كان في عالم النطفة والجنين ، وإنّما أصبح ممّن يذكر عند ما طوى مراحل التكامل فيما بعد ؛ ففي حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام «كان الإنسان مذكورا في علم الله ولم يكن مذكورا في عالم الخلق»(١) .

وجاء في بعض التفاسير أنّ المراد بالإنسان هنا هم العلماء والمفكرون الذين لم يكونوا مذكورين قيل انتشار العلم ، وعند وصولهم إلى العلم وانتشاره بين الناس أصبح ذكرهم مشهورا في حياتهم وبعد موتهم.

وقيل «إنّ عمر بن الخطاب» قد سمع أحدا يتلو هذه السورة فقال : «ليت آدم بقي على ما كان فكان لا يلد ولا يبتلي أولاده»(٢) وهذا من عجائب القول ، لاعتراضه على مسألة الخلق.

ثمّ يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة ، واعتبار ذكره ، فيقول تعالى( إِنَّا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٠٦.

(٢) المصدر السابق.

٢٤٤

خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) .

«أمشاج» : جمع مشج ، على وزن (نسج) أو (سبب) ، أو أنه جمع «مشيج» على وزن (مريض) بمعنى المختلط.

ولعل ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور والإناث ، وقد أشير إلى ذلك في روايات المعصومينعليهم‌السلام بصورة إجمالية ، أو أنّها إشارة إلى القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية عن طريق الجيّنات ، أو أنّها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة ، لأنّها تتركب من عشرات المواد المختلفة ، أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها البعض ، والمعنى الأخير أجمع وأوجه.

ويحتمل كون «الأمشاج» إشارة إلى تطورات النطفة في المرحلة الجنينية(١) . «نبتليه» : إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل المسؤولية والاختبار والامتحان ، وهذه هي إحدى المواهب الإلهية العظيمة الذي أكرم بها الإنسان وجعله أهلا للتكليف وتحمل المسؤولية ، وبما أنّ الاختبار والتكليف لا يتمّ إلّا بعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى وسائل المعرفة ، والعين والأذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها له.

وقيل المراد بالابتلاء هنا التطورات والتحولات الحاصلة في الجنين من النطفة حتى ينشئه إنسانا كاملا ، ولكن التمعن في عبارة «نبتليه» ، وكذلك في كلمة «الإنسان» نجد أنّ المعنى الأوّل هو الأوجه.

وممّا يستفاد من هذه العبارة أنّ منبع جميع إدراكات وعلوم الإنسان هي

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أن النطفة جاءت بصيغة المفرد ، وجاءت صفتها بصورة الجمع ، وهي «أمشاج» ، باعتبار أنّ النطفة تركبت من أجزاء مختلفة ، وأنّها في حكم الجمع ، ويعتقد البعض كالزمخشري في الكشاف أنّ «أمشاج» مفرد رغم أنّها من أوزان الجمع.

٢٤٥

إدراكاته الحسية ، وبعبارة أخرى إنّ الإدراكات الحسية هي أمّ المعقولات ، وهذه هي نظرية كثير من فلاسفة المسلمين ومن بين فلاسفة اليونان يذهب أرسطو إلى هذه النظرية أيضا.

إنّ اختبار الإنسان بحاجة إلى عاملين آخرين ، هما : «الهداية» و «الاختبار» بالإضافة إلى المعرفة ووسائلها ، فقد أشارت الآية التالية إلى ذلك :( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) (١) . إنّ للهداية هنا معنى واسعا ، فهي تشمل «الهداية التكوينية» و «الهداية الفطرية» وكذلك «الهداية التشريعية» وإن كان سياق الآية يؤكّد على الهداية التشريعية.

توضيح :

إنّ الله قد خلق الإنسان لهدف الابتلاء والاختبار والتكامل ، فأوجد فيه المقدمات لكي يصل بها إلى هذا الهدف ، ووهبه القوى اللازمة لذلك ، وهذه هي (الهداية التكوينية) ، ثمّ جعل في أعماق فطرته عشقا لطي هذا الطريق ، وأوضح له السبيل عن طريق الإلهام الفطري ، فسمي ذلك بـ (الهداية الفطرية) ، ومن جهة أخرى بعث القادة السماويين والأنبياء العظام لإراءة الطريق بالتعليمات والقوانين النيّرة السماوية ، وذلك هو «الهداية التشريعية» ، وجميع شعب الهداية الثلاث هذه لها صبغة عامّة ، وتشمل جميع البشر.

وعلى المجموع فإنّ الآية تشير إلى ثلاث مسائل مهمّة مصيرية في حياة الإنسان : «مسألة التكليف» ، و «مسألة الهداية» ، ومسألة «الإرادة والإختيار» والتي تعتبر متلازمة ومكمّلة بعضها للبعض الآخر.

التعبير بـ (شاكرا) و (كفورا) يعتبر أفضل تعبير ممكن في هذه الآية ، لأنّه من قابل النعم الإلهية الكبيرة بالقبول واتخذ طريق الهداية مسلكا ، فقد أدّى شكر

__________________

(١) «شاكرا» وكفورا» يعتقد الكثير أنّهما حال لضمير المفعول في (هديناه) ويحتمل أن يكون خبرا لـ (يكون) محذوف وتقديره (إمّا يكون شاكرا وإمّا يكون كفورا).

٢٤٦

هذه النعمة ، وأمّا من خالف فقد كفرها.

وبما أنّ الإنسان لا يتمكن من تحقيق الشكر الحقيقي ، فقد عبّر عن الشكر باسم الفاعل ، والحال أنّ الكفران جاء بصيغة المبالغة فقال : (كفور) ، لأنّ عدم اهتمامهم بهذه النعم الكبيرة يعتبر كفرانا شديدا منهم باعتبار أنّ اللهعزوجل وضع وسائل الهداية تحت تصرفهم ، ولذا فإنّ إهمال هذه الوسائل والمواهب والغضّ عنها واتخاذ السبيل المنافي لها يعتبر كفرانا شديدا.

والجدير بالذكر أنّ كلمة (كفور) تستعمل لكفران النعمة ، وكذلك للكفر الاعتقادي ، وهو ما أورده الراغب في مفرداته.

وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إشارة قصيرة وغنية بالمعنى إلى الذين سلكوا طريق الكفر والكفران فتقول :( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً ) .

التعبير بـ (اعتدنا) تأكيد على حتمية مجازاة هذه الثلّة ، وبالرغم من أنّ تهيئة الشيء مسبقا هو عمل من له قدرة محدودة ويحتمل أن يعجز بعد ذلك من إنجاز العمل ، ولكن هذا المعنى لا يصدق على الله تعالى ، لأنّه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون ، وفي الوقت نفسه يبيّن للكافرين أنّ هذه العقوبات حتمية ووسائلها جاهزة.

«سلاسل» : جمع (سلسلة) ، وهي القيد الذي يقاد به المجرم ، و «الأغلال» جمع غل ، وهي الحلقة التي توضع حول العنق أو اليدين وبعد ذلك يقفل بالقيد(١) .

على كلّ حال فإنّ ذكر الأغلال والسلاسل ولهيب النيران المحرقة تبيان للعقوبات التي يعاقب بها المجرمون ، وهو ما أشير إليه في كثير من آيات القرآن ويشمل ذلك العذاب والذل ، إنّ إطلاقهم لعنان الشهوات يسبب في تعاستهم في

__________________

(١) وضّحنا شرحا مفصلا حول معنى الأغلال في ذيل الآية (٨) من سورة يس.

٢٤٧

الآخرة ، وإشعالهم للنيران في الدنيا تتجسّد لهم في الآخرة لتلهب أطرافهم.

* * *

ملاحظة

عالم الجنين الصاخب :

من الواضح أنّ نطفة الإنسان مركّبة من ماء الرجل والمرأة ، ويسمى الأوّل (الحيمن) والثّاني (البويضة) فالأصل وجود (النطفة) ثمّ تركيبها ، وبعد ذلك تتمّ المراحل المختلفة للجنين ، وهذا هو من العجائب العظيمة لعالم الخلق ، وتطور العلم (علم الأجنّة) قد كشف الكثير من أسراره وإن كانت هناك أسرار كثيرة لم يتمّ كشفها لحدّ الآن ، ونذكر هنا قسما من العجائب والتي تعدّ زاوية صغيرة من عالم الجنين :

١ ـ «الحيمن» وهو ما يخرج مع ماء الرجل ، وهو كائن حي متحرك صغير لا يرى بالعين المجرّدة ، وله رأس وعنق وذنب متحرك ، وممّا يثير العجب أنّ الرجل في كلّ إنزال يضم ماؤه من الحيامن المليونين إلى ٥٠٠ مليون حيمن ، وهو ما يعادل نفوس عدّة دول ، ولكن لا يدخل من هذا العدد الهائل إلى البيضة إلّا واحد أو عدّة حيامن لإخصاب البيضة ، وسبب وجود هذا العدد من الحيامن يكمن في الخسائر التي تلحق بها في طريقها إلى البيضة وتلقيحها ، ولو لم يتوفر مثل هذا العدد لكان أمر الحمل صعبا.

٢ ـ إنّ حجم «الرحم» قبل الحمل يكون بحجم الجوزة الواحدة ، وعند انعقاد النطفة ونمو الجنين يتسع الرحم بشكل ملحوظ ليشغل مكانا واسعا ، والعجب أنّ جدار الرحم يكون مطأطئا إلى حد يكون قادرا على استيعاب حجم الطفل وحركاته.

٣ ـ إنّ الدم لا يجري في الرحم بواسطة العروق والشرايين ، بل يجري بين

٢٤٨

عضلات الرحم بصورة ميزاب ، لأنّ الرحم في اتساع مستمر فإذا ما وجد العرق فإنّه لن يتحمل السحب والتمدد الكبير.

٤ ـ يعتقد بعض العلماء أنّ لبيوض المرأة شحنة موجبة ، وإنّ للحيمن شحنة سالبة ، ولذا يجذب أحدهما الآخر ، ولكن عند تخصيب الحيمن للبيضة فإنّ شحنة النطفة المتشكلة تكون سالبة. وتطرد بذلك بقية الحيامن الموجودة ، وقال آخرون : عند ما يدخل الحيمن في البيضة تترشح مادة كيميائية خاصّة لتطرد بقية الحيامن.

٥ ـ إنّ الجنين يسبح في كيس كبير فيه ماء غليظ يدعى بـ «آمني بوس» له خاصية مقاومة ما يقع على بطن المرأة من الضربات ، وتحمل ما يقع من حركات الأم الشديدة ، بالإضافة إلى ذلك فإنّه يحفظ الجنين بمعدل حراري ثابت ، ولا تؤثر فيه تغيرات الحرارة الخارجية بسرعة ، والجدير بالذكر أنّ الكيس يجعل الجنين عديم الوزن ، ويمنع من حدوث الضغط على أعضاء الجنين بعضها على بعض ممّا يسبب ذلك ضررا على الجنين!

٦ ـ تتمّ تغذية الجنين عن طريق المشيمة وحبل السرّة ، أي أنّ دم الأم والمواد الغذائية والأوكسجين يدخل إلى المشيمة ثمّ يبدأ حبل السرّة بتصفية هذه المواد لتدخل إلى قلب الجنين وتتوزع منه إلى بقية أعضاء البدن ، والطريق أنّ البطين الأيسر والأيمن لقلب الجنين مترابطان مع بعضهما الآخر ، لأنّ التصفية هنا لا تتمّ إلّا عن طريق الرئة ، وذلك لأنّ الجنين لا يتنفّس ولكنّه عند تولده تنفصل الأوعية بعضها عن البعض الآخر ، ويبدأ جهاز التنفس عندئذ بالعمل.

* * *

٢٤٩

الآيات

( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) )

سبب النزول

البرهان العظيم على فضيلة أهل بيت النّبي :

قال ابن عباس : إنّ الحسن والحسين مرضا فعادهما الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام (طبقا لبعض الرّوايات أنّ الحسن والحسين أيضا قالا نحن كذلك ننذر أن نصوم) فشفيا وما كان معهم شيء ،

٢٥٠

فاستقرض عليعليه‌السلام ثلاث أصواع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزته ، فوضعوا الأرغفة بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل ، وقال : السلام عليكم ، أهل بيت محمّد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّا الماء وأصبحوا صياما.

فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه (وباتوا مرة أخرى لم يذوقوا إلّا الماء وأصبحوا صياما) ووقف عليهم أسير في الثّالثة عند الغروب ، ففعلوا مثل ذلك.

فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع ، قال : «ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم» فانطلق معهم ، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك ، فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال : خذها يا محمد هنّاك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

وقيل : إنّ الذي نزل من الآيات يبدأ من :( إِنَّ الْأَبْرارَ ) حتى( كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) ومجموعها (١٨) آية.

ما أوردنا هو نص الحديث الذي جاء في كتاب «الغدير» بشيء من الاختصار كقدر مشترك وهذا الحديث من بين أحاديث كثيرة نقلت في هذا الباب ، وذكر في الغدير أنّ الرّواية المذكورة قد نقلت عن طريق (٣٤) عالما من علماء أهل السّنة المشهورين (مع ذكر اسم الكتاب والصفحة).

وعلى هذا ، فإنّ الرّواية مشهورة ، بل متواترة عند أهل السنة(١) .

واتفق علماء الشيعة على أنّ السورة أو ثمان عشرة آية من السورة قد نزلت في حق علي وفاطمةعليهما‌السلام ، وأوردوا هذه الرّواية في كتبهم العديدة واعتبروها من

__________________

(١) نقلت هذه الرواية في كتاب الغدير ، ج ٣ ، ص ١٠٧ إلى ١١١ وفي كتاب إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١٥٧ إلى ١٧١ عن ٣٦ نفر من علماء أهل السنّة مع ذكر المأخذ.

٢٥١

مفاخر الرّوايات الحاكية عن فضائل أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، واشتهارها كان مدعاة لذكرها في الأشعار حتى أنّها وردت في شعر (الإمام الشافعي) وتثار عند المتعصبين هنا حساسيات شديدة بمجرّد سماعهم رواية تذكر فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام فيعمدون إلى اثارة العديد من الإشكالات بهذا الشأن ، ومنها :

١ ـ ادعاؤهم مكّية السورة ، والحال أنّ القصّة حدثت بعد ولادة الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وما كانت ولادتهما إلّا بالمدينة! وفي أيدينا دلائل واضحة كما بينّا في شرح صدر السورة ، إذ أنّ السورة تشير إلى أنّها مدنّية ، وإن لم تكن بتمامها فإنّ (١٨) آية منها مدنيّة.

٢ ـ قولهم : إنّ لفظ الآية عام ، فكيف يمكن تخصيص ذلك بأفراد معيّنين ، ولكن عمومية مفهوم الآية لا ينافي نزولها في أمر خاص ، وهناك عمومية في كثير من آيات القرآن ، والحال أنّ سبب نزولها الذي يكون مصداقا تامّا لها في أمر خاص ، والعجب لمن يتخذ من عمومية مفهوم آية ما دليلا على نفي سبب النزول لها.

٣ ـ نقل بعضهم أسبابا أخرى لنزول هذه السورة لا تتفق مع السبب الذي ذكرناه في نزول الآية ، منها ما نقله السيوطي في الدرّ المنثور قال : إنّ رجلا أسود كان يسأل النّبي عن التسبيح والتهليل ، فقال له عمر بن الخطاب : مه أكثرت على رسول الله ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مه يا عمر» وأنزلت على رسول الله هل أتى(١) .

وفي الدرّ المنثور عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله فقال له رسول الله : «سل واستفهم» ، فقال : يا رسول الله فضّلتم علينا بالألوان والصور والنبوة ، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به إنّي

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٩٧.

٢٥٢

لكائن معك في الجنّة؟ قال : «نعم ، والذي نفسي بيده ، إنّه ليرى بياض الأسود في الجنّة من مسيرة ألف عام» ثمّ بيّن ما يترتب من الثواب لمن يقول لا إله إلا الله وسبحان الله وبحمده. ونزلت عليه السورة (هل أتى)(١) .

إنّ ما ذكر في هذه الرّوايات لا يتناسب مع مضمون آيات السورة ، والمتوقع هو وضع هذه الرّواية من قبل عمال بني اميّة وتزويرها لدحض ما تقدم وما قيل في سبب النزول في حق عليعليه‌السلام .

٤ ـ الإحتجاج الآخر الذي يمكن ذكره هنا : كيف يمكن لإنسان أن يصوم ثلاثة أيّام ولا يفطر إلّا بالماء؟!

إنّ هذا الإشكال مدعاة للعجب ، لأنّنا نرى تطبيق ذلك عند بعض الناس ، إذ أنّ بعض المعالجات الطبية تستدعي الإمساك لمدة (٤٠) يوما ، ولا يتناول خلال الأربعين يوما إلّا الماء ، ممّا أدّى ذلك إلى شفاء الكثير من الأمراض بهذه الطريقة ، حتى أنّ طبيبا من الأطباء غير المسلمين يدّعى (الكسي سوفورين) كتب كتابا في باب الآثار المهمّة في الشفاء من جراء الإمساك مع ذكر أسلوب دقيق لذلك(٢) حتى أنّ بعض زملائنا المشتركين معنا في تأليف كتاب التفسير الأمثل قضى إمساكا لمدّة (٢٢) يوما.

٥ ـ البعض الآخر أراد الاستهانة بهذه الفضيلة فجاء من طريق آخر كالآلوسي إذ يقول : إن قلنا إنّ هذه السورة لم ترد في حق علي وفاطمة لم ينزل من قدرهم وشأنهم شيء ، لأنّ اتصافهم بالأبرار أمر واضح للجميع ، ثمّ يبدأ بتبيان بعض فضائلهم فيقول : ماذا يمكن أن يقوله الإنسان في حقّ هذين العظيمين غير أنّ علياعليه‌السلام أمير المؤمنين ووصي رسول الله ، وأنّ فاطمة بضعة رسول الله ، وأنّها

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) اسم الكتاب (الصوم طريقة حديثة لشفاء الأمراض).

٢٥٣

جزء من الوجود المحمدي ، وأنّ الحسنين روحه وريحانتاه وسيدا شباب أهل الجنّة ، ولكن لا يعني ذلك ترك الآخرين ، ومن يتبع غير هذا فهو ضال.

ولكنّنا نقول إنّنا إذا ما تغاضينا عن هذه الفضيلة ، فإنّ عاقبة بقية الأحاديث ستكون بنفس المنوال ، وربّما يحين يوم ينكر فيه البعض جميع فضائل أمير المؤمنين وسيّدة النساء والحسنينعليهم‌السلام ، والملاحظ أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قد احتج على مخالفيه في كثير من المواطن بهذه الآيات لتبيان حقوقه وفضائله وأهل بيته(١) .

ثمّ إنّ ذكر الأسير الذي أطعموه ، خير دليل على نزول الآيات بالمدينة ، إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكّة لعدم شروع الغزوات.

والملاحظة الأخيرة التي لا بدّ من ذكرها هنا هو قول بعض العلماء المفسّرين ومنهم المفسّر المشهور الآلوسي ، وهو من أهل السنّة قال : إنّ كثيرا من النعم الحسية قد ذكرت في السورة إلّا الحور العين التي غالبا ما يذكرها القرآن في نعم الجنان ، وهذا إنّما هو لنزول السورة بحق فاطمة وبعلها وبنيهاعليهم‌السلام وإنّ الله لم يأت بذكر الحور العين إجلالا واحتراما لسيدة نساء العالمين!

لقد طال الحديث في هذا الباب إلّا أنّنا وجدنا أنفسنا مضطرين لمجابهة وإبطال إشكالات المتعصبين وذرائع المعاندين.

* * *

التّفسير

جزاء الأبرار العظيم

أشارت الآيات السابقة الى العقوبات التي تنتظر الكافرين بعد تقسيمهم إلى

__________________

(١) احتجاج الطبرسي وخصال الصدوق طبقا لما نقله الطباطبائي في الميزان ج ٢٠ ص ٢٢٤.

٢٥٤

جماعتين وهي «الشكور» و «الكفور» ، والآيات في هذا المقطع تتحدث المكافآت التي أنعم الله بها على الأبرار وتذكّر بأمور ظريفة في هذا الباب. فيقول تعالى :( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) .

«الأبرار» : جمع (بر) وأصله الاتّساع ، وأطلق البر على الصحراء لا تساع مساحتها ، وتطلق هذه المفردة على الصالحين الذين تكون نتائج أعمالهم واسعة في المجتمع ، و «البر» بكسر الباء هو الإحسان ، وقال بعض : إنّ الفرق بين البر والخير هو أنّ البر يراد به الإحسان مع التوجه والإرادة ، وأمّا الخير فإنّ له معنى أعمّ.

«كافور» : له معان متعددة في اللّغة ، وأحد معانيها المعروفة الرائحة الطيبة كالنبتة الطيبة الرائحة ، وله معنى آخر مشهور هو الكافور الطبيعي ذو الرائحة القوية ويستعمل في الموارد الطبية كالتعقيم.

على كل حال فإنّ الآية تشير إلى أنّ هذا الشراب الطهور معطّر جدّا فيلتذ به الإنسان من حيث الذوق والشم.

وذهب بعض المفسّرين الى أنّ «كافور» اسم لأحد عيون الجنّة. ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع عبارة «كان مزاجها كافورا». ومن جهة أخرى يلاحظ أنّ «الكافور» من مادة «كفر» أي بمعنى «التغطية» ، ويعتقد بعض أرباب اللغة كالراغب في المفردات أنّ اختيار هذا الاسم هو أنّ فاكهة الشجرة التي يؤخذ منها الكافور مغطاة بالقشور والأغلفة.

وقيل : هو إشارة إلى شدّة بياضه وبرودته حيث يضرب به المثل ، والوجه الأوّل أنسب الوجوه ، لأنّه يعد مع المسك والعنبر في مرتبة واحدة ، وهما من أفضل العطور.

ثمّ يشير إلى العين التي يملؤون منها كؤوسهم من الشراب الطهور فيقول :

٢٥٥

( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) (١) (٢) .

هذه العين من الشراب الطهور وضعها الله تعالى تحت تصرفهم ، فهي تجري أينما شاءوا ، والظريف هو ما نقل عن الإمام الباقرعليه‌السلام إذ قال في وصفها : «هي عين في دار النّبي تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين».

نعم فكما تتفجر عيون العلم والرحمة من بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتجري الى قلوب عباد الله الصالحين ، كذلك في الآخرة حيث التجسّم العظيم لهذا المعنى تتفجر عين الشراب الطهور الإلهي من بيت الوحي ، وتنحدر فروعها ، إلى بيوت المؤمنين!

«يفجرون» : من مادة تفجير ، وأخذت من أصل (الفجر) ويعني الشق الواسع ، سواء أكان شق الأرض أو غير ذلك ، و «الفجر» نور الصبح الذي يشق ستار الليل ، وأطلق على من يشق ستار الحياء والطهارة ويتعدى حدود الله (فاجر) ويراد به هنا شقّ الأرض.

والملاحظ أنّ أوّل ما ذكر من نعم الجنان في هذه السورة هو الشراب الطهور المعطّر الخاصّ. لكونه يزيل كلّ الهموم والحسرات والقلق والأردان عند تناوله بعد الفراغ من حساب المحشر ، وهو أوّل ما يقدم لأهل الجنان ثمّ ينتهون إلى السرور المطلق بالاستفادة من سائر مواهب الجنان.

ثمّ تتناول الآيات الأخرى ذكر أعمال «الأبرار» «وعباد الله» مع ذكر خمسة صفات توضّح سبب استحقاقهم لكل هذه النعم الفريدة : فيقول تعالى( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) .

جملة (يوفون) و (يخافون) والجمل التي تليها جاءت بصيغة الفعل المضارع

__________________

(١) وردت احتمالات عديدة في سبب نصب (عينا) وأوجه الأقوال هو أنّه منصوب لنزع الخافض وتقديره (من عين) وقيل بدل من (كافورا) أو منصوب بالاختصاص أو المدح ، أو مفعول لفعل مقدر والتقدير (يشربون عينا) ولكن الأوّل أوجه كما تقدم.

(٢) «يشرب» : يتعدى بالباء وبدونها ، ويمكن أن تكون الباء في (بها) بمعنى (من).

٢٥٦

وهذا يشير إلى استمرارية وديمومة منهجهم ، كما قلنا في سبب النزول فإنّ المصداق الأتم والأكمل لهذه الآيات هو أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسنانعليهم‌السلام ، لأنّهم وفوا بما نذروه من الصوم ثلاثة أيّام ولم يتناولوا في إفطارهم إلّا الماء في حين أنّ قلوبهم مشحونة بالخوف من الله والقيامة.

«مستطيرا» : يراد به الاتساع والانتشار ، وهو إشارة إلى أنواع العذاب واتساعه في ذلك اليوم العظيم ، على كلّ حال فإنّهم وفوا بالنذور التي أوجبوها على أنفسهم ، وبالأحرى كانوا يحترمون الواجبات الإلهية ويسعون في أدائها ، وخوفهم من شرّ ذلك اليوم ، وآثار هذا الإيمان ظاهرة في أعمالهم بصورة كاملة.

ثمّ يتناول الصفة الثّالثة لهم فيقول :( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) .

لم يكن مجرّد اطعام ، بل اطعام مقرون بالإيثار العظيم عند الحاجة الماسّة للغذاء ، ومن جهة أخرى فهو إطعام في دائرة واسعة حيث يشمل أصناف المحتاجين من المسكين واليتيم والأسير ، ولهذا كانت رحمتهم عامّة وخدمتهم واسعة.

الضمير في (على حبه) يعود إلى (الطعام) أي أنّهم أعطوا الطعام مع احتياجهم له ، وهذا شبيه ما ورد في الآية من سورة آل عمران :( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) .

وقيل : إنّ الضمير المذكور يعود إلى «الله» الوارد في ما سبق من الآيات ، أي أنّهم يطعمون الطعام لحبّهم الشديد لله تعالى ، ولكن مع الالتفات الى ما يأتي في الآية الآتية يكون المعنى الأوّل أوجه.

ومعنى «المسكين» و «اليتيم» و «الأسير» واضح ، إلّا أنّ هناك أقوالا متعددة فيما يراد بالأسير؟ قال كثيرون : إنّ المراد الأسرى من الكفّار والمشركين الذين يؤتى بهم إلى منطقة الحكومة الاسلامية في المدينة ، وقيل : المملوك الذي يكون

٢٥٧

أسيرا بيد المالك ، وقيل هم السجناء ، والأوّل أشهر.

يرد هنا سؤال : كيف جاء ذلك الأسير إلى بيت الإمام عليعليه‌السلام طبقا لما ورد في سبب النزول والمفروض أن يكون سجينا؟

ويتضح لنا جواب هذا السؤال بالالتفات إلى أنّ التاريخ يؤكّد عدم وجود سجناء في عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسّمهم على المسلمين ، ويأمرهم بالحفاظ عليهم والإحسان إليهم ، فكانوا يطعمونهم الطعام وعند نفاذ طعامهم كانوا يطلبون العون من بقية المسلمين ويرافقونهم في الذهاب الى طلب المعونة ، أو أنّ الأسرى يذهبون بمفردهم لأنّ المسلمين كانوا حينذاك في ضائقة من العيش.

وبالطبع توسعت الحكومة الإسلامية فيما بعد ، وازداد عدد الأسرى وكذلك المجرمين ، فاتخذت عندئذ السجون وصار الإنفاق عليهم من بيت المال.

على كل حال فإنّ ما يستفاد من الآية أنّ أفضل الأعمال إطعام المحرومين والمعوزين ، ولا يقتصر على اطعام الفقراء من المسلمين فحسب بل يشمل حتى الأسرى المشركين أيضا وقد أعتبر إطعامهم من الخصال الحميدة للأبرار.

وقد ورد في حديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «استوصوا بالأسرى خيرا وكان أحدهم يؤثر أسيره بطعامه»(١) .

والخصلة الرابعة للأبرار هي الإخلاص ، فيقول :( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ) .

إنّ هذا المنهج ليس منحصرا بالإطعام ، إذ أنّ جميع أعمالهم خالصة لوجه الله تعالى ، ولا يتوقعون من الناس شكرا وتقديرا ، وأساسا فإنّ قيمة العمل في الإسلام بخلوص النيّة وإلّا فإنّ العمل إذا كان بدوافع غير الهية ، سواء كان رياء أو لهوى النفس ، أو توقع شكر من الناس أو لمكافات مادية ، فليس لذلك ثمن

__________________

(١) كامل ابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٣١.

٢٥٨

معنوي وإلهي.

وقد أشار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذلك إذ قال : «لا عمل إلّا بالنيّة وإنّما الأعمال بالنيات».

والمراد من (وجه الله) هو ذاته تعالى ، وإلّا فليس لله صورة جسمانية ، وهذا هو ما اعتمده وأكّده القرآن في كثير من آياته ، كما في الآية (٢٧٢) من سورة البقرة :( وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) والآية (٢٨) من سورة الكهف التي تصف جلساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) .

ويقول في الوصف الأخير للأبرار :( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) (أي الشديد) من المحتمل أن يكون هذا الحديث لسان حال الأبرار ، أو قولهم بألسنتهم.

وجاء التعبير عن يوم القيامة بالعبوس والشديد للاستعارة ، إذ أنّها تستعمل في وصف الإنسان الذي يقبض وجهه وشكله ليؤكد على هول ذلك اليوم ، أي أنّ حوادث ذلك اليوم تكون شديدة إلى درجة أنّ الإنسان لا يكون فيه عبوسا فحسب ، بل حتى ذلك اليوم يكون عبوسا أيضا.

(قمطريرا) : هناك أقوال للمفسّرين في مادته ، قيل هو من (القمطر) ، وقيل : مشتق من مادة (قطر) ـ على وزن فرش ـ والميم زائدة ، وقيل هو الشديد ، وهو الأشهر(١) .

ويطرح هنا سؤال ، وهو : إذا كان عمل الأبرار خالصا لله تعالى ، فلم يقولون :

إنا نخاف عذاب يوم القيامة؟ وهل يتناسب دافع الخوف من عذاب يوم القيامة مع الدافع الإلهي؟

__________________

(١) مفردات الراغب ، لسان العرب ، المنجد ، القرطبي ، مجمع البيان.

٢٥٩

ويتضح جواب هذا السؤال بالالتفات إلى أنّ الأبرار يسلكون السبيل على كل حال إلى الله تعالى ، وإذا كانوا يخافون من عذاب يوم القيامة فإنّما هو لأنه عذاب إلهي ، وهذا هو ما ورد في الفقه في باب النية في العبادة من أنّ قصد القربة في العبادة لا ينافي قصد الثواب والخوف من العقاب أو حتى اكتساب المواهب المادية الدنيوية من عند الله (كصلاة الاستسقاء) ، لأنّ كل ذلك يرجع إلى الله تعالى ، كالداعي على الداعي ، رغم أنّ أعلى مراحل الإخلاص في العبادة تمكن في عدم التعلّق بنعم الجنان أو الخوف من الجحيم ، بل يكون بعنوان (حبّ الله).

والتعبير بـ( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) شاهد على أنّ هذا الخوف من الله.

والجدير بالذكر أنّ الوصف الثاني والخامس من الأوصاف الخمسة ، يشيران إلى مسألة الخوف. غاية الأمر أنّ الكلام في الآية الأولى عن الخوف من يوم القيامة ، وفي الثانية الخوف من الله في يوم القيامة ، ففي مورد وصف يوم القيامة في أنّ شرّه عظيم ، ووصفه في مورد آخر بأنّه عبوس وشديد ، وفي الحقيقة فإنّ أحدهما يصف عظمته وسعته والآخر شدّته وكيفيته.

وأشارت الآية الأخيرة في هذا البحث إلى النتيجة الإجمالية للأعمال الصالحة والنيّات الطاهرة للأبرار فيقول :( فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ) .

(نضرة) : بمعنى البهجة وحسن اللون والسرور الخاص الذي يظهر عند وفور النعمة والرفاه على الإنسان ، أجل ، إنّ لون وجودهم في ذلك اليوم يخبر عن الهدوء والارتياح ، وبما أنّهم كانوا يحسّون بالمسؤولية ويخافون من ذلك اليوم الرهيب ، فإنّ الله تعالى سوف يعوضهم بالسرور وبالبهجة.

وتعبير «لقاهم» من التعابير اللطيفة والتي تدلّ على أنّ الله سوف يستقبل ضيوفه الكرام بلطف وسرور خاص وأنّه سوف يجعلهم في سعة من رحمته.

* * *

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511