الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135967 / تحميل: 5389
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الإلهية ، إذ يمكن سلبها متى يشاء ليتسنى للعباد تحمل ثقل المسؤولية الذي يعتبر رمزا للتكامل من جهة ، ومن جهة أخرى أن لا يتوهموا استغنائهم عن الله تعالى.

والخلاصة ، أنّ هذه الآية تدعو الإنسان إلى أن لا يتوهّم أنّه مستغن عن رعاية الله وتوفيقه. وفي نفس الوقت تؤكد حريته في أعماله وسلوكه.

ويتضح هنا أنّ تمسك بعض المفسّرين القائلين بالجبر كالفخر الرازي بهذه الآية بسبب الخلفيات الذهنية المسبقة في هذه المسألة ، فيقول : واعلم أنّ هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر!(١) نعم ، إذا فصلنا هذه الآية عن الآيات السابقة فهناك محلّ لهذا الوهم. ولكن بالالتفات إلى ما ورد من تأثير الإختيار في آية ، وفي آية أخرى تأثير المشيئة الإلهية ، يتّضح بصورة جيدة مفهوم (الأمر بين الأمرين).

وعجيب أن أنصار التفويض يتمسكون بتلك الآية التي تتحدث عن الإختيار المطلق فقط ، وأنصار الجبرية يتمسكون بالآية التي تشير إلى الجبر فقط ، ويريد كل منهما تبرير أحكامهم المسبقة بتلك الآية ، والحال أنّ الفهم الصحيح للكلام الإلهي (أو أي كلام آخر) يستوجب ضمّ الآيات جنبا إلى جنب ، وترك التعصب والقضاء بالأحكام المسبقة.

ولعلّ آخر الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) . يشير حكمه إلى هذا المعنى ، لأنّ حكمة الله تستوجب إعطاء الحرية للعباد في سلوك طريق التكامل ، وإلّا فإنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملا ، بالإضافة إلى أنّ حكمة الله لا تتفق مع فرض الأعمال الخيرة على أناس وفرض الأعمال الشريرة على أناس آخرين ، ثمّ أنّه يثيب الجماعة الأولى ويعاقب الثانية.

ثمّ تشير الآية الأخرى بعد ذلك إلى مصير الصالحين والطالحين في جملة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٣٠ ص ٢٦٢.

٢٨١

يسيرة غنية المحتوى إذ تقول الآية :( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) والظريف أنّ صدر الآية يقول :( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ) ويقول ذيلها :( وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) وهذا يشير إلى أنّ مشيئته تعالى بعقوبة الإنسان تتبع مشيئة الإنسان للظلم والمعاصي ، وبقرينة المقابلة يتّضح أنّ مشيئته تعالى في الرحمة تتبع إرادة الإنسان في الإيمان والعمل الصالح وإقامة العدل ، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر إلّا من حكيم.

والعجيب أنّ مع هذه القرينة فهناك أفراد كالفخر الرازي ممن يتخذ صدر هذه الآية دليلا على مسألة الجبر من دون الالتفات إلى آخر الآية التي يتحدث عن حرية الإرادة في أعمال الظالمين(١) .

اللهم! أدخلنا في رحمتك ونجّنا من العذاب الأليم الذي ينتظر الظالمين.(٢) اللهم! أدخلنا في رحمتك ونجّنا من العذاب الأليم الذي ينتظر الظالمين.

ربّنا! إنّك أوضحت السبيل إليك. وقد عزمنا على سلوكه ، فأعنّا على ذلك.

ربّنا! إنّنا إن لم نكن من الأبرار ولكنّا نحبّهم ، فاحشرنا معهم.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الدهر

* * *

__________________

(١ ، ٢) ـ لمزيد من التوضيح حول آيات (المشيئة) راجع تفسير الآية ٣٧ سورة الزمر.

٢٨٢
٢٨٣

سورة

المرسلات

مكيّة

وعدد آياتها خمسون آية

٢٨٤

«سورة المرسلات»

محتوى السورة :

المشهور أنّ هذه السورة مكيّة ، ولكن صرح البعض أنّ الآية (٤٨)( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) مدنية ، ولكن لم يذكروا لذلك دليلا واضحا ، وإذا كانت مسألة الركوع والصلاة سببا لهذا الاستنباط فإنّ ذلك يبدو بعيدا. إذ كثيرا ما كان المسلمون يقيمون الصلاة مع الركوع في مكّة ، على كلّ حال فإنّ أكثر محتويات هذه السورة تدور حول المسائل المرتبطة بالقيامة وتهديد وإنذار المشركين والمنكرين ، ومن خصائص هذه السورة تكرار الآية :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) عشر مرات بعد كل موضوع جديد ، وتنبئ السورة بعد ذكر الأقسام عن القيامة والحوادث الثقيلة والصعبة للبعث ، ثمّ تذكر عقب ذلك هذه الآية :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) :

وتتحدث السورة أولا عن الوقائع المؤسفة للأقوام المذنبين الأوائل.

ثمّ تتحدث ثانيا عن جانب من خصوصيات خلق الإنسان.

وفي المرحلة الثّالثة عن بعض المواهب الإلهية في الأرض.

وفي الرّابعة تشرح السورة جانبا من عذاب المكذبين ، وفي كل من هذه المراحل إشارة إلى مواضيع موقظة ومحركة ، ثمّ تأكيد تلك الآية بعد ذكر كلّ موضوع من هذه المواضيع ، وحتى أنّه أشار في قسم من ذلك إلى نعم الجنان للمتقين ليمزج الإنذار بالبشارة والترهيب بالترغيب.

٢٨٥

على كل حال فإنّ هذا التكرار يذكر بتكرار بعض الآيات في سورة الرحمن باختلاف أنّ الكلام يدور عن النعم ، أمّا في السورة فغالبا ما تتحدث عن عذاب المكذبين.

اختيار اسم (المرسلات) لهذه السورة هو لتناسبه مع الآية الأولى لهذه السورة.

فضيلة السورة :

روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأ سورة المرسلات كتب أنّه ليس من المشركين»(١) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأها عرّف الله بينه وبين محمد»(٢) لا شك أنّ الثواب والفضيلة تكون لمن يقرؤها ويتفكر ويعمل بها ، لذا روي في حديث أنّ أحد أصحاب النّبي قال : أسرع الشيب إليك يا رسول الله! فقال : «شيبتني سورة هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون»(٣) .

والملاحظ أنّ جميع هذه السور تعكس أحوال القيامة والمسائل المهولة لتلك المحكمة العظيمة ، وهذه هي التي تركت أثرا في روح النّبي المقدّسة.

من البديهي أنّ القراءة بدون تدبّر وتصميم على العمل لا يمكن أن تترك مثل هذا الأثر.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٤١٤.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الخصال للشيخ الصدوق باب الأربعة حديث ١٠.

٢٨٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) )

التّفسير

الوعود الإلهية وجزاء المكذبين :

ذكرت في صدر السورة ابتداء خمسة أيمان ، وذلك في خمس آيات.

الحديث وافر في تفسير معانيها :

يقول تعالى :( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) (١) أي قسما بالتي ترسل تباعا.

__________________

(١) «عرفا» : بمعنى متتابعا ، وأصله بمعنى (عرف الفرس) المتساقط بعضها على البعض الآخر ، وفسر أحيانا بالعمل الحسن والمعروف.

٢٨٧

( فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ) التي تسرع في حركتها كالعاصفة.

( وَالنَّاشِراتِ نَشْراً ) التي توسّع وتنشر ما وكّلت به.

( فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ) التي تفرق وتفصل.

( فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ) التي تلقي بالآيات الموقظة والمذكرّة.

( عُذْراً أَوْ نُذْراً ) (١) إمّا لإتمام الحجة أو للانذار.

والآن لنر ما هو مفهوم هذه الأيمان المغلقة التي تخبر عن مسائل مهمّة ، ويوجد هنا ثلاث تفاسير مهمّة :

١ ـ إنّ هذه الأيمان الخمسة إشارة إلى الرياح والعواصف التي لها الأثر البالغ في كثير من مسائل الطبيعة في العالم ، فيصبح معنى الآيات حينئذ : أقسم بالريح المتوالية الهبوب.

وأقسم بالأعاصير السريعة.

وأقسم بالناشرات السحاب التي تنزل المطر إلى الأراضي الميتة.

وأقسم بالرياح التي تفرّق السحاب بعد هطول المطر.

وأقسم بالرياح المذكّرة بالله بهذه المعطيات النافعة.

(وقيل أنّ( فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ) إشارة إلى أعاصير العذاب النقيضة للرياح الباعثة للحياة والتي تعتبر بدورها سببا للتذكر واليقظة).

٢ ـ إنّ هذه الأيمان إشارة إلى (ملائكة السماء) : أي أقسم بالملائكة المرسلة تباعا إلى الأنبياء (والملائكة المرسلين بالمناهج المعروفة) ، وأقسم بأولئك المسرعين كالأعصار لتنفيذ مهامهم ، والذين ينشرون ما أنزل الله على الأنبياء ، وأولئك الذين يفصلون بعملهم هذا الحق عن الباطل ، والذين يلقون ذكر الحق وأوامر الله على الأنبياء.

__________________

(١) «عذرا أو نذرا» : محله من الإعراب النصب على أنّه (مفعول لأجله) وقيل (حال).

٢٨٨

٣ ـ القسم الأوّل والثّاني ناظر إلى الرياح والأعاصير ، والقسم الثّالث والرّابع والخامس يتعلق بنشر آيات الحق بواسطة الملائكة ، ثمّ فصل الحق عن الباطل ، وبعد ذلك إلقاء الذكر والأوامر الإلهية على الأنبياء بقصد إتمام الحجّة والإنذار.

وما يمكن أن يكون شاهدا على التفسير الثّالث هو :

أوّلا : فصل المجموعتين من الأقسام التي في الآيات (بالواو) ، والحال أنّ البقية عطفت بالفاء وهي علامة ارتباطها.

ثانيا : إنّ هذه الأيمان كما سوف نرى واردة لموضوع الآية السابعة ، أي أحقيّة البعث والمعاد وواقعيته ، ونعلم أنّ تغيّرا عظيما يحصل في الدنيا عند البعث حيث العواصف الشديدة والزلازل والحوادث المهيبة من جهة ، ثمّ تشكيل محكمة العدل الإلهية من جهة أخرى وعندها تنشر الملائكة صحائف الأعمال وتفصل بين المؤمنين والكافرين ، وتلقي بالحكم الإلهي في هذا المجال.

وطبقا لهذا التّفسير سوف يتناسب القسم مع المقسم له ، ولهذا فإنّ التّفسير الأخير أفضل.

«الذكر» في جملة :( فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ) أمّا أن يكون بمعنى العلوم الملقاة على الأنبياء ، أو الآيات النازلة عليهم ، ونعلم أنّ القرآن جاء التعبير عنه بالذكر كما في الآية (٦) من سورة الحجر :( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) .

كلمة «الملقيات» بصيغة الجمع مع أنّ ملك الوحي ـ أي جبرئيلعليه‌السلام ـ واحد ليس إلّا لما يستفاد من الرّوايات أنّ جماعات كثيرة من الملائكة كانوا يصاحبون جبرئيلعليه‌السلام عند نزول الآيات القرآنية ، كقوله تعالى في الآية (١٥) من سورة عبس :( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) .

والآن لا بدّ أن نرى الغرض من هذه الأيمان ، الآية التالية ترفع الستار عن هذا المعنى ، فتقول :( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ) .

إنّ البعث والنشور ، والثواب والعقاب والحساب والجزاء كلها حق لا ريب

٢٨٩

فيه.

ويرى البعض أنّها إشارة إلى جميع الوعود الإلهية ، وتشمل وعود الصالحين والصالحين ، في الدنيا كانت أو في الآخرة ، ولكنّ الآيات التالية توحي أنّ المراد هو الوعد بالقيامة(١) .

وهنا وإن لم يستدل في هذه الآية على مسألة المعاد واكتفى بالادعاء ، فإنّ ظرافة الموضوع تكمن في أنّ مواضيع الأيمان السابقة تعتبر بحدّ ذاتها دلائل للمعاد ، منها إحياء الأراضي الميتة بالأمطار ، وهذا نموذج ممّا يحدث في المعاد ، ثمّ نزول التكاليف الإلهية على الأنبياء وإرسال الرسل ممّا لا يكون الهدف منه واضحا ومفهوما إلّا بوجود المعاد ، وهذا يشير إلى أنّ واقعة البعث أمر حتمي.

وجاء ما يشابه هذا الموضوع في الآية (٢٣) من سورة الذاريات إذ يقول الله تعالى :( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ ) القسم بالربّ يعتبر إشارة إلى أنّ ربوبية الربّ وتدبيره عالم الخلق يستوجب عدم تركه للخلق دون رزق.

ثمّ ينتهي إلى تبيان علامات ذلك اليوم الموعود ، فيقول : إذا تحقّق ذلك اليوم الموعود فإنّ النجوم سوف تنطفئ وتمحى( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) .

( وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ) أي انشقت.

( وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) أي زالت وانقلعت من مكانها.

(طمست) : من مادة (طمس) ـ على وزن شمس ـ وهو محو وزوال آثار الشيء ، ومن الممكن أن تشير العبارة هنا إلى محو نور النجوم أو اختفائها ، ولكن التفسير الأول أنسب ، كقوله في الآية (٢) من سورة التكوير :( وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) .

نسفت : من مادة (نسف) ـ على وزن حذف ـ وفي الأصل ، بمعنى وضع حبوب الغذاء في الغربال وتحريكه لعزل القشور عن الحبوب ، ويعني هنا تفتيت

__________________

(١) العطف بالفاء أيضا يقوي هذا المعنى.

٢٩٠

الجبال ثمّ نسفها في الريح ، ونستفيد من بعض آيات القرآن المجيد أنّ انقراض العالم يلازم وقوع حوادث مهولة بحيث يتلاشى نظام العالم بكامله. وحلول نظام الآخرة الجديد مكان ذلك النظام ، ولا يمكن وصف تلك الحوادث بأي بيان لما فيها من الرعب والعجب ، وهل يوصف حادث تنقلع فيه الجبال وتندك لتتحول إلى غبار وتكون كالصوف المنفوش؟! وكما يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الحوادث عظيمة للغاية بحيث أنّ أشد الزلازل المهيبة في الدنيا بالنسبة لها كفرقعة صغيرة يفرقعها الأطفال للّعب بها مقابل أقوى قنبلة ذرية.

وعلى أي حال فإنّ هذه التعابير القرآنية تشير إلى الاختلاف الكبير بين أنظمة الآخرة وأنظمة الدنيا.

ثمّ أشار القرآن بعد ذلك إلى ما يجري في البعث ، فيضيف : وفي ذلك الوقت يتمّ تعيين وقت للأنبياء والرسل ليأتوا إلى ساحة المحشر ويدلوا بشهادتهم :( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) (١) وهو كقوله :( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) .(٢) ثمّ يضيف تعالى :( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ) (٣) ، أي لماذا تمّ تأخير هذه الشهادة ولأي وقت؟ ثم يقول :( لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) يوم فصل الحق عن الباطل ، فصل صفوف المؤمنين عن الكافرين ، والأبرار عن الأشرار ، ويوم حكم الله المطلق على الجميع ، وقد جاء هذا الحوار لبيان عظمة ذلك اليوم ، ويا له من تعبير بليغ عميق لذلك اليوم ، إنّه «يوم الفصل»!!.

ثمّ يبيّن عظمة ذلك اليوم أيضا ، فيقول تعالى :( وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ )

__________________

(١) (أقّتت) أصلها (وقّتت) من مادة (وقت) إذ أن الواو المضمومة بدلت إلى الهمزة ، ويعني توقيت الوقت لرسل الله تعالى ، وهذا واضح إذ لا يعين لهم وقت بل يتعيّن لعملهم ، أي لشهادتهم على الأمم ، ولذا قيل إن في الآية حذفا.

(٢) الأعراف ، الآية ٦.

(٣) طبقا لهذا التفسير فإن الضمير في (أجلت) يعود إلى شهادة الأنبياء والرسل على الأمم ، وهو ما يستفاد منه في الآية السابقة ، وقيل إنّه يعود إلى جميع الأمور المرتبطة بالأنبياء وما أعطوا من الأخبار بالثواب والعقاب وحوادث القيامة وغيرها ، وقيل : إنّها إشارة إلى جميع الأمور التي وردت في الآيات السابقة كظلام النجوم وغيرها ، ولكن من الواضح أن التّفسير الأوّل أنسب ، لأنّ مرجع الضمير في الآية متصل بذلك.

٢٩١

إنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعلمه الواسع وبنظره الحاد الذي كان يرى من خلاله أسرار الغيب لم يكن مطلقا بصورة كاملة على أبعاد عظمة ذلك اليوم ، فكيف بسائر الناس : وقد قلنا مرارا إنّنا لا نستطيع الإحاطة والعلم بجميع أسرار القيامة العظيمة فنحن سجناء قفص الدنيا ، وما نتصوره عن ذلك اليوم ليس إلّا شبحا وخيالا يحكي عن مجريات الآخرة.

وفي آخر آية من آيات بحثنا هدد الله تعالى المكذبين بيوم القيامة تهديدا شديدا وقال :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

ويل : قيل هو الهلاك ، وقيل المراد به العذاب المتنوع ، وقيل هو واد في جهنّم مليء بالعذاب ، وتستخدم هذه الكلمة عادة فيما يخص الحوادث المؤسفة ، وهنا تحكي الآية عن مصير المكذبين المؤلم في ذلك اليوم(١) .

المراد بالمكذبين هنا هم المكذبون بيوم القيامة ، ونعلم أنّ من لا يؤمن بيوم القيامة ومحكمة العدل الإلهي وبالحساب والجزاء يسهل عليه أن يرتكب الذنوب والظلم والفساد ، بعكس الإيمان الراسخ بذلك اليوم فإنّه يهب الإنسان التقوى والإحساس بالمسؤولية.

* * *

ملاحظات

١ ـ محتوى هذه الأيمان

في الآيات السابقة ذكر أولا بالرياح والأعاصير لما لها من الدور الهام في عالم الخلقة ، فإنّها تحرك السحاب لتقودها إلى الأراضي اليابسة والميتة ، وتصريفها بعد نزول الأمطار ، وتنقل بذور النباتات من مكان إلى آخر وبذلك تنمو الغابات والمراتع ، وتلقّح الرياح أيضا كثيرا من الأزهار والثمار ، وتنقل الحرارة

__________________

(١) ورد مزيد من التوضيح في باب معنى (ويل) واختلافه مع (ويس) و (ريح) في ذيل الآية (٦٠) من سورة الذاريات.

٢٩٢

والبرودة من مناطق الأرض المختلفة إلى نقاط أخرى فتساعد بذلك على تعديل المناخ ، وتأخذ الهواء الطازج المليء بالأوكسجين من المزارع والصحاري إلى المدن ، ثم ترسل الهواء الملوث إلى الصحاري والبحار لغرض التصفية. ثم إنّها تثير مياه البحار وتجعلها أمواجا متلاطمة ، وتدخل الأوكسجين إلى الموجودات المائية الحيّة ، نعم إنّ للرياح والنسيم خدمات عظيمة وحياتية في الكون.

القسم الآخر من الأيمان يتحدث عن منهج نزول الوحي بوسيلة الملائكة ، فإنّ في عالم المعنى أيضا شبها مع النسيم في عالم المادة ، الملائكة يهبطون بكلمات الوحي على قلوب أنبياء الله تعالى كما تنزل قطرات المطر المباركة فتنمو أزهار وثمار المعارف الإلهية في القلوب.

وعلى هذا الأساس فإنّ الله تعالى قد أقسم بمربّي عالم المادة وبمربّي عالم المعنى ، والظريف أنّ جميع هذه الأقسام هو من أجل بيان حقيقة ذلك اليوم الذي تثمر فيه جميع المساعي وهو يوم القيامة ، يوم الفصل.

* * *

٢٩٣

الآيات

( أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) )

التّفسير

جزاء المكذبين بالمعاد

هذه الآيات أيضا تحذّر وبطرق مختلفة المنكرين للبعث ، وتوقظهم ببيانات مختلفة من نوم الغفلة العميق ؛ فتأخذ بأيديهم أوّلا إلى ما مضى من التاريخ لتريهم الأراضي المترامية الأطراف التي كانت ملكا للأقوام السابقين ، فيقول تعالى :( أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ) .

٢٩٤

إنّ آثارهم واضحة على صفحات البسيطة. وليس على صفحات التاريخ فحسب ، أقوام ـ كقوم عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وقوم فرعون ـ عوقبوا جزاء لأعمالهم فبعض أبيدوا بالطوفان وآخرون بالصاعقة ، وجماعة بقوة الرياح ، وقوم بالزلزلة وأحجار السماء.

( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ) لأنّها سنّة مستمرة لا تبعيض فيها ولا استثناء ، وهل يمكن أن يعاقب جماعة لجرم ما ، ويقبل ذلك الجرم من آخرين؟!

ولذا يضيف تعالى في الآية الأخرى :( كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) .

هذه الآية في الحقيقة هي بمنزلة بيان الدليل على هلاك الأمم الأولى ويستتبعه هلاك الأمم الأخرى ، لأنّ العذاب الإلهي ليس فيه جانب الثأر ولا الانتقام الشخصي. بل إنّه تابع لأصل الاستحقاق ومقتضى الحكمة.

وقال البعض : إنّ المراد من (الأولين) هم الأمم المتوغلة في الماضي البعيد كقوم نوح وعاد ثمود ، و (الآخرين) اللاحقون بهم من الأمم الغابرة أمثال قوم لوط وقوم فرعون ولكنّنا نلاحظ أنّ (نتبعهم) جاءت بصيغة فعل مضارع ، والحال أنّ عبارة (ألم نهلك) وردت بصيغة الماضي ، فيتضح من ذلك أنّ (الأولين) هم الأمم السابقة الذين هلكوا بالعذاب الإلهي و (الآخرين) هم الكفار المعاصرون للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الذين يأتون إلى الوجود فيما بعد ، ويتلوثون بالجرائم والمعاصي والظلم والفساد.

ثمّ يضيف مستنتجا :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

( يَوْمَئِذٍ ) : إشارة إلى يوم البعث الذي يعاقب فيه المكذبون بالعقوبات الشديدة ، والتكرار هو لتأكيد المطلب ، وما احتمله البعض من أنّ هذه الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي ، والآية المشابهة لها والتي وردت سابقا ناظرة إلى العذاب الأخروي يبدو بعيدا جدّا.

ثمّ يمسك القرآن بأيديهم ليأخذهم إلى عالم الجنين ويريهم عظمة الله

٢٩٥

وقدرته وكثرة مواهبه في هذا العالم المليء بالأسرار ، ليفهموا قدرة الله تعالى على المعاد والبعث من جهة وأنّهم غارقون في نعمه اللامتناهية من جهة أخرى ، فيقول تعالى :( أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) أي تافه وحقير( فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ) (١) .

مقرّ فيه ضمان لجميع ظروف الحياة والتربية والنمو والمحافظة على نطفة الإنسان ، فهو عجيب وظريف وموزون بحيث يثير إعجاب كل إنسان.

ثمّ يضيف تعالى : أنّ بقاء النطفة في ذلك المكان المكين والمحفوظ إنّما هو لمدة معينة :( إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) .

مدة لا يعلمها إلّا الله تعالى ، مدة مملوءة بالتغيرات والتحولات الكثيرة بحيث ترتدي النطفة في كل يوم لباسا جديدا من الحياة يؤدي به إلى التكامل في داخل ذلك المخبأ.

ثمّ يستنتج من قدرته تعالى على خلق الإنسان الكامل والشريف من نطفة حقيرة بأن الله تعالى نعم القادر :( فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ) (٢) (٣) وهذا الدليل اعتمده القرآن مرات عديدة لإثبات مسألة المعاد منها قوله تعالى في أول سورة الحج :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

__________________

(١) (قرار) : هو محل الاستقرار و (مكين) يعني محفوظ ، وأصله من المكانة المشتقة من التمكن (وتأتي المكانة أحيانا بمعنى المنزلة).

(٢) للآية حذف تقديره (فنعم القادرون نحن) أي أن المحذوف هو المخصوص بالمدح.

(٣) قال بعض المفسّرين إن معنى الآية هكذا : (إنا قدرنا النطفة بمقاييس ضرورية ومقادير مختلفة ، وخصوصيات في جسم الإنسان وروحه ، فنعم القادرون) ولكن هذا المعنى يبدو بعيدا لأن متن القرآن والقراءة المعروفة له غير مشددة ولذا يبدوا بعيدا وإن قال بعض إن المادة الثلاثية المجردة وردت بمعنى التقدير ، ولكن في الاستعمالات العادّية لا تستعمل كلمة (قادر) بهذا المعنى.

٢٩٦

ثمّ يعود في النهاية ليكرر تلك الآية وهو قوله :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) الويل لأولئك الذين يرون آثار قدرة الله تعالى ثمّ ينكرونها ، يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «أيّها المخلوق السوي ، والمنشأ المرعي في ظلمات الأرحام ومضاعف الأستار ، بدئت من سلالة من طين ، ووضعت في قرار مكين ، إلى قدر معلوم ، وأجل مقسوم ، تمور في بطن أمّك جنينا لا تحير دعاء ، ولا تسمع نداء ، ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمّك ، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟!»(١) .

ثمّ يقول تعالى :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢) ، أَحْياءً وَأَمْواتاً ) (٣) .

«كفات» : ـ على وزن كتاب ـ و (كفت) ـ على وزن كشف ـ هو جمع وضم الشيء للآخر ، ويقال أيضا لسرعة طيران الطيور «كفات» لجمعه لأجنحته حال الطيران السريع حتى يتمكن من شق الهواء والتقدم أسرع.

والمراد هو أنّ الأرض مقر لجميع البشر : إذ تجمع الأحياء على ظهرها وتهيء لهم جميع ما يحتاجونه ، وتضم أمواتهم في بطنها ، فلو أنّ الأرض لم تكن مهيئة لدفن الأموات لسبب العفونة والأمراض الناتجة منها فاجعة لجميع الأحياء.

نعم ، إنّ الأرض هي كالأم التي تجمع أولادها حولها وتضمهم تحت أجنحتها ، وتغذيهم ، وتلبسهم ، وتسكنهم ، وتقضي جميع حوائجهم ، وتحفظ أمواتهم في قلبها أيضا ، وتمتصهم وتزيل مساوئ آثارهم.

وفسّر بعضهم «الكفات» بالطيران السريع ، والآية تشير إلى حركة الأرض

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٦٣.

(٢) «كفاتا» : مفعول ثاني لـ (جعلنا) وهو مصدر قد جاء بصيغة اسم فاعل.

(٣) «أحياء وأمواتا» : حال لضمير مفعول محذوف تقديره (كفاتا لكم أحياء أمواتا).

٢٩٧

حول الشمس والحركات الأخرى والتي كانت غير مكتشفة زمن نزول القرآن.

ولكن بملاحظة الآية الأخرى أي( أَحْياءً وَأَمْواتاً ) يتضح أنّ التفسير الأوّل أنسب ، ويؤيد ذلك قول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عند رجوعه من صفين ووصوله قرب الكوفة ، حيث قال وهو ينظر إلى مقبرة خارج الكوفة : «هذه كفات الأموات» أي مساكنهم. ثم نظر إلى منازل الكوفة فقال : «هذه كفات الأحياء» ثم تلا هذه الآيات :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً ) (١) .

ثمّ يشير تعالى إلى إحدى النعم الإلهية العظيمة في الأرض ، فيضيف :( وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ) (٢) هذه الجبال التي قاربت بارتفاعها السماء ، واتصلت أصولها بالبعض الآخر قد لزمت الأرض كالدرع من جهة لحفظها من الضغط الداخلي والضغوط الناتجة من الجزر والمد الخارجي ، ومن جهة أخرى تمنع اصطكاك الرياح مع الأرض حيث تمدّ قبضتها في الهواء لتحركه حول نفسها وكذلك تنظم حركة الأعاصير والرياح من جهة ثالثة ، ولهذا تكون الجبال باعثة على الاستقرار لأهل الأرض.

وفي آخر الآية إشارة إلى إحدى البركات الأخرى للجبال فيضيف تعالى :( وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ) ماءا سائغا لكم وباعثا للحياة ، ولحيواناتكم ولبساتينكم.

صحيح أنّ كل ماء مستساغ هو من المطر ، ولكن للجبال الدور الأهم في الإيفاء بهذا الغرض ، فإنّ كثيرا من العيون والقنوات هي من الجبال ، ومصدر الأنهار العظيمة هي من الجليد المتراكم على قمم الجبال ، حيث تعتبر من الذخائر المائية المهمّة للإنسان ، إنّ قمم الجبال تكون باردة على الدوام لبعدها عن سطح الأرض ، ولهذا فإنّها تحافظ على الجليد المتراكم عليها لآجال طويلة حتى تتأثر

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤١٧ (نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم).

(٢) «رواسي» : جمع راسية ، وهي الثابتات ، و (شامخات) جمع شامخ ، أي عال ، وتأتي بعض العبارات كالقول (شمخ بأنفه) كناية عن التكبر (مفردات الراغب).

٢٩٨

بشعاع الشمس فيتحول إلى ماء ويتدفق بالتالي على شكل أنهار وجداول.

ثمّ يقول في نهاية هذا القسم :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

أولئك الذين ينكرون كل هذه الآيات وعلامات قدرة الله التي يرونها بأعينهم ، وكذلك يشاهدون النعم الإلهية التي غرقوا فيها ، ثمّ ينكرون البعث ومحكمة القيامة التي هي مظهر العدل والحكمة الإلهية.

* * *

٢٩٩

الآيات

( انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) )

التّفسير

لا قدرة لهم للدفاع ولا طريقا للفرار

في هذه الآيات تبيان لمصير المكذبين بيوم القيامة ، والمنكرين لتلك المحكمة الإلهية العادلة ، تبيان يدخل الرعب والرهبة في قلب الإنسان ، ويوضح أبعاد الفاجعة ، يقول تعالى :( انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) ، انطلقوا إلى جهنّم التي طالما كنتم تستهزئون بها ، توجهوا إلى أنواع العذاب التي هيئتموها بأعمالكم

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للآية ، بأن أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ـ قد منع أجيره أجره ـ والظاهر أنّه كان مسلما ـ وقال متهكما : إن كان ما يقوله محمّد حقا فنحن أولى من غيرنا بنعم الجنّة ، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية وقالت : إنّ الجنّة مختصة بمن كان تقيا.

* * *

٤٨١

الآيتان

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) )

سبب النّزول

ذكر جماعة من المفسّرين في سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ الوحي انقطع أيّاما ، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، فلمّا انقضت هذه المدّة قال له : قال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت الآية :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (1) .

التّفسير

الطاعة التّامة :

بالرّغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّا أنّ هذا لا يكون مانعا من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 352 ، عن مجمع البيان ، وتفسير القرطبي ، الجزء 11 ، ص 416 ، وذيل الآية مورد البحث باختلاف يسير.

٤٨٢

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) فكل شيء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

وقد ذكر بعض المفسّرين لجملة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا كما يبدو

ثمّ تضيف الآية : إن كل ذلك بأمر ربّك( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه( فَاعْبُدْهُ ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص. ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت( وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) ، وتقول في آخر جملة :( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) .

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك اليه وتعبده؟

إنّ كلمة (سمي) وإن كانت تعني «المشترك في الاسم» ، إلّا أن من الواضح أنّ المراد هنا ليس الاسم فقط ، بل محتوى الاسم ، أي : هل تعلم أحدا غير الله خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على كل شيء ، وظاهرا على كل شيء؟

* * *

٤٨٣

الآيات

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) )

سبب النّزول

الآيات الأولى ـ على رأي جماعة من المفسّرين ـ نزلت في شأن «أبي بن خلف» ، أو «الوليد بن المغيرة» ، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور ، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة ، وقالوا انظروا إلى محمّد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم ، جوابا قاطعا ، جوابا مفيدا ومعلما لكل البشر ، وفي جميع القرون والأعصار.

٤٨٤

التّفسير

حال أهل النّار :

مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الأولى أقوال منكري المعاد ، فتقول:( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) .

هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا ، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس) ، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في البداية بزيادة ونقيصة ، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الاستفهام فورا.

ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير( أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) . ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه ، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا السؤال ، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل ، وإلّا فإنّه لم يستعمل حقيقة إنسانيته.

إنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني ، وإلّا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط ، ولا وجود لرجوع الجسم إلى الحياة ، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال ، ولا لهذا الجواب.

على كل حال ، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا ، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أيضا ، ومن جملتها في أواخر سورة يس ، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ

٤٨٥

يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) (2) .

بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا ، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا ، بأنّ كل شخص إذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته ، فلما ذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّا ، أو نكتب بخط جميل جدّا ، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.

الجواب هو : صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار ، إلّا أن هناك سلسلة من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحيانا ، فإنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائما ، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا الداخلية ، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلّا أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحيانا ، فلا تستجمع كل الطاقات ، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.

إلّا أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته ، لا تثار حوله هذه المسائل ، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا ، فإنّه إذا عمل عملا فإنّه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.

ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين :( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) .

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي ، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء ، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحيانا.

__________________

(1) يس ، 77 ـ 79.

(2) لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).

٤٨٦

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا ، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثيا» بمعنى جماعة جماعة ، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول :( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) (1) ونبدأ بحسابهم أوّلا ، فإنّهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل ، إن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.

ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أخرى فتقول :( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ) فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإختيار.

(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها ، كما يعني حرق الشيء بالنّار.

* * *

__________________

(1) «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا ، لأنّهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.

٤٨٧

الآيتان

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) )

التّفسير

الجميع يردون جهنم!

تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) .

فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الاقتراب والإشراف ، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إلى جانب جهنم للحساب ، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي ، ثمّ ينجي الله المتقين ، ويدع

٤٨٨

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) حيث أن للورود هنا نفس المعنى.

والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين ، هو أن الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيئهم ـ يدخلون جهنم ، إلّا أنّها ستكون بردا وسلاما على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم( يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) ، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم ، إلّا أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال ، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل ، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني ، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول ، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) وكذلك جملة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى ، ومن جملتها :

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية ، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلّا يدخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجا من بردها ، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا»(1) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي»(2) !

__________________

(1) نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 353.

(2) المصدر السّابق.

٤٨٩

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الرّوايات الأخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط ، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم ، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف ، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(1) .

أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء :( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) دليل على التّفسير الأوّل ، فلا يبدو صحيحا ، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي ، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية :( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الاقتراب ، فهي غير مناسبة لكلمة( مُبْعَدُونَ ) ولا لجملة( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) .

جواب عن سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو : ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة ، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة ، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط ، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة ، فإنّ النّار تصبح بردا وسلاما على هؤلاء ، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى أثر ، كما

روي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حديث : «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم ،

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 572 ذيل آية( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر ، 14.

٤٩٠

فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمر الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالراكب ، ثمّ كشد الرجل ، ثمّ كمشيه»(1) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ أهل النّار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا المشهد ، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار ، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 353.

٤٩١

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) )

التّفسير

هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة

٤٩٢

الظالمين الجائرين بلال وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وسمية ، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأبهى زينة ، ويتبخترون أمام أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء نعم ، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.

«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة ، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء ، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب ، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث ، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر ، أو يجلسون فيه للتشاور : نادي ، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة ، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.

وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب (الندى)(1) وهذه الآية يمكن أن تكون إشارة إلى كل هذه المعاني ، أي : إنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم ، وإن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع ، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

__________________

(1) مفردات الراغب ، مادة (ندى).

٤٩٣

أبلغ وأحسن!

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً ) (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله ، فلما ذا ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟

إنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ.

«القرن» ـ كما قلنا سابقا في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل ، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران ، أي الاقتراب ، فإنّها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.

ثمّ تحذرهم تحذيرا آخر ، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي :( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) إي إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .

في الحقيقة ، إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القرآن يقول :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

__________________

(1) (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا ، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.

٤٩٤

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد ، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم ، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم ، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الاستدراج»(1) .

جملة( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) وإن كانت بصيغة الأمر ، إلّا أنّها بمعنى الخبر ، فمعناها : إنّ الله يمهل هؤلاء ويديهم عليهم النعم.

وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضا ، وأنّه يعني هنا اللعنة ، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.

وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إشارة إلى العقوبات الإلهية في عالم الدنيا ، عقوبات كطوفان نوح ، والزلزلة ، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق ، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة :( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

«الساعة» هنا إمّا بمعنى نهاية الدنيا ، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا أولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدى وإيمانا( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) .

من البديهي أن للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى ، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

__________________

(1) راجع ذيل الآيات 182 ، 183 من سورة الأعراف.

٤٩٥

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع ، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (1) .

* * *

__________________

(1) «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إمّا مصدر بمعنى الرّد والإرجاع ، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.

٤٩٦

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) )

التّفسير

تفكير خرافي ومنحرف :

يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ، وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم!

إنّ هذا النوع من التفكير ، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات ، أو أنّه غطاء وتستّر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية ، فهو تفكير خاطئ وخطير.

لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات

٤٩٧

الأفراد غير المؤمنين ، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين ، دليلا لإثبات هذه الخرفة ، في حين أنّه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر وترك أسس التقوى تبعث على الفخر ، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.

على كل حال ، فقد كان في عصر النّبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقا حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (1) .

ثمّ يجيبهم القرآن الكريم :( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فإنّ الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطلّع على الغيب ، لأنا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.

ثمّ يضيف بلهجة حادة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا :( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) .

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) .

هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد ، كما يحتمل أيضا أن

__________________

(1) نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآية وهو : إنّ أحد المؤمنين ـ واسمه خباب ـ كان يطلب أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ، فقال المدين مستهزئا : إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.

إلّا أنّ سبب النّزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا ، خاصّة وأنّ الكلام عن الولد هنا ، ونحن نعلم أنّ الولد في عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة :( نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) ويتّضح من هذا التعبير أنّ المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.

وعلى كل حال ، فإنّ جماعة من المفسّرين اعتبروا هذه الآية ـ بناء على سبب النّزول هذا ـ إشارة إلى الآخرة ، إلّا أنّ الحق ما قيل.

٤٩٨

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم الإيمان. ويحتمل أيضا أنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!

( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) من الأموال والأولاد( وَيَأْتِينا فَرْداً ) .

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حل مشاكلهم ، لكن ، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّا وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . وكذلك ما نلاحظه في الآية (6) من سورة الأحقاف :( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) .

وقد احتمل بعض كبار المفسّرين أن المراد من الآية : إنّ عبدة الأصنام عند ما ترفع الحجب في القيامة ، وتتضح كل الحقائق ، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا ، فإنّهم ينكرون عبادة الأصنام ، وسيقفون ضدها ، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الأنعام :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، لأن عبّاد الأصنام كانوا يريدون

٤٩٩

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزّا لهم ، إلّا أنّهم يصبحون ضدها في النهاية.

ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة والشياطين والجن واضح ومعلوم ، إلّا أنّ الآلهة الميتة التي لا روح لها ، من الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن يستفاد هذا التّفسير من حديث مروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرءون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.

والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى حول العبادة:ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده»(1) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 357.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511