الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135873 / تحميل: 5382
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

السيئة.

(انطلقوا) : من مادة (انطلاق) وهو الانتقال من غير مكث ، ويظهر منه كذلك الحرية المطلقة ، وهذا في الحقيقة توضيح لحالهم في عرصة المحشر إذ يوقفوهم للحساب مدّة طويلة ، ثمّ يتركونهم ويقال لهم : انطلقوا إلى جهنّم من غير مكث أو توقف. ومن الممكن أن يكون المتكلم هنا هو الله تعالى ، أو ملائكة العذاب ، وعلى كلّ حال فإنّه سياق ممزوج بالتوبيخ الشديد الذي يعتبر بحدّ ذاته عذابا مؤلما.

ثمّ يعمد إلى مزيد من التوضيح حول هذا العذاب ، فيقول سبحانه :( انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) : توجهوا نحو ظلّ من دخان خانق له ثلاث شعب : شعبة من الأعلى ، وشعبة من الجهة اليمنى ، وشعبة من الجهة اليسرى ، وعلى هذا الأساس فإنّ دخال النّار المميت هذا يحيط بهم من كل جانب ويحاصرهم.

ثمّ يقول تعالى :( لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ) فليس في هذا الظل راحة ، ولا يمنع من الاحتراق بالنّار لأنّه نابع من النّار.

وربّما كان التعبير بـ (ظل) سببا لتصور وجود الظل الذي يخفف من حرارة النّار ، ولكنّ هذه الآية تنفي هذا التصور وتقول : ليس هذا الظل كما تتصورون ، أنّه ظل محرق وخانق ، وناتج من دخان النّار الغليظ الذي يعكس حرارة اللهب بصورة كاملة(١) ويشهد على هذا الحديث قوله تعالى في سورة الواقعة حول أصحاب الشمال :( فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ) .(٢)

وقيل : إنّ هذه الشعب الثلاث هي انعكاس للتكذيبات الثلاثة لأساس الدين ، وهي التوحيد والنبوّة والمعاد ، لأنّ تكذيب المعاد لا ينفصل عن التكذيب بالنبوّة والتوحيد ، وقيل ، إنّها إشارة إلى مبادئ الذنوب الثلاثة : القوّة الغضبية والشهوية

__________________

(١) (لا ظليل) : صفة لـ (ظل) ولهذا جاء مجرورا.

(٢) الواقعة ، ٤٢ ـ ٤٤.

٣٠١

والوهمية ، نعم ، إنّ ذلك الدخان المظلم تجسيد لظلمات الشهوات.

ثمّ يضيف وصفا آخر لتلك النار المحرقة :( إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) (١)

ليس كشرر نار هذه الدنيا التي لا تكون أحيانا إلّا بمقدار رأس الإبرة ، التعبير بـ «القصر» هنا تعبير مليء بالمعنى ، وربّما يتوهّم أحد أنّه لو قيل شرر كالجبل كان أنسب ، ولكن لا ينبغي نسيان أنّ الجبال كما أشير إليها في الآيات السابقة هي أساس أنواع البركات وعيون المياه العذبة والسائغة ، ولكن قصور الظالمين هي التي تكون منشأ للنيران المحرقة والشرر المتطاير منها(٢) .

ثمّ ينتهي في الآية الأخرى إلى وصف آخر من أوصاف هذه النّار المحرقة ، فيقول تعالى :( كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ ) (٣) .

«جماله» : جمع «جمل» ، وهو البعير (مثل الحجر والحجارة) و «صفر» ـ على وزن قفل ـ جمع أصفر ويطلق أحيانا على اللون الداكن المائل إلى الأسود ، ولكنّ الأوّل يبدو أنسب ، لأنّ شرر النّار يكون أصفر مائلا إلى الحمرة ، وفي الآية السابقة شبّه حجم الشرر بالقصر الكبير ، وفي هذه الآية من حيث الكثرة واللون والسرعة والحركة والتفرق الجميع الجهات شبهها بمجموعة من الجمال الصفر المتجهة إلى كل صوب.

وإذا كان الشرر هكذا ، فكيف بنفس النّار المحرقة ، وما جعل من العذاب الأليم في تلك النّار؟!

ويعود مرة أخرى في آخر قسم من الآيات لينبّه بذلك التنبيه المكرر ، فيقول :

__________________

(١) (شرر) : على وزن (ضرر) جمع شرارة ، وهو ما يتطاير من النّار ، وأخذت من مادة (الشر).

(٢) نقل بعض المفسّرين كالفخر الرازي عن ابن عباس في تفسير «القصر» فقال : أعواد في الصحراء كانوا يقطعونها ثمّ يجمعوها ويضعوها فوق بعض للشتاء (لا يستبعد هذا التفسير أيضا وذلك لما كانوا يشبهون الأعواد المجموعة والمتراصة بالقصر العالي).

(٣) لعلّ ضمير (كان) يعود على (قصر) أو إلى (الشرر) وبما أنّ (شرر) بصيغة الجمع فلا يمكن ذلك من دون تأويل إلّا أن نجعل (شرر) اسم جمع.

٣٠٢

( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

ثمّ يبدأ فصلا آخر من علامات ذلك اليوم المهول ، فيضيف تعالى :( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) (١) .

نعم إنّ الله يختم في ذلك اليوم على أفواه المجرمين ، والمذنبين كقوله في الآية (٦٥) من سورة يس :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ) ، وكذلك ما ورد في آخرها :( وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) وطبقا لآيات أخر فإنّ جلودهم تبدأ بالتكلم وتكشف عن جميع الخفايا.

ثمّ يضيف تعالى في القول :( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (٢) ليس لهم الرخصة في الكلام ، ولا في الاعتذار والدفاع عن أنفسهم ، لأنّ الحقائق واضحة هناك ، وليس لديهم ما يقولوه ، نعم يجب أن يعاقب هذا اللسان الذي أساء الاستفادة من الحرية وسعى في تكذيب الأنبياء ، والاستهزاء بالأولياء ، وإبطال الحق وإحقاق الباطل يجب أن يعاقب على أعماله بالإقفال والختم ، لإبطال مفعوله ، وهذا عذاب شديد وأليم بحدّ ذاته أن لا يتمكن الإنسان هناك من الدفاع عن نفسه أو الاعتذار.

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «الله أجل وأعدل وأعظم من أن يكون لعبده عذر ولا يدعه يعتذر به ، لكنه فلج فلم يكن له عذر»(٣) .

وبالطبع يستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ المجرمين يتحدثون أحيانا في يوم القيامة ، وقد ذكرنا السبب فيما سبق أنّ ذلك لتعدد المواقف في يوم القيامة ، ففي بعض المواقف يتوقف اللسان ويبدأ دور الأعضاء بالشهادة ، وأحيانا أخرى

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أن (يوم) هنا غير منوّن ، لأنه أضيف إلى مفهوم الجملة (لا ينطقون).

(٢) قد يتساءل عن السبب في كون جملة (فيعتذرون) مرفوعة في حين أن القاعدة تنص على النصب وحذف النون ، قيل : أنّهم تركوا الاعتذار ، لأنّهم لا عذر لهم وليس لعدم الإذن الإلهي.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٩٠ ، الحديث ٢٢.

٣٠٣

ينطق اللسان بكلمات الحسرة والندم والأسف الشديد.

ثمّ يكرر تعالى في نهاية هذا المقطع قوله :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

في المقطع الآخر يوجه الخطاب إلى المجرمين ليحكي عمّا يجري في ذلك اليوم فيقول تعالى :( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ) جمعنا في هذا اليوم جميع البشر من دون استثناء للحساب ، وفصل الخصام في هذه العرصة والمحكمة العظمى.

ويقول : والآن إذا كان لكم قدرة على الفرار من العقاب فاعملوا ما بدا لكم :

( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) (١) .

هل يمكنكم الهرب من دائرة نفوذ حكومتي؟

أو هل يمكنكم التغلّب على قدرتي؟

أو هل تستطيعون دفع الفدية لتتحرروا؟

أو أنّ لكم القدرة على أن تخدعوا الملائكة الموكلين بكم وبحسابكم؟

اعملوا ما بدا لكم ولكن اعلموا أنّكم لا تستطيعون!!

في الحقيقة إنّه أمر تعجيزي ، أي أنّ الإنسان يعجز أمام هذا الأمر ، كالذي جاء في شأن القرآن المجيد حيث يقول تعالى :( إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) .

(كيد) : على وزن (صيد) يقول الراغب في مفرداته : هو نوع من الاحتيال ، ويكون أحيانا مذموما ، وأحيانا ممدوحا ، وإن كان الغالب استعماله في الذم (كما هو الحال في الآية محل بحثنا).

ومن الطبيعي أنّهم لم يستطيعوا شيئا في ذلك اليوم ، لأنّ ذلك اليوم تنقطع فيه جميع الأسباب والوسائل أمام الإنسان ، كما ورد في الآية (١٦٦) من سورة

__________________

(١) النون في (فكيدون) مكسورة وجاءت الكسرة محل ياء المتكلم ، وأصلها (فكيدوني) فحذفت الياء وبقيت الكسرة لتدل على الياء ، وضمير المتكلم يعود إلى ذات الله المقدّسة طبقا لظاهر الآيات ، واحتمال رجوعه إلى شخص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيد جدّا.

٣٠٤

البقرة :( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) .

والملاحظ أنّه يقول من جهة : ذلك اليوم (يوم الفصل) ومن جهة أخرى يقول : ذلك اليوم (يوم الجمع) وكلاهما يتحققان في وقت واحد ، فيجمعون أوّلا في تلك المحكمة العظيمة ، ثمّ يفصلون كل حسب عقيدته وعمله في صفوف مختلفة ، حتى الذين ينطلقون إلى الجنان فإنّ لهم صفوفا ودرجات ، والمتوجهون جهنّم أيضا لهم صفوف ودركات مختلفة ، نعم إنّ ذلك اليوم هو يوم فصل الحق عن الباطل ، والظالم عن المظلوم.

ثمّ أنّه تعالى أعاد تلك الجملة المهددة والمنبّهة مرّة أخرى ، وقال :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

* * *

٣٠٥

الآيات

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠) )

التّفسير

إن لم يؤمنوا بالقرآن فبأيّ حديث يؤمنون؟!

من المعلوم في منهج القرآن أنّه يمزج الإنذار بالبشارة ، والتهديد بالترغيب ، وكذلك يذكر مصير المؤمنين في مقابل مصير المجرمين لفهم المسائل بصورة أكثر بقرينة المقابلة ، وعلى أساس هذه السنّة المتّبعة في القرآن ، فإنّ هذه الآيات وبعد بيان العقوبات المختلفة للمجرمين في القيامة ، أشارت بصورة مختصرة وبليغة إلى وضع المتقين في ذلك اليوم فيقول تعالى :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ) .

٣٠٦

والحال أنّ المجرمين كما علم من الآيات السابقة هم في ظل الشرر وحرقة الدخان المميت.

(ظلال) : جمع «ظل» سواء كان ظلا كظل الأشجار في النهار ، أو الظل الحاصل من ظلام الليل ، والحال أنّ «الفيء» يقال فقط للظل الحاصل من النور ، كظل الأشجار المقابل للشمس.

ثمّ يضيف :( وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) .

من الواضح أنّ ذكر «الفواكه» و «الظلال» و «العيون» إشارة إلى جانب من المواهب الإلهية العظيمة المعطاة إلى أهل الجنان جانب يمكن بيانه ورسمه بلسان أهل الدنيا ، وأمّا ما لا يمكن حصره بالبيان ، ولم يخطر ببال أهل الدنيا فهو أعلى من هذه المراتب وأفضل.

والظريف أنّهم في هذا المضيف الإلهي يستضافون بأحسن الوجوه ، كما هو الحال في الآية التالية إذ يقول لهم :( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) هذه الجملة سواء كانت خطابا من الله بشكل مباشر ، أو بوسيلة الملائكة تقال لهم مشفوعة باللطف والمحبّة التي هي غذاء لروحهم.

وعبارة( بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) إشارة إلى أنّ هذه المواهب لا تعطى لأيّ كان من دون عمل ، ولا يمكن حصولها بالادعاء والتخيل والتصور ، وإنّما يمكن نيلها والحصول عليها بالأعمال الصالحة فقط.

(هنيء) : على وزن (صبيح) ويقول الراغب في مفرداته : هو كل شيء ليست فيه مشقة ولا يستتبعه قلق ، ولذا يقال للماء والغذاء السائغ (هنيء) ، ويطلق أحيانا على الحياة السعيدة.

وهذا إشارة إلى أنّ فواكه الجنّة وأغذيتها وأشربتها ليست كأغذية الدنيا وأشربتها التي تترك أحيانا آثارا سيئة في البدن ، أو تترك أعراضا غير مرضية.

وهناك اختلاف بين المفسّرين في أنّ هذه الآية تبيان لإباحة الاستفادة من

٣٠٧

هذه النعم ، أم أنّه أمر من الله تعالى؟ ولكن يجب أن يلاحظ أنّ مثل هذه الأوامر التي تقال عند الاستقبال هو نوع من الطلب للشخص المضيّف ، وأنّها تقال لتعظيم الضيوف واحترامهم ، والمضيّف يحب أن يؤكل طعامه أكثر لإكرام ضيفه أكثر.

ثمّ تؤكد الآية الأخرى على مسألة النعم وأنّها لا تمنح اعتباطا فيضيف :( إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

الظريف أنّ في الآية الأولى تأكيد على «التقوى» ، وفي الآية التي تليها تأكيد على «العمل» ، وأمّا في هذه الآية فقد أكّد على «الإحسان».

(التقوى) : هي اتّقاء واجتناب الذنوب والفساد والشرك والكفر ، و «الإحسان» هو أداء كل عمل حسن ، و «العمل» يتعلق بالأعمال الصالحة ، ليتضح أنّ منهج النعم الإلهية مرتبط بهذه الجماعة فقط ، وليس بمن يدعي الإيمان الكاذب ، والملوثين بأنواع الفساد ، وإن كانوا في الظاهر من أهل الإيمان.

وفي نهاية هذا المقطع يعيد تلك الآية :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) الويل لمن يحرم من كل هذه النعم والألطاف ، إذ أنّ عذاب حسرات هذا الحرمان ليس بأقل من نيران الجحيم المحرقة!

وبما أنّ إحدى عوامل إنكار المعاد الاهتمام بلذّات الدنيا الزائلة والميل إلى الحرية المطلقة للانتفاع بهذه اللذّات ، ويتوجه بالحديث في الآية التالية إلى المجرمين بلحن تهديدي فيقول : كلوا وتمتعوا بالملذات الدنيوية في هذه الأيّام القلائل ، ولكن اعلموا أنّ العذاب الإلهي ينتظركم ، لأنّكم مجرمون :( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) .

وقد يكون التعبير بـ (قليلا) إشارة إلى مدّة عمر الإنسان القصيرة في الدنيا ، وكذا المواهب الدنيوية التافهة مقابل النعم الأخروية اللامتناهية ، إلّا أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا الخطاب هو للمجرمين في الآخرة ، ولكن الالتفات إلى أنّ الآخرة ليس فيها متع من مواهب الحياة للمجرمين ليتمتعوا بها ، فينبغي ، القول بأنّ

٣٠٨

هذا الخطاب موجّه لهم في الدنيا.

في الحقيقة أنّ المتقين يستضافون في الآخرة بكامل الاحترام والتقدير ، ويخاطبون بهذه الجملة المليئة باللطف والحنان :( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً ) وأمّا عبيد الدنيا فإنّهم يخاطبون بجملة تهديدية في هذه الدنيا :( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً ) .

يقول للمتقين :( بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ويقول لهؤلاء أيضا :( إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) (١) .

وعلى كل حال فإنّها تشير إلى أنّ مصدر العذاب الإلهي هو عمل الإنسان وذنبه ، الناشئ من عدم الإيمان أو الأسر في قبضة الشهوات.

ثمّ يكرر التهديد بجملة :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) هم أولئك الذين غرّروا وخدعوا بزخارف الدنيا ولذاتها وشهواتها واشتروا عذاب الله.

وأشار في الآية الأخرى إلى عامل آخر من عوامل الانحراف والتعاسة والتلوث ، وقال :( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) .

قال كثير من المفسّرين : إنّ هذه الآية نزلت في «ثقيف» حين أمرهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصلاة فقالوا : لا ننحني فإنّ ذلك سبّة علينا ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود»(٢) .

إنّهم لم يأبوا الركوع والسجود فحسب ، بل إنّ روح الغرور والكبر هذه كانت منعكسة على جميع أفكارهم وحياتهم ، فما كانوا يسلّمون لله ، ولا لأوامر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يقرّون بحقوق الناس ، ولا يتواضعون لله تعالى وللناس.

في الحقيقة أنّ هذين العاملين (الغرور وحب الشهوة) من أهم عوامل

__________________

(١) لهذه الآية حذف وتقديره على قول مجمع البيان : (كلوا وتمتعوا قليلا فإن الموت كائن لا محالة) ولكن يبدو أن التقدير الأنسب هو (كلوا وتمتعوا قليلا وانتظروا العذاب فإنّكم مجرمون).

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤١٩ ونقل هذا المعنى أيضا الآلوسي في روح المعاني والقرطبي في تفسيره والزمخشري في الكشّاف وروح البيان ذيل الآية التي هي مورد البحث.

٣٠٩

الإجرام والذنب والكفر والظلم والطغيان.

واحتمل البعض أنّ خطاب (اركعوا) يقال لهم في القيامة ، ولكن هذا الاحتمال بعيد ، خصوصا بعد التمعن في الآيات السابقة والآتية.

ثمّ يعيد هذه الآية للمرّة العاشرة والأخيرة إذ يقول :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

وفي آخر آية من آيات البحث ـ وهي آخر آية من السورة ـ يأتي السياق ممزوجا بالعتاب ومليئا بالملائمة ، فجاءت الآية بصيغة الاستفهام التعجبي ، إذ يقول( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) إنّ من لم يؤمن بالقرآن الذي لو أنزل على الجبال لتصدعت وارتجفت ، فسوف لن يسلم ولن يؤمن بأي كتاب سماوي ، ولا يقبل بأي منطق عقلائي ، وهذ يدّل على روح العناد والتعصب.

* * *

ملاحظة :

كما أشرنا سابقا في بداية السورة إلى تكرار الآية :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) عشر مرّات. وهذا تأكيد لواقع مهم ، وشبيه ذلك كثير في حديث العظماء والبلغاء ، إذ أنّ القسم الذي يعتنون به ويؤكّدون عليه يظهر مكررا في نثرهم وأشعارهم.

ولكن بعض المفسّرين يرى أنّ لكل آية من هذه الآيات العشر معنى خاصّا ، وتشير كل منها إلى تكذيب مواضيع سابقة لها ، ولذا فإنّها لا تعد مكررة.

ونختم هذه السورة بجملة من تفسير روح البيان ، يقول : إنّ هذه السورة نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غار قرب مسجد (خيف) بمنى وهو معروف ، وأنا شخصيا قد زرت ذلك الغار.

اللهم! جنّبنا أبدا التلوث بتكذيب آياتك.

٣١٠

ربّنا! جنّبنا الغرور والهوى فإنّهما رأس كلّ خطيئة.

إلهنا! احشرنا مع المتّقين الذين ينالون رضاك وضيافتك في ذلك اليوم.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة المرسلات

* * *

٣١١
٣١٢

بداية الجزء الثلاثون

من

القرآن الكريم

٣١٣
٣١٤

سورة

النّبإ

مكيّة

وعدد آياتها أربعون آية

٣١٥
٣١٦

«سورة النبا»

محتويات السورة :

تمتاز أغلب السور القرآنية في الجزء الأخير من القرآن بأنّها نزلت في مكّة ، وتؤكّد في مواضيعها على مسألة :

المبدأ ، المعاد ، البشارة والإنذار ، وتتّبع أسلوب الإثارة في الحديث ، وتتعامل مع الأوتار الموقظة للضمير الإنساني ، وتمتاز معظم آياتها بقصر العبارة المتضمنة لإشارات جمة ، حيث تبث الحياة في الأجساد الخالية من الروح ، وتنقلها من عالم الغفلة واللامبالاة إلى عالم الشعور بعظم المسؤولية الملقاة على العواتق ، وإلى البناء الجاد الملتزم للشخصية الإنسانية الحقة.

ومع كل ذلك فلآياتها عالما خاصّا مليء بالتفاعلات والحركية.

وسورة النبأ لا تشذّ عن الإطار العام لطبيعة السور المكيّة ، حيث تستهل السورة بسؤال يستوقف الإنسان ، وتختتم بجملة زاخرة بالعبرة

ويمكننا تلخيص محتوى السورة بما يلي :

١ ـ السؤال عن «النبأ العظيم» وهو يوم القيامة كحدث بالغ الخطورة.

٢ ـ الاستدلال على إمكانية المعاد والقيامة ، من خلال الاستدلال بمظاهر القدرة الإلهية في : السماء ، الأرض ، الحياة الإنسانية والنعم الرّبانية.

٣ ـ بيان بعض علامات بدء البعث.

٤ ـ تصوير جوانب من عذاب الطغاة الأليم.

٥ ـ التشويق للجنّة ، بوصف أجوائها الفياضة بالنعم.

٣١٧

٦ ـ وتختم السورة بالإنذار الشديد من عذاب قريب ، بالإضافة لتصوير حال الذين كفروا.

واشتق اسم السورة من الآية (٢) ويطلق عليها أيضا اسم سورة (عمّ) نسبة إلى أوّل كلمة وردت في السورة بعد البسملة.

فضل تلاوتها :

روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في فضل تلاوتها ـ أنّه قال : «من قرأ سورة عمّ يتساءلون سقاه الله برد الشراب يوم القيامة»(١) .

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأها وحفظها كان حسابه يوم القيامة بمقدار صلاة واحدة»(٢) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ عمّ يتساءلون لم يخرج سنته إذا كان يدمنها في كل يوم حتى يزور البيت الحرام»(٣) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ١٠ ، ٤٢٠.

(٢) تفسير البرهان ، ٤ ، ٤١٩.

(٣) مجمع البيان ، ١٠ ، ٤٢٠.

٣١٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) )

التّفسير

خبر هام!

تأتي الآية الأولى لتستفهم بتعجب :( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) (١) !

ودون انتظار للجواب ، تجيب الآية الثّانية ما سئل عنه في الآية الأولى :( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) .

ذلك الخبر :( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) .

أورد المفسّرون آراء متباينة في المقصود من «النبأ العظيم» ، فمنهم من اعتبره إشارة إلى يوم القيامة ، ومنهم من قال بأنّه إشارة إلى القرآن الكريم ، ومنهم من اعتبره إشارة إلى أصول الدين من التوحيد حتى المعاد.

وقد فسّرته الرّوايات بالولاية والإمامة (وسنشير إلى ذلك في البحوث الآتية).

__________________

(١) «عمّ» : مخفف (عمّا) ، وهي مركبة من (عن) و (ما) الاستفهامية.

٣١٩

وبنظرة دقيقة إلى مجموع آيات السورة وسياق طرحها ، وما ذكرته الآيات اللاحقة من ملامح القدرة الإلهية بعرض بعض مصاديقها في السماء والأرض ، وبعد هذا العرض تؤكّد إحدى الآيات ،( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ) ثمّ مخالفة وعدم تقبل المشركين لمبدأ «المعاد» ، كل ذلك يدعم التّفسير الأوّل القائل : بأنّ النبأ العظيم هو يوم القيامة.

«النبأ» : كما يقول الراغب في مفرداته : خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمّن هذه الأشياء الثلاثة(١) .

فوصف «النبأ» بـ «العظيم» للتأكيد على أهميته ، وللبت بأنّ ما يشك فيه البعض إنّما هو : أمر واقع ، بالغ الأهمية ، خطير وكما قلنا فهذا المعنى يناسب كونه يوم القيامة أكثر ممّا يناسب بقية التفاسير.

وربّما كانت جملة «يتساءلون» إشارة إلى الكفّار دون غيرهم ، لأنّهم كثيرا ما كانوا يتساءلون فيما بينهم بخصوص «المعاد» ، وما كان تساؤلهم لأجل الفحص والتحقيق وصولا للحقيقة ، بل كان لغرض التشكيك لا أكثر.

وثمّة احتمال آخر : كون تساؤلهم كان موجها إلى المؤمنين عموما ، أو إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة(٢) .

وقد يتساءل أنّه إذا كان «النبأ العظيم» هو يوم القيامة ، فلما ذا يقول القرآن الكريم :( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) ، وفي علمنا أنّ الكفار مجمعون على إنكاره؟؟

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة (نبأ).

(٢) مع أنّ باب (التفاعل) غالبا ما يشير إلى الفعل المقابل ، إلّا أنه ـ أحيانا ـ قد يعطي معنى الفعل الثلاثي المجرّد أو معان أخرى (وذكر بعض أهل اللغة خمسة معان للتفاعل :

١ ـ اشتراك اثنين أو أكثر في فعل ما.

٢ ـ المطاوعة ، مثل (تباعد).

٣ ـ إظهار خلاف الواقع ، مثل (تمرض).

٤ ـ الوقوع التدريجي ، مثل (توارد).

٥ ـ معنى فعل ثلاثي ، مثل (تعالى) بمعنى (علا).

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511