الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135899 / تحميل: 5384
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

يده مع يد الذّابح، ويسمّي الله تعالى، ويقول « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » إلى قوله « وأنا من المسلمين » ثمَّ يقول: « اللهم منك ولك. بسم الله، والله أكبر. اللهمّ تقبّل منّي » ثمَّ يمرّ السّكين. ولا ينخعه حتّى يموت. ومن أخطأ في الذّبيحة، فذكر غير صاحبها، كانت مجزئة عنه بالنّيّة. وينبغي أن يبدأ أيضا بالذّبح قبل الحلق، وفي العقيقة بالحلق قبل الذّبح. فإن قدّم الحلق على الذّبح ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن السّنّة أن يأكل الإنسان من هديه لمتعته، ومن الأضحيّة ويطعم القانع والمعترّ: يأكل ثلثه، ويطعم القانع والمعترّ ثلثه، ويهدي لأصدقائه الثّلث الباقي. وقد بيّنّا أنه لا يجوز أن يأكل من الهدي المضمون إلّا إذا كان مضطرّا. فإن أكل منه من غير ضرورة، كان عليه قيمته. ولا بأس بأكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام وادّخارها. ولا يجوز أن يخرج من منى من لحم ما يضحّيه. ولا بأس بإخراج السّنام منه. ولا بأس أيضا بإخراج لحم قد ضحّاه غيره. ويستحبّ أن لا يأخذ شيئا من جلود الهدي والأضاحي، بل يتصدّق بها كلّها. ولا يجوز أيضا أن يعطيها الجزّار. وإذا أراد أن يخرج شيئا منها لحاجته إلى ذلك، تصدّق بثمنه.

ولا يجوز أن يحلق الرّجل رأسه، ولا أن يزور البيت، إلا بعد الذّبح، أو أن يبلغ الهدي محلّه. وهو أن يحصل في رحله

٢٦١

فإذا حصل في رحله بمنى، وأراد أن يحلق، جاز له ذلك. ومتى فعل ذلك ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء. ومن وجبت عليه بدنة في نذر أو كفّارة، ولم يجدها، كان عليه سبع شياه. فإن لم يجد، صام ثمانية عشر يوما إمّا بمكّة أو إذا رجع إلى أهله.

والصّبيّ إذا حجّ به متمتّعا، وجب على وليّه أن يذبح عنه.

ومن لم يتمكّن من شراء هدي، إلّا يبيع بعض ثيابه التي يتجمّل بها، لم يلزمه ذلك، وكان الصوم مجزئا عنه.

ويجزي الهدي عن الأضحيّة. وإن جمع بينهما، كان أفضل. ومن لم يجد الأضحيّة، جاز له أن يتصدّق بثمنها. فإن اختلفت أثمانها، نظر إلى الثّمن الأوّل والثّاني والثّالث، وجمعها ثمَّ يتصدّق بثلثها، وليس عليه شي‌ء.

ومن نذر لله تعالى أن ينحر بدنة، فإن سمّى الموضع الذي ينحرها فيه، وجب عليه الوفاء به، وإن لم يسمّ الموضع، لم يجز له أن ينحرها إلّا بفناء الكعبة. ويكره للإنسان أن يضحّي بكبش قد تولّى تربيته، ويستحبّ أن يكون ذلك ممّا يشتريه.

باب الحلق والتقصير

يستحبّ أن يحلق الإنسان رأسه بعد الذّبح. وإن كان صرورة، لا يجزئه غير الحلق. وإن كان ممّن حجّ حجّة الإسلام، جاز له التّقصير، والحلق أفضل. اللهمّ إلّا أن يكون قد لبّد

٢٦٢

شعره. فإن كان كذلك، لم يجزئه غير الحلق في جميع الأحوال.

ومن ترك الحلق عامدا أو التّقصير إلى أن يزور البيت، كان عليه دم شاة. وإن فعله ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء، وكان عليه إعادة الطّواف. ومن رحل من منى قبل الحلق، فليرجع إليها، ولا يحلق رأسه إلّا بها مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من الرّجوع إليها، فليحلق رأسه في مكانه، ويردّ شعره إلى منى، ويدفنه هناك فإن لم يتمكّن من ردّ الشعر، لم يكن عليه شي‌ء.

والمرأة ليس عليها حلق، ويكفيها من التّقصير مقدار أنملة.

وإذا أراد أن يحلق، فليبدأ بناصيته من القرن الأيمن ويحلق إلى العظمين ويقول إذا حلق: « اللهمّ أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيامة ». ومن لم يكن على رأسه شعر، فليمرّ الموسى عليه. وقد أجزأه. وإذا حلق رأسه، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء والطّيب، إن كان متمتّعا. فإن كان حاجّا غير متمتّع، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف الزّيارة، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف النّساء، حلّت له أيضا النّساء.

ويستحبّ ألا يلبس الثّياب إلّا بعد الفراغ من طواف الزّيارة، وليس ذلك بمحظور. وكذلك يستحبّ ألّا يمسّ الطّيب إلّا بعد الفراغ من طواف النّساء، وإن لم يكن ذلك محظورا على ما قدّمناه.

٢٦٣

باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار

فإذا فرغ من مناسكه بمنى، فليتوجّه إلى مكّة، وليزر البيت يوم النّحر، ولا يؤخره إلّا لعذر. فإن أخّره لعذر، زار من الغد ولا يؤخر أكثر من ذلك. هذا إذا كان متمتّعا. فإن كان مفردا أو قارنا، جاز له أن يؤخر الى أيّ وقت شاء، غير أنّه لا تحلّ له النّساء. وتعجيل الطّواف للقارن والمفرد أفضل من تأخيره.

ويستحبّ لمن أراد زيارة البيت أن يغتسل قبل دخول المسجد والطّواف بالبيت، ويقلّم أظفاره، ويأخذ من شاربه، ثمَّ ثمَّ يزور. ولا بأس أن يغتسل الإنسان بمنى، ثمَّ يجي‌ء إلى مكّة، فيطوف بذلك الغسل بالبيت. ولا بأس أن يغتسل بالنّهار ويطوف بالليل ما لم ينقض ذلك الغسل بحدث أو نوم. فإن نقضه بحدث أو نوم، فليعد الغسل استحبابا، حتّى يطوف وهو على غسل. ويستحبّ للمرأة أيضا أن تغتسل قبل الطّواف.

وإذا أراد أن يدخل المسجد، فليقف على بابه، ويقول: « اللهمّ أعنّي على نسكك » إلى آخر الدّعاء الذي ذكرناه في الكتاب المقدّم ذكره. ثمَّ يدخل المسجد، ويأتي الحجر الأسود فيستلمه ويقبّله. فإن لم يستطع، استلمه بيده وقبّل يده. فإن لم يتمكّن من ذلك أيضا، استقبله، وكبّر، وقال ما قال حين طاف بالبيت يوم قدم مكّة. ثمَّ يطوف بالبيت أسبوعا كما قدّمنا وصفه

٢٦٤

ويصلّي عند المقام ركعتين. ثمَّ ليرجع الى الحجر الأسود فيقبّله، إن استطاع، ويستقبله ويكبّر. ثمَّ ليخرج إلى الصّفا، فيصنع عنده ما صنع يوم دخل مكّة. ثمَّ يأتي المروة، ويطوف بينهما سبعة أشواط، يبدأ بالصّفا ويختم بالمروة.

فإذا فعل ذلك، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء. ثمَّ ليرجع الى البيت، فيطوف به طواف النّساء أسبوعا، يصلّي عند المقام ركعتين، وقد حلّ له النّساء.

وأعلم أنّ طواف النّساء فريضة في الحجّ وفي العمرة المبتولة. وليس بواجب في العمرة التي يتمتّع بها الى الحج. فإن مات من وجب عليه طواف النّساء. كان على وليّه القضاء عنه. وإن تركه وهو حيّ، كان عليه قضاؤه. فإن لم يتمكّن من الرّجوع الى مكّة، جاز له أن يأمر من يتوب عنه. فإذا طاف النّائب عنه، حلّت له النّساء. وطواف النّساء فريضة على النّساء والرّجال والشّيوخ والخصيان، لا يجوز لهم تركه على حال.

فإذا فرغ الإنسان من الطّواف فليرجع إلى منى ولا يبيت ليالي التّشريق إلّا بها. فإن بات في غيرها، كان عليه دم شاة. فإن بات بمكّة ليالي التّشريق، ويكون مشتغلا بالطّواف والعبادة، لم يكن عليه شي‌ء. وإن لم يكن مشتغلا بهما، كان عليه ما ذكرناه، وان خرج من منى بعد نصف اللّيل، جاز له أن يبيت بغيرها، غير أنّه لا يدخل مكّة إلّا بعد طلوع الفجر. وإن تمكّن ألّا يخرج

٢٦٥

منها إلّا بعد طلوع الفجر، كان أفضل. ومن بات الثّلاث ليال بغير منى متعمّدا، كان عليه ثلاثة من الغنم. والأفضل أن لا يبرح الإنسان أيّام التّشريق من منى. فإن أراد أن يأتي مكّة للطّواف بالبيت تطوّعا، جاز له ذلك، غير أنّ الأفضل ما قدّمناه.

وإذا رجع الإنسان إلى منى لرمي الجمار، كان عليه أن يرمي ثلاثة أيّام: الثّاني من النّحر والثّالث والرّابع، كلّ يوم بإحدى وعشرين حصاة. ويكون ذلك عند الزّوال، فإنّه الأفضل. فإن رماها ما بين طلوع الشمس الى غروبها، لم يكن به بأس.

فإذا أراد أن يرمي، فليبدأ بالجمرة الأولى، فليرمها عن يسارها من بطن المسيل بسبع حصيات يرميهنّ خذفا. ويكبّر مع كلّ حصاة، ويدعوا بالدّعاء الذي قدّمناه. ثمَّ يقوم عن يسار الطّريق ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلّي على النّبيّ وآله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمَّ ليتقدم قليلا ويدعوا ويسأله أن يتقبّل منه. ثمَّ يتقدّم أيضا ويرمي الجمرة الثّانية، ويصنع عندها كما صنع عند الأولى، ويقف ويدعوا، ثمَّ يمضي إلى الثّالثة فيرميها كما رمى الأوليين، ولا يقف عندها.

وإذا غابت الشّمس، ولم يكن قد رمى بعد، فلا يجوز له أن يرمي إلّا في الغد. فإذا كان من الغد، رمى ليومه مرّة، ومرّة قضاء لما فاته، ويفصل بينهما بساعة. وينبغي أن يكون الذي يرمي لأمسه بكرة، والذي ليومه عند الزّوال. فإن فاته رمي يومين،

٢٦٦

رماها كلّها يوم النّفر، وليس عليه شي‌ء. وقد بينا أنّه لا يجوز الرّمي باللّيل. وقد رخّص للعليل والخائف والرّعاة والعبيد الرّمي باللّيل. ومن نسي رمي الجمار الى أن أتى مكّة، عاد إلى منى، ورماها، وليس عليه شي‌ء. وحكم المرأة في جميع ما ذكرناه حكم الرّجل سواء.

فإن لم يذكر الى أن يخرج من مكّة، لم يكن عليه شي‌ء. إلّا أنّه إن حجّ في العام المقبل، أعاد ما كان قد فاته من رمي الجمار. وإن لم يحجّ أمر وليّه أن يرمي عنه. فإن لم يكن له وليّ، استعان برجل من المسلمين في قضاء ذلك عنه.

والترتيب واجب في الرّمي. يجب أن يبدأ بالجمرة العظمى ثمَّ الوسطى ثمَّ جمرة العقبة. فمن خالف شيئا منها، أو رماها منكوسة، كان عليه الإعادة. ومن بدأ بجمرة العقبة ثمَّ الوسطى ثمَّ الأولى، أعاد على الوسطى ثمَّ جمرة العقبة وقد أجزأه. فإن نسي فرمى الجمرة الأولى بثلاث حصيات، ورمى الجمرتين الأخريين على التّمام، كان عليه ان يعيد عليها كلّها. وإن كان قد رمى من الجمرة الأولى بأربع حصيات ثمَّ رمى الجمرتين على التّمام، كان عليه أن يعيد على الأولى بثلاث حصيات. وكذلك إن كان قد رمى على الوسطى أقل من أربعة، أعاد عليها وعلى ما بعدها. وإن رماها بأربعة، تمّمها، وليس عليه شي‌ء من الإعادة على الثّالثة. ومن رمى جمرة بست حصيات، وضاعت عنه واحدة،

٢٦٧

أعاد عليها بحصاة، وإن كان من الغد. ولا يجوز له أن يأخذ من حصى الجمار فيرمي بها. ومن علم أنّه قد نقص حصاة واحدة، ولم يعلم من أي الجمار هي، أعاد على كلّ واحدة منها بحصاة. فإن رمى بحصاة، فوقعت في محمله، أعاد مكانها حصاة أخرى. فإن أصابت إنسانا أو دابّة، ثمَّ وقعت على الجمرة، فقد أجزأه.

ولا بأس أن يرمي الإنسان راكبا. وإن رمى ماشيا، كان أفضل ولا بأس أن يرمى عن العليل والمبطون والمغمى عليه والصّبيّ.

وينبغي أن يكبّر الإنسان بمنى عقيب خمس عشرة صلاة. يبدأ بالتّكبير يوم النّحر من بعد الظّهر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّالث من أيّام التّشريق، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات، يبدأ عقيب الظّهر من يوم النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّاني من أيّام التّشريق، ويقول في التّكبير: « الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، والله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام ».

باب النفر من منى ودخول الكعبة ووداع البيت

لا بأس أن ينفر الإنسان من منى اليوم الثّاني من أيّام التّشريق وهو اليوم الثّالث من يوم النّحر. فإن أقام إلى النّفر الأخير، وهو اليوم الثّالث من أيّام التّشريق والرّابع من يوم النّحر، كان أفضل. فإن كان ممّن أصاب النّساء في إحرامه أو صيدا، لم يجز له أن

٢٦٨

ينفر في النّفر الأوّل. ويجب عليه المقام الى النّفر الأخير. وإذا أراد أن ينفر في النّفر الأوّل، فلا ينفر إلّا بعد الزّوال، إلّا أن تدعوه ضرورة إليه من خوف وغيره، فإنّه لا بأس أن ينفر قبل الزّوال، وله أن ينفر بعد الزّوال ما بينه وبين غروب الشّمس. فإذا غابت الشّمس، لم يجز له النّفر، وليبت بمنى الى الغد. وإذا نفر في النّفر الأخير، جاز له أن ينفر من بعد طلوع الشّمس أيّ وقت شاء. فإن لم ينفر وأراد المقام بمنى، جاز له ذلك، إلّا الإمام خاصّة، فإنّ عليه أن يصلّي الظّهر بمكّة.

ومن نفر من منى، وكان قد قضى مناسكه كلّها، جاز له أن لا يدخل مكّة. وإن كان قد بقي عليه شي‌ء من المناسك، فلا بدّ له من الرّجوع إليها. والأفضل على كلّ حال الرّجوع إليها لتوديع البيت وطواف الوداع.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان بمسجد منى، وهو مسجد الخيف. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مسجده عند المنارة التي في وسط المسجد، وفوقها إلى القبلة نحوا من ثلاثين ذراعا، وعن يمينها وعن يسارها مثل ذلك. فإن استطعت أن يكون مصلّاك فيه، فافعل. ويستحبّ أن يصلّي الإنسان ستّ ركعات في مسجد منى. فإذا بلغ مسجد الحصباء، وهو مسجد رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليدخله وليسترح فيه قليلا وليستلق على قفاه.

٢٦٩

فإذا جاء إلى مكّة فليدخل الكعبة، إن تمكّن من ذلك سنّة واستحبابا. والصّرورة لا يترك دخولها على حال مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من ذلك، لم يكن عليه شي‌ء.

فإذا أراد دخول الكعبة فليغتسل قبل دخولها سنّة مؤكّدة. فإذا دخلها، فلا يمتخط فيها، ولا يبصق. ولا يجوز دخولها بحذاء. ويقول إذا دخلها: « اللهمّ إنّك قلت: ومن دخله كان آمنا، فآمنّى من عذابك عذاب النار ».

ثمَّ يصلّي بين الأسطوانتين على الرّخامة الحمراء ركعتين، يقرأ في الأولى منهما « حم السّجدة » وفي الثّانية عدد آياتها، ثمَّ ليصلّ في زوايا البيت كلّها، ثمَّ يقول: « اللهمّ من تهيّأ وتعبّأ » إلى آخر الدّعاء. فإذا صلّى عند الرّخامة على ما قدّمناه، وفي زوايا البيت، قام فاستقبل الحائط بين الرّكن اليمانيّ والغربيّ، ويرفع يديه، ويلتصق به، ويدعوا. ثمَّ يتحوّل الى الرّكن اليمانيّ، فيفعل به مثل ذلك. ثمَّ يأتي الرّكن الغربيّ، ويفعل به أيضا مثل ذلك، ثمَّ ليخرج. ولا يجوز أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة مع الاختيار. فإن اضطرّ الى ذلك، لم يكن عليه بأس بالصّلاة فيها. فأمّا النّوافل فالصّلاة فيها مندوب اليه.

فإذا خرج من البيت ونزل عن الدرجة، صلّى عن يمينه ركعتين. فإذا أراد الخروج من مكّة، جاء الى البيت، فطاف به أسبوعا طواف الوداع سنّة مؤكّدة. فإن استطاع أن يستلم الحجر

٢٧٠

والرّكن اليمانيّ في كل شوط، وفعل. وإن لم يتمكّن، افتتح به، وختم به، وقد أجزأه. فإن لم يتمكن من ذلك أيضا، لم يكن عليه شي‌ء. ثمَّ يأتي المستجار، فيصنع عنده كما صنع يوم قدم مكّة. ويتخيّر لنفسه من الدّعاء ما أراد. ثمَّ يستلم الحجر الأسود، ثمَّ يودّع البيت ويقول: « اللهمّ لا تجعله آخر العهد من بيتك » ثمَّ ليأت زمزم فيشرب منه، ثمَّ ليخرج، ويقول: « آئبون تائبون، عابدون، لربّنا حامدون، الى ربّنا راغبون، الى ربّنا راجعون ». فإذا خرج من باب المسجد، فليكن خروجه من باب الحنّاطين. فيخرّ ساجدا، ويقوم مستقبل الكعبة، فيقول: « اللهمّ إني أنقلب على لا إله إلا الله ».

ومن لم يتمكّن من طواف الوداع، أو شغله شاغل عن ذلك حتى خرج، لم يكن عليه شي‌ء. فإذا أراد الخروج من مكّة، فليشتر بدرهم تمرا، وليتصدّق به، ليكون كفّارة لما دخل عليه في الإحرام، إن شاء الله.

باب فرائض الحج

فرائض الحجّ: الإحرام من الميقات، والتّلبيات الأربع، والطّواف بالبيت، إن كان متمتّعا، ثلاثة أطواف: طواف للعمرة، وطواف للزيارة، وطواف للنّساء، وإن كان قارنا أو مفردا، طوافان: طواف للحجّ، وطواف للنّساء، ويلزمه مع

٢٧١

كلّ طواف ركعتان عند المقام، وهما أيضا فرضان، والسّعي بين الصّفا والمروة، والوقوف بالموقفين: عرفات والمشعر الحرام وإن كان متمتّعا، كان الهدي أيضا واجبا عليه أو ما يقوم مقامه.

فمن ترك الإحرام متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا حتّى يجوز الميقات، كان عليه أن يرجع إليه، ويحرم منه، إذا تمكّن منه. فإن لم يتمكّن لضيق الوقت أو الخوف أو ما جرى مجراهما من أسباب الضّرورات، أحرم من موضعه وقد أجزأه. فإن كان قد دخل مكّة، وأمكنه الخروج الى خارج الحرم، فليخرج وليحرم منه. فإن لم يستطع ذلك، أحرم من موضعه.

ومن ترك التّلبية متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركها ناسيا، ثمَّ ذكر، فليجدّد التّلبية، وليس عليه شي‌ء.

ومن ترك طواف الزّيارة متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا، أعاد الطّواف أيّ وقت ذكره.

ومن ترك طواف النّساء متعمّدا، لم يبطل حجّة، إلّا أنّه لا تحلّ له النّساء، حتى يطوف عنه حسب ما قدّمناه. وركعتا الطّواف متى تركهما ناسيا، كان عليه قضاءهما حسب ما قدّمناه.

ومن ترك السّعي متعمّدا، فلا حجّ له. فإن تركه ناسيا،

٢٧٢

عليه قضاؤه حسب ما قدّمناه.

ومن ترك الوقوف بعرفات متعمّدا، أو بالمشعر الحرام، فلا حجّ له. فإن ترك الوقوف بعرفات ناسيا، كان عليه أن يعود، فيقف بها ما بينه وبين طلوع الفجر من يوم النّحر. فإن لم يذكر إلّا بعد طلوع الفجر، وكان قد وقف بالمشعر، فقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

وإذا ورد الحاجّ ليلا، وعلم: أنّه مضى الى عرفات، وقف بها وإن كان قليلا، ثمَّ عاد الى المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، وجب عليه المضيّ إليها والوقوف بها، ثمَّ يجي‌ء إلى المشعر الحرام. فإن غلب على ظنّه أنّه إن مضى الى عرفات، لم يلحق المشعر قبل طلوع الشّمس، اقتصر على الوقوف بالمشعر، وقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

ومن أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، فقد أدرك الحجّ. وإن أدركه بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ.

ومن وقف بعرفات، ثمَّ قصد المشعر، فعاقه في الطّريق عائق، فلم يلحق الى قرب الزّوال، فقد تمَّ حجّه، ويقف قليلا بالمشعر ويمضي إلى منى. ومن لم يكن قد وقف بعرفات، وأدرك المشعر بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ، لأنّه لم يلحق أحد الموقفين في وقته.

ومن فاته الحجّ، فليقم على إحرامه الى انقضاء أيّام

٢٧٣

التّشريق، ثمَّ يجي‌ء، فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصّفا والمروة، ويجعل حجّته عمرة. وإن كان قد ساق معه هديا، فلينحره بمكّة وكان عليه الحجّ من قابل إن كانت حجته حجّة الإسلام. وإن كانت حجّة التّطوّع، كان بالخيار: إن شاء حجّ، وإن شاء لم يحجّ. ومن حضر المناسك كلّها ورتّبها في مواضعها. إلّا أنّه كان سكرانا، فلا حجّ له، وكان عليه الحجّ من قابل.

باب مناسك النساء في الحج والعمرة

قد بيّنّا فيما تقدّم من أن الحجّ واجب على النّساء كوجوبه على الرّجال. فمتى كانت المرأة لها زوج، فلا تخرج إلّا معه. فإن منعها زوجها من الخروج في حجّة الإسلام، جاز لها خلافه. ولتخرج، وتحجّ حجّة الإسلام. وإن أرادت أن تحجّ تطوّعا، فمنعها زوجها، فليس لها مخالفته.

وينبغي أن لا تخرج إلّا مع ذي محرم لها من أب أو أخ أو عمّ أو خال. فإن لم يكن لها أحد ممّن ذكرناه. جاز لها أن تخرج مع من تثق بدينه من المؤمنين.

وإذا كانت المرأة في عدّة الطّلاق، جاز لها أن تخرج في حجّة الإسلام، سواء كان للزّوج عليها رجعة أو لم تكن. وليس لها أن تخرج إذا كانت حجّتها تطوّعا، إلّا أن تكون العدّة

٢٧٤

لزوجها عليها فيها رجعة. فأمّا عدّة المتوفّى عنها زوجها، فلا بأس بها أن تخرج فيها الى الحجّ فرضا كان أو نفلا.

وإذا خرجت المرأة، وبلغت ميقات أهلها، فعليها أن تحرم منه، ولا تؤخره. فإن كانت حائضا، توضّأت وضوء الصّلاة واحتشت واستثفرت وأحرمت، إلّا أنها لا تصلّي ركعتي الإحرام فإن تركت الإحرام ظنّا منها أنّه لا يجوز لها ذلك، وجازت الميقات، كان عليها أن ترجع الى الميقات، فتحرم منه، إذا أمكنها ذلك. فإن لم يمكنها، أحرمت من موضعها. إذا لم تكن قد دخلت مكّة. فإن كانت قد دخلت مكّة، فلتخرج الى خارج الحرم، وتحرم من هناك. فإن لم يمكنها ذلك، أحرمت من موضعها، وليس عليها شي‌ء.

فإذا دخلت المرأة مكّة، وكانت متمتّعة، طافت بالبيت، وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت. وقد أحلّت من كلّ ما أحرمت منه مثل الرّجل سواء.

فإن حاضت قبل الطّواف، انتظرت ما بينها وبين الوقت الذي تخرج الى عرفات. فإن طهرت، طافت وسعت. وإن لم تطهر، فقد مضت متعتها، وتكون حجّة مفردة، تقضي المناسك كلّها ثمَّ تعتمر بعد ذلك عمرة مبتولة. فإن طافت بالبيت ثلاثة أشواط ثمَّ حاضت، كان حكمها حكم من لم يطف. وإذا طافت أربعة أشواط، ثمَّ حاضت، قطعت الطّواف،

٢٧٥

وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وقد تمّت متعتها.

فإذا فرغت من المناسك، وطهرت تمّمت الطّواف. وإن كانت قد طافت الطّواف كلّه، ولم تكن قد صلّت الرّكعتين عند المقام، فلتخرج من المسجد، ولتسع، وتعمل ما قدّمناه من الإحرام بالحجّ وقضاء المناسك، ثمَّ تقضي الرّكعتين إذا طهرت. وإذا طافت بالبيت بين الصّفا والمروة وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وخافت أن يلحقها الحيض فيما بعد، فلا تتمكّن من طواف الزّيارة وطواف النّساء، فجائز لها أن تقدّم الطّوافين معا، والسّعي بين الصّفا والمروة، ثمَّ تخرج فتقضي المناسك كلّها، ثمَّ ترجع الى منزلها.

فإن كانت قد طافت طواف الزّيارة، وبقي عليها طواف النّساء، فلا تخرج من مكّة إلّا بعد أن تقضيه. وإن كانت قد طافت منه أربعة أشواط وأرادت الخروج، جاز لها أن تخرج وإن لم تتمّ الطّواف.

والمستحاضة لا بأس بها أن تطوف بالبيت، وتصلّي عند المقام، وتشهد المناسك كلّها، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة. والفرق بينها وبين الحائض، أنّ الحائض لا يحلّ لها دخول المسجد، فلا تتمكّن من الطّواف، ولا يجوز لها أيضا الصّلاة، والطّواف لا بدّ فيه من الصّلاة، وليس هذا حكم المستحاضة.

٢٧٦

وإذا أرادت الحائض وداع البيت، فلا تدخل المسجد، ولتودّع من أدنى باب من أبواب المسجد، وتنصرف، إن شاء الله.

وإذا كانت المرأة عليلة لا تقدر على الطّواف، طيف بها، وتستلم الأركان والحجر. فإن كان عليها زحمة، فتكفيها الإشارة. ولا تزاحم الرّجال. وإن كان بها علّة تمنع من حملها والطّواف بها، طاف عنها وليّها، وليس عليها شي‌ء. وكذلك إذا كانت عليلة لا تعقل عند الإحرام، أحرم عنها وليّها، وجنّبها ما يجتنب المحرم، وقد تمَّ إحرامها. وليس على النّساء حلق ولا دخول البيت. فإن أرادت دخول البيت، فلتدخله إذا لم يكن هناك زحام. ولا يجوز للمستحاضة دخول البيت على حال.

باب من حج عن غيره

من وجب عليه الحجّ، لا يجوز له أن يحجّ عن غيره إلّا بعد أن يقضي حجّته التي وجبت عليه. فإذا قضاها، جاز له بعد ذلك أن يحجّ عن غيره. ومن ليس له مال يجب عليه الحجّ، جاز له أن يحجّ عن غيره. فإن تمكّن بعد ذلك من المال، كان عليه أن يحجّ عن نفسه، وقد أجزأت الحجّة التي حجّها عمّن حجّ عنه.

وينبغي لمن يحجّ عن غيره أن يذكره في المواضع كلّها،

٢٧٧

فيقول عند الإحرام: اللهمّ ما أصابني من تعب أو نصب أو لغوب فأجر فلان بن فلان، وأجرني في نيابتي عنه. وكذلك يذكره عند التّلبية والطّواف والسّعي وعند الموقفين وعند الذّبح وعند قضاء جميع المناسك، فإن لم يذكره في هذه المواضع، وكانت نيته الحجّ عنه، كان جائزا.

ومن أمر غيره أن يحجّ عنه متمتّعا، فليس له أن يحجّ عنه مفردا ولا قارنا. فإن حجّ عنه كذلك، لم يجزئه، وكان عليه الإعادة. وإن أمره أن يحجّ عنه مفردا أو قارنا، جاز له أن يحجّ عنه متمتّعا، لأنه يعدل الى ما هو الأفضل. ومن أمر غيره أن يحجّ عنه على طريق بعينها، جاز له أن يعدل عن ذلك الطّريق الى طريق آخر. وإذا أمره أن يحجّ عنه بنفسه، فليس له أن يأمر غيره بالنّيابة عنه. فإن جعل الأمر في ذلك اليه، جاز له أن يستنيب غيره فيه. وإذا أخذ حجة عن غيره، لا يجوز له أن يأخذ حجة أخرى، حتى يقضي التي أخذها.

وإذا حجّ عن غيره، فصدّ عن بعض الطّريق، كان عليه ممّا أخذه بمقدار ما بقي من الطّريق. اللهم إلّا أن يضمن الحجّ فيما يستأنف، ويتولّاه بنفسه.

فإن مات النّائب في الحجّ، وكان موته بعد الإحرام ودخول الحرم، فقد سقطت عنه عهدة الحجّ، وأجزأ عمّن حجّ عنه وإن مات قبل الإحرام ودخول الحرم، كان على ورثته، إن

٢٧٨

خلّف في أيديهم شيئا، مقدار ما بقي عليه من نفقة الطّريق. وإذا أخذ حجة، فأنفق ما أخذه في الطّريق من غير إسراف، واحتاج الى زيادة، كان على صاحب الحجّة أن يتمّمه استحبابا. فإن فضل من النّفقة شي‌ء، كان له، وليس لصاحب الحجّة الرّجوع عليه بالفضل. ولا يجوز للإنسان أن يطوف عن غيره وهو بمكّة، إلّا أن يكون الذي يطوف عنه مبطونا لا يقدر على الطّواف بنفسه، ولا يمكن حمله والطّواف به. وإن كان غائبا، جاز أن يطوف عنه.

وإذا حجّ الإنسان عن غيره من أخ له أو أب أو ذي قرابة أو مؤمن، فإن ثواب ذلك يصل الى من حجّ عنه من غير أن ينقض من ثوابه شي‌ء. وإذا حجّ الإنسان عمّن يجب عليه الحجّ بعد موته تطوّعا منه بذلك، فإنّه يسقط عن الميّت بذلك فرض الحجّ.

ومن كان عنده وديعة، فمات صاحبها، وله ورثة، ولم يكن قد حجّ حجّة الإسلام، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يحجّ عنه، ويردّ الباقي على ورثته، إذا غلب على ظنّه أنّ ورثته لا يقضون عنه حجّة الإسلام. فإن غلب على ظنّه أنّهم يتولّون القضاء عنه، فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئا إلّا بأمرهم.

ولا بأس أن تحجّ المرأة عن الرّجل إذا كانت قد حجّت

٢٧٩

حجّة الإسلام، وكانت عارفة. وإذا لم تكن حجّت حجّة الإسلام، وكانت صرورة، لم يجز لها أن تحجّ عن غيرها على حال.

ولا يجوز لأحد أن يحجّ عن غيره إذا كان مخالفا له في الاعتقاد، اللهمّ إلّا أن يكون أباه، فإنّه يجوز له أن يحجّ عنه.

باب العمرة المفردة

العمرة فريضة مثل الحجّ، لا يجوز تركها. ومن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، سقط عنه فرضها. وإن لم يتمتّع، كان عليه أن يعتمر بعد انقضاء الحجّ، إن أراد، بعد انقضاء أيّام التّشريق، وإن شاء أخّرها إلى استقبال المحرّم. ومن دخل مكّة بالعمرة المفردة في غير أشهر الحجّ، لم يجز له أن يتمتّع بها الى الحجّ. فإن أراد التّمتّع كان عليه تجديد عمرة في أشهر الحجّ. وإن دخل مكّة بالعمرة المفردة في أشهر الحجّ، جاز له أن يقضيها، ويخرج الى بلده أو أيّ موضع شاء. والأفضل له أن يقيم حتى يحجّ، ويجعلها متعة. وإذا دخلها بنيّة التّمتّع، لم يجز له أن يجعلها مفردة، وأن يخرج من مكّة، لأنّه صار مرتبطا بالحجّ. وأفضل العمرة ما كانت في رجب، وهي تلي الحجّ في الفضل.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

والجواب : أنّ المشركين لا يقطعون في إنكارهم للمعاد بشكل جازم ، والكثير منهم يعتقدون بصورة إجمالية ببقاء الروح بعد البدن ، وهو ما يسمى بـ (المعاد الروحاني).

أمّا بخصوص (المعاد الجسماني) ، فالمشركون ليسوا على وتيرة واحدة في إنكاره ، فهناك من يظهر الشكّ والتردد ، كما تشير إلى ذلك الآية (٦٦) من سورة النحل وهناك من ينكر المعاد الجسماني بشدّة حتى دفعهم جهلهم وعنادهم لأن ينعتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (والعياذ بالله) بالجنون لقوله بالمعاد الجسماني ، وقد عرفوه تارة أخرى بالكاذب على الله! كما أخبرت بذلك سورة سبأ في الآيتين (٧ و٨)

وعليه ، فاختلاف المشركين في «المعاد» أمر واقع ولا يمكن إنكاره.

ويضيف القرآن قائلا :( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) (١) ، فليس الأمر كما يقولون أو يظنون.

ويجدد التأكيد :( ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) .

فسيعلمون في ذلك اليوم الواقع حتما :( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) (٢) ، يوم ينهال العذاب الإلهي على الكافرين فيقولون بصرخات مستغيثة :( هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ) (٣) .

بل وإنّ طلب العودة إلى الحياة لجبران خطيئاتهم سيطرح في أولى لحظات الموت ، حين تزال الحجب عن عين الإنسان فيرى بأمّ عينيه حقيقة عالم الآخرة ، فيستيقن حياة البرزخ والمعاد ، ولا يبقى عنده إلّا أن يقول :( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (٤) .

«السين» في «سيعلمون» حرف استقبال (يستعمل للمستقبل القريب) ، وهو

__________________

(١) المعروف بين أوساط علماء اللغة بأن «كلّا» حرف ردع ، ولكنّ ثمّة من قال باستعمالات أخرى لهذا الحرف ولكنها نادرة ، وهي : أ ـ حرف تأكيد. ب ـ بمعنى (ألا) الاستفتاحية. ج ـ حرف جواب بمنزلة (نعم). (راجع مجمع البحرين وكتب اللغة).

(٢) الزمر ، الآية ٦.

(٣) الشورى ، الآية ٤٤.

(٤) المؤمنون ، ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٢١

في الآية المباركة يشير إلى قرب وقوع يوم القيامة ، وما نسبة أيّام الدنيا للآخرة إلّا ساعة من الزمن! أمّا تكرار جملة «كلّا سيعلمون» ، فقيل : للتأكيد. وقيل : لبيان وقوع أمرين

الأوّل : قرب وقوع العذاب الدنيوي. والثّاني : الإشارة إلى قرب عذاب الآخرة أيضا. وقد رجح المفسّرون التفسير الأوّل.

وثمّة احتمال آخر ، وهو أنّ نمو وتطور الفكر البشري سيوصل البشرية إلى التقدم العلمي الذي يثبت بالأدلة العلمية والشواهد الحيّة تحقق يوم القيامة ، بالشكل الذي يبطل كل حيل الإنكار وعدم الإقرار.

ويشكل على هذا الاحتمال كون ما سيحصل من تطور وتقدم إنّما يختص بالأجيال القادمة ، في حين أنّ الآية تتحدث عن المشركين في عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتناولت مسألة اختلافهم في أمر يوم القيامة.

* * *

بحوث

١ ـ «الولاية» و «النبأ العظيم»

تقدم أنّ هناك عدّة معان لل «النبأ العظيم» ، مثل : القيامة ، القرآن ، أصول الدين إلّا أنّ القرائن الموجودة في مجموع آيات السورة تدعم تفسير «النبأ» بـ «المعاد» وترجحه على الجميع.

ولكنّنا نجد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام وفي بعض روايات أهل السنّة أنّ «النبأ العظيم» بمعنى إمامة أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، حيث كانت مثار جدال ونقاش بين جمع من المسلمين ، وهناك من فسّر «النبأ العظيم» بالولاية بشكل عام.

وإليكم ثلاث روايات ، على سبيل المثال لا الحصر :

٣٢٢

١ ـ ما روى الحافظ محمّد بن مؤمن الشيرازي (أحد علماء السنّة) عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في تفسير( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) : «ولاية علي يتساءلون عنها في قبورهم ، فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في برّ ولا في بحر إلّا ومنكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين بعد الموت ، يقولان للميت : «من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ ومن إمامك؟»(١) .

٢ – وروي أنّ رجلا خرج يوم صفين عن عسكر الشام وعليه سلاح وفوقه مصحف وهو يقرأ :( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) فخرج له عليعليه‌السلام ، فقال له : «أتعرف النبأ العظيم الذي هم فيه يختلفون»؟ قال : لا.

فقال لهعليه‌السلام : «أنا والله النبأ العظيم الذي فيه اختلفتم وعلى ولايته تنازعتم ، وعن ولايتي رجعتم بعد ما قبلتم ، وببغيكم هلكتم بعد ما بسيفي نجوتم ، ويوم الغدير قد علمتم ، ويوم القيامة تعلمون ما علمتم»(٢) .

٣ ـ روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال ، «النبأ العظيم الولاية»(٣) .

وللجمع بين مضمون ما تناولته الروايات وما جاء في تفسير النبأ العظيم بالمعاد ، لا بدّ من الانتباه إلى ما يلي :

١ ـ «النبأ العظيم» كمفهوم قرآني ـ مثل سائر المفاهيم القرآنية ـ له من السعة ما يشمل كل ما ذكر من معان ، وإذا كانت قرائن السورة تدلّ على أنّ المقصود منه «المعاد» ، فهذا لا يمنع من أن تكون له مصاديق أخرى.

٢ ـ كما هو معلوم أنّ للقرآن بطونا مختلفة وظواهرا متعددة ، وأدلة وقرائن الاستخراج مختلفة أيضا ، وبعبارة أخرى : أنّ لمعاني آيات القرآن دلالات التزامية لا يعرفها إلّا من غاص في بحر علمها ومعرفتها ، ولا يكون ذلك إلّا

__________________

(١) رسالة الإعتقاد لأبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي (على ما ذكر في إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٨٤).

(٢) تفسير البرهان ، ج ٩ ، ص ٤٢٠.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٤١٩.

٣٢٣

للخاصّة من الناس.

وليست الآية المذكورة منفردة في أنّ لها ظاهر وباطن دون بقية آيات القرآن ، حيث أنّ الأحاديث والرّوايات الشريفة فسّرت كثير من الآيات بمعان مختلفة ، بعضها ما ينسجم مع ظاهر الآية ، والبعض الآخر يشير إلى المعنى الباطن لها.

ولا بدّ من التأكيد على حقيقة خطيرة ، وهي : لا يجوز قطعا بأن نضع للقرآن معنى باطنا بحسب رأينا وفهمنا ، بل لا بدّ من وجود قرائن وأدلة واضحة ، أو بالاعتماد على تفاسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام الصحيحة ، لكي لا يكون وجود بطون للقرآن ذريعة بأيد المنحرفين والمتطرفين وذوي الأهواء ليفسّروا القرآن بحسب ما يشتهون ويرغبون.

٢ ـ سرّ التأكيد على المعاد :

قلنا ، إنّ من كبريات المسائل المهمّة التي يتمّ التأكيد عليها في السور المكيّة للجزء الأخير من القرآن هي مسألة «المعاد» مع تصوير حياة الإنسان في عالم البرزخ لما لهذه المسألة من أهمية وتأثير على الإنسان في حياته الدنيا ، فمجرّد أن يحسب ويفكر الإنسان بأنّ ثمّة عالم ينتظره وفيه محاسبة دقيقة وبعدها إمّا ثواب أو عقاب ، فمجرّد هذا الإحساس كفيل لأن يدفع الإنسان بالتفكير في مستقبله الأبدي ، وأن يعمل على ضوء تحسبه.

فهناك محكمة لا تخفى عليها خافية ، لا ظلم فيها ولا جور ، لا تخطئ ولا تشتبه ، ولا رشوة فيها ولا توصية ، وفوق هذا وذلك فلا مجال للمتهم فيها لأن يكذب أو ينكر إذن فلا سبيل للنجاة من عقاب الآخرة إلّا بترك الذنوب والعمل وفق مقتضيات الشرع في هذه الحياة الفانية.

إنّ الإيمان بوجود محكمة العدل الإلهي تدفع الإنسان لأن : يتحرك ضميره ،

٣٢٤

تتيقظ نفسه من غفلتها الماكرة ، تحيى فيه روحية التقوى فيه ويتحسس عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه ، فيبدأ بتشخيص وظائفه وتكاليفه الشرعية للقيام بها على أحسن وجه.

وأساسا فإنّ شيوع الفساد في أي محيط يرجع إلى أمرين : ضعف التوجيه والمراقبة ، وفقدان القوة القضائية الرادعة ، فإذا خضعت أعمال الناس إلى توجيه مبرمج يقظ ، بالإضافة إلى توفر القوانين القضائية الصارمة لكل من يشذ عن جادة القانون ، فإنّ الفساد والاعتداء والطغيان والحال هذه يكاد ينعدم في ذلك المحيط.

الحياة الدنيوية التي تفعم ببرنامج موجه إلى طريق الحق ، وقوة قضائية ساعية لرضوانه جلّ شأنه ، وعاملة على خدمة البشرية ، تدفع الإنسان لأن يدرك بوضوح مصاديق الهداية الإلهية ، ويشعر لذة حياته الروحية.

فالإيمان بوجود من :( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ) (١) ، والإيمان بحتمية «المعاد» الذي تصدقه الآية :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (٢) ، فهكذا الإيمان كفيل بأن يخلق في الإنسان حالة التقوى التي هي بمثابة مركز للإشعاع الرّباني على جميع أبعاد حياته.

* * *

__________________

(١) سبأ ، الآية ٣.

(٢) الزلزلة ، الآية ٧ ـ ٨.

٣٢٥

الآيات

( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) )

التّفسير

كل شيء بأمرك يا ربّ

تجيب الآيات المذكورة على أسئلة منكري المعاد والمختلفين في هذا «النبأ العظيم» لأنّها تستعرض جوانب معينة من نظام الكون وعالم الوجود الموزون ، مع تبيانها لبعض النعم الإلهية الواسعة ذات التأثير الفعال في حياة الإنسان ، وذلك من جهة دليل على قدرة الباريعزوجل المطلقة ، ومنها قدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان بعد موته.

ومن جهة أخرى إشارة إلى أنّ الكون وما فيه من دقّة تنظيم ، لا يمكن أن يخلق لمجرّد العبث واللهو! بل لا بدّ من وجود حكمة بالغة لهذا الخلق. في حين

٣٢٦

أنّه لو كان الموت يعني نهاية كل شيء ، فمعنى ذلك أنّ وجود العالم عبث وخال من أيّة حكمة!!

وبهذا فقد استدل القرآن الكريم على حقيقة «المعاد» بطريقين :

١ ـ برهان القدرة.

٢ ـ برهان الحكمة.

وقد عرضت الآيات الإحدى عشر ، اثنتي عشر نعمة إلهية ، بأسلوب ملؤه اللطف والمحبّة ، مصحوبا بالاستدلال ، لأنّ الاستدلال العقلي لو لم يقترن بالإحساس العاطفي والنشاط الروحي يكون قليل التأثير.

وتشرع الآيات بالإشارة إلى نعمة الأرض ، فتقول :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) .

(المهاد) : كما يقول الراغب في المفردات : المكان الممهّد الموطأ ، وهو في الأصل مشتق من «المهد» ، أي المكان المهيأ للصبي.

وفسّره بعض أهل اللغة والمفسّرين بالفراش ، لنعومته واستوائه وكونه محلا للراحة.

واختيار هذا الوصف للأرض ينم عن مغزى عميق

فمن جهة : نجد في قسم واسع من الأرض الإستواء والسهولة ، فتكون مهيئة لبناء المساكن والزراعة.

ومن جهة ثانية : أودع فيها كل ما يحتاجه الإنسان لحياته من المواد الأولية إلى المعادن الثمينة ، سواء كان ذلك على سطحها أم في باطنها.

ومن جهة ثالثة : تحلل الأجساد الميتة التي تودع فيها ، وتبيد كل الجراثيم الناشئة عن هذه العملية بما أودع فيها الباري من قدرة على ذلك.

ومن جهة رابعة : ما لحركتها السريعة المنظمة ولدورانها حول الشمس وحول نفسها من أثر على حياة البشرية خاصّة ، بما ينجم عنها الليل والنهار

٣٢٧

والفصول الأربعة.

ومن جهة خامسة : خزنها لقسم كبير من مياه الأمطار الغزيرة ، وإخراج ذلك على شكل عيون ، آبار ، أنهار.

والخلاصة : إنّ جميع وسائل الاستقرار والعيش لبني آدم متوفرة في هذا المهد الكبير ، وقد لا يلتفت الإنسان إلى عظم هذه النعمة الرّبانية ، إلّا إذا ما أصاب الأرض زلزالا ، وعندها سيدرك معنى استقرار الأرض ، ومعنى كونها مهادا.

وبما أنّ نعمة استواء الأرض وسهولتها قد تهمش نعمة الجبال ، فقد جاءت الآية التالية لتبيّن أهمية الجبال ودورها المهم في حياة الإنسان :( وَالْجِبالَ أَوْتاداً ) .

تشكل الجبال آية ربانية زاخرة بالعطاء ، وتؤدي وظائف كثيرة ، منها أنّها تحفظ القشرة الأرضية من الانهيار أمام الضغط الحاصل من المواد المذابة داخلها ،

وذلك لعمق تجذرها المترابط داخل الأرض وتحافظ عليها من تأثيرات جاذبية القمر في عملية المد والجزر وتشكل جدران الجبال سدا منيعا للتقليل من آثار الرياح الشديدة والعواصف المدمرة وتهيأ للإنسان الملاجئ الهادئة في مغاراتها وبين تعرجاتها لتأمنه من ضربات العواصف المهلكة وتقوم بخزن المياه وادخار أنواع المعادن الثمينة في باطنها

بالإضافة لكل ما ذكر ، فتوزيع الجبال على الأرض بالشكل الموجود وتعاملا مع حركة الأرض يعمل على تنظيم حركة الهواء المحيط بالكرة الأرضية بالشكل الذي يؤثر ايجابيا على الحياة فوق الأرض. وفي هذا المجال ، يقول العلماء : لو كان سطح الكرة الأرضية مستويا كله ، لتولدت عواصف شديدة لا يمكن السيطرة عليها جراء حركة الأرض وسكون الغلاف الجوي ، ولفقدت الأرض صلاحيتها بتوفير مستلزمات السكن للإنسان ، لأنّ استمرار الاحتكاك

٣٢٨

الحاصل من حركة الأرض الدائمة وسكون الغلاف الجوي سيؤدي بلا شك إلى زيادة حرارة القشرة الأرضية ممّا يجعل الأرض غير صالحة لسكنى الإنسان.

وبعد أن بيّن القرآن هذين النموذجين من النعم الإلهية والآيات الآفاقية ، عرج إلى ذكر ما أنعم الباري على الإنسان من النعم والآيات الانفسية فقال :( وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) (١) .

«الأزواج» : جمع زوج ، المتشكل من الذكر والأنثى ، ويخرج الإنسان إلى حياة الوجود من هذين الجنسين ، ويستمر وجوده في الحياة من خلال عملية التناسل التي تساهم في استقرار الإنسان من الناحيتين الجسمية والنفسية ، كما تشير إلى هذا الآية (٢١) من سورة الروم :( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) .

وبعبارة أخرى : إنّ كلا من الذكر والأنثى مكمل لوجود الآخر ، وعاملا على إشباع احتياجات الطرف الآخر من الناحيتين الجسمية والنفسية.

وفسّر البعض كلمة «أزواج» بالأصناف المختلفة للناس ، لأنّ من معاني (أزواج) : الأصناف والأنواع ، فاعتبروها إشارة إلى ذلك التباين الموجود بين البشر من حيث : اللون ، الجنس ، الاستعدادات والقابليات ، للدلالة على عظمة الباري جلّ شأنه والعامل على تكامل المجتمع الإنساني.

ويشير بعد ذلك إلى نعمة النوم ، فيقول :( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) .

«السبات» : من السبت ، بمعنى القطع ، ثمّ استعملت بمعنى (تعطيل العمل) لأجل الاستراحة ، وسمي «يوم السبت» بذلك لأنّ اليهود كانوا يعطلون أعمالهم في اليوم المذكور.

ويحمل وصف «النوم» بالسبات إشارة لطيفة إلى تعطيل قسم من الفعاليات

__________________

(١) جملة( وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) وما بعدها ، جاءت بصيغة الإثبات ، أمّا ما احتمله البعض من كونها جملا منفية معطوفة على قوله تعالى :( أَلَمْ نَجْعَلِ ) المتقدم في الآية الأولى فبعيد ويحتاج إلى تقدير لا موجب.

٣٢٩

الجسمية والروحية للإنسان عند النوم.

ويعطي التعطيل فرصة : لاستراحة أعضاء البدن لتجديد القوى لتقوية الروح والجسد ، لتجديد النشاط ورفع أيّ نوع من التعب والآلام ، والاستعداد لتقبل المرحلية القادمة (بعد النوم) بفاعلية ونشاط متجدد.

وبالرغم من أنّ النوم يشكّل ثلث حياة الإنسان ، ولكنّ الإنسان لا زال يجهل الكثير من خفاياه ، بل ولا زال الإنسان (منذ القديم وحتى الآن) لا يعرف سبب تعطيل بعض فعاليات الدماغ في مدّة معينة وتغمض العين أجفانها وتسكن جميع أعضاء البدن!

وبات من المعروف ما للنوم من دور مهم في حياة الإنسان ، حتى حرص أطباء علم النفس دوما على تنظيم نوم مرضاهم بصورته الطبيعية حفاظا على حالة التوازن النفسي للمرضى.

فالذين لا يتمتعون بنوم طبيعي تراهم مصابون بحدّة المزاج ، القلق ، الاضطراب ، الكآبة ، وبالمقابل ، نرى الذين يتمتعون بنوم طبيعي ينهضون كل صباح بنشاط وحيوية وبقدرة جديدة.

ومن بين ما يقدمه النوم من تأثير مهم على الإنسان : سرعة تقبل ذهن الإنسان للدراسة والمطالعة بعد فترة نوم طبيعية وهادئة وسرعة إنجاز الأعمال الفكرية والبدنية ولعلّ من أسهل أساليب تعذيب الإنسان هو حرمانه من النوم ، خصوصا وأنّ التجارب العلمية أثبتت بأنّ قابلية الإنسان على تحمل الأرق ضعيفة جدّا ، وإذا حاول أيّ إنسان أن يجرب ذلك ، فلا تمضي عليه فترة وجيزة إلّا ويصاب في سلامته ويمرض.

وكلّ ما ذكر من فوائد النوم فإنّه يختص بالنوم الطبيعي الموزون ، وأمّا إذا زاد عن حدّه الطبيعي فلا يجني صاحبه سوى الآثار السلبية لهذا الإفراط ، كحال الإفراط في الطعام.

٣٣٠

ومن الغريب أنّ نسبة فترة النوم تختلف من إنسان لآخر ، ولا يمكن تعيين فترة محددة لكل الناس ، وعليه فكل إنسان يعرف الفترة التي تناسبه طبيعيا بما يناسب فعالياته الجسمية والروحية ، وتجربة الإنسان هي التي تعين نسبة النوم الضروري له.

والأغرب من ذلك ، إنّه قد يضطر الإنسان في الحوادث والشدائد إلى السهر واليقظة مدّة طويلة ، ولذلك تزداد مقاومته للنوم بشكل ملحوظ ولكنّه مؤقت ، وقد يستكفي في تلك الأحيان بساعة أو ساعتين من النوم لليوم الواحد ، ولكن سرعان ما ينتهي ذلك التمكن بمجرّد الرجوع إلى الحالة الطبيعية ، بل وقد يحتاج لساعات نوم أطول من السابق للتعويض عمّا فاته من نوم!

ومن النادر أن نرى إنسانا يعيش حالة اليقظة لعدة أشهر ، وفي قبال ذلك نرى بعض الناس ينامون أثناء المشي ، بل وهناك من ينام وأنت تشاطره أطراف الحديث ، ومثل هكذا أشخاص يعيشون حالة غير طبيعية وغالبا ما تكون الحوادث المؤسفة في انتظارهم ، فالضرورة تقتضي ألّا يتركوا بدون مراقب أو مرافق.

والخلاصة : إنّ هذا الحادث العجيب والظاهرة الغامضة التي تدعى بـ «النوم» مصحوبة بعجائب كثيرة وكأنّها معجزة من المعاجز(١) .

ومع أنّ ذكر النوم في الآية قد جاء باعتباره إحدى النعم الإلهية ، إلّا أنّ الآية المباركة قد تشير بذلك إلى الموت ، لما للنوم من شبه بالموت ، والاستيقاظ بالبعث.

وبعد الانتهاء من ذكر نعمة النوم ، ينتقل القرآن الكريم لذكر نعمة الليل ، فيقول :( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ) .

__________________

(١) للتزود من عجائب عالم النوم ، راجع ما بحثناه في تفسير الآية (٣٤) من سورة الروم. وكذا الرؤيا وعجائبها في ذيل الآية (٤) من سورة يوسف.

٣٣١

وتضيف الآية التالية مباشرة :( وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً ) (١) .

الآيتان تفندان جهل الثنويون بأسرار الخلق ، حيث يقولون : إنّ النور والنهار نعمة ، والظلام والليل شر وعذاب ، ويجعلون لكلّ منهما خالق (إله الخير وإله الشر) وبقليل من التأمل نجد أنّ كلاً منهما يمثل نعمة إلهية معطاءة ، حيث تنبع منها نعم أخرى.

وشبهت الآية الليل باللباس والغطاء الذي يلقى على الأرض ليشمل كل من على الأرض ، وليجبر فعاليات الموجودات الحيّة المتعبة على الأرض بالتعطل عن الحركة وممارسة النشاطات ، ويخيم الظلام والسكون ليضفي على الأرض الهدوء ليستريح الناس من رحلة العمل والمعاناة خلال النهار ، وليتمكنوا من مواصلة نشاطهم لليوم التالي لأنّ النوم المريح لا يتيسر للإنسان إلّا في أجواء مظلمة.

وبالإضافة لكل ما ذكر ، فحلول الليل يعني زوال نور الشمس وإلّا لانعدمت الحياة واحترقت جميع النباتات والحيوانات في حال استمرار شروق الشمس.

ولذا نجد القرآن الكريم يؤكّد على هذه الحقيقة ، فتارة يقول :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ) (٢) . وتأتي الآية التالية لتقول :( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) (٣) ويلاحظ في القرآن الكريم أنّه قد أقسم بأمور كثيرة ، ولكن قسمه لا يتعدى المرة الواحدة لكل ما قسم به ، ما عدا الليل فقد جاء القسم به سبع مرات! ولمّا كان القسم بشيء دليل على أهميته ، فهذا يعني

__________________

(١) «المعاش» : إمّا أن يكون اسم زمان أو اسم مكان ، بمعنى زمان ومكان الحياة ويمكن أن يكون مصدرا ميميا ، فيكون له محذوف ، والتقدير : (سببا لمعاشكم). والمعاش : من العيش ، أي الحياة ، إلّا أنّ تعبير الحياة يمكن إطلاقه على الباريعزوجل والملائكة ، فيما تختص كلمة العيش بحياة الإنسان والحيوان.

(٢) القصص ، الآية ٧٢.

(٣) القصص ، الآية ٧٢.

٣٣٢

فقد جاء القسم به سبع مرات! ولمّا كان القسم بشيء دليل على أهميته ، فهذا يعني أنّ للّيل أهميّة بالغة.

الأشخاص الذين يضيئون الليل بأنوار صناعية ويسهرون ليلهم ويقضون نهارهم بالنوم ، هم أناس غير طبيعيين ، وترى علامات الكسل والخمول بادية عليهم. في حين نرى القرويين أكثر صحة من أهل المدن وأسلم بدنا وحواسا ، لأنّهم ينامون بعد حلول الليل بقليل ويستيقظون مبكرا.

ومن منافع الليل الجانبية أنّ فيه (وقت السحر) الذي هو أفضل أوقات الدعاء والصلاة ومناجاة الباري جلّ شأنه لتربية وتزكية النفوس ، كما تصف الآية (١٨) من سورة الذاريات عبّاد الليل :( وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (١) .

والنهار بنوره الفياض نعمة ربانية عظيمة ، حيث يدفع الإنسان ليتحرك ويسعى لبناء حياته ومجتمعه ، وبالنور تنمو النباتات ، وتمارس الحيوانات شؤون حياتها وحقّا قال الباري :( وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً ) ، بما لا يدع مجالا للتفصيل والشرح.

وخاتمة المقال : إنّ تعاقب الليل والنهار وما فيهما من نظام دقيق آية بيّنة من آيات خلقه سبحانه وتعالى ، إضافة إلى أنّه تقويم طبيعي لتفصيل الزمن في حياة الإنسانية على مرّ التاريخ.

وتأتي الآية التالية لتنقلنا من عالم الأرض إلى عالم السماء حين تقول :( وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً ) .

قد يراد من العدد المذكور بالآية «الكثرة» ، للإشارة إلى كثرة الأجرام السماوية والمنظومات الشمسية والمجرات والعوالم الواسعة لهذا الوجود ، والتي تتمتع بخلق محكم وبناء رصين لا خلل فيه ويمكن أن يراد منه العدد ، للإشارة

__________________

(١) راجع بحوثنا حول أسرار الليل والنهار ، ونظام النور والظلمة في ذيل الآيات (٧١ ـ ٧٣) من سورة القصص ، في ذيل الآية (٤٧) من سورة الفرقان ، في ذيل الآية (١٨) من سورة الذاريات.

٣٣٣

إلى أنّ الكواكب وما يبدو لنا منها إنّما تعود إلى السماء الأولى ، كما أشارت الآية (٦) من سورة الصافات إلى ذلك :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) . وثمّة سماوات ستة وعوالم أخرى وراء السماء الأولى «الدنيا» خارجة عن حدود معرفتنا.

وثمّة احتمال آخر ، وهو أنّ المراد منها طبقات الهواء المحيطة بالأرض فإنّها مع رقتها تتمتع باستحكام وقوة عجيبة بحيث تحمي الأرض من آثار الشهب الملتهبة والمتساقطة عليها باستمرار ، فبمجرّد دخول الشهب في الغلاف الجوي الرقيق نتيجة لجاذبية الأرض لها ، تحترق تلك الشهب لاحتكاكها السريع بالغلاف الجوي حتي تتلاشى ، ولولا تلك الطبقات الجوية المحيطة بالكرة الأرضية لكانت المدن والقرى عرضة للإصابة بتلك الصخور والأحجار السماوية المتساقطة عليها على الدوام.

وقد توصل بعض العلماء إلى أنّ سمك الغلاف الجوي يقرب من مائة كيلومتر ، وله من الأثر ما يعادل سقف فولاذي بسمك عشرة أمتار!

وبذلك نحصل على تفسير آخر لما جاء في الآية( ... سَبْعاً شِداداً ) (١) .

وبعد أن أشار القرآن إجمالا إلى السماوات ، يشير إلى نعمة الشمس ، فيقول :( وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) (٢) .

«الوهّاج» : من الوهج ، بمعنى النور والحرارة التي تصدر من النار(٣) .

وإطلاق هذه الصفة على الشمس ، للإشارة إلى نعمتين كبيرتين وهما : (النور) و (الحرارة) ويتفرع عنهما نعم وعطايا كثيرة يزخر بها عالمنا.

ولا تتحدد فوائد نور الشمس بإضاءة الدنيا للإنسان ، بل لها أثر كبير في نمو

__________________

(١) لزيادة المعلومات ، راجع ذيل الآية (٢٩) من سورة البقرة.

(٢) «جعلنا» : في هذا الموضوع بمعنى (خلقنا) ، فلذلك أخذت مفعولا واحدا.

(٣) مفردات الراغب : مادة (وهج) وفي لسان العرب : الوهج : حرارة الشمس والنار من بعيد.

٣٣٤

سائر الكائنات الحيّة.

وإضافة لكل ما تقدم ، فلحرارة الشمس أثر أساس في : تكوّن الغيوم ، حركة الهواء ، نزول الأمطار ، وسقي الأراضي اليابسة.

ولأشعة الشمس كذلك الأثر البالغ في مكافحة الجراثيم ، لاحتوائها على الأشعة ما وراء الحمراء التي تقتل الجراثيم ، ولولاها لتحولت الأرض إلى مستشفى عظيمة ، ولانتهت الحياة البشرية على ظهرها خلال مدّة محدودة جدّا.

وأشعة الشمس في واقعها : نور صحي مجاني دائمي ، يصلنا بكيفية لا هي بالشديدة المحرقة ، ولا هي بالقليلة العديمة التأثير.

ونسبة ما يصلنا من الطاقة الشمسية قياسا مع بقية المصادر كثير جدّا ، وعلى سبيل الفرض : فلو أردنا إنماء شجرة تفاح بواسطة نور صناعي ، فستكلفنا التفاحة الواحدة مبلغا رهيبا ،. نعم فنعمة هذا السراج الوهّاج لا يمكننا تعويضها بمال كل الأغنياء(١) .

وقد قدّر حجم الشمس بما يقارب المليون وثلاثمائة ألف مرّة نسبة إلى حجم الكرة الأرضية ، والفاصلة بين الشمس والأرض تقدر بحدود مائة وخمسين مليون كيلومتر وأنّ حرارة الشمس الخارجية تصل إلى ستة آلاف درجة مئوية وتصل حرارتها الداخلية ما يقارب مليون درجة مئوية! وهذا النظام الموزون بحكمة بالغة ، لمن الدقة بحال أنّه لو اختل قليلا (زيادة أو نقصان) لما أمكن للبشر أن يعيشوا على سطح الكرة الأرضية ، ولا يسعنا المجال لنتطرق

__________________

(١) ورد في كتاب عالم النجوم من تأليف (آنتري وايت) حسابا للنور والحرارة الواصلين من الشمس إلى الأرض ، يقول صاحب الكتاب : لو أردنا أن ندفع أجورا مقابل ما يصلنا من نور وحرارة الشمس مجانا بما يساوي ما ندفعه من أجور الكهرباء عادة ، فعلى سكان الأرض أن يدفعوا لكل ساعة من النور والحرارة مليار وسبعمائة مليون دولار ، وإذا حسبنا ما علينا أن ندفع خلال سنة واحدة فسنصل إلى رقم خيالي من الدولارات ، وبهذا يظهر قيمة ما وهبنا الله تعالى من ثروة طائلة دون مقابل. ويقول مؤلف كتاب (من العوالم البعيدة) : إنّ أهل الأرض لو أرادوا الحصول على ما يصلهم من نور الشمس من مصابيح توضع في مكان الشمس للزم لكل منهم خمسة ملايين مليار مصباح ذو مائة واط.

٣٣٥

لمزيد من التفصيل والبيان حول هذا الموضوع.

وبعد ذكر نعمة النور والحرارة يتناول القرآن نعمة حياتية أخرى لها ارتباط بأشعة الشمس ، ويقول :( وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) .

«المعصرات» : جمع «معصر» ، من العصر بمعنى الضغط والكلمة تشير إلى أنّ الغيوم تقوم بعملية وكأنّها تعصر نفسها عصرا لكي ينهمر منها الماء على شكل أمطار(١) (ينبغي ملاحظة أنّ «المعصرات» جاءت بصيغة اسم فاعل).

وفسّرها بعضهم بالغيوم المستعدة لإنزال الأمطار ، باعتبار أنّ اسم الفاعل يأتي في بعض الأحيان بمعنى الاستعداد للقيام بعمل ما.

وقال بعض آخر : إنّ «المعصرات» ليست صفة للغيوم ، وإنّما للرياح التي تقوم بضغط وعصر الغيوم.

«الثجاج» : من الثج ، بمعنى سيلان الماء بكمية كبيرة ، و «ثجاج» صيغة مبالغة ، ويراد بها هنا غزارة الأمطار المنهمرة نتيجة العصر الحاصل للغيوم.

وبالإضافة لكون المطر منبعا لكثير من مصادر الخير والبركة ، فهو : ملطف للجو ، مزيل للتلوثات الموجودة في الجو ، مخفض للحرارة ومعدل للبرودة ، مقلل لأسباب الأمراض ، يمنح الإنسان روحا متجددة ونشاطا ، ومع كل ذلك فقد ذكر القرآن ثلاث فوائد أخرى له :( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً ) .

( وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً ) .

يقول الراغب في مفرداته : «ألفافا» : أي التفّ بعضها ببعض لكثرة الشجر(٢) .

والآيتان تشيران إلى ما يستفيد منه الإنسان والحيوان من المواد الغذائية التي

__________________

(١) يقول بعض العلماء : إنّ الغيوم حين تتراكم تخضع لنظام معين ، حيث تقوم بعصر نفسها فتتساقط قطرات الأمطار منها ، وهذا في واقعة يكشف عن إحدى المعاجز العلمية للقرآن في استعماله لهذا التعبير (راجع كتاب ـ الهواء والأمطار).

(٢) (ألفاف) : جمع لفيف ـ كما يقول كثير من أهل اللغة والتفسير ـ وقال بعضهم : جمع لف (بضم اللام). وقال بعض آخر : جمع لف (بكسر اللام). وقال آخرون : هي جمع لا مفرد له ولكنّ المشهور هو القول الأوّل.

٣٣٦

تخرج من الأرض ، فالحبوب الغذائية تشكل قسما مهمّا من المواد الغذائية «حبّا» ، والخضر تشكل القسم الآخر «ونباتا» ، وتأتي الفاكهة لتشكل القسم الثالث «وجنّات».

ولا تنحصر فوائد المطر بهذه الفوائد الثلاث المذكورة في هاتين الآيتين ، فللماء دور أساسي وحيوي في عملية حياة الكائنات الحيّة ، وعلى الأخص الإنسان ، حيث أنّ الماء يشكل ما يقارب السبعين في المائة من بدنه ، بل ويتعدى ذلك ليشمل كل كائن حيّ ، كما يشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة :( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ ) (١) .

وتتجاوز فوائد الماء حدود الكائن الحيّ لتشمل : المصانع ، جمال الطبيعة ، وأفضل الطرق التجارية والاقتصادية هي الطرق المائية.

* * *

ملاحظة :

علاقة الآيات بـ «المعاد» :

أشارت الآيات المبحوثة إلى أهم العطايا الرّبانية والنعم الإلهية والتي لها الدور المهم والأساس في الحياة البشرية : النور ، الظلمة ، الحرارة ، الماء ، التراب والنباتات.

وذكر نظام الكون على ما فيه من دقة موزونة ومحسوبة لدليل على قدرة اللهعزوجل المطلقة من جهة ، وبه يسد كل ثغرات التساؤل عن قدرة الله على إحياء الموتى ، وكما أجابت آخر سورة «يس» منكري المعاد بالقول :( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) (٢) .

__________________

(١) الأنبياء ، الآية ٣٠.

(٢) سورة يس ، الآية ٨١.

٣٣٧

ومن جهة أخرى أنّه لا بدّ أن يكون لهذا الخلق العظيم من هدف ، ولا يعقل أن يكون الهدف منه هو هذه الأيّام المعدودة لحياتنا الدنيا ، إذ ليس من الحكمة أن يكون كل هذا الخلق وبما يحمل من أنظمة وعمليات من أجل الأكل والشرب والنوم وأمثال ذلك! بل لا بدّ من وجوب هدف أسمى يتناسب وحكمة الباري جلّ شأنه ، وبعبارة أخرى ما النشأة الأولى إلّا تذكيرا للنشأة الآخرة : ومرحلة متقدمة ، ومحطة تزود بالوقود وصولا لغاية السفر المحتوم ، وكما ينبهنا القرآن الكريم :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) ؟!(١) .

وبعد ذلك فما النوم واليقظة إلّا مثلا للموت والحياة الجديدة ، وما إحياء الأرض الميتة بنزول المطر ـ الشاخصة أمام أعين الناس على طول السنة ـ إلّا توضيحا لحالة المعاد ، وإشارات مليئة بالمعاني ترمز إلى مسألة القيامة والحياة بعد الموت ، كما جاء في سورة فاطر :( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ١١٥.

(٢) فاطر ، الآية ٩.

٣٣٨

الآيات

( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) )

التّفسير

سيأتي اليوم الموعود :

الآية الاولى من الآيات أعلاه بمثابة نتيجة لما تعرضت له الآيات السابقة

( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ) (١)

والتعبير بـ «يوم الفصل» يحمل بين ثناياه إشارات كثيرة ، فسيحدث في ذلك اليوم :

فصل الحقّ عن الباطل.

فصل المؤمنين الصالحين عن المجرمين.

فصل الوالدين عن أولادهم ، والأخ عن أخيه

و «الميقات» : من الوقت ، الميعاد من الوعد ، بمعنى الوقت المعين والمقرر ، وإنّما سمّيت الأماكن التي يحرم منها حجاج بيت الله الحرام بـ «المواقيت» لأنّ

__________________

(١) استعمال (كان) في هذا المورد لبيان حتمية الوقوع لذلك اليوم.

٣٣٩

الاجتماع فيها يكون في وقت معين.

ويتناول القرآن الكريم بعض خصائص ذلك اليوم العظيم ، فيقول :( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) .

ويستفاد من آيات القرآن أنّ ثمّة نفختان عظيمتان ستحدثان باسم (نفخ الصور) ففي النفخة الاولى سينهار كلّ عالم الوجود ، ويخرّ ميتا كلّ من في السموات والأرض ، وفي النفخة الثّانية يتجدّد عالم الوجود وتعود الحياة إلى الأموات مرّة اخرى ، ليقول بعدها يوم القيامة.

«الصور» : بوق يستعمل لإعطاء إشارة التوقف أو الحركة للقوافل أو الكتائب العسكرية وما شابهها من الاستعمالات ، وتختلف الإشارة بين المجاميع التي تستعمل البوق ، كلّ حسب ما تعارف عليه.

واستعمل القرآن «الصور» ككناية لطيفة للتعبير عن المحدثين العظيمين المذكورين أعلاه ، وأمّا ما ورد في الآية فيختص بنفخة الصور الثّانية ، أي : نفخة القيام وإعادة الحياة(١) .

ومع أنّ الآية أعلاه تقول :( فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) ، ولكنّ الآية (٩٥) من سورة مريم تقول :( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً ) ، والآية (٧١) من سورة الإسراء تقول :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) ، فكيف يمكن تخريج ذلك؟

يمكن جمع الآيات الثلاثة بلحاظ أنّ حشر الناس أفواجا لا بعرض أنّ يتقدمهم إمام ، وأمّا الحشر فرادى فبلحاظ ما ليوم القيامة من مواقف متعددة ، حيث يمكن أن يكون ورود الناس في المواقف الاولى على شكل أفواج مع أئمّتهم (سواء كانوا أئمّة هدى أم أئمّة ضلال) ، وحينما يستقر بهم المآل سيقفون في ساحة العدل الإلهي على شكل فرادى ، كما تنقل لنا الآية (٢١) من سورة (ق)

__________________

(١) تطرقنا لهذا الموضوع بشكل مفصل في ذيل الآية (٦٨) من سورة الزمر ، فراجع.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511