الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137989 / تحميل: 5551
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

والجواب : أنّ المشركين لا يقطعون في إنكارهم للمعاد بشكل جازم ، والكثير منهم يعتقدون بصورة إجمالية ببقاء الروح بعد البدن ، وهو ما يسمى بـ (المعاد الروحاني).

أمّا بخصوص (المعاد الجسماني) ، فالمشركون ليسوا على وتيرة واحدة في إنكاره ، فهناك من يظهر الشكّ والتردد ، كما تشير إلى ذلك الآية (٦٦) من سورة النحل وهناك من ينكر المعاد الجسماني بشدّة حتى دفعهم جهلهم وعنادهم لأن ينعتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (والعياذ بالله) بالجنون لقوله بالمعاد الجسماني ، وقد عرفوه تارة أخرى بالكاذب على الله! كما أخبرت بذلك سورة سبأ في الآيتين (٧ و٨)

وعليه ، فاختلاف المشركين في «المعاد» أمر واقع ولا يمكن إنكاره.

ويضيف القرآن قائلا :( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) (١) ، فليس الأمر كما يقولون أو يظنون.

ويجدد التأكيد :( ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) .

فسيعلمون في ذلك اليوم الواقع حتما :( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) (٢) ، يوم ينهال العذاب الإلهي على الكافرين فيقولون بصرخات مستغيثة :( هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ) (٣) .

بل وإنّ طلب العودة إلى الحياة لجبران خطيئاتهم سيطرح في أولى لحظات الموت ، حين تزال الحجب عن عين الإنسان فيرى بأمّ عينيه حقيقة عالم الآخرة ، فيستيقن حياة البرزخ والمعاد ، ولا يبقى عنده إلّا أن يقول :( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (٤) .

«السين» في «سيعلمون» حرف استقبال (يستعمل للمستقبل القريب) ، وهو

__________________

(١) المعروف بين أوساط علماء اللغة بأن «كلّا» حرف ردع ، ولكنّ ثمّة من قال باستعمالات أخرى لهذا الحرف ولكنها نادرة ، وهي : أ ـ حرف تأكيد. ب ـ بمعنى (ألا) الاستفتاحية. ج ـ حرف جواب بمنزلة (نعم). (راجع مجمع البحرين وكتب اللغة).

(٢) الزمر ، الآية ٦.

(٣) الشورى ، الآية ٤٤.

(٤) المؤمنون ، ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٢١

في الآية المباركة يشير إلى قرب وقوع يوم القيامة ، وما نسبة أيّام الدنيا للآخرة إلّا ساعة من الزمن! أمّا تكرار جملة «كلّا سيعلمون» ، فقيل : للتأكيد. وقيل : لبيان وقوع أمرين

الأوّل : قرب وقوع العذاب الدنيوي. والثّاني : الإشارة إلى قرب عذاب الآخرة أيضا. وقد رجح المفسّرون التفسير الأوّل.

وثمّة احتمال آخر ، وهو أنّ نمو وتطور الفكر البشري سيوصل البشرية إلى التقدم العلمي الذي يثبت بالأدلة العلمية والشواهد الحيّة تحقق يوم القيامة ، بالشكل الذي يبطل كل حيل الإنكار وعدم الإقرار.

ويشكل على هذا الاحتمال كون ما سيحصل من تطور وتقدم إنّما يختص بالأجيال القادمة ، في حين أنّ الآية تتحدث عن المشركين في عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتناولت مسألة اختلافهم في أمر يوم القيامة.

* * *

بحوث

١ ـ «الولاية» و «النبأ العظيم»

تقدم أنّ هناك عدّة معان لل «النبأ العظيم» ، مثل : القيامة ، القرآن ، أصول الدين إلّا أنّ القرائن الموجودة في مجموع آيات السورة تدعم تفسير «النبأ» بـ «المعاد» وترجحه على الجميع.

ولكنّنا نجد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام وفي بعض روايات أهل السنّة أنّ «النبأ العظيم» بمعنى إمامة أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، حيث كانت مثار جدال ونقاش بين جمع من المسلمين ، وهناك من فسّر «النبأ العظيم» بالولاية بشكل عام.

وإليكم ثلاث روايات ، على سبيل المثال لا الحصر :

٣٢٢

١ ـ ما روى الحافظ محمّد بن مؤمن الشيرازي (أحد علماء السنّة) عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في تفسير( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) : «ولاية علي يتساءلون عنها في قبورهم ، فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في برّ ولا في بحر إلّا ومنكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين بعد الموت ، يقولان للميت : «من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ ومن إمامك؟»(١) .

٢ – وروي أنّ رجلا خرج يوم صفين عن عسكر الشام وعليه سلاح وفوقه مصحف وهو يقرأ :( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) فخرج له عليعليه‌السلام ، فقال له : «أتعرف النبأ العظيم الذي هم فيه يختلفون»؟ قال : لا.

فقال لهعليه‌السلام : «أنا والله النبأ العظيم الذي فيه اختلفتم وعلى ولايته تنازعتم ، وعن ولايتي رجعتم بعد ما قبلتم ، وببغيكم هلكتم بعد ما بسيفي نجوتم ، ويوم الغدير قد علمتم ، ويوم القيامة تعلمون ما علمتم»(٢) .

٣ ـ روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال ، «النبأ العظيم الولاية»(٣) .

وللجمع بين مضمون ما تناولته الروايات وما جاء في تفسير النبأ العظيم بالمعاد ، لا بدّ من الانتباه إلى ما يلي :

١ ـ «النبأ العظيم» كمفهوم قرآني ـ مثل سائر المفاهيم القرآنية ـ له من السعة ما يشمل كل ما ذكر من معان ، وإذا كانت قرائن السورة تدلّ على أنّ المقصود منه «المعاد» ، فهذا لا يمنع من أن تكون له مصاديق أخرى.

٢ ـ كما هو معلوم أنّ للقرآن بطونا مختلفة وظواهرا متعددة ، وأدلة وقرائن الاستخراج مختلفة أيضا ، وبعبارة أخرى : أنّ لمعاني آيات القرآن دلالات التزامية لا يعرفها إلّا من غاص في بحر علمها ومعرفتها ، ولا يكون ذلك إلّا

__________________

(١) رسالة الإعتقاد لأبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي (على ما ذكر في إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٨٤).

(٢) تفسير البرهان ، ج ٩ ، ص ٤٢٠.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٤١٩.

٣٢٣

للخاصّة من الناس.

وليست الآية المذكورة منفردة في أنّ لها ظاهر وباطن دون بقية آيات القرآن ، حيث أنّ الأحاديث والرّوايات الشريفة فسّرت كثير من الآيات بمعان مختلفة ، بعضها ما ينسجم مع ظاهر الآية ، والبعض الآخر يشير إلى المعنى الباطن لها.

ولا بدّ من التأكيد على حقيقة خطيرة ، وهي : لا يجوز قطعا بأن نضع للقرآن معنى باطنا بحسب رأينا وفهمنا ، بل لا بدّ من وجود قرائن وأدلة واضحة ، أو بالاعتماد على تفاسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام الصحيحة ، لكي لا يكون وجود بطون للقرآن ذريعة بأيد المنحرفين والمتطرفين وذوي الأهواء ليفسّروا القرآن بحسب ما يشتهون ويرغبون.

٢ ـ سرّ التأكيد على المعاد :

قلنا ، إنّ من كبريات المسائل المهمّة التي يتمّ التأكيد عليها في السور المكيّة للجزء الأخير من القرآن هي مسألة «المعاد» مع تصوير حياة الإنسان في عالم البرزخ لما لهذه المسألة من أهمية وتأثير على الإنسان في حياته الدنيا ، فمجرّد أن يحسب ويفكر الإنسان بأنّ ثمّة عالم ينتظره وفيه محاسبة دقيقة وبعدها إمّا ثواب أو عقاب ، فمجرّد هذا الإحساس كفيل لأن يدفع الإنسان بالتفكير في مستقبله الأبدي ، وأن يعمل على ضوء تحسبه.

فهناك محكمة لا تخفى عليها خافية ، لا ظلم فيها ولا جور ، لا تخطئ ولا تشتبه ، ولا رشوة فيها ولا توصية ، وفوق هذا وذلك فلا مجال للمتهم فيها لأن يكذب أو ينكر إذن فلا سبيل للنجاة من عقاب الآخرة إلّا بترك الذنوب والعمل وفق مقتضيات الشرع في هذه الحياة الفانية.

إنّ الإيمان بوجود محكمة العدل الإلهي تدفع الإنسان لأن : يتحرك ضميره ،

٣٢٤

تتيقظ نفسه من غفلتها الماكرة ، تحيى فيه روحية التقوى فيه ويتحسس عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه ، فيبدأ بتشخيص وظائفه وتكاليفه الشرعية للقيام بها على أحسن وجه.

وأساسا فإنّ شيوع الفساد في أي محيط يرجع إلى أمرين : ضعف التوجيه والمراقبة ، وفقدان القوة القضائية الرادعة ، فإذا خضعت أعمال الناس إلى توجيه مبرمج يقظ ، بالإضافة إلى توفر القوانين القضائية الصارمة لكل من يشذ عن جادة القانون ، فإنّ الفساد والاعتداء والطغيان والحال هذه يكاد ينعدم في ذلك المحيط.

الحياة الدنيوية التي تفعم ببرنامج موجه إلى طريق الحق ، وقوة قضائية ساعية لرضوانه جلّ شأنه ، وعاملة على خدمة البشرية ، تدفع الإنسان لأن يدرك بوضوح مصاديق الهداية الإلهية ، ويشعر لذة حياته الروحية.

فالإيمان بوجود من :( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ) (١) ، والإيمان بحتمية «المعاد» الذي تصدقه الآية :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (٢) ، فهكذا الإيمان كفيل بأن يخلق في الإنسان حالة التقوى التي هي بمثابة مركز للإشعاع الرّباني على جميع أبعاد حياته.

* * *

__________________

(١) سبأ ، الآية ٣.

(٢) الزلزلة ، الآية ٧ ـ ٨.

٣٢٥

الآيات

( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) )

التّفسير

كل شيء بأمرك يا ربّ

تجيب الآيات المذكورة على أسئلة منكري المعاد والمختلفين في هذا «النبأ العظيم» لأنّها تستعرض جوانب معينة من نظام الكون وعالم الوجود الموزون ، مع تبيانها لبعض النعم الإلهية الواسعة ذات التأثير الفعال في حياة الإنسان ، وذلك من جهة دليل على قدرة الباريعزوجل المطلقة ، ومنها قدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان بعد موته.

ومن جهة أخرى إشارة إلى أنّ الكون وما فيه من دقّة تنظيم ، لا يمكن أن يخلق لمجرّد العبث واللهو! بل لا بدّ من وجود حكمة بالغة لهذا الخلق. في حين

٣٢٦

أنّه لو كان الموت يعني نهاية كل شيء ، فمعنى ذلك أنّ وجود العالم عبث وخال من أيّة حكمة!!

وبهذا فقد استدل القرآن الكريم على حقيقة «المعاد» بطريقين :

١ ـ برهان القدرة.

٢ ـ برهان الحكمة.

وقد عرضت الآيات الإحدى عشر ، اثنتي عشر نعمة إلهية ، بأسلوب ملؤه اللطف والمحبّة ، مصحوبا بالاستدلال ، لأنّ الاستدلال العقلي لو لم يقترن بالإحساس العاطفي والنشاط الروحي يكون قليل التأثير.

وتشرع الآيات بالإشارة إلى نعمة الأرض ، فتقول :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) .

(المهاد) : كما يقول الراغب في المفردات : المكان الممهّد الموطأ ، وهو في الأصل مشتق من «المهد» ، أي المكان المهيأ للصبي.

وفسّره بعض أهل اللغة والمفسّرين بالفراش ، لنعومته واستوائه وكونه محلا للراحة.

واختيار هذا الوصف للأرض ينم عن مغزى عميق

فمن جهة : نجد في قسم واسع من الأرض الإستواء والسهولة ، فتكون مهيئة لبناء المساكن والزراعة.

ومن جهة ثانية : أودع فيها كل ما يحتاجه الإنسان لحياته من المواد الأولية إلى المعادن الثمينة ، سواء كان ذلك على سطحها أم في باطنها.

ومن جهة ثالثة : تحلل الأجساد الميتة التي تودع فيها ، وتبيد كل الجراثيم الناشئة عن هذه العملية بما أودع فيها الباري من قدرة على ذلك.

ومن جهة رابعة : ما لحركتها السريعة المنظمة ولدورانها حول الشمس وحول نفسها من أثر على حياة البشرية خاصّة ، بما ينجم عنها الليل والنهار

٣٢٧

والفصول الأربعة.

ومن جهة خامسة : خزنها لقسم كبير من مياه الأمطار الغزيرة ، وإخراج ذلك على شكل عيون ، آبار ، أنهار.

والخلاصة : إنّ جميع وسائل الاستقرار والعيش لبني آدم متوفرة في هذا المهد الكبير ، وقد لا يلتفت الإنسان إلى عظم هذه النعمة الرّبانية ، إلّا إذا ما أصاب الأرض زلزالا ، وعندها سيدرك معنى استقرار الأرض ، ومعنى كونها مهادا.

وبما أنّ نعمة استواء الأرض وسهولتها قد تهمش نعمة الجبال ، فقد جاءت الآية التالية لتبيّن أهمية الجبال ودورها المهم في حياة الإنسان :( وَالْجِبالَ أَوْتاداً ) .

تشكل الجبال آية ربانية زاخرة بالعطاء ، وتؤدي وظائف كثيرة ، منها أنّها تحفظ القشرة الأرضية من الانهيار أمام الضغط الحاصل من المواد المذابة داخلها ،

وذلك لعمق تجذرها المترابط داخل الأرض وتحافظ عليها من تأثيرات جاذبية القمر في عملية المد والجزر وتشكل جدران الجبال سدا منيعا للتقليل من آثار الرياح الشديدة والعواصف المدمرة وتهيأ للإنسان الملاجئ الهادئة في مغاراتها وبين تعرجاتها لتأمنه من ضربات العواصف المهلكة وتقوم بخزن المياه وادخار أنواع المعادن الثمينة في باطنها

بالإضافة لكل ما ذكر ، فتوزيع الجبال على الأرض بالشكل الموجود وتعاملا مع حركة الأرض يعمل على تنظيم حركة الهواء المحيط بالكرة الأرضية بالشكل الذي يؤثر ايجابيا على الحياة فوق الأرض. وفي هذا المجال ، يقول العلماء : لو كان سطح الكرة الأرضية مستويا كله ، لتولدت عواصف شديدة لا يمكن السيطرة عليها جراء حركة الأرض وسكون الغلاف الجوي ، ولفقدت الأرض صلاحيتها بتوفير مستلزمات السكن للإنسان ، لأنّ استمرار الاحتكاك

٣٢٨

الحاصل من حركة الأرض الدائمة وسكون الغلاف الجوي سيؤدي بلا شك إلى زيادة حرارة القشرة الأرضية ممّا يجعل الأرض غير صالحة لسكنى الإنسان.

وبعد أن بيّن القرآن هذين النموذجين من النعم الإلهية والآيات الآفاقية ، عرج إلى ذكر ما أنعم الباري على الإنسان من النعم والآيات الانفسية فقال :( وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) (١) .

«الأزواج» : جمع زوج ، المتشكل من الذكر والأنثى ، ويخرج الإنسان إلى حياة الوجود من هذين الجنسين ، ويستمر وجوده في الحياة من خلال عملية التناسل التي تساهم في استقرار الإنسان من الناحيتين الجسمية والنفسية ، كما تشير إلى هذا الآية (٢١) من سورة الروم :( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) .

وبعبارة أخرى : إنّ كلا من الذكر والأنثى مكمل لوجود الآخر ، وعاملا على إشباع احتياجات الطرف الآخر من الناحيتين الجسمية والنفسية.

وفسّر البعض كلمة «أزواج» بالأصناف المختلفة للناس ، لأنّ من معاني (أزواج) : الأصناف والأنواع ، فاعتبروها إشارة إلى ذلك التباين الموجود بين البشر من حيث : اللون ، الجنس ، الاستعدادات والقابليات ، للدلالة على عظمة الباري جلّ شأنه والعامل على تكامل المجتمع الإنساني.

ويشير بعد ذلك إلى نعمة النوم ، فيقول :( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) .

«السبات» : من السبت ، بمعنى القطع ، ثمّ استعملت بمعنى (تعطيل العمل) لأجل الاستراحة ، وسمي «يوم السبت» بذلك لأنّ اليهود كانوا يعطلون أعمالهم في اليوم المذكور.

ويحمل وصف «النوم» بالسبات إشارة لطيفة إلى تعطيل قسم من الفعاليات

__________________

(١) جملة( وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) وما بعدها ، جاءت بصيغة الإثبات ، أمّا ما احتمله البعض من كونها جملا منفية معطوفة على قوله تعالى :( أَلَمْ نَجْعَلِ ) المتقدم في الآية الأولى فبعيد ويحتاج إلى تقدير لا موجب.

٣٢٩

الجسمية والروحية للإنسان عند النوم.

ويعطي التعطيل فرصة : لاستراحة أعضاء البدن لتجديد القوى لتقوية الروح والجسد ، لتجديد النشاط ورفع أيّ نوع من التعب والآلام ، والاستعداد لتقبل المرحلية القادمة (بعد النوم) بفاعلية ونشاط متجدد.

وبالرغم من أنّ النوم يشكّل ثلث حياة الإنسان ، ولكنّ الإنسان لا زال يجهل الكثير من خفاياه ، بل ولا زال الإنسان (منذ القديم وحتى الآن) لا يعرف سبب تعطيل بعض فعاليات الدماغ في مدّة معينة وتغمض العين أجفانها وتسكن جميع أعضاء البدن!

وبات من المعروف ما للنوم من دور مهم في حياة الإنسان ، حتى حرص أطباء علم النفس دوما على تنظيم نوم مرضاهم بصورته الطبيعية حفاظا على حالة التوازن النفسي للمرضى.

فالذين لا يتمتعون بنوم طبيعي تراهم مصابون بحدّة المزاج ، القلق ، الاضطراب ، الكآبة ، وبالمقابل ، نرى الذين يتمتعون بنوم طبيعي ينهضون كل صباح بنشاط وحيوية وبقدرة جديدة.

ومن بين ما يقدمه النوم من تأثير مهم على الإنسان : سرعة تقبل ذهن الإنسان للدراسة والمطالعة بعد فترة نوم طبيعية وهادئة وسرعة إنجاز الأعمال الفكرية والبدنية ولعلّ من أسهل أساليب تعذيب الإنسان هو حرمانه من النوم ، خصوصا وأنّ التجارب العلمية أثبتت بأنّ قابلية الإنسان على تحمل الأرق ضعيفة جدّا ، وإذا حاول أيّ إنسان أن يجرب ذلك ، فلا تمضي عليه فترة وجيزة إلّا ويصاب في سلامته ويمرض.

وكلّ ما ذكر من فوائد النوم فإنّه يختص بالنوم الطبيعي الموزون ، وأمّا إذا زاد عن حدّه الطبيعي فلا يجني صاحبه سوى الآثار السلبية لهذا الإفراط ، كحال الإفراط في الطعام.

٣٣٠

ومن الغريب أنّ نسبة فترة النوم تختلف من إنسان لآخر ، ولا يمكن تعيين فترة محددة لكل الناس ، وعليه فكل إنسان يعرف الفترة التي تناسبه طبيعيا بما يناسب فعالياته الجسمية والروحية ، وتجربة الإنسان هي التي تعين نسبة النوم الضروري له.

والأغرب من ذلك ، إنّه قد يضطر الإنسان في الحوادث والشدائد إلى السهر واليقظة مدّة طويلة ، ولذلك تزداد مقاومته للنوم بشكل ملحوظ ولكنّه مؤقت ، وقد يستكفي في تلك الأحيان بساعة أو ساعتين من النوم لليوم الواحد ، ولكن سرعان ما ينتهي ذلك التمكن بمجرّد الرجوع إلى الحالة الطبيعية ، بل وقد يحتاج لساعات نوم أطول من السابق للتعويض عمّا فاته من نوم!

ومن النادر أن نرى إنسانا يعيش حالة اليقظة لعدة أشهر ، وفي قبال ذلك نرى بعض الناس ينامون أثناء المشي ، بل وهناك من ينام وأنت تشاطره أطراف الحديث ، ومثل هكذا أشخاص يعيشون حالة غير طبيعية وغالبا ما تكون الحوادث المؤسفة في انتظارهم ، فالضرورة تقتضي ألّا يتركوا بدون مراقب أو مرافق.

والخلاصة : إنّ هذا الحادث العجيب والظاهرة الغامضة التي تدعى بـ «النوم» مصحوبة بعجائب كثيرة وكأنّها معجزة من المعاجز(١) .

ومع أنّ ذكر النوم في الآية قد جاء باعتباره إحدى النعم الإلهية ، إلّا أنّ الآية المباركة قد تشير بذلك إلى الموت ، لما للنوم من شبه بالموت ، والاستيقاظ بالبعث.

وبعد الانتهاء من ذكر نعمة النوم ، ينتقل القرآن الكريم لذكر نعمة الليل ، فيقول :( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ) .

__________________

(١) للتزود من عجائب عالم النوم ، راجع ما بحثناه في تفسير الآية (٣٤) من سورة الروم. وكذا الرؤيا وعجائبها في ذيل الآية (٤) من سورة يوسف.

٣٣١

وتضيف الآية التالية مباشرة :( وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً ) (١) .

الآيتان تفندان جهل الثنويون بأسرار الخلق ، حيث يقولون : إنّ النور والنهار نعمة ، والظلام والليل شر وعذاب ، ويجعلون لكلّ منهما خالق (إله الخير وإله الشر) وبقليل من التأمل نجد أنّ كلاً منهما يمثل نعمة إلهية معطاءة ، حيث تنبع منها نعم أخرى.

وشبهت الآية الليل باللباس والغطاء الذي يلقى على الأرض ليشمل كل من على الأرض ، وليجبر فعاليات الموجودات الحيّة المتعبة على الأرض بالتعطل عن الحركة وممارسة النشاطات ، ويخيم الظلام والسكون ليضفي على الأرض الهدوء ليستريح الناس من رحلة العمل والمعاناة خلال النهار ، وليتمكنوا من مواصلة نشاطهم لليوم التالي لأنّ النوم المريح لا يتيسر للإنسان إلّا في أجواء مظلمة.

وبالإضافة لكل ما ذكر ، فحلول الليل يعني زوال نور الشمس وإلّا لانعدمت الحياة واحترقت جميع النباتات والحيوانات في حال استمرار شروق الشمس.

ولذا نجد القرآن الكريم يؤكّد على هذه الحقيقة ، فتارة يقول :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ) (٢) . وتأتي الآية التالية لتقول :( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) (٣) ويلاحظ في القرآن الكريم أنّه قد أقسم بأمور كثيرة ، ولكن قسمه لا يتعدى المرة الواحدة لكل ما قسم به ، ما عدا الليل فقد جاء القسم به سبع مرات! ولمّا كان القسم بشيء دليل على أهميته ، فهذا يعني

__________________

(١) «المعاش» : إمّا أن يكون اسم زمان أو اسم مكان ، بمعنى زمان ومكان الحياة ويمكن أن يكون مصدرا ميميا ، فيكون له محذوف ، والتقدير : (سببا لمعاشكم). والمعاش : من العيش ، أي الحياة ، إلّا أنّ تعبير الحياة يمكن إطلاقه على الباريعزوجل والملائكة ، فيما تختص كلمة العيش بحياة الإنسان والحيوان.

(٢) القصص ، الآية ٧٢.

(٣) القصص ، الآية ٧٢.

٣٣٢

فقد جاء القسم به سبع مرات! ولمّا كان القسم بشيء دليل على أهميته ، فهذا يعني أنّ للّيل أهميّة بالغة.

الأشخاص الذين يضيئون الليل بأنوار صناعية ويسهرون ليلهم ويقضون نهارهم بالنوم ، هم أناس غير طبيعيين ، وترى علامات الكسل والخمول بادية عليهم. في حين نرى القرويين أكثر صحة من أهل المدن وأسلم بدنا وحواسا ، لأنّهم ينامون بعد حلول الليل بقليل ويستيقظون مبكرا.

ومن منافع الليل الجانبية أنّ فيه (وقت السحر) الذي هو أفضل أوقات الدعاء والصلاة ومناجاة الباري جلّ شأنه لتربية وتزكية النفوس ، كما تصف الآية (١٨) من سورة الذاريات عبّاد الليل :( وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (١) .

والنهار بنوره الفياض نعمة ربانية عظيمة ، حيث يدفع الإنسان ليتحرك ويسعى لبناء حياته ومجتمعه ، وبالنور تنمو النباتات ، وتمارس الحيوانات شؤون حياتها وحقّا قال الباري :( وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً ) ، بما لا يدع مجالا للتفصيل والشرح.

وخاتمة المقال : إنّ تعاقب الليل والنهار وما فيهما من نظام دقيق آية بيّنة من آيات خلقه سبحانه وتعالى ، إضافة إلى أنّه تقويم طبيعي لتفصيل الزمن في حياة الإنسانية على مرّ التاريخ.

وتأتي الآية التالية لتنقلنا من عالم الأرض إلى عالم السماء حين تقول :( وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً ) .

قد يراد من العدد المذكور بالآية «الكثرة» ، للإشارة إلى كثرة الأجرام السماوية والمنظومات الشمسية والمجرات والعوالم الواسعة لهذا الوجود ، والتي تتمتع بخلق محكم وبناء رصين لا خلل فيه ويمكن أن يراد منه العدد ، للإشارة

__________________

(١) راجع بحوثنا حول أسرار الليل والنهار ، ونظام النور والظلمة في ذيل الآيات (٧١ ـ ٧٣) من سورة القصص ، في ذيل الآية (٤٧) من سورة الفرقان ، في ذيل الآية (١٨) من سورة الذاريات.

٣٣٣

إلى أنّ الكواكب وما يبدو لنا منها إنّما تعود إلى السماء الأولى ، كما أشارت الآية (٦) من سورة الصافات إلى ذلك :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) . وثمّة سماوات ستة وعوالم أخرى وراء السماء الأولى «الدنيا» خارجة عن حدود معرفتنا.

وثمّة احتمال آخر ، وهو أنّ المراد منها طبقات الهواء المحيطة بالأرض فإنّها مع رقتها تتمتع باستحكام وقوة عجيبة بحيث تحمي الأرض من آثار الشهب الملتهبة والمتساقطة عليها باستمرار ، فبمجرّد دخول الشهب في الغلاف الجوي الرقيق نتيجة لجاذبية الأرض لها ، تحترق تلك الشهب لاحتكاكها السريع بالغلاف الجوي حتي تتلاشى ، ولولا تلك الطبقات الجوية المحيطة بالكرة الأرضية لكانت المدن والقرى عرضة للإصابة بتلك الصخور والأحجار السماوية المتساقطة عليها على الدوام.

وقد توصل بعض العلماء إلى أنّ سمك الغلاف الجوي يقرب من مائة كيلومتر ، وله من الأثر ما يعادل سقف فولاذي بسمك عشرة أمتار!

وبذلك نحصل على تفسير آخر لما جاء في الآية( ... سَبْعاً شِداداً ) (١) .

وبعد أن أشار القرآن إجمالا إلى السماوات ، يشير إلى نعمة الشمس ، فيقول :( وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) (٢) .

«الوهّاج» : من الوهج ، بمعنى النور والحرارة التي تصدر من النار(٣) .

وإطلاق هذه الصفة على الشمس ، للإشارة إلى نعمتين كبيرتين وهما : (النور) و (الحرارة) ويتفرع عنهما نعم وعطايا كثيرة يزخر بها عالمنا.

ولا تتحدد فوائد نور الشمس بإضاءة الدنيا للإنسان ، بل لها أثر كبير في نمو

__________________

(١) لزيادة المعلومات ، راجع ذيل الآية (٢٩) من سورة البقرة.

(٢) «جعلنا» : في هذا الموضوع بمعنى (خلقنا) ، فلذلك أخذت مفعولا واحدا.

(٣) مفردات الراغب : مادة (وهج) وفي لسان العرب : الوهج : حرارة الشمس والنار من بعيد.

٣٣٤

سائر الكائنات الحيّة.

وإضافة لكل ما تقدم ، فلحرارة الشمس أثر أساس في : تكوّن الغيوم ، حركة الهواء ، نزول الأمطار ، وسقي الأراضي اليابسة.

ولأشعة الشمس كذلك الأثر البالغ في مكافحة الجراثيم ، لاحتوائها على الأشعة ما وراء الحمراء التي تقتل الجراثيم ، ولولاها لتحولت الأرض إلى مستشفى عظيمة ، ولانتهت الحياة البشرية على ظهرها خلال مدّة محدودة جدّا.

وأشعة الشمس في واقعها : نور صحي مجاني دائمي ، يصلنا بكيفية لا هي بالشديدة المحرقة ، ولا هي بالقليلة العديمة التأثير.

ونسبة ما يصلنا من الطاقة الشمسية قياسا مع بقية المصادر كثير جدّا ، وعلى سبيل الفرض : فلو أردنا إنماء شجرة تفاح بواسطة نور صناعي ، فستكلفنا التفاحة الواحدة مبلغا رهيبا ،. نعم فنعمة هذا السراج الوهّاج لا يمكننا تعويضها بمال كل الأغنياء(١) .

وقد قدّر حجم الشمس بما يقارب المليون وثلاثمائة ألف مرّة نسبة إلى حجم الكرة الأرضية ، والفاصلة بين الشمس والأرض تقدر بحدود مائة وخمسين مليون كيلومتر وأنّ حرارة الشمس الخارجية تصل إلى ستة آلاف درجة مئوية وتصل حرارتها الداخلية ما يقارب مليون درجة مئوية! وهذا النظام الموزون بحكمة بالغة ، لمن الدقة بحال أنّه لو اختل قليلا (زيادة أو نقصان) لما أمكن للبشر أن يعيشوا على سطح الكرة الأرضية ، ولا يسعنا المجال لنتطرق

__________________

(١) ورد في كتاب عالم النجوم من تأليف (آنتري وايت) حسابا للنور والحرارة الواصلين من الشمس إلى الأرض ، يقول صاحب الكتاب : لو أردنا أن ندفع أجورا مقابل ما يصلنا من نور وحرارة الشمس مجانا بما يساوي ما ندفعه من أجور الكهرباء عادة ، فعلى سكان الأرض أن يدفعوا لكل ساعة من النور والحرارة مليار وسبعمائة مليون دولار ، وإذا حسبنا ما علينا أن ندفع خلال سنة واحدة فسنصل إلى رقم خيالي من الدولارات ، وبهذا يظهر قيمة ما وهبنا الله تعالى من ثروة طائلة دون مقابل. ويقول مؤلف كتاب (من العوالم البعيدة) : إنّ أهل الأرض لو أرادوا الحصول على ما يصلهم من نور الشمس من مصابيح توضع في مكان الشمس للزم لكل منهم خمسة ملايين مليار مصباح ذو مائة واط.

٣٣٥

لمزيد من التفصيل والبيان حول هذا الموضوع.

وبعد ذكر نعمة النور والحرارة يتناول القرآن نعمة حياتية أخرى لها ارتباط بأشعة الشمس ، ويقول :( وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) .

«المعصرات» : جمع «معصر» ، من العصر بمعنى الضغط والكلمة تشير إلى أنّ الغيوم تقوم بعملية وكأنّها تعصر نفسها عصرا لكي ينهمر منها الماء على شكل أمطار(١) (ينبغي ملاحظة أنّ «المعصرات» جاءت بصيغة اسم فاعل).

وفسّرها بعضهم بالغيوم المستعدة لإنزال الأمطار ، باعتبار أنّ اسم الفاعل يأتي في بعض الأحيان بمعنى الاستعداد للقيام بعمل ما.

وقال بعض آخر : إنّ «المعصرات» ليست صفة للغيوم ، وإنّما للرياح التي تقوم بضغط وعصر الغيوم.

«الثجاج» : من الثج ، بمعنى سيلان الماء بكمية كبيرة ، و «ثجاج» صيغة مبالغة ، ويراد بها هنا غزارة الأمطار المنهمرة نتيجة العصر الحاصل للغيوم.

وبالإضافة لكون المطر منبعا لكثير من مصادر الخير والبركة ، فهو : ملطف للجو ، مزيل للتلوثات الموجودة في الجو ، مخفض للحرارة ومعدل للبرودة ، مقلل لأسباب الأمراض ، يمنح الإنسان روحا متجددة ونشاطا ، ومع كل ذلك فقد ذكر القرآن ثلاث فوائد أخرى له :( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً ) .

( وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً ) .

يقول الراغب في مفرداته : «ألفافا» : أي التفّ بعضها ببعض لكثرة الشجر(٢) .

والآيتان تشيران إلى ما يستفيد منه الإنسان والحيوان من المواد الغذائية التي

__________________

(١) يقول بعض العلماء : إنّ الغيوم حين تتراكم تخضع لنظام معين ، حيث تقوم بعصر نفسها فتتساقط قطرات الأمطار منها ، وهذا في واقعة يكشف عن إحدى المعاجز العلمية للقرآن في استعماله لهذا التعبير (راجع كتاب ـ الهواء والأمطار).

(٢) (ألفاف) : جمع لفيف ـ كما يقول كثير من أهل اللغة والتفسير ـ وقال بعضهم : جمع لف (بضم اللام). وقال بعض آخر : جمع لف (بكسر اللام). وقال آخرون : هي جمع لا مفرد له ولكنّ المشهور هو القول الأوّل.

٣٣٦

تخرج من الأرض ، فالحبوب الغذائية تشكل قسما مهمّا من المواد الغذائية «حبّا» ، والخضر تشكل القسم الآخر «ونباتا» ، وتأتي الفاكهة لتشكل القسم الثالث «وجنّات».

ولا تنحصر فوائد المطر بهذه الفوائد الثلاث المذكورة في هاتين الآيتين ، فللماء دور أساسي وحيوي في عملية حياة الكائنات الحيّة ، وعلى الأخص الإنسان ، حيث أنّ الماء يشكل ما يقارب السبعين في المائة من بدنه ، بل ويتعدى ذلك ليشمل كل كائن حيّ ، كما يشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة :( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ ) (١) .

وتتجاوز فوائد الماء حدود الكائن الحيّ لتشمل : المصانع ، جمال الطبيعة ، وأفضل الطرق التجارية والاقتصادية هي الطرق المائية.

* * *

ملاحظة :

علاقة الآيات بـ «المعاد» :

أشارت الآيات المبحوثة إلى أهم العطايا الرّبانية والنعم الإلهية والتي لها الدور المهم والأساس في الحياة البشرية : النور ، الظلمة ، الحرارة ، الماء ، التراب والنباتات.

وذكر نظام الكون على ما فيه من دقة موزونة ومحسوبة لدليل على قدرة اللهعزوجل المطلقة من جهة ، وبه يسد كل ثغرات التساؤل عن قدرة الله على إحياء الموتى ، وكما أجابت آخر سورة «يس» منكري المعاد بالقول :( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) (٢) .

__________________

(١) الأنبياء ، الآية ٣٠.

(٢) سورة يس ، الآية ٨١.

٣٣٧

ومن جهة أخرى أنّه لا بدّ أن يكون لهذا الخلق العظيم من هدف ، ولا يعقل أن يكون الهدف منه هو هذه الأيّام المعدودة لحياتنا الدنيا ، إذ ليس من الحكمة أن يكون كل هذا الخلق وبما يحمل من أنظمة وعمليات من أجل الأكل والشرب والنوم وأمثال ذلك! بل لا بدّ من وجوب هدف أسمى يتناسب وحكمة الباري جلّ شأنه ، وبعبارة أخرى ما النشأة الأولى إلّا تذكيرا للنشأة الآخرة : ومرحلة متقدمة ، ومحطة تزود بالوقود وصولا لغاية السفر المحتوم ، وكما ينبهنا القرآن الكريم :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) ؟!(١) .

وبعد ذلك فما النوم واليقظة إلّا مثلا للموت والحياة الجديدة ، وما إحياء الأرض الميتة بنزول المطر ـ الشاخصة أمام أعين الناس على طول السنة ـ إلّا توضيحا لحالة المعاد ، وإشارات مليئة بالمعاني ترمز إلى مسألة القيامة والحياة بعد الموت ، كما جاء في سورة فاطر :( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ١١٥.

(٢) فاطر ، الآية ٩.

٣٣٨

الآيات

( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) )

التّفسير

سيأتي اليوم الموعود :

الآية الاولى من الآيات أعلاه بمثابة نتيجة لما تعرضت له الآيات السابقة

( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ) (١)

والتعبير بـ «يوم الفصل» يحمل بين ثناياه إشارات كثيرة ، فسيحدث في ذلك اليوم :

فصل الحقّ عن الباطل.

فصل المؤمنين الصالحين عن المجرمين.

فصل الوالدين عن أولادهم ، والأخ عن أخيه

و «الميقات» : من الوقت ، الميعاد من الوعد ، بمعنى الوقت المعين والمقرر ، وإنّما سمّيت الأماكن التي يحرم منها حجاج بيت الله الحرام بـ «المواقيت» لأنّ

__________________

(١) استعمال (كان) في هذا المورد لبيان حتمية الوقوع لذلك اليوم.

٣٣٩

الاجتماع فيها يكون في وقت معين.

ويتناول القرآن الكريم بعض خصائص ذلك اليوم العظيم ، فيقول :( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) .

ويستفاد من آيات القرآن أنّ ثمّة نفختان عظيمتان ستحدثان باسم (نفخ الصور) ففي النفخة الاولى سينهار كلّ عالم الوجود ، ويخرّ ميتا كلّ من في السموات والأرض ، وفي النفخة الثّانية يتجدّد عالم الوجود وتعود الحياة إلى الأموات مرّة اخرى ، ليقول بعدها يوم القيامة.

«الصور» : بوق يستعمل لإعطاء إشارة التوقف أو الحركة للقوافل أو الكتائب العسكرية وما شابهها من الاستعمالات ، وتختلف الإشارة بين المجاميع التي تستعمل البوق ، كلّ حسب ما تعارف عليه.

واستعمل القرآن «الصور» ككناية لطيفة للتعبير عن المحدثين العظيمين المذكورين أعلاه ، وأمّا ما ورد في الآية فيختص بنفخة الصور الثّانية ، أي : نفخة القيام وإعادة الحياة(١) .

ومع أنّ الآية أعلاه تقول :( فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) ، ولكنّ الآية (٩٥) من سورة مريم تقول :( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً ) ، والآية (٧١) من سورة الإسراء تقول :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) ، فكيف يمكن تخريج ذلك؟

يمكن جمع الآيات الثلاثة بلحاظ أنّ حشر الناس أفواجا لا بعرض أنّ يتقدمهم إمام ، وأمّا الحشر فرادى فبلحاظ ما ليوم القيامة من مواقف متعددة ، حيث يمكن أن يكون ورود الناس في المواقف الاولى على شكل أفواج مع أئمّتهم (سواء كانوا أئمّة هدى أم أئمّة ضلال) ، وحينما يستقر بهم المآل سيقفون في ساحة العدل الإلهي على شكل فرادى ، كما تنقل لنا الآية (٢١) من سورة (ق)

__________________

(١) تطرقنا لهذا الموضوع بشكل مفصل في ذيل الآية (٦٨) من سورة الزمر ، فراجع.

٣٤٠

عن ذلك المشهد العظيم :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

وثمّة احتمال آخر في معنى «فردا» : هو انفصال الإنسان في ذلك اليوم عن أحبائه ومتعلقيه ، ولا يكون معه يومئذ إلّا ما كسبت يداه.

وتأتي الآية الاخرى لتقول :( وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ) .

فما الأبواب؟ وكيف تفتح؟

يقول البعض : إنّ المقصود بهذه الأبواب هي أبواب عالم الغيب تفتح على عالم الشهود ، وتزول الحجب ويتصل عالم الملائكة بعالم الإنسان(١) .

ويرى البعض الآخر أنّها تشير إلى ما ورد في آيات قرآنية اخرى ، من قبيل :( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) (٢) ، و( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ) (٣) .

فما سيحصل من أثر ذلك الإنشقاق والإنفطار وكأنّ النجوم والكرات السماوية أبواب تفتحت على مصراعيها.

وثمّة من يذهب إلى أنّها إشارة إلى عدم استطاعة الإنسان في هذه الدنيا من اختراق السماوات والسير فيها ، وإن استطاع فبشكل محدود جدّا وبصعوبة بالغة ، وكأن أبواب السماء موصدة أمامه ، ولكنّ حال يوم القيامة سيتغير تماما ، حيث ترى الإنسان يغوص في أعماق السماء بعد تحرره من ممسكات الأرض ، وكان أبواب السماء قد تفتحت له.

وبعبارة أخرى : إنّ السماوات والأرض ستتلاشى في ذلك اليوم ثمّ تتبدلان إلى سماء وأرض أخريين كما تشير الآية (٤٨) من سورة إبراهيم لذلك :( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ) وعندها. ستفتح أبواب السماء أمام أهل الأرض ، ويفتح الطريق للإنسان ليسلك الصالحون سبيل الجنّة فتفتح أبوابها لهم :

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ذيل الآية المذكورة.

(٢) الإنشقاق ، ١.

(٣) الإنفطار ، ١.

٣٤١

( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) (١) .

وحين يدخلون الجنّة يراد عليهم الملائكة للتهنئة :( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ) (٢) .

وتتفتح أبواب جهنم للكافرين كذلك :( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ) (٣) .

وبذلك يرد الإنسان حينها إلى عرصة واسعة كوسع السماوات والأرض :( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) (٤) .

وتأتي الآية الأخيرة لتخبرنا عن حال الجبال في ذلك اليوم الحق :( وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) .

بملاحظة ما جاء في القرآن الكريم بخصوص مصير الجبال ليوم القيامة تظهر لنا أنّ الجبال ستطويها مراحل متعاقبة ، تبدأ حركتها من :( وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) (٥) .

ثمّ تحمل وتدك :( وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) (٦) .

فتكون تلالا من الرمال المتراكمة :( وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً ) (٧) .

فتصبح كأصواف منفوشة :( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) (٨) .

فتتحول غبارا متناثرا في الفضاء :( وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً

__________________

(١) الزمر ، ٧٣.

(٢) الرعد ، ٢٣.

(٣) الزمر ، ٧١.

(٤) آل عمران ، ١٣٣.

(٥) طور ، ١٠.

(٦) الحاقة ، ١٤.

(٧) المزمل ، ١٤.

(٨) القارعة ، ٥.

٣٤٢

مُنْبَثًّا ) (١) .

ولا يبقى منها أخيرا إلّا الأثر ، كما أشارت لذلك الآية المبحوثة ، وكأنّها يلوح في الأفق ، ويصبح سطح الأرض مستويا بعد أن تمحى الجبال من فوقها :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ) (٢) .

«السراب» : من (السرب) هو الذهاب في طريق منحدر ، فعند ما يسير الإنسان بين المنحدرات في الصحراء ، يتراءى له من بعيد تلألؤا يطنّه ماء ، وما هو إلّا انكسار في الأشعة يسمى (السراب) ، ثمّ أطلقت كلمة السراب على كلّ ظاهر خال من المحتوى.

وبهذا تكون الآية قد أشارت إلى بداية حركة الجبال ونهاية أمرها ، فيما تعرضت بقية الآيات (التي ذكرناها) إلى المراحل المختلفة بين البداية والنهاية.

فإذا كانت عاقبة الجبال على ما لها من شموخ وصلابة ستنتهي إلى غبار متناثر في الفضاء وعلى صورة سراب ، فما حال ذلك الإنسان الذي يتصور أنّه جبار شديد البطش عريك القوى ، ولكنّه لا يستطيع أن يتحدى الجبل صلابة! إنّه يوم القيامة

ولكن هل أن هذه الحوادث تتعلق بالنفخة الاولى للصور التي تحكي عن نهاية العالم ، أم هي متعلقة بالنفخة الثّانية والتي تقوم القيامة بها؟!

بلا شك أنّ الآية :( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) تشير إلى نفخة الصور الثّانية ، لأنّها تحكي عن إحياء الأموات ومحبتهم في عرصة المحشر أفواجا ، وكذا الحال بالنسبة للحوادث المذكورة فإنّها متعلقة بنفخة الصور الثّانية ، إلّا أنّه من الممكن حمل بداية حركة الجبال على النفخة الاولى ، ونهاية (السراب) ستكون بعد النفخة الثّانية.

__________________

(١) الواقعة ، ٥ و٦.

(٢) طه ، ١٠٥ و١٠٦.

٣٤٣

ويحتمل أيضا : إنّ كلّ ما تمرّ به الجبال من مراحل تتعلق بالنفخة الاولى للصور ، وقد ذكرتا معا لقرب الفاصلة الزمنية ما بين النفختين ، وجريا مع سياق بعض الآيات القرآنية التي تناولت حوادث النفختين معا ، كما جاء ذلك في سورتي التكوير والإنفطار.

ومن جميل التصوير القرآني وصفه للجبال بـ «الأوتاد» والأرض بـ «المهاد» ، وتأتي الآيات لتخبر عن فناء الأرض التي هي مهد الإنسان بعد ما تقتلع الجبال حينما ينفخ في الصور ، ويتناسب هذا التصوير تماما مع معارفنا ، حيث أننا لو أخرجنا أوتاد أي شيء فمعنى ذلك حكمنا على ذلك الشيء بالانهيار.

* * *

٣٤٤

الآيات

( إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) )

التّفسير

جهنّم المرصاد الرهيب :

بعد أن بيّن القرآن الكريم في الآيات السابقة بعض أدلة المعاد وتناول قسما من حوادث يوم القيامة ، يذكر في هذه الآيات ما يؤول إليه حال المجرمين ، فيقول :

( إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ) .

وهي :( لِلطَّاغِينَ مَآباً ) (١) .

__________________

(١) يوجد محذوف في الآية ، والتقدير : (كانت للطاغين مآبا).

٣٤٥

وأنّهم :( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) .

«المرصاد» : اسم مكان يختفي فيه للمراقبة ، ويقول الراغب في مفرداته : «المرصد» موضع الرصد ، والمرصاد نحوه ، لكن يقال للمكان الذي أختص بالترصد.

وقيل : إنّه صيغة مبالغة ، ويطلق على الذي يكمن كثرا للرصد ، مثل «المعمار» الذي يكثر من البناء والعمران.

والمعنى الأوّل أشهر وأنسب ، ولكن من سيقوم بعملية الرصد في جهنّم؟

قيل : هم وملائكة العذاب بدلالة الآية (٧١) من سورة مريم التي تحكي عن مرور جميع الناس صالحهم وطالحهم من جانب جهنّم أو من فوقها :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) وخلال ذلك المشهد تقوم ملائكة العذاب برصد أهل النّار والتقاتهم من بين الخلق!

وأمّا لو قلنا في تفسير الآية بأنّها (صيغة المبالغة) فسيكون جهنّم هي المرصاد للطاغين ، وتقوم بعملية جذب أهل النّار إليها حال مرور الخلق واقترابهم منها. وعلى أية حال ، فلا يستطيع أيّ من الطاغين من تخطي ذلك المعبر المحتوم ، فإمّا أن تخطفه ملائكة العذاب أو تجذبه جهنّم.

«المآب» : هو محل الرجوع ، ويأتي أحيانا بمعنى المنزل والمقر ، وهو المقصود في هذه الآية.

و «الأحقاب» : جمع (حقب) على وزن (قفل) ، بمعنى برهة زمانية غير معينة ، وقد قدرها بعض بثمانين عاما ، وقيل سبعين ، وقيل : أربعين عاما.

وعلى أيّ من التقادير ، فثمّة مدّة معينة للبقاء في جهنّم ، وهو ما يتعارض مع ما جاء في آيات أخر والتي تصرح بخلود أهل النّار في جهنّم ، ولذلك سعى المفسّرون لإيجاد ما يوضح هذا الموضوع.

المعروف بين المفسّرين : إنّ المقصود بـ «الأحقاب» في الآية هو تلك

٣٤٦

الفترات الزمانية الطويلة التي تتعاقب فيما بينها ، المتسلسلة بلا نهاية ، فكلما تنتهي فترة تحل محلها اخرى ، وهكذا.

وقد جاء في إحدى الرّوايات إنّ الآية جاءت في المذنبين من أهل الجنّة ، الذين يقضون فترة في جهنّم يتطهّرون فيها ثمّ يدخلون الجنّة ، وليست واردة في الكافرين المخلدين في النّار(١) .

وتشير الآيات ـ بعد ذلك ـ إلى جانب صغير من عذاب جهنّم الأليم ، بالقول :( لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً ) .

( إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً ) ، إلّا ظلّ من الدخان الغليظ الخانق كما أشارت إلى ذلك الآية (٤٣) من سورة الواقعة :( وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) .

«الحميم» : هو الماء الحار جدّا ، و «الغسّاق» : هو ما يقطر من جلود أهل النّار من الصديد والقيح ، وفسّرها بعضهم بالسوائل ذات الروائح الكريهة.

في حين أنّ أهل الجنّة يسقيهم ربّهم جلّ شأنه بالأشربة الطاهرة ، كما جاء في الآية (٢١) من سورة الدهر :( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) ، حتى الأواني التي يشربون بها وعلى ما لها من الرونق فهي مختومة بالمسك ، كما أشارت لذلك الآية (٢٦) من سورة المطففين :( خِتامُهُ مِسْكٌ ) فانظر لعقبى الدارين!

ولكن ، لم هذا العذاب الأليم؟ فتأتي الآية التالية : إنّما هو :( جَزاءً وِفاقاً ) (٢) .

ولم لا يكون كذلك وقد أحرقوا في دنياهم قلوب المظلومين ، وتجاوزوا بتسلطهم وظلمهم وشرّهم على رقاب الناس دون أن يعرفوا للرحمة معنى ، فجزاهم يناسب ما اقترفوا من ذنوب عظام.

وكما قلنا مرارا ، إنّ الآيات القرآنية حينما تشير إلى عقوبات يوم القيامة ، إنّما تطرحها كجزاء لما اقترفت أيدي الناس بظلمهم ، كما نقرأ في الآية (٧) من سورة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٩٤ ، ح ٢٣ و٢٦.

(٢) «جزاء» : مفعول مطلق لفعل محذوف تظهره قرينة الكلام ، «وفاقا» : صفة الجزاء ، والتقدير : يجازيهم جزاء ذا وفاق!

٣٤٧

التحريم :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ، (حين تجسمت أعمالكم وحضرت أمامكم).

ويذكر القرآن سبب الجزاء فيقول :( إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً ) .

وبعبارة اخرى : إنّ عدم الإيمان بالحساب سبب للطغيان ، فيكون الطغيان سببا لذلك الجزاء الأليم.

«لا يرجون» : من «الرجاء» ويأتي بمعنى «الأمل» وكذلك بمعنى «عدم الخوف» ، ومن الطبيعي أن يشعر الإنسان بالخوف في حال الأمل والانتظار ، وإلّا لم يخف فبين الأمرين تلازم ، ولهذا فالذين ليس لديهم أمل ورجاء لا يحسون بخوف أيضا.

«إنّ» في «إنّهم» : للتأكيد. و «كانوا» : للماضي المستمر. و «حسابا» : نكرة جاءت بعد نفي لتعطي معنى العموم وكل هذا البيان جاء ليبيّن أنّهم ما كانوا ينتظرون حسابا مطلقا ، وما كانوا يشعرون لا خوف من ذلك! وبعبارة اخرى : إنّهم تناسوا حسابا يوم القيامة بالكلية : ولم يفرزوا له مكانا في كلّ حياتهم! ولا جرم أنّ عاقبة أمرهم سيؤول إلى العذاب الأليم لما اقترفوه من جرائم عظمى وكبائر الذنوب.

ومباشرة يضيف القرآن القول :( وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً ) (١) .

فقد أحكمت الأهواء النفسانية قبضتها عليهم حتى جعلتهم يكذبون بآيات الله تكذيبا شديدا ، وأنكروها إنكارا قاطعا ليواصلوا أمانيهم الإجرامية باتباعهم المفرط لأهوائهم الغاربة.

وبما أنّ معنى «آياتنا» من الوسع بحيث يشمل كلّ آيات التوحيد والنبوّة والتكوين والتشريع ومعجزات الأنبياء والأحكام السنن ، فعملية تكذيب كلّ هذه

__________________

(١) «كذّابا» ـ بكسر الكاف ـ إحدى صيغ المصدر من باب التفعيل ، بمعنى التكذيب ، وقال بعض أهل اللغة : إنّه مصدر ثلاثي مجرّد معادل لكذب وعلى أية حال ، فهو : مفعول مطلق لكذبوا ، وجاء للتأكيد.

٣٤٨

الأدلة الإلهية في عالم التكوين والتشريع ، إنّما تستحق أشدّ العقوبات المخبر عنها في القرآن الكريم.

ينبه القرآن الطغاة على وجود الموازنة بين الجرم والعقاب في العدل الإلهي ، فيقول :( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً ) (١) .

فلا تظنوا أنّ شيئا من أعمالكم سيبقى بلا حساب أو عقاب ، ولا تساوركم الشكوك بعدم عدالة العقوبات المقررة لكم.

فما أكثر الآيات القرآنية التي تحكي عن حقيقة ضبط إحصاء كلّ ما يبدر من الإنسان ، سواء كان من الأعمال الصغيرة أم الكبيرة ، سرية أم علنية ، بل ويخضع لذلك حتى عقائد ونيّات المرء.

وفي هذا المجال ، يقول القرآن :( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) (٢) وفي موضع آخر يقول :( إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ ) (٣)

وفي مكان آخر يقول :( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) (٤) .

ولذلك يصرخ المجرمون بالقول :( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) (٥) ، حينما يستلمون كتابهم الحاوي على كلّ ما فعلوه في الحياة الدنيا.

وممّا لا شك فيه ، أنّ إدراك حقيقة الآيات الرّبانية بكامل القلب ، سوف يدفع الإنسان لأنّ يكون دقيقا في جميع أعماله ، وسيكون اعتقاده الجازم بمثابة السدّ المنيع بينه وبين ارتكاب الذنوب ، ومن العوامل المهمّة والمؤثرة في العملية التربوية.

__________________

(١) «كلّ» : مفعول به لفعل مستتر يدل عليه الفعل «أحصيناه». و «كتابا» : مفعول مطلق لأحصينا ، لأنّه بمعنى كتبنا ، واعتبره البعض : حالا.

(٢) القمر ، ٥٢ و٥٣.

(٣) يونس ، ٢١.

(٤) سورة يس ، ١٢.

(٥) الكهف ، ٤٩.

٣٤٩

ويتغيّر لحن الخطاب في الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة ، فينتقل من التكلم عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر : ويهدد القرآن بنبرات غاضبة أولئك المجرمين ، ويقول :( فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ) .

فصرخاتكم بـ «يا وليتنا» وطلبكم العودة إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدتم ، لن ينفعكم ، وكل ما ستنالونه هو الزيادة في العذاب ولا من مغيث.

وهذا هو جزاء أولئك الذين يواجهون دعوات الأنبياء الداعية إلى الله والإيمان والتقوى ، بقولهم :( سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ ) (١) .

وهذا هو جزاء الذين ينفرون من سماع واستماع ما تتلى عليهم من آيات الله ، كما قال تعالى :( وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) (٢) .

وأخيرا فالعذاب الأليم جزاء كلّ من لا يتورع عن اقتراف الذنوب ، ولا يسعى صوب الأعمال الصالحة.

حتى روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النّار»(٣) .

كيف لا وهي التي تحمل بين ثناياها الغضب الإلهي ، وتسدّ كلّ أبواب الأمل للخلاص من جهنّم ، ولا تعد أهل النّار إلّا زيادة في العذاب.

* * *

__________________

(١) الشعراء ، ١٣٦.

(٢) الإسراء ، ٤١.

(٣) تفسير الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٦٩٠ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠٧ ؛ وتفسير الصافي في ذيل الآية المذكورة.

٣٥٠

الآيات

( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) )

التّفسير

ممّا وعد الله المتقين :

كان الحديث في الآيات السابقة منصبا حول خاتمة المجرمين والطغاة وما يلاقونه من أليم العذاب وموجباته ، وينتقل الحديث في الآيات أعلاه لتفصيل بعض ما وعد الله المؤمنين والمتقين من النعم الخالدة والثواب الجزيل ، عسى أن يرعوي الإنسان ويتبع طريق الحق من خلال مقايسته لما يعيشه كلّ من الفريقين ، على ضو تفكيره بمصيره الأبدي.

وكذا هو الحال في الاسولب القرآني ، كما في بقية السور الاخرى ، فهو يضع متضادات الحالات والأحوال في طبق واحد ، ليتمكن الإنسان بسهولة من اكتشاف خصائص وشؤون أيّا منها.

فيقول ، مبتدء الحديث :( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ) .

٣٥١

«المفاز» : اسم مكان ، أو مصدر ميمي من (الفوز) بمعنى الوصول إلى الخير بسلام ، ويأتي بمعنى النجاة أيضا وهو من لوازم المعنى الأوّل.

وقد جاءت «مفازا» بصيغة النكرة للإشارة إلى الفتح العظيم والوصول إلى خير وسعادة لا يعلم قدرهما إلّا اللهعزوجل .

ومن مفردات الفوز والسعادة :( حَدائِقَ وَأَعْناباً ) (١) .

«الحدائق» : جمع «حديقة» ، وهي قطعة أرض مزروعة بالورود والأشجار ومحاطة بسور لحفظها ، ويقول الراغب في مفرداته «الحديقة» قطعة من الأرض ذات ماء ، سمّيت تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها.

أمّا ذكر «العنب» دون بقية الفواكه فلما له من مزايا تفضله على بقية الفواكه ، ويقول علماء التغذية في هذا المجال : إضافة لكون العنب غذاء كاملا من حيث الخاصية الغذائية الموجودة فيه والتي تشبه حليب الام في كونه ثري بالمواد الغذائية اللازمة للإنسان ، إضافة لكل هذا ، فهو يعطي للبدن ضعف ما يعطيه اللحم من سعرات حرارية ، حتى وصف بصيدلية متكاملة لما يحويه من مواد مفيدة.

ومن خواص وفوائد العنب ، أنّه : مقاوم للسموم ، مفيد لتصفية الدم ، يقي من الروماتيزم والنقرس ، مضاد فعّال ضد زيادة السموم الحاصلة في الدم ، مقو للأعصاب ومنشط ويعطي للإنسان القوّة والقدرة الكافية لما فيه من كميات مناسبة لأنواع (الفيتامينات).

وقد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خصوص العنب أنّه قال : «خير فواكهكم العنب».

ويتطرق القرآن إلى نعمة اخرى ممّا وعد الله به المتقين في الجنّة ، فيقول :( وَكَواعِبَ أَتْراباً ) .

__________________

(١) «الحدائق» : بدل «مفازة» ، أو عطف بيان لها.

٣٥٢

«الكواعب» : جمع «كاعب» ، وهي البنت حديثة الثدي ، للإشارة إلى شباب زوجات المتقين في الجنّة.

«الأتراب» : جمع «ترب» ، ويطلق على مجموعة الأفراد المتساويين في العمر ، واستعماله في الإناث أكثر ، قيل : إنّها من «الترائب» وهي : أضلاع الصدر ، وذلك لما بينهما من شبه من حيث التساوي والتماثل.

ويحتمل أن يكون المراد من «أتراب» التساوي بين نساء أهل الجنّة في العمر ، فيكون شابات متساويات في القد والقامة والجمال ، أو تساوي العمر بينهن وبين أزواجهن من المؤمنين ، لأنّ للتساوي في العمر له أثره النفسي على إدراك مشاعر الطرف الآخر. إلّا أن المعنى الأوّل أكثر تناسبا.

وتأتي النعمة الرابعة :( وَكَأْساً دِهاقاً ) .

شراب ليس كأي شراب ، فلا يهب بالعقول ولا يحدر الإنسان إلى دركات الحيوانية ، بل هو مذك للعقل ، منشط للروح ومنعش للقلب.

«الكأس» : هو القدح المملوء بالشراب ، وقد يطلق على القدح دون الشراب أو على شراب القدح.

«دهاقا» : بمعنى الامتلاء ، عند أكثر المفسّرين وأهل اللغة ، لكنّ (ابن منظور) قد ذكر معنيين آخرين هما : التتابع على شاربيها ، صافية.

وعليه فيمكن حمل معنى الآية ، على ضوء ما ذكر من معان ، على أنّ لأهل الجنّة أقداح مملوءة بشراب زلال طاهر.

ودفعا لما يتبادر إلى الأذهان من تبعات شراب الدنيا الشيطاني ، يقول القرآن :( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً ) .

إنّ شراب الدنيا يذهب العقل ، يفقد الإحساس ، يوقع شاربه بالهذيان واللغو وأمّا شراب الآخرة فنفحاته الطاهرة تضفي على العقل والروح نورا وصفاء.

٣٥٣

وثمّة احتمالات بخصوص ضمير «فيها».

الأوّل : إنّه يعود إلى الجنّة.

الثّاني : إنّه يعود إلى الكأس.

فعلى الاحتمال الأوّل ، يكون معنى الآية إنّ أهل الجنّة لا يسمعون فيها لغوا ، كما جاء في الآيتين (١٠ و١١) من سورة الغاشية :( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) .

وعلى الاحتمال الثّاني ، يكون معنى الآية : إنّه سوف لا يصدر اللغو والهذيان والكذب من أهل الجنّة بعد شرابهم ما في كأس الجنّة من شراب ، كما جاء في الآية (٢٣) من سورة الطور :( يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ) .

وعلى أيّة حال ، فالجنّة خالية من : الأكاذيب ، الهذيان ، التهم ، الافتراءات ، تبرير الباطل ، بل وكلّ ما كان يؤذي قلوب المتقين في الحياة الدنيا إنّها الجنّة! وخير تصوير لها ما جاء في الآية (٦٢) من سورة مريم :( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً ) .

وفي آخر المطاف يذكر القرآن الكريم تلك النعمة المعنوية التي تفوق كلّ النعم علوّا :( جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ) .(١)

وأيّة بشارة ونعمة أسمى وأجل ، من أن أكون وأنا العبد الضعيف ، موضع ألطاف وإكرام الله جلّ وعلا ، فيطعمني ويكسوني ويغرف عليّ بنعمه التي لا تحصى عددا ولا تضاهى حبّا وكرما ، وفطوبى للمؤمنين في دار الخلد وهم منعمون بكل ما لذّ وطاب.

والتعبير بكلمة «ربّ» مع ضمير المخاطب ، وكلمة «عطاء» ، لتبيان ما أودع من لطف خاص في النعم التي وعد بها أهل التقوى.

__________________

(١) «جزاء» : حال لإعطاء النعم التي ذكرت في الآيات السابقة ، فيكون التقدير : أعطاهم جميع ذلك جزاء من ربّك ، واحتمل البعض : إنّه مفعول مطلق لفعل محذوف ، واعتبره آخرون : إنّه مفعول لأجله ، لكنّ التّفسير الأوّل أقرب.

٣٥٤

«حسابا» : يعتقد الكثير من المفسّرين إن معناها هنا (كافيا) : من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي(١) .

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم ثمّ أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال اللهعزوجل :( جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ) »(٢) .

ونستفيد من الرواية المذكورة أنّ نعم الله في الآخرة وإن كانت بصفة الفضل.

واللطف والزيادة ، إلّا أن مقدمتها الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان في حياته الدنيا ، وعليه فيمكن تفسير «حسابا» في الآية بمعنى (الحساب) ، ولا مانع من إرادة كلا المعنيين ـ فتأمل.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة ، يضيف :( رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ) .

نعم : إنّه مالك العالم ، ومدبّر ما فيه ، وموجه كلّ حركاته وسكناته ، إنّه الرحمن الذي شملت رحمته كلّ شيء ، وهو واهب الصالحين ما وعدهم به القرآن الكريم.

وبما أنّ صفة «الرحمن» تشمل رحمة الله العامّة لكلّ خلقه ، فيمكن حمل إشارة الآية إلى أنّ الله تبارك وتعالى يشمل برحمته أهل السماوات والأرض في الحياة الدنيا ، إضافة لما وعد به المؤمنين من عطاء دائم في الجنّة.

وذيل الآية ، يقول :( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) .

ويمكن شمول «لا يملكون» جميع أهل السماوات والأرض ، أو جميع المتقين والعاصين الذين يجمعون في عرصة المحشر للحساب والجزاء.

وعلى أيّ القولين فالآية تشير إلى عدم القدرة على الاعتراض أو الردّ من قبل كلّ المخلوقات أمام محكمة العدل الإلهي ، لأنّ حسابه جلّ اسمه من الدقّة

__________________

(١) تفسير البيضاوي في ذيل الآية المبحوثة.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٩٥ ، ح ٢٩.

٣٥٥

والعدل واللطف ما لا يفسح المجال أمام أي اعتراض.

بل ولا يسمح في ذلك اليوم بالتشفع لأيّ كان إلّا بإذن خاص منه جلّت عظمته ، وهو ما تشير إليه الآية (٢٥٥) من سورة البقرة :( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) .

* * *

بحثان

١ ـ ثواب المتقين وعقاب العاصين

يلاحظ ثمّة مقايسة بين الآيات المبحوثة وما سبقها من آيات فقد تحدثت الآيات السابقة عن نوعين من الجزاء لكلّ من المجرمين والمؤمنين ، فالآيات محل البحث تحدثت عن بعض ما للمؤمنين من ثواب ونعيم ، وفيما تقدمها من آيات تحدثت عن بعض ما للمجرمين من عقوبات.

فهنا تحدثت عن «المفاز» وهناك عن «المرصاد»

وهنا تحدثت عن «حدائق وأعنابا» وهناك عن التخبط بالعذاب إلى مدّة لا متناهية «أحقابا»

وهنا كان الحديث عن «الشراب الطهور» وهناك عن الماء الحارق «حميما وغساقا»

وهنا تحدثت الآيات عن عطايا ومواهب «الرحمان» ، وهناك عن الجزاء العادل «جزاء وفاقا»

وهنا الحديث عن زيارة «النعمة» وهناك زيادة «العذاب»

والخلاصة : إنّ هذين الفريقين يقعان في قطبين متنافرين من كلّ الجهات نتيجة لما كانا يعيشانه في الحياة الدنيا من تنافر وتباعد من حيث الإيمان والعمل.

٣٥٦

٢ ـ أشربة الجنّة!

أوردت الآيات الشريفة أوصافا متنوعة لأشربة الجنّة ، ويظهر أنّ لشاربيها من اللذّة الروحية المعنوية ما لا يمكن وصفه أو خطّه بقلم.

فالآية (٢١) من سورة الدهر ، تصفه بالطهور :( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) .

والآيات (٤٥ ـ ٤٧) من سورة الصافات ، تصفه بالزلال واللذّة والصفاء ، وأنّه لا يؤدي لأذى ولا يذهب بالعقول :( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ) .

والآية (٥) من سورة الدهر ، تصفه بأنّه مخلوط بمادة باردة ملطفة (الكافور) :( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) .

والآية (١٧) من سورة الدهر ، تقول عنه بأنّه مخلوط بالزنجبيل :( وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ) .

وجاء في الآيات المبحوثة :( وَكَأْساً دِهاقاً ) أي : زلالا صافيا.

وفوق كلّ هذا وذاك ، فمن هو الساقي إنّه الله تعالى!! يسقيهم بيد قدرته وعلى بساط رحمته ، تقول الآية (٢١) من سورة الدهر :( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ )

اللهمّ! اشملنا بعفوك ، واسقنا من فيض شربك يا أرحم الراحمين

* * *

٣٥٧

الآيات

( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠) )

التّفسير

الندم الشديد :

رأينا في الآيات السابقة أنّها تحدثت عن بعض عقوبات الظالمين والطواغيت ، وبعض المواهب والنعم والمتعلقة بالصالحين في يوم القيامة ، وتتناول الآيات أعلاه بعض الصفات وحوادث يوم القيامة ، وتشرع بالقول بـ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً ) (١) .

وبلا شك فإنّ قيام الروح والملائكة صفّا يوم القيامة ، وعدم تكلمهم إلّا بإذنه سبحانه ، إنّما هو مثالا للأوامر الإلهية وطاعة ، كما هو حالهم قبل قيام القيامة ، فهم

__________________

(١) «يوم» ظرف متعلق بفعل «لا يملكون» ـ حسب اعتقاد كثير من المفسّرين ـ وثمّة احتمال آخر : إنّه متعلق بكل ما جاء في الآيات السابقة ، فيكون التقدير : (كل ذلك يكون يوم يقوم الروح).

٣٥٨

بأمره يعملون ولكنّ في يوم القيامة سيتجلّى امتثالهم لله أكثر وبشكل أوضح.

أمّا عن المقصود بكلمة «الروح» فقد بسط المفسّرون في كتبهم تفاسير كثيرة ، حتى وصل معناها في بعض التفسير إلى ثمانية احتمالات(١) وإليك أهم ما قيل فيه :

١ ـ هو مخلوق من غير الملائكة وأعظم منها.

٢ ـ هو أمين الوحي الإلهية جبرائيل أشرف الملائكة.

٣ ـ هو أرواح أناس يقومون مع الملائكة.

٤ ـ هو ملك عظيم الشأن ، وأشرف من جميع الملائكة قاطبة (حتى جبرائيل) : وهو الذي يصاحب الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام على الدوام.

وقد جاءت كلمة «الروح» في القرآن الكريم بصور شتى فتارة تأتي مجرّدة عن أيّة قرينة ، وغالبا ما تأتي في قبال الملائكة ، كقوله تعالى : في الآية (٤) من سورة المعارج :( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ، وفي الآية (٤) من سورة القدر :( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) .

ونلاحظ أنّ ذكر كلمة «الروح» في الآيتين أعلاه قد جاء بعد ذكر «الملائكة» ، في حين جاء ذكرها في الآيات المبحوثة قبل «الملائكة» ويمكن حمل هذا التغاير على باب ذكر العام بعد الخاص ، أو ذكر الخاص قبل العام.

وذكرت كذلك كلمة «الروح» مع الإضافة ، أو صيغة الوصف المقارن كـ «روح القدس» كما جاء في الآية (١٠٢) من سورة النحل :( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ) ، وك «الروح الأمين» كما جاء في الآية (١٩٣) من سورة الشعراء( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) .

وقد أضاف سبحانه وتعالى صفة «الروح» إلى ذاته المقدسة ، كما في الآية

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ذيل الآية المبحوثة.

٣٥٩

(٢٩) من سورة الحجر :( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) ، والآية (١٧) من سورة مريم :( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) .

وكما هو ظاهر أنّ لكلمة «الروح» في القرآن معان متفاوتة ، وقد تطرقنا لمعانيها حسب ورودها في الآيات.

وأقرب ما يمكن التعويل عليه من معاني «الروح» في الآية المبحوثة هو كونه أحد ملائكة الله العظام ، والذي يبدو من بعض الآيات أنّه أعظم من جبرائيل وبدلالة ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل»(١) .

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم : «الروح ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل وكان مع رسول الله وهو مع الأئمّة»(٢) .

وجاء في تفاسير أهل السنة ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيدي وأرجل ، ثمّ قرأ :( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا ) ، قال : هؤلاء جند وهؤلاء جند»(٣) .

(وقد بحثنا موضوع روح الإنسان وتجرّدها واستقلالها بشكل مفصل في ذيل الآية (٨٥) من سورة الإسراء ـ فراجع).

وعلى أيّة حال ، فسواء كان «الروح» من الملائكة أو من غيرهم ، فإنّه سيقف يوم القيامة مع الملائكة صفّا بانتظار أوامر الخالق سبحانه ، وسيكون هول المحشر بشكل بحيث لا يقوى أيّ من الخلق للتحدث معه ، والذين سيتكلمون أو يشفعون لا يقومون بذلك إلّا بعد إذنه جلّ شأنه ، وما واقع الكلام إلّا حمد الله وثناؤه أو التشفع لمن هم أهلا للشفاعة.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٧.

(٢) تفسير علي بن إبراهيم ، ج ٢ ، ص ٤٠٢.

(٣) تفسير الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٠٩.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511