الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135965 / تحميل: 5389
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وقد روي أنّه حينما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن هذه الآية ، قال : «نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون».

فقال الراوي : وأيّ شيء تقولون؟

فقالعليه‌السلام : «نمجد ربّنا ، ونصلّي على نبيّنا ، ونشفع لشيعتنا ، فلا يردنا ربّنا»(١) .

ونستفيد من هذه الرواية : إنّ الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام سيقفون صفّا يوم القيامة مع الملائكة والروح ، وسيكونون من المأذون لهم في الكلام والشفاعة ، وسيكون حديثهم منصبّا حول الذكر والثناء والتسبيح للباريعزوجل .

ثمّ إنّ وصف قولهم بكلمة «صوابا» للدلالة على أنّهم لا يشفعون إلّا لمن ملك مقدمات الشفاعة والتي لا تتعارض والحساب(٢) .

ويشير القرآن واصفا ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس والملائكة أجمعون يوم الفصل ، يوم عقاب العاصين وثواب المتقين ، يشير بقوله :( ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ ) .

«الحقّ» : هو الأمر الثابت واقعا ، والذي تحققه قطعي. وهذا المعنى ينطبق تماما على يوم القيامة ، لأنّه سيعطي كلّ إنسان حقّه ، إرجاع حقوق المظلومين من الظالمين ، وتتكشف كلّ الحقائق التي كانت مخفية على الآخرين فانّه بحق : يوم الحقّ ، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى.

وإذا ما التفت الإنسان إلى هذه الحقيقة (حقيقة يوم القيامة) فسيتحرك بدافع قوي نحو اللهعزوجل للحصول على رضوانه سبحانه بامتثال أوامره تعالى ولهذا يقول القرآن مباشرة :( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ) .

فجميع مستلزمات التوجه والحركة نحو الله متوفرة بعد أن بيّن طريق الحقّ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٧.

(٢) بحثنا مسألة «الشفاعة» من حيث : شروطها ، خصائصها وفلسفتها ، مع الإجابة على الإشكالات الواردة بشأنها في تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.

٣٦١

وأشار إلى معالم سبل الشيطان ، بلغ الله أوامره بواسطة الأنبياء والرسل وبالقدر الكافي ، أودع في الإنسان العقل (النّبي الباطن) ، رغّب للمتقين بالمفاز ، أنذر المجرمين عذابا أليما ، عيّن يوما لمحكمة العدل الإلهي بيّن أسلوب المحاكمة ، ولم يبق للإنسان سوى اختيار ما يتخذه إلى ربّه مآبا ، وبمحض إرادته.

و «المآب» : هو محل رجوع ، ويأتي أيضا بمعنى «الطريق».

ثمّ يؤكّد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنّه يوم بعيد أو نسيئة ، يقول القرآن إنّ عقاب المجرمين لواقع ، ويوم القيامة لقريب :( إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ) .

وما عمر الدنيا بكامله إلّا ساعة من زمن الآخرة الخالد ، وكما قيل : (كل ما هو آت قريب) ، وتقول الآيات (٥ ـ ٧) من سورة المعارج ، في هذا المجال :( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً ) .

ويقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «كل آت قريب دان»(١) .

ولم لا يكون قريبا ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال الإنسان والتي هي معه على الدوام :( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) (٢) .

وبعد أن وجّه الإنذار للناس ، يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في يوم القيامة ، حين لا ينفع ندم ولا حسرة ، إلّا من أتى الله بقلب سليم :( يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) .

وذهب بعض المفسّرين أنّ كلمة «ينظر» في الآية بمعنى «ينتظر» ، والمراد : انتظار الإنسان يوم القيامة لجزاء أعماله.

وفسّرها بعض آخر بـ : النظر في صحيفة الأعمال.

وقيل : النظر إلى ثواب وعقاب الأعمال.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٣.

(٢) العنكبوت ، ٥٤.

٣٦٢

وكل ما ذكر مبني على إهمال مسألة حضور وتجسّم الأعمال في يوم القيامة ، ومعه ينتفي أيّ دور للتأويلات المذكورة.

وبنظرة إلى الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الشريفة يتبيّن لنا أنّ أعمال الإنسان تتجسم في هذا اليوم بصورة معينة ، وتظهر للإنسان فينظر إليها على حقيقتها فيسّر ويفرح عند رؤيته لأعماله الصالحة ، ويتألم ويتحسر عن رؤيته لأعماله السيئة.

وأساسا فإنّ تجسّم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت للمطيعين وأشدّ عقوبة للعاصين.

كما نجد في الآية (٤٩) من وسورة الكهف :( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) ، وكذا في آخر سورة الزلزال :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) .

في جملة «ما قدمت يداه» تغليب ، لأنّ كل إنسان يؤدي أعماله غالبا بيديه ، ولكنه لا يعني الحصر ، بل يشمل جميع ما ارتكبته الجوارح من لسان وعين واذن ، في الحياة الدنيا.

وينبه القرآن الناس قبل تحقق ذلك اليوم :( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) (١) .

وعلى أيّة حال ، فحينما يرى الكفّار أعمالهم مجسمة أمامهم سيهالهم الموقف وتصيبهم الحسرة والندامة ، حتى يقولون يا ليتنا لم نتجاوز منذ البداية مرحلة التراب في خلقنا ، وعند ما خلقنا في الدنيا ، ثمّ متنا وتحولنا إلى التراب ، فيا ليتنا بقينا على تلك الحال ولم نبعث من جديد!

فهم يعلمون بأنّ التراب بات خيرا منهم ، لأنّه : تغرس به حبّة واحدة فيعطي سنابلا ، وهو مصدر غني للمواد الغذائية والمعدنية والبركات الاخرى ، مهد لحياة

__________________

(١) الحشر ، ١٨.

٣٦٣

الإنسان ، ومع ما له من فوائد جمّة فهو لا يضرّ قط ، بعكس ما كانوا عليه في حياتهم ، فرغم عدم صدور أيّة فائدة منهم ، فليس فيهم إلّا الضرر والأذى!

نعم ، فقد يصل الأمر بالإنسان ، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات ، لأنّ يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة ، لما بدر منه كفر وذنوب!

وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين ، وشدّة تأثرهم وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم ، يوم الفزع الأكبر ، فتقول الآية (٥٦) من سورة الزمر :( يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) .

وتقول الآية (١٢) من سورة السجدة :( فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ) .

أو ما يقوله كل فرد منهم ـ كما جاء في الآية المبحوثة ـ( يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) .

* * *

بحث

النظرة الصائبة لمسألة «الجبر والإختيار»

!! تعتبر مسألة (الجبر والإختيار) من أقدم المسائل المبحوثة بين أوساط العلماء ، يرى فبعضهم حرية اختيار الإنسان ، ومنهم من يرى بأنّ الإنسان مجبور في أعماله ، وكلّ منهما يمتلك جملة من الأدلة التي أوصلته لما يرى.

ومن اللطيف أنّ كلا الفريقين ، يقبلون عمليا بأنّ الإنسان مختار في أفعاله.

وبعبارة أخرى : إنّ البحث والنقاش الدائر بين العلماء لا يتعدى دائرة البحث العلمي ، أمّا على الصعيد العملي فالكل متفقون على حرية الإختيار للإنسان.

وهذا يظهر لنا بوضوح بأنّه أصل حرية الإرادة والإختيار من الأصول التي انطوت عليها الفطرة الإنسانية ، ولولا الوساوس المختلفة لا تفق الجميع على حقيقة حرية الإرادة في الإنسان.

٣٦٤

إنّ الوجدان النوعي والفطرة الإنسانية عموما من أوضح أدلة الإختيار ، وقد تجلت بصور متنوعة في حياة لإنسان.

وعليه فإذا كان الإنسان لا يقبل بالاختيار ويعتبر نفسه مجبورا في أعماله فلما ذا إذن :

١ ـ يندم على بعض الأعمال التي يقوم بها أو لم ينجزها ، ويضع تجربته كعبرة ليعتبر به مستقبلا ، فإذا لم يكون مختارا ، فلما ذا الندم؟!

٢ ـ يلام ويوبّخ كلّ من يسيء ، فلما ذا يلام إن كان مجبورا في فعله؟!

٣ ـ يمدح ويحترم صاحب العمل الصالح.

٤ ـ يسعى الناس جاهدين لتربية وتعليم أبنائهم ليضمنوا لهم مستقبلا زاهرا ، وإذا كانت الأعمال جبرية ، فلما ذا هذا التعليم.

٥ ـ يسعى العلماء قاطبة لرفع المستوى الأخلاقي في المجتمع؟

٦ ـ يتوب الإنسان على ما فعل من ذنوب ، أو هل للجبر من توبة؟!

٧ ـ يتحسر الإنسان على تقصيره فيما يطلب منه؟

٨ ـ يحاكم المجرمون والمنحرفمون في كل دول العالم ، ويحقق معهم حسب قوانينهم؟

٩ ـ تضع جميع الأمم (المؤمنة أم الكافرة) العقوبات للمجرمين؟

١٠ ـ من يقول بالجبر يصرخ متغنيا في وجه المحاكم لمعاقبة من اعتدى عليه؟

والخلاصة : إن لم يكن للإنسان اختيار ، فما معنى الندم؟ ولماذا يلام ويوبخ؟

أمن العقل أن يلام الإنسان على فعل فعله قهرا؟! ثمّ لماذا يمدح أهل الخير والصلاح؟ فإن كان ما فعلوه خارج عن إرادتهم فلا معنى لتشجيعهم.

والقبول بوجود تأثير للتربية والتعليم على سلوك الإنسان يفقد (الجبر) معناه تماما ، وكذا الحال بالنسبة للمسائل الأخلاقية ، فلا مفهوم لها بدون الاعتراف أولا

٣٦٥

بحرية الإنسان

ثمّ إن كنّا قد جعلنا على أعمالنا جبرا ، فهل يبق للتوبة من معنى؟! ولم الحسرة والحال هذه؟! بل إنّ محاكمة الظالم ظلم واضح ، والأكثر ظلما معاقبته؟!! وكلّ ما ذكر يدلل على أنّ حرية الإرادة وعدم الجبر أصل تحكم به الفطرة الإنسانية ، وهو ما ينسجم تماما والوجدان البشري العام ، والكل يعمل على ضوء هذا الأصل ، ولا فرق في ذلك بين عوام الناس أو خواص العلماء والفلاسفة ، ولا يستثنى من ذلك حتى الجبريين أنفسهم ، وكما قيل في هذا الجانب : (الجبريون اختياريون من حيث لا يعلمون).

والقرآن الكريم حافل بما يؤكّد هذه الحقيقة ، ونظرا لكثرة الآيات التي تؤكّد على حرية إرادة الإنسان ـ مضافا الى الآية المبحوثة :( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ) ـ سنكتفي بذكر ثلاث آيات من القرآن الحكيم.

ففي الآية (٣) من سورة الدهر :( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) .

وفي الآية (٢٩) من سورة الكهف ، يقول تعالى :( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) .

وجاء في الآية (٢٩) من سورة الدهر أيضا :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) .

الحديث حول (الجبر والتفويض) طويل جدّا ، وقد كتبت في ذلك كتب ومقالات عديدة ، وما ذكرناه لا يتعدى كونه إلقاء نظرة سريعة ومختصرة على ضوء (القرآن) و (الوجدان) ، ونختم الحديث بذكر ملاحظة مهمّة وهي : إنّ الدوافع النفسية والاجتماعية قد اختلطت مع الاستدلال الفلسفي عند الكثيرين ممن يقولون بالجبر.

فكثير ممن اعتقدوا بالجبر ، أو (القضاء والقدر) بمعناه الجبري إنّما توسلوا به للفرار من المسؤولية : أو أنّهم جعلوها غطاء لفشلهم الناتج عن تقصيرهم

٣٦٦

وتساهلهم في أداء وظائفهم ، أو جعلوها مبررا لاتباع أهوائهم ونزواتهم الشيطانية.

استغل المستعمر ـ في بعض الأحيان ـ هذه المقولة ، وجدّ على نشر وتأكيد هذه العقيدة الباطلة لتحكيم سيطرته على الرقاب ، بعد أن يوهم الناس بأنّهم مجبورون من قبل الله على أن يعيشوا تحت سطوة الحاكم الموجود قضاء وقدرا ليأمن المستعمر من المقاومة ، يكسب رضاهم وتسليمهم له!

فالاعتقاد بهذا الرأي يعني تبرير كلّ ما يقوم به الطغاة والجناة ، وتبرير جميع ذنوب المذنبين ، وبالنتيجة : لا يبقى فرق بعد بين الصالح والطالح ، والمطيع والعاصي!!

اللهمّ! قنا من السقوط في زلل العقائد المنحرفة

اللهمّ! أنت المأمول والمرتجى يوم تكون جهنّم للطاغين مرصادا ، والجنّة للمتقين مفازا

اللهمّ! يا واسع المغفرة ، لا تخيبنا يوم نرى أعمالنا مجسمة أمامنا

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النبأ

* * *

٣٦٧
٣٦٨

سورة

النّازعات

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وأربعون آية

٣٦٩
٣٧٠

«سورة النّازعات»

محتوى السورة :

تبحث هذه السورة كسابقتها مسائل «المعاد» ، وتتلخص مواضيعها عموما بستة أقسام :

١ ـ التأكيد مرارا على مسألة المعاد وتحققه الحتمي.

٢ ـ الإشارة إلى أهوال يوم القيامة.

٣ ـ عرض سريع لقصة موسىعليه‌السلام مع الطاغي فرعون ، تسلية للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وإنذارا للمشركين الطغاة ، وإشارة إلى ما يترتب على إنكار المعاد من سقوط في مستنقع الرذيلة.

٤ ـ طرح بعض النماذج المظاهر قدرة الباري سبحانه في السماء والأرض ، للاستدلال على إمكان المعاد والحياة بعد الموت.

٥ ـ تعود الآيات مرّة اخرى ، لتعرض بعض حوادث اليوم الرهيب ، وما سيصيب الطغاة من عقاب وما سينال الصالحون من ثواب.

٦ ـ وفي النهاية ، يأتي على خفاء تاريخ وقوع يوم القيامة ، والتأكيد على حتمية وقوعه وقربه.

وسميت السورة بـ (النازعات) لورود هذه الكلمة في أوّل آية ، وبها تبدأ السورة من بعد البسملة.

فضيلة السورة :

وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «من قرأ سورة والنازعات لم يكن حبسه

٣٧١

وحسابه يوم القيامة إلّا كقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنّة»(١) .

وعن الإمام الصادق ، أنّه قال : «من قرأها لم يمت إلّا ريّان ، ولم يبعثه الله إلّا ريّان ، ولم يدخله الجنّة إلّا ريّان»(٢) .

وليس غربيا أن ينال الإنسان بكل ما ذكر جزاء من عند الله ، إذا ما أمعن في محتوى السورة وتدبّر إشاراتها الموقظة للنفوس الغافلة ، والمعرّفة بوظائف الإنسان في حياته ، فمن لم يكتف بترديد ألفاظ السورة ، وعمل بها بعد الإمعان والتدبر فحري أن يجزى بما وعد الحق.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٨.

(٢) المصدر السابق.

٣٧٢

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) )

التّفسير

القسم بالملائكة :

جاء القسم القرآني بخمسة أشياء مهمّة ، لتبيان حقيقة وحتمية تحقق يوم القيامة «المعاد» ، فيقول :

( وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ) .

وقبل البدء بالتّفسير لا بدّ من توضيح معاني بعض الكلمات

«النازعات» : من (النوع) ، ونزع الشيء جذبه من مقرّه ، كنزع القوس عن كبده ، ومنه نزع العداوة والمحبّة من القلب(١) . وبذلك تشمل الأمور المعنوية أيضا.

(الغرق) : بالفتح (على وزن الشفق) ، هو الرسوب في الماء ، (على قول كثير من أهل اللغة) ، ويأتي كذلك فيمن غمره البلاء.

__________________

(١) مفردات الرغب ، مادة (نزع).

٣٧٣

و «الغرق» : (على وزن الفرق) ، يقول عنه (ابن منظور) في لسان العرب : إنّه اسم أقيم مقام المصدر الحقيقي ، بمعنى الإغراق ، والإغراق بالنزع هو : أن يباعد السهم ويسحب القوس إلى آخر نقطة ممكنة ، ويضرب مثلا للغو والإفراط.

ومن هنا يتّضح أنّ المعنى المقصود في هذه الآية ليس الغرق في الماء ، بل هو القيام بعمل ما إلى أقصى حدّ ممكن.(١)

«النّاشطات» : من (النشط) ، هي العقد التي يسهل حلها ، وبئر (إنشاط) : هي القريبة القعر يخرج دلوها بجذبة واحدة ، ويقال للإبل التي تتحرك من غير أن يحدى لها (النشيطة) فيكون المعنى عموما : هو التحرك بسهولة.

«السابحات» : من (السبح) ، وهو الحركة السريعة في الماء أو الهواء ولهذا تطلق السابحات على : السباحة في الماء ، الحركة السريعة للخيل ، وأيّة حركة سريعة في عمل ما و «التسبيح» : هو تنزيه الله تعالى من كل عيب ونقص ، وأصله : الحركة السريعة في عبادة الله تعالى.

«السابقات» : من (السبق) ، وهو التقدم في السير ، وبما أنّ السبق لا يتمّ إلّا بالحركة الأسرع فهو يتضمّن معنى الشرعة كذلك.

«المدبرات» : من (التدبير) ، وهو التفكير في عاقبة الأمور ، وأرادت الآية القيام بالأعمال على أحسن وجه.

وبعد هذه التعريفات الموجزة نشرع بالتفسير :

إنّ القسم بهذه الأمور الخمسة قد لفّته هالة من الإبهام والغموض وتبعث على التأمل والتعمق أكثر لمعرفة المراد من هذه الأقسام وأنّها لمن تشير ، وأي شيء تقصد؟

وقد عرضت تفاسير مختلفة ، وقيل الكثير بخصوص هذا الموضوع ، إلّا أنّ

__________________

(١) راجع : لسان العرب ، تفسير مجمع البيان ، تفسير الكشّاف ، ومجمع البحرين.

٣٧٤

معظمها تدور حول ثلاثة محاور :

الأوّل : إنّ القسم المذكور يتعلق بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفّار والمجرمين ، ولكون تلك الأرواح قد رفضت التسليم للحق ، فيكون فصلها عن أجسادها بشدّة.

ويتعلق كذلك ، بالملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين برفق ويسر ، وسرعة في إتمام الأمر.

والملائكة التي تسرع في تنفيذ الأوامر الإلهية.

ثمّ الملائكة التي تتسابق في تنفيذ الأوامر الإلهية.

وأخيرا ، يتعلق القسم بالملائكة التي شؤون العالم بأمره سبحانه وتعالى.

الثّاني : تعلق القسم بالنجوم التي تغرب من أفق لتنتقل إلى أفق آخر وبحركة دائبة لا تعرف السكون.

فبعض منها تمشي الهوينا ، والبعض الآخر واسعة الخطوات.

وتراها سابحة في السماء.

وتتسابق فيما بينها.

وأخيرا ، تشترك في تدبير امور الكون ، بما لها من تأثيرات ، (كنور الشمس وضياء القمر بالنسبة إلى الأرض).

الثّالث : تعلق القسم بالمجاهدين في سبيل الله ، أو بخيولهم الخارجة من أوطانهم بعزم شديد لتجول في ميادين القتال بنشاط وتمكن.

و تتسابق فيما بينها مع الجول والتسابق تعمل على إرادة وتدبير امور الحرب.

وقد جمع بعض المفسّرين هذه الآراء ، فبعضها مقتبس من الأوّل ، والقسم الآخر من الثّاني أو الثالث ، لمعنى خاص ، ولكنّ الأصل في كلّ ذلك يعود إلى

٣٧٥

التّفاسير الثّلاثة المذكورة(١) .

ولا يوجد أيّ تضاد بين كلّ ما ذكر ، ويمكن أن تكون الآيات قد رمزت إلى كلّ هذه المعاني وعموما يبدو أنّ التفسير الأوّل أقرب من غيره ، للأسباب التالية :

أوّلا : تناسبه مع يوم القيامة هو ممّا تدور السورة حوله عموما.

ثانيا : نسبة الترابط الموجودة بينه وبين الآيات المشابهة للآيات المبحوثة في أوّل سورة المرسلات.

ثالثا : ملائمة تفسير :( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) للملائكة التي تدبّر شؤون العالم بأمر الله ، والذين لا يتخلفون ولو لحظة واحدة في تنفيذ ما يؤمرون به ، كما تشير الآية (٢٧) من سورة الأنبياء إلى ذلك :( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) ، وخصوصا أنّ (تدبير الأمر) ورد بصيغة مطلقة من دون أيّ قيد أو شرط.

وعلاوة على كلّ ما تقدم فثمّة روايات في تفسير الآيات المبحوثة يتناسب معها التفسير الأوّل ، ومن جملتها :

ما روي عن عليعليه‌السلام في تفسير( النَّازِعاتِ غَرْقاً ) ، إنّه قال : «إنّها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفّار عن أبدانهم بشدّة كما يغرق النازع بالقوس فيبلغ بها غاية المسد»(٢) .

وروي عنهعليه‌السلام في تفسير : «والناشطات» و «السابحات» و «فالمدبرات» ما

__________________

(١) وثمّة رأي يقول : المقصود بهذا القسم ، تلك الحركات الطبيعية والإرادية والصناعية للموجودات ، فمثلا : تتحرك النطفة حركة طبيعية ، فتنفصل من صلب الأب لتستقر في رحم الام ، ثمّ تديم مسيرها بهدوء ، ولتسرع بعد ذلك ، ثمّ تبدأ المواد الحياتية بالتسابق في النطفة حتى يتشكل في النهاية إنسان كامل الهيئة لتقوم بتدبيره ، وكذا الحال بالنسبة للحركات الإرادية حيث يبدأ الإنسان باتخاذ قرار معين وبعده يتحرك بهدوء لتجسيد اولى خطوات التنفيذ ، ثمّ يسرع الخطوات ، ويتسابق مع الآخرين ، ويقوم بكلّ ذلك لتدبير أمره وحياته الاجتماعية والوسائل الصناعية لا تبتعد عن هذا التسلسل ، كما في المراحل التي تطويها الطائرة في مسيرها. (إلّا أنّ هذا التفسير يفتقد الدليل).

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٩٧ ، الحديث ٤.

٣٧٦

يشبه ذلك(١) .

ويمكن توجيه هذا التفسير بشكل أتم ، إذا ما اعتبرنا مسألة قبض أرواح المؤمنين والكفّار مصداق من مصاديق التّفسير وليس كلّ محتواه ، وعليه فالملائكة هم المقصودون بالأقسام المذكورة بصورة عامّة ، ويتمّ تنفيذ الأمر الإلهي من قبلهم على خمس مراحل : الحركة الشديدة الناتجة من عظمة صدور الأمر الإلهي الشروع بالتنفيذ بخطوات هادئة الإسراع في خطوات التنفيذ

فالتسابق ومن ثمّ يكون تدبير الأمر.

وعلى أيّة حال ، فقبض الأرواح من قبل الملائكة مصداق لمفهوم كلّي ، ويعتبر الأرضية الممهدة لبقية البحوث التي تتناولها السورة حول «المعاد».

* * *

ملاحظتان

ويبقى ، بعد كلّ ما تقدم ، سؤالان :

الأوّل : ما سبب مجيء «النازعات» و «الناشطات» بصيغة المؤنث؟

الثّاني : كان القسم في الآيات الثلاثة الاولى بـ «الواو» ، وفي الآيتين الرابعة والخامسة استعملت «الفاء» عوضا عن «الواو» فهل هي للعطف أم للتفريع؟

الجواب الأوّل : «النازعات» جمع (نازعة) ، وهي الطائفة أو المجموعة من الملائكة التي تعمل على تنفيذ ما أمرت به ، وكذا الحال بالنسبة لـ «الناشطات» وبقية صيغ الجمع الاخرى وبما أنّ (الطائفة) مؤنث لفظي ، فقد جاء الجمع بصيغة المؤنث السالم.

الجواب الثّاني : يمكننا القول : أنّ التسابق الحاصل هو نتيجة الحركة السريعة

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٧ ـ ٨ ـ ١٢.

٣٧٧

المقصودة في «السابحات» ، وتدبير الأمور نتيجة لمجموع هذه الحركة.

وآخر ما ينبغي قوله في هذا المجال : إنّ القسم الوارد في الآيات الخمسة الاولى من السورة ، إنّا هو قسم على أمر محذوف (وهو جواب القسم) ، ولكنّ قرينة المقام وما تشير إليه الآيات التالية يبيّن البعث والحشر والقيامة ، وحتمية تحققها ، فيكون التقدير لجواب القسم : (لتبعثن يوم القيامة ولتحشرنّ ولتحاسبن).

* * *

٣٧٨

الآيات

( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) )

التّفسير

صيحة الموت المرعبة!

بعد أن أكّد القرآن الكريم على حقيقة القيامة وحتمية وقوعها في الآيات السابقة ، تتعرض الآيات أعلاه لبعض ما يصاحب يوم القيامة من علامات وأحداث ، فتقول :( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ) ، أي : يوم تحدث الزلزلة العظيمة المهولة.

ثمّ :( تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) .

«الراجفة» : من (الرجف) ، بمعنى الاضطراب والتزلزل ، ولذا يقال للأخبار التي توقع الاضطراب بين أوساط الناس بـ (الأراجيف).

«الرادفة) : من (الردف) ، وهو الشخص أو الشيء الذي يأتي بعد نظيره تتابعا ،

٣٧٩

ولذا يقال لمن يركب خلف آخر ، (رديفه).

ويعتقد كثير من المفسّرين بأنّ «الراجفة» : هي الصيحة ونفخة الصور الاولى التي تعلن عن موت جميع الخلائق ، و «الرادفة» هي الصيحة ونفخة الصور الثّانية التي يبعث فيها الخلق مرّة اخرى ليعيشوا يوم القيامة(١) .

وعليه ، فالآيتان تشيران إلى نفس ما أشارت إليه الآية (٦٨) من سورة الزمر :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ) .

وقيل : «الراجفة» : إشارة إلى الزلزلة التي تدمّر الأرض ، و «الرّادفة» : إشارة إلى الزلزلة التي تدمّر السماوات

والتّفسير الأوّل كما يبدو أقرب للصواب.

وتأتي الآية الاخرى لتقول :( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ ) .

فقلوب العاصين شديدة الاضطراب خوفا من الحساب والجزاء.

«واجفة» : من (الوجف) ، بمعنى سرعة السير ، و (أوجفت البعير) : حملته على الإسراع ، وتستعمل أيضا للاضطراب الشديد لما يصاحبه من اهتزاز وإسراع.

ويكون التزلزل الداخلي من الشدّة بحيث يظهر على وجوه كلّ المذنبين ، ولذا يقول القرآن :( أَبْصارُها خاشِعَةٌ ) (٢) .

فيبدو الاضطراب والخوف ظاهرا على أعين المذنبين ، وتتوقف حركتها وكأنّها قد فقدت حاسة النظر لما أصابها من خوف شديد.

وفي الآية التالية ينتقل الحديث من أخبار يوم القيامة إلى الحياة الدنيا :

__________________

(١) ينبغي ملاحظة أنّ فعل (رجف) قد يأتي متعديا وقد يأتي لازما ، فعلى الحالة الاولى تكون «الراجفة» بمعنى الزلزلة العظيمة التي تزلزل كلّ الأرض والموجودات ، وعلى الحالة الثّانية تعني الأرض دون غيرها ـ فتأمل.

(٢) يعود ضمير «أبصارها» إلى القلوب ، التي تشير هنا إلى معنى (النفوس والأرواح) ، وترجع الإضافة إلى أنّ مركز تأثيرات حواس الإنسان إنّما من روحه ، وما يظهر من اضطراب وخوف على الأعين هو نتيجة لما يسيطر على الروح من خوف.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

كانت ربّما استفيد الندب إليها من مثل قوله تعالى:( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم ) المؤمن: ٨٢، وقوله:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) الآية ١٢٢ من السورة إلّا أنّ إرادتها من قوله:( السائحون ) تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.

وثالثاً: أنّ هذه الصفات الشريفة هي الّتى يتمّ بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعيّ بالجنّـة المستتبع للبشارة الإلهيّـة والنبويّـة وهى الملازمة للقيام بحقّ الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحقّ على نفسه.

قوله تعالى: ( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى ) إلى آخر الآيتين، معنى الآية ظاهر غير أنّه تعالى لمّا ذكر في الآية الثانية الّتى تبيّن سبب استغفار ابراهيم لأبيه مع كونه كافراً أنّه تبرّأ منه بعد ذلك لمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله، فدلّ ذلك على أنّ تبيّن كون المشركين أصحاب الجحيم إنّما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازماً لكونهم أعداء لله فإذا تبيّن للنبىّ والّذين آمنوا أنّ المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروريّ وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغواً لا يترتّب عليه أثر وخضوع الإيمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.

وذلك أنّه تارة يفرض الله تعالى عدوّاً للعبد مبغضاً له لتقصير من ناحيته وسوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد متذلّلاً غير مستكبر، وتارة يفرض العبد عدوّاً لله محارباً له مستكبراً مستعلياً كأرباب الجحود والعناد من المشركين، والعقل الصريح حاكم بأنّه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلّا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد ويتلبّس بلباس الذلّة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول، ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للأخذ والتناول إلّا الهزؤ بمقام الربوبيّـة واللعب بمقام العبوديّـة وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.

وفي الآية نفى الجواز بنفى الحقّ بدليل قوله:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا ) أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبيّن لهم كذا وكذا، وقد تقدّم في ذيل قوله

٤٢١

تعالى:( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) الآية ١٧ من السورة أنّ حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحقّ.

والمعنى أنّ النبيّ والّذين آمنوا بعد ما ظهر وتبيّن بتبيين الله لهم أنّ المشركين أعداء لله مخلّدون في النار لم يكن لهم حقّ يملكون به أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى منهم، وأمّا استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنّه ظنّ أنّه ليس بعدوّ معاند لله وإن كان مشركاً فاستعطفه بوعد وعدها إيّاه فاستغفر له فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله معاند على شركه وضلاله تبرّء منه.

وقوله:( إنّ إبراهيم لأوّاه حليم ) تعليل لوعد إبراهيم واستغفاره لأبيه بأنّه تحمّل جفوة أبيه ووعده وعداً حسناً لكونه حليماً واستغفر له لكونه أوّاهاً، والأوّاه هو الكثير التأوّه خوفاً من ربّه وطمعاً فيه.

قوله تعالى: ( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) إلى آخر الآيتين الآيتان متّصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهى عن الاستغفار للمشركين.

أمّا الآية الاُولى أعني قوله:( وما كان الله ليضلّ ) الخ ففيه تهديد للمؤمنين بالإضلال بعد الهداية إن لم يتّقوا ما بيّن الله لهم أن يتّقوه ويجتنبوا منه، وهو بحسب ما ينطبق على المورد أنّ المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودّد إليهم فعلى المؤمنين أن يتّقوا ذلك وإلّا فهو الضلال بعد الهدى، وعليك أن تذكر ما قدّمناه في تفسير قوله تعالى:( اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني ) المائدة: ٣ في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب الواقعة في السور المتقدّمة.

والآية بوجه في معنى قوله تعالى:( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) الأنفال: ٥٣ وما في معناه من الآيات، وهى جميعاً تهتف بأنّ من السنّة الإلهيّـة أن تستمرّ على العبد نعمته وهدايته حتّى يغيّر هو ما عنده بالكفران والتعدّى فيسلب الله منه النعمة والهداية.

٤٢٢

وأمّا الآية الثانية أعنى قوله:( إنّ الله له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولىّ ولا نصير ) فذيلها بيان لعلّة الحكم السابق المدلول عليه بالآية السابقة وهو النهى عن تولّى أعداء الله أو وجوب التبرّى منهم إذ لا ولىّ ولا نصير حقيقة إلّا الله سبحانه وقد بيّنه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم أن يقصروا التولّى عليه تعالى أو من أذن في تولّيهم له من أوليائه وليس لهم أن يتعدّوا ذلك إلى تولّى أعدائه كائنين من كانوا.

وصدر الآية بيان لسبب هذا السبب وهو أنّ الله سبحانه هو الّذى يملك كلّ شئ وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كلّ أمر فهو الولىّ لا ولىّ غيره.

وقد ظهر من عموم البيان والعلّة في الآيات الأربع أنّ الحكم عامّ وهو وجوب التبرّى أو حرمة التولّى لأعداء الله سواء كان التولّى بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء كان العدوّ مشركاً أو كافراً أو منافقاً أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بايات الله أو المصرّين على بعض الكبائر كالمرابى المحارب لله ورسوله.

قوله تعالى: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين ) إلى آخر الآيتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الّذى تعسر فيه الحياة لابتلاء الإنسان بما تشقّ معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حرّ شديد أو غير ذلك، والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحقّ، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أنّ المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرّجاً من العسرة والمشقّة الّتى واجهتهم في مسيرهم.

والتخليف - على ما في المجمع - تأخير الشئ عمّن مضى فأمّا تأخير الشئ عنك في المكان فليس بتخليف، وهو من الخلف الّذى هو مقابل لجهة الوجه يقال، خلّفه أي جعله خلفه فهو مخلّف. انتهى والرحب هو السعة الّتى تقابل الضيق، وبما رحبت أي برحبها فما مصدريّة.

و الآيتان وإن كانت كلّ واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الاُخرى

٤٢٣

فالاُولى تبيّن التوبة على النبيّ والمهاجرين والأنصار والثانية تبيّن توبة الثلاثة المخلّفين مضافاً إلى أنّ نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الاُولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم، وأهل الآية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون.

وبالجملة الآيتان مختلفتان غرضاً ومدلولاً غير أنّ السياق يدلّ على أنّهما مسوقتان لغرض واحد ومتّصلتان كلاماً واحداً تبيّن فيه توبته تعالى للنبىّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا، ومن الدليل عليه قوله:( لقد تاب الله على النبيّ - إلى أن قال -وعلى الثلاثة ) الخ فالآية الثانية غير مستقلّة عن الاُولى بحسب اللفظ وإن استقلّت عنها في المعنى، وذلك يستدعى نزولهما معاً وتعلّق غرض خاصّ بهذا الاتّصال والامتزاج.

ولعلّ الغرض الأصلىّ بيان توبة الله سبحانه لاُولئك الثلاثة المخلّفين وقد ضمّ إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتّى للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم وزوال تميّزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتّى يعود الجميع على نعت واحد وهو أنّ الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.

وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فإنّ الله سبحانه يبدء بذكر توبته على النبيّ والمهاجرين والأنصار ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ) وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) فليس إلّا أنّ الكلام مسوق على منهج الإجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالاً ثمّ اُشير إلى حال كلّ من الفريقين على حدته فذُكرت عند ذلك توبته الخاصّـة به.

ولو كانت كلّ واحدة من الآيتين ذات غرض مستقلّ من غير أن يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكراراً من غير نكتة ظاهرة.

على أنّ في الآية الاُولى دلالة واضحة على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له في ذلك ذنب

٤٢٤

ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فإنّ في الكلام مدحاً للمهاجرين والأنصار باتّباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يزغ قلبه ولا كاد أن يزيغ حتّى صار متّبعاً يقتدى به ولو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سائر المذكورين وجه ظاهر.

فيؤول معنى الآية إلى أنّ الله - اُقسم لذلك - تاب ورجع برحمته رجوعاً إلى النبيّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا فأمّا توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين والأنصار فإنّهم اتّبعوا النبيّ في ساعة العسرة وزمانها - وهو أيّـام مسيرهم إلى تبوك - اتّبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحقّ بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتّبعوه تاب الله عليهم إنّه بهم لرؤوف رحيم.

وأمّا الثلاثة الّذين خلّفوا فإنّهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ووسعت - وكان ذلك بسبب أنّ الناس لم يعاشروهم ولا كلّموهم حتّى أهلهم فلم يجدوا أنيساً يأنسون به - وضاقت عليهم أنفسهم - من دوام الغمّ عليهم - و أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه بالتوبة والإنابة فلمّا كان ذلك كلّه تاب الله عليهم وانعطف ورجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم إنّه هو التوّاب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثمّ بقبول تلك التوبة - والرحيم بالمؤمنين.

وقد تبيّن بذلك كلّه أوّلاً: أنّ المراد بالتوبة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محض الرجوع إليه بالرحمة، ومن الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى اُمّته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة عليه فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواسطة في نزول الخيرات والبركات إلى اُمّته.

وأيضاً فإنّ من فضله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن: كلّما ذكر اُمّته أو الّذين معه بخير أفرده من بينهم وصدر الكلام بذكره تشريفاً له كما في قوله:( آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون ) البقرة: ٢٨٥ وقوله:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) التوبة ٢٦، وقوله:( لكن الرسول والّذين آمنوا معه جاهدوا ) التوبة ٨٨ إلى غير ذلك من الموارد.

وثانياً: أنّ المراد بما ذكر ثانياً وثالثاً من التوبه بقوله:( ثمّ تاب عليهم ) في

٤٢٥

الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالاً بقوله:( لقد تاب الله ) .

وثالثاً: أنّ المراد بالتوبة في قوله:( ثمّ تاب عليهم ) في الموضعين رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير والتوفيق فقد ذكرنا مراراً في الأبحاث السابقة أنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الربّ تعالى، وأنّه يرجع إليه بالتوفيق وإفاضة رحمة الهداية وهو التوبة الاُولى منه فيهتدى العبد إلى الاستغفار وهو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول توبته وغفران ذنوبه وهو التوبة الثانية منه تعالى.

والدليل على أنّ المراد بها في الموضعين ذلك أمّا في الآية الاُولى فلأنّه لم يذكر منهم فيها ذنباً يستغفرون له حتّى تكون توبته عليهم توبة قبول، وإنّما ذكر أنّه كان من المتوقّع زيغ قلوب بعضهم وهو يناسب التوبة الاُولى منه تعالى دون الثانية، وأمّا في الآية الثانية فلأنّه ذكر بعدها قوله:( ليتوبوا ) وهو الاستغفار، اُخذ غاية لتوبته تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلّا التوبة الاُولى منه.

وربّما أيّد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم:( إنّه بهم رؤوف رحيم ) حيث لم يذكر من أسمائه ما يدلّ بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم توبة بمعنى الاستغفار.

ورابعاً: أنّ المراد بقوله في الآية الثانية:( ليتوبوا ) توبة الثلاثة الّذين خلّفوا المترتّب على توبته تعالى الاُولى عليهم، فالمعنى ثمّ تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة فيتوب عليهم ويغفر لهم إنّه هو التوّاب الرحيم.

فان قلت: فالآية لم تدلّ على قبول توبتهم وهذا مخالف للضرورة الثابتة من جهة النقل أنّ الآية نزلت في توبتهم.

قلت: القصّة ثابتة نقلاً غير أنّها لا توجد دلالة في لفظ الآية إلّا أنّ الآية تدلّ بسياقها على ذلك فقد قال تعالى قى مقام الإجمال:( لقد تاب الله ) وهو أعمّ بإطلاقه من التوبة بمعنى التوفيق وبمعنى القبول، وكذا قوله بعد:( إنّ الله هو التوّاب الرحيم ) وخاصّـة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله:( وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه ) فإذا كانوا أقدموا على التوبة ليأخذوا ملجاً من الله يأمنون فيه وقد هداهم

٤٢٦

الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال أن يردّهم الله من بابه خائبين وهو التوّاب الرحيم، وكيف يستقيم ذلك؟ وهو القائل عزّ من قائل:( إنّما التوبة على الله للّذين يعملون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب فاُولئك يتوب الله عليهم ) النساء: ١٧.

وربّما قيل: إنّ معنى( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) ثمّ سهّل الله عليهم التوبة ليتوبوا. وهو سخيف. وأسخف منه قول من قال: إنّ المراد بالتوبة في( ليتوبوا ) الرجوع إلى حالتهم الاُولى قبل المعصية. وأسخف منه قول آخرين: إنّ الضمير في( ليتوبوا ) راجع إلى المؤمنين والمعنى ثمّ تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأنّ الله قابل التوب.

وخامساً: أنّ الظنّ يفيد في الآية مفاد العلم لا لدلالة لفظيّـة بل لخصوص المورد.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين ) الصدق بحسب الأصل مطابقة القول والخبر للخارج، ويوصف به الإنسان إذا طابق خبره الخارج ثمّ لمّا عدّ كلّ من الاعتقاد والعزم - الإرادة - قولاً توسّع في معنى الصدق فعدّ الإنسان صادقاً إذا طابق خبره الخارج وصادقاً إذا عمل بما اعتقده وصادقاً إذا أتى بما يريده ويعزم عليه على الجدّ.

وما في الآية من إطلاق الأمر بالتقوى واطلاق الصادقين وإطلاق الأمر بالكون معهم - والمعيّة هي المصاحبة في العمل وهو الاتّباع - يدلّ على أنّ المراد بالصدق هو معناه آلوسيع العامّ دون الخاصّ.

فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى واتّباع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وهو غير الأمر بالاتّصاف بصفتهم فإنّه الكون منهم لا الكون معهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ) إلى آخر الآيتين الرغبة ميل خاصّ نفسانيّ والرغبة في الشئ الميل إليه لطلب منفعة فيه، والرغبة عن الشئ الميل عنه بتركه والباء للسببيّـة فقوله:( ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) معناه وليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازى وفي تعب الأسفار ودعثائها ويقعدوا

٤٢٧

للتمتّع من لذائذ الحياة، والظمأ العطش، والنصب التعب والمخمصة المجاعة، والغيظ أشدّ الغضب، والموطئ الأرض الّتى توطأ بالأقدام.

والآية تسلب حقّ التخلّف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل المدينة والأعراب الّذين حولها ثمّ تذكر أنّ الله قابل هذا السلب منهم بأنّه يكتب لهم في كلّ مصيبة تصيبهم في الجهاد من جوع وعطش وتعب وفي كلّ أرض يطئونها فيغيطون به الكفّـار أو نيل نالوه منهم عملاً صالحاً فإنّهم محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين، وهذا معنى قوله:( ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظمأ ) الخ.

ثمّ ذكر أنّ نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة وكذا كلّ واد قطعوه فإنّه مكتوب لهم محفوظ لأجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء.

وقوله:( ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) غاية متعلّقة بقوله:( كتب لهم ) أي غاية هذه الكتابة هي أن يجزيهم بأحسن أعمالهم، وإنّما خصّ جزاء أحسن الأعمال بالذكر لأنّ رغبة العامل عاكفة عليه، أو لأنّ الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء بغيره، أو لأنّ المراد بأحسن الأعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقّها وقيام الدعوة الدينيّـة به.

وههنا معنى آخر وهو أنّ جزاء العمل في الحقيقة إنّما هو نفس العمل عائداً إلى الله فأحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الأعمال في معنى الجزاء بأحسن الجزاء ومعنى آخر وهو أن يغفر الله سبحانه سيّئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة ويستر جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسناً ثمّ يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فافهم ذلك وربّما رجع المعنيان إلى معنى واحد.

قوله تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) السياق يدلّ على أنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعاً، وقوله:( فرقة منهم ) الضمير للمؤمنين الّذين ليس لهم أن ينفروا كافّة، ولازمه أن يكون النفر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم.

فالآية تنهى مؤمنى سائر البلاد غير مدينة الرسول أن ينفروا إلى الجهاد كافّة

٤٢٨

بل يحضّضهم أن ينف طائفة منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه في الدين، وينفر إلى الجهاد غيرهم.

والأنسب بهذا المعنى أن يكون الضمير في قوله( رجعوا ) للطائفة المتفقّهين، وفي قوله:( إليهم ) لقومهم والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقّهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقّههم ورجوعهم إلى اوطانهم.

ومعنى الآية لا يجوز لمؤمنى البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً فهلّا نفر وخرج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين ليتحقّقوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لاُصوله وفروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون ويتّقون.

ومن هنا يظهر أوّلاً: أنّ المراد بالتفقّه تفهّم جميع المعارف الدينيّـة من اُصول وفروع لا خصوص الأحكام العمليّـة وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرّعة، والدليل عليه قوله:( لينذروا قومهم ) فإنّ ذلك أمر إنّما يتمّ بالتفقّه في جميع الدين وهو ظاهر.

وثانياً: أنّ النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الدينىّ بدلالة من الآية.

وثالثاً: أنّ سائر المعاني المحتملة الّتى ذكروها في الآية بعيده عن السياق كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) نفرهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه، وقول بعضهم في( فلو لا نفر ) : أي إلى الجهاد، والمراد بقوله:( ليتفقهوا ) أي الباقون المتخلّفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى اُولئك المتخلّفين. فهذه ونظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرّض لها والإطناب في البحث عنها.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّـار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) أمر بالجهاد العامّ الّذى فيه توسّع الإسلام حتّى يشيع في الدنيا فإنّ قتال كلّ طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفّـار لا ينتهى إلّا باتّساع الإسلام اتّساعاً باستقرار سلطنته على الدنيا وإحاطته بالناس جميعاً.

والمراد بقوله:( وليجدوا فيكم غلظة ) أي الشدّة في ذات الله وليس يعنى بها

٤٢٩

الخشونة والفظاظة وسوء الخلق والقساوة والجفاء فجميع الاُصول الدينيّـة تذمّ ذلك وتستقبحه، ولحن آيات الجهاد ينهى عن كلّ تعدّ واعتداء وجفاء كما مرّ في سورة البقرة.

وفي قوله:( واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) وعد إلهى بالنصر بشرط التقوى، ويؤول معناه إلى إرشادهم إلى أن يكونوا دائماً مراقبين لأنفسهم ذاكرين مقام ربّهم منهم، وهو أنّه معهم ومولاهم فهم الأعلون إن كانوا يتّقون.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المسجد:( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) الآية فكبّر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاريّ: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.

وفي الكافي بإسناده عن سماعة عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لقى عبّاد البصريّ علىّ بن الحسينعليه‌السلام في طريق مكّة فقال له: يا علىّ بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينته إنّ الله يقول:( إنّ الله اشترى ) الخ، فقال علىّ بن الحسينعليه‌السلام إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ.

أقول: يريدعليه‌السلام ما في الآية الثانية:( التائبون العابدون ) الآية من الأوصاف.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سياحة اُمّتى في المساجد.

أقول: وروى عن أبى هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ السائحين هم الصائمون، وعن أبى اُمامة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ سياحة اُمّتى الجهاد في سبيل الله، وقد تقدّم الكلام فيه.

وفي المجمع:( التائبين العابدين ) إلى آخرها بالياء عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهما‌السلام .

٤٣٠

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والبخاريّ ومسلم والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبوجهل وعبدالله بن أبى أميّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أى عمّ قل لا إله إلّا الله اُحاجّ لك بها عند الله فقال أبوجهل وعبدالله بن أبى اُميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبدالمطّلب؟ وجعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرضها عليه وأبوجهل وعبدالله يعانوانه(١) بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلّمهم هو: على ملّة عبدالمطّلب، وأبى أن يقول: لا إله إلّا الله.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية، وأنزل الله في أبى طالب فقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ) .

اقول: وفي معناه روايات اُخرى من طرق أهل السنّة، وفى بعضها أنّ المسلمين لمّا رأوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر لعمّه وهو مشرك استغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية، وقد اتّفقت الرواية عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه كان مسلماً غير متظاهر بإسلامه ليتمكّن بذلك من حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيما روى بالنقل الصحيح من أشعاره شئ كثير يدلّ على توحيده وتصديقه النبوّة، وقد قدّمنا نبذة منها.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر قال: الأوّاه الدّعاء.

وفي المجمع في قوله تعالى:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله إخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية عن الحسن.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس في الآية قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الاُسارى(٢) قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتّى يؤذن لكم

____________________

(١) أي يفسرانه.

(٢) يعنى يوم بدر.

٤٣١

ولكن ما كان الله ليعذّب قوماً بذنب أذنبوه حتّى يبيّن لهم ما يتّقون. قال: حتّى ينهاهم قبل ذلك.

أقول: ظاهر الروايتين أنّهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه، واتّصال الآية بالآيتين قبلها ودخولها في سياقهما ظاهر، وقد تقدّم توضيحه.

وفي الكافي بإسناده عن حمزة بن محمّـد الطيّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) قال: يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه. الحديث.

أقول: ورواه أيضاً عن عبد الأعلى عنهعليه‌السلام ، ورواه البرقىّ أيضاً في المحاسن.

وفى تفسير القمّىّ:( لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة ) قال الصادقعليه‌السلام : هكذا نزلت وهم أبوذرّ وأبو خيثمة وعمير بن وهب الّذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: وقد استخرجناه من حديث طويل أورده القمّىّ في تفسيره في قوله تعالى:( ولو أرادوا الخروج لأعدوّا له عدّة ) الآية: ٤٦ من السورة، وروى قراءة( بالنبيّ ) في المجمع عنه وعن الرضاعليهما‌السلام .

وفي المجمع في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) وقرء علىّ بن الحسين زين العابدين ومحمّـد بن علىّ الباقرو جعفر بن محمّـد الصادقعليهم‌السلام وأبو عبد الرحمن السلمىّ. خالفوا.

وفيه في قوله:( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار ) الآية نزلت في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرجوع ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد والإهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتّى يجد طعمها ثمّ يعطيها صاحبه فيمصّها ثمّ يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتّى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة.

وفيه في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) الآية نزلت في شأن كعب بن مالك

٤٣٢

ومرارة بن الربيع وهلال بن اُميّة، وذلك أنّهم تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثمّ ندموا فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة جاؤوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتّى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال: ولكن لا يقربوكنّ.

فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيؤون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضاً فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوماً يتضرّعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.

أقول: وقد تقدّمت القصّة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمّىّ في الآية ٤٦ من السورة، ورويت القصّة بطرق كثيرة.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب من تفسير أبى يوسف بن يعقوب بن سفيان حدّثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال:( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله ) قال: أمر الله الصحابة أن يخافوا الله. ثمّ قال:( وكونوا مع الصادقين ) يعنى مع محمّـد وأهل بيتهعليهم‌السلام .

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام وقد روى في الدرّ المنثورعن ابن مردويه عن ابن عبّـاس، وأيضاً عن ابن عساكر عن أبى جعفر في قوله:( وكونوا مع الصادقين ) قالا: مع علىّ بن أبى طالب.

وفي الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبدالله (عيه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عزّوجلّ:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الّذين ينتظرونهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم.

٤٣٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، وهو ممّا يدلّ على أن المراد بالتفقّه في الآية أعمّ من تعلّم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم.

واعلم أنّ هناك أقوالاً اُخرى في أسباب نزول بعض الآيات السابقة تركناها لظهور ضعفها ووهنها.

٤٣٤

( سورة التوبة آيه ١٢٤ - ١٢٩)  

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَاناً فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى‏ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ لاَيَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذّكّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِنْ أَحَدٍ ثُمّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ ( ١٢٧ ) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لاَإِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ١٢٩ )

( بيان)

هي آيات تختتم بها آيات براءة وهى تذكر حال المؤمنين والمنافقين عند مشاهدة نزول السور القرآنيّـة، يتحصّل بذلك أيضاً أمارة من أمارات النفاق يعرف بها المنافق من المؤمن، وهو قولهم عند نزول القرآن: أيّكم زادته هذه إيماناً ؟ ونظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟

وفيها وصفه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاً يحنّ به إليه قلوب المؤمنين، وأمره بالتوكّل عليه إن أعرضوا عنه.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً ) إلى آخر الآيتين. نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد؟ يدلّ على أنّ سائله لا يخلو من شئ في قلبه فإنّ هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثراً من

٤٣٥

نزول القرآن وكأنّه يذعن أنّ قلوب غيره كقلبه فيما يتلقّاه فيتفحّص عمّن أثّر في قلبه نزول القرآن كأنّه يرى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعى أنّ القرآن يصلح كلّ قلب سواء كان مستعدّاً مهيّئاً للصلاح أم لا وهو لا يذعن بذلك وكلّما تليت عليه سورة جديدة ولم يجد في قلبه خشوعاً لله ولا ميلاً وحناناً إلى الحقّ زاد شكّاً فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتّى يستقرّ في شكّه ويزيد ثباتاً في نفاقه.

وبالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.

وقد فصل الله سبحانه أمر القلوب وفرّق بين قلوب المؤمنين والّذين في قلوبهم مرض فقال:( فأمّا الّذين آمنوا ) وهم الّذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة( فزادتهم ) السورة النازلة( إيماناً ) فإنّها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه، وهذه زيادة في الكيف، وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنيّـة والحقائق الإلهيّـة، وبسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان وهذه زيادة في الكمّيّة ونسبة زيادة الإيمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة وكيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيماناً فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلّل وجوههم فرحاً( وهم يستبشرون ) .

( وأما الّذين في قلوبهم مرض ) وهم أهل الشكّ والنفاق( فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) أي ضلالاً جديداً إلى ضلالهم القديم وقد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الانعام: ١٢٥ والمقابلة الواقعة بين( الّذين آمنوا ) و( الّذين في قلوبهم مرض ) يفيد أنّ هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح وإنّما هو الشكّ أو الجحد وكيف كان فهو الكفر ولذلك قال( وماتوا وهم كافرون ) .

والآية تدلّ على أنّ السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن كان قلباً سليماً زادته إيماناً واستبشاراً وسروراً، وإن كان قلباً مريضاً زادته رجساً وضلالاً نظير ما يفيده قوله:( وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا

٤٣٦

خساراً ) أسرى: ٨٢.

قوله تعالى: ( أو لا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ) الآية الاستفهام للتقرير أي ما لهم لا يتفكّرون ولا يعتبرون وهم يرون أنّهم يبتلون ويمتحنون كلّ عام مرّة أو مرّتين فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهيّـة وهم لا يتوبون ولا يتذكّرون ولو تفكّروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم وأيقنوا أنّ الاستمرار على هذا الشأن ينتهى بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبّد.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) الآية وهذه خصيصة اُخرى من خصائصهم وهى أنّهم عند نزول سورة قرآنيّـة - ولا محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد، وهذا قول من يسمع حديثاً لا يطيقه ويضيق بذلك صدره فيتغيّر لونه ويظهر القلق والاضطراب في وجهه فيخاف أن يلتفت إليه ويظهر السرّ الّذى طواه في قلبه فينظر إلى بعض من كان قد أودعه سرّه وأوقفه على باطن أمره كأنّه يستفسره هل يطّلع على ما بنا من القلق والاضطراب أحد؟

فقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي بعض المنافقين، وهذا من الدليل على أنّ الضمير في قوله في الآية السابقة:( فمنهم من يقول ) أيضاً للمنافقين، وقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور أمره وانهتاك ستره، وقوله:( هل يراكم من أحد ) في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد؟ ومن للتأكيد وأحد فاعل يراكم.

وقوله:( ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنّهم قوم لا يفقهون ) ظاهر السياق أنّ المعنى ثمّ انصرفوا من عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال صرف الله قلوبهم عن وعى الآيات الإلهيّـة والإيمان بها بسبب أنّهم قوم لا يفقهون الكلام الحقّ فالجملة حاليّة على ما يجوّزه بعضهممن خلوّا الجملة الحاليّة المصدّرة بالفعل الماضي عن قد.

وربّما احتمل كون قوله:( صرف الله قلوبهم ) دعاءً منه تعالى على المنافقين، وله

٤٣٧

نظائر في القرآن، والدعاء منه تعالى على أحد إيعاد له بالشرّ.

قوله تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) العنت هو الضرر والهلاك، وما في قوله:( ما عنتّم ) مصدريّة التأويل عنتكم، والمراد بالرسول على ما يشهد سياق الآيتين محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وصفه بأنّه من أنفسهم والظاهر أنّ المراد به أنّه بشر مثلكم ومن نوعكم إذ لا دليل يدلّ على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصّـة، وخاصّـة بالنظر إلى وجود رجال من الروم وفارس والحبشة بين المسلمين في حال الخطاب.

والمعنى لقد جاءكم أيّها الناس رسول من أنفسكم، من أوصافه أنّه يشقّ عليه ضرّكم أو هلاككم وأنّه حريص عليكم جميعاً من مؤمن أو غير مؤمن، وأنّه رؤوف رحيم بالمؤمنين منكم خاصّـة فيحقّ عليكم أن تطيعوا أمره لأنّه رسول لا يصدع إلّا عن أمر الله، وطاعته طاعة الله، وأن تأنسوا به وتحنّوا إليه لأنّه من أنفسكم، وأن تجيبوا دعوته وتصغوا إليه كما ينصح لكم.

ومن هنا يظهر أنّ القيود المأخوذة في الكلام من الأوصاف أعني قوله( رسول ) و( من أنفسكم ) و( عزيز عليه ما عنتّم ) الخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى إجابته وقبول دعوته، ويدلّ عليه قوله في الآية التالية:( فإن تولّوا فقل حسبى الله ) .

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فقل حسبى الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم ) أي وإن تولّوا عنك وأعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبى الله لا إله إلّا هو أي هو كافىّ لا إله إلّا هو.

فقوله:( لا إله إلّا هو ) في مقام التعليل لانقطاعه من الأسباب واعتصامه بربّه فهو كاف لا كافى سواه لأنّه الله لا إله غيره، ومن المحتمل أن تكون كلمة التوحيد جيئ بها للتعظيم نظير قوله:( وقالوا اتّخذ الله ولداً سبحانه ) البقرة: ١١٦.

وقوله:( عليه توكّلت ) وفيه معنى الحصر تفسير يفسّر به قوله:( حسبى الله ) الدالّ على معنى التوكّل بالالتزام، وقد تقدّم في بعض الأبحاث السابقة أنّ معنى التوكّل هو اتّخاذ العبد ربّه وكيلاً يحلّ محلّ نفسه ويتولّى تدبير اُموره أي انصرافه عن

٤٣٨

التسبب بذيل ما يعرفه من الأسباب، ولا محالة هو بعض الأسباب الّذى هو علّة ناقصة والاعتصام بالسبب الحقيقيّ الّذي إليه ينتهي جميع الأسباب.

ومن هنا يظهر وجه تذييل الكلام بقوله:( وهو ربّ العرش العظيم ) أي الملك والسلطان الّذي يحكم به على كلّ شئ ويدبّر به كلّ أمر.

وإنّما قال تعالى:( فقل حسبي الله ) الآية ولم يقل: فتوكّل على الله لإرشاده إلى أن يتوكّل على ربّه وهو ذاكر هذه الحقائق الّتي تنوّر حقيقة معنى التوكّل، وأنّ انظر المصيب هو أن لا يثق الإنسان بما يدر كه من الأسباب الظاهرة الّتي هي لا محالة بعض الأسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه ويثق بربّه ويتوكّل عليه في حصول بغيته وغرضه.

وفي الآية من الدلالة على عجيب اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنّه تعالى يأمره بالتوكّل على ربّه فيما يهتمّ به من الأمر وهو ما تبيّنه الآية السابقة من شدّة رغبته وحرصه في اهتداء الناس وفوزهم بالسعادة فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام - في حديث طويل يذكر فيه تمام الإيمان ونقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّوجلّ:( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) وقال:( نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى ) .

ولو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّـة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرّطون النار.

٤٣٩

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة بن أعين عن أبى جعفرعليه‌السلام ( وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) يقول شكّاً إلى شكّهم.

وفي الدرّ المنثور في قوله:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) أخرج أبونعيم في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يلتق أبواي قطّ على سفاح: لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّـبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّباً لا تنشعب شعبتان إلّا كنت في خيرهما.

أقول: وقد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة وغيرهم كالعبّـاس وأنس وأبى هريرة وربيعة بن الحارث بن عبدالمطّلب وابن عمر وابن عبّـاس وعلى ومحمّـد بن علىّ الباقر وجعفر بن محمّـد الصادقعليه‌السلام وغيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن وابن الأنباريّ في المصاحف وابن مردويه عن الحسن أنّ اُبىّ بن كعب كان يقول: إنّ أحدث القرآن عهداً بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر الآية.

أقول: و الرواية مرويّـة من طريق آخر عن اُبىّ بن كعب، وهى لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية وكذا مع ما تقدّم من الروايات في قوله تعالى:( واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) الآية البقرة: ٢٨١ أنّها آخر آية نزلت من القرآن.

على أنّ لفظ الآيتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلّا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كحديث الدواة والقرطاس.

وفيه أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبى داود عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم - إلى قوله -وهو ربّ العرش العظيم ) إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدرى والله إلّا أنّى أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فاُلحقت في آخر براءة.

أقول: وفي رواية أخرى أنّ عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بيّنه أبداً كذلك

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511