الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135935 / تحميل: 5387
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في علمه؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية ، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل الإسلامية.

* * *

٢٠١

الآيات

( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) )

التّفسير

لكلّ ذنب عقابه :

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين ، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد ، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول :( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسبا منهم لإطفاء نور الحق والإيمان( أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) .

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون ، كما حصل مرارا لأقوام سابقة؟!

٢٠٢

«مكروا السيئات» : بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة ، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما مارسوه من إيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف» : من مادة «خسف» ، بمعنى الاختفاء ، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف) ، يقال (بئر مخسوف) للذي اختفى ماؤه ، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفا.

ثمّ يضيف :( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات.( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

وكما قلنا سابقا ، فإنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر ، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر :( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ) .

فاليوم مثلا ، يصاب جارهم ببلاء ، وغدا يصاب أحد أقربائهم ، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم والخلاصة ، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى ، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك ، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة ، واللهعزوجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث ، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإلهي :

الأوّل : الخسف.

الثّاني : العقاب المفاجئ الذي يأتي الإنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث : العذاب الذي يأتي الإنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

٢٠٣

ذلك.

الرّابع : العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف ، وإن وردت جميعها بخصوص( الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) لعلمنا أنّ أفعال الله لا تكون إلّا بحكمة وعدل.

وهنا لم نجد رأيا للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع ، ولكن يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف الله تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس ، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم ، فيأتيهم العذاب الإلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة ، حتى وإن كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم الله تعالى وهم على تلك الحالة(1) .

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إلى حيث اللارجعة ، فيعذبهم الله بالتخويف. أي يحذرهم بإنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإن استيقظوا فهو المطلوب ، وإلّا فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا ، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السّيئات ، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع الله ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *

__________________

(1) مع أنّ «التقلب» لغة ، بمعنى التردد والذهاب والمجيء ، مطلقا ولكن في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

٢٠٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) )

التّفسير

سجود الكائنات للهعزوجل :

تعود هذه الآيات مرّة أخرى إلى التوحيد بادئة ب :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ) (1) .

أي : ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات الله يمينا وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض : إنّ العرب تطلق على الظلال صباحا اسم (الظل) وعصرا

__________________

(1) داخر : في الأصل من مادة (دخور) أي : التواضع.

٢٠٥

(الفيء) ، وإذا ما نظرنا إلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إشارة لطيفة لحقيقة إنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أن تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال ، وإنّ كلمة الفيء استعملت للجميع فيستفاد من ذلك : أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعند ما يقف الإنسان وقت طلوع الشمس متجها نحو الجنوب فإنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق ، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب) ، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق ، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يمينا وشمالا بعنوانها مظهرا لعظمته جل وعلا واصفا حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظلال في حياتنا :

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا ، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إلى هذه الحقيقة ، فوضع القرآن الكريم إصبعه على هذه المسألة ليسترعي الانتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة :

1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا ، فكذلك الظلال ، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر ، وبدون

٢٠٦

الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس ، ألا وهو :إنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء ، بل لا بدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أخرى : إنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل ، فإنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور

أي : كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القائمة ، فكذا الحال بالنسبة للنور التام ، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّا في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.

وثمّة ملاحظة أخرى في الآية : وهي : ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».

فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجها للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(1) .

واحتمل المفسّرون أيضا : مع أن كلمة (اليمين) مفردا إلّا أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات ، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(2) .

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع ، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عاما شاملا لكل الموجودات المادية وغير

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ضمن تفسير الآية.

(2) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 110.

٢٠٧

المادية ، وفي أي مكان ، فيقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، مسلمين لله ولأوامره تسليما كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة ، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّا مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا ، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين ، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباريعزوجل ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله والخلاصة : كلها دليل على ذاته المقدسة.

«الدابة» : بمعنى الموجودات الحية ، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد احتمل البعض : عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط ، أي : إنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية ، ولكنّ تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من : الإنسان العاقل المؤمن ، والملائكة ، والحيوانات الأخرى ، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الاختياري والتشريعي وكذا التكويني الاضطراري.

أمّا الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط ، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب ،

٢٠٨

ولكن ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».

وروي في حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حق عبادتك»(1) .

أمّا جملة( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للهعزوجل .

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرة وتأكيدا لنفي حالة الاستكبار عنهم :( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة :( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الاستكبار شيئان :

أ ـ الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض ، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب ـ ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك

وهذا انعكاس للأول ، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة( مِنْ فَوْقِهِمْ ) ليست إشارة إلى العلو الحسي والمكاني ، بل المراد منها العلو المقامي ، لأنّ اللهعزوجل فوق كل شي مقاما.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) ، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!

* * *

__________________

(1) مجمع ذيل البيان ، ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٩

الآيات

( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) )

التّفسير

دين حق ومعبود واحد :

تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيبا لبحث التوحيد ومعرفة الله عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة ، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع ، ويبتدأ ب :( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وتقديم كلمة «إيّاي» يراد بها الحصر كما في «إيّاك نعبد» أي : يجب الخوف

٢١٠

من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناما متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها :

1 ـ إنّ الآية نفت عبادة اثنين ، فكيف بالأكثر؟!

وبعبارة أخرى : إنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر ، وأيّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لا بدّ له أن يمر بالإثنين.

2 ـ كل ما يعبد من دون الله جمع في واحد ، فتقول الآية : أن لا تعبدوها مع الله ، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).

3 ـ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين :

الأوّل : خالق العالم ، أي اللهعزوجل وكانوا يؤمنون به.

والثّاني : الأصنام ، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله ، واعتبروها كذلك منبعا للخير والبركة والنعمة.

4 ـ يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله للخير وآخر للشر ، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطئ ، إلّا إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الآلهة!

وينقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء : (نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة ، عبدت : نفسك وهواك ، وطبعك ومرادك ، وعبدت الخلق فأنّى تكون موحدا).

ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات فيقول أوّلا( وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئا ، أم لمن له ما في السموات والأرض؟

ثمّ يضيف :( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

٢١١

فعند ما يثبت أن عالم الوجود منه ، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضا ، ولا تكون طاعة إلّا له سبحانه.

«واصب» : من «الوصوب» ، بمعنى الدوام. وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصا لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا «الدين» هنا بمعنى الطّاعة ، فقد فسّروا «واصبا» بمعنى الواجب ، أي : يجب إطاعة الله فقط.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ شخصا سأله عن قول الله( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال : «واجبا»(1) .

والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.

ثمّ يقول في نهاية الآية :( أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ) .

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ) .

فهذه الآية تحمل لبيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة الله الواحد جلّ وعلا ، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكرا على نعمة فهي ليست بمنعمة ، بل الكل بلا استثناء منّعمون في نعم الله تعالى ، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.

وعلاوة على ذلك( ... ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ) .

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعا للضر وحلا للمعضلات ، فهذا من الله وليس من غيره ، وهو ما تظهره ممارستكم عمليا حين إصابتكم بالضر ، فلمن تلتجئون؟ إنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إلى الله.

وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 373.

٢١٢

«تجئرون» : من مادة (الجؤار) على وزن (غبار) ، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم ، ثمّ استعملت كناية في كل الآهات غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

إنّ اختيار هذه العبارة هنا إشارة إلى أنّه عند ما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإستغاثة اللااختيارية وأنتم بهذه الحال ، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلما ذا إذن في حياتكم الاعتيادية وعند ما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجئون إلى الأصنام؟!

نعم. فالله سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء( ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) بالعود إلى الأصنام!

وفي الحقيقة فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس ، إلّا أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الاعتيادية.

ولكن ، عند ما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقا من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون ، فيدعون الله مخلصين بكامل وجودهم ، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب ، (لاحظوا أنّ الآية قالت :( كَشَفَ الضُّرَّ ) أي : رفع أغطية البلاء).

ولكن عند ما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إلى شاطئ الأمان ، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور ، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجددا!

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .

ويشبّه ذلك بتوجيه النصائح والإرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي

٢١٣

فيقال له : مع كل ما قلنا لك افعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.

وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد ، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضا ، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا» والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا» ، فكأنه افترض غيابهم أوّلا فقال : ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم ، وعند تهديدهم يلتفت إليهم ويقول : تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.

والآية (30) من سورة إبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض :( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (1)

* * *

__________________

(1) احتمل جمع من المفسّرين : أنّ «ليكفروا» غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إليهم في الآية التي قبلها ، فيكون المعنى أنّهم بعد إنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم الله وينكرونها.

٢١٤

الآيات

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) )

التّفسير

عند ما كانت ولادة البنت عارا!

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثا استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام ، تأتي هذه الآيات لتتناول قسما من بدع المشركين وصورا من عاداتهم القبيحة ، لتضيف دليلا آخرا على بطلان الشرك وعبادة الأصنام ، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:

٢١٥

وتقول أوّلا :( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) (1) .

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية ، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثمّ الجزاء والعقاب ، وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة ، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن بالله واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثّانية فكانت :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ) من التجسم ومن هذه النسبة.( وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ) أي : إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إلى الله ، ويعتبرون البنات عارا وسببا للشقاء!

وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثّالثة :( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) .(2)

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل( يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ) .

ولم ينته المطاف بعد ، ويغوص في فكر عميق :( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي

__________________

(1) ذكر المفسرون رأيين في تفسير «ما لا يعلمون» وضميرها :

الأول : أن ضمير «لا يعلمون» يعود إلى المشركين أي أن المشركين يجعلون للأصنام نصيبا وهم لا يعلمون لها خيرا وشرا (وهذا ما انتخبناه من تفسير).

والثاني : إن الضمير يعود إلى نفس الأصنام ، أي يجعلون للأصنام نصيبا في حين أنها لا تدرك ، لا تعقل ، لا تعلم! والتفسير الثاني يظهر نوعا من التضاد بين عبارات الآية ، لأن «ما» تستعمل عادة لغير العاقل و «يعلمون» تستعمل للعاقل عادة.

أما في التفسير الأول فـ «ما» تعود على الأصنام و «يعلمون» على عبدتها.

(2) الكظيم : تطلق على الإنسان الممتلئ غضبا.

٢١٦

التُّرابِ ) .

وفي ذيل الآية ، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله :( أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

وأخيرا يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات ، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة :( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فكلّما اقترب الإنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.

وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف والذلة والقبائح.

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر الله وعن محكمته العادلة في الآخرة ، أمّا ذكر الله والآخرة فدافع أصيل للإحساس بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة ، وعامل قدرة وقوة وعلم للإنسان.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا اعتبروا الملائكة بناتا لله؟

تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأنّ المشركين كانوا يقولون بأنّ الملائكة بنات الله جلّ وعلا ، أو أنّهم كانوا يعتبرون الملائكة إناثا دون نسبتها إلى الله

كما في الآية (19) من سورة الزخرف :( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ، وفي الآية (40) من سورة الإسراء :( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ) .

٢١٧

يمكن أن تكون هذه الإعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت عرب الجاهلية ، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال الاستتار أكثر ما يختص بحال النساء ، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثا مجازيا والقمر مذكرا مجازيا أيضا ، على اعتبار أنّ قرص الشمس لا يمكن للناظر إليه أن يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره ، أمّا قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر إليه مهما طالت المدّة.

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى الكناية عن لطافة الملائكة ، والإناث أكثر من الذكور لطافة.

وعلى أية حال فهذه إحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا ، ولا تختص هذه الخرافة بقوم دون آخر لأنّنا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم! فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة ، وذاك الفنان الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء ، في حين أن الملائكة لا تملك جسما ماديا حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.

2 ـ لما ذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟

الوأد في واقعة أمر رهيب ، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من عطف ورحمة ، ليتمكن من قتل إنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إليه من نفسه!

والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!

فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف يدفن الإنسان فلذة كبده وهي حية؟!

وهذا ليس بالأمر الهيّن ، فأيّ إنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على

٢١٨

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات اجتماعية ونفسية واقتصادية عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك

يقول المؤرخون : إنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت ، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب ، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلّا أنّ بعضا من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا محلا للوم والشماتة ، حتى أقسم بعضهم أن يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا أسيرة بيد الأعداء!

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة فكانت النتيجة : ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنّة جاهلية ، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (1) .

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجية للأولاد الذكور ، والنزوع إلى الطبيعة الاستهلاكية عند الإناث ، وما له من أثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد ، في حين أنّ البنات لسن كذلك.

ومن جانب آخر فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور ، حتى وصل وجود الولد الذكر عزيزا ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكرا ، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

__________________

(1) سورة التكوير ، 9.

٢١٩

بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهلية يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار! وإذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه ، ولكنّ الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتا ويمتلئ غيظا وغضبا(1) .

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة

منها : ما روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلن إسلامه ، وجاءه يوما فسأله : إنّي أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تواب رحيم». قال : يا رسول الله إنّ ذنبي عظيم قال : «ويلك مهما كان ذنبك عظيما فعفو الله أعظم منه» ، قال : لقد سافرت في الجاهلية سفرا بعيدا وكانت زوجتي حبلى وعند ما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتا في الدار ، فقلت لها : ابنة من هذه؟ قالت : ابنة جازنا. فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة ، فلم تفعل ، ثمّ قلت لزوجتي:أصدقيني من هذه البنت؟ قالت : ألا تذكر أنّي كنت حاملة عند ما سافرت ، إنّها ابنتك. فنمت تلك الليلة مغتما ، أنام واستيقظ ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل ، فتبعتني حتى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك ، وعند ما انتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة وهنا فاضت عينا رسول الله بالدمع ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى ، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول : أبي ما تصنع بي!؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها ، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 20 ، ص 55.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

( يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) .

«الحافرة» : من (الحفر) ، بمعنى شقّ الأرض ، وما ينتج من ذلك يسمى (حفرة) ، يقال : حافر الفرس ، تشبيها لحفرة الأرض في عدوه ، و «الحافرة» : كناية لمن يرد من حيث جاء ، كما لو سار إنسان على أرض ، فيترك فيها حفرا لتحمل آثار قدمه ، ثمّ يعود إلى نفس تلك الحفر ، فالحافرة : تعني الحالة الاولى(١) .

وتستمر الآية في سرد كلامهم :( أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ) (٢) .

فهكذا هو حال ودأب منكري المعاد وعلى الدوام باستفسارهم الدائم حول المعاد ، وبقولهم المعروف : كيف للعظام البالية النخرة والتي تحولت إلى ذرات تراب أن تعود مرّة اخرى جسما كاملا ، والأكثر من هذا أن تسري فيه الحياة ولكنّهم لم يفقهوا إلى أنّهم خلقوا من ذلك التراب ، فكيف أصبحوا بهذه الهيئة الحيّة بعد أن لم يكونوا شيئا؟

«نخرة» : صفة مشبهة ، من (النخر) ، بمعنى الشجرة المجوفة البالية ، والتي إذا دخل فيها الهواء أعطت صوتا معينا ، مثله (النخير) ، وعمم الاستعمال ليشمل كلّ شيء بال في حال تآكل وتلاش.

ولا يكتفي منكر والمعاد بحال الاعتراض على ما وعدهم به الباري سبحانه ، بل وتحولوا إلى حال الاستهزاء بأحد اصول دين الله! :( قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) .

وثمّة احتمال آخر في تفسير هذه الآية يقول : إنّهم جادون في قولتهم غير مستهزئين ، لأنّهم يعتقدون أن لو كان ثمّة عود ورجعة فهي عبث زائد وخاسر ، إذ لو كانت الحياة الطيبة هي التي نعيشها ، فلما ذا لا تخلد؟ وإن كانت سيئة فما فائدة العود؟

__________________

(١) اسم فاعل هنا بمعنى اسم المفعول ، فالحافرة إذا بمعنى المحفورة.

(٢) وتقدير الجملة مع محذوفها : (أإذا كنّا عظاما نخرة نرد أحياء) أو (أإنا لمبعوثون).

٣٨١

ويمكن اعتبار «الحافرة» الواردة في :( أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) قرينة لهذا الاحتمال ، بلحاظ كونها بمعنى (الحفرة).

ولكنّ المعروف بين المفسّرين هو التّفسير الأوّل.

وقد عبّرت الآية السابقة عن قولهم بصيغة المصارع «يقولون» اشارة إلى دوام ترديدهم لما يقولون به ، في حين ذكر الفعل في الآية المبحوثة بصيغة الماضي «قولوا» إشارة إلى أنّهم قليلا ما يقولون ذلك.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يعود القرآن الكريم إلى مسألة القيامة ، وبلسان قاطع ، يقول :( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) .

فالأمر ليس بمستصعب على الخالق القادر ، فما أن يصدر الأمر الإلهي لنفخة الصور الثّانية حتى تعود الحياة ثانية إلى جميع الخلائق ، نعم فتشرع كلّ تلك العظام النخرة وما صار منها ترابا للتجمع على الهيئة الاولى ، وليخرج الناس من قبورهم بعد أن تسري فيهم روح الحياة!

«الزجرة» : بمعنى صيحة بشدّة وانتهار ، ويراد بها : نفخة الصور الثّانية.

«زجرة واحدة» : إشارة إلى سهولة الأمر أمام قدرة الله سبحانه وتعالى ، وإلى سرعة تنفيذ أمره سبحانه (لقيام القيامة) فبصوت واحد من ملائكة القيامة ، أو من صور إسرافيل يرتدي جميع الأموات لباس الحياة من جديد ليحضروا عرصة المحشر للحساب.

«الساهرة» : من (السهر) ، وهو الأرق ، وقيل : لأرض القيامة «الساهرة» لذهاب النوم عن العيون لما سيصابون به من أهوال مرعبة. وقيل : الساهرة : اسم للصحراء ، لأنّ جميع الصحاري مخيفة ، وكأنّ الخوف فيها يطرد النوم من العين(١) .

* * *

__________________

(١) لسان العرب : سهر ، مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٤٢٩ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٩٩٠.

٣٨٢

الآيات

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) )

التّفسير

افتراء فرعون!

يشير القرآن الكريم بهذه المقاطع البيانية إلى بعض مشاهد قصّة موسىعليه‌السلام وفرعون ، والتي تتناول عاقبة الطغاة عبر التاريخ ، وما حدى بفرعون من مصير أسود ، ليستذكر مشركو قريش وطغاتهم تلك الواقعة ، وليعلموا أن من كان أقوى منهم لم يتمكن من مقاومة العذاب الإلهي.

ويشير البيان القرآني كذلك ، إلى المؤمنين بأن لا يخافوا من قوّة الأعداء

٣٨٣

الظاهرية ، لأنّ دمارهم وهلاكهم على الله أسهل من أن يتصور فهذا البيان القرآني إذا ، تسلية لقلوب المؤمنين وترطيبا لخواطرهم.

فيتوجه الحديث إلى النبيّعليه‌السلام بصيغة الاستفهام :( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ) ليشوق السامع ويهيئه لاستماع القصّة ذات العبر.

ثمّ يقول :( إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) (١) .

«طوى» : يمكن أن يكون اسما لأرض مقدّسة ، تقع في الشام بين (مدين) و (مصر) ، وهو الوادي الذي كلّم الله تعالى فيه موسىعليه‌السلام أوّل مرّة.

وقد رود الاسم أيضا في الآية (١٢) من سورة طه :( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) .

وقد تكون «طوى» صفة من (الطي) ، إشارة إلى ما انطوت عليه تلك الأرض من القداسة والبركة.

أو كما يقول الراغب في مفرداته ، إشارة إلى حالة حصلت له على طريق الاجتباء ، فكان ينبغي عليه السير في طريق طويل ، ليكون لائقا لنزول الوحي ولكن الله تعالى طوى له هذا الطريق وقرّب له الهدف.

ثمّ أشار القرآن إلى تعليمات اللهعزوجل إلى موسىعليه‌السلام في الواد المقدّس :( اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ) وبعد التزكية وتطهير الذات تصبح لائقا للقاء الله ، وسوف أهديك إليه عسى أن تخشع وتترك ما أنت عليه من المنكرات :( وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ) .

ولمّا كانت كلّ دعوة تحتاج إلى دليل صحتها ، يضيف القرآن القول :( فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ) (٢) .

__________________

(١) اعتبر أكثر المفسّرين «إذ» ظرف زمان متعلق بـ «حديث» ويصح الإعتبار لو كانت بمعنى نفس الحادثة وليست حكايتها وثمّة احتمال آخر ، يقول «إذ» : ظرف متعلق بفعل محذوف تقديره (اذكر) ، فالتقدير : (اذكر إذ ناداه ...) ـ فتأمل.

(٢) إنّ الفاصلة الزمنية ما بين توجيه الأمر الإلهي إلى موسىعليه‌السلام وبين إرائة المعجزة كانت كبيرة ، ولكنّ البيان القرآني اختصرها في هذا الموضع.

٣٨٤

ولكن ، ما الآية الكبرى؟ هل هي عصا موسىعليه‌السلام التي تحولت إلى أفعى عظيمة ، أو إخراج يده بيضاء ، أم كليهما؟ (على اعتبار أنّ الألف واللام في «الآية الكبرى» إشارة إلى الجنس). وعلى أيّة حال ، فالمهم في المسألة إنّ موسىعليه‌السلام استند في بدء دعوته على معجزة «الآية الكبرى».

لقد وردت في الآيات الأربعة المذكورة جملة ملاحظات ، هي :

١ ـ طغيان فرعون يمثل علّة الأمر الإلهي لذهاب موسىعليه‌السلام إليه وتبيّن لنا هذه الملاحظة : إنّ من جملة الأهداف المهمّة في حركة الأنبياء هي هداية الطغاة أو مجاهدتهم.

٢ ـ راح موسىعليه‌السلام يدعو فرعون بلين ورفق وأسلوب جميل ، وبأسلوب مرغّب دعاه لأن يتطهر (طهارة مطلقة من الشرك والكفر ، ومن الظلم والفساد) وتنقل لنا الآية (٤٤) من سورة طه هذا المعنى :( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ) .

٣ ـ وثمّة إشارة لطيفة وردت بخصوص رسالة الأنبياءعليهم‌السلام ، فدعوتهم للحق تعتمد على محاولة تطهير الناس وإعادتهم إلى فطرتهم السليمة.

كما وأشار البيان القرآني إلى أنّ المخاطبة قد تمّت بكلمة «تزكّي» بدلا من (ازكيك) ، للدلالة على أنّ التزكية الحقّة إنّما هي تلك النابعة من الذات ، ولا تبنى باسس موضوعية خارجية.

٤ ـ ذكرت الهداية بعد التزكية ، للدلالة على أنّ التزكية مقدّمة وبمثابة الأرضية المهيئة للهداية.

٥ ـ إنّ تعبير «إلى ربّك» في حقيقة تأكيد على أنّ من أهديك إليه هو مالكك ومربيك ، فلم الميل عنه؟!

٦ ـ «الخشية» نتيجة للهداية :( وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ) ، وبما أنّ الخشية لا تحصل إلّا بمعرفة حقّة ، فتكون ثمرة شجرة الهداية والتوحيد هي الإحساس بالمسؤولية الملقاة على العواتق أمام جبار السماوات والأرض ، ولهذا تقول الآية

٣٨٥

(٢٨) من سورة فاطر :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ ، مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

٧ ـ ابتدأ موسىعليه‌السلام أسلوب دعوته بالهداية العاطفية ثمّ تدرج إلى الهداية العقلية والمنطقية حتى أرى فرعون الآية الكبرى.

وقد بيّن لنا البيان القرآني أفضل طرق الدعوة والإرشاد ، حيث ينبغي إحاطة من يراد هدايته بالرعاية والعطف وتحسيسه بحسن نيّة الداعية أو المرشد ، ومن ثمّ تأتي مرحلة الدليل المنطقي والحوار العلمي.

لكنّ فرعون المتجبّر قابل كلّ تلك المحبّة ، اللطف ، الدعوة بالحسنى والآية الكبرى ، قابل كلّ ذلك بالتجبّر الأعمى والغرور الأبله :( فَكَذَّبَ وَعَصى ) .

وكما يظهر من الآية المباركة فإنّ التكذيب مقدمة العصيان ومرحلة سابقة له ، كما هو حال التصديق الإيمان باعتباره مقدّمة للطاعات.

وازداد فرعون عنوّا :( ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى ) (١) .

وقد هددت معجزة موسىعليه‌السلام كل وجود فرعون الطاغوتي ، ممّا دعاه لأن يبذل كل ما يملك من قدرة لأجل إبطال مفعول المعجزة ، فتراه وقد أمر أتباعه وجنوده لجمع كلّ سحرة البلاد ـ على كثرتهم في تلك الحقبة الزمنية ـ ونودي في الناس بأمره ليشاهدوا مشهد إبطال المعجزة من قبل السحرة ، وليظهروا مثلها!! :( فَحَشَرَ فَنادى ) .

مع أنّ كلمة «حشر» ذكرت بصورة مطلقة مبهمة ، ولكننا نستطيع معرفة تفصيل الأمر من خلال الآيات القرآنية الاخرى ، ففي الآيتين (١١١ و١١٢) من سورة الأعراف ، يكمل تفصيل ذلك :( وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) .

وكذا الحال بالنسبة لكلمة «نادى» ، فيمكننا التوصل لمعناها من خلال الآية

__________________

(١) يمكن اعتبار «ثمّ» في الآية إشارة إلى المدّة التي استغلها فرعون ليدرس ويخطط لكيفية مواجهة موسىعليه‌السلام ، لأنّ «ثمّ» عادة ما تستعمل للتعبير عن الفاصلة الزمنية بين الأحداث.

٣٨٦

(٣٩) من سورة الشعراء ، والتي تناولت نفس الموضوع :( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ) .

ولم يكتف فرعون بكذبه وعصيانه ، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف أمامها ، بل وتعدى حدود المخلوق بصورة مفرطة جدّا ، وافترى على الله وعلى نفسه بأقبح ادعاء ، حينما ادعى نفسه الربوبية على شعبه وأمرهم بطاعته! :( فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) .

نعم فحينما يقبع المتجبّر في عرش الغرور ، وحينما تلّفه أمواج الأنانية المفرطة ، حينها سيجرفه تيار الإفراط لأن يدعي لنفسه الربوبية ، بل ويجره فقدان بصيرته ، وانحسار فطرته بين ظلمات أنانيته لأن يدعي أنّه (ربّ الأرباب)!!

وأوصل فرعون قولته إلى الناس ليخبرهم بأنّه لا يعارض ما لهم من أصنام يعبدونها ، لكنّه فوقها جميعا فهو (المعبود الأعلى)!

وألطف ما في الأمر ، إنّ فرعون نفسه كان أحد عبدة الأصنام ، بشهادة الآية (١٢٧) من سورة الأعراف :( أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) ، فادعاؤه بأنّه (الربّ الأعلى) قد سرى حكمه حتى على آلهته لتكون من عبيده! نعم ، فهكذا هو هذيان الطواغيت.

وقد ادعى فرعون بأكثر من (ربّ الأرباب) ، ليضيف إلى هذيان الطغاة حماقة ، حينما ورد قوله في الآية (٣٨) من سورة القصص :( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) !

وعلى أيّة حال ، فقد حلّ بفرعون منتهى التكبر والطغيان ، فأخذه جبّار السماوات والأرض سبحانه أخذ عزيز مقتدر :( فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ) (١)

__________________

(١) «نكال» : منصوب بنزع الخافض ، والتقدير : (فأخذه الله بنكال الآخرة) ويحتمل كونه مفعول مطلق للأخذ ، بمعنى (نكّل) ،

٣٨٧

«النكال» : لغة : العجز والضعف. ويقال لمن يتخلف عن دفع ما استحق عليه (نكل). و (النكل) ـ على وزن فكر ـ القيد الشديد الذي يعجز معه الإنسان على عمل أيّ شيء.

و «نكال» : في الآية يقال للعذاب الإلهي الذي يؤدي إلى عجز الإنسان ، ويخيف الآخرين ، فيعجزهم عن ارتكاب الذنب ،.

«نكال الآخرة» : عذاب جهنّم الذي سينال فرعون وأصحابه ومن سار على خطوه ، و «عذاب الاولى» : إشارة إلى إغراق فرعون وأصحابه في نهر النيل.

وتقديم «نكال الآخرة» على عذاب الدنيا ، لأهميته وشدّة بطشه.

وقيل : «الاولى» : تشير إلى كلمة فرعون الاولى في مسير طغيانه حين ادّعى (الالوهية) ، كما جاء في الآية (٣٨) من سورة القصص.

و «الآخرة» : إشارة الى آخر كلمة نطق بها فرعون حين ادّعي (الرّبوبية العليا) ، فعذّبه الله بالغرق في الحياة الدنيا نتيجة ادّعاءيه الباطلين.

وقد أشير لهذا المعنى فيما روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام قوله : «إنّ الفترة ما بين قوله الاولى والآخرة كانت أربعين عاما ، وقد أخّر الله تعالى عذابه كلّ هذه المدّة إتماما للحجّة عليه»(١) .

ويوافق هذا المعنى صيغة الفعل الماضي الواردة في الآية «أخذ» والذي يفهم منه تنفيذ كلّ العقاب في الدنيا ، وتعضده الآية التالية التي تعدّ العذاب عبرة للآخرين.

__________________

فيكون التقدير : (نكّل الله ناكال الآخرة).

(١) وفي مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٢ ، رواية اخرى تحمل نفس المضمون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكثر تفصيلا ، نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٠٠.

٣٨٨

ويستخلص القرآن نتيجة القصّة :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى ) .

فتبيّن الآية بكلّ وضوح ، إنّ وسائط سلك طريق الإعتبار مهيئة لمن سرى في قلبه الخوف والخشية من الله ، واعترته مشاعر الإحساس بالمسؤولية ، ومن رأى العبرة بعين معتبرة اعتبر.

نعم فقد أغرق فرعون ، وأهلك ملكه ودولته ، وصار درسا شاخصا لكل فراعنة وطواغيت ومشركي الزمان ، وعبرة لمن سار على نهجه الفاسد لكل عصر ومصر ، ولا يجني من سار على خطاه سوى ما جنيت به يداه ، وهي سنّة الله ، ولا تغيير ولا تبديل لسنّته جلّ شأنه.

* * *

بحث

بلاغة القرآن :

بنظرة ممعنة في الآيات الإحدى عشر المبحوثة ، تتجلى لنا ذروة فصاحة وبلاغة القرآن الكريم ، فبعبارات موجزة وسريعة ، عرضت قصّة موسىعليه‌السلام مع فرعون وبتفصيل بياني محكم ، حيث تناولت : بيان سبب الرسالة ، هدف دعوة الرسالة ، وسائل التطهير ، كيفية الدعوة ، أسس مواجهة مخططات الأعداء ، نماذج من الادعاءات الباطلة ، والانتقام من الطغاة فكل هذا وما حمل بين ثناياه من دروس حيّة للإنسانية ، قد ورد في هذه الآيات القليلة الموجزة!

* * *

٣٨٩

الآيات

( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) )

التّفسير

اللمسات الرّبانية في عالم الطبيعة ونظام الكون :

ينتقل البيان القرآني مرّة اخرى إلى عالم القيامة ، بعد ذكر تلك اللمحات البلاغية في قصّة موسىعليه‌السلام مع فرعون ، فيعرض صورا من قدرة الله المطلقة في عالم الوجود ، ليستدل به على إمكان المعاد ، ويشرح بعض النعم الإلهية على البشرية (التي لا تعدّ ولا تحصى) ، ليحرك فيهم حس الشكر والذي من خلاله يتوصلون لمعرفة الله.

وابتدأ الخطاب باستفهام توبيخي (لمنكري المعاد) هل أنّ خلقكم (وإعادتكم إلى الحياة بعد الموت) أصعب من خلق السماء :( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ

٣٩٠

السَّماءُ بَناها ) (١) .

والآية في واقعها جواب لما ذكر من قولهم في الآيات السابقة :( أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) ـ أي هل يمكن أن نعود إلى حالتنا الاولى ـ فكلّ إنسان ومهما بلغت مداركه ومشاعره من مستوى ، ليعلم أنّ خلق السماء وما يسبح فيها من نجوم وكواكب ومجرّات ، لهو أعقد وأعظم من خلق الإنسان وإذا فمن له القدرة على خلق السماء وما فيها من حقائق ، أيعقل أن يكون عاجزا عن إعادة الحياة مرّة اخرى إلى الناس؟!

ويضيف القرآن في بيان خلق السماء ، فيقول شارحا بتفصيل :( رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ) .

«سمك» : ـ على وزن سقف ـ لغة : بمعنى الارتفاع ، وجيئت بمعنى (السقف) أيضا ، وعلى قول الفخر الرازي في تفسيره : إنّ الشيء المرتفع لو قيس ارتفاعه من الأعلى إلى الأسفل فالنتيجة تسمّى (عمق) ، أمّا لو قيس الارتفاع من الأسفل إلى الأعلى فهو (سمك)(٢) .

«سواها» : من (التسوية) ، بمعنى التنظيم ، وهي تشير إلى دقّة التنظيم الحاكمة على الأجرام السماوية ، وإذا اعتبرنا «سمكها» بمعنى «سقفها» ، فهي إشارة إلى الغلاف الجوي الذي حفّ وأحاط بالكرة الأرضية كالسقف المحكم البناء ، والذي يحفظها من شدّة آثار الأحجار السماوية ، والشهب ، والأشعة الكونية والمميتة والمتساقطة عليها باستمرار.

وقيل : إنّ «سواها» إشارة إلى كروية السماء وإحاطتها بالأرض ، حيث أنّ التسوية هنا تعني تساوي الفاصلة بين أجزاء هذا السقف نسبة إلى المركز الأصلي (الأرض) ، ولا يتحقق ذلك من دون كروية الأرض وما حولها (السماء).

__________________

(١) في الآية حذف ، والتقدير : (أم السماء أشدّ خلقا). و «بناها» : جملة استئنافية ، وهي مقدّمة للآيات التالية.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣١ ، الآية المبحوثة.

٣٩١

وقيل أيضا : إنّ الآية تشير إلى ارتفاع السماء والأجرام السماوية وبعدها الشاسع عن الأرض ، بالإضافة لإشارتها للسقف المحفوظ المحيط بالأرض.

وعلى أيّة حال ، فالآية قد نهجت بذات سياق الآية (٥٧) من سورة المؤمن :( لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

ثمّ تنتقل بنا الآية التالية إلى إحدى الأنظمة الحاكمة في هذا العالم الكبير ، الكبير ، (نظام النور والظلمة) ، :( وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ) .

فلكلّ من النور والظلمة دور أساس ومهم جدّا في حياة الإنسان وسائر الأحياء من حيوان ونبات ، فلا يتمكن الإنسان من الحياة دون النور ، لما له من ارتباط وثيق في حركة وإحساس ورزق وأعمال الإنسان ، وكذا لا يتمكن من تكملة مشوار حياته من غير الظلمة ، والتي تعتبر رمز الهدوء والسكينة.

«أغطش» : من (الغطش) ، بمعنى الظلام ، ولكنّ الراغب في مفرداته يقول : وأصله من «الأغطش» وهو الذي في عينه شبه عمش.

«الضحى» : انبساط الشمس وامتداد النهار(١) .

وتنتقل بنا الآية الاخرى من السماء إلى الأرض ، فتقول :( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) .

«دحاها» : من «الدحو» بمعنى الانبساط ، وفسّرها بعضهم :( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) .

وللمعنيين أصل واحد ، لوجود التلازم بينهما.

ويقصد بدحو الأرض ، إنّها كانت في البداية مغطاة بمياه الأمطار الغزيرة التي انهمرت عليها من مدّة طويلة ، ثمّ استقرت تلك المياه تدريجيا في منخفضات الأرض ، فشكلت البحار والمحيطات ، فيما علت اليابسة على أطرافها ، وتوسعت

__________________

(١) يرجع ضميرا «ليلها» و «ضحاها» إلى السماء ، فنسبة النور والظلمة إلى السماء باعتبار أنّ لهما منشأ سماويا.

٣٩٢

تدريجيا ، حتى وصلت لما هي عليه الآن من شكل ، (وحدث ذلك بعد خلق السماء والأرض)(١) .

وبعد دحو الأرض ، وإتمام صلاحيتها لسكنى وحياة الإنسان ، يأتي الحديث في الآية التالية عن الماء والنبات معا :( أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها ) .

ويظهر من التعبير القرآني ، إنّ الماء قد نفذ إلى دخل الأرض بادئ ذي بدء ، ثمّ خرج على شكل عيون وأنهار ، حتى تشكلت منهما البحيرات والبحار والمحيطات.

«المرعى» : اسم مكان من (الرعي)(٢) ، وهو حفظ ومراقبة امور الحيوان من حيث التغذية وما شابهها.

ولهذا ، تستعمل كلمة (المراعاة) بمعنى المحافظة والمراقبة وتدبير الأمور ، وكلّ من يسوس نفسه أو غيره يسمّى (راعيا) ، ولذا جاء في الحديث الشريف : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».

ثمّ ينتقل البيان القرآني إلى «الجبال» ، حيث ثمّة عوامل تلعب الدور المؤثر في استقرار وسكون الأرض ، مثل : الفيضانات ، العواصف العاتية ، المدّ والجزر ، والزلازل فكل هذه العوامل تعمل على خلخلة استقرار الأرض ، فجعل اللهعزوجل «الجبال» تثبيتا للأرض ، ولهذا تقول الآية :( وَالْجِبالَ أَرْساها ) (٣) .

«أرسى» : من (رسو) ، بمعنى الثبات ، وأرسى : فعل متعد ، أي ، ثبّت الجبال في مواقعها.

وتلخص الآية التالية ما جاء في الآيات السابقة :( مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) .

__________________

(١) فسّر بعض المفسّرين «بعد ذلك» في الآية ، بمعنى (إضافة لهذا) ، فيكون معنى الآية : (إضافة إلى ما في الآيات السابقة فالأرض دحاها).

(٢) واعتبره البعض : مصدرا ميميا ، بمعنى الحيوانات السائمة ، ولكنّ المعنى المذكر أعلاه أقرب.

(٣) بحثنا مفصلا موضوع الجبال وأهميتها في حياة الإنسان وفي تثبيت الأرض ، في ذيل الآية (٣) من سورة الرعد ـ فراجع.

٣٩٣

نعم فالسماء رفعها.

خلق نظام النور والظلمة.

دحى الأرض.

أخرج من الأرض ماء ونباتا.

أرسى الجبال لحفظ الأرض.

هيأ مستلزمات عيش الإنسان ، وسخر له كلّ شيء.

كلّ ذلك ، ليغرف الإنسان من نعم الله ، ولكي لا يغفل عن طاعة الله والوصول لساحة رضوانه جلّ شأنه.

وما جاء في الآيات يبرز قدرته سبحانه على المعاد من جهة ، ويدلل من جهة اخرى على وجود الله تعالى وعظمة شأنه ، ليدفع المخلوق إلى الإذعان بسلامة سلك طريق معرفة الله وتوحيده.

* * *

٣٩٤

الآيات

( فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) )

التّفسير

التنزّه عن الهوى :

وتتجه عدسة آيات القرآن الكريم لتعرض لنا جوانبا من صور عالم القيامة ، وتبدأ بتصوير تلك الداهية المذهلة التي تصيب من عبد أهواءه في الحياة الدنيا :( فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ) (١) .

«الطامة» : من (الطم) ـ على زنة فنّ ـ وهو في الأصل بمعنى ملء الفراغ

__________________

(١) يقول بعض المفسّرين ، إنّ جواب الشرط في «إذا» الشرطية ، يأتي في الآيات( فَأَمَّا مَنْ طَغى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ) ولكن الأفضل أن نقول : إنّ الجزاء محذوف يدل عليه ما في الآيات التالية ، والتقدير : (فإذا جاءت الطامة الكبرى ، يجز كلّ إنسان بما عمل) ، وقيل : يستفاد جزاء الشرط من «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ » ـ ولكنّه بعيد.

٣٩٥

والحفر ، ويطلق بالطامة على كلّ شيء بلغ حدّه الأعلى ، ولهذا فقد أطلقت على الحوادث المرّة والصعاب الكبار ، وهي في الآية تشير إلى يوم القيامة لما فيها من دواهي تغطي بهولها كلّ هول ، واتبعت بـ «الكبرى» زيادة في التأكيد على أهمية وخطورة يوم القيامة.

ويضيف : حال حلول الحدث سيفلت الجميع من نياط غفلتهم ، ويتذكروا ما زرعوا لحياتهم :( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ) .

وأنى للتذكر بعد فوات الأوان!

وإذا طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدوا ويتداركوا الأمر ، فسيقرعون بـ( كَلَّا ) .

وإذا ما اعتذروا تائبين ، فلا محيص عن ردّهم ، بعد أن أوصدت أبواب التوبة بأمر الجبّار الحكيم.

وعندها : لا يبقى لهم إلّا الحسرة والندامة ، والهم والغم ، وكما تقول الآية (٢٧) من سورة الفرقان :( يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ) .

وثمّة نكتة في الآية ترتبط بصيغة الفعل «يتذكر» ، فقد جاء الفعل مضارعا ليدل على استمرارية التذكر ، فالإنسان أمام ذلك المنظر الرهيب ، وقد أزيلت الحجب عن قلبه وروحه ، سيرى الحقائق بعينها شاخصة أمامه ، ولا ينسى حينها ما اكتسبت يداه من أعمال.

وتشخص الآية التالية ما سيقع :( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى ) .

فالجحيم موجودة ، كما تشير إلى ذلك الآية (٥٤) من سورة العنكبوت :( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) ، ولكن حجب الدنيا تمنعنا من رؤيتها ، وأمّا في يوم الفصل ، يوم البروز ، فسيبرز كلّ شيء ولا يستثنى من ذلك جهنّم.

وجملة «لمن يرى» ، تشير إلى رؤية جهنّم من قبل الجميع بلا استثناء (الصالح والطالح) ، فهي غير خافية عن الأنظار.

٣٩٦

وقيل : إنّها لمن سيكون له نظر في يوم القيامة ، لأنّ الآية (١٢٤) من سورة طه قد صرّحت بأنّ البعض سيحشر أعمى :( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ) ، ويعتمد ستكون أكثر المفسّرين على التّفسير الأوّل لمناسبته للمقام ، لأنّ رؤية جهنّم من قبل العاصين ستكون أكثر إيلاما لهم ، إضافة إلى أنّ العمى المشار إليه ، ربّما يكون في موقف معين من مواقف يوم القيامة ، وليس دائما(١) .

وفي الآيات الثلاثة التالية ، يشير القرآن إلى حال المجرمين والطغاة يوم القيامة :( فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ) (٢) .

والآية الاولى تشير إلى فساد عقائد الطغاة ، لأنّ الطغيان ينشأ من الغرور ، والغرور من نتائج عدم معرفة الباري جّل شأنه.

وبمعرفة عظمة وجلال الله يتصاغر الإنسان ويتصاغر حتى يكاد لا يرى لنفسه أثرا ، وعندها سوف لن تزل قدمه عن جادة العبودية الحقة ، ما دام سلوكه يصب في رافد معرفة الله.

والآية الثانية تشير إلى فسادهم العملي ، لأنّ الطغيان يوقع الإنسان في شراك اللذائذ الوقتية الفانية ذروة الطموح ومنتهى الأمل ، فينساق واهما لأنّ يجعلها فوق كلّ شيء!

والأمران في واقعهما كالعلة والمعلول ، فالطغيان وفساد العقدة مفتاح فساد العمل وحبّ الدنيا المفرط ، ولا يجران إلّا إلى سوء عقبى الدار ، نار جهنّم خالدين فيها أبدا.

وعن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، أنّه قال : «ومن طغى ضل على عمل بلا حجّة»(٣)

، فالغرور يرى صاحبه الهوى حقّ : على الرغم من عدم امتلاكه الدليل أو

__________________

(١) لزيادة التوضيح ، راجع ذيل الآية (١٢٤) من سورة طه.

(٢) تقدير الآية الثالثة مع محذوفها : (هي المأوى له) أو (هي مأواه) ، وحذف الضمير لوضوحه.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٠٦ ، الحديث ٤٣.

٣٩٧

الحجّة ، وبالرغم من مخالفة المنطق له!.

ويأتي الدور في الآيتين التاليتين لوصف أهل الجنّة :( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) .

فالشرط الأوّل للحصول على نعم الجنّة والاستقرار بها هو الخوف من الله من خلال معرفته (معرفة الله والخوف من التمرد والعصيان على أوامره) ، والشرط الثاني هو ثمرة ونتيجة الشرط الأوّل أي الخوف والمعرفة ويتمثل في السيطرة على هوى النفس وكبح جماحها ، فهوى النفس من أقبح الأصنام المعبودة من دون الله ، لأنّه المنفذ الرئيسي لدخول معترك الذنوب والمفاسد ، ولذا فـ «أبغض إله عبد على وجه الأرض : الهوى».

وهوى النفس هو الطابور الخامس في قلب الإنسان ، نعم فالشيطان الخارجي لا يتمكن من النفوذ إلى داخل الإنسان ما لم يوافقه الشيطان الداخلي في منحاه ، ويفتح له أبواب الدخول ، كما تشير إلى ذلك الآية (٤٢) من سورة الحجر :( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ مقام الرّب؟

جاء في الآية (٤٠)( ... مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ) ، ولم يقل (من خاف ربّه) ، ، فما ذا يقصد بهذا المقام؟

طرحت احتمالات عديدة في جواب السؤال المذكور :

١ ـ المقام : مواقف القيامة ، وهي المقامات التي سيقف فيها الإنسان بين يدي ربّه للحساب ، فسيكون «مقام ربّه» ـ على ضوء هذا الاحتمال ـ بمعنى (مقامه عند ربّه).

٣٩٨

٢ ـ المقام : علم الله ومقام مراقبته للإنسان ، بدلالة الآية (٣٣) من سورة الرعد :( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) .

وبدلالة ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : قوله : «من علم أنّ الله يراه ، ويسمع ما يقول ، ويعلم من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(١) .

٣ ـ مقام العدالة الإلهية ، لأنّ العبد لا يخاف من ذات الله المقدّسة بل خوفه من عدل الله حسابه وفي الحقيقة إنّ هذا الخوف ناشئ من قياس أعماله بميزان العدل ، فالمجرمون ترتعد فرائصهم وتهتزّ دواخلهم حين رؤية القاضي العادل ، ولا يتحملون سماع اسم المحكمة والمحاكمة ، بعكس من لم يقم بأي ذنب ، فرؤيته للقاضي ستكون مغايرة لما داخل المجرم من إحساسات ولا تباين بين هذه التفسيرات الثلاثة ، ويمكن ادغامها في معنى الآية.

٢ ـ علاقة الطغيان بعبادة الدنيا

رسمت الآيات المبحوثة وبأسلوب رائع اصول سعادة وشقاء الإنسانية ، فجسدت بريشتها البيانية زبدة تعاليم الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام .

فشقاء الإنسان يكمن في طغيانه وعبادته لجواذب الدنيا ، وسعادته في خوفه من الله وتركه ما يبعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى.

روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : إتّباع الهوى وطول الأمل ، فأمّا اتّباع الهوى فيصد عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(٢) .

و هوى النفس : يضع حجابا على عقل الإنسان ، يزيّن له الأعمال القبيحة ،

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٧.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٤٢.

٣٩٩

يشغل الإنسان بنفسه ، يسلبه قدرة التمييز بين الصالح والطالح والتي هي أعظم نعمة على الإنسان ، وبها يتميزّ الإنسان عن الحيوان ، وهذا هو ما أشارت إليه الآية (١٨) من سورة يوسف في وقول نبيّ الله يعقوبعليه‌السلام لأولاده :( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) .

وباب الحديث أوسع بكثير من أن يلخص بوريقات ، ولكننا سنكتفي بذكر حديثين عن أئمّة الهدى من أهل البيتعليهم‌السلام ، لتناولهما مختلف جوانب الموضوع :

فعن الإمام الباقرعليه‌السلام ، أنّه قال : «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دحل الجنّة ، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات ، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النّار»(١) .

وعن الإمام الصادق ، أنّه قال : «لا تدع النفس وهواها ، فإنّ هواها في رداها ، وترك النفس وما تهوى داؤها ، وكفّ النفس عمّا تهوى دواؤها»(٢) .

ولا يدخل اتباع الهوى جهنّم فقط ، فله من الآثار السلبية حتى في الحياة الدنيا ، ومن نتائجه : فقدان الأمن ، وتخلخل النظام ، ونشوب الحروب ، وسفك الدماء ، وإثارة النزاعات والأحقاد

٣ ـ فريقان لا ثالث لهما

تحدثت الآيات محل البحث عن فريقين من الناس ، أمّا من طغى وعبد هواه فمأواه جهنّم خالدا فيها ، وأمّا من اتقى وخاف مقام ربّه فالجنّة مأواه أبدا.

وثمّة فريق ثالث لم تتطرق له الآيات ، وهو المؤمنين الذين قصروا في أداء بعض الأعمال والوظائف ، أو أصابهم بعض تلوثات هوى النفس الأمارة بالسوء ، فهؤلاء وإن كانوا فريقا ثالثا ـ حسب لظاهر ـ إلّا أنّهم سرعان ما يلتحقون بأحد

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٠٧ ، الحديث ٤٥.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٤٦.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511