الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135918 / تحميل: 5386
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الفريقين ، فأمّا من يحمل أرضية شموله بالعفو الإلهي فسيلتحق بركب المتقين ، وأمّا من ثقلت كفة ذنوبه فسيحشر مع القابعين في أودية النّار ، ولكنها لا تكون مكانهم ومأواهم الأبدي.

* * *

٤٠١

الآيات

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦) )

التّفسير

يوما لقيامة : الوقت المجهول!

تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة) : فتقول أوّلا :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) (١) .

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع

__________________

(١) جاءت كلمة «المرسى» بهذا الموضع مصدرا ، على مالها من استعمال اخرى ، فتأتي تارة اسم زمان ومكان ، وتارة اخرى اسم مفعول من «الإرساء» ، معناها المصدري هو : الوقوع والثبات ، ويستخدم المرسى كمكان لتوقف السفن ، وفي تثبيت الجبال على سطح الأرض ، وكقوله تعالى في الآية (٤١) من سورة هود :( وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) ، والآية (٣٢) من سورة النازعات :( وَالْجِبالَ أَرْساها ) .

٤٠٢

القيامة ، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها ، ويقول :( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) .

فما خفّي عليك (يا محمّد) ، فمن باب أولى أن يخفى على الآخرين ، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه الله لنفسه ، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقا!

وكما قلنا ، فسّر خفاء موعد الحق يرجع لأسباب تربوية ، فإذا كان ساعة قيام القيامة معلومة فستحل الغفلة على جميع إذا كانت بعيدة ، وبالمقابل ستكون التقوى اضطرارا والورع بعيدا عن الحرية والإختيار إذا كانت قريبة ، والأمران بطبيعتهما سيقتلان كلّ أثر تربوي مرجو.

وثمّة احتمالات اخرى قد عرضها بعض المفسّرين ، ومنها : إنّك لم تبعث لبيان وقت وقوع يوم القيامة ، وإنّما لتعلن وتبيّن وجودها (وليس لحظة وقوعها).

ومنها أيضا : إنّ قيامك وظهورك مبيّن وكاشف عن قرب وقوع يوم القيامة بدلالة ما

روي عن النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما جمع بين سبابتيه وقال : «بعثت أنا والقيامة كهاتين»(١)

ولكنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره وأقرب.

وتقول الآية التالية :( إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ) .

فالله وحده هو العالم بوقت موعدها دون غيره ولا فائدة من الخوض في معرفة ذلك.

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآيتين : (٣٤) من سورة لقمان :( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ، وفي الآية (١٨٧) من سورة الأعراف :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) .

وقيل : المراد بالآية ، تحقق القيامة بأمر الله ، ويشير هذا القول إلى بيان علّة ما

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩ ، وذكرت ذات الموضوع في : تفاسير (مجمع البيان) ، (القرطبي) ، (في ظلال القرآن) بالإضافة لتفسير اخرى ، في ذيل الآية (١٨) من سورة محمّد.

٤٠٣

ورد في الآية السابقة ، ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.

وتسهم الآية التالية في التوضيح :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) .

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحقّ ، وإنذار من لا يأبى بعقاب أخروي أليم ، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

مع ملاحظة ، أنّ الإنذار الموجه في الآية فيمن يخاف ويخشى وعقاب الله ، هو يشابه الموضوع الذي تناولته الآية (٢) من سورة البقرة :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

ويشير البيان القرآني إلى أثر الدافع الذاتي في طلب الحقيقة وتحسس المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان أمام خالقه ، فإذا افتقد الإنسان إلى الدافع المحرك فسوف لا يبحث فيما جاءت به كتب السماء ، ولا يستقر له شأن في أمر المعاد ، بل وحتى لا يستمع لإنذارات الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام .

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس إلّا قليلا :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) .

فعمر الدنيا وحياة البرزخ من السرعة في الانقضاء ليكاد يعتقد الناس عند وقوع القيامة ، بأنّ كلّ عمر الدنيا والبرزخ ما هو إلّا سويعات معدودة!

وليس ببعيد لأنّ عمر الدنيا قصير بذاته ، وليس من الصواب أن نقايس بين زمني الدنيا والآخرة ، لأنّ الفاني ليس كالباقي.

«عشيّة» : العصر. و «الضحى» : وقت انبساط الشمس وامتداد النهار.

وقد نقلت الآيات القرآنية بعض أحاديث المجرمين في يوم القيامة ، فيما يختص بمدّة لبثهم في عالم البرزخ

فتقول الآية (١٠٣) من سورة طه :( يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ) ، و( يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ) .

وتقول الآية (٥٥) من سورة الروم :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما

٤٠٤

لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) .

واختلاف تقديرات مدّة اللبث ، يرجع لاختلاف القائلين ، وكلّ منهم قد عبّر عن قصر المدّة حسب ما يتصور ، والقاسم المشترك لكلّ التقديرات هو أنّ المدّة قصيرة جدّا ويكفي طرق باب هذا الموضوع بإيقاظ الغافل من خدره.

اللهمّ! هب لنا الأمن والسلامة في العوالم الثلاث ، الدنيا والبرزخ والقيامة

يا ربّ! لا ينجو من عقاب وشدائد يوم القيامة إلّا من رحمته بلطفك ، فاشملنا بخاصة لطفك ورحمتك

إلهي! اجعلنا ممن يخاف مقامك وينهى نفسه عن الهوى ، ولا تجعل لنا غير الجنّة مأوى

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النّازعات

* * *

٤٠٥
٤٠٦

سورة

عبس

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية

٤٠٧
٤٠٨

«سورة عبس»

محتوى السورة :

تبحث هذه السورة على قصرها مسائل مختلفة مهمّة تدور بشكل خاص حول محور المعاد ، ويمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية.

١ ـ عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحقّ بأسلوب غير لائق.

٢ ـ أهمية القرآن الكريم.

٣ ـ كفران الإنسان للنعم والمواهب الإلهية.

٤ ـ بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حسّ الشكر في الإنسان.

٥ ـ الإشارة إلى بعض الوقائع والحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفّار ذلك اليوم العظيم.

وتسمية هذه السورة بهذا الاسم بمناسبة الآية الاولى منها.

فضيلة السورة :

ورد في الحديث النّبوي الشريف أنّ : «من قرأ سورة «عبس» جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر»(١)

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٥.

٤٠٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) )

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب الله تعالى بشكل إجمالي ، عتابه لشخص قدّم المال والمكانة الاجتماعية على طلب الحق أمّا من هو المعاتب؟ فقد اختلف فيه المفسّرون ، لكنّ المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم ، ما يلي :

إنّها نزلت في عبد الله بن ام مكتوم ، إنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبي واميّة بن خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعهم ، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين) ، فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلمني ممّا علمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه ، وقال في

٤١٠

نفسه : يقول هؤلاء الصناديد ، إنّما أتباعه العميان والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فنزلت الآية.

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه قال : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي» ، ويقول له : «هل لك من حاجة».

واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين(١) .

والرأي الثّاني في شأن نزولها : ما

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّها نزلت في رجل من بني اميّة ، كان عند النّبي ، فجاء ابن ام مكتوم ، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك ، وأنكره عليه»(٢) .

وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ الآيات (٨ ـ ١٠) في السورة يمكن أن تكون قرينة ، حيث تقول :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير من ينطبق عليه هذا الخطاب الربّاني.

ويحتجّ الشريف المرتضى على الرأي الأوّل ، بأنّ ما في آية( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) لا يدل على أنّ المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّ العبوس ليس من صفاته مع أعدائه ، فكيف به مع المؤمنين المسترشدين! ووصف التصدّي للأغنياء والتلهي عن الفقراء ممّا يزيد البون سعة ، وهو ليس من أخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، بدلالة قول الله تعالى في الآية (٤) من سورة (ن) ، والتي نزلت قبل سورة عبس ، حيث وصفه الباري :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول ، فإنّ فعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال هذه لا يخرج من كونه (تركا للأولى) ، وهذا ما لا ينافي العصمة ،

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٧.

(٢) المصدر السابق.

٤١١

وللأسباب التالية :

أوّلا : على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق ، وتحطيم صف أعدائه.

ثانيا : إنّ العبوس أو الانبساط مع الأعمى سواء ، لأنّه لا يدرك ذلك ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد الله بن ام مكتوم» لم يراع آداب المجلس حينها ، حيث أنّه قاطع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين ، ولكن بما أنّ الله تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الاعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلا على عظمة شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية ، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى) ، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق فيه ، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضا) فلا داعي لاستعتاب نفسه

ومن مكارم خلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد الله بن ام مكتوم ، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والاستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا ، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك ، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين.

ونأتي لنقول ثانية : إنّ المشهور بين المفسّرين في شأن النّزول ، هو نزولها في شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى.

* * *

٤١٢

التّفسير

عتاب ربّاني!

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات ، ننتقل إلى تفسيرها :

يقول القرآن أولا :( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) .

لماذا؟ :( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) .

( وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) ، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ) ، فإن لم يحصل على التقوى ، فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة ، فتنفعه ذلك(١) .

ويستمر العتاب :( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ) ، من اعتبر نفسه غنيا ولا يحتاج لأحد.

( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) ، تتوجّه إليه ، وتسعى في هدايته ، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر ، كما أشارت لهذا الآيتان (٦ و٧) من سورة العلق :( ... إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) .(٢)

( وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) ، أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان ، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن ، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحقّ ، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كلّ أولئك الأغنياء المتحجرين.

__________________

(١) والفرق بين الآية والتي قبلها ، هو أنّ الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة ، في حين أنّ الحديث في الآية المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي ، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة ، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من التذكير ، سواء كانت الفائدة تامّة أم مختصرة. وقيل : إنّ الفرق بين الآيتين ، هو أنّ الأولى تشير إلى التطهير من المعاصي ، والثانية تشير إلى كسب الطاعات وإطاعة أمر الله عزوجل. والأوّل يبدو أقرب للصحة.

(٢) يقول الراغب في مفرداته : (غنى واستغنى وتغنى وتغانى) بمعنى واحد ، ويقول في (تصدّى) : إنّها من (الصدى) ، أي الصوت الراجع من الجبل.

٤١٣

وتأتي العتاب مرّة اخرى تأكيدا :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ) ، في طلب الهداية

( وَهُوَ يَخْشى ) (١) ، فخشيته من الله هي التي دفعته للوصول إليك ، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها ، ويعمل على مقتضاها.

( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (٢) .

ويشير التعبير بـ «أنت» إلى أنّ التغافل عن طالبي الحقيقة ، ومهما كان يسيرا ، فهو ليس من شأن من مثلك ، وإن كان هدفك هداية الآخرين ، فبلحاظ الأولويات ، فإنّ المستضعف الظاهر القلب والمتوجه بكلّه إلى الحقّ ، هو أولى من كلّ ذلك الجمع المشرك.

وعلى أيّة حال : فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى غيره ، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق ، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ الله لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف.

وعلّة ذلك ، إنّ الطبقة المحرومة من الناس تمثل : السند المخلص للإسلام دائما الأتباع الأوفياء لأئمّة دين الحق ، المجاهدين الصابرين في ميدان القتال والشهادة ، كما تشير إلى هذا المعنى رسالة أمير المؤمنينعليه‌السلام لمالك الأشتر : «وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأئمّة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم»(٣) .

* * *

__________________

(١) يراد بالخشية هنا : الخوف من الله تعالى ، الذي يدفع الإنسان ليتحقق بعمق وصولا لمعرفته جلّ اسمه ، وكما يعبر المتكلمون عنه بـ وجوب معرفة الله بدليل دفع الضرر المحتمل. واحتمل الفخر الرازي : يقصد بالخشية ، الخوف من الكفّار ، أو الخوف من السقوط على الأرض لفقدانه البصر. وهذا بعيد جدّا.

(٢) «التلهي» : من (اللهو). ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والاستغفال بغيره ، ليقف في قبال «التصّدي».

(٣) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٤١٤

الآيات

( كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) )

التّفسير

تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس ، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق) ، ، فتقول( كَلَّا ) فلا ينبغي لك أن تعيد الكرّة ثانية.

( إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) ، إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد ، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين ، أولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضا ، كون الآيات ،( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

٤١٥

وفتقول الآية : إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة ، لا يمتلك من الصحة شيئا ، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان ، ودليلها فيها ، وكلّ من اقترب منها سيجد أثر ذلك في نفسه (ما عدا المعاندين).

وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكّر :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (١) .

نعم ، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرّباني ، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كلّ الآذان ، وما على الإنسان إلّا أن يستفيد منها أو لا يستفيد.

ثمّ يضيف : أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق) :( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) .

«الصحف» : جمع (صحيفة) بمعنى اللوح أو الورقة ، أو أيّ شيء يكتب عليه.

فالآية تشير إلى أنّ القرآن قد كتب على ألواح من قبل أن ينزّل على النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي ، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وسياق الآية وارتباطها مع ما سبقها من آيات وما سيليها : لا ينسجم مع ما قيل من أنّ المقصود بالصحف هنا هو ، كتب الأنبياء السابقين.

وكذا الحال بالنسبة لما قيل من كون «اللوح المحفوظ» ، لأنّ «اللوح والمحفوظ» لا يعبر عنه بصيغة الجمع ، كما جاء في الآية : «صحف».

وهذه الصحف المكرمة :( مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) .

فهي مرفوعة القدر عند الله ، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرّفين ، ولكونها خالية من قذارة الباطل ، فهي أطهر من أن تجد فيها أثرا لأيّ تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

__________________

(١) يعود ضمير : «ذكره» إلى ما يعود إليه ضمير «إنّها» ، وسبب اختلاف الصيغة بين الضميرين هو أنّ ضمير «إنّها» يرجع إلى الآيات القرآنية ، و «ذكره» إلى القرآن ، فجاء الأوّل مؤنثا والثّاني مذكرا.

٤١٦

وهي كذلك :( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) ، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء :( كِرامٍ بَرَرَةٍ ) .

«سفرة» : جمع (سافر) من (سفر) على وزن (قمر) ، ولغة : بمعنى كشف الغطاء عن الشيء ، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم ، ويطلق على الكاتب اسم (السافر) ، وعلى الكتاب (سفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما وعليه فالسفرة هنا ، بمعنى : الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النّبي ، أو الكاتبين لآياته.

وقيل : هم حفّاظ وقرّاء وكتّاب القرآن والعلماء ، الذين يحافظون على القرآن من أيدي العابثين وتلاعب الشياطين في كلّ عصر ومصر.

ويبدو هذا القول بعيدا ، لأنّ الحديث في الآيات كان يدور حول زمان نزول الوحي على صدر الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس عن المستقبل.

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، في وقوله : «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة»(١) . بجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة ، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم ، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم ، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

ونستنتج من كلّ ما تقدم : بأنّ من يسعى في حفظ القرآن وإحياء مفاهيمه وأحكامه ممارسة ، فله من المقام ما للكرام البررة.

«كرام» : جمع (كريم) ، بمعنى العزيز المحترم ، وتشير كلمة «كرام» في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند الله وعلو منزلتهم.

وقيل : «كرام» : إشارة إلى طهارتهم من كلّ ذنب ، بدلالة الآيتين (٢٦ و٢٧) من سورة الأنبياء :( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٨.

٤١٧

«بررة» : جمع (بار) ، من (البرّ) ، بمعنى التوسع ، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة اسم (البر) ، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خير وشمول بركاته على الآخرين.

و «البررة» : في الآية ، بمعنى : إطاعة الأمر الإلهي ، والطهارة من الذنوب.

ومن خلال ما تقدم تتوضح لنا ثلاث صفات للملائكة.

الاولى : إنّهم «سفرة» حاملين وحيه جلّ شأنه.

الثّانية : إنّهم أعزاء ومكرمون.

الثالثة : طهرة أعمالهم عن كلّ تقاعس أو مفسدة.

وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى الله ، ومنها ما في صحف المكرمة من تذكير وتوجيه ولكنّ الإنسان يبقى عنيدا متمردا :( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) (١) .

«الكفر» : في هذا الموضوع قد يحتمل على ثلاثة معان عدم الإيمان ، الكفران وعدم الشكر جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كلّ المستويات ، وهو المعنى الجامع والمناسب للآية ، لأنّها تعرضت لأسباب الهداية والإيمان ، فيما تتحدث الآيات التي تليها عن بيان النعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى.

( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) : كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا ، وزجره لمن يكفر بآياته.

ثمّ يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي ، والذي غالبا ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة :( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) ؟

__________________

(١) «قتل الإنسان» : نوع من اللعن ، وهو أشدّها عن الزمخشري في (الكشاف). «ما» ، في «ما أكفره» : للتعجب ، التعجب من السير في متاهات الكفر والضلال ، مع ما للحق من سبيل واضحة ، وتوفير مختلف مصاديق واللطف والرحمة والرّبانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ النجاة.

٤١٨

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة ، ثمّ صنع منه مخلوقا موزونا مستويا قدّر فيه جميع أموره في مختلف مراحل حياته :( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) .

فلم لا يتفكر الإنسان بأصل خلقته؟!

لم ينسى تفاهة مبدأه؟!

ألّا يجدر به أن يتأمل في قدرة الباري سبحانه ، وكيف جعله موجودا بديع الهيئة والهيكل من تلك النطفة الحقيرة القذرة!! ألا يتأمل!!

فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات ، ومع ما منحه الله من مواهب واستعدادات لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

«قدّره» : من (التقدير) ، وهو الحساب في الشيء وكما بات معلوما أنّ أكثر من عشرين نوعا من الفلزات وأشباه الفلزات داخلة في التركيب (البيولوجي) للإنسان ، ولكلّ منها مقدارا معينا ومحسوبا بدقّة متناهية من حيث الكمية الكيفية ، بل ويتجاوز التقدير حدّ البناء الطبيعي للبدن ليشمل حتى الاستعدادات والغرائز والميول المودعة في الإنسان الفرد ، بل وفي المجموع العام للبشرية ، وقد وضع الحساب في مواصفات تكوينية ليتمكن الإنسان بواسطتها من الوصول إلى السعادة الإنسانية المرجوة.

وتتجلّى عظمة تقدير الخالق سبحانه في تلك النطفة الحقيرة القذرة التي تتجلّى بأبهى صورها جمالا وجلالا ، حيث لو جمعنا الخلايا الأصلية للإنسان (الحيامن) لجميع البشر ، ووضعناها في مكان واحد ، لكانت بمقدار حمصة! نعم

فقد أودعت في هذا المخلوق العاقل الصغير كلّ هذه البدائع والقابليات.

وقيل : التقدير بمعنى التهيئة.

وثمّة احتمال آخر ، يقول التقدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.

٤١٩

فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كلّ هذه القدرة والاستطاعة ، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض ، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كلّ ما يحيط بها من قوى(١) .

ولا مانع من الأخذ بالتفاسير الثلاث جملة واحدة.

ويستمر القرآن في مشوار المقال :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) يسّر له طريق تكامله حينما كان جنينا في بطن امّه ، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.

ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن امّه يكون على الهيئة التالية : رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل ، ووجهه متجها صوب ظهر امّه ، وما أن تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئة فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته! وقد تشذ بعض حالات لولادة ، بحيث يكون الطفل في بطن امّه في هيئة مغايرة للطبيعة ، ممّا تسبب كثير من السلبيات على وضع الام عموما.

وبعد ولادته : يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي ، ثمّ مرحلة نمو الغرائز ، فالرشد في مسير الهداية الايمانية والروحية ، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان ورحيا وإيمانيا.

وبلاغة بيان القرآن قد جمعت كلّ ذلك في جملة واحدة :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) .

والملفت للنظر أنّ الآية المباركة تؤكّد على حرية اختيار الإنسان حين قالت أنّ الله تعالى يسّر وسهّل له الطريق الى الحق ، ولم تقل أنّه تعالى أجبره على

__________________

(١) يقول الراغب في مفردات : «قدّره» (بالتشديد) : أعطاه القدرة ، ويقال : قدّرني الله على كذا وقواني عليه».

٤٢٠

سلوك ذلك الطريق.

وتشير الآية التالية إلى الأمر الحتمي الذي به تطوى آخر صفحات مشوار الحياة الدنيا :( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) .

ومن المعلوم أنّ «الإماتة» من الله تعالى والدفن على ظاهره من عمل الإنسان ، ولمّا كانت عملية الدفن تحتاج إلى نسبة من الذكاء والعقل بالإضافة إلى توفر بعض المستلزمات الضرورية لذلك ، فقد نسب الدفن «فأقبره» إلى الله تعالى.

وقيل : نسب الله ذلك إليه ، باعتبار تهيئة الأرض قبرا للإنسان.

قيل : تمثل الآية حكما شرعيا ، وأمرا إلهيا في دفن الأموات.

وعلى أيّة حال ، فالدفن من عناية ولطف وتكريم الله للإنسان ، فلولا أمره سبحانه بالدفن لبقيت أجساد الإنسان الميتة على الأرض وتكون عرضة للتعفن والتفسخ وطعما للحيوانات الضارية والطيور الجارحة ، فيكون الإنسان والحال هذه في موضع الذّلة والمهانة ، ولكنّ لطف الباريعزوجل على الإنسان في حياته وبعد مماته أوسع ممّا يلتفت فيه الإنسان لنفسه أيضا.

وحكم دفن الأموات (بعد الغسل والتكفين والصلاة) ، يبيّن لنا إنّه ينبغي على الإنسان أن يكون طاهرا محترما في موته ، فكيف به يا ترى وهو حيّ؟!

وذكر الموت في الآية باعتباره نعمة ربّانية ، أضفى بها الباري على الإنسان

وبنظرة تأملية فاحصة سنجد حقيقة ذلك ، فالموت في حقيقة عبارة عن :

أوّلا : مقدمة للخلاص من أتعاب وصعاب هذا العالم ، والانتقال إلى عالم أوسع.

ثانيا : فسح المجال لتعاقب الأجيال على الحياة الدنيا لمتابعة مشوار التكامل البشري بصورة عامّة ، ولولا الموت لضاقت الأرض بأهلها ، ولما كان ممكنا أن تستمر عجلة الحياة على الأرض.

٤٢١

وأشارت الآيات (٢٦ ـ ٢٨) من سورة الرحمن إلى نعمة الموت ، بالقول :( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) ؟!

فالموت على ضوء الآية المباركة من مفردات النعم الكبيرة للباري جلّ شأنه على البشرية.

نعم فالدنيا وجميع ما تحويه من نعم ربّانية لا تتعدى كونها سجن المؤمن ، والخروج منها إطلاق سراح من هذا السجن الكئيب.

وإذا كانت النعم سببا لوقوع الإنسان في غفلة عن الله ، فالموت خير رادع لا يقاظه وتحذيره من الوقوع في ذلك الشرك ، فهو والحال هذه نعمة جليلة الشأن.

أضف إلى ذلك كلّه ، إنّ الحياة لو دامت فسوف لا يجني الإنسان منها سوى الملل والتعب ، فهي ليست كالآخرة التي تحمل بين ثناياها النشاط والسعادة الأبدية.

وينتقل البيان القرآني إلى يوم القيامة :( ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ ) .

«أنشره» : من (النشر) ، بمعنى الانبساط بعد الجمع ، فالكلمة تشير بأسلوب بلاغي رائع إلى جمع كلّ حياة الإنسان عند الموت لتنشر في محيط أكبر وأعلى (يوم القيامة).

ومع أنّ الآية السابقة لم تشر إلى مشيئة الله في عمليتي الموت والإقبار( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) ، إلّا أنّ «النشر» قد اقترن بمشيئته سبحانه في الآية المبحوثة( ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ ) يمكن حمل ذلك على كون إشارة لعدم معرفة أيّ مخلوق بوقت حدوث يوم القيامة ، وأمّا الموت فهو معروف إجمالا ، حيث كلّ إنسان يموت بعد عمر طبيعي.

وتأتي الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة لتبيّن لنا ما يؤول إليه الإنسان من ضياع في حال عدم اعتباره بكلّ ما أعطاه الله من المواهب ، فالرغم من حتمية

٤٢٢

تسلسل حياة الإنسان من نطفة حقيرة ، مرورا بما يطويه من صفحات الزمن العابرة ، حتى يموت ويقبر ، لكنّه( كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ) (١) .

جاءت «لمّا» ، ـ التي عادة ما يستعمل للنفي المصاحب لما ينتظر ويتوقع ـ كإشارة إلى ما وضع تحت اختيار وعين الإنسان من نعم إلهية وهداية ربّانية وأسباب التذكير ، لأجل أن يرجع الإنسان إلى ما فطر عليه ويؤدي ما عليه من مسئولية وتكاليف ، ولكنّه مع كلّ ذلك فلا زال غير مؤد لما عليه!

وثمّة احتمالات فيمن عنتهم الآية :

الأوّل : إنّهم السائرون في طريق الكفر والنفاق ، إنكار الحق ، الظلم والعصيان ، بقرينة الآية (٣٤) من سورة إبراهيم :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) .

الثّاني : إنّهم جميع البشر لأنّ المؤمن والكافر يلتقون معا في عدم بلوغهما لدرجة العبودية الحقة والطاعة الكاملة التي تليق بجلالة وعظمة ولطف الباري جلّ شأنه.

* * *

__________________

(١) قيل : أتت «كلّا» هنا بمعنى (حقّا) إلّا أنّ سياق الآية وظاهر الكلمة لا يؤيدان ذلك ولعل المعنى المشهور (الردع) هو المطلوب ، لوجود الكثير ممن يعتقد مغرورا ومدعيّا بأنّه قد أدّى وظائفه الشرعية على أتمّ أداء ، فتأتي الآية لتقول رادعة بأنّه لم يؤد وظائفه بعد.

٤٢٣

الآيات

( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) )

التّفسير

فلينظر الإنسان إلى طعامه :

تحدثت الآيات السابقة حول مسألة المعاد ، والآيات القادمة تتناول نفس الموضوع بشكل أوضح ، ويبدو أنّ الآيات المبحوثة ـ وانسياقا مع ما قبلها وما بعدها ـ تتطرق لذات لبحث تبيّن مفردات قدرة الباري جلّ شأنه على كلّ شيء كدليل على إمكان تحقق المعاد ، فما يقرّب إمكانية القيامة إلى الأذهان هو إحياء الأراضي الميتة بإنزال المطر عليها ، العملية تمثل إحياء بعد موت مختصة في عالم النبات.

ثمّ إنّ البيان القرآني في الآيات أعلاه قد طرح بعض مفردات الأغذية التي جعلها الله تحت تصرف الإنسان والحيوان ، لتثير عند الإنسان الإحساس

٤٢٤

بضرورة شكر المنعم الواهب ، وهذا الإحساس بدوره سيدفع الإنسان ليتقرب في معرفة بارئه ومصوّره.

وشرعت الآيات بقولها :( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ) (١) كيف خلقه الله تعالى؟!

الغذاء من أقرب الأشياء الخارجية من الإنسان وأحد العوامل الرئيسية في بناء بدنه ، ولولاه لتقطّعت أنفاس الإنسان وأسدلت ستارة نصيبه من الحياة ، ولذلك جاء التأكيد القرآني على الغذاء وبالذات النباتي منه من دون بقية العوامل المسخرة لخدمة هذا المخلوق الصغير في حجمه.

ومن الجلي أنّ «النظر» المأمور به في الآية جاء بصيغة المجاز ، وأريد به التأمل والتفكير في بناء هذه المواد الغذائية ، وما تحويه من تركيبات حياتية ، وما لها من تأثيرات مهمّة وفاعلة في وجود الإنسان ، وصولا إلى حال التأمل في أمر خالقها جلّ وعلا.

أمّا ما احتمله البعض ، من كون «النظر» في الآية هو النظر الظاهري (أي المعنى الحقيقي للكلمة) ، وعلى أساس طبي ، حيث أنّ النظر إلى الغذاء يثير إلى الغدد الموجودة في الفم لإفراز موادها كي تساعد عملية هضمه في المعدة ، فيبدو هذا الاحتمال بعيدا جدّا ، لأنّ سياق الآية وبربطها بما قبلها وما بعدها من الآيات لا ينسجم مع هذا الاحتمال.

وبطبيعة الحال إنّ الذين يميلون إلى هذا الاحتمال هم علماء التغذية الذين ينظرون إلى القرآن الكريم من زاوية تخصصهم لا غير.

وقيل أيضا : نظر الإنسان إلى غذاءه في حال جلوسه حول مائدة الطعام ، النظر إلى كيفية حصوله فهل كان من حلال أم من حرام؟ هل هو مشروع أم غير

__________________

(١) يمكن اعتبار جملة «فلينظر» : جزاء شرط مقدّر ، والتقدير : (إن كان الإنسان في شك من ربّه ومن البعث فلينظر إلى طعامه).

٤٢٥

مشروع؟ أي ينظر إلى طعامه من جانبيه الأخلاقي والتشريعي.

وقد ذكر في بعض روايات أهل البيتعليهم‌السلام ، إنّ المراد بـ «الطعام» في الآية هو (العلم) لأنّه غذاء الروح الإنسانية.

ومن هذه الروايات ما روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية ، إنّه قال : «علمه الذي يأخذه عمن يأخذه»(١) .

وقد روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام ما يشابه معنى الرواية أعلاه(٢) .

وإذا كان المستفاد من ظاهر الآية هو الطعام الذي يدخل في عملية بناء الجسم ، فلا يمنع من تعميمه ليشمل الغذاء الروحي أيضا ، لأنّ الإنسان في تركيبته مكوّن من جسم وروح ، فكما أنّ الجسم يحتاج إلى الغذاء المادي فكذا الروح بحاجة إلى الغذاء المعنوي.

وفي الوقت الذي ينبغي على الإنسان أن يكون فيه دقيقا متابعا لأمر غذائه وباحثا عن منبعه : وهو المطر المحيي الأرض بعد موتها (كما سيأتي في الآيات التالية) ، فعليه أيضا أن يهتم في أمر غذاءه الروحي وباحثا في منشئه ، وهو غيث الوحي الإلهي النازل على قلب الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي خزن في صدور المعصومينعليه‌السلام من بعده ، حيث ينبع من صفحات قلوبهم الطاهرة ليسقي الموات عسى أن تثمر ألوان الثمار الإيمانية اللذيذة من فضائل أخلاقية وعقائدية.

نعم ينبغي على الإنسان أن يكون دقيقا في متابعة مصدر ومنبع علمه ليطمئن لغذائه الروحي ، وليأمن بالنتيجة من مدلهمات الخطوب التي تؤدي لمرض الروح أو هلاكها.

وبواسطة الدلالة الالتزامية ، يستفاد من الآية المباركة ضرورة النظر في حليّة وحرمة الغذاء ، وذلك عن طريق قياس الأولوية.

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٢٩.

(٢) المصدر السابق.

٤٢٦

وثمّة من يقول : إنّ المعنى كلّ من «الطعام» و «النظر» من الوسع بحيث يشمل كلّ ما ذكره أعلاه ، ولكن من المخاطب في الآية؟

الجميع مخاطبون ، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين ، فعلى كلّ إنسان أن ينظر إلى طعامه ويتفكر فيما أودع فيه من أسرار وعجائب كما وكيفية ، وعسى الضال ـ والحال هذه ـ أن يجد ضالته فيترك طريق الضلال ويسلك طريق الحقّ ، ولكي يزداد المؤمنون إيمانا.

فالأغذية بما تحمل وتقدم تعتبر عالما مضيئا وآيات باهرة تنير درب الباحثين عن الحق في لجج الضياع والجهالة ، وتوصل الباحثين عن الأمان إلى شاطئ النجاة.

ثمّ يدخل القرآن في شرح تفصيلي لماهية الغذاء ومصدر تشكيله ، فيقول( أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ) .

«الصب» : إراقة الماء من أعلى ، وجاء هنا بمعنى هطول المطر.

و «صبأ» : تأكيد ، وللإشارة إلى غزارة الماء.

نعم فالماء مصدر رئيسي للحياة ، وهو على الدوام ينزل من السماء وبغزارة ليجسد لطف الله تعالى على خلقه.

كيف لا ، وكلّ العيون والآبار والقنوات والأنهار قد استمدت أساس وجودها من الأمطار.

وعليه فلا بدّ للإنسان حين ينظر إلى طعامه أن يربط ذلك بنظام المطر ، ويدقق النظر في عملية تكوين الغيوم وكيفية حدوث الأمطار.

فالماء المتبخر من سطح البحار ، يتجمع في الفضاء على شكل غيوم ، وتتحرك تلك الغيوم بفعل الرياح إلى طبقات الجو الباردة ، فتبدأ بعملية التكاثف حتى تصل لدرجة الهطول ، فترى ذلك البخار ، وقد تحول إلى قطرات ماء زلال خال من أيّ أملاح مضرة وقد تطهر عن كلّ قذارة ، وليستقر في آخر مطافه على

٤٢٧

الأرض ليعطيها القوّة والحركة والحياة.

وبعد ذكر نعمة الماء وما له من أثر حيوي ومهم في نمو النباتات ، ينتقل البيان القرآني إلى الأرض ، فيقول :( ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) .

يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ الآية تشير إلى عملية شقّ الأرض بواسطة النباتات التي تبدأ بالظهور على سطح الأرض بعد عملية بذر الحبوب ، والعلمية بحدّ ذاتها مدعاة للتأمل ، إذ كيف يمكن لهذا العشب الصغير الناعم أن يفتت سطح التربة مع مالها من صلابة وخشونة! بل ونرى في المناطق الجبلية أنّ سويقات نباتاتها وقد ظهرت من بين حافات صخورها الصلدة! فأيّة قدرة هائلة قد أودعت فيها ، سبحانك يا ربّ وأنت الخلاق العليم.

وقيل : تشير الآية إلى شقّ الأرض بالآيات الزرّاعة من قبل الإنسان ، أو تشير إلى ما تقوم به الديدان من حرث الأرض وتشقيقها من خلال ممارساتها لنشاطاتها الحياتية المختصة بها.

صحيح أنّ الإنسان هو الذي يقوم بعملية الحرث ، ولكنّ جميع أسبابه ووسائله من اللهعزوجل ، لذا فقد نسبت عملية شقّ الأرض إلى الباري جلّ اسمه.

وثمّة تفسير ثالث يقول : إنّ شقّ الأرض في الآية إشارة إلى تفتت الصخور التي كانت على سطح الأرض.

ولهذا التفسير مرجحات عديدة

وتوضيح ذلك : كان سطح الكرة الأرضية مغطى بطبقة عظيمة من الصخور ، وقد تشققت تلك الطبقة الصخرية بفعل غزارة هطول الأمطار المتتالية عليها ، ممّا جعلتها علس شكل ذرات منتشرة على معظم سطح الأرض ، فتحولت إلى تربة صالحة للزراعة.

وحتى يومنا المعاش نلاحظ قسما كبيرا من الأتربة التي تحملها مياه

٤٢٨

الأنهار أو المصحوبة مع السيول ، نلاحظها وقد كونت طبقات من التربة الصالحة للزراعة بعد أن تستقر على الأرض يتبخر الماء عنها أو تمتصه الأرض.

فالآية تمثل إحدى مفردات الإعجاز العلمي للقرآن ، لأنّها تناولت موضوع الأمطار وتشقق الأرض وتهيئها للزراعة ، بشكل علمي دقيق ، والآية لم تتحدث عن شيء قد حدث ، بل حدث ولا زال ، يبدو أنّ هذا التفسير ينسجم مع ما تطرحه الآية التالية بخصوص عملية الإنبات مع ذلك ، فلا ضير من قبول التفاسير الثلاثة للآية ومن جهات مختلفة.

وبعد ذكر ركنين أساسيين في عملية الإنبات ـ أي الماء والتراب ـ ينتقل القرآن بالإشارة إلى ثمانية مصادر لغذاء الإنسان أو الحيوان :( فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا ) .

تعتبر الحبوب من الأغذية الرئيسية للإنسان والحيوان معا ، وتتوضح أهميتها فيما لو عمّ الجفاف ـ على سبيل المثال ـ فمدّة عام واحد ، حيث يعمّ القحط وتنتشر المجاعة في كلّ مكان.

«حبّا» : جاءت في الآية نكرة ، لتعظيم شأنها ، أو لتشير إلى تنوع أصناف الحبوب ، وذهب البعض إلى أنّ الحنطة الشعير هما المرادان دون بقية الحبوب ، ولكن ليس هناك من دليل على هذا التخصيص ، وإطلاق الكلمة يدل على شمول كلّ المحبوب.

ثمّ يضيف :( وَعِنَباً وَقَضْباً ) .

وقد اختارت الآية العنب دون البقية لما أودع فيه من مواد غذائية غنية بالمقويات ، حتى قيل عنه بأنّه غذاء كامل.

ومع أنّ «العنب» يطلق على الشجرة والثمرة ، وبالرغم من ورود كلا الاستعمالين في الآيات القرآنية ، لكنّ المناسب هنا الثمرة دون الشجرة.

«قضبا» : هو الخضروات التي تحصد بين فترة اخرى ، وما أريد منها بالذات ، تلك الخضراوات التي تؤكل من غير طبخ (تؤكل طرية) ، وقد جاء ذكرها بعد

٤٢٩

العنب لأهميتها الغذائية ، وقد أكّد هذا المعنى علم التغذية الحديث.

وتستعمل كلمة (القضيب) بمعنى القطف والقطع أيضا ، و (القضيب) : غصن الشجرة ، و (سيف قاضب) بمعنى : قاطع.

وروي عن ابن عباس قوله : إن «القضيب» في هذه الآية هو (الرطب) ، ولكنّ هذا المعنى بعيد جدّا للإشارة إلى الرطب في الآية التالية.

وقيل أيضا : «القضب» الوارد في الآية ، بمعنى ثمار النباتات الزاحفة (كالخيار والبطيخ وما شابهه) ، أو النباتات الأرضية (كالبصل والجزر إلخ).

ولا يبعد من إرادة كلّ الخضروات التي تؤكل طريقة والنباتات الزاحفة وكذا الأرضية في معنى «القضب» المشار إليه في الآية.

ثمّ يضيف( وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً ) ومن الواضح أنّ ذكر هاتين الفاكهتين لما لهما من الأهمية الغذائية للإنسان ، حيث يعتبر الزيتون والثمر من أهم الأغذية المقوية والصحية والمفيدة للإنسان.

وتأتي المرحلة التالية :( وَحَدائِقَ غُلْباً ) .

«الحدائق» : جمع (حديقة) ، وهي الأرض المزروعة والمحاطة بسور يحفظها ، وهي الأصل بمعنى : قطعة الأرض التي تحتوي على الماء ، وسميّت حديقة تشبيها بحدقة العين من حيث الهيئة وحصول الماء فيها.

ويحتمل إشارة الآية إلى أنواع الفواكه ، باعتبار أنّ الحدائق غالبا ما تزرع بأشجار الفاكهة.

«غلب» : على وزن (قفل) ، جمع (أغلب) و (غلباء) ، بمعنى غليظ الرقبة ، فلآية إذن ترمز إلى الأشجار الشاهقة المتينة.

ثمّ يضيف :( وَفاكِهَةً وَأَبًّا ) .

«الأبّ» : (بتشديد الباء) : هو المرعى المهيأ للرعي والحصد ، وهو في الأصل بمعنى «التهيؤ» ، اطلق على المرعى لما فيه من أعشاب يكون بها مهيئا لاستفادة

٤٣٠

الحيوانات منه.

وذكر جمع من المفسّرين ـ من كلا الفريقين ـ في ذيل الآية : إنّ عمر بن الخطاب قرأ يوما على المنبر :( فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً ) إلى قوله تعالى :( وَأَبًّا ) قال : كلّ هذا قد عرفناه ، فما الأبّ! ثمّ رمى عصا كانت في يده ، فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك أن لا تدري ما الأبّ!! اتّبعوا ما تبيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه!(١) .

وأغرب من ذلك ، ما ورد في (الدر المنثور) عن أبي بكر حينما سئل عن ذلك ، أنّه قال : (أيّ سماء تظلني وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)!

وقد اتّخذ كثير من علماء السنّة من الحديثين المذكورين على أنّه : لا ينبغي لأحد التكلم فيما لا يعلم ، وعلى الأخص في كتاب الله.

ولكن ، يبقى في الذهن إشكال إذ كيف يكون لخليفة المسلمين أن لا يفقه كلمة وردت في القرآن الكريم ، مع كونها ليست من معضلات اللغة؟!! وهذا ما يوصلنا إلى ضرورة وجود قائد الإلهي في كلّ عصر ، وأن يكون عارفا بجميع المسائل الشرعية ، ومنزّها عن الخطأ (معصوما).

ولذلك ، روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، إنّه حينما سمع بما قاله الخليفة قال : «سبحان الله أما علم أنّ الأبّ هو الكلأ والمرعى ، وأنّ قوله تعالى :( وَفاكِهَةً وَأَبًّا ) اعتداد من الله بإنعامه على خلقه ، فيما غذّاهم به ، وخلقه لهم ولأنعامهم ، ممّا تحيى به أنفسهم وتقوم به أجسادهم»(٢) .

ويواجهنا سؤال : إذا كانت الآيات السابقة ذكرت بعض أنواع الفاكهة ، والآية المبحوثة تناولت الفاكهة بشكل عام ، هذا بالإضافة إلى ذكر لـ «حدائق» في الآية

__________________

(١) تفسير الآية المذكورة في : تفسير روح المعاني ، تفسير القرطبي ، تفسير في ظلال القرآن ، الدر المنثور ، وتفسير الميزان.

(٢) إرشاد المفيد ، ص ١٠٧ ، وعنه تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣١٩.

٤٣١

السابقة والتي قيل أنّ ظاهرها يشير إلى الفاكهة فلم هذا التكرار؟

الجواب : إنّ تخصيص ذكر العنب والزيتون والتمر (بقرينة ذكر النخل) ، إنّما جاء ذكرها لأهميتها المميزة على بقية الفاكهة(١) .

أمّا لماذا ذكرت بشكل منفصل عن الفاكهة؟ فيمكن حمله على ما للحدائق من منافع خاصّة بها ، ولا تشترك الفاكهة فيها ، كجمالية منظرها وعذوبة نسيمها وما شابه ذلك ، بالإضافة إلى استعمال أوراق الأشجار وجذورها وقشور جذوعها كمواد غذائية (كالشاي والزنجبيل وأمثالها) ، أمّا بالنسبة للحيوانات ، فأوراق الأشجار المختلفة من أفضل أغذيتها عموما فالآيات إذن كانت في صدد الحديث عن غذاء الإنسان والحيوان.

ولذلك جاءت الآية التالية لتوضيح هذا المعنى :( مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) .

«والمتاع» : هو كلّ ما يستفيد منه الإنسان ويتمتع به.

* * *

بحث

الغذاء النافع :

ذكرت الآيات المبحوثة ثمانية أنواع من المواد الغذائية النباتية لسد احتياجات الإنسان والحيوانات ، وهذا التأكيد على الأغذية النباتية يعطي ما للنباتات والحبوب والفاكهة من أهمية غذائية تفوق في دورها على الأغذية الحيوانية التي تأتي في نظر القرآن في المرتبة الثّانية من حيث الأهمية.

وقد اهتم علماء التغذية حديثا بما ورد في القرآن الكريم فيما يخصّ مجال عملهم ، ويكشف هذا الاهتمام بدوره عن عظمة القرآن وقوّة ما فيه

__________________

(١) بحثنا مفصّلا موضوع الأهمية الغذائية للزيتون والعنب والتمر في هذا التفسير ضمن تفسير الآية (١١) من سورة النحل ـ فراجع.

٤٣٢

وعلى أيّة حال ، فالتأمل في هذه الأمور يزيد الإنسان معرفة بعظمة ولطف الخالق جلّ شأنه ، ويوسّع اطلاعه في تحسس نعم الباري جلّ اسمه على الخلائق أجمعين.

نعم فالاهتمام في مسألة غذاء الإنسان (الجسمي والروحي) من حيث النوعية وطريقة كسبه ، يدفع الإنسان للتقرب أكثر من جادة معرفة الله وسلوك طريق رضوانه سبحانه ، كما ويدفع إلى تهذيب وتزكية النفس من أدران الشرك وقذارة الذنوب.

نعم( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ) ، تمثل الآية المباركة : أقصر تعبير لمعنى واسع ومتشعب.

* * *

٤٣٣

الآيات

( فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢) )

التّفسير

صيحة البعث

وينتقل الحديث في هذه الآيات إلى يوم القيامة وتصوير حوادثه ، وما سيؤول فيه من أحوال المؤمنين الكافرين ، كلّ بما كسبت يداه وقدّم.

فمتاع الحياة الدنيا وإنّ طال فهو قليل جدّا في حساب حقيقة الزمن ، وأنّ خالق كلّ شيء لعظيم في خلقه وشأنه ، وأنّ المعاد حق ولا بدّ من حتمية وقوعه.

ويقول القرآن الكريم :( فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ) (١)

__________________

(١) ثمّة احتمالات كثيرة في تعيين جزاء الشرط لهذه الجملة الشرطية الأوّل : إنّه محذوف بدلالة الآيات التالية ، التقدير : (فإذا

٤٣٤

«الصّاخة» : من (صخّ) ، وهو الصوت الشديد الذي يكاد أن يأخذ بسمع الإنسان ، ويشير في الآية إلى نفخة الصور الثّانية ، وهي الصيحة الرهيبة التي تعيد الحياة إلى الموجودات بعد موتها جميعا ليبدأ منها يوم الحشر.

نعم ، فالصيحة من الشدّة بحيث تذهله عن كلّ ما كان مرتبطا به ، سوى نفسه وأعماله.

ولذا ، تأتي الآية التالية ، ولتقول مباشرة :( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) .

ذلك الأخ الذي ما كان يفارقه وقد ارتبط به بوشائج الاخوة الحقة!

وكذلك :( أُمِّهِ وَأَبِيهِ ) .

حتى :( وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) .

فوحشة ورهبة يوم القيامة لا تنسي الأخ والام والأب والزوجة والأولاد فحسب ، بل وتتعدى إلى الفرار منهم ، وعند ما ستتقطع كلّ روابط وعلاقات الإنسان الفرد مع الآخرين فحينها سوف لا يهتم إلّا نفسه وما قدّم ، وسينسى :

امّه التي كانت تحبّه وتفديه

وأبو الذي ربّاه واحترمه

وزوجته التي لا تعرف غيره

وأولاده ثمرة كبده وقرة عينه

وقيل : إنّما يكون الفرار للتهرب من الحقوق التي لهم عليه ، وهو عاجز عن أدائها.

وقيل أيضا : إنّما يفر المؤمنون خاصّة من أقربائهم من غير المؤمنين وغير المتقين ، خوفا من الإصابة بما سيصيب أولئك من عقاب.

__________________

جاءت الصاخة فما أعظم أسف لكافرين) ـ تفسير المراعي. والثاني : وفي (مجمع البيان) قيل : إنّه( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) . والثالث : أمّا في (روح المعاني) ، فقد احتمل : إنّه مستفاد من جملة( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ ) ، والتقدير : (فإذا جاءت الصاخة يفر المرء من أخيه).

٤٣٥

ويبدو أنّ التفسير الأوّل أنسب ولا مانع من الجمع بينهما.

ولكن ما سرّ تسلسل ذكر الأخ ، ثمّ الامّ ، فالأب من بعدها ، ومن ثمّ الزوجة والأولاد؟

يعتقد بعض بأنّ التسلسل قد لوحظ فيه شدّة العلاقة ما بين الفار ومن يرتبط بهم ، وقد تسلسل الذكر من الأدنى حتى الأعلى ، ليعطي لهذا التصوير بعدا بلاغيا ، فهو من أخيه ، ثمّ من أمّه وأبيه ، ثمّ من زوجته وبنيه.

ولكن : يصعب الخروج بقاعدة كلية تختص في ترتيب العلائق بين الناس ، فالناس ليسوا سواسية في هذا الجانب ، فقد نجد من يكون مرتبطا بأخيه أكثر من أيّ إنسان الآخر ، ونجد ممن لا يقرّب على علاقته بامّه شيء ، وثمّة من تكون زوجته رمز حياته ، أو من يفضل ابنه حتى على نفسه إلخ.

وثمّة عوامل اخرى تدخل في التأثير على علاقة الإنسان بأخيه وأبيه وزوجته وبنيه ، وعلى ضوئها لا يمكننا ترجيح أفضلية أيّ منهم على الآخر من جميع الجهات ، وعليه فلا يمكن القطع بأنّ التسلسل الوارد في الآية قد جاء على أثر أهمية وشدة العلاقة.

ولكن لم الفرار؟( ... لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .

«يغنيه» : كناية لطيفة عن شدّة انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم ، ولما سيرى من حوادث مذهلة ، تأخذه كاملا ، فكرا وقلبا.

وقد سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الحميم ، وهل يذكره الرجل يوم القيامة؟ فقال : «ثلاثة مواطن لا يذكر (فيها) أحد أحدا : عند الميزان ، حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخف؟ وعند الصراط ، حتى ينظر أيجوزه أم لا؟ وعند الصحف ، حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشمال؟ فهذه ثالثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه ، ولا بنيه ولا والديه ، ذلك قوله تعالى :( لِكُلِّ امْرِئٍ

٤٣٦

مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (١) .

وينقل البيان القرآني ليصور لنا حال العباد بقسميهم في ذلك اليوم ، فتقول :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ) أي مشرقة وصبيحة.

( ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) .

( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ) .

( تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) أي تغطيها ظلمات ودخان.

( أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) .

«مسفرة» : من (الأسفار) ، بمعنى الظهور بياض الصبح بعد ظلام الليل.

«غبرة» : على وزن (غلبة) ، من (الغبار).

«قترة» : من (القتار) ، وهو شبه دخان يغشي من الكذب ، وقد فسّره بعض أهل اللغة بـ (الغبار) أيضا ، ولكن ذكرهما في آيتين «الغبرة والقترة» متتاليتين منفصلتين يشير إلى اختلافهما في المعنى.

«الكفرة» : جمع (كافر) ، والوصف يشير إلى فاسدي العقيدة.

«الفجر» : جمع (فاجر) ، والوصف يشير إلى فاسدي العمل.

ونستخلص من كلّ ما تقدّم ، إنّ آثار فساد العقيدة لدى الإنسان وأعماله السيئة ستظهر على وجهه يوم القيامة.

وقد اختير الوجه ، لأنّه أكثر أجزاء الإنسان تعبيرا عمّا يخالجه من حالات الغبطة والسرور أو الحزن والكآبة ، فبإمكانك وبكلّ وضوح أن تعرف أنّ فلانا مسرورا أم حزينا من خلال رؤيتك لما انطبع على وجهه ، وحالات : السرور ، والحزن ، والخوف ، والغضب ، والخجل وما شابه ، لها بصمات خاصّة على ملامح وتقاسيم الوجه.

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٢٩.

٤٣٧

وعلى أيّة حال فالوجوه الضاحكة المستبشرة ، تحكي عن : الإيمان وطهارة القلب وصلاح الأعمال.

وبعكس الوجوه المقابلة والدالة على : ظلام الكفر ، قبح الأعمال ، وكأنّ وجوههم قد غطاها الغبار ، تراها مسودة ، وتحيط بها هالة من الدخان

وترى معاني الغم والألم والأسف قد تجسدت على الوجوه ، كما تشير إلى ذلك الآية (٤١) من وسورة الرحمن :( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ) فيكفي لمعرفة حال الإنسان في يوم القيامة من خلال النظر إلى وجهه.

* * *

بحث

أسس البناء الذاتي :

لقد حملت السورة المباركة بين طياتها برنامجا تربويا جامعا لنباء النفس وتزكيتها :

١ ـ فقد أمرت بكسر حاجز الغرور والتكبر ، والتحلي بالتأمل في بدء خلق الإنسان ، فهذا الذي ابتدأ وجوده من نطفة قذرة ، لا ينبغي عليه أن يتطاول ويرى نفسه أكبر من حجمها الطبيعي.

٢ ـ التمسك بطرق الهداية الرّبانية (هداية الوحي ، تعاليم الأنبياء وبرامج الأولياء الصالحين ، وكذا الهداية الحاصلة عن العقل بدراسة قوانين وأنظمة عالم التكوين) ، فهو أفضل زاد في مشوار طريق البناء.

٣ ـ وتأمر بالإنسان للتفكر في طعامه ـ من أين جاء كيف صار ، وما سرّ اختلاف ألوانه وأنواعه ـ ليصل إلى عظمة الخلاق ومدى لطفه ورحمته على عباده ، ولا بدّ للإنسان من السعي في كسب لقمة الحلال والتي تعتبر من أهم أركان التربية السليمة ، وذلك لما لها من آثار نفسية وشرعية.

٤٣٨

٤ ـ وإذا ما أعطت السورة كلّ هذه الأهمية لغذاء البدن ، فهي تدفع الإنسان للتحري عن سلامة غذاءه الروحي ، لأنّ فعل التعليمات المنحرفة والتوجيهات الفاسدة الباطلة كفعل الغذاء المسموم ، فهي تنخر في البناء الروحي وتعرض حياة الإنسان للخطر.

وممّا يحزّ في نفوس المؤمنين أن يروا قسما من الناس وقد تكالبوا على غذاء البدن بكلّ دقة واعتناء ، وأهملوا الغذاء الروحي فترى (مثلا) من يقرأ أيّ كتاب وإن كان فاسد ومفسّد ، ويستمع لأيّ حديث وإن كان ضالا مضلا ، دون أن يضع لتوجيهاته أيّ ضابط بقيد أو شرط!

وقد جسّد أمير المؤمنينعليه‌السلام هذا المعنى بقوله : «ما لي أرى الناس إذا قرب إليهم الطعام ليلا تكلفوا إنارة المصابيح ، ليبصروا ما يدخلون بطونهم ، ولا يهتمون بغذاء النفس ، بأن ينيروا مصابيح ألبابهم بالعلم ، ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب ، في اعتقاداتهم وأعمالهم»(١) .

وروي شبيه هذا القول عن الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام : «عجبت لمن يتفكر في مأكوله ، كيف لا يتفكر في معقوله ، فيجنب بطنه ما يؤذيه ، ويودع صدره ما يرديه»(٢) .

٥ ـ ثمّ تذكّر السورة بصيحة البعث الرهيبة التي تضع الإنسان وجها لوجه أمام ما قدّمت يداه من أعمال في الحياة الدنيا

فعلى الإنسان أن يتفكر في أمر آخرته ، وعليه أن يعمل ليكون ضاحك الوجه مستبشرا في ذلك اليوم المحتوم ، وأن يجهد بكلّ ما أمكنه للتخلص ممّا يؤدي به لأن يكون عبوسا حزينا.

اللهمّ ، وفقنا لتربية وتزكية وأنفسنا

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٨٤.

(٢) المصدر السابق.

٤٣٩

اللهم ، لا تحرمنا من نعمة التوجه الصحيح الشاخص لساحة رضوانك

اللهم ، أيقظنا من غفلتنا واجعل عاقبتنا على خير

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة عبس

* * *

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511