الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل15%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135957 / تحميل: 5389
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّا أنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) . سنشير في نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين :( فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ) .

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك اتّهم موسى( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) .

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين ، فالبعض قالوا : إنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى ، تقول بأنّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر ، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية ، حيث يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل ، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و (ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر من المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثّر فيه الساحر ، كما يستفاد من الآية (39) من سورة الذاريات التي نسبت السحر إليه ، والجنون أيضا ،( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

على أي حال ، فإنّ التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضدّ الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس

١٦١

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسىعليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له :( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ) .

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعند ما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا :( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) .

(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار ، وذاك قوله تعالى:( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) .

«يستفز» من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم :( وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) . فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أي قبيلة هم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود من الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسىعليه‌السلام منها ما يلي :

1 ـ تحوّل العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين ، كما في الآية

١٦٢

(20) من سورة طه :( فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) .

2 ـ اليد البيضاء لموسىعليه‌السلام والتي تشع نورا :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (1) .

3 ـ الطوفان :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) (2) .

4 ـ الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم( وَالْجَرادَ ) (3) .

5 ـ والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات : و( الْقُمَّلَ ) (4) .

6 ـ (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم:( وَالضَّفادِعَ ) (5) .

7 ـ الدم ، أو الابتلاء العام بالرعاف ، أو تبدّل نهر النيل إلى لون الدم ، بحيث أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة :( وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ) (6) .

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه :( وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ) (7) .

9 ـ نزول ال (منّ) و (السلوى) من السماء ، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) من سورة البقرة( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) (8) .

10 ـ انفجار العيون من الأحجار :( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (9) .

11 ـ انفصال جزء من الجبل ليظلّلهم :( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ

__________________

(1) طه ، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و (6) ـ الأعراف ، 133.

(7) البقرة ، 50.

(8) البقرة ، 57.

(9) البقرة ، 60.

١٦٣

ظُلَّةٌ ) (1) .

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) (2) .

13 ـ عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني إسرائيل:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) (3) .

14 ـ الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل إعجازي :( وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ) (4) .

ولكن الكلام هنا هو : ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه ، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون من الصخور وأمثال ذلك.

لذا يمكن القول أنّ الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة مواضيع من الآيات التسع وهي : (الطوفان ، القمّل ، الجراد ، الضفادع ، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع ، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعا ، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع ،

__________________

(1) الأعراف ، 171.

(2) الأعراف ، 130.

(3) البقرة ، 73.

(4) البقرة ، 57.

١٦٤

لأنّ الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسىعليه‌السلام ، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه الآيات يظهر أنّ الآيتين الأخريتين هما : (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد ، والقمل ...) قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة ، إلّا أنّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قلنا في تفسير الآية (130) من سورة الأعراف ـ لا يؤثّر تأثيرا كبيرا في الأشجار ، أمّا عند ما يكون جفافا طويلا فإنّه سيؤدي إلى إبادة الأشجار ، لذا فإنّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنّ الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها هي:العصا، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يؤمنوا ، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1) .

هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية ، ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

__________________

(1) الأعراف ، 136.

١٦٥

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمر بسؤال بني إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى ، وكيف أنّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسىعليه‌السلام بمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنّ لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم والعقل بحيث أنّه لا يحتاج إلى السؤال ، لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ سؤال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكن لنفسه ، بل للمشركين ، لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عند ما لم يوافق على اقتراحاتهم ، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصّب والعناد ، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد ب (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض ، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنّ فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.

وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أنّ بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إشارة إلى الأرض المقدّسة فلسطين ، لأنّ بني إسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإنّنا لا نستبعد أيّا من الاحتمالين ، لأنّ بني إسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه ، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.

١٦٦

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهرا إنّ الإجابة بالإيجاب ، حيث أنّ جملة( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) قرينة على هذا الموضوع ، ومؤيّدة لهذا الرأي. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ (وعد الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة ، من أنّ الله تبارك وتعالى قد توعّد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرّتين ، وقد سمى الأولى بـ «وعد الأولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة» ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى :( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) (فدقق في ذلك).

* * *

١٦٧

الآيات

( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) )

التّفسير

عشاق الحق

مرّة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) ، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) .

ثمّ تقول :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

١٦٨

لقد ذكر المفسّرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) والجملة الثّانية :( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) منها :

1 ـ المراد من الجملة الأولى : إنّنا قدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ، لذا فإنّ التعبير الأوّل يشير إلى التقدير ، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1) .

2 ـ الجملة الأولى تشير إلى أنّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ، أمّا التعبير الثّاني فانّه يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا(2) .

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنّ الجملة الأولى تقول : إنّنا نزّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التّفاسير ، وهو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من التلوث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث. إلّا أنّ الشخص القادر والمحيط بالأمور ، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان

__________________

(1) يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3955.

(2) في ظلال القرآن ، أننا تفسير الآية.

١٦٩

الرّسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولماذا كان نزوله تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) فيقول الله في جواب هؤلاء:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ) (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:( وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

إنّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع البشر ، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ، لذلك فإنّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاب عليها من خلال النقاط الآتية :

أوّلا : بالرغم من أنّ القرآن هو كتاب ، إلّا أنّه ليس ككتب الإنسان المؤلّفة حيث يجلس المؤلّف ويفكّر ويكتب موضوعا ، ثمّ ينظّم فصول الكتاب وأبوابه لينتهي من تحرير الكتاب ، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره ، أي ارتباط ب (23) سنة ، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

__________________

(1) مجيء كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسّره المفسّرين بأنّه مفعول لفعل مقدّر تقديره (فرقناه) ، وبذلك تصبح الجملة هكذا : (وفرقناه قرآنا).

١٧٠

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إنّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية ، وآيات تختص بالمنافقين ، وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهل يمكن أن يكتب مجموع كل ذلك منذ اليوم الأوّل؟

ثانيا : ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب ، بل ينبغي لكل آية فيه أن تنفّذ بعد نزولها ، فإذا كان القرآن قد نزل مرّة واحدة ، فينبغي أن يتمّ العمل به مرّة واحدة أيضا ، ونعلم بأنّ هذا محال ، لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.

ثالثا : بدون شك ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإمكانيات أكبر عند ما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا ، بدلا من تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنّه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما مثيل ، إلّا أنّه برغم ذلك فإنّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعا : النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مصدر الوحي ، إلّا أنّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول :( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

١٧١

تَرْتِيلاً ) وهي إشارة إلى السبب الثّالث ، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنّ مجموع هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية :

أوّلا : يعتقد المفسّرون أنّ جملة( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجه متعدّدة ، إذ قال بعضهم : إن المعنى هو : سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.

بينما قال البعض : إنّ التقدير يكون : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإنّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكمّلة لها ، وهي كناية عن أنّ عدم الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة ، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى : يكون المعنى : إذا لم تؤمنوا به فإنّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.

ثانيا : إنّ المقصود من( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرءوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع ، كما في قوله

١٧٢

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران :( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) .

ثالثا : «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عند ما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالقعزوجل ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار(1) .

رابعا : (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أن تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنّ الإنسان عند سجوده يضع أوّلا جبهته على الأرض ، ولكن الشخص المدهوش عند ما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا ، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون)(2) .

الاية التي بعدها توضح قولهم عند ما يسجدون :( وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (3) . هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإيمان بنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي

__________________

(1) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علّو. وقوله تعالى :( خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد:( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) .

(2) تفسير المعاني ، ج 15 ، ص 175.

(3) (إنّ) في قوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا ) غير شرطية ، بل هي تأكيدية ، وهي مخففة من الثقيلة.

١٧٣

يسجدونها تقول الآية التي بعدها :( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) .

إنّ تكرار جملة( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ) دليل على التأكيد ، وعلى الاستمرار أيضا.

الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبّهم وعشقهم لخالقهم.

واستخدام الفعل المضارع في جملة( يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) دليل على أنّهم لا يتوقفون أبدا على حالة واحدة ، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل ، وخشوعهم دائما في زيادة (الخشوع هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).

* * *

بحثان :

1 ـ التخطيط للتربية والتعلم

من الدروس المهمّة التي نستفيدها من الآيات أعلاه ، هو ضرورة التخطيط لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية ، فإذا لم يتمّ تنظيم مثل هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إنّ القرآن الكريم لم ينزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة بالرغم من أنّه كان موجودا في مخزون علم الله كاملا ، وقد تمّ عرضه في ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ، إلّا أنّ النّزول التدريجي استمرّ طوال (23) سنة ، وضمن مراحل زمنية مختلفة وفي إطار برنامج عملي دقيق.

وعند ما يقوم الخالق جلّ وعلا بهذا العمل بالرغم من عمله وقدرته المطلقة وغير المتناهية عند ذلك سيتّضح دورنا وتكليفنا نحن إزاء هذا المبدأ. وعادة ما يكون هذا قانونا وتكليفا إلهيا ، حيث أنّ وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع

١٧٤

وحسب ، بل في عالم التكوين أيضا. إنّه من غير المتوقع أن تنصلح أمور مجتمع في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأنّ البناء الحضاري الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي يحتاج إلى المزيد من الوقت.

وهذا الكلام يعني أنّنا إذا لم نصل إلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المثابرة. وينبغي أن نلتفت إلى أنّ الانتصارات النهائية والكاملة تكون عادة لأصحاب النفس الطويل.

2 ـ علاقة العلم بالإيمان

الموضوع الآخر الذي يمكن أن نستفيده من الآيات أعلاه هو علاقة العلم بالإيمان، إذ تقول الآيات : إنّكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإنّ العلماء سيؤمنون بالله إلى درجة أنّهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضا ساجدين من شدّة الوله والحبّ ، وتجري الدّموع من أعينهم، وإنّ هذا الخشوع والتأدّب يتصف بالاستمرار في كل عصر وزمان.

إنّ الجهلة ـ فقط ـ هم الذين لا يعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها بالاستهزاء والسخرية ، وإذا أثّر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإنّه سيكون تأثيرا ضعيفا خاليا من الحبّ والحرارة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ في الآية ما يؤكّد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين الدين والجهل أو الخوف من المجهول. أمّا القرآن فإنّه يؤكّد على عكس ذلك تماما ، إذ يقول في مواقع متعدّدة : إنّ العلم والإيمان توأمان ، إذ لا يمكن أن يكون هناك إيمان عميق ثابت من دون علم ، والعلم في مراحلة المتقدمة يحتاج إلى الإيمان. (فدقق في ذلك).

* * *

١٧٥

الآيتان

( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) )

سبب النّزول

وردت آراء متعدّدة في سبب نزول هاتين الآيتين منها ما نقله صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجدا ذات ليلة بمكّة يدعو : يا رحمن يا رحيم ، فقال المشركون متهمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه يدعونا إلى إله واحد ، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1) .

__________________

(1) يراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

١٧٦

التّفسير

آخر الذرائع والأغذار

بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم ، وهي قولهم : لماذا يذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالق بأسماء متعدّدة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله :( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) . إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب ، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد ، وكل اسم من هذه الأسماء كان يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك ، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعدّدة تتناسب مع أفعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم ، وهو وحدهعزوجل الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

أساسا ، فانّ الله تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبّر عن ذاته ، ولكن لمحدودية ألفاظنا ـ كما هي أشياؤنا الأخرى أيضا ـ لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له ، وإنّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضا ، حتى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه ، نراه يقول : «ما عرفناك حق معرفتك».

إنّ الله تعالى في قضية معرفتنا إيّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة ، بل ساعدنا كثيرا في معرفة ذاته ، وذكر نفسه بأسماء متعدّدة في كتابه العظيم ، ومن خلال كلمات أوليائه تصل أسماؤه ـ تقدس وتعالى ـ إلى ألف اسم.

وطبيعي أنّ كل هذه أسماء الله ، وأحد معاني الأسماء العلّامة ، لذا فإنّ هذه علامات على ذاته الطاهرة ، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إلى نقطة

١٧٧

واحدة ، وهي لا تقلّل من شأن توحيد الذات والصفات.

وهناك قسم من هذه الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر ، حيث تعطينا معرفة ووعيا أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإسلامية ، بالأسماء الحسنى ، وهناك رواية معروفة عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونها : «إن الله تسعا وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنّة».

وهناك شرح مفصل للأسماء الحسنى ، والأسماء التسعة والتسعين بالذات ، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) من سورة الأعراف ، في قوله تعالى :( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) .

لكن علينا أن نفهم أنّ الغرض من عد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب ، حتى يصبح الإنسان من أهل الجنّة ومستجاب الدعوة ، بل إنّ الهدف هو التخلّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات من هذه الأسماء ، مثل (العالم ، والرحمن ، والرحيم ، والجواد،والكريم) في وجودنا حتى نصبح من أهل الجنّة ومستجابي الدعوة.

وهناك كلام ينقله الشيخ الصدوقرحمه‌الله في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاء فيه :

يقول هشام بن الحكم : سألت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام عن أسماء الله عزّ ذكره واشتقاقها فقلت : الله ممّا هو مشتق؟

قالعليه‌السلام : «يا هشام ، الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.

أفهمت يا هشام؟».

قال هشام : قلت : زدني.

قالعليه‌السلام : «للهعزوجل تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان

١٧٨

كلّ اسم منها هو إلها ، ولكن اللهعزوجل معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره.

يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق»(1) .

والآن لنعد إلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته ، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبر قوله تعالى :( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

لذلك فإنّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إنّ المقصود منها يتعلق بالإفراط والتفريط في الجهر والإخفات ، فهي تقول : لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

أسباب النّزول الواردة ـ حول الآية ـ التي يرويها الكثير من المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيّد هذا المعنى.(2)

وهناك آيات عديدة من طرق أهل البيت نقلا عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام وتؤيد هذا المعنى وتشير إليه(3) .

لذا فإنا نستبعد التفاسير الأخرى الواردة حول الآية.

أمّا ما هو حد الاعتدال ، وما هو الجهر والإخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنّ الجهر هو بمعنى (الصراخ) ، و (الإخفات) هو من السكون بحيث لا يسمعه حتى فاعله.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآية :

__________________

(1) توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.

(2) ـ يمكن مراجعة نور الثقلين ، ج 3 ، ص 233 فما بعد.

١٧٩

«الجهر بها رفع الصوت ، والتخافت بها ما لم تسع نفسك ، واقرأ بين ذلك»(1) .

أمّا الإخفات والجهر في الصلوات اليومية ، فهو ـ كما أشرنا لذلك ـ له حكم آخر، أو مفهوم آخر ، أي له أدلة منفصلة ، حيث ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.

* * *

ملاحظة

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الاعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهما وإدراكا من جهتين :

الأولى : لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء ، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم ، إذ الأفضل أن تكون مقرونة بالوقار والهدوء والأدب ، كي تعكس بذلك نموذجا لعظمة الأدب الإسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.

فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بإلقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت ، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إلى الآخرين ، هم على خطأ ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإسلام في العبادات ، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليغ الديني.

الثّانية : يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتكون جميع هذه الأمور بعيدة عن الإفراط والتفريط ، إذ الأساس هو :( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

أخيرا نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء ، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد الله ، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاتهعزوجل . إنّ هذه الآية ـ في

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 234.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440
٤٤١

سورة

التّكوير

مكيّة

وعدد آياتها تسع وعشرون آية

٤٤٢

«سورة التكوير»

محتوى السورة :

كثير من القرائن المختلفة في السورة تدل على أنّها مكّية : نسبة الجنون إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل أعداء الإسلام ، وهذا ما كان يحدث كثيرا في مكّة ، خصوصا في بداية الدعوة المحمّدية ، لتصور الأعداء أنّهم بافتراءتهم تلك سيصرفون أنظار الناس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته الإلهية.

وعلى أيّة حال ، فالسورة تدور حول محورين أساسيين :

المحور الأوّل : هو ما شرعت به السورة من تبيان علائم يوم القيامة ، وما يواجه العالم من تغييرات قبيل يوم القيامة.

المحور الثّاني : الحديث عن عظمة القرآن ومن جاء به ، وأثره على النفس الإنسانية ، بالإضافة إلى تكرار اليمين والقسم في آيات عدّة لإيقاظ الإنسان من غفلته.

فضيلة السورة :

وردت أحاديث كثيرة تبيّن أهمية السورة وفضل تلاوتها ، ومنها : ما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة :( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) أعاذه الله تعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته»(١) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤١.

٤٤٣

وفي حديث آخر ، أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أحبّ أن ينظر إليّ يوم القيامة فليقرأ :( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) »(١) .

وروي الحديث بشكل آخر : «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة (كأنّه رأي عين) فليقرأ :( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) و( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ) و( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) ». (لأنّ هذه السور تعرض علائم يوم القيامة وأحداثه بشكل وكأنّ التالي لها يشاهد يوم القيامة بعينه).(٢)

وفي حديث آخر ، سئل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ظهور آثار كبر السن عليه ، فقال : «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كورت».(٣)

وعن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ عبس وتولّى وإذا الشمس كوّرت كان كان تحت جناح الله من الخيانة وفي ظلّ الله وكرامته ، وفي جنانه ، ولا يعظم ذلك على ربّه إن شاء الله».

وتلاوة القرآن المقصودة في الأحاديث أعلاه ، ينبغي أن يكون بشروطها من : التأمل ، الإيمان ، والعمل.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧٠١٧ ، ويحتمل أن يكون معنى هذا الحديث شامل للحديث السابق.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥١٣.

٤٤٤

الآيات

( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) )

التّفسير

يوم تطوى الكائنات فيه!

نواجه في بداية السورة ، إشارات قصيرة ، مثيرة ومرعبة لما سيجري لنهاية العالم المذهلة ـ بداية يوم القيامة ـ فتنقل الإنسان في فكره وأحاسيسه إلى مفاجئات ذلك اليوم الرهيب ، قد تحدثت تلك الإشارات عن ثمانية علائم من ويوم القيامة.

وأول مشهد عرضته عدسة العرض القرآني ، هو :( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) .

«كورت» : من (التكوير) ، بمعنى الطي والجمع واللّف (مثل لف العمامة على الرأس) ، وأخذ هذا المعنى من كتب اللغة والتفسير والمختلفة.

واستعملت كذلك بمعنى : (الرومي) أو (إطفاء شيء) والمعنيان ـ كما يبدو ـ

٤٤٥

مستمدان من المعنى الأصلي.

وعلى أيّة حال ، فالمقصود هو : خود نور الشمس وذهابه ، وتغيّر نظام تكوينها.

وكما بات معلوما فالشمس في وضعها الحالي ، عبارة عن كرة مشتعلة ، على هيئة غازية ملتهبة ، وتتفجر الغازات على سطحها بصورة شعلات هائلة محرقة ، قد يصل ارتفاعها إلى مئات الآلاف من الكيلو مترات!

ولو قدّر وضع الكرة الأرضية وسط شعلة منها ، فإنّها تستحيل فورا إلى رماد وكتلة من الغازات!!

ولكن عند حلول وقت نهاية العالم ، والاقتراب من يوم القيامة ، سيخمد ذلك اللهب المروع ، وستجمع تلك الشعلات ، فيطفأ نور الشمس ، ويصغر جمها وهو ما أشير إليه بالتكوير.

وجاء في (لسان العرب) : (كورت الشمس : جمع ضوءها ولف كما تلف العمامة).

وقد أيّد العلم الحديث هذه الحقيقة ، من خلال اعتقاده وبعد دراسات علمية كثيرة ، بأنّ الشمس تسير تدريجيا نحو الظلام والانطفاء.

ويأتي المشهد الثّاني :( وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) .

«انكدرت» : من (الانكدار) ، بمعنى السقوط والتناثر ، واشتق من (الكدورة) ، وهي السواد والظلام.

ويمكن جمع المعنيين في الآية ، لأنّ النجوم في يوم القيامة ستفقد إشعاعها وتتناثر وتسقط في هاوية الفناء ، كما تشير إلى ذلك الآية (٢) من سورة الإنفطار :

( وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ) ، والآية (٨) من سورة المرسلات :( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) .

والمشهد الثّالث :( وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ) .

٤٤٦

وقد ذكرنا مراحل فناء الجبال ، ابتداء من السير والحركة وانتهاء بتحولها إلى غبار متناثر (فراجع تفسير الآية (٢٠) من سورة النبأ).

وثمّ يأتي در والمشهد الرّابع :( وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ) .

«العشار» : جمع (عشراء) ، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر ، فأضحت على أبواب الولادة ، بعد ما امتلأت أثداؤها باللبن.

وهي من أحبّ وأثمن النوق لدى العرب زمن نزول الآية المباركة.

«عطلت) : تركت لا راعي لها.

فهول ووحشة القيامة ، سينسى الإنسان أحبّ وأثمن ما يمتلكه.

وقال العلّامة الطبرسي في مجمع البيان : وقيل : العشار ، السحاب تعطل فلا تمطر. أي : إنّ الغيوم ستظهر في ذلك اليوم ، ولكن لا تمطر (ويمكن أن يكون الغيوم ناشئة من الغازات والمختلفة ، أو تكون غيوما ذرية ، أو طبقات من الغبار الناتج من تدمير الجبال وكلّ ذلك لا تمطر).

ويضيف الطبرسي قائلا : قال الأزهري : لا أعرف هذا في اللغة.

وثمّة علاقة بين ما ذهب إلى الشيخ الطريحي في (مجمع البحرين) بقوله : العشار : بمعنى الناقة الحامل ثمّ اطلق على كلّ حامل ، وبين إطلاقها في الآية. فلا غيوم غالبا ما تكون محملة بالأمطار ، ولكن الغيوم التي ستظهر في السماء على أعتاب ذلك اليوم سوف لا تكون حاملة بالمطر ـ فتأمل.

وقيل : «العشار» : هي البيوت أو الأراضي الزراعية التي ستتعطل بذلك اليوم ، وستخلو من الناس والزراعة.

وأشهر ما فسّرت به الآية هو التفسير الأوّل.

وينتقل المشهد الخامس إلى الوحوش :( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) .

فالحيوانات الوحشية التي تراها في الحالات العادية تبتعد الواحدة عن الأخرى خوفا من الافتراس والبطش ، ستراها وقد جمعت في محفل واحد ، وكلّ

٤٤٧

منها لا يلتفت إلى ما حوله لما سيطاب به من رهبة وأهوال ذلك اليوم الخطير ، وكأنّها تقصد من اجتماعها هذا التخفيف عن شدّة خوفها وفزعها!!

ونقول : إذا اضمحلت كلّ خصائص الوحشية للحيوانات غير الأليفة نتيجة لأهوال يوم القيامة ، فما سيكون مصير الإنسان حينئذ؟!

ويعتقد كثير من المفسّرين بأنّ الآية تشير إلى حشر الحيوانات الوحشية في عرصة يوم القيامة لمحاسبتها على قدر ما تحمل من إدراك ، ويستدلون بالآية (٣٨) من سورة الأنعام على ذلك ، والتي تقول :( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) (١) .

وما يمكننا قوله : إنّ الآية تتحدث عن علائم نهاية الدنيا المهولة ، وبداية عالم الآخرة ، وعليه فالتّفسير الأوّل أنسب.

وتصوّر البحار في المشهد السادس :( وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ) .

«سجّرت» : من (التسجير) ، بمعنى إضرام النّار.

وإذا خالج القدماء التعجب والاستغراب لهذا الوصف القرآني ، فقد بات اليوم من البديهيات الكسبية ، لما يتركب منه الماء من عنصري الأوكسجين والهيدروجين ، القابلات للاشتعال بسرعة ، ولا يستبعد أن يوضع الماء ـ في إرهاصات يوم القيامة ـ تحت ضغط شديد ممّا يؤدي إلى تجزئة وتفكيك عناصره ، وعند ما سيتحول إلى كتلة ملتهبة من النّار.

وقيل : «سجّرت» : بمعنى (امتلأت) ، كما يقال للنور الممتلئ بالنّار (مسجّر) ، وعلى ضوء هذا المعنى ، يمكننا أن نتصور امتلاء البحار ممّا سيتسبب من الزلازل الحادثة وتدمير الجبال في إرهاصات يوم القيامة ، أو ستمتلئ بما

__________________

(١) بحثنا موضوع حشر وحساب الحيوانات في هذا التفسير ذيل الآية (٣٨) من سورة الأنعام ، فراجع.

٤٤٨

يتساقط من أحجار وصخور سماوية ، فيفيض ماؤها على اليابسة ليغرق كلّ شيء.

ويأتي درو المشهد السابع :( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) .

فتبدأ المآلفة بخلاف حال الدنيا فالصالحون مع الصالحين ، والمسيؤون مع المسيئين ، وأصحاب اليمين مع أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال مع أصحاب الشمال ، فإذا ما جاور المؤمن مشركا ، أو تزوج الصالح من غير الصالحة في الحياة الدنيا ، فتصنيف يوم لقيامة غير ذلك ، فهو يوم الفصل الحق.

وثمّة احتمالات اخرى ، منها :

ردّ الأرواح إلى أجسادها

زواج الصالحين بالحور العين

قرن الضالين بالشياطين

لحوق الإنسان بحميمه ، بعد أن فرّق الموت بينهما

قرن الإنسان بأعماله.

والتّفسير الأوّل أقرب ، بدلالة الآيات (٧ ـ ١١) من سورة الواقعة :( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) .

فبعد أن تحدثت الآيات السابقة لهذه الآية عن ستة تحولات ، كمقدمات يوم القيامة ، تأتي الآية أعلاه لتخبر عن اولى خطوات يوم القيامة ، المتمثلة بالتحاق كلّ شخص بقرينه.

ونصل إلى المشهد الثّامن :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) .

«الموءودة» : من (الوأد) على وزن (وعد) ، بمعنى دفن البنت حيّة بعد ولادتها.

وقيل : الوأد بمعنى الثقل ، وتوسع معناه (لما ذكر) ، لما فيه من دفن البنات في

٤٤٩

القبر وإلقاء التراب عليهن.

وأطلق الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام مفهوم الوأد ، ليشمل كلّ قطع رحم وقطع مودّة حينما سئل الإمام الباقرعليه‌السلام عن معنى الآية ، قال : «من قتل في مودّتنا».(١)

وفي رواية اخرى : إنّ الدليل على ذلك هو آية القربى :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (٢) .

ولا شك أنّ التفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية ، ولكن المفهوم والملاك قابلان للتوسع والشمول.

* * *

ملاحظات

١ ـ وأد البنات

تعتبر عادة (الوأد) ـ والتي أشار إليها القرآن الكريم مرارا ـ من أقبح جرائم وعادات عصر جاهلية ما قبل الإسلام.

وإذا كان البعض قد حصرها في قبيلة (كندة) أو بعض القبائل الصغيرة المتناثرة هنا وهناك دون بقية القبائل العربية الاخرى ، فالمسلم به إنّها كانت من الشيوع بحيث تناول القرآن الكريم ذكرها لأكثر من مرّة وبتأكيد شديد.

ولكن ، حتى مع افتراضنا لندرة هذا العمل القبيح ، فإنّه من القباحة والشناعة ما يدعونا لبحثه ودراسته

يقول المفسّرون : كانت المرأة في الجاهلية إذا ما حان وقت ولادتها ، حفرت حفرة وقعدت على رأسها ، فإن ولدت بنتا رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاما حبسته ، وقال شاعرهم مفتخرا :

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٣٢ ، ح ١١.

(٢) المصدر السابق ، ح ٧.

٤٥٠

سميتها إذا ولدت (تموت)

والقبر صهر ضامن ذميت(١)

وثمّة أسباب كثيرة وراء هذه الجريمة البشعة ، منها :

احتقار المجتمع الجاهلي للمرأة

وجود الفقر الشديد في تلك الحقبة الزمنية ، والمرأة كانت مستهلكة غير منتجة ، إضافة لعدم اشتراكها في الغارات التي تقوم بها القبيلة لتوفير لقمة العيش.

الخوف من وقع النساء أسرى في شباك الأعداء ، نتيجة للمعارك التي كانت دائرة على الدوام بين القبائل ، لأنّ في هكذا أسر جرح للشرف وإذلال شديد.

وتجمعت هذه الأسباب (بالإضافة لأسباب اخرى) فأدت إلى ظهور عادة (الوأد) الوحشية بين أفراد القبائل في ذلك العصر القابع تحت ظلام الجهل المقيت.

وممّا يؤسف له ، إنّ جاهلية القرون الأخيرة قد كررت تلك الممارسات البشعة وبصور اخرى ، حتى وصل ببعض الدول تدّعي التمدن والتحضر لأنّ تقنن وتقرّ (حرية) إسقاط الجنين! نعم ، فالحال واحدة فإذا كان أهل الجاهلية الاولى يقتلون البنت ، فمتمدني هذا العصر يقتلون الأطفال وهم في بطون أمهاتهم (بنتا أو ابنا)!!

وللحصول على تفاصيل هذا الموضوع ، راجع ذيل الآية (٥٩) من سورة النحل.

٢ ـ أهمية المرأة في الإسلام

بإمكان أن نستشف مدى اهتمام الإسلام بالمرأة وبالدم الإنساني (خصوصا دم الأبرياء) ، من خلال اهتمام الباري جلّ شأنه بمسألة وأد البنات ، ويكفي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٤.

٤٥١

القرآن الكريم دلالة على أن قدّم ذكر بحث مسألة الوأد في محكمة العدل الإلهي يوم القيامة على مسألة نشر صحف الأعمال وبقية المسائل الأخرى ، لما فيها من قباحة وشناعة في حق المرأة كإنسانة لها حقّ الحياة كما للرجل من حقّ.

٣ ـ من الإنسان الموءودة أم الوائد؟

لو أمعنا النظر في أسلوب كلام الآية ، لرأينا أنّ السؤال سيوجه يوم القيامة إلى الموءودة دون الرائد على الذنب الذي قتلت من أجله ، وكأنّ القاتل لا قيمة له حتى يسأل عن قباحة جريمته ، بالإضافة إلى الاكتفاء بشهادة الموءودة لإثبات جريمة الوائد عليه فالموءودة تعامل يوم القيامة باعتبارها إنسان محترم له حقوقه ، والرائد مهمل مهان.

* * *

٤٥٢

الآيات

( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) )

التّفسير

يوم يرى الإنسان ما قدّم!!

فبعد مرحلة الفناء العام ، تأتي مرحلة الظهور الجديد للعالم ، لتقام محكمة العدل الالهي. ومن خطوط هذه المرحلة :( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) .

«الصحف» : جمع (صحيفة) بمعنى المبسوط من الشيء ، كصحيفة الوجه ، والصحيفة التي يكتب عليها.

فستنشر الصحف التي دوّنت فيها أعمال الناس من قبل الملائكة وكلّ سيعرف جزاءه بعد الاطلاع على صحيفة أعماله ، كما تشير إلى ذلك الآية (١٤) من سورة الإسراء :( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) .

وسيكون نشر الصحف أمام الملأ العام لتقرّ عيون المحسنين سرورا ، ويقاسي المسيؤون العذاب النفسي.

ثمّ يضيف :( وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ) .

٤٥٣

«كشطت» : من (الكشط) على وزن (كشف) ، بمعنى قلع جلد الناقة ، كما قال الراغب في مفرداته ، وأمّا في (لسان العرب) فتعني : كشف الغطاء عن الشيء ، و «تكشط السحاب» أي ، تقطع وتفرّق.

وما يراد من «كشطت» في الآية ، هو : رفع الحجب الفاصلة بين العالمين الدنيوي والعلوي ، التي تمنع رؤية الناس للملائكة أو الجنّة والنّار ، فيرى الإنسان حينها عالم الوجود شاخص أمام ناظريه شخوصا حقيقيا ، وكما تصور الآيات التالية ذلك ، حيث أنّ الجنّة ستقترب من الإنسان ليرى نعيمها ، وتزداد النّار سعيرا لاهبة.

نعم ، أو ليس يوم القيامة (يوم البروز) فلا الحقائق ستخفى ، ولا يكون للحجب أثرا.

فالآية وما سبقها وسيلحقا إذن (حسب التفسير أعلاه) قد تحدثت عن المرحلة الثّانية للقيامة ـ مرحلة ما بعد البعث ـ فما ذكره كثير من المفسرين ، من كون الآية تشير إلى انهيار وتحطم السماوات ، والمتعلق بحوادث المرحلة الاولى للقيامة (مرحلة الفناء العام) ، يبدو أنّه بعيد ، لأنّه لا ينسجم مع معنى «كشطت» من جهة اخرى.

ويتأكد ذلك بوضوح من خلال الآية :( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ) .

فجهنّم موجودة في كل الأوقات ، ولكنّ حجب الدنيا هي المانعة من رؤيتها ، فالآية على سياق الآية (٤٩) من سورة التوبة :( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) ، وكما أنّ جهنّم موجودة فالجنّة كذلك بدلالة آيات قرآنية كثيرة(١) .

ويبّين البيان القرآني بذات السياق السابق :( وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ) .

وهذا المعنى هو تكرار لما جاء في الآية (٩٠) من سورة الشعراء :( وَأُزْلِفَتِ

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٣٣ ؛ والحديد ، الآية ٢١ إلخ.

٤٥٤

الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

«أزلفت» : من (زلف) على وزن (حرف) و «زلفى» : على وزن (كبرى) ، بمعنى القرب ، فيمكن أن يكون المراد هو : القرب المكاني ، أو القرب الزماني ، أو القرب من حيث الأسباب والمقدمات ، ويمكن أيضا أن تحمل الكلمة جميع ما ذكر من معان.

فستكون الجنّة قريبة من المؤمنين من حيث : المكان ، زمان دخولها ، من حيث تسهيل أسبابها لهم.

وقد تجلت مكانة المؤمنين عند الله حينما صرحّت الآية باقتراب الجنّة من المؤمنين ، ولم تقل : اقترب المؤمنين من الجنّة.

وكما قلنا آنفا فالجنّة والنّار موجودتان في كلّ وقت ، ولكن مع حلول يوم القيامة تكون الجنّة والنّار أشدّ اشتعالا من أي وقت مضى.

وتأتي الآية الأخيرة (من الآيات المبحوثة) لتتم ما جاء قبلها من جمل ، حيث تمثل جزاء الشرط للجمل السابقة والتي وردت في (١٢) آية :( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ ) .

فستحضر أعمال الإنسان كاملة ، ولا من محيص من العلم والاطلاع بها في عالم الشهود والمشاهدة.

وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرات عديدة في آيات مباركات ، منها الآية (٤٩) من سورة الكهف :( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) ، والآية الأخيرة من سورة الزلزال :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) .

فالآية إذن تبيّن مسألة (تجسم الأعمال) في يوم القيامة ، فأعمالنا التي نتصورها قد انتهت وفنت في عالمنا الدنيوي ، هي ليست كذلك ، فكل عمل قمنا به سيتجسم بصورة ما ، ليحضر أمام أعيننا في عرصة المحشر الرهبية.

* * *

٤٥٥

بحثان

١ ـ تناسق الآيات

تمّت الإشارة إلى (١٢) حادثة من حوادث يوم القيامة ، فالحوادث الستة الأولى قد ارتبطت بمرحلة الفناء العام للعالم (المرحلة الأولى) ، والستة الثّانية قد اختصت بمرحلة عودة الحياة بعد الموت من جديد.

وكان الحديث في الستة الأولى عن : ذهاب ضوء الشمس ، تساقط وتناثر النجوم ، إزالة الجبال عن واقعها وتحولها إلى غبار منتشر ، إضرام البحار نارا ، نسيان المال والثروة ، اجتماع الحيوانات الوحشية في مكان واحد

فيما كان الحديث في لستة الثانية عن : حشر الناس فرادى ، سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت من أجله! ، ونشر الصحف ، ارتفاع الحجب عن صفحة السماء ، اشتعال أوار جهنّم واقترب الجنّة ، واطلاع الإنسان على كل أعماله مجسدة.

ورغم قصر جمل الآيات إلّا أنّها حملت الكثير من المعاني وبأسلوب مثير يعمل على تحريك ضمير الإنسان ويدفعه للتوغل في أعماق التأمل والفكر

وقد جسّمت الآيات نهاية العالم بتصوير رائع ، بحيث قربت إلى الأذهان كيفية حدوث القيامة ، كل ذلك في عبارات وجيزة وبألفاظ سهلة ، وكلّ هذا يعطي مدى قوّة بيان وبلاغة القرآن الكريم فما أجمل وأعذب القرآنية ، وما أغزرها بالمعاني والإشارات!!

٢ ـ هل ستنطفئ المنظومة الشمسية ، وهل ستخمد النجوم؟؟

قبل البدء بالإجابة لا بدّ من بيان بعض ما توصل إليه العلم الحديث بخصوص المنظومة الشمسية :

إنّ الشمس (التي تعتبر مركز المنظومة الشمسية) متوسطة الحجم نسبة إلى

٤٥٦

بقية النجوم السابحة في السماء ، ولكنّها نسبة إلى الأرض كبيرة جدّا ، حيث قدّر العلماء حجمها بما يعادل (٠٠٠ ، ٣٠٠ ، ١) مرة بقدر حجم الأرض ، ونظرا لبعدها عن الأرض ، (حيث قدرت بـ (٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١٥٠) كيلومتر) ، فترى لناظرينا بهذا الحجم المحدود

ويكفينا أن نتلمس عظمة حجم الشمس ، فيما لو فرضنا بإدخال الكرة الأرضية مع القمر في باطن الشمس وبذات الفاصلة الموجودة حاليا ما بين الأرض والقمر ، ففي هذه الحال. سوف لا يواجه القمر أية صعوبة بالدوران حول الأرض من دون أن يخرج من سطح الشمس!

أمّا درجة حرارة سطح الشمس فتبلغ (٠٠٠ ، ٦) درجة مئوية ، وتصل درجة حرارة أعماق الشمس إلى عدّة ملايين درجة مئوية!!

وإذا ما أردنا أن نزن الشمس بالأطنان ، فسيواجهنا العدد (٢) وبيمينه (٢٧) صفرا ، أي (ملياري مليار مليار طن)!

وتصل ألسنة نيران سطح الشمس في بعض الأوقات إلى ارتفاع (٠٠٠ ، ٦٠) كيلومتر ، وبإمكان تلك الألسنة أن تلف الأرض وما عليها وبكل يسر ، لأنّ قطر الكرة الأرضية لا يتجاوز ال (٠٠٠ ، ١٢) كيلومتر.

ومصدر حرارة ونور الشمس الخارجة منها ، على خلاف ما يتصوره البعض من كونهما ناشئين من احتراق شي ما ، وكما يقول مؤلف كتاب (ولادة وموت الشمس) ، أن لو كانت الشمس ، عبارة عن جرم من الفحم الحجري الخالص ، لما استمرت لهذا اليوم ، ولو قدّرنا بدأ احتراقها منذ عصر أول فراعنة مصر ، لكان في يومنا المعاش قد احتراق بأكمله ونفد ، وإذا ما قيل بأيّة مادة أخرى غير الفحم الحجري ، فلا تغيّر من النتيجة الحاصلة.

وحقيقة الأمر ، أنّ مفهوم الاحتراق لا ينطبق على الشمس ، بقدر ما ينطبق عليها مفهوم الطاقة الحاصلة من التجزئة الذريّة ، ولمّا كانت الطاقة عظيمة جدّا ،

٤٥٧

فذرات الشمس في حالة تجزئة وتبديل إلى طاقة وبشكل مستمر.

واستنادا إلى حسابات العلماء : فإنّ كلّ ثانية تمرّ من عمر الشمس ينتقص من وزنها ما يقارب «اربعة ملايين طنا»! أمّا حجمها فلم يمسسه أيّ شي من التغيير رغم مرور السنين المديدة على عمرها!

وينبغي التسليم أنّ خاتمة الشمس لا بدّ منها ، وعجلة الزمن الدائبة ستوصل إلى ذلك الحدث ، ولا بدّ من مجيء ذلك اليوم الذي سيشهد اضمحلال حجم هذا الجرم الكبير وإخماد نوره ، كما هو حال وشأن بقية النجوم(١) .

فالعلم الحديث إذن ، قد أثبت الحقائق العلمية التي طرحها قبل ألف وأربعمائة سنة إلّا دليل قاطع على ما نقول.

* * *

__________________

(١) اقتبس هذا الكلام من ثلاثة كتب : (ولادة وموت الشمس) ، (النجوم من دون تلسكوب) و (بناء الشمس).

٤٥٨

الآيات

( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) )

التّفسير

نزل به رسول كريم :

بعد أن تناولت الآيات السابقة مواضيع : المعاد ، مقدمات يوم القيامة ، وحوادث يوم القيامة تأتي الآيات أعلاه لتطرق عن : أحقّية القرآن وصدق نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والآيات في حقيقتها تأكيد على ما جاء في الآيات السابقة لموضوع «المعاد» ، إضافة لذكرها صور بيانية منبهة على هذه الحقيقة.

وتشرع الآيات بـ :( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١) ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ ) .

«الخنّس» : جمع (خانس) ، من (خنس) وهو الانقباض والاختفاء ، ويقال

__________________

(١) تعرض المفسّرون في بحوث عديدة لكلمة «لا» ، هل هي : نافية ، زائدة ، للتأكيد وقد تناولنا ذلك مفصلا في أول سورة القيامة (في نفس هذا الجزء) ، فراجع.

٤٥٩

للشيطان : «الخنّاس» ، لأنّه إذا ذكر الله تعالى ، وكما ورد في الحديث الشريف : «الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خنس».(١)

«الجوار» : جمع (جارية) ، وهي الشيء الذي تتحرك بسرعة.

«الكنّس» : جمع (كانس) ، من (كنس) ، على وزن (شمس) ، وهو الاختفاء ، و «كناس» الطير والوحش : بيت يتخذه.

ولكن ما هي الأشياء المقصودة بهذا القسم؟

يعتقد كثير من المفسّرين ، إنّها الكواكب(٢) الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية ، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة (عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري وزحل).

ونقول توضيحا : لو تأملنا السماء عدّة ليال ، لرأينا أنّ نجوم السماء أو القبة السماوية تظهر وتغيب بشكل جماعي من دون أن تتغير الفواصل والمسافات فيما بينها ، وكأنّها لئالئ خيطت على قطعة قماش داكن الألوان ، وهذه القطعة تتحرك من المشرق إلى المغرب ، إلّا خمسة كواكب قد خرجت عن هذه القاعدة ، فنراها تتحرك وليس بينها وبين بقية النجوم فواصل ثابتة ، وكأنّها لئالئ قد وضعت على تلك القطعة وضعا ، من دون أن تخيّط بها!

وهذه الكواكب الخمس هي المقصود في هذا التفسير ، وما نلاحظه من حركتها إنّما تكون لقربها منّا لا نتمكن من تمييز حركات بقية النجوم لعظم المسافة فيما بيننا وبينها.

ومن جهة أخرى : ينبغي التنويه إلى أنّ علماء الفلك يطلقون على هذه الكواكب اسم (الكواكب المتحيرة) ، لأنّها لا تتحرك على خط مستقيم ثابت ،

__________________

(١) لسان العرب : مادة (خنس).

(٢) الفرق بين النجوم والكواكب ، إنّ الأولى شموس كشمسنا ، والثانية عبارة عن أجسام باردة كالأرض ، تنعكس عليها أشعة الشمس فتضيء ، ويمكن تمييزها على صفحة السماء بثبوت نورها ، في حين تكون النجوم متلألئة بالنور.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511