الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٢٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 600

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 600 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170445 / تحميل: 5978
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

قال : «مائة واربعة كتب ، أنزل الله منها على آدمعليه‌السلام عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خط بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزّبور والفرقان»(١) .

(أنزلت على موسى وعيسى وداود ومحمّد على نبيّنا وآله وعليهم‌السلام ).

و «الصحف الاولى» : مقابل «الصحف الأخيرة» التي أنزلت على المسيحعليه‌السلام وعلى النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

بحث

شرح الحديث الشريف : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»

لما كان تفضيل الآخرة على الدنيا من الأمور الجليّة لدى المؤمنين ، فكيف تصيب الغفلة الإنسان المؤمن فيقع في فخ الخطايا والذنوب؟!

ويكمن الجواب في جملة واحدة : عند غلبة الشهوات على وجود الإنسان ومصدر قوّة الشهوات هو : حبّ الدنيا.

يتضمّن حبّ الدنيا : حبّ المال ، المقام ، الشهوة الجنسية ، حبّ التفوق ، حبّ الذات ، وحبّ الانتقام إلخ وإذا ما غلب هذا الحبّ على وجود الإنسان فسيهتز كيانه بإعصار شديد ولا تستطيع كلّ معارف وعلوم وعقائد الإنسان من أن تقف أمام جموحه ، حتى يصل الإنسان لفقدان قدرة التشخيص ، فيقدم بالنتيجة الدنيا على الآخرة.

فـ «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» أمر محسوس ومجرّب في حياتنا وحياة الآخرين وهو دائم الوقوع أمام ناظرينا.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٧٤٦.

١٤١

الآخرين وهو دائم الوقوع أمام ناظرينا.

وعليه فلا سبيل لقطع جذور المعاصي إلّا بإخراج حبّ الدنيا وعشقها من القلب.

ينبغي علينا أن ننظر إلى الدنيا بواقعية وعقلائية ، فالدنيا ليست أكثر من مرحلة انتقالية أو معبر أو مزرعة الآخرة ، فما يبذر اليوم يحصد غدا ، ولا بدّ للإنسان أن العاقل ن يختار الطريق الذي يوصله إلى الهدف المنشود فيما إذا وقف بين مفترق طريقين ، واحد يؤدي للحصول على متاع الدنيا الزائل ، والآخر يوصل إلى نيل رضا الباري سبحانه وتعالى.

ونظرة ـ وإن كانت سريعة ـ إلى ملفات الجرائم سترينا واقعية الحديث المذكور ، وإذا ما تأملنا في بواعثها الحقيقة ، فسيتوضح الحديث أكثر فأكثر.

ولا تخرج علل الحروب وسفك الدماء (حتى بين الاخوة والأصدقاء) عن هذا الإطار المهلك (حبّ الدنيا).

فكيف النجاة ، وكلنا أبناء هذه الدنيا و «لا يلام الولد على حبّه لامه» كما جاء عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟!

إنّ زورق النجاة من تلاطم أمواج وهيجان حبّ الدنيا لا يبنى إلّا بالتربية الفكرية والعقائدية ، ومن ثمّ تهذيب النفس ومجاهدتها ، بالإضافة إلى الإعتبار من عواقب عبدة الدنيا.

فما كانت عاقبة الفراعنة مع كلّ ما كان لهم من قوّة؟! وأين هو الآن قارون وكنوزه التي لا يقدر مجموعة من الرجال على حمل مفاتيحها إلّا بشقّ الأنفس؟! وحتى القوى المتسلطة في عصرنا المعاش ، ليس لهم سوى فترة زمنية محدودة ، فترى عروشها تتهاوى ، وهم بين فار ومختبئ في أقذر المكانات وبين من سيلفه التراب ، لينتقل بعدها إلى العالم الذي كان يكذّب وجوده أو ليس ذلك أفضل واعظ لنا؟!

١٤٢

سئل عن أيّ الأعمال أفضل عند الله؟

قال : «ما من عمل بعد معرفة اللهعزوجل ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا ، فإنّ لذلك لشعبا كثيرة ، وللمعاصي شعب.

فأوّل ما عصى الله به «الكبر» ، معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين ، ثمّ «الحرص» وهي معصية آدم وحواء حين قال اللهعزوجل لهما :( فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ) فأخذا ما لا حاجة بهما إليه ، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة ، وذلك إنّ أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه ، ثمّ «الحسد» وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله ، فتشعب من ذلك حبّ النساء ، وحبّ الدنيا(١) ، وحبّ الرئاسة ، وحبّ الراحة ، وحبّ الكلام ، وحبّ العلو والثروة ، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلّهن في حبّ الدنيا ، فقال الأنبياء والعلماء بعد ذلك : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»(٢) .

اللهم ، اخرج حبّ الدنيا من قلوبنا

اللهم ، خذ بأيدينا إلى صراطك القويم ، وأبلغنا مغرمنا

اللهم ، إنّك تعلم الجهر وما يخفى ، فاغفر لنا ما ظهر من ذنوبنا وما خفى

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الأعلى

* * *

__________________

(١) يبدو أنّ «حبّ الدنيا» هنا ، بمعنى (حبّ البقاء في الدنيا) ، باعتباره كأحد الشعب السبعة ، ويبدو أنّه يرادف (طور الأمد).

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٣٩ ، باب حبّ الدنيا والحرص عليها ، الحديث ٨ ، وفي هذا الباب توجد رواية اخرى بهذا الشأن.

١٤٣
١٤٤

سورة

الغاشية

مكيّة

وعدد آياتها ست وعشرون آية

١٤٥
١٤٦

«سورة الغاشية»

محتوى السّورة :

تدور محتويات السّورة على ثلاثة محاور :

الأوّل : بحث «المعاد» ، وبيان حال المجرمين بما فيه من شقاء وتعاسة ، ووصف حال المؤمنين وهم يرفلون بنعيم لا ينضب.

الثّاني : بحث «التوحيد» ، ويتناول موضوع خلق السماء والجبال والأرض ، ونظر الإنسان إليها.

الثّالث : بحث «النبوّة» ، مع عرض لبعض وظائف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعموما ، فالسّورة تسير على منهج السور المكّية في تقوية أسس الإيمان والإعتقاد.

فضيلة السّورة :

ورد في فضيلة هذه السّورة في الحديث النبوي الشريف : «من قرأها حاسبه الله حسابا يسيرا».(١)

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «من أدمن قراءة( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) في فرائضه أو نوافله غشاه الله برحمته في الدنيا والآخرة ، أو أعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النّار»(٢) .

وبديهي أنّ الثواب المذكور لا يحصل إلّا لمن تلاها بتأمل وعمل.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٧.

(٢) المصدر السابق.

١٤٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) )

التّفسير

المتعبون الأخسرون!

تبتدأ السّورة بذكر اسم جديد ليوم القيامة :( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) .

«الغاشية» : من (الغشاوة) ، وهي التغطية ، وسمّيت القيامة بذلك لأنّ حوادثها الرهيبة ستغطي فجاءة كلّ شيء.

وقيل : بما أنّ الأوّلين والآخرين سيجمعون في ذلك اليوم ، فالقيامة تغشاهم جميعا.

وقيل أيضا : يراد بها نار جهنم ، لأنّها ستغطي وجوه الكافرين والمجرمين

١٤٨

ويبدو لنا التّفسير الأوّل أنسب من غيره.

وظاهر الآية : إنّها خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما حوته من صيغة الاستفهام فلبيان عظمة وأهمية يوم القيامة.

ويبدو بعيدا ما احتمله البعض من كون خطاب الآية موجّه إلى كلّ إنسان.

وتصف الآيات التالية ، حال المجرمين في يوم القيامة ، فتقول أوّلا :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) .

لا شك أنّ الوضع النفسي والروحي ، تنعكس آثاره على وجه صاحبه ، لذا فسترى تلك الوجوه وقد علتها علائم الخسران والخشوع لما أصابها من ذلّ وخوف ووحشة وهم بانتظار ما سيحل بهم من عذاب مهين أليم.

وقيل : «الوجوه» هنا ، بمعنى وجهاء القوم ورؤساء الكفر والطغيان ، لما سيكون لهم من ذل وهوان وعذاب أشد من غيرهم.

ولكنّ المعنى الأوّل أنسب

وتصف حال تلك الوجوه ثانيا :( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) .

فكلّ ما سعوا وكدوّا فيه في الحياة الدنيا سوف لا يجنون منه إلّا التعب والنصب ، وذلك : لأنّ أعمالهم غير مقبولة عند الله ، وما جمعوه من أموال وثروات قد ذهبت لغيرهم ، ولا يملكون من ذكر صالح يعقبهم في الدنيا ولا ولد صالح يدعو ويستغفر الله لهم ، فما اصدق هذا القول بحقّهم :( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) .

وقيل : المراد ، إنّهم يعملون في الدنيا ، ولهم التعب والألم في الآخرة.

وقيل أيضا : إنّ المجرمين سيقومون بأعمال شاقّة داخل جهنم ، زيادة في عذابهم.

ويبدو التّفسير الأوّل أصح من غيره.

وخاتمة مطاف تلك الوجوه التعبة الذليلة أنّ :( تَصْلى ناراً حامِيَةً ) .

«تصلى» : من (صلى) ـ على زنة نفى ـ وهو دخول النّار والبقاء فيها ،

١٤٩

والاحتراق بها(١) .

ولن يقف عذابهم عند هذا الحد ، بل أنّهم وبسبب حرارة النيران يصيبهم العطش الشديد وحينئذ :( تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) .

«آنية» : مؤنث آني من (الأني) ـ على زنة حلي ـ وهو التأخير ، ويستعمل لما يقرب وقته ، وجاء في الآية بمعنى : الماء الحارق الذي بلغ أقصى درجة حرارته وجاء في الآية (٢٩) من سورة الكهف :( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً )

وتحكي لنا الآية التالية عن طعام المجرمين :( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) وقد تعددت الآراء في معنى «الضريع».

فقال بعض : نبت ذو شوك لا صق بالأرض ، تسمّيه قريش (الشبرق) إذا كان رطبا ، فإذا يبس فهو (الضريع) ، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه ، وهو سم قاتل.(٢) وقال الخليل (أحد علماء اللغة) : الضريع نبات أخضر منتن الريح ، يرمي به البحر.

وعن ابن عباس : هو شجر من نار ، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها.

وجاء في الحديث النبوي الشريف : «الضريع شيء يكون في النّار يشبه الشوك ، أشدّ مرارة من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأحر من النّار ، سمّاه الله ضريعا».

وقال بعض آخر : هو طعام يضرعون عنده ويذلون ، ويتضرعون منه إلى الله

__________________

(١) صلي بالنّار ، لزمها واحترق بها.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧١١٩.

١٥٠

(ويذكر أن (الضرع) بمعنى الضعف والذلة والخضوع).(١)

ولا تعارض بين هذه التفاسير ، ويمكن قبولها كلها في تفسير الآية المذكورة.

وتصف لنا الآية التالية ذلك الطعام :( لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ) .

فهو ليس لسد جوع أو تقوية بدن ، وإنّما هو طعام يغص به ، ايغالا في العذاب ، كما ورد هذا المعنى في الآية (١٣) من وسورة المزمل :( وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً ) .

فالذين شرهوا في تناول ألذ المأكولات في دنياهم ، على حساب ظلم النّاس والتجاوز على حقوقهم ، ومنعوا لقمة العيش عن كثير من المحرومين ، فليس في طعام آخرتهم سوى العذاب الأليم.

ونعود لنكرر القول : إنّ ما نصفه ونتصوره عن نعيم الجنّة وعذاب جهنم ، لا يتعدى عن كونه مجرد إشارات وأشباح نراها من بعيد ونحن نعيش في سجن الدنيا المحدود ، وإلّا فحقيقة ما سينعم به أهل الجنّة وما يعانيه أهل النّار فمما لا يمكن لأحد وصفه!.

* * *

__________________

(١) بحثنا موضوع طعام أهل النّار ، الذي يسميه القرآن تارة ب «الضريع» واخرى ب «الزقوم» وثالثة ب «غسلين» ، وما بينها من تفاوت في ذيل الآية (٣٦) من سورة الحاقة.

١٥١

الآيات

( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) )

التّفسير

صور من نعيم الجنّة :

بعد ذكر ما سيتعرض له أهل النّار ، تنتقل عدسة السّورة لتنقل لنا مشاهدا رائعة لنعيم أهل الجنّة ليتوضح لنا الفرق ما بين القهر الإلهي والرحمة الإلهية ، وما بين الوعيد والبشارة.

فتقول الآية الاولى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ) ، على عكس وجوه المذنبين المكسوة بعلائم الذلة والخوف.

«ناعمة» : من (النعمة) ، وتشير هنا إلى الوجوه الغارقة في نعمة الله ، وجوه طرية ، مسرورة ونورانية ، كما أشارت لهذا الآية (٢٤) من سورة المطففين :( تَعْرِفُ

١٥٢

فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) .

وترى الوجوه :( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) .

على عكس أهل جهنّم ، فوجوههم «عاملة ناصبة» ، أمّا أهل الجنّة ، فقد حان وقت حصادهم لما زرعوا في دنياهم ، وحصلوا على أحسن ما يتمنون ، فتراهم في غاية الرضى والسرور.

وما زرعوا سيتضاعف ناتجة بإذن الله ولطفه أضعافا مضاعفة ، فتارة عشرة أضعاف ، واخرى سبعمائة ضعف ، وثالثة يجازون على ما عملوا بغير حساب ، كما أشارت الآية (١٠) من سورة الزمر إلى ذلك بقولها :( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ )

ويدخل البيان القرآني في التفصيل أكثر :( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ) .

«عالية» : قيل بإرادة المكان (في طبقات الجنّة العليا) ، وقيل أريد بها المقام الرفيع ، ومع أنّ التّفسير الثّاني أرجح ، إلّا أنّه لا مانع من الجمع بينهما :

وكذا :( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) .(١)

فليس هناك ثمّة : جدال ، كلام نفاق ، عداوة ، حقد ، حسد ، كذب ، تهمة ، افتراء ، غيبة ولا أيّ إيذاء ، بل ولا حتى الكلام الفارغ.

فهل يوجد مكان أهدأ وأجمل من ذلك؟!

ولو تأملنا حقيقة مشاكلنا فيما بيننا ، لرأينا أنّ الغالب منها ما كان ناشئا عن سماع هكذا أحاديث ، والتي تؤدي إلى عدم الاستقرار النفسي ، وإلى تهديم أركان الترابط الاجتماعي فينهار النظام وتشتعل نيران الفتن لتأكل الأخضر واليابس معا.

وبعد ذكر القرآن لما يتمتع به أهل الجنّة من نعمة روحية ، يبيّن بعض النعم المادية في الجنّة :( فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ) .

__________________

(١) «لاغية» : بالرغم من كونها اسم فاعل ، ولكنّها تأتي بما يرادف (اللغو) ، أي (ذات لغو).

١٥٣

ظاهر كلمة «عين» في الآية ، إنّها عين واحدة بدليل مجيئها نكرة ، إلّا أنّه بالرجوع إلى بقية الآيات في القرآن الكريم ، يتبيّن لنا إنّها للجنس ، فهي والحال هذه تشمل عيونا مختلفة ، ومن قرائن ذلك ما جاء في الآية (١٥) من سورة الذاريات :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) .

وقيل : في كلّ قصر من قصور أهل الجنّة ، ثمّة «عين جارية» ، وهو المراد في الآية ، ومن ميزة تلك الأنهار أنّها تجري حسب رغبة أهل الجنّة ، فلا داعي معها لشقّ أرض أو وضع سد.

وينهل أهل الجنّة أشربة طاهرة ومتنوعة ، فتلك العيون وعلى ما لها من رونق وروعة ، فلكلّ منها شراب معين له مواصفاته الخاصّة به.

وينتقل الوصف إلى أسرة الجنّة :( فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ) .

«سرر» : جمع (سرير) ، وهو من (السرور) ، بمعنى المقاعد التي يجلس عليها في مجالس الانس والسرور(١) .

وجعلت تلك الأسرة من الارتفاع بحيث يتمكن أهل الجنّة من رؤية كلّ ما يحيط بها والتمتع بذلك.

يقول ابن عباس : إذا أراد أن يجلس عليها ، تواضعت له حتى يجلس عليها ، ثمّ ترتفع إلى موضعها.(٢)

ويحتمل أيضا : وصفت بالمرفوعة إشارة إلى رفعتها وعلو شأنها.

وقيل : إنّها من الذهب المزين والمرصع بالزبرجد والدرّ والياقوت.

ولا مانع من الجمع بين ما ذكر.

ولمّا كان شرب الشراب يستلزم ما يشرب به ، فقد قالت الآية التالية :( وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ) .

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة (سرّ).

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٩.

١٥٤

ومتى ما أرادوا الشرب ارتفعت تلك الأكواب لتصل بين أيديهم وقد ملئت من شراب تلك العيون ، فيستلذون بما لا وصف له عند أهل الدنيا.

«أكواب» : جمع (كوب) ، وهو القدح ، أو الظرف الذي له عروة.

وبالاضافة إلى ذكر ال «أكواب» فقد ذكر القرآن الكريم تعابير اخرى لها ، مثل : «أباريق» جمع (إبريق) وهو ظرف معروف ، و «كأس» بمعنى القدح المملوء بالشراب ، كما جاء في الآيتين (١٧) و (١٨) من سورة الواقعة :( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ )

ويستمر الحديث عن جزئيات نعيم الجنّة :( وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ) .

«نمارق» : جمع (نمرقة) ، وهي الوسادة الصغيرة التي يتكأ عليها.

«مصفوفة» : إشارة إلى تعددها بنظم خاص ، ليظهر أنّ لأهل الجنّة جلسات انس جماعية ، التي لا يتخللها أي لغو وباطل ، ويدور الحديث فيها حول الألطاف الإلهية ونعمة الخالدة ، وعن الفوز الحقيقي الذي أبعدهم عن عذاب الآخرة ، وكيف أنّهم قد نجوا وخلصوا من الآم وأتعاب الدنيا.

ثمّ تكون الإشارة إلى فرش الجنّة الفاخرة :( وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) .

«زرابية» : جمع (زرب) أو (زربيّة) ، وهي الفرش والبسط الفاخرة ذات المتكأ.

ذكرت الآيات المبحوثة سبع نعم رائعة من نعم الجنّة ، وكلّ منها أكثر روعة من الاخرى.

والخلاصة : فمنزل الجنّة لا مثيل له من كلّ الجهات ، فهو الخالي من أي ألم أو عذاب أو حرب أو جدال وتجد فيه كلّ ألوان الثمار والأنعام والعيون الجارية والأشربة الطاهرة والولدان المخلدين والحور العين والأسرة المرصعة والفرش الفاخرة وأقداح جميلة في متناول اليد وجلساء أصفياء ، إلى غير ذلك ممّا لا يمكن عدّه بلسان أو وصفه بقلم ولا حتى تخيله إذا ما سرحت المخيّلة في عالمها

١٥٥

الرحب!

وكلّ ما ذكر وغيره سيكون في انتظار من آمن وعمل صالحا ، بعد حصوله على إذن الدخول إلى تلك الدار العالية.

وفوق هذا وذاك فثمّة «لقاء الله» ، الذي ليس من فوز يوازيه.

* * *

١٥٦

الآيات

( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦) )

التّفسير

الإبل من آيات خلق الله :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة بتفصيل عن الجنّة ونعيمها ، تأتي هذه الآيات لتوضيح معالم الطريق الموصل إلى الجنّة ونعيمها.

فمفتاح المعرفة «معرفة الله» ، ووصولا لهذا المفتاح تذكر الآيات أربعة نماذج لمظاهر القدرة الإلهية وبديع الخلقة ، داعية الإنسان للتأمل ، عسى أن يصل إلى ما ينبغي له أن يصل إليه.

وتشير أيضا إلى أنّ قدرة الله المطلقة هي مفتاح درك المعاد

١٥٧

فتقول الآية الاولى :( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) .

ولكن ، لم اختص ذكر «الإبل» قبل غيره؟

للمفسّرين حديث طويل في ذلك ، لكنّ الواضح إنّ الآيات في أوّل نزولها كانت تخاطب أهل مكّة قبل غيرهم ، والإبل أهم شيء في حياة أهل مكّة في ذلك الزمان ، فهي معهم ليل نهار وتنجز لهم ضروب الأعمال وتدر عليهم الفوائد الكثيرة.

أضف إلى ذلك أنّ لهذا الحيوان خصائص عجيبة قد تفرّد بها عن بقية الحيوانات ، ويعتبر بحق آية من آيات خلق الله الباهرة.

ومن خصائص الإبل :

١ ـ لو نظرنا إلى موارد الاستفادة من الحيوانات الأليفه ، فسنرى أنّ قسما منها لا يستفاد إلّا من لحومها ، والقسم الآخر يستفاد من ألبانها على الأغلب ، وقسم لا يستفاد منه إلّا في الركوب ، وقسم قد تخصص في حمل ونقل الأثقال ، ولكنّ الإبل تقدم كلّ هذه الخدمات (اللحم ، اللبن ، الركوب والحمل).

٢ ـ قدرة حمل وتحمل الإبل أكثر بكثير من بقية الحيوانات الأهلية ، حتى أنّها لتبرك على الأرض فتوضع الأثقال عليها ثمّ تنهض بها ، وهذا ما لا تستطيع فعله بقية الحيوانات الأهلية.

٣ ـ تتحمل العطش لأيّام متتالية (بين السبعة إلى عشرة أيّام) ، وقابليتها على تحمل الجوع مذهلة.

٤ ـ يطلق عليها اسم (سفينة الصحراء) ، لما لها من قابلية فائقة على طي مسافات طويلة في اليوم الواحد ، رغم الظروف الصحراوية الصعبة ، فلا يعرقل حركتها صعوبة الأرض أو كثرة المنخفضات الرملية ، وهذا ما لا نجده في أي حيوان أخر وبهذه المواصفات.

٥ ـ مع إنّها تتغذى على أي شوك وأيّ نبات ، فهي تشبع بالقليل أيضا.

١٥٨

٦ ـ لعينها واذنها وأنفها قدرة كبيرة على مقاومة الظروف الجوية الصعبة في الصحراء ، وحتى العواصف الرملية لا تقف حائلا أمام مسيرها.

٧ ـ والإبل مطيعة وسهلة الانقياد ، لدرجة أنّ بإمكان طفل صغير أن يأخذ بزمام مجموعة كبيرة من الإبل وتتحرك معه حيث يريد.

والخلاصة : إنّ ما يتمتع به هذا الحيوان من خصائص تدفع الإنسان لأن يلتفت إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى.

وها هو القرآن ينادي بكلّ وضوح : يا أيّها الضالون في وادي الغفلة ألّا تتفكرون في كيفية خلق الإبل ، لتعرفوا الحق وتخرجوا من ضلالكم؟!

ولا بدّ من التذكير ، بأنّ «النظر» الوارد في الآية ، يراد به النظر الذي يصحبه تأمل ودراسة.

وينتقل بنا البيان القرآني في الإبل إلى السماء :( وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) .

السماء التي حيّرت العقول بعظمتها وعجائبها وما فيها من نجوم وما لها من بهاء وروعة السماء التي يتصاغر وجود الإنسان أمامها ليعد لا شيء بالنسبة لها

السماء التي لها من دقّة التنظيم والحساب الدقيق ما بهر فيها عقول العلماء المتخصصين.

ألا ينبغي للإنسان أن يتفكر في أمر مدبر هذا الخلق ، وما الأهداف المرجوة من خلقه؟!

فكيف أصبحت تلك الكواكب في مساراتها المحدودة؟ وما هو سرّ استقرارها في أماكنها وبكلّ هذه الدقّة؟ ولم لم يتغيّر محور حركتها بالرغم من مرور ملايين السنين عليها؟!!!

ومع تطور الاكتشافات العلميّة الحديثة ، نرى أنّ عالم السماء وما يحويه يزداد عظمة وجلالا بدرجات ملموسة نسبة إلى ما كان عليه قبلا

مع كلّ هذا وذاك ، ألا يكون أمر خلق السماء مدعاة للتأمل والتفكير ،

١٥٩

والخضوع والتسليم لربوبية الخالق الواحد الأحد؟!

وينقلنا إلى الجبال :( وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) .

الجبال التي تشمخ بتعمق جذورها في باطن الأرض ، وتحيط بالأرض على شكل حلقات وسلاسل لتقلل من شدّة الزلازل الناشئة من ذوبان المواد المعدنية في باطن الأرض ، وكذا ما لها من دور في حفظ الأرض من عملية المدّ والجزر الناشئة من تأثيرات الشمس والقمر الجبال التي لو لا وجودها بهذه الهيئة لما توفرت ظروف عيش الإنسان على سطح الأرض ، لما تمثله من سد منيع أمام قوّة أثر العواصف وأخيرا ، الجبال التي تحفظ الماء في داخلها لتخرجه لنا على صورة عيون فياضة نعم الأرض ليخضر بساطها بأنواع المزارع والغابات.

ولعل ذلك كلّه كان وراء وصفها «أوتادا» في القرآن الكريم.

فهي عموما مظهر الابهة والصلابة والشموخ ، وهي مصدر خير وبركة معطاة ، ولعل ذلك من علل تفتح ذهنية الإنسان عندها ، كما وليس من العبث أن يتّخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبل النور وغار حراء محلا لعبادته قبل البعثة المباركة.

«نصبت» : من (النصب) ، وهو التثبيت ، وربّما رمز هذا التعبير إلى بداية خلق الجبال أيضا.

فقد توصل العلم الحديث إلى أنّ تكّون الجبال يعتمد على عوامل عديدة وقسمها إلى عدّة أنواع :

فمنها : ما تكون نتيجة للتراكمات الحاصلة على الأرض.

ومنها : ما تكون من الحمم البركانية.

ومنها : ما تكون نتيجة لتفتت الأرض بواسطة الأمطار.

وكذا منها : ما تكون نتيجة للترسبات الحاصلة في أعماق البحار ومن بقايا الحيوانات (كالجبال والجزر والمرجانية).

نعم ، فالجبال وبكلّ ما فيها ولها تعدّ آية من آيات القدرة الإلهية ، لمن رآها

١٦٠

بعين بصيرة ولبّ شغول.

ثمّ إلى الأرض :( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) .

فلينظر الإنسان إلى كيفية هطول الأمطار على الجبال لتسيل من بعدها محملة الأتربة كي تتكون بها السهول الصافية ، لتكون صالحة للزراعة من جهة ومهيئة لما يعمل بها الإنسان من جهة اخرى ولو كانت كلّ الأرض عبارة عن جبال ووديان ، فما أصعب الحياة على سطحها والحال هذه!

ولا بدّ لنا من التأمل والتفكير في من جعلها تكون على هذه الهيئة الملائمة تماما لحياة الإنسان؟

ولكن ، ما علاقة الربط بين الإبل والسماء والجبال والأرض ، حتى تذكرها الآيات بهذا التوالي؟

يقول الفخر الرازي في ذلك : إنّ القرآن نزل على لغة العرب ، وكانوا يسافرون كثيرا لأنّ بلدتهم بلدة خالية من الزراعية ، وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإيل ، فكانوا كثيرا ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين ، منفردين عن النّاس ، ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء ، لأنه ليس معه من يحادثه ، وليس هناك شيء يشغل به سمعه وبصره ، وإذا كان كذلك لم يكن له بدّ من أن يشغل باله بالفكرة ، فإذا فكر في ذلك وقع بصره أوّل الأمر على الجمل الذي ركبه ، فيرى منظرا عجيبا ، وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء ، وإذا نظر يمينا وشمالا لم ير غير الجبال ، وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض ، فكأنّه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد عن الغير حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر ، ثمّ إنّه في وقت الخلوة في المفازة البعيدة لا يرى شيئا سوى هذه الأشياء ، فلا جرم جمع الله بينها في هذه الآية(١) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣١ ، ص ١٥٨.

١٦١

وإذا ما ابتعدنا المحيط العربي القديم وما كان فيه ، وتوسعنا في مجال تأملنا ليشمل كلّ محيط البشرية ، لتوصلنا إلى أنّ هذه الأشياء الأربع تدخل في حياة الإنسان بشكل رئيسي ، حيث من السماء مصدر النور والأمطار والهواء ، والأرض مصدر نمو أنواع النباتات وما يتغذى به ، وكذا الجبال فبالإضافة لكونها رمز الثبات والعلو ففيها مخازن المياه والمواد المعدنية بألوانها المتنوعة ، وما الإبل إلّا نموذج شاخص متكامل لذلك الحيوان الأهلي الذي يقدّم مختلف الخدمات للإنسان.

وعليه ، فقد تجمعت في هذه الأشياء الأربع كلّ مستلزمات «الزراعة» و «الصناعة» و «الثروة الحيوانية» ، وحري بالإنسان والحال هذه أن يتأمل في هذه النعم المعطاءة ، كي يندفع بشكل طبيعي لشكر المنعم سبحانه وتعالى ، وبلا شك فإنّ شكر المنعم سيدعوه لمعرفة خالق النعم أكثر فأكثر.

وبعد هذا البحث التوحيدي ، يتوجه القرآن الكريم لمخاطبة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

نعم ، فخلق السماء والأرض والجبال والحيوانات ينطق بعدم عبثية هذا الوجود ، وأنّ خلق الإنسان إنّما هو لهدف

فذكّرهم بهدفية الخلق ، وبيّن لهم طريق السلوك الربّاني ، وكن رائدهم وقدوتهم في مسيرة التكامل البشري.

وليس باستطاعتك إجبارهم ، وإن حصل ذلك فلا فائدة منه ، لأنّ شوط الكمال إنّما يقطع بالإرادة والإختيار ، وليس ثمّة من معنى للتكامل الإجباري.

وقيل : إنّ هذا الأمر الإلهي نزل قبل تشريع «الجهاد» ، ثمّ نسخ به!

وما أعظم هذا الاشتباه!!

فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مارس عملية التذكير والتبليغ منذ الوهلة الاولى للبعثة الشريفة واستمر على هذا النهج حتى آخر لحظة من حياته الشريفة المباركة ، ولم

١٦٢

تتوقف العملية عن الممارسة من بعده ، حيث قام بهذه المهمّة الأئمّةعليهم‌السلام والعلماء من بعدهم ، حتى وصلت ليومنا وسوف لن تتوقف بإذن الله تعالى ، فأيّ نسخ هذا الذي يتكلمون عنه!

ثمّ إنّ عدم إجبار النّاس على الإيمان يعتبر من ثوابت الشريعة الإسلامية السمحاء ، أمّا هدف الجهاد فيتعلق بمحاربة الطغاة الذين يقفون حجر عثرة في طريق دعاة الحقّ وطالبيه.

وثمّة آيات اخرى في القرآن قد جاءت في هذا السياق ، كالآية (٨٠) من سورة النساء :( وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) ، وكذا الآية (١٠٧) من سورة الأنعام ، والآية (٤٨) من سورة الشورى – فراجع

«مصيطر» : من (السطر) ، وهو المعروف في الكتب ، و (المسيطر) : الذي ينظم السطور ، ثمّ استعمل لكلّ من له سلطة على شيء ، أو يجبر أحدا على عمل ما.

وفي الآيتين التاليتين يأتي الاستثناء ونتيجته :( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ) ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) .

ولكن ، إلى أية جملة يعود الاستثناء؟

ثمّة تفاسير مختلفة في ذلك :

الأوّل : إنّه استثناء لمفعول الجملة «فذكّر» ، أي : لا ضرورة لتذكير المعاندين الذين رفضوا الحق جملة وتفصيلا ، كما جاء في الآية (٨٣) من سورة الزخرف :( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) .

الثّاني : إنّه استثناء لجملة محذوفة ، والتقدير : فذكّر إنّ الذكرى تنفع الجميع إلّا من تولى وكفر ، كما جاء في الآية (٩) من سورة الأعلى :( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ) ، (على أن يكون لها معنا شرطيا).

الثّالث : إنّه استثناء من الضمير «عليهم» في الآية السابقة ، أي : (إنّك لست

١٦٣

عليهم بمصيطر إلّا من تولّى وكفر فأنت مأمور بمواجهتها)(١) .

كلّ ما ذكر من تفاسير مبنيّ على أنّ الاستثناء متصل ، ولكن ثمّة من يقول بأنّ الاستثناء منقطع ، فيكون معناه بما يقارب معنى (بل) ، فيصبح معنى الجملة : (بل من تولّى وكفر فإنّ الله متسلط عليهم) أو (إنّه سيعاقبهم بالعذاب الأكبر).

ومن بين هذه التفاسير ، ثمّة تفسيران مناسبان.

الأوّل : القائل بالاستثناء المتصل لجملة( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) فيكون إشارة لاستعمال القوّة في مواجهة من تولى وكفر.

الثّاني : القائل بالاستثناء المنفصل ، أيّ ، سينالهم العذاب الأليم ، الذي ينتظر المعاندين والكافرين.

ويراد ب( الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) «عذاب الآخرة» الذي يقابل عذاب الدنيا الصغير نسبة لحجم وسعة عذاب الآخرة ، بقرينة الآية (٢٦) من سورة الزمر :( فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ) .

وكذلك يحتمل إرادة نوع شديد من عذاب الآخرة ، لأنّ عذاب جهنم ليس بمتساو للجميع.

وبحدّية قاطعة ، تقول آخر آيتين في السّورة :( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) .

والآيتان تتضمّنان التسلية لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواجهته لأساليب المعاندين ، لكي لا يبتئس من أفعالهم ، ويستمر في دعوته.

وهما أيضا ، تهديد عنيف لكلّ من تسول له نفسه فيقف في صف الكافرين والمعاندين ، فيخبرهم بأنّ حسابهم سيكون بيد جبار شديد! بدأت سورة الغاشية بموضوع القيامة وختمت به أيضا ، كما تمّت الإشارة فيما

__________________

(١) ونستفيد من حديث شريف ورد في (الدرّ المنثور) أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مأمورا بمحاربة عبدة الأصنام ، وفي غير ذلك فهو مأمور بالتذكير.

١٦٤

بين البدء والختام إلى بحث التوحيد والنّبوة ، وهما دعامتا المعاد.

كما وتضمّنت السّورة عرضا لبعض ما سيصيب المجرمين من عقاب ، وعرضت في قبال ذلك ما سينعم به المؤمنون في جنّات النعيم الخالدة.

كما وأكّدت السّورة على حرية الإنسان في اختيار الطريق الذي يسلكه ، وذكّرت بعودة الجميع إلى مولاهم الحق ، وهو الذي سيحاسبهم على كلّ ما فعلوا في دنياهم

كما وبيّنت السّورة أن مهمّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي إبلاغ الرسالة ، وأنّه غير مسئول عن كفر وانحراف النّاس وذنوبهم ، وهذه هي مهمّة مبلغي طريق الحقّ.

اللهم ، ارحمنا يوم تعود الخلائق إليك ويكون حسابهم عليك

اللهم ، نجّنا برحمتك الكبرى من عذابك الأكبر

اللهم ، إنّ مواهب أهل الجنّة التي أوردت هذه السّورة قسما منها عظيمة ومذهلة. فإن كنّا لا نستحقها بأعمالنا فتفضل علينا بها بلطفك ورحمتك.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الغاشية

* * *

١٦٥
١٦٦

سورة

الفجر

مكيّة

وعدد آياتها ثلاثون آية

١٦٧
١٦٨

«سورة الفجر»

محتوى السّورة :

كبقية السور المكيّة ، فسورة الفجر ذات آيات قصار وأسلوب واضح ومصحوب بالإنذار والتحذير

وتقدّم لنا الآيات الاولى أقساما نادرة في نوعها لتهديد الجبارين بالعذاب الإلهي.

وتنقل لنا بعض آياتها ما حلّ ببعض الأقوام السالفة ممن طغوا في الأرض وعاثوا فسادا (قوم عاد ، ثمود وفرعون) ، وجعلهم عبرة لاولي الأبصار ، ودرسا قاسيا لكلّ من يرى في نفسه القوّة والاقتدار من دون الله.

ثمّ تشير باختصار إلى الامتحان الربّاني للإنسان ، وتلومه على تقصيره في فعل الخيرات

وفي آخر ما تتحدث عنه السّورة هو «المعاد» وما سينتظر المؤمنين ذوي النفوس المطمئنة من ثواب جزيل ، وأيضا ما سينتظر المجرمين والكافرين من عقاب شديد.

فضيلة السّورة :

روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «من قرأها في ليال عشر غفر الله له ، ومن

١٦٩

قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة»(١) .

كما وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنّها سورة الحسين بن علي ، من قرأها كان مع الحسين بن علي يوم القيامة في دوحته من الجنّة».(٢)

يمكن أن يكون وصف السّورة بسورة الإمام الحسينعليه‌السلام بلحاظ أنّه أفضل مصاديق ما جاء في آخر آياتها ، حيث فيما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية الأخيرة من السّورة : إنّ «النفس المطمئنة» هو الحسين بن عليعليهما‌السلام .

أو قد يكون بلحاظ ل «ليال عشر» المقسوم بها في أوّل السّورة ، حيث من ضمن تفاسيرها أنّها : ليالي محرم العشرة ، المتعلقة بشهادة الإمام الحسينعليه‌السلام وعلى أيّة حال ، فثوابها لمن تبصر في قراءتها وعمل على ضوءها.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٨١.

(٢) مجمع البيان ، ١٠ ، ص ٤٨١.

١٧٠

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) )

التّفسير

والفجر ..!

بدأت السّورة بخمسة أقسام :

الأوّل :( وَالْفَجْرِ ) والثّاني :( وَلَيالٍ عَشْرٍ ) .

«الفجر» : في الأصل ، بمعنى الشقّ الواسع ، وقيل للصبح «الفجر» لأنّ نوره يشقّ ظلمة الليل.

وكما هو معلوم فالفجر فجران ، كاذب وصادق.

الفجر الكاذب : هو الخيط الأبيض الطويل الذي يظهر في السماء ، ويشبّه بذنب الثعلب ، تكون نقطة نهايته في الأفق ، وقسمه العريض في وسط السماء.

الفجر الصادق : هو النور الذي يبدأ من الأفق فينتشر ، وله نورانية وشفافية خاصة ، كنهر من الماء الزلال يغطي أفق الشرق ثمّ ينتشر في السماء.

١٧١

ويعلن الفجر الصادق عن انتهاء الليل وابتداء النهار ، وعنده يمسك الصائمون ، وتصلى فريضة الصبح.

وفسّر «الفجر» في الآية بمعناه المطلق ، أي : بياض الصبح.

ولا شك فهو من آيات عظمة الله سبحانه وتعالى ، ويمثل انعطافا في حركة حياة الموجودات الموجودة على سطح الأرض ، ومنها الإنسان ، ويمثل كذلك حاكمية النور على الظلام ، وعند مجيئه تشرع الكائنات الحية بالحركة والعمل ، ويعلن انتهاء فترة النوم والسكون.

وقد أقسم الله تعالى ببداية حياة اليوم الجديد.

وفسّره بعض ، بفجر أوّل يوم من محرم وبداية السنة الجديدة.

وفسّره آخرون ، بفجر يوم عيد الأضحى ، لما فيه من مراسم الحج المهمّة ولاتصاله بالليالي العشرة الاولى من ذي الحجّة.

وقيل أيضا : إنّه فجر أوّل شهر رمضان المبارك ، أو فجر يوم الجمعة.

ولكنّ مفهوم الآية أوسع من أن تحدد بمصداق من مصاديقها ، فهي تضم كلّ ما ذكر.

وذهب البعض إلى أوسع ممّا ذكر حينما قالوا : هو كلّ نور يشع وسط ظلام

وعليه ، فبزوغ نور الإسلام ونور المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ظلام عصر الجاهلية هو من مصاديق الفجر ، وكذا بزوغ نور قيام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في وسط ظلام العالم (كما جاء في بعض الرّوايات)(١) .

ومن مصاديقه أيضا ، ثورة الحسينعليه‌السلام في كربلاء الدامية ، لشقها ظلمة ظلام بني اميّة ، وتعرية نظامهم الحاكم بوجهه الحقيقي أمام النّاس.

ويكون من مصاديقه ، كلّ ثورة قامت أو تقوم على الكفر والجهل والظلم على

__________________

(١) راجع تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٥٧ ، الحديث ١.

١٧٢

مرّ التاريخ.

وحتى انقداح أوّل شرارة يقظة في قلوب المذنبين المظلمة تدعوهم إلى التوبة ، فهو «فجر».

وممّا لا شك فيه أنّ المعاني هي توسعة لمفهوم الآية ، أمّا ظاهرها فيدل على «الفجر» المعهود.

والمشهور عن «ليال عشر» : إنّهن ليالي أوّل ذي الحجّة ، التي تشهد أكبر اجتماع عبادي سياسي لمسلمي العالم من كافة أقطار الأرض ، (وورد هذا المعنى فيما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) .

وقيل : ليالي أوّل شهر محرم الحرام.

وقيل أيضا : ليالي آخر شهر رمضان ، لوجود ليلة القدر فيها.

والجمع بين كلّ ما ذكر ممكن جدّا.

وذكر في بعض الرّوايات التي تفسّر باطن القرآن : إنّ «الفجر» هو «المهدي» المنتظر» «عجّل الله تعالى فرجه الشريف» و «ليال عشر» هم الأئمّة العشر قبلهعليهم‌السلام

و «الشفع» ـ في الآية ـ هما عليّ وفاطمةعليهما‌السلام .

وعلى أيّة حال ، فالقسم بهذه الليالي يدّل على أهميتها الاستثنائية نسبة لبقية الليالي ، وهذا هو شأن القسم(٢) ، ولا مانع من الجمع بين كلّ ما ذكر من معان.

ويأتي القسم الثّالث والقسم الرّابع :( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) .

للمفسّرين آراء كثيرة فيما أريد ب «الشفع والوتر» حتى ذكر بعضهم عشرين قولا(٣) ، فيما ذهب آخرون لذكر (٣٦) قولا في ذلك(٤) .

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي ، ج ١٢ ، ص ٧٤.

(٢) جاءت «ليال عشر» بصيغة النكرة للدلالة على عظمتها وأهميتها ، وإلّا فهي تنطبق على كلّ ما ذكر أعلاه.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣١ ، ص ١٦٤.

(٤) نقل ذلك كلّ من : العلّامة الطباطبائي في الميزان عن بعض المفسّرين في الجزء ٢٠ ، ص ٤٠٦ وفي كتاب روح المعاني عن كتاب التحرير والتحيير ، ج ٣٠ ، ص ١٢٠.

١٧٣

وأهم تلك الأقوال ، ما يلي :

١ ـ مراد الآية العددان الزوجي والفردي ، فيكون القسم بجميع الأعداد ، تلك الأعداد التي تدور عليها وبها كلّ المحاسبات والأنظمة والمغطية لجميع عالم الوجود ، وكأنّه سبحانه وتعالى يقول : قسما بالنظم والحساب.

وحقيقة الحساب والنظم في عالم الوجود ، تمثل الاسس الواقعية التي تقوم عليها الحياة الإنسانية.

٢ ـ المراد ب «الشفع» المخلوقات ، لوجود قرين لكلّ منها ، والمراد ب «الوتر» الباري جلّ شأنه ، لعدم وجود شبيه له ولا نظير.

إضافة إلى أنّ الممكنات تتركب من (ماهية) و (وجود) ، وهو ما يعبّر عنه بالفلسفة ب (الزوج التركيبي) ، أمّا الوجود المطلق الخالي من الماهية فهو «الله» حده ، (وأشارت بعض الرّوايات المنقولة عن المعصومينعليهم‌السلام إلى ذلك)(١) .

٣ ـ المراد ب «الشفع والوتر» جميع المخلوقات ، لأنّها من جهة بعضها زوج والبعض الآخر فرد.

٤ ـ المراد ب «الشفع والوتر» الصلاة ، لأنّ بعضها زوجي والبعض الآخر فردي ، (وورد هذا المعنى في بعض روايات أهل البيتعليهم‌السلام أيضا)(٢) أو هما ركعتي الشفع وركعة الوتر في آخر صلاة الليل.

٥ ـ المراد ب «الشفع» يوم التروية (الثامن من شهر ذي الحجة ، حيث يستعد الحجاج للوقوف على جبل عرفات) ، و «الوتر» يوم عرفة (حيث يكون حجاج بيت الله الحرام في عرفات أو «الشفع» هو يوم عيد الأضحى (العاشر من ذي الحجّة ، و «الوتر» هو يوم عرفة.

__________________

(١) روي ذلك أبو سعيد الخدري عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راجع مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٨٥.

(٢) المصدر السابق.

١٧٤

ووردت الإشارة إلى هذا المعنى في روايات أهل البيتعليهم‌السلام أيضا(١)

والمهم إنّ الألف واللام في «الشفع والوتر» إن كانا للتعميم ، فكلّ المعاني تجتمع فيهما ، وكلّ معنى سيكون مصداق من مصاديق «الشفع» و «الوتر» ، ولا داعي والحال هذه إلى حصر التّفسير بإحدى المعاني المذكورة ، بل كلّ منها تطبيق على مصداق بارز.

أمّا إذا كانا للتعريف ، فستكون إشارتهما إلى زوج وفرد خاصين ، وفي هذه الحال سيكون تفسيران من التّفاسير المذكورة أكثر من غيرهما مناسبة وقربا مع مراد الآية ، وهما :

الأوّل : المراد بهما يومي العيد وعرفة ، وهذا ما يناسب ذكر الليالي العشر الاولى من شهر ذي الحجّة ، وفيهما تؤدى أهم فقرات مناسك الحج.

الثّاني : أنّهما يشيران إلى «الصلاة» ، بقرينة ذكر «الفجر» ، وهو وقت السحر ووقت الدعاء والتضرع إلى اللهعزوجل .

وقد ورد هذان التّفسيران في روايات عن أئمّة أهل البيت المعصومينعليهم‌السلام .

ونصل هنا ، إلى القسم الخامس :( وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) (٢) .

فما أدّق هذا التعبير وأجمله؟! فقد نسب السير إلى الليل ، وذلك لأنّ «يسر» من (سرى) وهو السير ليلا على قول الراغب في مفرداته.

وكأنّ الوصف يقول : بأنّ الليل موجود حسي ، له حس وحركة ، وهو يخطو في ظلمته وصولا لنور النهار.

نعم ، قسما بالظلام السائر نحو النور ، قسما بالظلام المتحرك ، لا الثابت الذي يثير الخوف والرعب في الإنسان ، والليل يكون ذا قيمة فيما لو كان سائرا نحو النور.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) «يسر» : في الأصل (يسري) من (السري) ، وحذفت الياء للتخفيف ، ولمناسبة الآيات السابقة.

١٧٥

وقيل : هو ظلمة الليل التي تتحرك على سطح الكرة الأرضية ، والليل نافع بحركته وتناوبه مع النهار على سطح الأرض ، لينعم نصفها بالسبات والنوم ، وينعم النصف الآخر بالحركة والعمل تحت نور الشمس الرائع.

اختلف المفسّرون في مراد الآية من «الليل» ، هل هو مطلق الليل أم ليلة مخصوصة ، فإن كانت الألف واللام للتعميم فجميع الليالي ، كآية من آيات الله ومظهر من مظاهر الحياة المهمّة.

وإن كانت الألف واللام للتعريف ، فليلة عيد الأضحى ، بلحاظ الآيات السابقة ، حيث يتجه حجاج بيت الله الحرام من (عرفات) إلى (المزدلفة) ـ المشعر الحرام ـ ويقضون ليلهم في ذلك الوادي المقدس ، وعند الصبح يتجهون نحو (منى).

(وقد ورد في هذا روايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام )(١) .

والذين حضروا مثل تلك الليلة في عرفات ومشعر ، قد رأوا كيف يتحرك أكثر من مليون مسلم وهم متجهون من عرفات إلى المشعر وكأن الليل بكلّه يتحرك وتشاطره في ذلك الأرض وكذا الزمان.

وهناك يتلمس الإنسان معنى( وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) بكلّ دقائقه.

وعلى أيّة حال ، فالليل سواء كان بمعناه المطلق أم المحدد فهو من آيات عظمة الخالق سبحانه وتعالى ، وهو من الضرورات الحياتية في عالم الوجود.

فالليل يكيّف حرارة الجو ، ويعم على جميع الكائنات الاستقرار والسكون بعد جهد الحركة والتنقل ، وفوق هذا وذاك ففيه أفضل أوقات الدعاء والمناجاة مع الله جلّ وعلا.

وأمّا ليلة عيد الأضحى (ليلة الجمع) فهي من أعجب الليالي في ذلك الوادي

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٧١.

١٧٦

المقدس (المشعر الحرام).

وتتجسد تلك العلاقة الموجودة بين الأشياء الخمس التي أقسم بها (الفجر ، ليال عشر ، الشفع ، الوتر ، الليل إذا يسر) إذا ما اعتبرناها ضمن أيّام ذي الحجّة ومراسم الحج العظيمة.

وفي غير هذا فسيكون إشارة إلى مجموعة من حوادث عالم التكوين والتشريع المهمّة ، والتي تبيّن جلال وعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

ثمّ تأتي الآية التالية لتقول :( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) . «الحجر» هنا بمعنى : العقل ، وفي الأصل بمعنى (المنع) ، كأن يقال : حجر القاضي فلانا ، أو كأن يطلق على الغرفة (حجرة) لأنّها محل محفوظ ويمنع دخوله من قبل الآخرين ، وكذلك يقال للحضن (حجر) ـ على وزن فكر ـ لحفظه وإحاطته ، واطلق على العقل (حجر) لمنعه الإنسان عن الأعمال السيئة ، كما أنّ مصطلح (العقل) هو بمعنى (المنع) أيضا ، ومنه (العقال) الذي به تربط أرجل البعير ليمنعه من الحركة.

ولكن أين جواب القسم؟

ثمّة احتمالان ، هما :

الأوّل : قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) .

الثّاني : جواب القسم محذوف وتدلّ عليه الآيات التالية ، التي تتحدث عن عقاب الطغاة ، والتقدير : (قسما بكلّ ما قلناه لنعذبنّ الكافرين والطغاة).

* * *

١٧٧

الآيات

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) )

التّفسير

إمهال الظالمين والانتقام!

بعد أن تضمّنت الآيات الاولى خمسة أقسام حول معاقبة الطغاة ، تأتي هذه الآيات لتعرض لنا نماذج من طواغيت الأرض من الذين توفرت لهم بعض سبل القوّة والقدرة ، فأهوتهم أهوائهم في قاع الغرور والكفر والطغيان ، وتبيّن لنا الآيات المباركة ما حلّ بهم من عاقبة أليمة ، محذرة المشركين في كلّ عصر ومصر على أن يرعووا ويعودوا إلى رشدهم بعد أن يعيدوا حسابهم ويستيقظوا من غفلتهم ، لأنّهم مهما تمتعوا بقوّة وقدرة فلن يصلوا لما وصل إليه الأقوام السالفة ، وينبغي الاتعاظ بعاقبتهم ، وإلّا فالهلاك والعذاب الأبدي ولا غير سواه.

وتبتدأ الآيات ب :( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) .

١٧٨

المراد «بالرؤية» هنا ، العلم والمعرفة لما وصلت إليه تلك الأقوام من الشهرة بحال بحيث أصبح من جاء بعدهم يعرف عنهم الشيء الكثير وكأنّه يراهم بامّ عينيه ولذا جاء في الآية :( أَلَمْ تَرَ ) .

ومع أنّ المخاطب في الآية هو النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الخطاب موجّه إلى الجميع.

«عاد» : هم قوم نبي الله هودعليه‌السلام ، ويذكر المؤرخون أنّ اسم «عاد» يطلق على قبيلتين قبيلة كانت في الزمن الغابر البعيد ، ويسميها القرآن الكريم ب «عاد الاولى» ، كما في الآية (٥٠) من سورة النجم ، (ويحتمل أنّها كانت قبل التاريخ).

ويحددون تاريخ القبيلة الثّانية بحدود (٧٠٠) سنة قبل الميلاد ، وكانت تعيش في أرض الأحقاف أو اليمن.

وكان أهل عاد أقوياء البنية ، طوال القامة ، لذا كانوا يعتبرون من المقاتلين الأشداد ، هذا بالإضافة إلى ما كانوا يتمتعون به من تقدّم مدني ، وكانت مدنهم عامرة وقصورهم عالية وأراضيهم يعمها الخضار.

وقيل : إنّ «عاد» هو اسم جدّ تلك القبيلة ، وكانت تسمى القبيلة ب (عادة).

ويضيف القرآن قائلا :( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ) .

اختلف المفسّرون في علام يطلق اسم «إرم». هل هو شخص أم قبيلة أم مدينة؟

ينقل الزمخشري في الكشاف عن بعضهم ، قوله : إنّ عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وسمّيت القبيلة باسم الجدّ وهو (إرم).

ويعتقد آخرون : إنّ (إرم) هم «عاد الاولى» ، و «عاد» هي القبيلة الثّانية ، يقال أيضا : إنّ «إرم» هو اسم مدينتهم.(١)

__________________

(١) تفسير الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٧٤٧ ، وذكر ذلك أيضا القرطبي في تفسيره ، وغيره.

١٧٩

وما يناسب الآية التالية ، أن يكون (إرم) هو اسم مدينتهم.

«عماد» : بمعنى العمود وجمعه «عمد» وهي على ضوء التّفسير الأوّل ، تشير إلى ضخامة أجسادهم كأعمدة البناء ، وعلى ضوء التّفسير الثّاني تشير إلى عظمة أبنيتهم وعلو قصورهم وما فيها من أعمدة كبيرة.

وعلى القولين فهي : إشارة إلى قدرة وقوّة قوم عاد.(١)

ولكنّ التّفسير الثّاني (أعمدة قصورهم العظيمة) أنسب.

ولذا تقول الآية التالية :( الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) .

والآية تبيّن أنّ المراد ب «إرم» المدينة وليس شخص أو قبيلة ، ولعل هذه الآية هي التي دعت بعض كبار المفسّرين من اختيار هذا التّفسير ، ونراه كذلك راجحا(٢) .

وقد ذكر بعض المفسّرين قصّة اكتشاف مدينة «إرم» العظيمة في صحاري شبه الجزيرة العربية وصحاري عدن ، وتحدثوا بتفصيل عن رونقها وبنائها العجيب ، ولكنّ القصّة أقرب للخيال منها للواقع.

وعلى أيّة حال ، فقوم «عاد» كانوا من أقوى القبائل في حينها ، ومدنهم من أرقى المدن من الناحية المدنية ، وكما أشار إليها القرآن الكريم :( الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) .

وثمّة قصص كثيرة عن «جنّة شداد بن عاد» في كتب التاريخ ، حتى أنّها أصبحت مضربا للأمثال لما شاع عنها بين النّاس وعلى مرّ العصور ، إلّا أنّ ما ورد بين متون كتب التاريخ لا يخرج عن إطار الأساطير التي لا واقع لها.

وتذكر الآية التالية جمع آخر من الطغاة السابقين :( وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) ، وصنعوا منها البيوت والقصور.

__________________

(١) وعلى ضوء التّفسير الأوّل يكون التعبير ب «ذات» لأنّ الطائفة والقبيلة مؤنث لفظي.

(٢) «إرم» ممنوع من الصرف ، لذا فقد نصب في حالة الجر.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600