الصوت اللغوي في القرآن

الصوت اللغوي في القرآن0%

الصوت اللغوي في القرآن مؤلف:
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 215

الصوت اللغوي في القرآن

مؤلف: الدكتور محمد حسين علي الصغير
تصنيف:

الصفحات: 215
المشاهدات: 40614
تحميل: 5036

توضيحات:

الصوت اللغوي في القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40614 / تحميل: 5036
الحجم الحجم الحجم
الصوت اللغوي في القرآن

الصوت اللغوي في القرآن

مؤلف:
العربية

أو « أص » وكذلك في قوله تعالى :( ق ) فإنك تقول « قاف » لا « ق » ولا « إق » وهكذا في الحروف الثنائية كقوله تعالى :( طس ) وفي الحروف الثلاثية كقول تعالى :( ألم ) وكذلك في الحروف الرباعية كقوله تعالى :( ألمر ) وكذلك في الحروف الخماسية كقوله تعالى :( كهيعص ) فكلها تنطق بأسماء تلك الحروف أصواتاً ، لا بأشكالها الهجائية رسوماً ، مما يقرب منها البعد الصوتي المتوخى ، بينما كتبت في المصاحف على صورة الحروف لا صورة الأصوات.

وقد علل الزركشي ( ت : ٧٩٤ هـ ) المؤشر الأخير بالوقوف عند خط المصحف بأشياء خارجة عن القياسات التي يبنى عليها علم الخط والهجاء « ثم ما عاد ذلك بنكير ولا نقصان لا ستقامة اللفظ ، وبقاء الحفظ »(١) .

وأشار الشيخ الطوسي ( ت : ٤٦٠ هـ ) إلى جزء من صوتية هذه الحروف بملحظ الوقف عندها فقال : « وأجمع النحويون على أن هذه الحروف مبنية على الوقف لا تعرب ، كما بني العدد على الوقف ، ولأجل ذلك جاز أن يجمع بين ساكنين ، كما جاز ذلك في العدد »(٢) .

هذه لمحات صوتية في خضم دلالات الحروف المقطعة في فواتح السور القرآنية ، وقفنا عند الصوت اللغوي فيها ، وأشرنا إلى البعد الإعجازي من خلالها ، وليس ذلك كل شيء في أبعادها ، فقد تبقى من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله ، وخير الناس من قال فيها بكل تواضع : الله أعلم ، كما قال ذلك مالك بن بني في حديثه عنها.

« لقد حاول معظم المفسرين أن يصلوا إلى موضوع الآيات المغلقة إلى تفاسير مختلفة مبهمة ، أقل أو أكثر استلهاماً للقيمة السحرية التي تخص بها الشعوب البدائية : الكواكب ، والأرقام والحروف ، ولكن أكثر المفسرين تعقلاً واعتدالاً ، هم أولئك الذين يقولون في حال كهذه بكل تواضع : الله أعلم »(٣) .

__________________

(١) الزركشي ، البرهان : ١|١٧٢.

(٢) الطوسي ، التبيان : ١|٥٠.

(٣) مالك بن بني ، الظاهرة القرآنية : ٣٣٣.

١٠١

وفوق هذا وذاك قول أمير المؤمنين الإمام علي7 فيما ينسب إليه :

« إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي »(١) وتبقى التأويلات سابحة في تيارات هذه الحروف المتلاطمة ، والتفسير الحق لها عند الله تعالى ، ولا يمنع ذلك من كشف سيل الحكم والإشارات والتوجيهات ، والملامح اللغوية بعامة ، أو الصوتية المتخصصة ، أو الإعجازية بخاصة في هذه الحروف ، فهو ليس تفسيراً لها بملحظ أن التفسير هو الكشف عن مراد الله تعالى من قرآنه المجيد ، بقدر ما هو إشعاع من لمحاتها ، وقبس من أضوائها ، يسري على هداه السالكون.

( وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً ) و ( فوق كل ذي علم عليم )

صدق الله العظيم

____________

(١) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : ١|٣٢.

١٠٢

الفصل الرابع

الصوت اللغوي في الأداء القرآني

١ ـ أصول الأداء القرآني

٢ ـ مهمة الوقف في الأداء القرآني

٣ ـ نصاعة الصوت في الأداء القرآني

٤ ـ الصوت الأقوى في الأداء القرآني

٥ ـ توظيف الأداء القرآني في الأحكام

١٠٣

١٠٤

أصول الأداء القرآني :

لعل أقدم إشارة تدعو إلى التأمل في أصول الأداء القرآني ، ما روي عن الإمام علي7 في قوله تعالى :( ورتّل القرآن ترتيلا ) (١) .

انه قال : « الترتيل تجويد الحروف ، ومعرفة الوقوف »(٢) .

وفي رواية ابن الجزري أنه قال : « الترتيل معرفة الوقوف ، وتجويد الحروف »(٣) ونقف عند هاتين الظاهرتين : معرفة الوقوف ، وتجويد الحروف.

الأول : الوقف ، قال عبدالله بن محمد النكزاوي ( ت : ٦٨٣ هـ ) : « باب الوقف عظيم القدر جليل الخطر ، لأنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن ، ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل »(٤) وهو بيان موضع الوقف عند الاستراحة لغرض الفصل ، إذ لا يجوز الفصل بين كلمتين حالة الوصل ، فتقف عند اللفظ الذي لا يتعلق ما بعده به ، ويحدث غالباً عند آخر حرف من الفاصلة ، كما يحدث في سواه. وقد عرفه السيوطي ( ت : ٩١١ هـ ) تعريفاً صوتياً فقال : « الوقف : عبارة عن قطع الصوت عن الكلمة زمناً يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة لا بنية

__________________

(١) المزمل : ٤.

(٢) السيوطي ، ١|٢٣٠.

(٣) ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر.

(٤) السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : ١|٢٣٠.

١٠٥

الإعراض ، ويكون في رؤس الآي وأوساطها ، ولا يأتي في وسط الكلمة ، ولا فيما اتصل رسماً »(١) . ولا يصح الوقف على المضاف دون المضاف إليه ، ولا المنعوت دون نعته ، ولا الرافع دون مرفوعه وعكسه ، ولا الناصب دون منصوبه وعكسه ، ولا إن أو كان أو ظن وأخواتها دون اسمها ، ولا اسمها دون خبرها ، ولا المستثنى منه دون الاستثناء ، ولا الموصول دون صلته ، اسمياً أو حرفياً ، ولا الفعل دون مصدره ، ولا حرف دون متعلقه ، ولا شرط دون جزائه ، كما يرى ذلك ابن الأنباري(٢) .

وهذا التوقف عن الوقف قد لا يراد ببعضه التحريم الشرعي ، وإنما المراد هو عدم الجواز في الأداء القرآني ، مما تكون به التلاوة قائمة على أوصولها ، والملحظ الصوتي متكاملاً في التأدية التامة لأصوات الحروف.

والمقياس الفني لذلك : أن الكلام إذا كان متعلقاً بما بعده فلا يوقف عليه ، وإن لم يكن كذلك فالمختار الوقوف عليه.

ولنأخذ كلمة « نعم » في موضعين من القرآن في حالتي الوقوف وعدمه :

أ ـ قال تعالى :( ونادى اصحاب الجنة اصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ) (٣) .

فالاختيار الفني الوقوف الطبيعي عند نعم ، لأن ما بعدها غير متعلق بها ، إذ ليس « فأذن مؤذن » في الآية من قول أهل النار.

ب ـ وقال تعالى :( أو ءاباؤنا الأولون * قل نعم وأنتم داخرون ) (٤) .

فالاختيار الأدائي عدم الوقف عند « نعم » بل وصلها بما بعدها ، لتعلقه بما قبلها ، وذلك لأنه من تمام القول وغير منفصل عنه.

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : ١|٢٤٤.

(٢) المصدر نفسه ١|٢٣٢.

(٣) الأعراف : ٤٤.

(٤) الصافات : ١٧ ـ ١٨.

١٠٦

لذلك فقد عبر الزركشي عن الوقف بأنه « فن جليل ، وبه يعرف كيف آداء القرآن ، وبه تتبين معاني الآيات ، ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات »(١) .

وقد نقل السيوطي : أن للوقف في كلام العرب أوجهاً متعددة ، والمستعمل منها عند أئمة القراء تسعة : السكون ، والروم ، والأشمام ، والإبدال ، والنقل ، والأدغام ، والحذف ، والإثبات ، والإلحاق(٢) .

وهذه المفردات كلها مصطلحات فنية تتعلق بالصوت ، وتنظر إلى التحكم فيه ، أو تعتمد على إظهار الصوت بقدر معين.

فالسكون : عبارة عن ترك الحركة على الكلم المحركة وصلاً.

والروم : النطق ببعض الحركة أو تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب أكثرها.

والإشمام : عبارة عن الإشارة إلى الحركة من غير تصويت.

والإبدال : فيما آخره همزة متطرفة بعد حركة أو ألف ، فإنه يوقف بإبدالها حرف مد من جنس ما قبلها.

والنقل : فيما آخره همزة بعد ساكن ، فتنقل حركتها إليه ، فتتحرك بهاء ثم تحذف الهمزة.

والإدغام : فيما آخره همزة بعد ياء أو واو زائدين ، فإنه يوقف عليه بالإدغام بعد إبدال الهمز من جنس ما قبله.

والحذف : إنما يكون في الياءات الزوائد عند من يثبتها وصلاً.

والإثبات : في الياءات المحذوفات وصلاً عند من يثبتها وقفاً.

والإلحاق : ما يلحق آخر الكلم من هاءات السكت عند من يلحقها.

في : عم ، وفيم ، وبم ، ومم. والنون المشددة مع جمع الإناث ،

__________________

(١) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : ١|٣٤٢.

(٢) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١|٢٤٨.

١٠٧

نحو : هن ، ومثلهن. والنون المفتوحة ، نحو العالمين ، والدين ، والمفلحون ، والمشدد المبني ، نحو: « ألا تعلو عليّ » ، و « خلقت بيدي » ، و « مصرخي » و « يديّ »(١) .

وستجد في غضون البحث نماذج قرآنية كافية لهذه المؤشرات الصوتية تطبيقياً ، وذلك في مواضعها من البحث ، وكل بحيث يراد.

ولما كان الوقف هو الأصل في هذا المبحث ، فإن موارده في الأداء القرآني متسعة الأطراف ، ومتعددة الجوانب ، ولما كانت الفاصلة القرآنية تشكل مظهر الوقف العام والمنتشر في القرآن ، فقد سلطنا الضوء الكاشف على جزئياتها في أصول الأداء القرآني بمختلف صورها ، واعتبرنا ذلك المورد الأساس للآداء بالنسبة للفاصلة فحسب ، على أننا قد خصصنا الفواصل بفصل منفرد بالنسبة للصوت اللغوي ، ولمّا كان مبنى الفواصل على الوقف ، وتلك ظاهرة صوتية في الآداء ، فإننا قد أضفنا أليها ظاهرة أخرى في رد الأصوات إلى مخارجها ، وتنظيم النطق بحسبها في إحداث الأصوات ، وهي ظاهرة ترتيب التلاوة صوتياً ، وبذلك اجتمع موردان هما الأصل في علم الآداء القرآني الوقف والتجويد منفرين بالمبحثين الآتيين :

مهمة الوقف في الأداء القرآني :

يأتي الوقف دون الوصل في وسط الآية ، وضمن فقراتها ، وعند فواصلها ، ولما كان مبنى الفواصل القرآنية على الوقف في مختلف صورها مرفوعة ومجرورة ومنصوبة اسماً كانت أم فعلاً ، مفرداً أم مثنى أم جمعاً ، مذكراً ومؤنثاً ، فإن الوقف في مجالها متميز الأبعاد ، ومتوافر العطاء ، فقد عرضنا إليه في هذا الحقل للدلالة عليه فيما سواه مضافا الى ما تقدم في المبحث السابق ، ففيه الغنية إلى موارده.

شاع في فواصل الآيات القرآنية مقابلة المرفوع بالمجرور وبالعكس ، وكذا المفتوح والمنصوب غير المنون ، وقارن فيما يأتي : من الآيات ، وهي تقف عند السكون صوتاً في غير الدرج ، ةإن كانت فواصلها متعاقبة على

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ١|٢٤٩ ـ ٢٥٠ وقارن في كتب التجويد.

١٠٨

الرفع والجر أو الج والرفع من حيث الموقف الأعرابي ، والرسم الكتابي :

اولاً : مقابلة المجرور والمرفوع طرداً وانعكاساً والمجرور بالمفتوح :

أ ـ قال تعالى :( لا يَسَّمَّعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب *دحورا ولهم عذاب واصب *إلا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب *فاستفتهم اهم اشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب ) (١) .

فالكلمة «جانب » وهي مجرورة في الفاصلة الأولى تتبعها « واصب » في الفاصلة الثانية ، وهي مرفوعة. والكلمة « ثاقب » مرفوعها تتبعها في الفاصلة التي تليها « لازب » وهي مجرورة ، وقد جاءت الفواصل جميعها على نبرة صوتية واحد نتيجة الوقف عندها.

ب ـ قال تعالى :( ففتحنا أبواب السّماء بماء مّنهمر *وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر *وحملناه على ذات ألواح ودسر *تجرى بأعيننا جزاء لمن كان كفر ) (٢) .

فالكلمة « منهمر » وهي مجرورة تبعتها في الفاصلة التي تليها « قدر » وهي مفتوحة. والكلمة « دسر » وهي مجرورة تبعتها في الفاصلة التي تليها « كفر » وهي مفتوحة ، وقد تمت تسويتها الصوتية على وتيرة نغمية واحدة ضمن نظام الوقف في الفواصل فنطقت ساكنة.

ج ـ وفي سورة الرعد ، ورد اقتران المنون المجرور بالمنصوب ، يليه المجرورغير المنون ، في قوله تعالى :

( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال هو الذّى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السّحاب الثّقال *ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصّواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) (٣) .

__________________

(١) الصافات : ٨ ـ ١١.

(٢) القمر : ١١ ـ ١٤.

(٣) الرعد : ١١ ـ ١٣.

١٠٩

فالكلمة « وال » منونة وهي مجرورة تبعتها في الفاصلة التي تليها « الثقال » وهي مفتوحة منصوبة ، تليها « المحال » وهي مجرورة غير منونة.

وبدت الآيات في تراصفها الصوتي مختتمة باللام الساكنة ، دون تنوين أو فتح أو كسر بفصيلة الوقف.

ثانياً : ولا تتحكم هذه القاعدة في الفواصل التي تلتزم حرفاً واحداً في أواخرها ، كما في الأمثلة السابقة بل تتعداها إلى أجزاء أخرى من الفواصل ، المختلفة الخواتيم ، وقارن بين الآيات التالية الذكر :

أ ـ ورد اقتران المجرور بالمرفوع المنوّن ، واقتران المرفوع المنون بالمنصوب في قوله تعالى :

( وجعلوا لله أندادا لّيضلّوا عن سبيله قل تمتّعوا فإنّ مصيركم إلى النّار *قل لّعبادى الّذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا ممّا رزقناهم سرّا وعلانية مّن قبل أن يأتي يوم لاّ بيع فيه ولا خلال *الله الذى خلق السّماوات والأرض وأنزل من السّماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقا لّكم وسخّر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار ) (١) .

فالألفاظ : « النار » وهي مجرورة دون تنوين ، و « خلال » وهي مرفوعة منونة ، و « الأنهار » وهي منصوبة مفتوحة ، وقد تلاقت الكسرة والضمة والفتحة في سياق قرآني واحد ، دون تقاطع النبر الصوتي ، أو اختلاف النظام الترتيلي.

ب ـ وقد جاء التنوين في حالة الجر إلى جنب الرفع غير المنون في فاصلتي قوله تعالى :

( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير *يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) (٢) . فالكلمتان « خبير » وهي مجرورة منونة مختتمة بالراء ، اتبعتها في الفاصلة التي تليها « الحميد » وهي مرفوعة دون

__________________

(١) إبراهيم : ٣٠ ـ ٣٢.

(٢) فاطر : ١٤ ـ ١٥.

١١٠

تنوين مختتمة بالدال ، انسجما صوتياً مع اختلاف الفاصلة والهيأة نتيجة لهذا الوقف الذي قرب من الصوتين.

ثالثاً : ولا يقف فضل الوقف على ما تقدم بل يظهر بمظهر جديد آخر في تقاطر العبارات وتناسقها ، وهي مختلفة في المواقع الإعرابية ، وكأنها في حالة إعرابية واحدة وإن لم تكن كذلك ، نتيجة للصوت الواحد في الوقوف على السكون في آخر الفاصلة.

أ ـ في سورة المدثر ، يقترن المرفوع المنون ، بالمجرور المنون ، يليه المنصوب المنون ، ولا تحس لذلك فرقاً في سياق واحد في قوله تعالى :

( كأنهم حمر مستنفرة *فرّت من قسورة *بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشّرة ) (١) . فالكلمات : « مستنفرة » مرفوعة منونة ، تلتها « قسورة » مجرورة منونة ، تلتها « منشرة » منصوبة منونة ، ولم تنطق صوتياً عند الوقف بكل هذه التفصيلات ، بل وقفنا على الهاء.

ب ـ وفي سورة القيامة يقترن الاسم المنصوب في الفاصلة بالظرف مع الاسم المجرور بسياق واحد متناسق يكاد لا يختلف في نبر ، ولا يختلط في تنغيم ، قال تعالى : (بلا قادرين علا أن نسوي بنانه *بل يريد الإنسان ليفجر أمامه *يسئل أيان يوم القيامة )(٢) .

فالألفاظ : «بنانه » مفعول به منصوب مضاف إلى الهاء ، و « أمامه » ظرف مضاف إلى الضمير ، و « القيامة » مجرورة مضاف إليه. وجاءت الأصوات متقاطرة بالهاء عند الوقف.

أما الوقف في وسط الآية ، وفي نهاية الجملة ، وعند بعض الفقرات من الآيات ، فإنه يخضع لقواعد إعرابية حيناً ، وتركيبة حيناً آخر ، وقد أشرنا إليها فيما سبق ، ولا يترتب عليها كبير أمر في الأصوات ، لهذا كانت الإشارة مغنية ، وكان التفصيل في الوقف عند الفواصل لارتباطه بالصوت اللغوي.

__________________

(١) المدثر : ٥٠ ـ ٥٢.

(٢) القيامة : ٤ ـ ٦.

١١١

نصاعة الصوت في الأداء القرآني :

ونريد بالنصاعة إخراج الصوت واضحاً لا يلتبس به غيره من أصوات العربية ، وإعطاء الحرف حقه من النطق المحقق غير مشتبه بسواه ، وهذا جوهر الأداء ، وقد سماه القدامى بعلم التجويد ، ولعل تسمية علم الآداء القرآني بـ « التجويد » ناظرة إلى قول الإمام علي7 المتقدم : « الترتيل معرفة الوقوف ، وتجويد الحروف »(١) فأخذ عنه هذا المصطلح بإعطاء الحروف حقوقها وترتيبها ، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله ، وتلطيف النطق به على كمال هيئته ، من غير إسراف ولا تعسف ، ولا إفراط ولا تكلف »(٢) .

وهذه القاعدة تبنى على مخارج الحروف صوتياً ، وقد تقدم أنها سبعة عشر مخرجاً عند الخليل ، وستة عشر مخرجاً عند تابعيه ، بإسقاط مخرج الحروف الجوفية.

ومخرج الحرف للتصويت به دون لبس ، أفاده ابن الجزري ( ت : ٨٣٣ هـ ) في تعريفه له من الخليل عملياً ، يقول : « واختيار مخرج الحرف محققاً أن تلفظ بهمزة الوصل وتأتي بالحرف بعده ساكناً أو مشدداً ، وهو أبين ، ملاحظاً فيه صفات ذلك الحرف »(٣) .

فتقول في الباء والتاء والثاء « ابّ ، اتّ ، اثّ » وهكذا بقية الحروف ، فتتحكم الذائقة الصوتية في نطق الحروف على أساس منها كبير ، والدليل على ذلك تقسيم الحروف على أساس مخارجها عند علماء الأداء القرآني تبعاً لعلماء اللغة ، فكل حيّز ينطلق منه الصوت يشكل مخرجاً في أجهزة النطق ، وذلك عند اندفاع الأصوات إلى الخارج من مخارج الحلق ومدارجه.

وقد أورد السيوطي ( ٩١١ هـ ) ، ملخصاً في مخارج الأصوات استند فيه إلى ابن الجزري ( ت : ٨٣٣ هـ ) وكان ابن الجزري ذكياً في جدولته للأصوات من مخارجها ، إذ ـ فاد من كل ما سبقه ، ونظمه جامعاً تلك

____________

(١) ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر.

(٢) السيوطي ، الاتقان في علوم القرآني : ١|٢٨١.

(٣) ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر : ١|١٩٨.

١١٢

الإفادات ، وهي ليست له إلا في إضافات من هنا وهناك ، استند إلى ترتيب الخليل ( ت : ١٧٥ هـ ) وبرمجة سيبويه ( ت : ١٨٠ هـ ) وذائقة ابن جني (ت : ٣٩٢ هـ ).

ولا ضير في ذكر مخارجه مع الجزئيات المضافة لا على الأصل فهو واحد ، بل في تحسين العرض ، وضبط حيثيات المخارج على النحو الآتي :

الأول : الجوف ، للألف والواو والياء الساكنين بعد حركة تجانسهما.

الثاني : أقصى الحلق ، للهمزة والياء.

الثالث : وسطه ، للعين والحاء المهملتين.

الرابع : أدنى الحلق للفم ، للغين والخاء.

الخامس : أقصى اللسان مما يلي الحلق وما فوقه من الحنك للقاف.

السادس : أقصاه من أسفل مخرج القاف قليلاً ، وما يليه من الحنك.

السابع : وسطه ، بينه وبين وسط الحنك ، للجيم والشين والياء.

الثامن : للضاد المعجمة ، من أول حافة اللسان ، وما يليه من الأضرس من الجانب الأيسر ، وقيل : الأيمن.

التاسع : اللام من حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرفه ، وما بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى.

العاشر : للنون من طرفه ، أسفل اللام قليلاً.

الحادي عشر : للراء من مخرج النون ، لكنها أدخل في ظهر اللسان.

الثاني عشر : للطاء والدال والتاء من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا مصعداً إلى جهة الحنك.

الثالث عشر : لحروف الصفير: الصاد والسين والزاي ، من بين طرف اللسان ، وفويق الثنايا السفلى.

الرابع عشر : للضاء والثاء والذال ، من بين طرفه وأطراف الثنايا العليا.

١١٣

الخامس عشر : للفاء ، من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا.

السادس عشر : للباء والميم والواو غير المديّة بين الشفتين.

السابع عشر : الخيشوم للغنة في الادغام والنون أو والميم الساكنة(١) .

لقد اتسم تشخيص هذه المخارج بالدقة ، وتعيين المواضع بما يقرّه علم التشريح حديثاً ، من حيث الضبط لجزئيات المدارج ، فهي تتلاءم تماماً مع معطيات هذا العلم بعد مروره بتجارب الأجهزة المختبرية ، ونتائج جراحة مخارج الأصوات ضمن معادلات دقيقة لا تخطئ.

ولا يكتفي ابن الجزري في هذا العرض حتى يضيف اليه مفصلا صوتيا في خصائص الحروف ، وملامح الأصوات ، وسمات الاشتراك والانفراد في المخارج والصفات.

يقول ابن الجزري ( ت : ٨٣٣ هـ ) فالهمزة والهاء اشتركا مخرجاً وانفتاحاً واستفالاً ، وانفردت الهمزة بالجهر والشدة ، والعين والحاء اشتركا كذلك ، وانفردت الحاء بالهمس والرخاوة الخالصة ، والغين والخاء اشتركا مخرجاً ورخاة واستعلاءً وانفتاحاً ، وانفردت الغين بالجهر ، والجيم والشين والياء اشتركت مخرجا وانفتاحا واستفالا ، وانفردت الجيم بالشدة ، واشتركت مع الياء في الجهر ، وانفردت الشين بالهمس والتفشي ، واشتركت مع الياء في الرخاوة ، والضاد والظاء اشتركا صفة وجهراً ورخاوة واستعلاءً ، وإطباقاً ، وافترقا مخرجاً ، وانفردت الضاد بالاستطالة ، والطاء والدال والتاء اشتركت مخرجاً وشدة ، وانفردت الطاء بالأطباق والاستعلاء ، واشتركت مع الدال في الجهر ، وانفردت التاء بالهمس ، واشتركت مع الدال في الانفتاح والاستفال ، والظاء والذال والثاء اشتركت مخرجاً ورخاوة ، وانفردت الظاء بالاستعلاء والأطباق ، واشتركت مع الذال في الجهر ، وانفردت الثاء بالهمس ، واشتركت مع الذال انفتاحاً واستفالاً ، والصاد والزاي والسين اشتركت مخرجاً ورخاوة وصفيراً ، وانفردت الصاد

__________________

(١) انظر السيوطي ، الاتقان : ١|٢٨٣ وانظر مصدره.

١١٤

بالأطباق والاستعلاء ، واشتركت مع السين في الهمس ، وانفردت الزاي بالجهر ، واشتركت مع السين في الانفتاح والاستغال. فإذا أحكم القارىء النطق بكل حرف على حدته موفّى حقه ، فليعمل نفسه بأحكامه حالة التركيب لأنه ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد ، بحسب ما يجاورها من مجانس ومقارب ، وقوي وضعيف ، ومفخّم ومرقق ، فيجذب القوي الضعيف ، ويغلب المفخم المرقق ، ويصعب على اللسان النطق بذلك على حقه ، إلا بالرياضة الشديدة ؛ فمن أحكم صحة التلفظ حالة التركيب ، حصل حقيقة التجويد «(١) .

حقاً لقد أعطى ابن الجزري مواطن تنفيذ الأداء القرآني على الوجه الأكمل بما حدده من خصائص كل حرف في المعجم ، وما لخصه من دراسة صوتية لمواضع الأصوات ومدارجها في الانفتاح والاستفال ، والجهر والهمس ، والشدة والرخاوة ، والتفشي والاستطالة يساعد على تفهم الحياة الصوتية في عصره ، ولا يكتفي بهذا حتى يربطها بعلم الأداء في حالة تركيب الحروف ، وتجانس الأصوات قوة وضعفاً.

بقي القول أن علم الأداء القرآني يرتبط بالأصوات في عدة ملاحظ كالوقف وقد تقدم ، والإدغام وسيأتي ، ونشير هنا إلى ملحظين هما الترقيق والتفخيم ، فالترقيق مرتبط بحروف الاستفال ( الحروف المستفلة ) لأنها مرققة جميعاً. والتفخيم مرتبط بحروف الاستعلاء ( الحروف المستعلية ) لأنها مفخمة جميعاً ، وقد سبقت الإشارة في موضعها إلى الامالة والاشمام.

وما قدمناه ـ عادة ـ قد يصلح مادة أساسية للاستدلال على صلاحية الرأي القائل بأن علم الأداء القرآني في قسيميه الأساسيين : عبارة عن جزء مهم من كلي الصوت اللغوي في القرآن ، لارتباطه بعلم الأصوات ارتباطاً متماسكياً لا يمكن التخلي عنه ، فهو ناظر إلى مخارج الحروف وتجويدها ، والمخارج بأصنافها تشكل مخططاً تفصيلياً لأجهزة الصوت ، وكل حرف ينطلق من حيزه صوتاً له مكانه وزمانه ، ساحته ومسافته.

__________________

(١) ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر : ١|٢١٤.

١١٥

الصوت الأقوى في الأداء القرآني :

في الأداء القرآني يحدث أن يحتل صوت مكان صوت ، أو يدغم صوت في صوت ، فيشكلان صوتاً واحداً ، ويكون الصوت المنطوق هو الأقوى في الإبانة والإظهار ، وهو الواضح في التعبير ، حينئذ يكون المنطوق حرفاً ، والمكتوب حرفين ، والمعول عليه ما يتلفظ به أداءّ ، وينطق بجوهره صوتاً ، ذلك ما يتحقق بعده الصوتي في ظاهرة الادغام.

إن رصد هذه الظاهرة أصواتياً في التنظير القرآني مهمة جداً لمقاربتها من ظاهرة « المماثلة » عند الأصواتيين.

الادغام عند النحاة : أن تصل حرفاً ساكناً بحرف مثله متحرك من غير أن تفصل بينهما بحركة أو وقف فيصير اتصالهما كحرف واحد(١) .

وعند علماء القراءات : هو اللفظ بحرفين حرفاً كالثاني مشدداً ؛ وينقسم إلى كبير وصغير ، فالكبير ما كان أول الحرفين متحركاً ، سواء كانا مثلين أم جنسين ، أم متقاربين ، وسمي كبيراً لكثرة وقوعه ، ووجهه : طلب التحقيق.

والادغام الصغير : ما كان الحرف الأول فيه ساكناً ، وهو واجب وممتنع وجائز، والذي جرت عادة القراء بذكره هو الجائز(٢) .

والادغام عند الأصواتيين العرب عرفّه ابن جني ( ت : ٣٩٢ هـ ) بأنه : « تقريب صوت من صوت »(٣) .

وهو عنده : إما تقريب متحرك من متحرك ، فهو الادغام الأصغر ، وهو تقريب الحرف من الحرف ، وإدناؤه منه من غير ادغام يكون هناك. وإما تقريب ساكن من متحرك فهو الادغام الأكبر لأن الصوت الأول شديد الممازجة للثاني ، لأنك إنما أسكنت المتحرك لتخلطه بالثاني وتمازجه به(٤) .

__________________

(١) ظ : ابن يعيش ، المفصل : ١٠|١٢١.

(٢) ظ : السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : ١|٢٦٣ و ٢٦٧.

(٣) ظ : ابن جني ، الخصائص : ٢|١٣٩.

(٤) ظ : المصدر نفسه : ٢|١٤٠.

١١٦

ونقف عند قول ابن جني وقفة قصيرة لتحديد الصوت الأقوى. فتقريب الحرف من الحرف يحصل من غير إدغام فلا حديث لنا معه ، وإنما يعنينا الحديث عن الادغام وهو ما يتحقق بالأكبر دون الأصغر ، ويحدث بتقريب الساكن من المتحرك. لهذا فسيكون حديثنا متأطراً بالادغام الأكبر دون سواه فيما بعد.

والتقريب الذي تحدث عنه ابن جني هو عين المماثلة عند الأصواتيين المحدثين ، لأن المماثلة عبارة عن عملية استبدال صوت بآخر تحت تأثير صوت ثالت قريب منه في الكلمة أو في الجملة كما يعرفها جونز(١) .

والمماثلة نوعان : رجعية وتقدمية ، وذلك بحسب كونها من الأمام إلى الخلف ، أو من الخلف إلى الأمام.

والنوع الأول هو الأكثر شيوعاً من الآخر مع أن كلاً منهما يمكن أن يحدث في لغة واحدة(٢) .

والمماثلة الرجعية تنجم من تأثر الصوت الأول بالثاني في صيغة افتعل في نحو ( إذتكر) حينما تتفانى الذال والتاء ، ويندكان تماماً ليحل محلهما الدال مشدداً ، فتكون (إدّكر) في مثل قوله تعالى :( وادّكر بعد أمة ) (٣) فقد تلاشى الصوت الأول وهو الذال في الصوت الثاني وهو التاء ، وعادت التاء دالاً لقرب المخرج مع تشديدها لتدل على الاثنين معاً ، وهذا هو تطبيق المماثلة في الادغام.

« وتتخذ المماثلة صورة تقدمية فيما ينطقه بعض الناس للفظة ( إجتمع ) بـ ( إجدمع ) فالتاء قد جاورت الجيم مجاورة مباشرة ، فقد صوت التاء صفته كمهموس ، ليصبح مجهوراً في صورة نظيره الدال »(٤) .

__________________

(١) ظ : خليل العطية ، في البحث الصوتي عند العرب : ٧١ وانظر مصدره.

(٢) ظ : إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : ١٢٦.

(٣) يوسف : ٤٥.

(٤) إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : ١٢٨.

١١٧

والذي يتضح من هذا أن الصوت القوي هو الذي يحتل مساحة النطق بدل الصوت الضعيف ، نتيجة الملائمة الصوتية في الأكثر مجاورة واحتكاكاً ، بينما علل « موريس جرامونت » ظاهرة المماثلة بالتفسير العضوي المرتبط بجهاز النطق فيقول : « أما الوجه الذي تتم به الظاهرة فهو ذو طابع خارجي لا يعتمد على جوهر الصوت ، فإذا ما تحدثنا عنه من الوجهة النفسية العضوية لم نجد للمماثلة الرجعية من تعليل سوى إسراع بحركات النطق عن مواضعها ، وبأن المماثلة التقدمية التزام هذه الحركات والجمود عليها ومع ذلك فهذه التفرقة ثانوية ، أما الشيء الأساسي فهو أن هناك صوتاً يسيطر على صوت آخر ، وأن الحركة تتم في اتجاه أو في آخر ما إذا كان الصوت المسيطر موجوداً في الأمام أو في الخلف. ولا شك أن الصوت المؤثر هو ذلك الذي تتوفر فيه صفات : أن يكون أكثر قوة ، وأكثر مقاومة ، أو أكثر استقراراً ، أو أكثر امتيازاً ، وأنما تتحد هذه الصفات سلفاً طبقاً لنظام اللغة ، وعلى ذلك يمكن التنبؤ بالوجه الذي تتم عليه ظاهرة المماثلة ، الأمر الذي يستبعد معه هوى المتكلم ، ولتبسيط الأمر يمكننا أن نحدد القضية كلها في كلمة واحدة هي ( القوة ). فالمماثلة تخضع لقانون واحد هو قانون : ( الأقوى ) وليست المماثلة ونقيضها المخالفة هما اللذان يخضعان وحدهما له ، تخضع له جميع الظواهر التي يكون فيها تغير الأصوات ناشئاً عن وجود صوت آخر(١) .

وهذا يدل على أن مقاومة ما تحدث بين الأصوات في المماثلة ، فيحل الأقوى بدل القوي ، ويتغلب عليه فيصوّت به دونه.

وعلى هذا فالإدغام عند العرب في نوعيه هو الأصل في المماثلة عند الأوروبيين ، إذ يتغلب صوت أولي على صوت ثانوي ، فالصوت الأولي هو الأقوى ، لأنه المتمكن المسيطر على النطق ، وأحياناً يحل محلهما معاً صوت ثالث مجاور يمثل الصوتين السابقين بعد فنائهما ، وتلاشي أصدائهما كما في الابدال.

وكان أبو عمرو بن العلاء ( ت : ١٥٤ هـ ) من أبرز القائلين به في

__________________

(١) عبد الصبور شاهين ، أثر القراءات في الأصوات : ٢٣٣ وانظر مصدره.

١١٨

القرآن الكريم وإليه ينسب القول المشهور :

« الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها ولا يحسنون غيره»(١) .

وقد قال ابن الجزري عن عدد ما أدغمه أبو عمرو في القرآن : « جميع ما أدغمه أبو عمرو من المثلين والمتقاربين ، ألف حرف وثلاثمائة وأربعة أحرف »(٢) .

والحق أن أبا عمرو بن العلاء قد توسع في الادغام حتى أنكروا عليه إدغامه الراء عند اللام في قوله تعالى :

( يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ) (٣) [ إذ قرأها يغفلكم ].

قال الزجاج : إنه خطأ فاحش ؛ ولا تدغم الراء في اللام إذا قلت : « مرلي » بكذا ، لأن الراء حرف مكرر ، ولا يدغم الزائد في الناقص للإخلال به ، فأما اللام فيجوز إدغامه في الراء ، ولو أدغمت اللام في الراء لزم التكرير من الراء. وهذا إجماع النحويين(٤) .

وقال أبو عمرو بن العلاء بالادغام الكبير لشموله نوعي المثلين والجنسين والمتقاربين ، ويعني بالمثلمين ما اتفقا مخرجاً وصفة ، والمتجانسين ما اتفقا مخرجاً واختلفا صفة ، وبالمتقاربين ما تقاربا مخرجاً وصفة(٥) .

وعمد القرّاء رضوان الله عليهم إلى جعل الحروف المدغمة على نوعين من التقسيم(٦) .

الأول : الحروف التي تدغم في أمثالها ، واصطلحوا عليه المدغم من

__________________

(١) ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر : ١|٢٧٥.

(٢) ظ : السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : ١|٢٦٦.

(٣) نوح : ٤.

(٤) ظ : الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : ١|٣٢٢.

(٥) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١|٢٦٣ وما بعدها ، وأنظر مصدره.

(٦) قارن في هذا بين الجزري ، النشر : ١|٢٨٠ وما بعدها + السيوطي ، الاتقان : ١|٢٦٤ وما بعدها + ابن يعيش ، المفصل : ١٠|١٥٠ وما بعدها.

١١٩

الأول : الحروف التي تدغم في أمثالها ، واصطلحوا عليه المدغم من المتماثلين.

الثاني : الحروف التي تدغم في مجانسها ومقاربها ، واصطلحوا عليه المدغم من المتجانسين والمتقاربين.

والنوع الأول يضم سبعة عشر حرفا ، والثاني يضم ستة عشر حرفا ، وسنورد اسم الحرف مع تنظيره القرآني.

أولاً : الادغام بين المتماثلين :

١ـ الباء : تدغم في مثلها في نحو قوله تعالى :( وأنزل معهم الكتاب بالحق ) (١) .

٢ ـ التاء : وتدغم في مثلها في نحو قوله تعالى :( فما ربحت تجارتهم ) (٢) .

وأما إذا كانت التاء : تاء ضمير فلا تدغم كقوله تعالى :( ياليتني كنت ترابا ) (٣) .

٣ ـ الثاء : تدغم في مثلها في نحو قوله تعالى :( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) (٤) .

ومن أبرز مصاديقه وضوحاً قوله تعالى :( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من الله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم *) (٥) .

٤ ـ الحاء : تتدغم في مثلها في نماذج كثيرة من القرآن كنحو قوله

__________________

(١) البقرة : ٢١٣.

(٢) البقرة : ١٦.

(٣) النبأ : ٤٠.

(٤) النساء : ٩١.

(٥) المائدة : ٧٣.

١٢٠