الصوت اللغوي في القرآن

الصوت اللغوي في القرآن18%

الصوت اللغوي في القرآن مؤلف:
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 215

الصوت اللغوي في القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43235 / تحميل: 5960
الحجم الحجم الحجم
الصوت اللغوي في القرآن

الصوت اللغوي في القرآن

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الفصل الخامس

الصوت اللغوي في فواصل الآيات

القرآنية

١ ـ مصطلح الفاصلة في القرآن

٢ ـ معرفة فواصل القرآن صوتياً

٣ ـ ظواهر الملحظ الصوتي في فواصل الآيات

٤ ـ الإيقاع الصوتي في موسيقي الفواصل

١٤١

١٤٢

مصطلح الفاصلة في القرآن :

الفاصلة في القرآن الكريم : آخر كلمة في الآية ، كالقافية في الشعر ، وقرينة السجع في النثر ، خلافاً لأبي عمرو الداني (ت : ٤٤٤ هـ ) الذي اعتبرها كلمة آخر الجملة(١) . إذ قد تشتمل الآية الواحدة على عدة جمل ، وليست كلمة آخر الجملة فاصلة لها ، بل الفاصلة آخر كلمة في الآية ، ليعرف بعدها بدء الآية الجديدة بتمام الآية السابقة لها.

قال القاضي أبو بكر الباقلاني ( ت : ٤٠٣ هـ ) : « الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع ، يقع بها إفهام المعاني »(٢) .

وتقع الفاصلة عند الاستراحة بالخطاب لتحسين الكلام بها ، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام ، وتسمّى فواصل ، لأنه ينفصل عندها الكلامان ، وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها.

وقد تكون هذه التسمية اقتباساً من قوله تعالى :( كتاب فصلت ءياته ) (٣) . ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعاً ، لأن الله لما سلب عن القرآن اسم الشعر وجب سلب القافية عنه أيضاً لأنها منه ، وخاصة في الاصطلاح(٤) .

__________________

(١) ظ : الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : ١|٥٣.

(٢) المصدر نفسه : ١|٥٤.

(٣) هود : ١.

(٤) ظ : السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : ٣|٢٩٢.

١٤٣

وما ورد في القرآن متناسق حروف الروي والايقاع ، موحد خاتمة الفاصلة بالصوت ، ويقف فيه بالآية على الحرف الذي وقف عنده في الآية التي قبلها ، فلا يسمى سجعاً عند علماء الصناعة « ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ، ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز ، ولو جاز أن يقال : هو سجع معجز ، لجاز أن يقولوا : شعر معجز ، وكيف والسجع مما كان تألفه الكهان من العرب ، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر ، لأن الكهانة تنافي النبوّات بخلاف الشعر »(١) .

إذن لم يسموها أسجاعاً ، ولم يصطلحوا عليها قوافي ، إذ استبعدوا تسميتها بالقوافي تكريماً للقرآن بأن يقاس على منظوم كلام البشر ، وستأتي معالجة هذا الرأي فيما بعد ، وأما تجنب تسميتها سجعاً « فلأن أصله من سجع الطير ، فشرّف القرآن أن يستعار لشيء فيه لفظ هو أصل في صوت الطّار ، ولأجل تشريفه عن مشاركة غيره من الكلام الحادث في اسم السجع الواقع في كلام آحاد الناس »(٢) .

والمدرك الأول يساعد عليه مقتضى تفسير اللغة ، وأصول إرجاع المصطلحات إلى قواعدها الأولى ، قال ابن دريد ( ت : ٣٢١ هـ ) : « سجعت الحمامة معناه : رددت صوتها »(٣) .

والمدرك الثاني يساعد عليه الاعتبار العام ، وتبادر الذهن في الفهم ، فقد شاع السجع بين العرب في الجاهلية ، واقتسمه كل من الخطباء والكهان والمتنبئين ، وتوازن استعماله متفرقاً بين أصناف من الناس.

يبدو مما سلف أن مما تواضع عليه جهابذة الفن ، وأئمة علوم القرآن ، يضاف إليهما علماء اللغة ، هو : أن نهاية بيت الشعر تسمى قافية ، ونهاية جملة النثر تسمى سجعاً في الأسجاع ، ونهاية الآية تسمى فاصلة.

وهذا التفريق الدقيق قائم على أساس يجب أن نتّخذه أصلاً ، وبرنامج

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ٣|٢٩٣.

(٢) الزركشي ، البرهان : ١|٥٤.

(٣) السيوطي ، الاتقان : ٣|٢٩٣.

١٤٤

ينبغي القول به دون سواه ، وهو أن الكلام العربي ـ مطلقاً ـ على ثلاثة أنواع :

قرآن ، نثر ، شعر ، فليس القرآن نثراً وإن استعمل جميع أساليب النثر عند العرب ، وليس القرآن شعراً وإن اشتمل على جميع بحور الشعر العربي حتى ما تداركه الأخفش على الخليل فسمي متداركاً ، وهو الخبب ، بل هو قرآن وكفى( إنه لقرآن كريم *في كتاب مكنون ) (١) .

قال الجاحظ ( ت : ٢٥٥ هـ ) : « وقد سمى الله كتابه المنزل قرآناً ، وهذا الاسم لم يكن حتى كان »(٢) .

وإذا تم هذا فهو كلام الله تعالى وحده ، وأنى يقاس كلام البشر بكلام الله ، هو إذن مميز حتى في التسمية عن كلام العرب تشريفاً له ، واعتداداً به ، وإن وافق صور الكلام العربي ، وجرى على سننه في جملة من الأبعاد ، كما يقال عند البعض ، أو كما يتوهم ، بأن ختام فواصله المتوافقة هي من السجع ، فالتحقيق يقتضي الفصل بين الأمرين ، لأن مجيء كثير من الآيات على صورة السجع لا توجب كونه هو ، أو أنها منه « لأنه قد يكون الكلام على مقال السجع وإن لم يكن سجعاً ، لأن السجع من الكلام ، يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع ، وليس كذلك مما هو في معنى السجع من القرآن ، لأن اللفظ وقع فيه تابعاً للمعنى ، وفرق بين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ ، وبين ان ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تودي المعنى المقصود فيه ، ومتى ارتبط المعنى بالسّجع كان إفادة السّجع كإفادة غيره ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع مستجلباً لتحسن الكلام دون تصحيح المعنى »(٣) .

وقد رأينا عند تعقب هذه الظاهرة : أن التعبير المسجوع في القرآن لا تفرضه طبيعة النسق القرآني فحسب كما يخيل للكثيرين عند النظر في مثل قوله تعالى :( الهاكم التكاثر *حتى زرتم المقابر ) (٤) . بدليل أنه

__________________

(١) الواقعة : ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) الجاحظ ، الحيوان : ١|٣٤٨.

(٣) الزركشي ، البرهان : ١|٥٦.

(٤) التكاثر : ١ ـ ٢.

١٤٥

ينتقل منه فوراً إلى نسق آخر في فاصلة تقف عند النون دون التفات إلى الصيغة الأولى الساربة في طريقها البياني( كلا سوف تعلمون *ثم كلا سوف تعلمون ) (١) . فإذا جاز للقرآن الانتقال بها ، جاز له الانتقال فيما قبلها كما هو ظاهر ، بل أن هذا اللفظ « المقابر » يفرض نفسه فرضاً بيانياً قاطعاً ، دون حاجة إلى النظر في الفاصلة معه ، أو مع محسنات الفاصلة ، وذلك أن هذا الإنسان المتناسي الطاغي المتكاثر بأمواله ولذاته ، وشهواته ، ومدخراته ، ونسائه ، وأولاده ، ودوره ، وقصوره ، وخدمه ، وحشمه ، وإداراته ، وشؤونه ، وسلطانه ، وعنوانه ، وهذا كله تكاثر قد يصحبه التفاخر ، والتنايز ، والتنافر ، أقول : إن هذا مما يناسبه لفظ « المقابر » بلاغياً ولغوياً ، فالمقابر جمع مقبرة ، والمقبرة الواحدة مرعبة هائلة ، فإذا ضممنا مقبرة مترامية الأطراف الى مقبرة مثلها ، ومقبرة أخرى ، إزددنا إيحاشاً ورعباً وفزعاً ، فإذا أصبحت مقابر عديدة ؛ تضاعف الرعب والرهب ، إذن هذا التكاثر الشهواني في كل شيء ، يوافقه ـ بدقة متناهية ـ الجمع المليوني للقبور ، لتصبح مقابر لا قبوراً ، ولو قيل في غير القرآن بمساواة القبور للمقابر في الدلالة لما سدّ هذا الشاغر الدلالي شيء آخر من الألفاظ ، فهو لها فحسب(٢) .

إذن ليست هذه الصيغة البلاغية في استعمال المقابر مجرد ملائمة صوتية للتكاثر ، وقد يحسّ أهل هذه الصنعة ونحن معهم فيها ؛ نسق الإيقاع ، وانسجام النغم ، ولكن ليس هذا كل شيء(٣) .

ولا يعني هذا التغافل عن مهمة الانسجام الصوتي ، والوقع الموسيقي في ترتيب الفواصل القرآنية ، فهي مرادة في حد ذاتها إيقاعياً ، ولكن يضاف إليها غيرها من الأغراض الفنية ، والتأكيدات البيانية ، مما هو مرغوب فيه عند علماء البلاغة ، فقوله تعالى :( فأما اليتم فلا تقهر *وأما السآئل فلا تنهر ) (٤) . فقد تقدم المفعول به في الآيتين ، وهو اليتيم في الأولى ،

__________________

(١) التكاثر : ٣ ـ ٤.

(٢) ظ : المؤلف ، تطور البحث الدلالي : ٧٠ بتصرف.

(٣) ظ : بنت الشاطي ، التفسير البياني : ١|٢٠٧ بتصرف.

(٤) الضحى : ٩ ـ ١٠.

١٤٦

والسائل في الثانية ، وحقه التأخير في صناعة الاعراب ، وقد جاء ذلك مراعاة لنسق الفاصلة من جهة ، وإلى الاختصاص من جهة أخرى ، للعناية في الأمر.

ولعل ابن الأثير ( ت : ٦٣٧ هـ ) كان مصيباً جداً حينما أرجع ذلك إلى الاختصاص ونظم الكلام ، ولم يقل بأحدهما(١) . بينما عاد بها إبراهيم أنيس إلى مراعاة موسيقى الفاصلة القرآنية إذ لا يصح للمفعول أن يسبق ركني الاسناد في الجملة المثبتة كما يزعم أصحاب البلاغة(٢) .

وقد رده الدكتور أحمد مطلوب في هذا الملحظ ، لأن الهدف ليس القهر والنهر في المقام الأول ، وأنما الرجحة باليتيم والسائل ، ولذلك تقدم المفعولان على فعليهما ، ولو كان القصد غير ذلك لتأخرا وجاءا على نسق الكلام المحفوظة رتبته(٣) .

ومهما يكن من أمر ، فأن السجع عند العرب مهمة لفظية تأتي لتناسق أواخر الكلمات في الفقرات وتلاؤمها ، فيكون الإتيان به أنى اتفق لسد الفراغ اللفظي ، وأما مهمة الفاصلة القرآنية فليس كذلك ، بل هي مهمة لفظية معنوية بوقت واحد ، إنها مهمة فنية خالصة ، فلا تفريط في الألفاظ على سبيل المعاني ، ولا اشتطاط بالمعاني من أجل الألفاظ ، بينما يكون السجع في البيان التقليدي مهمة تنحصر بالألفاظ غالباً ، لذلك ارتفع مستوى الفاصلة في القرآن بلاغياً ودلالياً عن مستوى السجع فنياً ، وإن وافقه صوتياً.

وهنا نشير إلى أن ابن سنان الخفاجي ( ت : ٤٦٦ هـ ) قد رد جزءاً من هذه المفاضلة بين السجع والفاصلة ، وخلص إلى سبب التسمية في معرض نقاشه لعلي بن عيسى الرماني ؛ « وأما قول الرماني إن السجع عيب ، والفواصل على الإطلاق بلاغة فغلط ، فإنه إن أراد بالسجع ما تتبع المعنى ، وكأنه غير مقصود فذلك بلاغة ، والفواصل مثله ، وإن كان يريد بالسجع ما

__________________

(١) ظ : ابن الأثير ، المثل السائر : ٢|٣٩.

(٢) ظ : إبراهيم أنيس ، من أسرار العربية: ٣١٢.

(٣) ظ : أحمد مطلوب ، بحوث لغوية : ٥٨.

١٤٧

تقع المعاني تابعة له ، وهو مقصود متكلف ، فذلك عيب ، والفواصل مثله وأظن أن الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل ، ولم يسمّوا ما تماثلت حروفه سجعاً رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم ، وهذا غرض في التسمية قريب »(١) .

ويلحظ من النص ، أنه يعيب ما ينافي البلاغة سواء أكان سجعاً أم سواه ، ويشير إلى ناحيتين :

الأولى : أن الفواصل هي كل ما في أواخر الآيات تماثلت حروفه أو لم تتماثل خلافاً للسجع المتماثل الحروف.

الثانية : أن اختصاص أواخر الآيات بتسمية الفواصل إنما وقع لرغبتهم أن لا يوصف كلام الله تعالى بالكلام المروي عن الكهنة لا مطلق السجع.

معرفة فواصل القرآن صوتياً :

من أجل تمييز الفاصلة ، ومعرفتها صوتياً ، علينا تتبع فواصل الآيات بالدقة والظبط ، في تنقلها في القرآن عبر مسيرتها الإيقاعية.

قال إبراهيم بن عمر الجعبري ( ت : ٧٣٢ هـ ) :

« لمعرفة الفواصل طريقان : توقيفي وقياسي. أما التوقيفي : فما ثبت أنه٦ وقف عليه دائماً ، تحققنا أنه فاصلة ، وما وصله دائماً ، تحققنا أنه ليس بفاصلة

وأما القياسي فهو ما ألحق من المتحمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسب ، ولا محذور في ذلك ، لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان ، والوقف على كل كلمة جائز، ووصل القرآن كله جائز ، فاحتاج القياس إلى طريق تعرّفه ، فنقول : فاصلة الآية كقرينة السجعة في النثر ، وقافية البيت في

__________________

(١) ابن سنان ، سر الفصاحة : ١٦٦.

١٤٨

الشعر ، وما يذكر من عيوب القافية من اختلاف الحد والإشباع والتوجيه فليس بعيب في الفاصلة ، وجاز الانتقال في الفاصلة ، والقرينة ، وقافية الأرجوزة بخلاف قافية القصيدة »(١) .

ومن هنا كان التنقل في فواصل القرآن ، إذ لا يلتزم فيها الوقوف عند حرف معين في مواضع من السور ، ويلتزمه في مواضع أخر، ويجمع بين الالتزام وعدمه في بعض السور ، لأن الانتقال من الوقوف على حرف إلى الوقوف على حرف آخر ، أو صيغة تعبيرية أخرى في فواصل القرآن ، أمر مطرد وشائع ، ونماذجه هائلة ، كما أن الالتزم شائع أيضاً ، والجمع بينهما وارد كذلك ، ومن هنا تبرز ثلاثة ملامح على سبيل المثال :

الأول : جمع القرآن بين « تحشرون » و « العقاب » وهما مختلفان في حرف الفاصلة والزنة في قوله تعالى :

( وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقبله وأنه إليه تحشرون *واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وأعلموا أن الله شديد العقاب ) (٢) .

وفي السورة نفسها جمع بين « تعلمون » و«عظيم »(٣) . وهذا مطرد في القرآن بآلاف الأمثلة.

الثاني : الوقف عند حرف معين لا يتغير في الفاصلة كما في سور عدّة ، ونماذج متعددة ، فمن أمثلته عادة جملة من السور القصار ، كالقدر ، والعصر ، والفيل ، واليل ، والكوثر ، والاخلاص ، والناس ، وجملة من السور الوسطى كالأعلى والقمر ، وفيها جميعاً مراعاة للمنهج الصوتي ، والبعد الإيقاعي ، ويتجلى النغم الصوتي المتميز بأبهى صوره ، وأروع مظاهره في سورة القمر ، إذ تختتم فيها الفاصلة بصوت الراء مردداً بين طرف اللسان وأول اللهاة مما يلي الأسنان.

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ٣|٢٩١.

(٢) الأنفال : ٢٤ ـ ٢٥.

(٣) ظ : الأنفال : ٢٧ ـ ٢٨.

١٤٩

الثالث : الوقوف عند حرف معين للفاصلة في بعض السور ، والانتقال منه للوقوف عند حرف آخر للفاصلة في بعضها الآخر ، وأمثلته متوافرة في جملة من سور القرآن ، كالنبأ ، والمرسلات ، والنازعات ، والتكوير ، والانفطار ، والمطففين ، وانظر إلى قوله تعالى في سورة « عبس » وهي تواكب صوت الهاء في فواصل عدة آيات ، ثم تنتقل إلى الراء الملحقة بالتاء القصيرة بعدها في أيات أخر :

( يوم يفرالمرء من أخيه *وأمه وأبيه *وصاحبته وبنيه *لكل أمرى منهم يومئذ شأن يغنيه *وجوه يومئذ مسفرة *ضاحكة مستبشرة *ووجوه يومئذ عليها غبرة *ترهقها قترة *أولئك هم الكفرة الفجرة ) (١) .

وقد لا يراد الملحظ الصوتي مجرداً عند الابعاد الأخرى في فواصل الآيات ، فقد يجتمع في الفاصلة الغرض الفني بجنب الغرض الديني ، فتودي الفاصلة غرضين في عمل مزدوج ، فمن أبرز الصور الاجتماعية الهادفة في سورة البلد : آيات العقبة ، وتفصيلات يوم القيامة ، في تجاوز مظاهرالغل والقيد ، ومراحل الفقر والجوع ليتم تجاوز العقبة الحقيقية في القيامة ، ولا يتم ذلك إلا بتجاوز عقبات الظلم الاجتماعي ، وتخطي مخلفات العهد الجاهلي ، واقتحام القيم التي عطلت الحياة الإنسانية عن مسيرتها في التحرر والانطلاق ، وهي قيم قاتلة ، وأعراف بالية نشأت عن الطغيان المتسلط ، والتفاوت الطبقي المقيت ، فالرق ضارب بأطنابه ، والاستئثار شكل مجاعة بشرية جماعية ، والقطيعة في الأرحام أنهكت الأيتام ، والغنى اللامشروع فجرّ سيلاً من الأوضار الاجتماعية تشكل رعيلاً سادراً من الأرامل والأيامى والمساكين ، ممن ألصقهم الفقر بالتراب ، أو لصقوا هم به من الفقر والضر والفاقة ، فأحال ألوانهم كلونه ، فهم يلتحفون التراب ويفترشونه ، ولا يجدون غيره ، حتى عادوا جزءاً منه ، وعاد هو جزءاً من كيانهم ، فمن التراب وعلى التراب وإلى التراب.

هذا المناخ المزري عقبات متراكمة ، من فوقها عقبات متراكمة ، وإزالة هذه العقبات تدريجياً هو الطريق إلى قفز تلك العقبة الكبرى

__________________

(١) عبس : ٣٤ ـ ٤٢.

١٥٠

وتجاوزها ، في حياة قوله تعالى :( فلا اقتحم العقبة *وما أدراك ما العقبة *فك رقبة *أو اطعام في يوم ذي مسغبة *يتيما ذا مقربة *أو مسكينا ذا متربة ) (١) .

ما هذا الإيقاع المجلجل؟ وما هذه النبرات الصوتية الرتيبة؟ وما هذا النسق المتوازن؟ العقبة ، رقبة ، مسغبة ، مقربة ، متربة ، أصداء صوتية متلاحقة ، في زنة متقاربة ، زادها السكت رنة وتأثيراً ولطف تناغم ، وسط شدة هائلة مرعبة ، وخيفة من حدث نازل متوقع ، فالاقتحام في مصاعبه ومكابدته ، والعقبة في حراجتها والتوائها ومخاطرها ، يتعانقان في موضع واحد ، يوحي بالرهبة والفزع.

« والاقتحام هو أنسب الألفاظ للعقبة لما بينهما من تلاؤم في الشدة والمجاهدة واحتمال الصعب ، والمناسبة بين اقتحام العقبة وبين خلق الإنسان في كبد ، أوضح من أن يحتاج إلى بيان ، والجمع بينهما في هذا السياق ، يقدم لنا مثلاً رائعاً من النظم القرآني المعجز : فالإنسان المخلوق في كبد ، أهل لأن يقتحم أشد المصاعب ، ويجتاز أقسى المفاوز ، على هدى ما تهيأ له من وسائل الإدراك والتمييز ، وما فطر عليه من قدرة على الاحتمال والمكابدة »(٢) .

قال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) وهو يتحدث عن هذا السياق : « أنه مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال الخير والبر ، فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقة الكؤود ، فكأنه قال : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام »(٣) .

وإرادة التأنيب والتعنيف مع الحض والترجيح والتحبيب ، في صيغة النفي وتقريره ، والاستفهام وتهويله ، حافز وأي حافز على معالجة هذه المخاوف الاجتماعية السائدة ، ودرء هذه المشاكل العالقة في المجتمعات المتخلفة : السغب ، اليتم ، المسكنة ، إنها آفات متطاولة تنخر في بنية

__________________

(١) البلد : ١١ ـ ١٦.

(٢) بنت الشاطي ، التفسير البياني : ١|١٩٠.

(٣) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٩٥.

١٥١

الجسم الإنساني فتهدمه ، واقتحامها بحزم يتركها وراء الإنسان مسافات مترامية ، وذلك ما يهيء السبيل إلى تجاوز العقبة المترقبة الوقوع ، في كل معانيها البيانية : حقيقية كانت أو مجازية.

إن ورود هذه الآيات في نسق صوتي متجانس ، وصيغة إصلاحية هادفة ، يضفي على الفاصلة القرآنية ، جمالها المعهود ، وحسها الإيقاعي الهادر ، دون تطلع إلى تعبير مماثل أو مغاير ، فهي تمتلك النفس ، وتأخذ بالإحساس في نظام رتيب ؛ فالحرية أولاً ، والعطاء المغني ثانياً ، بدءاً بالأرحام ، وعطفاً على الآخرين ، وفيها أخذ بملحظ القرابة والرحم ، وحث على تقديم ذوي القربى من المعوزين على الأباعد في فك القيود ، وعتق الرقاب ، والاطعام بإحسان.

ظواهر الملحظ الصوتي في فواصل الآيات :

الملحظ الصوتي في فواصل الآيات القرآنية قائم على عدة ضواهر ، نرصد منها أربع ظواهر :

الأولى : وتتمثل بزيادة حرف ما في الفاصلة وعناية للبعد الصوتي ، وعناية بنسق البيان في سر اعتداله ، ليؤثر في النفس تأثيره الحسّاس ، فتشرئب الأعناق ، وتتطلع الأفئدة حين يتواصل النغم بالنغم ، ويتلاحم الإيقاع بالإيقاع ، وأبرز مظاهر هذه الظاهرة ألف الاطلاق إن صح التعبير بالنسبة للقرآن ، فقد ألحقت الألف في جملة من الآيات بأواخر بعض كلماتها ، وكان حقها الفتح مطلقاً ، دون مدّ الفتحة حتى تكون ألفاً ، وانظر معي في سورة واحدة ، إلى كل من قوله تعالى ، وكأن ذلك معني بحد ذاته ومقصود إليه لا ريب :

وقال تعالى :( وتظنون بالله الظنونا ) (١) .

وقال تعالى :( فأضلّونا السبيلا ) (٢) .

وقال تعالى :( وأطعنا الرسولا ) (٣) .

__________________

(١) الأحزاب : ١٠.

(٢) الأحزاب : ٦٧.

(٣) الأحزاب : ٦٦.

١٥٢

يبدو أن إلحاق هذه الألف في « الظنون » « السبيل » « الرسول » يشكل تلقائياً ظاهرة صوتية تدعو إلى التأمل ، وإلا فما يضير الفتح لولا الملحظ الصوتي « لأن فواصل هذه السورة منقلبة عن تنوين في الوقف ، فزيد على النون ألف لتساوي المقاطع ، وتناسب نهايات الفواصل »(١) .

وما يقال هنا يقال فيما ورد بسورة القارعة في زيادة هاء السكت وإلحاقها في «هي » لتوافق الفاصلة الأولى الثانية في قوله تعالى :( وما ادراك ما هيه *نار حامية ) (٢) .

وهيا إلى سورة الحاقة وانظر إلى هاء « السكت » في إضافتها وإنارتها في جملة من آياتها ، فتقف خاشعاً مبهوراً ، تمتلك هزة من الأعماق وأنت مأخوذ بهذا الوضع الموسيقي الحزين ، المنبعث من أقصى الصدر وأواخر الحلق ، فتتقطع الأنفاس ، وتتهجد العواطف ، واجمة ، متفكرة ، متطلعة ، فتصافح المناخ النفسي المتفائل حيناً ، والمتشائم حيناً آخر ، وأنت فيما بينهما بحالة متأرجحة بين اليأس والرجاء ، والأمل والفزع ، والخشية والتوقع ، فسبحان الله العظيم حيث يقول :

( يومئذ تعرضون لا تخفا منكم خافية *فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم أقرءوا كتابيه *أني ظننت أنى ملاق حسابيه *فهو في عيشة راضية *في جنة عالية *قطوفها دانية *كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية *وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه *ولم أدر ما حسابيه *ياليتها كانت القاضية *مآ أغنى عني ماليه *هلك عني سلطانيه ) (٣) .

فأنت تلاحظ الفواصل : كتابيه ، حسابيه ، كتابيه ، حسابيه ، ماليه ، سلطانيه ، قد أزيدت فيها هاء السكت رعاية لفواصل الآيات المختومة بالتاء القصيرة والتي اقتضى السياق نطقها هاء للتوافق.

وما زلنا عند الهاء ، فتطلع إليها ، وهي ضمير ملصق بالفواصل ،غير زائد بل أصلي الورود ، وقد حقق بذلك وقعه في النفس ، وجرسه في

__________________

(١) الزركشي ، البرهان : ١|٦١.

(٢) القارعة : ١٠ ـ ١١.

(٣) الحاقة : ١٨ ـ ٢٩.

١٥٣

الأذن ، وقوته في امتلاك المشاعر ، قال تعالى :

( يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه *وصاحبته وأخيه *وفصيلته التى تؤيه *ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ) (١) .

فلا زيادة في هذه الهاء ، وهي ضمير في الفواصل كلها ، وقد حققت صوتياً مناخ الانتباة ، ورصد مواضع الاصغاء من النفس الإنسانية.

الثانية : وتتمثل بحذف حرف ما رعاية للبعد الصوتي ، وعناية بالنسق القرآني كما في قوله تعالى :

( والفجر *وليال عشر *والشفع والوتر *والليل إذا يسر ) (٢) .

فقد حذف الياء من يسري موافقة للفاصلة فيما يبدو ومثله قوله تعالى :( فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن *وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ) (٣) .

فالياء من « اكرمن » و «أهانن » قد حذفت رعاية لهذا الملحظ ، ولما في النون من الغنة عند الوقوف عليها فيما يبدو ، ويظهر أن هذا الأمر مطرد في جملة من آيات القرآن الكريم في فواصل ما في قوله تعالى :( لكم دينكم ولى دين ) (٤) .

الثالثة : وتتمثل في تأخير ما حقه التقديم ، وتقديم ما حقه التأخير ، زيادة في العناية بتركيب السياق ، وتناسق الألفاظ ، وترتيب الفواصل ، كما في قوله تعالى :( فأوجس في نفسه خفيفة موسى ) (٥) . فتأخر الفاعل وحقه التقديم ، وعليه يحمل تقديم هارون على موسى في قوله تعالى :

( فألقى السحرة سجدا قالوا ءامنّا برب هارون وموسى ) (٦) . فإن هارون وزير لموسى ، وأهمية موسى سابقة له ، وقدم هارون عليه رعاية لفواصل آيات السورة ، إذا انتظمت على الألف والألف المقصورة في أغلبها ، والله العالم.

__________________

(١) المعارج : ١١ ـ ١٤.

(٢) الفجر: ١ ـ ٤.

(٣) الفجر : ١٥ ـ ١٦.

(٤) الكافرون : ٦.

(٥) طه : ٦٧.

(٦) طه : ٧٠.

١٥٤

الرابعة : أشار الزركشي ( ت : ٧٩٤ هـ ) أنه قد كثر في القرآن الكريم ختم كلمة المقطع من الفاصلة بحروف المد واللين وإلحاق النون ، وحكمته وجود التمكن من التطريب(١) .

وحكى سيبويه ( ت : ١٨٠ هـ ) عن العرب أنهم إذا ما ترنموا فإنهم يلحقون الألف والواو والياء ، ما ينون ، وما لا ينون ، لأنهم أرادوا مدّ الصوت(٢) .

وورود النون بعد حروف المدّ متواكبة في القرآن حتى عاد ذلك سراً صوتياً متجلياً في جزء كبير من فواصل آيات سوره ، ونشير على سبيل النموذج الصوتي لكل حرف من حروف المدّ تليه النون بمثال واحد.

١ ـ وردت الألف مقترنة بالنون في منحنى كبير من فواصل سورة الرحمان على نحوين :

الأول : وردهما متقاطرين ، وهما ـ أي الألف والنون ـ من أصل الكلمات كما في قوله تعالى :

( الرحمن *علم القرءان *خلق الانسان *علّمه البيان *الشمس والقمر بحسبان ) (٣) .

الثاني : وردهما متقاطرين ، وهما ـ أي الألف والنون ـ ملحقان بالكلمة علامة للرفع ودلالة على التثنية كما في قوله تعالى :( مرج البحرين يلتقيان *بينهما برزخ لا يبغيان *فبأي ءالاء ربكما تكذبان ) (٤) .

ويتحقق في النحوين مدّ الصوت تحقيقاً للترنم.

٢ ـ وردت الياء مقترنة بالنون في أبعاد كثيرة من فواصل الآيات القرآنية ، ففيما اقتص الله من خبر نوح٧ قال تعالى :( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد الله الذي نجانا من القوم الظالمين *وقل رب أنزلني منزلا

____________

(١) ظ : الزركشي ، البرهان : ١|٦٨.

(٢) سيبويه ، الكتاب : ٢|٢٩٨.

(٣) الرحمن : ١ ـ ٥.

(٤) الرحمن : ١٩ ـ ٢١.

١٥٥

مباركاً وأنت خير المنزلين *إن في ذلك لأيات وإن كنا لمبتلين *ثم أنشأنا من بعدهم قرنًا ءاخرين ) (١) .

والطريف ان سورة المؤمنين تتعاقب وواصلها الياء والنون أو الواو والنون ، شأنها في ذلك شأن جملة من سور القرآن ، فكأنها جميعا تعنى بهذا الملحظ الدقيق.

٣ ـ وردت الواو مقترنة بالنون في أجزاء عديدة ومتنوعة من فواصل طائفة كبيرة من السور، فسورة الشعراء فيها تعاقب كبير على الياء والنون مضافاً إليه التعاقب على الواو والنون موضع الشاهد كما في قوله تعالى :

( إن هؤلآء لشرذمة قليلون *وإنهم لنا لغائظون *وإنا لجميع حاذرون *فأخرجناهم من جنات وعيون ) (٢) .

إن ما أبداه الزركشي من ختم كلمة مقطع الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون ، ليس بالضرورة للتمكن من التطريب ، ولكنه يشكل ظاهرة بارزة في صيغ تعامل القرآن الكريم مع هذه الحروف مقترنة بالنون ، وقد يخفى علينا السبب ، ويغيب عنا جوهر المراد ، ومع ذلك فهو ملحظ متحقق الورود.

الإيقاع الصوتي في موسيقى الفواصل :

هناك سمات إيقاعية في سياق فواصل الآيات ، ومن خلال عبارات الجمل والفقرات التي ارتبطت بنسق جمهرة من آيات القرآن المجيد ، نجم عنهما كثير من الاشكال في التفسير لوجودها مجارية لزنة جملة من بحور الشعر ، وبدأ محرّرو علوم القرآن ، يتصدرون للدفاع عن ذلك حيناً ، ولتفسيره كلامياً واحتجاجياً بلغة الجدل حيناً آخر ، ولو أنهم عمدوا إلى ربط مثل هذه الظواهر بالإيقاع الصوتي لكان ذلك رداً مفحماً ، ولو فسروها صوتياً لارتفع الإشكال وتلاشى.

القرآن كلام الله فحسب ، ليس من جنس النثر في صنوفه وإن اشتمل

__________________

(١) المؤمنون : ٢٨ ـ ٣١.

(٢) الشعراء : ٥٤ ـ ٥٧.

١٥٦

على ذروة مميزاته العليا ، ولم يكن ضرباً من الشعر وإن ضم بين دفتيه أوزان الشعر جميعاً( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون *ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون *تنزيل من رب العالمين ) (١) .

فهو ليس من سنخ ما يتقولون ، ولا بنسيج ما يتعارفون ، ارتفع بلفظه ومعناه ، وطبيعته الفنية الفريدة ، عن مستوى الفن القولي عند العرب ، فالمقولة بأنه شعر باطلة من عدّة وجوه :

الأول : التـأكيد في القرآن نفسه بنفي صفة الشعر عنه ، والتوجيه بأنه ذكر وقرآن مبين بقوله تعالى :

( وما علّمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرءان منين ) (٢) .

الثاني : الردّ في القرآن على دعوى القول بأن النبي شاعر ، وأن القرآن منه في ثلاثة مواطن :

١ـ الملحظ الافترائي الموجه إليه ، والمعبر عن حيرة المشركين :

( بل قالوا اضغاث احلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بأية كما أرسل الأولون ) (٣) .

٢ ـ التعصب الأعمى للآلهة المزعومة دون وعي ، وبكل إصرار بافتعال الادعاء الكاذب :

( ويقولون أئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون ) (٤) .

٣ ـ التربص بالنبي٦ وتوقع الموت له ، بزعمهم أن سيموت شعره المفترض معه!!

( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ) (٥) .

الثالث : إن العرب لو اعتقدوا أن القرآن شعر لأسرعوا إلى معارضته من قبل شعرائهم ، فالشعر ديوان العرب ، وقصائدهم معلقة بالكعبة تعبيراً عن اعتدادهم بالشعر ، واعتزازهم بالشعراء ، وهم أئمة البيان ورجال

__________________

(١) الحاقة : ٤١ ـ ٤٣.

(٢) ياسين : ٦٩.

(٣) الأنبياء : ٥.

(٤) الصافات : ٣٦.

(٥) الطور : ٣٠.

١٥٧

الفصاحة ، ولكنها مغالطة واضحة « ولو كان ذلك لكانت النفوس تتشوق إلى معارضته ، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد ، وأهله يتقاربون فيه ، أو يضربون فيه بسهم »(١) .

الرابع : إن الشعر إنما يقصد إليه بذاته فينظم مع إرادة ذلك ، ولا يتفق اتفاقاً أن يقول أحدهم كلاماً فيأتي موزوناً ، فالشعر « إنما ينطلق متى قصد إليه على الطريق التي تعمد وتسلك ، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي والجاهل والعالم بالشعر واللسان وتصرفه ، وما يتفق من كل واحد ، فليس بشعر فلا يسمى صاحبه شاعراً ، وإلا لكان الناس كلهم شعراء ، لأن كل متكلم لا ينفك أن يعرض في جملة كلامه ما يتزن بوزن الشعر وينتظم بانتظامه »(٢) .

سقنا هذا في حيثية تنزيه القرآن عن سمة الشعر وصفته ، لأنه قد وجد فيه ما وافق شعراً موزوناً ، وما يدريك فلعل القرآن يريد أن يقول للعرب : إن هذا الشعر الذي تتفاخرون به ، نحن نحيطكم علماً بأوزانه على سبيل الأمثلة لتعتبروا بسوقها سياق القرآن في صدقه وأمانته ، ولا غرابة أن يكون القرآن يريد أن ينحو الشاعر بشعره منحى الحق والصرامة والفضيلة والصدق ، ومع هذا وذاك فما ورد من الموزون فيه جار على سنن العرب في كلامها ، إذ قد يتفق الموزون ضمن المنثور ، بلا إرادة للموزون ، ولا تغيير للمنظوم. فقد حكى الزركشي ( ت : ٧٩٤ هـ ) أن إعرابياً سمع قارئاً يقرأ :( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) (٣) .

فقال كسرت ، إنما قال :

يـا أيـها النـاس اتـقوا ربـكم

زلـزلـة الـسـاعة شـيء عـظـيم

فقيل له : هذا القرآن ، وليس الشعر(٤) .

فاعتقده لأول مرة شعراً فحذف « أن » ليستقيم الوزن فيما عنده. ولو قلنا بالإيقاع الصوتي ، وفسرنا الورود البياني لهذا المظهر الموزون بمجانسة

__________________

(١) الباقلاني ، إعجاز القرآن : ٨٢.

(٢) المصدر نفسه : ٨٣.

(٣) الحج : ١.

(٤) الزركشي ، البرهان : ٢|١١٦.

١٥٨

الأصوات ، وقارنّا عن كثب بمناسبة الصوت للصوت ، وملاءمة النطق بالحروف ، ومتابعة الأذن للموسيقى ، والسمع للنبر والتنغيم ، زيادة على ما تقدم لكنا قد أحسنّا التعليل فيما يبدو، أو توصلنا في الأقل إلى بعض الوجوه المحتملة ، أو الفوائد الصوتية المترتبة على هذا المعلم الواضح ، والله أعلم.

وقد يقال بأن هذا المعلم إنما ينطبق على أجزاء من الآيات لا الفاصلة وحدها ، فيقال حينئذ بأن وجود الفاصلة في هذه الأجزاء من الآيات هو الذي جعل جملة هذا الكلام موزوناً ، فبدونها ينفرط نظام هذا السلك ، وينحل عقد هذا الابرام لهذا نسبنا أن يكون الحديث عن هذا الملحظ ضمن هذا البحث.

ومهما يكن من أمر ، فإن ورود ما ورد من هذا القبيل في القرآن ينظر فيه إلى غرضه الفني مضافاً إلى الغرض التشريعي ، وهما به متعانقان.

إننا بين يدي مخزون ثر في هذا الرصد ، ننظره وكأننا نلمسه ، ونتحسسه وكأننا نحيا به ، فحينما نستمع خاشعين إلى صيغة موزونة منتظمة بقوله تعالى :( إنّا اعطيناك الكوثر ) (١) . فإننا نتعامل مع وقع خاص بذكرنا بالعطاء غير المحدود للنبي الكريم ، وحينما نستمع ـ موزوناً ـ إلى قوله تعالى :( هيهات هيهات لما توعدون ) (٢) . تصك أسماعنا بلغة الوعيد ، فنخشع القلوب ، وتتحسس الأفئدة.

وحينما نستمع ـ موزوناً ـ إلى قوله تعالى :( وذلّلت قطوفها تذليلاً ) (٣) . نستبشر من الأعماق بهذا المناخ الهادي ، ونستشعر هذا النعيم السرمدي بإيقاع يأخذ بمجامع القلوب ، ويشد إليه المشاعر.

وحينما نستمع ـ موزوناً ـ إلى قوله تعالى :( تبت يدآ أبي لهب ) (٤) . يقرع أسماعنا هذا المصير الشديد العاتي ، فيستظهره السامع دون جهد ، ويجري مجرى الأمثال في إفادة عبرتها وحجتها. وحينما نستمع حالمين

__________________

(١) الكوثر : ١.

(٢) المؤمنون : ٣٦.

(٣) الدهر ( الإنسان ) : ١٤.

(٤) المسد : ١.

١٥٩

إلى قوله تعالى :( ومن الليل فسبحه وأدبار السّجود ) (١) . فإننا نستشعر هذا الأمر بقلوبنا قبل الأسماع ، هادئاً ناعماً متناسقاً ، وهو يدعو إلى تسبيح الله وتقديسه آناء الليل وأطرف النهار.

وحينما نستمع إلى قوله تعالى :( نصر من الله وفتح قريب ) (٢) . فإن العزائم تهب على هذا الصوت المدوي ، بإعلان النصر لنبيه ، والفتح أمام زحفه ، فتعم البشائر ، وتتعالى البهجة.

وحينما نستمع إلى قوله تعالى :( لن تنالوا البّر حتا تنفقوا ممّا تحبّون ) (٣) . فالصوت الرفيق هذا يمس الاسماع مساً رفيقاً حيناً ، ويوقظ الضمائر من غفلتها حيناً آخر ، وهو يستدر كرم المخائل ، ويوجه مسيرة التعاطف ، ويسدد مراصد الانفاق ، والمسلم الحقيقي يسعى إلى البر الواقعي فأين مواطنه؟ إنه الانفاق مما يحب ، والعطاء مما يحدب عليه ، والفضل بأعز الأشياء لديه ، وبذلك ينال البر الذي ما فوقه بر.

وحينما نستمع إلى قوله تعالى :( أرءيت الذي يكذب بالدين *فذلك الذي يدع اليتيم ) (٤) . وتمد الفتحة لتكون ألف إطلاق ، وتصبح في غير القرآن ( اليتيما ) فإنك تقف عند بحر الخفيف من الشعر ، وهو من الأوزان الراقصة ، تقف عند صرخة مدوّية ، وجلجلة متأججة تقارن بين التكذيب بيوم القيامة ، وبين دع اليتيم في معاملته بخشونة وصده بجفاف وغلظة.

هذه النماذج الخيرة التي تبركنا بإيرادها ، والتي تنبه من الغفوة والغفلة ، وتدفع إلى الاعتبار والعظة ، وتزيد من البصيرة والتدبر ، قد أضفى عليها الملحظ الصوتي موسيقاه الخاصة ، فعاد القول بصوتيتها من جملة أسرارها الجمالية ، والتأكيد على تناغمها الإيقاعي من أبرز ملامحها الفنية.

هذه ميزة ناصعة من مزايا فواصل الآيات باعتبار العبارات.

__________________

(١) ق : ٤٠.

(٢) الصف : ١٣.

(٣) آل عمران : ٩٢.

(٤) الماعون : ١ ـ ٢.

١٦٠

الفصل السادس

الدلالة الصوتية في القرآن

١ ـ مظاهر الدلالة الصوتية

٢ ـ دلالة الفزع الهائل

٣ ـ الإغراق في مدّ الصوت واستطالته

٤ ـ الصيغة الصوتية الواحدة

٥ ـ دلالة الصدى الحالم

٦ ـ دلالة النغم الصارم

٧ ـ الصوت بين الشدة واللين

٨ ـ الألفاظ دالة على الأصوات

٩ ـ اللفظ المناسب للصوت المناسب

١٦١

١٦٢

مظاهرالدلالة الصوتية :

انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب ، وتوهج العبارة في منظار حياتهم ، وحدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله ، وتناغم الحروف في تركيبه ، وتعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه ، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات ، وتراكيب البيان متلائمة الأصوات ، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها ، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه ، ومع دلالته السمعية من وجه آخر ، فالذي يستلذه السمع ، وتسيغه النفس ، وتقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة والرقة ، والذي يشرأب له العنق ، وتتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر والشدة ، وهنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً وأيجاباً.

وبيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها ، والتي كونت كلمة معين في النص ، وبين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى ؛ وتتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً ، رقةً أو خشونة ، حتى تدرك بين هذا وذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة ، أو إذكاء الحفيظة ، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية ، ويستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً ، أو بتناغم الكلمة وحدها ، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه.

إن إيقاع اللفظ المفرد ، وتناغم الكلمة الواحدة ، عبارة عن جرس

١٦٣

موسيقى للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن ، أو أثر عند المتلقي ، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية ، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية : « التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها »(١) . فتوحي بأثر موسيقي خاص ، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض ، ويستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته ، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة : الألم ، البهجة ، اليأس ، الرجاء ، الرغبة ، الرهبة ، الوعد ، الوعيد ، الانذار ، التوقع ، الترصد ، التلبث إلخ.

ولا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة ، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة ، تختلف ـ دون شك ـ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه ، مما يجعل كلمة ما دون كلمة ـ وإن اتحدا بالمعنى ، لها استقلاليتها الصوتية ، إما في الصدى المؤثر ، وإما في البعد الصوتي الخاص ، وإما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى ، وإما بإقبال العاطفة ، وإما بريادة التوقع ، فهي حيناً تصك السمع ، وحيناً تهيء النفس ، وحيناً تضفي صيغة التأثر : فزعاً من شيء ، أو توجهاً لشيء ، أو طمعاً في شيء ؛ وهكذا.

هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ ، وهي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة ، تكونت من حروف مختارة ، فشكلت أصواتاً مختارة ، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى ، ومجالات عديدة ، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس والنغم والصدى والإيقاع.

قال الخطابي ( ت : ٣٨٣ ـ ٣٨٨ هـ ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة : « لفظ حاصل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ، ولا أجزل ، ولا أعذب من ألفاظه »(٢) .

__________________

(١) إبراهيم أنيس ، دلالة الألفاظ : ٤٦.

(٢) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : ٢٧.

١٦٤

وهذا مما ينطبق على استيحاء الدلالة الصوتية في القرآن بجميع الأبعاد ، يضاف إليه الوقع السمعي للفظ ، والتأثير النفسي للكلمة ، والمدلول الأنفعالي بالحدث ، وتلك مظاهر متأنقة قد يتعذر حصرها ، وقد يطول الوقوف عند استقصائها.

وكان من فضيلة القرآن الصوتية أن استوعب جميع مظاهر الدلالة في مجالاتها الواسعة ، وتمرس في استيفاء وجوه التعبير عنها بمختلف الصور الناطقة ، وقد يكون من غير الممكن استحضار جميع الصيغ في استعمالات منها ، أو ما يبدو أنه مهم في الأقل ، وذلك باستطراد بعض النماذج النابضة فيما أخال وأزعم ، وقد يعبر كل نموذج منها عن مظهر فني ، ليقاس مثله عليه ، وشبيهه به ، وبذلك يتأتى للباحث والمتلقي إلقاء الضوء الكاشف على أبعاد دلالة القرآن الصوتية ، في تشعب جوانبها ، وعظمة انطلاقها ، مما يكوّن معجماً لغوياً خاصاً بمفرداتها ، وقاموساُ صوتياً حافلاً بإمكاناتها.

سيقتصر حديثنا عن مظاهر الدلالة في مجالات قد تكون متقابلة ، أو متناظرة ، أو متضادة ، أو متوافقة ، وهي بمجموعها تكون أبعاد الدلالة الصوتية في القرآن ، وهذا ما تتكفّل بإيضاحه المباحث الآتية.

دلالة الفزع الهائل :

استعمل القرآن طائفة من الألفاظ ، ثم اختيار أصواتها بما يتناسب مع أصدائها ، واستوحى دلالتها من جنس صياغتها ، فكانت دالة على ذاتها بذاتها ، فالفزع مثلاً ، والشدة ، والهدة ، والاشتباك ، والخصام ، والعنف ، دلائل هادرة بالفزع الهائل والمناخ القاتل.

١ـ قف عند مادة صرخ في القرآن ، وصرخة الصّيحة الشديدة عند الفزع ، والصراخ الصوت الشديد(١) . لتلمس عن كثب ، وبعفوية بالغة : الاستغاثة بلا مغيث ، في قوله تعالى :( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً ) (٢) . مما يوحي بأن الصراخ قد بلغ ذروته ، والاضطراب قد تجاوز

__________________

(١) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : ٤|٢.

(٢) فاطر : ٣٧.

١٦٥

مداه ، والصوت العالي الفظيع يصطدم بعضه ببعض ، فلا أذن صاغية ، ولا نجدة متوقعة ، فقد وصل اليأس أقصاه ، والقنوط منتهاه ، فالصراخ في شدة إطباقه ، وتراصف إيقاعه ، من توالى الصاد والطاء ، وتقاطر الراء والخاء ، والترنم بالواو والنون يمثل لك رنة هذا الاصطراخ المدوي « والاصطراخ الصياح والنداء والاستغاثة : افتعال من الصراخ قلبت التاء طاء لأجل الصاد الساكنة قبلها ، وإنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء والإطباق ، ويوافق التاء في المخرج »(١) .

والإصراخ هو الإغاثة ، وتبلية الصارخ ، وقوله تعالى :( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) (٢) .تعني البراءة المتناهية ، والإحباط التام ، والصوت المجلجل في الدفع ، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً ، ولا ينجي أحدهما الآخر من عذاب الله ، ولا يغيثه مما نزل به ، فلا إنقاذ ولا خلاص ولا صريخ من هذه الهوة ، وتلك النازلة ، فلا الشيطان بمغيثهم ، ولا هم بمغيثيه.

والصريخ في اللغة يعني المغيث والمستغث ، فهو من الأضداد ، وفي المثل : عبد صريخه أمة ، أي ناصره أذل منه(٣) . وقد قال تعالى :( فلا صريخ لهم ولا هم ينفذون ) (٤) . فيا له من موقف خاسر ، وجهد بائر ، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة ، ولا إجارة مما وقعوا فيه.

والاستصراخ الإغاثة ، واستصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ ، وهو الصوت يعلمه بأمر حادث ليستعين به(٥) .

قال تعالى :( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) (٦) . طلب للنجدة في فزع ، ومحاولة للإنقاذ في رهب ، والاستعانة على العدو بما يردعه عن

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٤١٠.

(٢) إبراهيم : ٢٢.

(٣) ابن منظور، لسان العرب : ٤|٣.

(٤) ياسين : ٤٣.

(٥) ابن منظور ، لسان العرب : ٤|٣.

(٦) القصص :١٨.

١٦٦

الإيقاع به ، وما ذلك إلا نتيجة خوف نازل ، وفزع متواصل ، وتشبث بالخلاص.

٢ـ وما يستوحى من شدة اللفظ في مادة «صرخ » يستوحى بإيقاع مقارب من قوله تعالى :( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ) (١) . لتبرز « متشاكسون » وهي تعبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران ، وقد تعطي معناها الكلمة : متخاصمون ، ولكن المثل القرآني لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي أعطت معنى النزاع المستمر ، والجدل القائم ، وقد جمعت في هذه الكلمة حروف التفشي والصفير في الشين والسين تعاقباً ، تتخللهما الكاف من وسط الحلق ، والواو والنون للمد والترنم ، والتأثر بالحالة ، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حمّلها أكثر من معنى الخصومة والجدل والنقاش بما أكسبها أزيزاً في الأذن ، يبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصية بلغت درجة الفورة ، والعنف والفزع من جهة ، كما أحيط السمع بجرس مهموس معين ذي نبرات تؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى.

٣ـ وتأمل مادة «كبّ» في القرآن ، وهي تعني إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى :( فكبت وجوههم في النار ) (٢) . فلا إنقاذ ولا خلاص ولا إخراج ، والوجه أشرف مواضع الجسد ، وهو يهوي بشدة فكيف بباقي البدن.

والأكباب جعل وجهه مكبوباً على العمل ، قال تعالى :( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدا ) (٣) .

والكبكبة تدهور الشيء في هوة(٤) . قال تعالى :( فكبكبوا فيها هم والغاون ) (٥) .

__________________

(١) الزمر : ٢٩.

(٢) النمل : ٩٠.

(٣) الملك : ٢٢.

(٤) الراغب ، المفردات : ٤٢٠.

(٥) الشعراء : ٩٤.

١٦٧

وهذه الصيغة قد حملت اللفظ في تكرار صوتها ، زيادة معنى التدهور لما أفاده الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) بقوله : « إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى »(١) .

وقال العلامة الطيبي ( ت: ٧٤٣ هـ ) :

« كرر الكب دلالة على الشدة »(٢) .

ومن هنا نفيد أن دلالة الفزع فيما تقدم من ألفاظ أريدت بحد ذاتها لتهويل الأمر ، وتفخيم الدلالة ، وهذا أمر مطرد في القرآن ، وقد يمثله قوله تعالى :( فغشيهم من اليم ماغشيهم ) (٣) .

والمادة نفسها قد توحي بشدة الإتيان والتوقع عند النوائب.

الإغراق في مدّ الصوت واستطالته :

هنالك مقاطع صوتية مغرقة في الطول والمد والتشديد وبالرغم من ندرة صيغة هذه المركبات الصوتية في اللغة العربية حتى أنها لتعدّ بالأصابع ، فإننا نجد القرآن الكريم يستعل أفخمها لفظاً ، وأعظمها وقعاً ؛ فتستوحي من دلالتها الصوتية مدى شدّتها ، لتستنتج من ذلك أهميتها وأحقيتها بالتلبث والرصد والتفكير.

من تلك الألفاظ : الحاقّة ، الطّامة ؛ الصّاخة. وقد تأتي مجّردة عن التعريف فتهتدي إلى عموميتها ، مثل : دابّة. كافة.

هذه الصيغة صوتياً تمتاز بتوجه الفكر نحوها في تساؤل ، واصطكاك السمع بصداها المدوي ، وأخيراً بتفاعل الوجدان معها مترقباً : الأحداث ، المفاجئات ، النتائج المجهولة.

الحاقة الطامة والصاخة : كلمات تستدعي نسبة عالية من الضغط الصوتي ، والأداء الجهوري لسماع رنتها ، مما يتوافق نسبياً مع إرادتها في

__________________

(١) الزمخشري ، الكشاف : ١|٤١.

(٢) الطيبي ، التبيان في علم المعاني والبديع والبيان : ٤٧٤.

(٣) طه : ٧٨.

١٦٨

جلجلة الصوت ، وشدة الإيقاع ، كل ذلك مما يوضع مجموعة العلاقات القائمة بين اللفظ ودلالته في مثل هذه العائلة الصوتية الواحدة ، فإذا أضفنا إلى ذلك معناها المحدد في كتاب الله تعالى ، وهو يوم القيامة ، خرجنا بحصيلة علمية تنتهي بمصاقبة الشدة الصوتية للشدة الدلالية بين الصوت والمعنى الحقيقي ، فقوله تعالى :( الحاقة *ما الحاقة *ومآ أدراك ما الحاقة ) (١) . إشارة إلى يوم القيامة ، وعلم عليها فيما أفاد العلماء ، قال الفرّاء ( ت : ٢٠٧ هـ ) : « الحاقة : القيامة ، سميت بذلك لأن فيها الثواب والجزاء »(٢) .

وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) « الحاقة اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين ، وسميت بذلك ، لأنها ذات الحواق من الأمور ، وهي الصادقة الواجبة الصدق ، لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع ، صادقة الوجود. وقيل سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم : حاققته فحققته ، مثل : خاصمته فخصمته »(٣) .

وقيل : لأنها تحق كل إنسان بعمله. ويقال : حقّت القيامة : أحاطت بالخلائق فهي حاقة(٤) . فإذا رصدت الصاخة ، رأيتها القيامة أيضاً ، وبه فسّر أبو عبيدة ( ت : ٢١٠ هـ ) قوله تعالى :( فإذا جآءت الصآخة ) (٥) . فأما أن تكون الصاخة اسم فاعل من صخ يصخ ، وإما أن تكون مصدراً وقال أبو اسحق الزجاج : الصاخة هي الصيحة تكون فيها القيامة تصخ الأسماع، أى : تصمها فلا تسمع.

وقال ابن سيده : الصاخة : صيحة تصخ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدتها ، ومنه سميت القيامة.

ويقال : كأن في أذنه صاخة ، أي طعنة(٦) .

__________________

(١) الحاقة : ١ ـ ٣.

(٢) الفراء ، معاني القرآن : ٣|١٧٩.

(٣) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٤) ظ : الطريحي ، مجمع البحرين : ٥|١٤٧.

(٥) عبس : ٣٣.

(٦) ابن منظور، لسان العرب : ٤|٢.

١٦٩

وقال الطريحي ( ت : ١٠٨٥ هـ ) الصاخة بتشديد الخاء يعني القيامة ، فإنها تصخ الأسماع ، أي تقرعها وتصمها ، يقال : رجل أصخ ، إذا كان لا يسمع(١) . والمعاني كلها متقاربة في الدلالة ، إلا أن الرغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) يعطي الصاخة دلالة أعمق في الإرادة الصوتية المنفردة فيقول : الصاخة شدة صوت ذي المنطق(٢) .

فيكون استعمالها حينئذ في القيامة على سبيل المجاز. فإذا وقفنا عند الطامة ، فهي القيامة تطم على كل شيء(٣) . وإليه ذهب الزجاج : الطامة هي الصيحة التي تطم على كل شيء(٤) . وتسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها : طامة(٥) . قال تعالى :( فإذا جآءت الطامة الكبرا ) (٦) .قال الطبرسي ( ت: ٥٤٨ هـ ) « وهي القيامة لأنها تطم كل داهية هائلة ، أي تعلو وتغلب ، ومن ذلك قيل : ما من طامة إلا وفوقها طامة ، والقيامة فوق كل طامة ، فهي الداهية العظمى »(٧) .

ولعل اختيار الطبرسي للداهية في تفسير الطامة باعتبارها داهية لا يستطاع دفعها ، ولأن القيامة تطم كل داهية هائلة ، لا يخلو من وجه عربي أصيل ، فالعرب استعملت الطامة في الداهية العظيمة تغلب ما سواها ، وأية داهية أعظم من القيامة لا سيما وهي توصف هنا بالكبرا.

إن موافقة أصوات الحاقة والصاخة والطامة لمعانيها في الدلالة على يوم القيامة ، من أعظم الدلالات الصوتية في الشدة والوقع والتلاؤم البنيوي والمعنوي لمثل هذه الصيغة الحافلة.

ودلالة هذه الصيغة في : دابة ، وكافة ، على الشمول والكلية المطلقة يوحي بالمضمون نفسه في الإيقاع الصوتي ، قال تعالى :( وما من دآبة في

__________________

(١) الطريحي ، مجمع البحرين : ٢|٤٣٧.

(٢) الراغب ، المفردات : ٢٧٥.

(٣) الفراء ، معاني القرآن : ٣|٢٣٤.

(٤) ابن منظور ، لسان العرب : ١٥|٢٦٣.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٣.

(٦) النازعات : ٣٤.

(٧) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٤.

١٧٠

الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) (١) فشمل الخلائق كلها ، وأصناف الأجناس المرئية وغير المرئية مما يدب أدركناه أو لم ندركه ، علمنا طبيعة رزقه أو لم نعلم وقوله تعالى :( ومآ أرسلناك إلا كآفة للنّاس بشيرا ونذيرا ) (٢) . يدل أن هذا الرسول العربي الأمين ، لم يختص بزمنية ، ولم يبعث لطبقة خاصة ، فتخطى برسالته حدود الزمان والمكان ، فكانت عالمية السيرورة ، إنسانية الأحياء ، البشارة في يد ، والنذارة في يد ، لينقذ العالم أجمع من خلال هاتين.

الصيغة الصوتية الواحدة :

وظاهرة أخرى جديرة بالعناية والتلبث ، هي تسمية الكائن الواحد ، والأمر المرتقب المنظور ، بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة ، بنسق صوتي متجانس ، للدلالة بمجموعة مقاطعة على مضمونه ، وبصوتيته على كنه معناه ، ومن ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى ، في إطار الفاعل المتمكن ، والقائم الذي لا يجحد.

هذه الصيغة الفريدة تهزك من الأعماق ، ويبعثك صوتها من الجذور ، لتطمئن يقيناً إلى يوم لا مناص عنه ، ولا خلاص منه ، فهو واقع يقرعك بقوارعه ، وحادث يثيرك برواجفه الصدى الصوتي ، والوزن المتراص ، والسكت على هائه أو تائه القصيرة تعبير عما ورائه من شؤون وعوالم وعظات وعبر ومتغيرات في :

الواقعه | القارعة | الآزفة | الراجفة | الرادفة | الغاشية ، وكل معطيك المعنى المناسب للصوت ، والدلالة المنتزعة من اللفظ ، وتصل مع الجميع إلى حقيقة نازلة واحدة.

١ ـ الواقعة ، قال تعالى :( إذا وقعت الواقعه *ليس لوقعتها كاذبة ) (٣) .

____________

(١) هود : ٦.

(٢) سبأ : ٢٨.

(٣) الواقعة : ١ ـ ٢.

١٧١

وقال تعالى :( فيؤمئذ وقعت الواقعة ) (١) .

قال الخليل : وقع الشيء يقع وقوعاً ، أي : هوياً.

والواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر(٢) .

وقال الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه ، والواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه ، وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع : جاء في العذاب والشدائد(٣) .

وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) في تفسيره للواقعة : « والواقعة اسم القيامة كالآزفة وغيرها ، والمعنى إذا حدثت الحادثة ، وهي الصّيحة عند النفخة الأخيرة لقيام الساعة. وقيل سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة ، أو لشدة وقعها »(٤) . وقال ابن منظور ( ت : ٧١١ هـ ) الواقعة : الداهية ، والواقعة النازلة من صروف الدهر ، والواقعة اسم من أسماء يوم القيامة(٥)

وباستقراء هذه الأقوال ، ومقارنة بعضها ببعض ، تتجلى الدلالة الصوتية ، فالوقوع هو الهوي ، وسقوط الشيء من الأعلى ، والواقعة هي النازلة الشديد ، والواقعة هي الداهية ، وهي الحادثة ، وهي الصيحة ، وهي اسم من أسماء يوم القيامة ، وأكثر ما جاء في القرآن من هذه الصيغة جاء في الشدة والعذاب ، وصوت اللفظ يوحي بهذا المعنى ، وأطلاقه بزنة الفاعل ، وإسناده بصيغة الماضي ، يدلان على وقوعه في شدته وهدته ، وصيحته وداهيته.

٢ـ القارعة ، قال تعالى :( القارعة *ما القارعة *ومآ ادراك ما القارعة ) (٦) .

وقال تعالى :( كذبت ثمود وعاد بالقارعة ) (٧) .

قال الخليل ( ت : ١٧٥ هـ ) : والقارعة : القيامة. والقارعة : الشدة.

__________________

(١) الحاقة : ١٥.

(٢) الخليل ، العين : ٢|١٧٦.

(٣) الراغب ، المفردات : ٥٣٠.

(٤) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٢١٤.

(٥) ابن منظور ، لسان العرب : ١٠|٢٨٥.

(٦) القارعة : ١ ـ ٣.

(٧) الحاقة : ٤.

١٧٢

وفلان أمن قوارع الدهر : أي شدائده. وقوارع القرآن : نحو آية الكرسي ، يقال : من قرأها لم تصبيه قارعة.

وكل شيء ضربته فقد قرعته. قال أبو ذؤيب الهذلي(١) .

حتى كأني للحوادث مروة

بصفا المشرق كل يوم تقرع

قال الطبرسي : وسميت القارعة ، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن(٢) . والقارعة اسم من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع ، وتقرع أعداء الله بالعذاب(٣) .

وأنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة(٤) .

وبمقارنة هذه المعاني ، نجدها متقاربة الدلالة ، فالقارعة الشدة ، وقوارع الدهر شدائده ، وكل شيء ضربته فقد قرعته ، والقارعة تقرع القلوب بالفزع ، وقلوب العباد بالمخافة ، وأعداء الله بالعذاب ، وهي في موضع كناية للتعبير عن القيامة ، من أجل التذكير بصفة القرع ، وكلها مفردات إيحائية تؤذن بالقرع في الأذن ، وتفزع القلوب بالشدة ، تتوالى خلالها المترادفات والمشتركات ، لتنتقل بك إلى عالم الواقعة ، وهي مجاورة لها في الشدة والهول والصدى والإيقاع.

٣ ـ الآزفة ، قال تعالى :( أزفة الآزفة *ليس لها من دون الله كاشفة ) (٥) .

وقال تعالى :( وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) (٦) .

قال الراغب : معناه : أي دنت القيامة فعبر عنها بلفظ الماضي لقربها وضيق وقتها(٧) .

__________________

(١) الخليل ، العين : ١|١٥٦.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٣٤٢.

(٣) المصدر نفسه : ٥|٥٣٢.

(٤) المصدر نفسه : ٥|٣٤٣.

(٥) النجم : ٥٧ ـ ٥٨.

(٦) المؤمن : ١٨.

(٧) الراغب ، المفردات : ١٧.

١٧٣

وقال الطبرسي :( وأنذرهم يوم الأزفة ) (١) . أي الدانية. وهو يوم القيامة ، لأن كل ما هو آت دان قريب(٢) .

قال الزمخشري : والآزفة القيامة لأزوفها(٣) .

وفي اللغة : الآزفة القيامة ، وإن استبعد الناس مداها(٤) .

والآزفة : الدانية من قولهم أزف الأمر إذا دنا وقته(٥) .

ورقة الآزفة في لفظها بانطلاق الألف الممدودة من الصدر ، وصفير الزاي من الأسنان ، وانحدار الفاء من أسفل الشفة ، والسكت على الهاء منبعثة من الأعماق ، كالرقة في معناها في الدنو والاقتراب وحلول الوقت ، ومع هذه الرقة في الصوت والمعنى ، إلا أن المراد من هذا الصفير أزيزه ، ومن هذا التأفف هديره ورجيفه ، فادناه يوم القيامة غير إدناء الحبيب ، واقتراب الساعة غير اقتراب المواعيد ، أنه دنو اليوم الموعود ، والحالات الحرجة ، والهدير النازل ، إنه يوم القيامة في شدائده ، فكانت الآزفة كالواقعة والقارعة.

٤ ـ الراجفة والرادفة ، قال تعالى :( يوم ترجف الراجفة *تتبعها الرادفة ) (٦) وتبدأ القيامة بالراجفة ، وهي النفخة الأولى ( تتبعها الرادفة ) وهي النفحة الثانية(٧) .

وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك(٨) .قال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) « الراجفة : الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفحة الأولى ، وصفت بما يحدث بحدوثها ( تتبعها الرادفة ) أي الواقعة التي تردف الأولى ، وهي النفحة الثانية ؛ أي القيامة التي يستعجلها الكفرة ، استبعاداً لها وهي رادفة لهم لا قترابها. وقيل الراجفة : الأرض والجبال من قوله ـ يوم ترجف الأرض والجبال ـ والرادفة

__________________

(١) المؤمن : ١٨.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٥١٨.

(٣) الزمخشري ، أساس البلاغة : ٥.

(٤) ابن منظور ، لسان العرب : ١|٣٤٦.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٥١٨.

(٦) النازعات : ٦ ـ ٧.

(٧) الفراء ، معاني القرآن : ٣|٢٣١.

(٨) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم : ٤|٤٦٧.

١٧٤

السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها إثر ذلك »(١) . وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) الراجفة : يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق ، والراجفة صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمخض ( تتبعها الرادفة ) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى ، وهي التي يبعث معها الخلق(٢) .

وبمتابعة هذه المعاني : النفخة الأولى ، النفخة الثانية ، الصيحة ، التردد ، الاضطراب ، الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال ، الواقعة التي تردف الراجفة ، انشقاق السماء ، انتثار الكواكب ، الرعد إذا تمخض ، بعث الخلائق وانتشارهم إلخ.

بمتابعة أولئك جميعاً يتجلى العمق الصوتي في المراد كتجليه في الألفاظ دلالة على الرجيف والوجيف ، والتزلزل والاضطراب ، وتغيير الكون ، وتبدل العوالم( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) (٣) .

فتعاقبت معالم الراجفة والرادفة مع معالم الواقعة والقارعة والآزفة ، وتناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعاني في الصدى والأوزان.

٥ ـ الغاشية ، قال تعالى :( هل أتاك حديث الغاشية ) (٤) . وهو خطاب للنبي6 يريد قد أتاك حديث يوم القيامة بغتة عن ابن عباس والحسن وقتادة(٥) .

قال الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) الغاشية كناية عن القيامة وجمعها غواش(٦) .

وقال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) : الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها ، يعني القيامة(٧) .

__________________

(١) الزمخشري ، الكشاف : ٤|٢١٢.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٠.

(٣) ابراهيم : ٤٨.

(٤) الغاشية : ١.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٧٨.

(٦) الراغب ، المفردات : ٣٦١.

(٧) الزمخشري ، الكشاف : ٤|٢٤٦.

١٧٥

وقال ابن منظور ( ت : ٧١١ هـ ) الغاشية القيامة ، لأنها تغشى الخلق بأفزاعها ، وقيل الغاشية : النار لأنها تغشى وجوه الكفار. وقيل للقيامة غاشية : لأنها تجلل الخلق فتعمهم(١) .

وبمقارنة هذه الأقوال ، وضم بعضها إلى بعض ، يبدو أن الغاشية كني بها عن القيامة لأنها تغشى الناس بأهوالها ، وتعم الخلق بأفزاعها ، فهي تجللهم الإحاطة من كل جانب ، وقد تكون هي النار التي تغشى وجوه الكفار ، وهي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها ، وتلبسهم أهوالها إلخ.

إذن ، ما أقرب هذا المناخ المفزع ، والأفق الرهيب لمناخ الواقعة والقارعة والآزفة والراجفة والرادفة ، إنه منطلق واحد ، في صيغة واحدة ، صدى هائل تجتمع فيه أهوالها ، وصوت حافل تتساقط حوله مصاعبها ، تتفرق فيه الألفاظ لتدل في كل الأحوال على هذه الحقيقة القادمة ، حقيقة يوم القيامة برحلتها الطولية ، في الشدائد ، والنوازل ، والقوارع ، والوقائع ، لتصور لنا عن كثب هيجانها وغليانها ، وشمولها وإحاطتها :

( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه *يسئل أيان يوم القيامة *فإذا برق البصر *وخسف القمر *وجمع الشمس والقمر *يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر *إلى ربك يومئذ المستقر ) (٢) .

دلالة الصدى الحالم :

تنطلق في القرآن أصداء حالمة ، في ألفاظ ملؤها الحنان ، تؤدي معناها من خلال أصواتها ، وتوحي بمؤداها مجردة عن التصنيع والبديع ، فهي ناطقة بمضمونها هادرة بإرادتها ، دون إضافة وأضاءة ، وما أكثر هذا المنحنى في القرآن ، وما أروع تواليه في آياته الكريمة ، ولنأخذ عينة على هذا فنقف عند الرحمة من مادة « رحم » في القرآن الكريم بجزء من إرادتها ، ولمح من هديها.

قال تعالى :( أؤلائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ) (٣) .

__________________

(١) ابن منظور ، لسان العرب : ١٩|٣٦٢.

(٢) القيامة : ٥ ـ ١٢.

(٣) البقرة : ١٥٧.

١٧٦

وقال تعالى :( لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ) (١) .

وقال تعالى :( فبما رحمة من الله لنت لهم ) (٢) .

وقال تعالى :( كهيعص *ذكر رحمت ربك عبده زكريا ) (٣) .

وقال تعالى :( قال رب أغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك ) (٤) .

وقال تعالى :( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمها كما ربياني صغيرا ) (٥) .

فأنت تنادي من صدى « الرحمة » بأزيز حالم ، وتحتفل من صوتها بنداء يأخذ طريقه إلى العمق النفسي ، يهز المشاعر ، ويستدعي العواطف ، ناضحاً بالرضا والغبطة والبهجة ، رافلاً بالخير والإحسان والحنان ، فماذا يرجو أهل الإيمان أكثر من اقتران صلوات ربهم برحمته بهم وعليهم ، ولمغفرة من الله تعالى ورحمة خير مما تجمع خزائن الأرض وكنوزها ، وهذا محمد6 ذو الخلق العظيم ، والمخائل الفذة ، لولا رحمة ربه لما لإن لهؤلاء القوم الأشداء في غطرستهم وغلظتهم ، وهذا زكريا تتداركه رحمة من الله وبركات في أوج احتياجه وفزعه إلى الله عزّ وجل :( إذ نادى ربه نداءً خفيا ) (٦) .

فيهب له يحيى( والله يختص برحمته من يشاء ) (٧) .

ووقفة مستوحية عند الأبوين الكريمين( وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمها كما ربياني صغيرا ) (٨) . فستلمس صيغة الرحمة قد تجلت بأرق مظاهرها الصادقة وأرقاها ، توجيه رحيم ، واستعارة هادفة ، وعاطفة مهذبة ، فقد اقترنت الرحمة بالاسترحام ، وخفض الجناح بتواضع بل بذل إشفاقاً وحنواً وحدباً ، فكما يخفض الطائر الوجل أو المطمئن السارب جناحيه حذراً أو عطفاً أو احتضاناً لصغاره حباً بهم ، أو صيانة لهم من كل الطوارىء ، أو هما معاً ، فكذلك رحمة الولد البار بوالديه شفقة ورعاية ، مواساة ومعاناة ، في حالتي الصحة والسقم ، الرضا والغضب ،

__________________

(١) آل عمران : ١٥٧.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

(٣) مريم : ١ ـ ٢.

(٤) الأعراف : ١٥١.

(٥) الإسراء : ٢٤.

(٦) مريم : ٣.

(٧) البقرة : ١٠٥.

(٨) الإسراء : ٢٤.

١٧٧

الدعة والاحتياج ، يضاف إلى ذلك الدعاء من الأعماق « وقل رب ارحمها » مجازاة على تربيته صغيراً ، والرحمة ، وارحمها ، لفظان متلازمان في بحة الحاء المنطلقة من الصدر فهي صوتياً مثلها دلالياً من القلب وإلى القلب ، ومن الشغاف إلى الشغاف ، وهنا يظهر أن الرحمة ظاهرة واقعية تنبعث من داخل النفس الإنسانية ، فيتفجر بها الضمير الحي النابض بالطهارة والنقاء والحب السرمدي ، فهي إذن لا تفرض من الخارج بالقوة والقهر والإستطالة ، وإنما سبيلها سبيل الماء المتدفق من الأعالي لأنها صفة ملائكية ، تمزج الإنسانية بالصفاء الروحي.

« والرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة ، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة نحو : رحم الله فلاناً. وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة ، وعلى هذا روي أن الرحمة من الله إنعام وإفضال ، ومن الآدميين رقة وتعطف »(١) .

فالله تعالى تفرد بالإحسان في رحمته إلى رعيته ، فجاء له الحمد مساوقاً لهذه الرحمة( الحمد لله رب العالمين *الرحمن الرحيم ) (٢) . ونشر الرقة بين البشر في الطباع( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) (٣) .

ولو تابعنا أصل المادة لغوياً لوجدنا ملاءمتها للمعنى صوتياً في الرقة واللحمة والتناسب ، فالرحم رحم المرأة ، قل تعالى :( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشآء ) (٤) . ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم من رحم واحدة نسبياً ، لذلك قال تعالى :( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) (٥) . ولولا قرابتهم لما كانت الولاية بينهم.

فكان الالتصاق في الرحم قد نشر الالتصاق بالولاية من جهة ، وجدد الرحمة بالرقة والمودة والعطف الكريم.

__________________

(١) الراغب : المفردات : ١٩١.

(٢) الفاتحة : ٢ ـ ٣.

(٣) الفتح : ٢٥.

(٤) آل عمران : ٦.

(٥) الأنفال : ٧٥.

١٧٨

دلالة النغم الصارم :

أصوات الصفير في وضوحها ، وأصداؤها في أزيزها ، جعل لها وقعاً متميزاً ما بين الأصوات الصوامت ، وكان ذلك ـ فيما يبد ولي ـ نتيجة التصاقها في مخرج الصوت ، واصطكاكها في جهاز السمع ، ووقعها الحاصل ما بين هذا الالتصاق وذلك الاصطكاك ، هذه الأصوات ذات الجرس الصارخ هي : الزاي ، السين ، الصاد ، يلحظ لدى استعراضها أنها تؤدي مهمة الإعلان الصريح عن المراد في تأكيد الحقيقة ، وهي بذلك تعبر عن الشدة حيناً ، وعن العناية بالأمر حيناً آخر ، مما يشكل نغماً صارماً في الصوت ، وأزيزاً مشدداً لدى السمع ، يخلصان إلى دلالة اللفظ في إرادته الاستعمالية ، ومؤداه عند إطلاقه في مظان المعنى.

وسأقف عند ثلاث صيغ قرآنية ختمت بحروف الصفير ، لرصد أبعادها الصوتية ؛ هي : « رجز » و « رجس » و « حصحص ».

١ـ الرجز ، في مثل قوله تعالى :( أولآئك لهم عذاب من رجز أليم ) (١) .

وقوله تعالى :( لئن كشفت عنا الرجز ) (٢) .

وقوله تعالى :( فلمّا كشفنا عنهم الرجز ) (٣) .

ويظهر في أصل الرجز الاضطراب لغة ، فتلمس فيه الزلزلة في ارتجاجها ، والهدة عند حدوثها ، والنازلة في وقوعها ، ولما كان القرآن العظيم يفسر بعضه بعضها ، فإننا نأنس على هذه المعاني في كل من قوله تعالى :

( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء ) (٤) .

وقوله تعالى :( فأرسلنا عليهم رجزاً من السّماء بما كانوا يظلمون ) (٥) .

__________________

(١) سبأ : ٥.

(٢) الأعراف : ١٣٤.

(٣) الأعراف : ١٣٥.

(٤) البقرة : ٥٩.

(٥) الأعراف : ١٦٢.

١٧٩

وقوله تعالى :( إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كاموا يفسقون ) (١) . ونستظهر في الرجز الإرسال والإنزال من السماء بضرس قاطع وأمر كائن باعتبار آخر العلاج بعد التحذير والإنذار.

٢ ـ وحينما نقارن لفظ « الرجز » بمثيله معنى ومبنى « رجس » وهي مكونة كتكوينها في الراء والجيم ، والسين كالزاي من حروف الصفير شديدة الاحتكاك في مخرج الصوت ، ولها ذات الإيقاع على الأذن ؛ حينما نقارن صوتياً ودلالياً بين الصوتين نجد المقاطع واحدة عند الانطلاق من أجهزة الصوت ، ونجد المعاني متقاربة في الإفادة ، فقد قيل للصوت الشديد : رجس ورجز ، وبعير رجاس شديد الهدير ، وغمام راجس ورجاس شديد الرعد.

قال تعالى :( قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ) (٢) .

وقال تعالى :( ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) (٣) .

كل هذه الاستعمالات متواكبة دلالياً في ترصد العذاب وصبّه وإنزاله ، وهذا لا يمانع من أن تضاف للرجس جملة من المعاني الأخرى لإرادة الدنس والقذارة ومرض القلوب ، وحالات النفس المتقلبة ، نرصد ذلك في كل من قوله :( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) (٤) .

وقال تعالى :( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) (٥) .

وقال تعالى :( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (٦) .

وقال تعالى :( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وما توا وهم كافرون ) (٧) .

__________________

(١) العنكبوت : ٣٤.

(٢) الأعراف : ٧١.

(٣) يونس : ١٠٠.

(٤) المائدة : ٩٠.

(٥) الحج : ٣٠.

(٦) الأحزاب : ٣٣.

(٧) التوبة : ١٢٥.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215