الصوت اللغوي في القرآن

الصوت اللغوي في القرآن18%

الصوت اللغوي في القرآن مؤلف:
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 215

الصوت اللغوي في القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43211 / تحميل: 5958
الحجم الحجم الحجم
الصوت اللغوي في القرآن

الصوت اللغوي في القرآن

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل السادس

الدلالة الصوتية في القرآن

١ ـ مظاهر الدلالة الصوتية

٢ ـ دلالة الفزع الهائل

٣ ـ الإغراق في مدّ الصوت واستطالته

٤ ـ الصيغة الصوتية الواحدة

٥ ـ دلالة الصدى الحالم

٦ ـ دلالة النغم الصارم

٧ ـ الصوت بين الشدة واللين

٨ ـ الألفاظ دالة على الأصوات

٩ ـ اللفظ المناسب للصوت المناسب

١٦١

١٦٢

مظاهرالدلالة الصوتية :

انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب ، وتوهج العبارة في منظار حياتهم ، وحدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله ، وتناغم الحروف في تركيبه ، وتعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه ، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات ، وتراكيب البيان متلائمة الأصوات ، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها ، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه ، ومع دلالته السمعية من وجه آخر ، فالذي يستلذه السمع ، وتسيغه النفس ، وتقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة والرقة ، والذي يشرأب له العنق ، وتتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر والشدة ، وهنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً وأيجاباً.

وبيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها ، والتي كونت كلمة معين في النص ، وبين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى ؛ وتتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً ، رقةً أو خشونة ، حتى تدرك بين هذا وذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة ، أو إذكاء الحفيظة ، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية ، ويستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً ، أو بتناغم الكلمة وحدها ، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه.

إن إيقاع اللفظ المفرد ، وتناغم الكلمة الواحدة ، عبارة عن جرس

١٦٣

موسيقى للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن ، أو أثر عند المتلقي ، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية ، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية : « التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها »(١) . فتوحي بأثر موسيقي خاص ، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض ، ويستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته ، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة : الألم ، البهجة ، اليأس ، الرجاء ، الرغبة ، الرهبة ، الوعد ، الوعيد ، الانذار ، التوقع ، الترصد ، التلبث إلخ.

ولا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة ، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة ، تختلف ـ دون شك ـ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه ، مما يجعل كلمة ما دون كلمة ـ وإن اتحدا بالمعنى ، لها استقلاليتها الصوتية ، إما في الصدى المؤثر ، وإما في البعد الصوتي الخاص ، وإما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى ، وإما بإقبال العاطفة ، وإما بريادة التوقع ، فهي حيناً تصك السمع ، وحيناً تهيء النفس ، وحيناً تضفي صيغة التأثر : فزعاً من شيء ، أو توجهاً لشيء ، أو طمعاً في شيء ؛ وهكذا.

هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ ، وهي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة ، تكونت من حروف مختارة ، فشكلت أصواتاً مختارة ، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى ، ومجالات عديدة ، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس والنغم والصدى والإيقاع.

قال الخطابي ( ت : ٣٨٣ ـ ٣٨٨ هـ ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة : « لفظ حاصل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ، ولا أجزل ، ولا أعذب من ألفاظه »(٢) .

__________________

(١) إبراهيم أنيس ، دلالة الألفاظ : ٤٦.

(٢) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : ٢٧.

١٦٤

وهذا مما ينطبق على استيحاء الدلالة الصوتية في القرآن بجميع الأبعاد ، يضاف إليه الوقع السمعي للفظ ، والتأثير النفسي للكلمة ، والمدلول الأنفعالي بالحدث ، وتلك مظاهر متأنقة قد يتعذر حصرها ، وقد يطول الوقوف عند استقصائها.

وكان من فضيلة القرآن الصوتية أن استوعب جميع مظاهر الدلالة في مجالاتها الواسعة ، وتمرس في استيفاء وجوه التعبير عنها بمختلف الصور الناطقة ، وقد يكون من غير الممكن استحضار جميع الصيغ في استعمالات منها ، أو ما يبدو أنه مهم في الأقل ، وذلك باستطراد بعض النماذج النابضة فيما أخال وأزعم ، وقد يعبر كل نموذج منها عن مظهر فني ، ليقاس مثله عليه ، وشبيهه به ، وبذلك يتأتى للباحث والمتلقي إلقاء الضوء الكاشف على أبعاد دلالة القرآن الصوتية ، في تشعب جوانبها ، وعظمة انطلاقها ، مما يكوّن معجماً لغوياً خاصاً بمفرداتها ، وقاموساُ صوتياً حافلاً بإمكاناتها.

سيقتصر حديثنا عن مظاهر الدلالة في مجالات قد تكون متقابلة ، أو متناظرة ، أو متضادة ، أو متوافقة ، وهي بمجموعها تكون أبعاد الدلالة الصوتية في القرآن ، وهذا ما تتكفّل بإيضاحه المباحث الآتية.

دلالة الفزع الهائل :

استعمل القرآن طائفة من الألفاظ ، ثم اختيار أصواتها بما يتناسب مع أصدائها ، واستوحى دلالتها من جنس صياغتها ، فكانت دالة على ذاتها بذاتها ، فالفزع مثلاً ، والشدة ، والهدة ، والاشتباك ، والخصام ، والعنف ، دلائل هادرة بالفزع الهائل والمناخ القاتل.

١ـ قف عند مادة صرخ في القرآن ، وصرخة الصّيحة الشديدة عند الفزع ، والصراخ الصوت الشديد(١) . لتلمس عن كثب ، وبعفوية بالغة : الاستغاثة بلا مغيث ، في قوله تعالى :( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً ) (٢) . مما يوحي بأن الصراخ قد بلغ ذروته ، والاضطراب قد تجاوز

__________________

(١) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : ٤|٢.

(٢) فاطر : ٣٧.

١٦٥

مداه ، والصوت العالي الفظيع يصطدم بعضه ببعض ، فلا أذن صاغية ، ولا نجدة متوقعة ، فقد وصل اليأس أقصاه ، والقنوط منتهاه ، فالصراخ في شدة إطباقه ، وتراصف إيقاعه ، من توالى الصاد والطاء ، وتقاطر الراء والخاء ، والترنم بالواو والنون يمثل لك رنة هذا الاصطراخ المدوي « والاصطراخ الصياح والنداء والاستغاثة : افتعال من الصراخ قلبت التاء طاء لأجل الصاد الساكنة قبلها ، وإنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء والإطباق ، ويوافق التاء في المخرج »(١) .

والإصراخ هو الإغاثة ، وتبلية الصارخ ، وقوله تعالى :( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) (٢) .تعني البراءة المتناهية ، والإحباط التام ، والصوت المجلجل في الدفع ، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً ، ولا ينجي أحدهما الآخر من عذاب الله ، ولا يغيثه مما نزل به ، فلا إنقاذ ولا خلاص ولا صريخ من هذه الهوة ، وتلك النازلة ، فلا الشيطان بمغيثهم ، ولا هم بمغيثيه.

والصريخ في اللغة يعني المغيث والمستغث ، فهو من الأضداد ، وفي المثل : عبد صريخه أمة ، أي ناصره أذل منه(٣) . وقد قال تعالى :( فلا صريخ لهم ولا هم ينفذون ) (٤) . فيا له من موقف خاسر ، وجهد بائر ، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة ، ولا إجارة مما وقعوا فيه.

والاستصراخ الإغاثة ، واستصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ ، وهو الصوت يعلمه بأمر حادث ليستعين به(٥) .

قال تعالى :( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) (٦) . طلب للنجدة في فزع ، ومحاولة للإنقاذ في رهب ، والاستعانة على العدو بما يردعه عن

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٤١٠.

(٢) إبراهيم : ٢٢.

(٣) ابن منظور، لسان العرب : ٤|٣.

(٤) ياسين : ٤٣.

(٥) ابن منظور ، لسان العرب : ٤|٣.

(٦) القصص :١٨.

١٦٦

الإيقاع به ، وما ذلك إلا نتيجة خوف نازل ، وفزع متواصل ، وتشبث بالخلاص.

٢ـ وما يستوحى من شدة اللفظ في مادة «صرخ » يستوحى بإيقاع مقارب من قوله تعالى :( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ) (١) . لتبرز « متشاكسون » وهي تعبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران ، وقد تعطي معناها الكلمة : متخاصمون ، ولكن المثل القرآني لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي أعطت معنى النزاع المستمر ، والجدل القائم ، وقد جمعت في هذه الكلمة حروف التفشي والصفير في الشين والسين تعاقباً ، تتخللهما الكاف من وسط الحلق ، والواو والنون للمد والترنم ، والتأثر بالحالة ، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حمّلها أكثر من معنى الخصومة والجدل والنقاش بما أكسبها أزيزاً في الأذن ، يبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصية بلغت درجة الفورة ، والعنف والفزع من جهة ، كما أحيط السمع بجرس مهموس معين ذي نبرات تؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى.

٣ـ وتأمل مادة «كبّ» في القرآن ، وهي تعني إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى :( فكبت وجوههم في النار ) (٢) . فلا إنقاذ ولا خلاص ولا إخراج ، والوجه أشرف مواضع الجسد ، وهو يهوي بشدة فكيف بباقي البدن.

والأكباب جعل وجهه مكبوباً على العمل ، قال تعالى :( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدا ) (٣) .

والكبكبة تدهور الشيء في هوة(٤) . قال تعالى :( فكبكبوا فيها هم والغاون ) (٥) .

__________________

(١) الزمر : ٢٩.

(٢) النمل : ٩٠.

(٣) الملك : ٢٢.

(٤) الراغب ، المفردات : ٤٢٠.

(٥) الشعراء : ٩٤.

١٦٧

وهذه الصيغة قد حملت اللفظ في تكرار صوتها ، زيادة معنى التدهور لما أفاده الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) بقوله : « إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى »(١) .

وقال العلامة الطيبي ( ت: ٧٤٣ هـ ) :

« كرر الكب دلالة على الشدة »(٢) .

ومن هنا نفيد أن دلالة الفزع فيما تقدم من ألفاظ أريدت بحد ذاتها لتهويل الأمر ، وتفخيم الدلالة ، وهذا أمر مطرد في القرآن ، وقد يمثله قوله تعالى :( فغشيهم من اليم ماغشيهم ) (٣) .

والمادة نفسها قد توحي بشدة الإتيان والتوقع عند النوائب.

الإغراق في مدّ الصوت واستطالته :

هنالك مقاطع صوتية مغرقة في الطول والمد والتشديد وبالرغم من ندرة صيغة هذه المركبات الصوتية في اللغة العربية حتى أنها لتعدّ بالأصابع ، فإننا نجد القرآن الكريم يستعل أفخمها لفظاً ، وأعظمها وقعاً ؛ فتستوحي من دلالتها الصوتية مدى شدّتها ، لتستنتج من ذلك أهميتها وأحقيتها بالتلبث والرصد والتفكير.

من تلك الألفاظ : الحاقّة ، الطّامة ؛ الصّاخة. وقد تأتي مجّردة عن التعريف فتهتدي إلى عموميتها ، مثل : دابّة. كافة.

هذه الصيغة صوتياً تمتاز بتوجه الفكر نحوها في تساؤل ، واصطكاك السمع بصداها المدوي ، وأخيراً بتفاعل الوجدان معها مترقباً : الأحداث ، المفاجئات ، النتائج المجهولة.

الحاقة الطامة والصاخة : كلمات تستدعي نسبة عالية من الضغط الصوتي ، والأداء الجهوري لسماع رنتها ، مما يتوافق نسبياً مع إرادتها في

__________________

(١) الزمخشري ، الكشاف : ١|٤١.

(٢) الطيبي ، التبيان في علم المعاني والبديع والبيان : ٤٧٤.

(٣) طه : ٧٨.

١٦٨

جلجلة الصوت ، وشدة الإيقاع ، كل ذلك مما يوضع مجموعة العلاقات القائمة بين اللفظ ودلالته في مثل هذه العائلة الصوتية الواحدة ، فإذا أضفنا إلى ذلك معناها المحدد في كتاب الله تعالى ، وهو يوم القيامة ، خرجنا بحصيلة علمية تنتهي بمصاقبة الشدة الصوتية للشدة الدلالية بين الصوت والمعنى الحقيقي ، فقوله تعالى :( الحاقة *ما الحاقة *ومآ أدراك ما الحاقة ) (١) . إشارة إلى يوم القيامة ، وعلم عليها فيما أفاد العلماء ، قال الفرّاء ( ت : ٢٠٧ هـ ) : « الحاقة : القيامة ، سميت بذلك لأن فيها الثواب والجزاء »(٢) .

وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) « الحاقة اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين ، وسميت بذلك ، لأنها ذات الحواق من الأمور ، وهي الصادقة الواجبة الصدق ، لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع ، صادقة الوجود. وقيل سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم : حاققته فحققته ، مثل : خاصمته فخصمته »(٣) .

وقيل : لأنها تحق كل إنسان بعمله. ويقال : حقّت القيامة : أحاطت بالخلائق فهي حاقة(٤) . فإذا رصدت الصاخة ، رأيتها القيامة أيضاً ، وبه فسّر أبو عبيدة ( ت : ٢١٠ هـ ) قوله تعالى :( فإذا جآءت الصآخة ) (٥) . فأما أن تكون الصاخة اسم فاعل من صخ يصخ ، وإما أن تكون مصدراً وقال أبو اسحق الزجاج : الصاخة هي الصيحة تكون فيها القيامة تصخ الأسماع، أى : تصمها فلا تسمع.

وقال ابن سيده : الصاخة : صيحة تصخ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدتها ، ومنه سميت القيامة.

ويقال : كأن في أذنه صاخة ، أي طعنة(٦) .

__________________

(١) الحاقة : ١ ـ ٣.

(٢) الفراء ، معاني القرآن : ٣|١٧٩.

(٣) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٤) ظ : الطريحي ، مجمع البحرين : ٥|١٤٧.

(٥) عبس : ٣٣.

(٦) ابن منظور، لسان العرب : ٤|٢.

١٦٩

وقال الطريحي ( ت : ١٠٨٥ هـ ) الصاخة بتشديد الخاء يعني القيامة ، فإنها تصخ الأسماع ، أي تقرعها وتصمها ، يقال : رجل أصخ ، إذا كان لا يسمع(١) . والمعاني كلها متقاربة في الدلالة ، إلا أن الرغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) يعطي الصاخة دلالة أعمق في الإرادة الصوتية المنفردة فيقول : الصاخة شدة صوت ذي المنطق(٢) .

فيكون استعمالها حينئذ في القيامة على سبيل المجاز. فإذا وقفنا عند الطامة ، فهي القيامة تطم على كل شيء(٣) . وإليه ذهب الزجاج : الطامة هي الصيحة التي تطم على كل شيء(٤) . وتسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها : طامة(٥) . قال تعالى :( فإذا جآءت الطامة الكبرا ) (٦) .قال الطبرسي ( ت: ٥٤٨ هـ ) « وهي القيامة لأنها تطم كل داهية هائلة ، أي تعلو وتغلب ، ومن ذلك قيل : ما من طامة إلا وفوقها طامة ، والقيامة فوق كل طامة ، فهي الداهية العظمى »(٧) .

ولعل اختيار الطبرسي للداهية في تفسير الطامة باعتبارها داهية لا يستطاع دفعها ، ولأن القيامة تطم كل داهية هائلة ، لا يخلو من وجه عربي أصيل ، فالعرب استعملت الطامة في الداهية العظيمة تغلب ما سواها ، وأية داهية أعظم من القيامة لا سيما وهي توصف هنا بالكبرا.

إن موافقة أصوات الحاقة والصاخة والطامة لمعانيها في الدلالة على يوم القيامة ، من أعظم الدلالات الصوتية في الشدة والوقع والتلاؤم البنيوي والمعنوي لمثل هذه الصيغة الحافلة.

ودلالة هذه الصيغة في : دابة ، وكافة ، على الشمول والكلية المطلقة يوحي بالمضمون نفسه في الإيقاع الصوتي ، قال تعالى :( وما من دآبة في

__________________

(١) الطريحي ، مجمع البحرين : ٢|٤٣٧.

(٢) الراغب ، المفردات : ٢٧٥.

(٣) الفراء ، معاني القرآن : ٣|٢٣٤.

(٤) ابن منظور ، لسان العرب : ١٥|٢٦٣.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٣.

(٦) النازعات : ٣٤.

(٧) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٤.

١٧٠

الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) (١) فشمل الخلائق كلها ، وأصناف الأجناس المرئية وغير المرئية مما يدب أدركناه أو لم ندركه ، علمنا طبيعة رزقه أو لم نعلم وقوله تعالى :( ومآ أرسلناك إلا كآفة للنّاس بشيرا ونذيرا ) (٢) . يدل أن هذا الرسول العربي الأمين ، لم يختص بزمنية ، ولم يبعث لطبقة خاصة ، فتخطى برسالته حدود الزمان والمكان ، فكانت عالمية السيرورة ، إنسانية الأحياء ، البشارة في يد ، والنذارة في يد ، لينقذ العالم أجمع من خلال هاتين.

الصيغة الصوتية الواحدة :

وظاهرة أخرى جديرة بالعناية والتلبث ، هي تسمية الكائن الواحد ، والأمر المرتقب المنظور ، بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة ، بنسق صوتي متجانس ، للدلالة بمجموعة مقاطعة على مضمونه ، وبصوتيته على كنه معناه ، ومن ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى ، في إطار الفاعل المتمكن ، والقائم الذي لا يجحد.

هذه الصيغة الفريدة تهزك من الأعماق ، ويبعثك صوتها من الجذور ، لتطمئن يقيناً إلى يوم لا مناص عنه ، ولا خلاص منه ، فهو واقع يقرعك بقوارعه ، وحادث يثيرك برواجفه الصدى الصوتي ، والوزن المتراص ، والسكت على هائه أو تائه القصيرة تعبير عما ورائه من شؤون وعوالم وعظات وعبر ومتغيرات في :

الواقعه | القارعة | الآزفة | الراجفة | الرادفة | الغاشية ، وكل معطيك المعنى المناسب للصوت ، والدلالة المنتزعة من اللفظ ، وتصل مع الجميع إلى حقيقة نازلة واحدة.

١ ـ الواقعة ، قال تعالى :( إذا وقعت الواقعه *ليس لوقعتها كاذبة ) (٣) .

____________

(١) هود : ٦.

(٢) سبأ : ٢٨.

(٣) الواقعة : ١ ـ ٢.

١٧١

وقال تعالى :( فيؤمئذ وقعت الواقعة ) (١) .

قال الخليل : وقع الشيء يقع وقوعاً ، أي : هوياً.

والواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر(٢) .

وقال الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه ، والواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه ، وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع : جاء في العذاب والشدائد(٣) .

وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) في تفسيره للواقعة : « والواقعة اسم القيامة كالآزفة وغيرها ، والمعنى إذا حدثت الحادثة ، وهي الصّيحة عند النفخة الأخيرة لقيام الساعة. وقيل سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة ، أو لشدة وقعها »(٤) . وقال ابن منظور ( ت : ٧١١ هـ ) الواقعة : الداهية ، والواقعة النازلة من صروف الدهر ، والواقعة اسم من أسماء يوم القيامة(٥)

وباستقراء هذه الأقوال ، ومقارنة بعضها ببعض ، تتجلى الدلالة الصوتية ، فالوقوع هو الهوي ، وسقوط الشيء من الأعلى ، والواقعة هي النازلة الشديد ، والواقعة هي الداهية ، وهي الحادثة ، وهي الصيحة ، وهي اسم من أسماء يوم القيامة ، وأكثر ما جاء في القرآن من هذه الصيغة جاء في الشدة والعذاب ، وصوت اللفظ يوحي بهذا المعنى ، وأطلاقه بزنة الفاعل ، وإسناده بصيغة الماضي ، يدلان على وقوعه في شدته وهدته ، وصيحته وداهيته.

٢ـ القارعة ، قال تعالى :( القارعة *ما القارعة *ومآ ادراك ما القارعة ) (٦) .

وقال تعالى :( كذبت ثمود وعاد بالقارعة ) (٧) .

قال الخليل ( ت : ١٧٥ هـ ) : والقارعة : القيامة. والقارعة : الشدة.

__________________

(١) الحاقة : ١٥.

(٢) الخليل ، العين : ٢|١٧٦.

(٣) الراغب ، المفردات : ٥٣٠.

(٤) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٢١٤.

(٥) ابن منظور ، لسان العرب : ١٠|٢٨٥.

(٦) القارعة : ١ ـ ٣.

(٧) الحاقة : ٤.

١٧٢

وفلان أمن قوارع الدهر : أي شدائده. وقوارع القرآن : نحو آية الكرسي ، يقال : من قرأها لم تصبيه قارعة.

وكل شيء ضربته فقد قرعته. قال أبو ذؤيب الهذلي(١) .

حتى كأني للحوادث مروة

بصفا المشرق كل يوم تقرع

قال الطبرسي : وسميت القارعة ، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن(٢) . والقارعة اسم من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع ، وتقرع أعداء الله بالعذاب(٣) .

وأنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة(٤) .

وبمقارنة هذه المعاني ، نجدها متقاربة الدلالة ، فالقارعة الشدة ، وقوارع الدهر شدائده ، وكل شيء ضربته فقد قرعته ، والقارعة تقرع القلوب بالفزع ، وقلوب العباد بالمخافة ، وأعداء الله بالعذاب ، وهي في موضع كناية للتعبير عن القيامة ، من أجل التذكير بصفة القرع ، وكلها مفردات إيحائية تؤذن بالقرع في الأذن ، وتفزع القلوب بالشدة ، تتوالى خلالها المترادفات والمشتركات ، لتنتقل بك إلى عالم الواقعة ، وهي مجاورة لها في الشدة والهول والصدى والإيقاع.

٣ ـ الآزفة ، قال تعالى :( أزفة الآزفة *ليس لها من دون الله كاشفة ) (٥) .

وقال تعالى :( وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) (٦) .

قال الراغب : معناه : أي دنت القيامة فعبر عنها بلفظ الماضي لقربها وضيق وقتها(٧) .

__________________

(١) الخليل ، العين : ١|١٥٦.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٣٤٢.

(٣) المصدر نفسه : ٥|٥٣٢.

(٤) المصدر نفسه : ٥|٣٤٣.

(٥) النجم : ٥٧ ـ ٥٨.

(٦) المؤمن : ١٨.

(٧) الراغب ، المفردات : ١٧.

١٧٣

وقال الطبرسي :( وأنذرهم يوم الأزفة ) (١) . أي الدانية. وهو يوم القيامة ، لأن كل ما هو آت دان قريب(٢) .

قال الزمخشري : والآزفة القيامة لأزوفها(٣) .

وفي اللغة : الآزفة القيامة ، وإن استبعد الناس مداها(٤) .

والآزفة : الدانية من قولهم أزف الأمر إذا دنا وقته(٥) .

ورقة الآزفة في لفظها بانطلاق الألف الممدودة من الصدر ، وصفير الزاي من الأسنان ، وانحدار الفاء من أسفل الشفة ، والسكت على الهاء منبعثة من الأعماق ، كالرقة في معناها في الدنو والاقتراب وحلول الوقت ، ومع هذه الرقة في الصوت والمعنى ، إلا أن المراد من هذا الصفير أزيزه ، ومن هذا التأفف هديره ورجيفه ، فادناه يوم القيامة غير إدناء الحبيب ، واقتراب الساعة غير اقتراب المواعيد ، أنه دنو اليوم الموعود ، والحالات الحرجة ، والهدير النازل ، إنه يوم القيامة في شدائده ، فكانت الآزفة كالواقعة والقارعة.

٤ ـ الراجفة والرادفة ، قال تعالى :( يوم ترجف الراجفة *تتبعها الرادفة ) (٦) وتبدأ القيامة بالراجفة ، وهي النفخة الأولى ( تتبعها الرادفة ) وهي النفحة الثانية(٧) .

وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك(٨) .قال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) « الراجفة : الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفحة الأولى ، وصفت بما يحدث بحدوثها ( تتبعها الرادفة ) أي الواقعة التي تردف الأولى ، وهي النفحة الثانية ؛ أي القيامة التي يستعجلها الكفرة ، استبعاداً لها وهي رادفة لهم لا قترابها. وقيل الراجفة : الأرض والجبال من قوله ـ يوم ترجف الأرض والجبال ـ والرادفة

__________________

(١) المؤمن : ١٨.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٥١٨.

(٣) الزمخشري ، أساس البلاغة : ٥.

(٤) ابن منظور ، لسان العرب : ١|٣٤٦.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٥١٨.

(٦) النازعات : ٦ ـ ٧.

(٧) الفراء ، معاني القرآن : ٣|٢٣١.

(٨) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم : ٤|٤٦٧.

١٧٤

السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها إثر ذلك »(١) . وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) الراجفة : يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق ، والراجفة صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمخض ( تتبعها الرادفة ) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى ، وهي التي يبعث معها الخلق(٢) .

وبمتابعة هذه المعاني : النفخة الأولى ، النفخة الثانية ، الصيحة ، التردد ، الاضطراب ، الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال ، الواقعة التي تردف الراجفة ، انشقاق السماء ، انتثار الكواكب ، الرعد إذا تمخض ، بعث الخلائق وانتشارهم إلخ.

بمتابعة أولئك جميعاً يتجلى العمق الصوتي في المراد كتجليه في الألفاظ دلالة على الرجيف والوجيف ، والتزلزل والاضطراب ، وتغيير الكون ، وتبدل العوالم( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) (٣) .

فتعاقبت معالم الراجفة والرادفة مع معالم الواقعة والقارعة والآزفة ، وتناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعاني في الصدى والأوزان.

٥ ـ الغاشية ، قال تعالى :( هل أتاك حديث الغاشية ) (٤) . وهو خطاب للنبي٦ يريد قد أتاك حديث يوم القيامة بغتة عن ابن عباس والحسن وقتادة(٥) .

قال الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) الغاشية كناية عن القيامة وجمعها غواش(٦) .

وقال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) : الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها ، يعني القيامة(٧) .

__________________

(١) الزمخشري ، الكشاف : ٤|٢١٢.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٠.

(٣) ابراهيم : ٤٨.

(٤) الغاشية : ١.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٧٨.

(٦) الراغب ، المفردات : ٣٦١.

(٧) الزمخشري ، الكشاف : ٤|٢٤٦.

١٧٥

وقال ابن منظور ( ت : ٧١١ هـ ) الغاشية القيامة ، لأنها تغشى الخلق بأفزاعها ، وقيل الغاشية : النار لأنها تغشى وجوه الكفار. وقيل للقيامة غاشية : لأنها تجلل الخلق فتعمهم(١) .

وبمقارنة هذه الأقوال ، وضم بعضها إلى بعض ، يبدو أن الغاشية كني بها عن القيامة لأنها تغشى الناس بأهوالها ، وتعم الخلق بأفزاعها ، فهي تجللهم الإحاطة من كل جانب ، وقد تكون هي النار التي تغشى وجوه الكفار ، وهي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها ، وتلبسهم أهوالها إلخ.

إذن ، ما أقرب هذا المناخ المفزع ، والأفق الرهيب لمناخ الواقعة والقارعة والآزفة والراجفة والرادفة ، إنه منطلق واحد ، في صيغة واحدة ، صدى هائل تجتمع فيه أهوالها ، وصوت حافل تتساقط حوله مصاعبها ، تتفرق فيه الألفاظ لتدل في كل الأحوال على هذه الحقيقة القادمة ، حقيقة يوم القيامة برحلتها الطولية ، في الشدائد ، والنوازل ، والقوارع ، والوقائع ، لتصور لنا عن كثب هيجانها وغليانها ، وشمولها وإحاطتها :

( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه *يسئل أيان يوم القيامة *فإذا برق البصر *وخسف القمر *وجمع الشمس والقمر *يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر *إلى ربك يومئذ المستقر ) (٢) .

دلالة الصدى الحالم :

تنطلق في القرآن أصداء حالمة ، في ألفاظ ملؤها الحنان ، تؤدي معناها من خلال أصواتها ، وتوحي بمؤداها مجردة عن التصنيع والبديع ، فهي ناطقة بمضمونها هادرة بإرادتها ، دون إضافة وأضاءة ، وما أكثر هذا المنحنى في القرآن ، وما أروع تواليه في آياته الكريمة ، ولنأخذ عينة على هذا فنقف عند الرحمة من مادة « رحم » في القرآن الكريم بجزء من إرادتها ، ولمح من هديها.

قال تعالى :( أؤلائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ) (٣) .

__________________

(١) ابن منظور ، لسان العرب : ١٩|٣٦٢.

(٢) القيامة : ٥ ـ ١٢.

(٣) البقرة : ١٥٧.

١٧٦

وقال تعالى :( لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ) (١) .

وقال تعالى :( فبما رحمة من الله لنت لهم ) (٢) .

وقال تعالى :( كهيعص *ذكر رحمت ربك عبده زكريا ) (٣) .

وقال تعالى :( قال رب أغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك ) (٤) .

وقال تعالى :( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمها كما ربياني صغيرا ) (٥) .

فأنت تنادي من صدى « الرحمة » بأزيز حالم ، وتحتفل من صوتها بنداء يأخذ طريقه إلى العمق النفسي ، يهز المشاعر ، ويستدعي العواطف ، ناضحاً بالرضا والغبطة والبهجة ، رافلاً بالخير والإحسان والحنان ، فماذا يرجو أهل الإيمان أكثر من اقتران صلوات ربهم برحمته بهم وعليهم ، ولمغفرة من الله تعالى ورحمة خير مما تجمع خزائن الأرض وكنوزها ، وهذا محمد٦ ذو الخلق العظيم ، والمخائل الفذة ، لولا رحمة ربه لما لإن لهؤلاء القوم الأشداء في غطرستهم وغلظتهم ، وهذا زكريا تتداركه رحمة من الله وبركات في أوج احتياجه وفزعه إلى الله عزّ وجل :( إذ نادى ربه نداءً خفيا ) (٦) .

فيهب له يحيى( والله يختص برحمته من يشاء ) (٧) .

ووقفة مستوحية عند الأبوين الكريمين( وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمها كما ربياني صغيرا ) (٨) . فستلمس صيغة الرحمة قد تجلت بأرق مظاهرها الصادقة وأرقاها ، توجيه رحيم ، واستعارة هادفة ، وعاطفة مهذبة ، فقد اقترنت الرحمة بالاسترحام ، وخفض الجناح بتواضع بل بذل إشفاقاً وحنواً وحدباً ، فكما يخفض الطائر الوجل أو المطمئن السارب جناحيه حذراً أو عطفاً أو احتضاناً لصغاره حباً بهم ، أو صيانة لهم من كل الطوارىء ، أو هما معاً ، فكذلك رحمة الولد البار بوالديه شفقة ورعاية ، مواساة ومعاناة ، في حالتي الصحة والسقم ، الرضا والغضب ،

__________________

(١) آل عمران : ١٥٧.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

(٣) مريم : ١ ـ ٢.

(٤) الأعراف : ١٥١.

(٥) الإسراء : ٢٤.

(٦) مريم : ٣.

(٧) البقرة : ١٠٥.

(٨) الإسراء : ٢٤.

١٧٧

الدعة والاحتياج ، يضاف إلى ذلك الدعاء من الأعماق « وقل رب ارحمها » مجازاة على تربيته صغيراً ، والرحمة ، وارحمها ، لفظان متلازمان في بحة الحاء المنطلقة من الصدر فهي صوتياً مثلها دلالياً من القلب وإلى القلب ، ومن الشغاف إلى الشغاف ، وهنا يظهر أن الرحمة ظاهرة واقعية تنبعث من داخل النفس الإنسانية ، فيتفجر بها الضمير الحي النابض بالطهارة والنقاء والحب السرمدي ، فهي إذن لا تفرض من الخارج بالقوة والقهر والإستطالة ، وإنما سبيلها سبيل الماء المتدفق من الأعالي لأنها صفة ملائكية ، تمزج الإنسانية بالصفاء الروحي.

« والرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة ، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة نحو : رحم الله فلاناً. وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة ، وعلى هذا روي أن الرحمة من الله إنعام وإفضال ، ومن الآدميين رقة وتعطف »(١) .

فالله تعالى تفرد بالإحسان في رحمته إلى رعيته ، فجاء له الحمد مساوقاً لهذه الرحمة( الحمد لله رب العالمين *الرحمن الرحيم ) (٢) . ونشر الرقة بين البشر في الطباع( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) (٣) .

ولو تابعنا أصل المادة لغوياً لوجدنا ملاءمتها للمعنى صوتياً في الرقة واللحمة والتناسب ، فالرحم رحم المرأة ، قل تعالى :( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشآء ) (٤) . ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم من رحم واحدة نسبياً ، لذلك قال تعالى :( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) (٥) . ولولا قرابتهم لما كانت الولاية بينهم.

فكان الالتصاق في الرحم قد نشر الالتصاق بالولاية من جهة ، وجدد الرحمة بالرقة والمودة والعطف الكريم.

__________________

(١) الراغب : المفردات : ١٩١.

(٢) الفاتحة : ٢ ـ ٣.

(٣) الفتح : ٢٥.

(٤) آل عمران : ٦.

(٥) الأنفال : ٧٥.

١٧٨

دلالة النغم الصارم :

أصوات الصفير في وضوحها ، وأصداؤها في أزيزها ، جعل لها وقعاً متميزاً ما بين الأصوات الصوامت ، وكان ذلك ـ فيما يبد ولي ـ نتيجة التصاقها في مخرج الصوت ، واصطكاكها في جهاز السمع ، ووقعها الحاصل ما بين هذا الالتصاق وذلك الاصطكاك ، هذه الأصوات ذات الجرس الصارخ هي : الزاي ، السين ، الصاد ، يلحظ لدى استعراضها أنها تؤدي مهمة الإعلان الصريح عن المراد في تأكيد الحقيقة ، وهي بذلك تعبر عن الشدة حيناً ، وعن العناية بالأمر حيناً آخر ، مما يشكل نغماً صارماً في الصوت ، وأزيزاً مشدداً لدى السمع ، يخلصان إلى دلالة اللفظ في إرادته الاستعمالية ، ومؤداه عند إطلاقه في مظان المعنى.

وسأقف عند ثلاث صيغ قرآنية ختمت بحروف الصفير ، لرصد أبعادها الصوتية ؛ هي : « رجز » و « رجس » و « حصحص ».

١ـ الرجز ، في مثل قوله تعالى :( أولآئك لهم عذاب من رجز أليم ) (١) .

وقوله تعالى :( لئن كشفت عنا الرجز ) (٢) .

وقوله تعالى :( فلمّا كشفنا عنهم الرجز ) (٣) .

ويظهر في أصل الرجز الاضطراب لغة ، فتلمس فيه الزلزلة في ارتجاجها ، والهدة عند حدوثها ، والنازلة في وقوعها ، ولما كان القرآن العظيم يفسر بعضه بعضها ، فإننا نأنس على هذه المعاني في كل من قوله تعالى :

( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء ) (٤) .

وقوله تعالى :( فأرسلنا عليهم رجزاً من السّماء بما كانوا يظلمون ) (٥) .

__________________

(١) سبأ : ٥.

(٢) الأعراف : ١٣٤.

(٣) الأعراف : ١٣٥.

(٤) البقرة : ٥٩.

(٥) الأعراف : ١٦٢.

١٧٩

وقوله تعالى :( إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كاموا يفسقون ) (١) . ونستظهر في الرجز الإرسال والإنزال من السماء بضرس قاطع وأمر كائن باعتبار آخر العلاج بعد التحذير والإنذار.

٢ ـ وحينما نقارن لفظ « الرجز » بمثيله معنى ومبنى « رجس » وهي مكونة كتكوينها في الراء والجيم ، والسين كالزاي من حروف الصفير شديدة الاحتكاك في مخرج الصوت ، ولها ذات الإيقاع على الأذن ؛ حينما نقارن صوتياً ودلالياً بين الصوتين نجد المقاطع واحدة عند الانطلاق من أجهزة الصوت ، ونجد المعاني متقاربة في الإفادة ، فقد قيل للصوت الشديد : رجس ورجز ، وبعير رجاس شديد الهدير ، وغمام راجس ورجاس شديد الرعد.

قال تعالى :( قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ) (٢) .

وقال تعالى :( ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) (٣) .

كل هذه الاستعمالات متواكبة دلالياً في ترصد العذاب وصبّه وإنزاله ، وهذا لا يمانع من أن تضاف للرجس جملة من المعاني الأخرى لإرادة الدنس والقذارة ومرض القلوب ، وحالات النفس المتقلبة ، نرصد ذلك في كل من قوله :( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) (٤) .

وقال تعالى :( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) (٥) .

وقال تعالى :( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (٦) .

وقال تعالى :( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وما توا وهم كافرون ) (٧) .

__________________

(١) العنكبوت : ٣٤.

(٢) الأعراف : ٧١.

(٣) يونس : ١٠٠.

(٤) المائدة : ٩٠.

(٥) الحج : ٣٠.

(٦) الأحزاب : ٣٣.

(٧) التوبة : ١٢٥.

١٨٠

فالصوت في المعاني كلها الصوت نفسه ، والصدى ذات الصدى ، ومن هنا أورد الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) : أن الرجس يقع على أربعة أوجه : إما من حيث الطبع ، وأما من جهة العقل ، وإما من جهة الشرع ، وإما من كل ذلك. والرجس من جهة الشرع الخمر والميسر ، وقيل : إن ذلك رجس من جهة العقل ، وجعل الله تعالى الكافرين رجساً من حيث أن الشرك بالعقل أقبح الأشياء(١) .

٣ ـ وحينما نقف عند الصاد في مثل قوله تعالا :

( قالت أمرأت العزيز الآن حصحص الحق ) (٢) . فإننا نستمع إلى الصوت المدوّي ، إذ كانت الصاد واضحة الصدور من المخرج الصوتي. فكانت « حصحص » واضحة الظهور بانكشاف الأمر فيما يقهره على الأذغان ، وهنا قد يمتلكك العجب لدى اختيار هذا اللفظ في أزيزه ، ووضوح أمره مع القهر، فلا تردّ دلائله ، ولا تخبو براهينه.

فإذا شددت الصاد كانت دلالتها الصوتية ، وإرادتها المعنوية ، أوضح لزوماً ، وأشد استظهاراً ، وأكثر إمعاناً كما في قوله تعالا :( أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور *وحصل ما في الصدور ) (٣) .

فالتحصيل إخراج اللب من القشور ، كإخراج الذهب من حجر المعدن ، والبر من السنابل ، فهو إضهار لما فيها كإظهار اللب من القشر ، أو كإظهار الحاصل من الحساب(٤) .

والصوت في صيغة الإرعاب ، وفي سياق الوعيد ، قد تلمس فيه نزع ما في القلوب من أسرار ، واستخراج ما فيها من خفايا ، دون طواعية من أصحابها؟؟.

وقد يعطي دوي العبارة ، وهيكل البيان ، صيغة الإنذار ، وأنت تصطدم بالوقوف عند السين من حروف الصفير في قوله تعالى :( فلآ أقسم بالخنس *

__________________

(١) ظ : الراغب ، المفردات : ١٨٨.

(٢) يوسف : ٥١.

(٣) العاديات : ٩ ـ ١٠.

(٤) ظ : الراغب ، المفردات : ١٢١.

١٨١

الجوار الكنس *واليل إذا عسعس *والصبح إذا تنفس ) (١) .

الصوت بين الشدة واللين :

ولا نريد بهذا الملحظ المظاهر الصوتية للحروف الشديدة أو حروف اللين ، وإنما نريد الدلالة الأصواتية للكلمات وهي تتشكل في سياق يمثل الشدة حيناً ، والرقة حيناً آخر ، في دلالة تشير إلى أحدهما أولهما في ذات اللفظ ، أو جملة العبارة.

ومن فضيلة النظم القرآني أن تنتظم هذه الظاهرة في الصوائت والصوامت من الأصوات ، والصوائت ما ضمت حروف العلة عند علماء الصرف ، وهي : الألف والياء والواو ؛ والصوامت بقية حروف المعجم ، وهي الصحيحة غير المعتلة.

ويبدو أن الأصوات الصائتة بعد هذا هي الأصوات المأهولة بالانفتاح المتكامل لمجرى الهواء ، فتنطلق دون أي دوي أو ضوضاء ، وتصل إلى الأسماع مؤثرة فيها تأثيراً تلقائياً في الوضوح والصفاء ، وعلة ذلك انبساطها مسترسلة دون تضيق في المخارج.

ويتضح من هذا أن الأصوات الصامتة ما كانت بخلاف ذلك فهي تتسم بتضيّق مجرى الهواء واختلاسه ، فتنطلق أصواتها بأصداء مميزة تختلف شدة وضعفاً بحسب مخارجها فتحدث الضوضاء من خلالها نتيجة احتباس الهواء بقدر ما.

ففي الصوائت نلحظ قوله تعالى :( ونفس وما سواها *فألمها فجورها وتقواها ) (٢) . في اقتران الواو والألف في موضع واحد من سوى وتقوى ، كما نلحظ اقتران الياء والألف في سقيا من قوله تعالا :

( فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ) (٣) .

__________________

(١) التكوير : ١٥ ـ ١٨.

(٢) الشمس : ٧ ـ ٨.

(٣) الشمس : ١٣.

١٨٢

فتجد استطالة هذين الحرفين في كلا الموضعين ، لا يصدهما شيء صوتياً ، وهما يتراوحان دلالياً في ألفاظ تحتكم الشدة واللين ، فالتذكير بخلق النفس الإنسانية قسماً إلى جنب عملها بين الفجور والتقوى ، والتحذير من الناقة إلى جنب التحذير من منع السقيا.

وفي الصوامت تجد مادة « مسّ » قي القرآن بأزيزها الحاكم ، وصوتها المهموس ، ونغمها الرقيق ، نتيجة لتضعيف حرف الصفير ، أو التقاء حرفيه متجاورين كقوله تعالى :( ولو لم تمسسه نار ) (١) .

هذه المادة في رقتها صوتياً ، وشدتها دلالياً ، تجمع بين جرس الصوت الهادىء ، وبين وقع الألم الشديد ، فالمس يطلق ـ عادة ـ ويراد به كل ما ينال الإنسان من أذى ومكروه في سياق الآيات التالية :

قال تعالى :( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) (٢) .

وقال تعالى :( وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم ) (٣) .

وقال تعالى :( فإذا مس الإنسان ضر دعانا ) (٤) .

وقال تعالى :( ولئن اذقناه نعماء بعد ضرآء مسته ) (٥) .

وقال تعالى :( ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ) (٦) .

وقال تعالى :( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيمآ أخذتم عذاب عظيم ) (٧) .

وقال تعالى :( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) (٨) .

فهذه الصيغ المختلفة من المادة ، أوردناها للدلالة على شدة البلاء ،

__________________

(١) النور : ٣٥.

(٢) آل عمران : ١٤٠.

(٣) الروم : ٣٣.

(٤) الزمر : ٤٩.

(٥) هود : ١٠.

(٦) الأنبياء : ٤٦.

(٧) الأنفال : ٦٨.

(٨) الأنبياء : ٨٣.

١٨٣

ووقع المصاب ، وفرط الأذى ، واللفظ فيها رفيق رقيق ، ولكن المعنى شديد غليظ.

وللدلالة على هذا الملحظ ، فقد وردت المادة في صوتها الحالم هذا مقترنة بالمس الرفيق لاستخلاص الأمرين في حالتي ، السراء والضراء ، الشر والخير ، كما في كل من قوله تعالى :

أ ـ( وقالوا قد مس ءابآنا الضرآء والسرآء ) (١) .

ب ـ( إن الإنسان خلق هلوعاً *إذا مسه الشر جزوعا *وإذا مسه الخير منوعاً ) (٢) .

فالضراء تمسهم إذن ، والسراء تمسهم كذلك ، والشر يمسهم والخير كذلك ، ولم يشأ القرآن العظيم تغيير المادة بل اللفظ عينه في الحالتين ، وذلك للتعبير عن شدة الملابسة والملامسة والالتصاق.

وكما ورد اللفظ في مقام الضر منفرداً في أغلب الصيغ ، وورود مثله جامعاً لمدركي الخير والشر ، فقد ورد للمس الجميل خاصة في قوله تعالى :( إن تمسسكم حسنة تسؤهم ) (٣) .

وقد ينتقل هذا اللفظ بدلائله إلى معان آخر ، لا علاقة لها بهذا الحديث دلالياً ، وإن تعلقت به صوتياً ، كما في إشارة القرآن إلى المس بمعنيين مختلفين أخريين.

الأول : كنى فيه بالمس عن النكاح في كل من قوله تعالا :

أ ـ( قالت أنا يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ) (٤) .

ب ـ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ) (٥) .

الثاني : وقد عبر فيه بالمس عن الجنون كما في قوله تعالا :

____________

(١) الأعراف : ٩٥.

(٢) المعارج : ١٩ ـ ٢١.

(٣) آل عمران : ١٢٠.

(٤) مريم : ٢٠.

(٥) البقرة : ٢٣٦.

١٨٤

( الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان من المس ) (١) .

وقد اجتمعت كلها في طبيعة الصوت.

الألفاظ دالة على الأصوات :

توافرت طائفة من الألفاظ الدقيقة عند إطلاقها في القرآن ، وتتميز هذه الدقة بكون اللفظ يدل على نفس الصوت ، والصوت يتجلى فيه ذات اللفظ ، بحيث يستخرج الصوت من الكلمة ، وتؤخذ الكلمة منه ، وهذا من باب مصاقبة الألفاظ للمعاني بما يشكل أصواتها ، فتكون أصوات الحروف على سمت الأحداث التي يراد التعبير عنها.

يقول ابن جني ( ت : ٣٩٢ هـ ) « فأما مقابلة الألفاظ بما يشكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ، ونهج متلئب عند عارفيه مأموم ، وذلك أنهم كثيراً مايجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر عنها ، فيعدلونها بها ، ويحتذونها عليها ، وذلك أكثر مما نقدره ، وأضعاف ما نستشعره ، ومن ذلك قولهم : « خضم وقضم ، فالخضم لأكل الرطب والقضم لأكل اليابس »(٢) .

ونضع فيما يأتي أمثلة لهذا الملحظ في بعض ألفاظ القرآن العظيم :

١ـ مادة « خر » توحي في القرآن بدلالتها الصوتية بأن هذا اللفظ جاء متلبساً بالصوت على سمت الحديث في كل من قوله تعالى :

أ ـ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء ) (٣) .

ب ـ( فخر عليهم السقف من فوقهم ) (٤) .

جـ ـ( فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ) (٥) .

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) ابن جني ، الخصائص: ١|٦٥.

(٣) الحج : ٣١.

(٤) النحل : ٢٦.

(٥) سبأ : ١٤.

١٨٥

د ـ( فأستفغر ربه وخر راكعا وأناب ) (١) .

فإن هذا اللفظ وقد جاء بصيغة واحدة في عدة استعمالات ، يدل بمجمله على السقوط والهوي ، وهذا السقوط ، وذلك الهوي : مصحوبان بصوت ما ، وهذا الصوت هو الخرير ، والخرير هو صوت الماء ، أو صوت الريح ، أو صوتهما معا ، فالحدث على هذا مستل من جنس الصوت ، ومن هنا يستشعر الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) دلالة اللفظ الصوتية فيقول :

« فمعنى خرّ سقط سقوطاً يسمع منه خرير ، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو ؛

وقوله تعالى :( خروا سجدا ) (٢) فاستعمال الخر تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط ، وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، وقوله من بعده( وسبحوا بحمد ربهم ) (٣) . فتنبيه أن ذلك الخرير كان تسبيحاً بحمد الله لا بشيء آخر »(٤) .

ووجه الدلالة فيما يبدو أن الخر يأتي بمعنى السقوط من شاهق ، وأن الخرير إنما يستعمل لصوت الماء أو الريح أو الصدى محاكياً لهذا اللفظ في ترديده ، فلم يرد مجرد السقوط من « خر » وإنما أراد الصوت مضافاً إليه الوقوع والوجبة في إحداث هذا الصوت ، وكانت هذه الإضافة الدلالية صوتية سواءً أكانت في صوت الماء ، أم بالوقوع والسقوط ، أم بالتسبيح. والله أعلم.

٢ ـ مادة « صرّ » في كلمة « صر » من قوله تعالى :

( كمثل ريح فيها صر ) (٥) .

أو كلمة « صرصر » في كل من قوله تعالا :

أ ـ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ) (٦) .

__________________

(١) ص : ٢٤.

(٢) السجدة : ١٥.

(٣) السجدة : ١٥.

(٤) الراغب ، المفردات : ١٤٤.

(٥) آل عمران : ١١٧.

(٦) الحاقة : ٦.

١٨٦

ب ـ( إنّا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر ) (١) .

هذه المادة في هذه الصيغ الثلاث : مرفوعة ، مجرورة ، منصوبة ، وردت في القرآن وأنت تلمس فيها اصطكاك الأسنان ، وترديد اللسان ، فالصاد في وقعها الصارخ ، والراء المضعّفة ، والتكرار للمادة في صرصر ، قد أضفا صيغة الشدة ، وجسّد صورة الرهبة ، فلا الدفء بمستنزل ، ولا الوقاية متيسرة ، وذلك ما يهد كيان الإنسان عند التماسه الملجأ فلا يجده ، أو النجاة فلا يصل شاطئها ، أو الوقاية من البرد القارس فلا يهتبلها.

في لفظ « الصر » ذائقة الشتاء ، ونازلة الثلوج ، وأصوات الرياح العاتية ، مادة الصر إذن : كما عبر عنها الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) « ترجع إلى الشدة لما في البرودة من التعقد »(٢) .

قال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) : « الصر الريح الباردة نحو الصرصر ، وفيه أوجه :

أحدها : أن الصر في صفة الريح بمعنى الباردة ، فوصف بها القرة بمعنى فيها قرة صر ، كما تقول : برد بارد على المبالغة.

الثاني : أن يكون الصر مصدراً في الأصل بمعنى البرد فيجيء به على أصله.

الثالث : أن يكون شبه ما كانوا ينفقون بالزرع الذي جسه البرد فذهب حطاماً(٣) .

ولكننا نضع أيدينا على الحس الصوتي في اللغة ، فيعطينا دلالة خاصة ، مواكبة لسياق الحدث في هذا الصوت ؛ فريح صر وصرصر شديدة البرودة ، وقيل : شديدة الصوت ، وصر وصرصر : صوت الصرير.

قال ابن الأنباري في قوله تعالى :( كمثل ريح فيها صر ) (٤) . فيها أقوال : أحدها : فيها صر أي برد ، والثاني فيها تصويت وحركة.

__________________

(١) القمر : ١٩.

(٢) الراغب ، المفردات : ٢٧٩.

(٣) الزمخشري ، الكشاف : ١|٤٥٧.

(٤) آل عمران : ١١٧.

١٨٧

والصرة أشد الصياح تكون في الطائر والإنسان. وصر صماخه صريراً : صوّت من العطش ، وصرصر الطائر : صوت.

وفي حديث جعفر بن محمد الصادق7 والصر عصفور أو طائر في قده ، أصفر اللون سمي بصوته ؛ يقال صر العصفور يصرّ إذا صاح وصر الجندب يصر صريراً ، وصر الباب يصر ، وكل صوت شبه ذلك فهو صرير إذا امتدّ ، فإذا كان فيه تخفيف وترجيع في إعادة ضوعف كقوله : صرصر الأخطب صرصرة ، كأنهم قدروا في صوت الجندب المد ، وفي صوت الأخطب الترجيع فحكوه على ذلك(١) .

فالصوت هنا ملازم لـ ( صر ) و ( صرصر ) تارة في الشدة ، وأخرى في صوت الريح ، ومثلها في أشد الصياح ، وتارة في التصويت من العطش ، وسواها في تصويت الطائر ، وأهمها ( الصر ) سمي بصوته ، ويليه العصفور إذا صاح ، ومن ثم صرير الباب ، وصر الجندب ، وكل صوت يشبه ذلك في التخفيف أو الترجيع.

و« صر » في الآيات ليست بمعزل عن هذه المصاديق في الشدة والصوت والتصويت ، وتسمية الشيء باسم صوته.

والذكر الحكيم حافل بالألفاظ دالة على الأصوات ، جرياً على سنن العرب في تسمية اللفظ باسم صوته.

والله تعالى أعلم.

اللفظ المناسب للصوت المناسب :

كل لفظ في القرآن الكريم أختير مكانه وموضعه من الآية أو العبارة أو الجملة فإن غيره لا يسد مسدّه بداهة ، فقد اختار القرآن اللفظ المناسب في الموقع المناسب من عدة وجوه ، وبمختلف الدلالات ، إلا أن استنباط ذلك صوتياً يوحي باستقلالية الكلمة المختارة لدلالة أعمق ، وأشارة أدق ، بحيث يتعذر على أية جهة فنية استبدال ذلك بغيره ، إذ لا يؤدي غيره المراد

__________________

(١) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : مادة : صرر.

١٨٨

الواعي منه ، وذلك معلم من معالم الإعجاز البياني في القرآن.

١ـ في قوله تعالى :( ياجبال أوبي معه والطير ) (١) . جرس موسيقي حالم ، وصدى صوتي عميق ، وإطلاق للأصوات من أقصى الحلق وضمها للشفة ثم إعادة إطلاقها ، فيما به يتعين موقع « أوبي » بحيث لا يسدّ مسدّها غيرها من الألفاظ ، فالمراد بها ترجيع التسبيح من آب يؤوب ، على جهة الإعجاز بحيث تسبح الجبال ، وهو خلاف العادة ، وخرق لنواميس الكون في ترديد الأصوات من قبل ما لا يصوت ، ولو استبدل هذا اللفظ في غير القرآن لعاد النظر مهلهلاً ، والدلالة الصوتية منعدمة.

قال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) : « فإن قلت : أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال : وآتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير؟ قلت : كم بينهما؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى من الدلالة على عزة الربوبية ، وكبرياء الألوهية ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ،أشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد ، وناطق وصامت إلا وهو منقاد إلى مشيئته ، غير ممتنع عن إرادته »(٢) .

وتقرأ الآية :( ياجبال أوبي معه والطير ) (٣) . بالتشديد ، وتقرأ بالتخفيف ، فمن قرأ ( أوبي ) بالتشديد فمعناه : يا جبال سبحي معه ، ورجعي التسبيح لأنه قال : سخرنا الجبال معه يسبحن ، ومن قرأ ( أوبي ) بالتخفيف ؛ فمعناه : عودي معه بالتسبيح كلما عاد فيه(٤) .

فالنظام الصوتي بهذا هو الذي يحقق المعنى الجملي ، فإن كانت ( أوبي ) بالتشديد ، وهي القراءة المتعارفة ، فالمراد : التسبيح في ترديده وترجيعه ، وإن كانت بالتخفيف ؛ فتعني الرجوع والأوبة ، وعليه فالمراد إذن : العودة إلى التسبيح كلما عاد :

__________________

(١) سبأ : ١٠.

(٢) الزمخشري ، الكشاف : ٣|٢٨١.

(٣) سبأ : ١٠.

(٤) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : ١|٢١٢.

١٨٩

٢ ـ في قوله تعالى :( مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) (١) . تبرز كلمة « أوهن » لتعطي معنى الضعف ، وقد تحقق هذا المعنى كلمة ( أوها ) ولكن القرآن الكريم استعمل أوهن دون أوها ، وذلك لما يفرزه ضم حروف الحلق ، وأقصا الحلق إلى النون من التصاق وغنة لا تتأتى بضم الألف المقصورة إليها صوتياً ، وحينئذ تصل الكلمة إلى الأسماع ، وتصك الآذان ، وهي تحمل لوناً باهتاً للعجز مؤكداً بضم هذه النون ـ من ملحظ صوتي فقط ـ إلى تلك الحروف لتحدث واقعًا خاصاً يشعر بالضعف المتناهي لا بمجرد الضعف وحده. وكان هذا بتأثير مباشر من دلالة اللفظ الصوتية ، إذ أحدثت فيها النون وهي من الصوامت الأنفية صدى وإيقاعاً لا تحدثه الألف المقصورة وهي صوت حلقي خالص ، لا غنة معه ، ولا ضغط ، ولا إطباق.

وهذا التشبيه باختيار هذا اللفظ صوتياً ، يجمع إليه إيحائياً دلالة أن الأصنام والأشخاص والقيم اللاإنسانية واهنة متداعية عاجزة حتى عن حماية كيانها ، وصيانة وجودها ، لأنها في تكوين رخو واهن ، وبناء تتداعى أركانه ، ومثل هذا التكوين وذلك البناء لا اعتماد عليهما ، ولا اعتداد بهما ، إنما القوة بالله ، والحماية من الله ، والالتجاء إلى الله فهو وحده الركن القويم.

قال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) : « وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لوكانوا يعلمون »(٢) .

واذا كان القرآن الحكيم قد امتاز بتخير الألفاظ وانتقائها ، فإنه يرصد بذلك ما لهذه الألفاظ دون تلك :

« من قوة تعبيرية ، بحيث يؤدي بها فضلاً عن معانيها العقلية ، كل ما

__________________

(١) العنكبوت :٤١.

(٢) الزمخشري ، الكشاف : ٣|٢٠٦.

١٩٠

تحمل في أحشائها من صور مدخرة ، ومشاعر كامنة ، لفّت نفسها لفاً حول ذلك المعنى العقلي »(١) .

وهو ما تنبّه إليه الزمخشري في تعليله ذلك من ذي قبل.

٣ ـ وفي قوله تعالى :( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) (٢) .

تنهض كلمة «كل » وهي صارخة مشرأبة ، لتوحي عادة بمعنى العالة في أبرز مظاهرها ، وقد استعملها القرآن لإضاءة المعنى بما فيها من غلظة وشدة وثقل ، لهذا الصدى الصوتي الخاص المتولد من احتكاك الكاف وإطباق اللام على اللهاة ، وما ينجم عن ذلك من رنة في الذاكرة ، وشدة على السمع ، فصوت الكاف في العربية ، وهو من حروف الإطباق ، شديد انفجار مهموس ، وصوت اللام في العربية ، وهو من حروف الأسنان واللثة ، مجهور متوسط بين الشدة والرخاوة(٣) .

وقد اجتمع المهموس والمجهور معاً في هذا اللفظ ، فإذا علمنا أن المهموس هو الصوت الذي يظل النفس عند النطق به جارياً لا يعوقه شيء ، وأن المجهور هو الصوت الذي يمتنع النفس عن الجريان به عند النطق أدركنا سر اجتماع الكاف المهموسة واللام المجهورة في هذا اللفظ ، وما في ذلك من عسر في اللفظ دال على المعنى وغلظته.

يقول أستاذنا المخزومي : « فإذا اجتمع صوت مجهور ، وآخر مهموس ؛ فقد اجتمع صوتان مختلفان لكل منهما طبيعة خاصة ، والجمع بين هذين الصوتين يقتضي عضو النطق أن يعطي كل صوت منهما حقه ، وفي ذلك عسر لا يخفى ، فإذا تألفت كلمة وقد تجاور فيها صوتان ، أحدهما مجهور ، والآخر مهموس ، فما يزال أحدهما يؤثر في الآخر حتى يصيرا مجهورين معاً ، أو مهموسين معاً »(٤) .

__________________

(١) تشارلتن ، فنون الأدب : ٧٦.

(٢) النحل : ٧٦.

(٣) ظ : ابن جني ، سر صناعة الأعراب : ١|٦٩.

(٤) مهدي المخزومي ، في النحو العربي ، قواعد وتطبيق : ٨.

١٩١

لقد ظل النفس جارياً مستطيلاً في اللام عند مجاورتها للكاف ، وزاد التشديد في استطالتها ، لتوحي الكلمة بأبعادها الصوتية : بأن هذا العبد شؤم لا خير معه ، وبهيمة لا أمل بإصلاحه ، فهو عالة وزيادة ، بل هو « كل » بكل التفصيلات الصوتية لهذا اللفظ.

لقد كان اختيار اللفظ المناسب للصوت المناسب حقلاً يانعاً في القرآن لا للدلالة الصوتية فحسب ، بل لجملة من الدلالات الإيحائية واللغوية والهاميشية ، وتلك ميزة القرآن الكريم في تخير الألفاظ.

١٩٢

« خاتمة المطاف »

١٩٣

١٩٤

بعد هذه الجولة الفسيحة في أبعاد الصوت اللغوي في القرآن الكريم ، يجدر بي في خاتمة المطاف أن أضع أبرز النتائج والكشوفات العلمية التي يسرها البحث.

كان الفصل الأول بعنوان : أبعاد الصوت اللغوي وقد بحثنا فيه :

١ ـ مصطلح الصوت اللغوي ، فأفضنا الحديث عن الصوت لغةً ، والصوت ذبذبة ، والصوت غنائياً ، والصوت عند الأصواتين العرب ، وانتهينا أن الصوت بوصفه لغوياً يعني في هذه الدراسة المتخصصة : تتبع الظواهر الصوتية لحروف المعجم العربي ، وتطبيقها تنظيريا في القرآن العظيم بخاصة لأنه حقل البحث ، وموضوع تفصيلاته اللغوية ، فيما أثبت البحث : أن مصطلح علم الأصوات : مصطلح عربي أصيل سبق إليه علماء الإسلام والعربية.

٢ ـ وعرض الفصل إلى تقسيم الصوت بين العرب والأوروبيين ، فكانت دقة العرب أن توصلوا إلى تقسيم الحروف إلى طائفتين صوتيتين هما : الأصوات الصائتة والأصوات الصامتة ، وكانت هذه التسمية دليل الأوروبيين ـ فيما بعد ـ في التقسيم إلى الأصوات الساكنة وأصوات اللين.

وتوصل العرب إلى صفات هذه الأصوات في مخارجها ، وقسموا الصوت بعد ذلك إلى مجهور ومهموس ، وشديد ومطبق ، وسواهما ، وهو ما توصل إليه المحدثون بعد دراسات تشريحية لأجهزة النطق.

وكان تقسيم العرب والمسلمين للأصوات باعتبار مخارجها مخططاً

١٩٥

تفصيلياً لعملية إحداث الأصوات مع تسمياتها في المصطلح الصوتي ذلك ما قاربه وحقق القول فيه علماء الأصوات المحدثون ، وهم يسخرون لذلك أجهزة العلم الفيزولوجية ، بينما اكتشفه المسلمون والعرب بذائقتهم الفطرية الخالصة.

٣ ـ وعرضنا لتطور الصوت اللغوي في التحول التأريخي لنظام الأصوات ، ووقفنا عند التحول التركيبي الذي ينشأ عادةً نتيجة لظواهر تغيير أصوات اللغة الواحدة ، واستبدال صوت منها بصوت آخر ، مما نشأ عنه مصطلح المماثلة عند استجابته للإبدال الصوتي الموقت ، ومصطلح المخالفة فيما استجاب للإبدال الصوتي الدائم ، وبحثنا المصطلحين في شذرات أحسبها مفيدة ، وعرضنا بعد هذا الجزء ـ في ضوء تطور الصوت في المقطع أو عند المتكلم ـ لظاهرتي النبر والتنغيم ، وهما موضع عناية عند العرب من الناحية النظرية ، مع فرض توافر لحاظه المشترك في التطبيق القرآني.

٤ ـ وتناولنا نظرية الصوت اللغوي عند العرب فيما شهد بأصالته المحدثون من الأوروبيين والمستشرقين ، فكان ما توصل إليه العرب : عبارة عن المادة التخطيطية لمئات الجزئيات ، وعشرات الموضوعات الصوتية المتخصصة مما أشاروا إليه في كتبهم مفردات منظمة متناسقة مثلت نظرية الصوت في جميع المستويات الصوتية المعقدة ، ابتداءً من أجهزة النطق ، ومروراً بكل التفصيلات المضنية للأصوات ، وانتهاءً بأقيسة الزمان والمكان للصوت.

وكان الفصل الثاني بعنوان : منهجية البحث الصوتي وقد عرضنا فيه لتأريخية البحث الصوتي في منهجيته العربية المقارنة بالفكر الأوروبي الحديث مما توصل معه البحث إلى أصالة المنهجية الصوتية عند العرب بدءاً من :

١ ـ الخليل بن أحمد الفراهيدي ومدرسته الصوتية ، فرأينا الخليل ( ت : ١٧٥ هـ ) أول من وضع الصوت اللغوي موضع التطبيق الفني في مقدمة العين باعتبارها أول مادة صوتية وصلت إلينا في كتب اللغة ، وتتبعنا ذلك في أبرز إفاضات الخليل فوجدناه قد نص على تسمية كل نوع من

١٩٦

الأصوات ، وقد تذوق الحروف من مخارجها ، وحدد كل صنف من أصناف الحروف المعجمية على بنية صوتية متميزة عن سواها ، ووضع مخططاً شاملا لمخرج كل صوت انساني مضاف الى حيزه الخاص ، وعرض الى التمايز الصوتي في اللغة ، فهو يرى في اللغة امتداداً طبيعياً للأصوات من خلال حصره للمعجم العربي بأبعاد صوتية لم تخطىء ولا مرة واحدة.

٢ ـ ووجدنا سيبويه ( ت : ١٨٠ هـ ) قد تأثر بمدرسة الخليل الصوتية فسار على نهجه في كثير من الأبعاد ، واجتهد في القسم الآخر ، وكان له قدم سبق في قضايا الإدغام ، وتمييزه الدقيق بين صفتي الجهر والهمس ، ورأينا ابن دريد ـ وهو امتداد لهما ـ يصدر في الجمهرة عن علم الخليل ومنهجية سيبويه ، ويضيف بعض الإشارات الصوتية في ائتلاف الحروف.

٣ ـ ووقفنا عند الفكر الصوتي لأبي الفتح عثمان بن جني ( ت : ٣٩٢ هـ ) باعتباره أول من استعمل مصطلحاً فنياً للدلالة على الأصوات سماه : « علم الأصوات » وكان منهجه الصوتي مثار إعجاب للبحث بما صح أن يطلق عليه اسم الفكر الصوتي ، لأنه يتمحّض لهذا العلم ، ويعرض فيه عصارة تجاربه الصوتية دقيقة منظّمة ، ويتفرغ لبحث أصعب المشكلات الصوتية بترتيب حصيف في بحوث قيّمة عرضت لجوهر الصوت في كتابيه : سر صناعة الاعراب والخصائص.

وكان منهجه يضم تتبع الحروف من مخارجها وترتيبها على مقاطع ، وإضافته ستة أحرف مستحسنة بأصواتها إلى حروف المعجم ، وثمانية أحرف فرعية مستقبحة بأصواتها ، ويحصر مخارج الحروف في ستة عشر مخرجاً تشريحياً منظّراً له بأمثلته ، فكان فكر ابن جني الصوتي قد حقق نظاماً أصواتياً قارنّاه بالفكر الصوتي العالمي من خلال هذه الظواهر :

أ ـ مصدر الصوت ومصطلح المقطع.

ب ـ جهاز الصوت المتنقل.

جـ ـ أثر المسموعات في تكوين الأصوات.

د ـ محاكاة الأصوات.

١٩٧

وكان ما قدمه ابن جني تأصيلاً صوتياً لكثير من الملامح والخصائص المكتشفة في ضوء تقدم العلم الفيزولوجي الحديث.

٤ ـ وعالجنا موضوع : القرآن والصوت اللغوي ، فوجدنا المباحث الصوتية عند العرب قد اتخذت القرآن أساساً لتطلعاتها ، وآياته مضماراً لاستلهام نتائجها ، فهي حينما تمازج بين الأصوات واللغة ، وتقارب بين اللغة والفكر ، فإنما تتجه بطبيعتها التفكيرية لرصد تلك الأبعاد مسخرة لخدمة القرآن العظيم.

ووجدنا أن جوهر الصوت العربي قد اتسم بالوضوح لأنه يتمثل في قراءة القرآن ، فكان القرآن هو المنطلق الأساس لعلم الأصوات في مجموعتين دراسيتين هما :

الدراسات القرآنية + الدراسات البلاغية.

وأعطينا مجملاً صوتياً لكلا المنهجين.

وكان الفصل الثالث بعنوان : الصوت اللغوي في فواتح السور القرآنية.

وقد بحث بشكل دقيق المفردات الآتية :

١ ـ توجيه القرآن الكريم اهتمام العرب والمسلمين للصوت اللغوي منذ عهد مبكر للإفادة من الزخم الصوتي في اللغة ، وهو يستهل بعض السور القرآنية بجملة محددة من الحروف الهجائية التي تنطق بأصواتها أسماءً ، لا بأدواتها حروفاً للإفادة من صوتيتها لدى الاستعمال دون حرفيتها ، وقد شغل علماء الإعجاز القرآني بالتصنيف الصوتي لهذه الحروف في دلائلها الصوتية ، وأسرارها التركيبة ، واستيعابها لأنواع الأصوات وتقسيماتها كافة مجهورها ومهموسها ، شديدها ورخوها ، مطبقها ومنفتحها إلخ.

٢ ـ وعرض البحث لما أفاض الباقلاني في تقسيمه أصناف هذه الأصوات ، فجعلها مشتملة على كل الأصناف الصوتية في النطق.

٣ ـ وتناول اهتمام الزمخشري بجدولة فواتح السور القرآنية ، وعدد

١٩٨

المهموس والمجهور ، والشديد والرخو، والمطبق والمنفتح ، والمستعلي والمنخفض ، وحروف القلقلة ، فسبرها تفصيلاً وأورد المسميات تخصيصاً بعد تعقب حكمة هذا التركيب ، وفلسفة هذه الأصوات ، فكان الله سبحانه وتعالى قد عدد على العرب الأصوات التي منها تركيب كلامهم إلزاماً للحجة.

٤ ـ ووجد البحث أن الزركشي قد وقف عند الصدى الصوتي لهذه الحروف من عدة وجوه منها :

أ ـ عدد هذه الأصوات فيما ابتدىء به بثلاثة احرف وعلل ذلك صوتياً في المخرج واعتماد اللسان ، واعتبر ذلك مجارياً لأصل مخارج الحروف : الحلق ، اللسان ، الشفتين.

ب ـ تعقب ملاءمة بعض الأصوات لبعضها في فواتح السور.

جـ ـ تنبهه إلى علاقة بدء السورة بصوت ما ، وإشتمال السورة على صورة ذلك الصوت في حروف كلماتها ، أو دلائل عبارتها.

٥ ـ ولم يفت الفصل أن يستقري المراد من هذه الحروف والأصوات في بدايات السور ، وأن يستجلي الحكمة من إيرادها ، وأعطى كشفاً تفصيلياً للآراء المتضاربة أو المتقاربة في ذلك ، وانتهى أنها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه ، ولكن هذا لا يخرجها من جوهرها الإنصاتي فهي من جنس أصوات العرب ، وهي من سنخ حروف معجمهم اللغوي ، ومن روح أصداء لغة القرآن العظيم ، فهي إشارات إلهية لبيان إعجاز القرآن ، وذلك من جملة الفوائد المترتبة على أسرار هذه الحروف.

وكان الفصل الرابع بعنوان : الصوت اللغوي في الأداء القرآني. وقد تناول الموضوعات الآتية :

١ ـ أصول الأداء القرآني في أول إشارة إليه عند أمير المؤمنين الإمام علي7 في معرفة الوقف وتجويد الحرف.

فتحدث عن الوقف في مختلف الوجوه ، وشتى الأحوال ، لا سيما مصطلحاته الفنية عند علماء الأداء.

١٩٩

٢ ـ مهمة الوقف في الأداء القرآني ، وقد عرض فيه إلى شيوع الوقف في فواصل الآي بصورها كافة ، ومقابلة ظواهر الاعراب في علاماتها بالآيات التي تلتزم حرفاً معيناً ، والتي لا تلتزمه في أواخر الفواصل ، وبيان فضله في تناسق العبارة وتقاطرها ، وهي مختلفة في المواقع الاعرابية.

٣ ـ نصاعة الصوت في الأداء القرآني ، وقد تناول نصاعة الصوت في إعطاء الحرف حقه من النطق المحقق الذي لا يشتبه بسواه ، ونشوء مصطلح التجويد ، وابتناء قواعده على مخارج الحروف صوتياً ، مع كشف بتلك المخارج أدائياً.

وكان الحديث عن خصائص كل صوت ، وسمات كل حرف ، تنفيذاً عملياً للآداء القرآني على الوجه الأكمل.

٤ ـ الصوت الأقوى في الأداء القرآني ، وقد عرض لظاهرة الإدغام عرضاً وافياً لمقاربتها من ظاهرة المماثلة عند الأصواتيين المحدثين ، فأبان حدّه وتفريعه وتقسيمه وتنظيره ، وربط بين ذلك وبين شقي المماثلة الرجعية والتقدمية ، وقد ظهر من بين ذلك : أن الصوت القوي هو الذي يحتلّ مساحة النطق ، بدل الصوت الضعيف ، فالصوت الأقوى هو المسيطر على النطق. وعرض لدور أبي عمرو بن العلاء في إرساء قواعد الإدغام والقول به ، وتحدث عن الحروف التي تدغم في أمثالها ، والحروف التي تدغم في مجانسها ومقاربها ، ونظّر لذلك تطبيقاً بكوكبة من آيات القرآن العظيم لكلا النوعين المماثل والمجانس. وقام برصد النتائج الصوتية في حصر الحروف التي تدغم في أمثالها وأجناسها ، وكشف الحروف التي تتدغم ويدغم فيها ، وخلص إلى رصد طائفة من الظوابط الصوتية ، وألحق ذلك بدراسة عن الإظهار ، والإقلاب ، وتوسع في التنظير للإخفاء لكونه حالة بين الإظهار والإدغام.

٥ ـ توظيف الأداء القرآني في الأحكام ، وقد وجد البحث أن أداء القرآن في ضوء التلاوة قد عاد موضوعاً للأحكام الشرعية الدقيقة في ملحظ القراءة بالذات ، وذلك بأداء الحروف من مخرجها ، وأن تكون هيئة كل كلمة موافقة للأسلوب العربي في حركة البنية والسكون والاعراب والبناء والحذف والقلب والادغام والمد الواجب ، وأمثال هذا في عدة ملاحظ ، أمكن رصدها بالآتي :

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215