الصوت اللغوي في القرآن

الصوت اللغوي في القرآن27%

الصوت اللغوي في القرآن مؤلف:
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 215

الصوت اللغوي في القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43246 / تحميل: 5961
الحجم الحجم الحجم
الصوت اللغوي في القرآن

الصوت اللغوي في القرآن

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

ورد في كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان )(١) ثلاث حكايات وقعت ببركة صاحب المقام عجل الله تعالى فرجه الشريففي القرن الثامن الهجري ، لم تقتري الحكاية الأولى بتاريخ لكن الحكايتين التاليتين ورد فيهما تاريخ صريح ، فلنورد الحكاية الأولى ثم الثانية والثالثة تباعاً

وقبل أن ننقل الحكايات الثلاث ، تذكر ترجمة صاحب الكتاب ، وثناء العلماء عليه حتى يتبين لنا صدقه في النقل.

أقول : إن مؤلف كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان ) ، هو السيد بهاء الدين علي ابن السيد غياث الدين عبد الكريم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي غياث الدين(٢) ابن السيد جلال الدين عبد الحميد(٣) بن عبد الله بن أسامة(٤) بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر(٥) بن يحيى ( القائم

__________________

١ ـ نقلاً عن بحار الأنوار / للعلامة المجلسي ( أعلى الله مقامه ).

٢ ـ الذي خرج عليه جماعة من العرب بشط سوراء بالعراق وحملوا عليه وسلبوه فمانعهم عن سلب سراويله فضربه أحدهم فقتله وكان عالماً تقياً.

٣ ـ الذي يروي عنه محمد بن جعفر المشهدي في المزار الكبير وقال فيه : أخبرني السيد الأجل العالم عبد الحميد بن التقي عبد الله بن أسامة العلوي الحسيني رَضيَ اللهُ عَنه في ذي القعدة نم سنة ثمانين وخمسمائة قراءة عليه بحلة الجامعين.

٤ ـ متولّي النقابة بالعراق.

٥ ـ الوئيس الجليل الذي رد الله على يده الحجر الأسود لما نهبت القرامطة مكة في سنة

٦٢

٦٣

بالكوفة ) ابن الحسين ( النقيب الطاهر ابن أبي عاتقة أحمد الشاعر المحدث ) ابن أبي علي عمر بن أبي الحسين يحيى(١) ابن أبي عاتقة الزاهد العابد الحسين(٢) بن زيد الشهيد ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب: النيلي(٣) النجفي النسابة.

وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد المجاز منه في ٧٩١ هـ أدرك أواخر عهد فخر المحققين تـ ٧٧١ هـ والسيدين العلمين عميد الدين وضياء الدين والشهيد محمد بن مكي العاملي ويروي عنهم جميعاً ، كما يروي عن الشيخ المقريء والحافظ شمس الدين محمد بن قارون وغيرهم.

وأما كتابه هذا فقد نقل عنه الشيخ حسن ين سليمان الحلي ( من علماء القرن التاسع ) في كتابه ( مختصر بصائر الدرجات ) ص ١٧٦ ، والعلامة المجلسي; في ( بحار الأنوار ) ، والميرزا الافندي; في ( رياض العلماء ) والبهبهاني; في ( الدمعة الساكبة ).

__________________

ثلاث وعشرين وثلاثمائة وأخذوا الحجر وأتو به إلى الكوفة وعلقوه في السارية السابعة من المسجد التي كان ذكرها أمير المؤمنين7 فإنه قال ذات يوم بالكوفة : لا بد أن يسلب في هذه السارية وأومى إلى السارية السابعة والقصة طويلة وبنى قبة جده أمير المؤمنين7 من خالص ماله.

١ ـ من أصحاب الكاظم7 المقتول سنة خمسين ومثتين الذي حمل رأسه في قوصرة إلى المستعين.

٢ ـ الملقب بذي الدمعة الذي رباه الإمام الصادق7 وأورثه علماً جمّا.

٣ ـ النيل : بلدة تقع على نهر النيل ، وهو يتفرع من نهر الفرات العظمى احتفره الحجاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٢ هـ وهي مركز الإمارة المزيدية قبل تأسيس الحلة.

٦٤

ويظهر من بعض حكايات الكتاب أن تاريخ كتابته سنة ٧٨٩ هـ(١) وللسيد هذا كتب أخرى لا أرى بايراد أسمائها هنا بأساً :

أ ـ كتاب الأنوار المضيّة في الحكم الشرعية.

ب ـ كتاب الغيبة.

جـ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد.

د ـ سرور أهل الإيمان.

هـ ـ كتاب الانحراف من كلام صاحب الكشاف.

و ـ كتاب الأنصاف في الرد على صاحب الكشاف.

ز ـ كتاب شرح المصباح للشيخ الطوسي.

ي ـ كتاب الرجال ( ينسب اليه ).

في الثناء عليه :

قال تلميذه ابن فهد الحلي; تـ ٨٤١ هـ : حدثني المولى السيد السعيد الإمام بهاء الدين

وقال تلميذه الشيخ حسن بن سليمان الحلي; : ومما رواه لي ورويته عنه السيد الجليل السعيد الموفق الموثق بهاء الدين

وقال العلامة المجلسي; : السيد النقيب الحسيب بهاء الدين

وقال الميرزا الافندي; : السيد المرتضى النقيب الحسيب

__________________

١ ـ وللاسف الشديد ان هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن برغم وجود نسخه الخطية في المكتبات العامة فمن قلمنا هذا ندعو مؤسسات النشر والتأليف إلى اخراجه للطبع وطبع كتب هذا السيد الجليل وتحقيقها خدمة للمذهب الإمامي واحياءً لآثار هذا السيد الجليل.

٦٥

النسابة الكامل السعيد الفقيه الشاعر الماهر العالم الفاضل الكامل صاحب المقامات والكرامات العظيمة قدس الله روحه الشريفة كان من أفاضل عصره وقال الميرزا النوري; : السيد الأجل الأكمل الارشد المؤيد العلامة النحرير ،(١) كان حياً سنة ٨٠٠ هـ

الحكاية الأولى :

حكاية أبي راجح الحمامي الشيخ الذي أصبح شاباً

نقل العلامة المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١١ هـ ) في بحار الانوار عن كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الايمان ) تأليف العامل الكامل السيد علي بن عبد الحميد النيلي النجفي ، انه قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع ، وملأ البقاع ، وشهد بالعيان أبناء الزمان ، وهو قصّة أبي راجح الحمامي بالحلة ، وقد حكى ذلك جماعة من الاعيان الاماثل ، وأهل الصدق الافاضل ، منهم الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون سلّمه الله تعالى قال :

كان الحاكم بالحلة شخصاً يدعى مرجان الصغير ، فرفع إليه أنّ أباراجح هذا يسبّ الصحابة ، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه ، حتى انه ضرب على وجهه فسقطت ثناياه ، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد ، وخرق النفه ، ووضع فيه شركة من الشعر وشدّ فيها حبلاً وسلمه الى جماعة من اصحابه ،

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٤ / ص ٨٨ و ١٢٤ ـ ١٣٠ ، خاتمة المستدرك ط ح ص ٤٣٥ ، سفينة البحار ج ٢ / ط. ح / ص ٢٤٨ الذريعة في أجزائها وطبقات أعلام الشيعة.

٦٦

وأمرهم أن يدوروا به أزقّة الحلة ، والضرب يأخذه من جميع جوانبه ، حتى سقط الى الارض وعاين الهلاك ، فأخبر الحاكم بذلك ، فأمر بقتله ، فقال الحاضرون انه شيخ كبير ، وقد حصل له ما يكفيه ، وهو ميّت لما به فاتر كه وهو يموت حتف أنفه ، ولا تتقلّد بدمه ، وبالغوا في ذلك حتى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه ، فنقله أهله في البيت ولم يشكّ أحدّ أنه يموت من ليلته.

فلما كان من الغدغدا عليه الناس فاذا هو قائم يصلّي على أتم حالة ، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت ، واندملت جراحاته ، ولم يبق لها أثر ، والشجّة قد زالت من وجهه!

فعجب الناس من حاله وساءلوه عن أمره فقال : اني لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان اسأل الله تعالى به فكنت اسأله بقلبي واستغثت الى سيدي ومولاي صاحب الزمان7 .

فلما جنّ عليّ الليل فاذا بالدار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزمان7 قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال لي : ( اخرج وكدّ على عيالك ، فقد عافاك الله تعالى ) فأصبحت كما ترون.

وحكى الشيخ شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

وأقسم بالله تعالى إن هذا ابو راجح كان ضعيفاً جداً ، ضعيف التركيب ، اصفر اللون ، شين الوجه ، مقرض اللحية ، وكنت دائماً أدخل في الحمام الذي هو فيه ، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل.

فلما أصبحت كنت ممن دخل عليه ، فرأيته وقد اشتدّت قوته وانتصبت قامته ، وطالت لحيته ، واحمر وجهه ، وعاد كأنّه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتى أدر كته الوفاة.

٦٧

ولما شاع هذا الحبر وذاع ، طلبه الحاكم وأحضره عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة ، وهو الان على ضدّها كما وصفناه ، ولم يرَ لجراحاته أثراً ، وثناياه قد عادت ، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم ، وكان يجلس في مقام الأمام7 في الحلة ويعطي ظهره القبلة الشريفة ، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها ، وعاد يتلطّف بأهل الحلة ، ويتجاوز عن مسيئهم ، ويحسن الى محسنهم ، ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك الا قليلاً حتى مات.(١)

أقول : روحي وأرواح العالمين لك الفداء.

إيه أيتها الجوهرة المحفوفة بالاسرار كم جهلناك وكم بخسناك حقك؟!

كم أغفلنا ذكرك وانشغلنا بغيرك كم سرحنا أفكارنا بعيداً عنك؟

أترك تعطف علينا اليوم بنظرة من تلك التي مننت بها على ذاك الرجل صاحب الحمام ( العمومي ) ، فتمسح قلوبنا بذاك الاكسير؟! فنحن في هذا الحمى.

بحث حول الحكاية :

أقول : إن هذه الحكاية مشهورة ومتواترة النقل في عصر المؤلف السيد بهاء الدين وتناقلها علماء الحلة ، انظر إلى قول السيد في بداية الحكاية ( فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهد بالعيان أبناء الزمان وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق الأفاضل ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧١ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢١٩.

٦٨

في أحوال راوي الحكاية وعصرها :

أقول : إن راوي الحكاية هو شمس الدين محمد بن قارون الذي لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، فللفائدة والاستدراك على الكتب الرجالية نذكر ترجمته :

قال السيد بهاء الدين : انه من الأعيان وأهل الصدق الأفاضل ، وقال عنه أيضاً الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون ،(١) المحترم العامل الفاضل(٢) الشيخ العالم الكامل القدوة المقري الحافظ المحمود المعتمرشمس الحق والدين محمد بن قارون.(٣)

وكما قال عنه الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي ،(٤) وكما وصفه أيضاً الشيخ عز الدين حسن بن عبد الله بن حسن التغلبي بـ ( الشيخ الصالح محمد بن قارون ) ،(٥) كان حياً سنة ٧٥٩ هـ

فهو يعد من مشايخ السيد بهاء الدين ، يعني أن شمس الدين كان بالقطع مععاصراً للشهيد الأول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) فاذن وجود شمس الدين محمد بن قارون في بداية القرن الثامن الهجري حياً وروايته لهذه الحكاية ، يدل على أن الحكاية وقعت في النصف الأول من هذا

__________________

١ ـ انظر : بحار الأنوار / المجلسي; ، ج ٥٢ / ص ٧١.

٢ ـ انظر : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ انظر : جنة المأوى / النوري; ص ٢٠٢.

٤ ـ نسبة إلى ( السيب ) بكسر أوله وسكون ثانيه ، وهو نهر في ذنابة الفرات بقرب الحلة ، وعليه بلد يسمى باسمه.

٥ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد نقلا عن رياض العلماء ج ٢ / ص ١١.

٦٩

القرن السالف الذكر والدليل على ذلك الحكاية الثانية التالية والتي يرويها أيضا شمس الدين محمد بن قارون والحاصلة في سنة ٧٤٤ هـ

وهو غير الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني ، تلميذ السيد فخار بن معد الموسوي المجاز منه سنة ٦٣٠ هـ ( وهي سنة وفاة السيد فخار ) وهو صغير لم يبلغ الحلم وأجازه الشيخ والده أحمد سنة ٦٣٥ هـ وأجازه الشيخ محمد بن أبي البركات اليماني الصنعاني سنة ٦٣٦ هـ والمجيز لنجم الدين طومان بن أحمد العاملي سنة ٧٢٨ هـ فإن هذا الشيخ متقدم على الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي.(١)

تنبيه لكل نبيه :

قال ابن بطوطة في رحلته ( سافرنا من البصرة فوصلنا إلى مشهد علي ابن ابي طالب رَضي اللهُ عَنه وزرنا ، ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان واتفق في بعض الأيام أن وليها بعض الامراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم الى مسجد صاحب الزمان وانتظاره هنالك ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا انما أصابه ذلك لأجل منعه الابة فلم تمنع بعد ).(٢)

أقول : ان كلام ابن بطوطة المتقدم آنفاً هو في زيارته الثانية للحلة ، فابن بطوطة مرَّ في الحلة مرتين الأولى كانت سنة ٧٢٥ هـ في عهد الوالي ( حسن

__________________

١ ـ انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني; ج ١ / ص ٢٢٩ و ٢٢٠.

٢ ـ انظر : رحلة ابن بطوطة ج ٢ / ص ١٧٤.

٧٠

الجلايري ) والثانية بعد عودته من بلاد الهند والصين والتتر وبينهما عدة سنين ، وأظن ان الوالي المذكور في حكاية أبي راجح الحمامي والمذكور في زيارة ابن بطوطة الثانية واحد باعتبار أن عصر الحكايتين واحد وان الوالي المذكور في الحكايتين كان يؤذي أهل الحلة ( فالأمر ليس أمر انتظار صاحب الزمان ولا أمر الدابة ) ، وقد مات بفعله هذا ، وهذا عن أهل الحلة ليس ببعيد ففيهم بقول أمير المؤمنين7 : ( يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرقسمه ).(١)

الحكاية الثانية :

حكاية ابن الخطيب وعثمان والمرأة العمياء التي أبصرت

ونقل من ذلك الكتاب عن الشيخ المحترم العامل الفاضل شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

كان من أصحاب السلاطين المعمر بن شمس يسمى مذوّر ، يضمن القرية المعروفة ببرس ، ووقف العلويين ، وكان له نائب يقال له : ابن الخطيب وغلام يتولّى نفقاته يدعى عثمان ، وكان ابن الخطيب من أهل الصلاح والايمان بالضدّ من عثمان وكانا دائماً يتجادلان ، فاتفق انهما حضرا في مقام ابراهيم الخليل7 بمحضر جماعة من الرّعيّة والعوام فقال ابن الخطيب لعثمان : يا عثمان الان اتضح الحق واستبان ، أنا أكتب على يديّ من أتولاه ، وهم علي والحسي والحسين ، واكتب أنت من تتولاه ابوبكر وعمر وعثمان ، ثم تشدّ يديّ ويدك ، فأيّهما احترقت يده بالنار كان على الباطل ، ومن سلمت يده كان على الحق ، فنكل عثمان ، وأبى أن يفعل ، فأخذ الحاضرون من الرّعيّة

____________

١ ـ انظر : بحار الأنوار المجلسي; ج ٦ / ص ١٢٢.

٧١

والعوان بالعياط عليه ، هذا وكانت ام عثمان مشرفة عليهم تسمع كلامهم فلمّا رأت ذلك لعنت الحضور الذين كانوا يعيّطون على ولدها عثمان وشتمتهم وتهدّدت وبالغت في ذلك فعميت في الحال! فلما أحست بذلك نادت الى رفقائها فصعدن اليها فاذا هي صحيحة العينين! لكن لاترى شيئاً ، فقادوها وأنزلوها ، ومضوا بها الى الحلة وشاع خبرها بين الصحابها وقرائبها وترائبها ، فاحضروا لها الاطباء من بغداد والحلة ، فلم يقدروا لها على شيء ، فقال لها نسوة مؤمنات كنّ أخدانها : ان الذي أعماكِ هو القائم7 فأن تشيعتي وتولّيتي وتبرأتي ( كذا )(١) ضمنّا لك العافية على الله تعالى ، وبدون هذا لا يمكنك الخلاص ، فأذعنت لذلك ورضنبت به ، فلما كانت ليلة الجمعة حملنها حتى أدخلنها القبة الشريفة في مقام صاحب الزمان7 وبتن بأجمعهنّ في باب القبة ، فلما كان ربع الليل فاذا هي قد خرجت عليهنّ وقد ذهب العمى عنها! وهي تقعدهنّ واحدة بعد واحدة وتصف ثيابهنّ وحليَهنَ ، فسررن بذلك ، وحمدنَ الله تعالى على حسن العافية ، وقلن لها : كيف كان ذلك؟! فقالت : لما جعلتنني في القبة وخرجتنّ عني أحسست بيد قد وضعت على يديّ ، وقائل يقول : اخرجي قد عافاك الله تعالى. فانكشف العمى عني ورأيت القبة قد امتلات ونوراً ورأيت الرجل ، فقلت له : من أنت يا سيدي؟ فقال : محمد بن الحسن ، ثم غاب عني ، فقمنَ وخرجنَ الى بيوتهنّ وتشيّع ولدها عثمان وحسن اعتقاده واعتقاد أمه المذكورة ، واشتهرت القصة بين أولئك الأقوام ومن سمع هذا الكلام واعتقد وجود الأمام7 وكان ذلك في سنة أربع واربعين وسبعمائة.(٢)

__________________

١ ـ كذا ورد في المطبوع والاصح ( تشيعتِ وتوليتِ وتبرأتِ ).

٢ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٢ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢٢٠.

٧٢

أقول : حدثت هذه الكرامة سنة ( ٧٤٤ هـ / ١٣٢٣ م ) وراويها محمد بن قارون المتقدم ذكره وترجمته في الحكاية الأولى من هذا الباب.

وبرس : بضم الباء وسكون الراء والسين المهملة ناحية من ارض بابل وهي بحضرة الصرح ( صرح نمرود بن كنعان ) وهي الآن قرية معروفة بقبل الكوفة وينسب إليها الحافظ رجب البرسي; .

ومقام ابراهيم الخليل7 : موجود الى زماننا هذا ويقع بالحلة في تلك القرية ( تشرفت بزيارته انا عدة مرات ).

لحكاية الثالثة :

حكاية شفاء الشيخ جمال الدين الزهدري

وذكر هناك أيضاً : أي ( في كتاب السلطان المفرج عن أهل الايمان ).

ومن ذلك بتأريخ صفر سنة سبعمائة وتسع وخمسين حكي لي المولى الاجل الامجد العالم الفاضل ، القدوة الكامل ، المحقّق المدقّق ، مجمع الفضائل ومرجع الافاضل ، افتخار العلماء في العالمين ، كمال الملة والدين ، عبد الرحمن ابن العمّاني ( كذا ) ، وكتب بخطه الكريم ، عندي ما صورته :

قال العبد الفقير الى رحمة الله تعالى عبد الرحمن بن ابراهيم القبائقي :(١) اني كنت أسمع في الحلة السيفية حماها الله تعالى ان المولى الكبير المعظم جمال الدين ابن الشيخ الاجل الاوحد الفقيه القاريء نجم الدين جعفر ابن الزاهدري كان به فالج ، فعالجته جدّته لأبيه بعد موت أبيه بكل علاج للفالج فلم يبرأ ، فأشار عليها بعض

__________________

١ ـ هكذا ورد في الاصل والصحيح العتالقي.

٧٣

الاطباء ببغداد فأحضرتهم فعالجوه زماناً طويلاً فلم يبرأ ، وقيل لها :ألا تبيّتينه تحت القبة الشريفة بالحلة المعروفة بمقام صاحب الزمان 7 لعل الله تعالى يعافيه ويبرأه ، ففعلت وبيّتته تحتها وان صاحب الزمان7 أقامه وأزال عنه الفالج.

ثم بعد ذلك حصل بيني وبينه صحبة حتى كّنا لم نكد نفترق ، وكان له دار المعشرة ، يجتمع فيها وجوه أهل الحلة وشبابهم وأولاد الاماثل منهم ، فاستحكيته عن هذه الحكاية ، فقال لي :

إني كنت مفلوجاً وعجز الاطباء عني ، وحكى لي ما كنت اسمعه مستفاضاً في الحلة من قضيته وان الحجة صاحب الزمان7 قال لي : ( وقد أباتتني جدّتي تحت القبة ) :قم.

فقلت : ياسيدي لا أقدر على القيام منذ سنتي ، فقال :قم باذن الله تعالى وأعانني على القيام ، فقمت وزال عني الفالج ( أي شلل الاعضاء ).

وانطبق عليّ الناس حتى كادوا يقتلونني ، وأخذوا ما كان عليّ من الثياب تقطيعاً وتنتيفاً يتبرّكون فيها ، وكساني الناس من ثيابهم ، ورحت الى البيت ، وليس بيّ أثر الفالج ، وبعثت الى الناس ثيابهم ، وكنت أسمعه يحكي ذلك للناس ولمن يستحكيه مراراً حتى مات; .(١)

بحث حول الحكاية :

تاريخ الحكاية : أقول ، إنَّ تاريخ نقل هذه الحكاية هو سنة ( ٧٥٩ هـ ـ ١٢٣٨ م ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٣.

٧٤

راوي الحكاية : الشيخ العالم الفاضل المحقق المدقق الفقيه المتبحر كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن ابراهيم ابن العتايقي(١) الحلي الامامي ، كان معاصرا للشهيد الاول; وبعض تلامذة العلامة الحلي; ، وقال البعض انه ادرك العلامة ، وتلمذ على يد نصير الدين علي بن محمد الكاشي تـ ٧٥٥ هـ ، وكان من مشايخ السيد بهاء الدين علي بن عبد الحميد النجفي ، وبروي عن جماعة منهم جمال الدين الزهدري ، توفى بعد سنة ٧٨٨ هـ التي الف فيها كتابه ( الارشاد في معرفة الابعاد ) وهو صاحب التصانيف الكثيرة والموجود بعضها في الخزانة الغروية ، ولا أرى بأماً بايراد اسمائها هنا فله كتاب ( شرح على نهج البلاغة ) وكتاب ( مختصر الجزء الثاني من كتاب الاوائل لأبي هلال العسكري ) وكتاب ( الاعمار ) وكتاب ( الاضداد في اللغة ) وكتاب ( الايضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين ) وكتاب ( اختيار حقائق الخللفي دقائق الحيل ) وكتاب ( صفوة الصفوة ) وكتاب ( اختصار كتاب بطليموس ) وكتاب ( الشهدة في شرح معرف الزبدة ) وكتاب ( الايماقي ) وكتاب ( في التفسير وهو مختصر تفسير القمي ) وكتاب ( الارشاد ) و( الرسالة المفيدة لكل طالب مقدار ابعاد الافلاك والكواكب ) وله ( شرح على الجغميني ) وله ( شرح التلويح ) ، وغيرها من الكتب في شبى أنواع العلوم ، وللأسف الشديد ان كتبه لم تر النور.

_________________

١ ـ العتائقي نسبة الى العتائق قرية بقرب الحلة المزيدية ، وليس بالقبائقي كما في نسخ البحار المطبوعه فانه تصحيف ، كما اني لم ارَّ من الرجاليين من ذكرن بابن العماني بل المشهور انه ابن العتائقي ولعلها تصحيف ايضا او من خطأ النساخ.

٧٥

الى الآن مع كثرتها سوى كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فمن قلمنا هذا ندعو دور النشر والتأليف لأخراج كتبه خدمة للمذهب الامامي واحياء لآثار هذا الشيخ الجليل ، وصرح جمع من العلماء كالسيد محسن الأمين; والشيخ عباس القمي; والشيخ اغا بزرك الطهراني بمشاهدة كتبه في الخزانة الغروبة وكتب أخرى لغيره بخط يده ذكر فيها نسبه وتأريخه من ( ٧٣٨ ـ ٧٨٨ هـ ).(١)

صاحب الحكاية : الشيخ جمال الدين بن نجم الدين جعفر الزهدري ، لم أجد له ذكراً في كتب الرجال وانما وقفت على ترجمة والده الاجل الشيخ جعفر الزهدري صاحب كتاب ( ايضاح ترددات الشرائع )(٢) ويظهر من ثناء ابن العتائقي عليهما ، عظيم منزلتهما وجلالتهما.

وبهذه الحكاية انتهى ما أردنا نقله من حكايات كتاب ( السلطان المفرج عن اهل الايمان ).

الحكاية الرابعة :

حكاية ابن ابي الجواد النعماني

قال العالم الفاضل المتبحّر النقّاد الآميرزا عبد الله الاصفهاني الشهير بالافندي في المجلد الخامس من كتاب ( رياض العلماء

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٣ / ص ١٠٣ ، سفينة البحار ط ج / ج ٢ / ص ١٥٧ ، كذلك الذريعة في اجزائها.

٢ ـ وقد طبع الكتاب في زماننا هذا بجهود العلامة الحجة السيد محمود المرعشي في قم المقدسة وقد رأيت نسخته المطبوعة.

٧٦

وحياض الفضلاء ) في ترجمة الشيخ ابن ابي الجواد النِّعماني(١) انه ممن رأى القائم7 في زمن الغيبة الكبرى ، وروى عنه7 ، ورأيت في بعض المواضع نقلاً عن خط الشيخ زين الدين علي بن الحسن بن محمد الخازن الحائري تلميذ الشهيد انه قد رأى ابن ابي جواد النعماني مولانا المهدي7 فقال له :

يا مولاي لك مقام بالنعمانية ومقام بالحلة ، فأين تكون فيهما؟

فقال له :أكون بالنعمانية ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء ، ويوم الجمعة وليلة الجمعة أكون بالحلة ولكن أهل الحلة ما يتأدّبون في مقامي ، وما من رجل دخل مقامي بالأدب يتأدّب ويسلم عليّ وعلى الأئمة وصلّى عليّ وعليهم اثني عشر (٢) مرة ثم صلى ركعتين بسورتين ، وناجى الله بهما المناجاة إلاّ اعطاه تعالى ما يسأله احدها المغفرة.

فقلت : يا مولاي علمني ذلك.

فقال : قل« اللهم قد أخذ التأديب مني حتى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وان كان ما اقترفته من الذنوب استحق به أضعاف أضعاف ما أدبتني به ، وأنت حليم ذو اناة تعفو عن كثير حتى يسبق عفوك ورحمتك عذابك » وكررها عليّ ثلاثاً حتى فهمتها(٣) .(٤)

__________________

١ ـ النعمانية : بليدة بناها النعمان بن المنذر وتقع بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من اعمال الزاب الاعلى.

٢ ـ هكذا ورد في المطبوع والاصح اثنتي عشرة.

٣ ـ قال المؤلف; : يعني حفظتها.

٤ ـ انظر : النجم الثاقب / النوري; ج ٢ / ص ١٣٨.

٧٧

بحث حول الحكاية :

راوي الحكاية : زين الدين علي بن أبي محمد الحسن بن محمد الخازن الحائري ، تلميذ الشهيد الاول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) وقد أجازه الشهيد الاول سنة ٧٨٤ هـ وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد الحلي ويروي عنه ، وأجازه في سنة ٧٩١ هـ ويعبر عنه بالشيخ علي الخازن الحائري ، وهو من علماء المائة الثامنة ، قال عنه الشهيد الاول; في إجازته له :

المولى الشيخ العالم التقي الورع المحصل العالم بأعباء العلوم الفائق أولي الفضائل والفهوم زين الدين أبو علي(١)

صاحب الحكاية : ابن أبي الجواد النعماني ، لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، سوى ما ترجمه ناقل الحكاية الافندي; في كتابه رياض العلماء الذي فقد معظم مجلداته ، ويظهر من راوي الحكاية الشيخ علي الخازن الذي هو من تلاميذ الشهيد الاول; أنَّ ابن ابي الجواد من طبقة الشهيد الاول ، أي من تلامذة العلامة الحلي; .

أقول : ولا يبعد اتحاده بالشيخ الفاضل العالم المتكلم عبد الواحد بن الصفي النعماني ، صاحب كتاب ( نهج السداد في شرح رسالة واجب الاعتقاد ) الذي نسبه اليه الكفعمي; في حواشي مصباحه ونؤيد ما قلناه آنفاً قول المتبحر الخيبر الافندي; في كتاب رياض العلماء ج ٣ ص ٢٧٩ قال : » وأظن أنه من تلامذة الشهيد أو تلامذة تلامذته « فلاحظ.

__________________

١ ـ انظر : رسائل الشهيد الاول ص ٣٠٤ وطبقات اعلام الشيعة للطهراني; .

٧٨

أقول : ومن خلال هذه الحكاية نستدل على شهرة المقام في ذلك القرن إذ الرجل من النعمانية ويسأله عن مقامه7 في الحلة ويستدل أيضاً على استحباب زيارة المقام الشريف في الحلة في ليلة الجمعة ويومها لوجود الإمام به ، وربما ينفي الزائر للمقام هذا الكلام ، فنقول له : إن الأمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس بغائب ولكن هو غائب عمّن هو غائب عن الله.

وعلى أهل الحلة وغيرهم أن يتأدّبوا بمقامه جلّ التأدب ( فلا لاختلاط الرجال بالنساء في المصلى ، ولا لتبرج النساء ، ولا ) مما يصل الى سوء الادب بمحضر نائب الملك العلام ، فان أهل الحلة أشاد بهم أمير المؤمنين7 وأيّ إشادة ، فليكونوا دئاماً مصداق حديث مولاهم ومولاي علي بن أبي طالب7 .

فقد ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه وقائع ايام ص (٣٠٢) :

روى أصبغ بن نباتة قال : صحبت مولاي أمير المؤمنين7 عند وروده صفين ، وقد وقف على تل ثم أومأالى أجمة ما بين بابل والتل قال :مدينة وأي مدينة.

فقلت له : يامولاي أراك تذكر مدينة أكان هناك مدينة وانمحت آثارُها؟ فقال7 : لا ولكن ستكون مدينة يقال لها الحلة ( السيفية ) يمدتها رجل من بني أسد يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرّ قسمه. (١)

* * *

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ، ٦ / ١٢٢ رواية ٥٥.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل السادس

الدلالة الصوتية في القرآن

١ ـ مظاهر الدلالة الصوتية

٢ ـ دلالة الفزع الهائل

٣ ـ الإغراق في مدّ الصوت واستطالته

٤ ـ الصيغة الصوتية الواحدة

٥ ـ دلالة الصدى الحالم

٦ ـ دلالة النغم الصارم

٧ ـ الصوت بين الشدة واللين

٨ ـ الألفاظ دالة على الأصوات

٩ ـ اللفظ المناسب للصوت المناسب

١٦١

١٦٢

مظاهرالدلالة الصوتية :

انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب ، وتوهج العبارة في منظار حياتهم ، وحدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله ، وتناغم الحروف في تركيبه ، وتعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه ، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات ، وتراكيب البيان متلائمة الأصوات ، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها ، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه ، ومع دلالته السمعية من وجه آخر ، فالذي يستلذه السمع ، وتسيغه النفس ، وتقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة والرقة ، والذي يشرأب له العنق ، وتتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر والشدة ، وهنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً وأيجاباً.

وبيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها ، والتي كونت كلمة معين في النص ، وبين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى ؛ وتتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً ، رقةً أو خشونة ، حتى تدرك بين هذا وذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة ، أو إذكاء الحفيظة ، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية ، ويستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً ، أو بتناغم الكلمة وحدها ، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه.

إن إيقاع اللفظ المفرد ، وتناغم الكلمة الواحدة ، عبارة عن جرس

١٦٣

موسيقى للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن ، أو أثر عند المتلقي ، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية ، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية : « التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها »(١) . فتوحي بأثر موسيقي خاص ، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض ، ويستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته ، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة : الألم ، البهجة ، اليأس ، الرجاء ، الرغبة ، الرهبة ، الوعد ، الوعيد ، الانذار ، التوقع ، الترصد ، التلبث إلخ.

ولا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة ، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة ، تختلف ـ دون شك ـ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه ، مما يجعل كلمة ما دون كلمة ـ وإن اتحدا بالمعنى ، لها استقلاليتها الصوتية ، إما في الصدى المؤثر ، وإما في البعد الصوتي الخاص ، وإما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى ، وإما بإقبال العاطفة ، وإما بريادة التوقع ، فهي حيناً تصك السمع ، وحيناً تهيء النفس ، وحيناً تضفي صيغة التأثر : فزعاً من شيء ، أو توجهاً لشيء ، أو طمعاً في شيء ؛ وهكذا.

هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ ، وهي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة ، تكونت من حروف مختارة ، فشكلت أصواتاً مختارة ، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى ، ومجالات عديدة ، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس والنغم والصدى والإيقاع.

قال الخطابي ( ت : ٣٨٣ ـ ٣٨٨ هـ ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة : « لفظ حاصل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ، ولا أجزل ، ولا أعذب من ألفاظه »(٢) .

__________________

(١) إبراهيم أنيس ، دلالة الألفاظ : ٤٦.

(٢) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : ٢٧.

١٦٤

وهذا مما ينطبق على استيحاء الدلالة الصوتية في القرآن بجميع الأبعاد ، يضاف إليه الوقع السمعي للفظ ، والتأثير النفسي للكلمة ، والمدلول الأنفعالي بالحدث ، وتلك مظاهر متأنقة قد يتعذر حصرها ، وقد يطول الوقوف عند استقصائها.

وكان من فضيلة القرآن الصوتية أن استوعب جميع مظاهر الدلالة في مجالاتها الواسعة ، وتمرس في استيفاء وجوه التعبير عنها بمختلف الصور الناطقة ، وقد يكون من غير الممكن استحضار جميع الصيغ في استعمالات منها ، أو ما يبدو أنه مهم في الأقل ، وذلك باستطراد بعض النماذج النابضة فيما أخال وأزعم ، وقد يعبر كل نموذج منها عن مظهر فني ، ليقاس مثله عليه ، وشبيهه به ، وبذلك يتأتى للباحث والمتلقي إلقاء الضوء الكاشف على أبعاد دلالة القرآن الصوتية ، في تشعب جوانبها ، وعظمة انطلاقها ، مما يكوّن معجماً لغوياً خاصاً بمفرداتها ، وقاموساُ صوتياً حافلاً بإمكاناتها.

سيقتصر حديثنا عن مظاهر الدلالة في مجالات قد تكون متقابلة ، أو متناظرة ، أو متضادة ، أو متوافقة ، وهي بمجموعها تكون أبعاد الدلالة الصوتية في القرآن ، وهذا ما تتكفّل بإيضاحه المباحث الآتية.

دلالة الفزع الهائل :

استعمل القرآن طائفة من الألفاظ ، ثم اختيار أصواتها بما يتناسب مع أصدائها ، واستوحى دلالتها من جنس صياغتها ، فكانت دالة على ذاتها بذاتها ، فالفزع مثلاً ، والشدة ، والهدة ، والاشتباك ، والخصام ، والعنف ، دلائل هادرة بالفزع الهائل والمناخ القاتل.

١ـ قف عند مادة صرخ في القرآن ، وصرخة الصّيحة الشديدة عند الفزع ، والصراخ الصوت الشديد(١) . لتلمس عن كثب ، وبعفوية بالغة : الاستغاثة بلا مغيث ، في قوله تعالى :( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً ) (٢) . مما يوحي بأن الصراخ قد بلغ ذروته ، والاضطراب قد تجاوز

__________________

(١) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : ٤|٢.

(٢) فاطر : ٣٧.

١٦٥

مداه ، والصوت العالي الفظيع يصطدم بعضه ببعض ، فلا أذن صاغية ، ولا نجدة متوقعة ، فقد وصل اليأس أقصاه ، والقنوط منتهاه ، فالصراخ في شدة إطباقه ، وتراصف إيقاعه ، من توالى الصاد والطاء ، وتقاطر الراء والخاء ، والترنم بالواو والنون يمثل لك رنة هذا الاصطراخ المدوي « والاصطراخ الصياح والنداء والاستغاثة : افتعال من الصراخ قلبت التاء طاء لأجل الصاد الساكنة قبلها ، وإنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء والإطباق ، ويوافق التاء في المخرج »(١) .

والإصراخ هو الإغاثة ، وتبلية الصارخ ، وقوله تعالى :( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) (٢) .تعني البراءة المتناهية ، والإحباط التام ، والصوت المجلجل في الدفع ، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً ، ولا ينجي أحدهما الآخر من عذاب الله ، ولا يغيثه مما نزل به ، فلا إنقاذ ولا خلاص ولا صريخ من هذه الهوة ، وتلك النازلة ، فلا الشيطان بمغيثهم ، ولا هم بمغيثيه.

والصريخ في اللغة يعني المغيث والمستغث ، فهو من الأضداد ، وفي المثل : عبد صريخه أمة ، أي ناصره أذل منه(٣) . وقد قال تعالى :( فلا صريخ لهم ولا هم ينفذون ) (٤) . فيا له من موقف خاسر ، وجهد بائر ، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة ، ولا إجارة مما وقعوا فيه.

والاستصراخ الإغاثة ، واستصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ ، وهو الصوت يعلمه بأمر حادث ليستعين به(٥) .

قال تعالى :( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) (٦) . طلب للنجدة في فزع ، ومحاولة للإنقاذ في رهب ، والاستعانة على العدو بما يردعه عن

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٤١٠.

(٢) إبراهيم : ٢٢.

(٣) ابن منظور، لسان العرب : ٤|٣.

(٤) ياسين : ٤٣.

(٥) ابن منظور ، لسان العرب : ٤|٣.

(٦) القصص :١٨.

١٦٦

الإيقاع به ، وما ذلك إلا نتيجة خوف نازل ، وفزع متواصل ، وتشبث بالخلاص.

٢ـ وما يستوحى من شدة اللفظ في مادة «صرخ » يستوحى بإيقاع مقارب من قوله تعالى :( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ) (١) . لتبرز « متشاكسون » وهي تعبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران ، وقد تعطي معناها الكلمة : متخاصمون ، ولكن المثل القرآني لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي أعطت معنى النزاع المستمر ، والجدل القائم ، وقد جمعت في هذه الكلمة حروف التفشي والصفير في الشين والسين تعاقباً ، تتخللهما الكاف من وسط الحلق ، والواو والنون للمد والترنم ، والتأثر بالحالة ، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حمّلها أكثر من معنى الخصومة والجدل والنقاش بما أكسبها أزيزاً في الأذن ، يبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصية بلغت درجة الفورة ، والعنف والفزع من جهة ، كما أحيط السمع بجرس مهموس معين ذي نبرات تؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى.

٣ـ وتأمل مادة «كبّ» في القرآن ، وهي تعني إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى :( فكبت وجوههم في النار ) (٢) . فلا إنقاذ ولا خلاص ولا إخراج ، والوجه أشرف مواضع الجسد ، وهو يهوي بشدة فكيف بباقي البدن.

والأكباب جعل وجهه مكبوباً على العمل ، قال تعالى :( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدا ) (٣) .

والكبكبة تدهور الشيء في هوة(٤) . قال تعالى :( فكبكبوا فيها هم والغاون ) (٥) .

__________________

(١) الزمر : ٢٩.

(٢) النمل : ٩٠.

(٣) الملك : ٢٢.

(٤) الراغب ، المفردات : ٤٢٠.

(٥) الشعراء : ٩٤.

١٦٧

وهذه الصيغة قد حملت اللفظ في تكرار صوتها ، زيادة معنى التدهور لما أفاده الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) بقوله : « إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى »(١) .

وقال العلامة الطيبي ( ت: ٧٤٣ هـ ) :

« كرر الكب دلالة على الشدة »(٢) .

ومن هنا نفيد أن دلالة الفزع فيما تقدم من ألفاظ أريدت بحد ذاتها لتهويل الأمر ، وتفخيم الدلالة ، وهذا أمر مطرد في القرآن ، وقد يمثله قوله تعالى :( فغشيهم من اليم ماغشيهم ) (٣) .

والمادة نفسها قد توحي بشدة الإتيان والتوقع عند النوائب.

الإغراق في مدّ الصوت واستطالته :

هنالك مقاطع صوتية مغرقة في الطول والمد والتشديد وبالرغم من ندرة صيغة هذه المركبات الصوتية في اللغة العربية حتى أنها لتعدّ بالأصابع ، فإننا نجد القرآن الكريم يستعل أفخمها لفظاً ، وأعظمها وقعاً ؛ فتستوحي من دلالتها الصوتية مدى شدّتها ، لتستنتج من ذلك أهميتها وأحقيتها بالتلبث والرصد والتفكير.

من تلك الألفاظ : الحاقّة ، الطّامة ؛ الصّاخة. وقد تأتي مجّردة عن التعريف فتهتدي إلى عموميتها ، مثل : دابّة. كافة.

هذه الصيغة صوتياً تمتاز بتوجه الفكر نحوها في تساؤل ، واصطكاك السمع بصداها المدوي ، وأخيراً بتفاعل الوجدان معها مترقباً : الأحداث ، المفاجئات ، النتائج المجهولة.

الحاقة الطامة والصاخة : كلمات تستدعي نسبة عالية من الضغط الصوتي ، والأداء الجهوري لسماع رنتها ، مما يتوافق نسبياً مع إرادتها في

__________________

(١) الزمخشري ، الكشاف : ١|٤١.

(٢) الطيبي ، التبيان في علم المعاني والبديع والبيان : ٤٧٤.

(٣) طه : ٧٨.

١٦٨

جلجلة الصوت ، وشدة الإيقاع ، كل ذلك مما يوضع مجموعة العلاقات القائمة بين اللفظ ودلالته في مثل هذه العائلة الصوتية الواحدة ، فإذا أضفنا إلى ذلك معناها المحدد في كتاب الله تعالى ، وهو يوم القيامة ، خرجنا بحصيلة علمية تنتهي بمصاقبة الشدة الصوتية للشدة الدلالية بين الصوت والمعنى الحقيقي ، فقوله تعالى :( الحاقة *ما الحاقة *ومآ أدراك ما الحاقة ) (١) . إشارة إلى يوم القيامة ، وعلم عليها فيما أفاد العلماء ، قال الفرّاء ( ت : ٢٠٧ هـ ) : « الحاقة : القيامة ، سميت بذلك لأن فيها الثواب والجزاء »(٢) .

وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) « الحاقة اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين ، وسميت بذلك ، لأنها ذات الحواق من الأمور ، وهي الصادقة الواجبة الصدق ، لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع ، صادقة الوجود. وقيل سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم : حاققته فحققته ، مثل : خاصمته فخصمته »(٣) .

وقيل : لأنها تحق كل إنسان بعمله. ويقال : حقّت القيامة : أحاطت بالخلائق فهي حاقة(٤) . فإذا رصدت الصاخة ، رأيتها القيامة أيضاً ، وبه فسّر أبو عبيدة ( ت : ٢١٠ هـ ) قوله تعالى :( فإذا جآءت الصآخة ) (٥) . فأما أن تكون الصاخة اسم فاعل من صخ يصخ ، وإما أن تكون مصدراً وقال أبو اسحق الزجاج : الصاخة هي الصيحة تكون فيها القيامة تصخ الأسماع، أى : تصمها فلا تسمع.

وقال ابن سيده : الصاخة : صيحة تصخ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدتها ، ومنه سميت القيامة.

ويقال : كأن في أذنه صاخة ، أي طعنة(٦) .

__________________

(١) الحاقة : ١ ـ ٣.

(٢) الفراء ، معاني القرآن : ٣|١٧٩.

(٣) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٤) ظ : الطريحي ، مجمع البحرين : ٥|١٤٧.

(٥) عبس : ٣٣.

(٦) ابن منظور، لسان العرب : ٤|٢.

١٦٩

وقال الطريحي ( ت : ١٠٨٥ هـ ) الصاخة بتشديد الخاء يعني القيامة ، فإنها تصخ الأسماع ، أي تقرعها وتصمها ، يقال : رجل أصخ ، إذا كان لا يسمع(١) . والمعاني كلها متقاربة في الدلالة ، إلا أن الرغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) يعطي الصاخة دلالة أعمق في الإرادة الصوتية المنفردة فيقول : الصاخة شدة صوت ذي المنطق(٢) .

فيكون استعمالها حينئذ في القيامة على سبيل المجاز. فإذا وقفنا عند الطامة ، فهي القيامة تطم على كل شيء(٣) . وإليه ذهب الزجاج : الطامة هي الصيحة التي تطم على كل شيء(٤) . وتسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها : طامة(٥) . قال تعالى :( فإذا جآءت الطامة الكبرا ) (٦) .قال الطبرسي ( ت: ٥٤٨ هـ ) « وهي القيامة لأنها تطم كل داهية هائلة ، أي تعلو وتغلب ، ومن ذلك قيل : ما من طامة إلا وفوقها طامة ، والقيامة فوق كل طامة ، فهي الداهية العظمى »(٧) .

ولعل اختيار الطبرسي للداهية في تفسير الطامة باعتبارها داهية لا يستطاع دفعها ، ولأن القيامة تطم كل داهية هائلة ، لا يخلو من وجه عربي أصيل ، فالعرب استعملت الطامة في الداهية العظيمة تغلب ما سواها ، وأية داهية أعظم من القيامة لا سيما وهي توصف هنا بالكبرا.

إن موافقة أصوات الحاقة والصاخة والطامة لمعانيها في الدلالة على يوم القيامة ، من أعظم الدلالات الصوتية في الشدة والوقع والتلاؤم البنيوي والمعنوي لمثل هذه الصيغة الحافلة.

ودلالة هذه الصيغة في : دابة ، وكافة ، على الشمول والكلية المطلقة يوحي بالمضمون نفسه في الإيقاع الصوتي ، قال تعالى :( وما من دآبة في

__________________

(١) الطريحي ، مجمع البحرين : ٢|٤٣٧.

(٢) الراغب ، المفردات : ٢٧٥.

(٣) الفراء ، معاني القرآن : ٣|٢٣٤.

(٤) ابن منظور ، لسان العرب : ١٥|٢٦٣.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٣.

(٦) النازعات : ٣٤.

(٧) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٤.

١٧٠

الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) (١) فشمل الخلائق كلها ، وأصناف الأجناس المرئية وغير المرئية مما يدب أدركناه أو لم ندركه ، علمنا طبيعة رزقه أو لم نعلم وقوله تعالى :( ومآ أرسلناك إلا كآفة للنّاس بشيرا ونذيرا ) (٢) . يدل أن هذا الرسول العربي الأمين ، لم يختص بزمنية ، ولم يبعث لطبقة خاصة ، فتخطى برسالته حدود الزمان والمكان ، فكانت عالمية السيرورة ، إنسانية الأحياء ، البشارة في يد ، والنذارة في يد ، لينقذ العالم أجمع من خلال هاتين.

الصيغة الصوتية الواحدة :

وظاهرة أخرى جديرة بالعناية والتلبث ، هي تسمية الكائن الواحد ، والأمر المرتقب المنظور ، بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة ، بنسق صوتي متجانس ، للدلالة بمجموعة مقاطعة على مضمونه ، وبصوتيته على كنه معناه ، ومن ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى ، في إطار الفاعل المتمكن ، والقائم الذي لا يجحد.

هذه الصيغة الفريدة تهزك من الأعماق ، ويبعثك صوتها من الجذور ، لتطمئن يقيناً إلى يوم لا مناص عنه ، ولا خلاص منه ، فهو واقع يقرعك بقوارعه ، وحادث يثيرك برواجفه الصدى الصوتي ، والوزن المتراص ، والسكت على هائه أو تائه القصيرة تعبير عما ورائه من شؤون وعوالم وعظات وعبر ومتغيرات في :

الواقعه | القارعة | الآزفة | الراجفة | الرادفة | الغاشية ، وكل معطيك المعنى المناسب للصوت ، والدلالة المنتزعة من اللفظ ، وتصل مع الجميع إلى حقيقة نازلة واحدة.

١ ـ الواقعة ، قال تعالى :( إذا وقعت الواقعه *ليس لوقعتها كاذبة ) (٣) .

____________

(١) هود : ٦.

(٢) سبأ : ٢٨.

(٣) الواقعة : ١ ـ ٢.

١٧١

وقال تعالى :( فيؤمئذ وقعت الواقعة ) (١) .

قال الخليل : وقع الشيء يقع وقوعاً ، أي : هوياً.

والواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر(٢) .

وقال الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه ، والواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه ، وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع : جاء في العذاب والشدائد(٣) .

وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) في تفسيره للواقعة : « والواقعة اسم القيامة كالآزفة وغيرها ، والمعنى إذا حدثت الحادثة ، وهي الصّيحة عند النفخة الأخيرة لقيام الساعة. وقيل سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة ، أو لشدة وقعها »(٤) . وقال ابن منظور ( ت : ٧١١ هـ ) الواقعة : الداهية ، والواقعة النازلة من صروف الدهر ، والواقعة اسم من أسماء يوم القيامة(٥)

وباستقراء هذه الأقوال ، ومقارنة بعضها ببعض ، تتجلى الدلالة الصوتية ، فالوقوع هو الهوي ، وسقوط الشيء من الأعلى ، والواقعة هي النازلة الشديد ، والواقعة هي الداهية ، وهي الحادثة ، وهي الصيحة ، وهي اسم من أسماء يوم القيامة ، وأكثر ما جاء في القرآن من هذه الصيغة جاء في الشدة والعذاب ، وصوت اللفظ يوحي بهذا المعنى ، وأطلاقه بزنة الفاعل ، وإسناده بصيغة الماضي ، يدلان على وقوعه في شدته وهدته ، وصيحته وداهيته.

٢ـ القارعة ، قال تعالى :( القارعة *ما القارعة *ومآ ادراك ما القارعة ) (٦) .

وقال تعالى :( كذبت ثمود وعاد بالقارعة ) (٧) .

قال الخليل ( ت : ١٧٥ هـ ) : والقارعة : القيامة. والقارعة : الشدة.

__________________

(١) الحاقة : ١٥.

(٢) الخليل ، العين : ٢|١٧٦.

(٣) الراغب ، المفردات : ٥٣٠.

(٤) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٢١٤.

(٥) ابن منظور ، لسان العرب : ١٠|٢٨٥.

(٦) القارعة : ١ ـ ٣.

(٧) الحاقة : ٤.

١٧٢

وفلان أمن قوارع الدهر : أي شدائده. وقوارع القرآن : نحو آية الكرسي ، يقال : من قرأها لم تصبيه قارعة.

وكل شيء ضربته فقد قرعته. قال أبو ذؤيب الهذلي(١) .

حتى كأني للحوادث مروة

بصفا المشرق كل يوم تقرع

قال الطبرسي : وسميت القارعة ، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن(٢) . والقارعة اسم من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع ، وتقرع أعداء الله بالعذاب(٣) .

وأنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة(٤) .

وبمقارنة هذه المعاني ، نجدها متقاربة الدلالة ، فالقارعة الشدة ، وقوارع الدهر شدائده ، وكل شيء ضربته فقد قرعته ، والقارعة تقرع القلوب بالفزع ، وقلوب العباد بالمخافة ، وأعداء الله بالعذاب ، وهي في موضع كناية للتعبير عن القيامة ، من أجل التذكير بصفة القرع ، وكلها مفردات إيحائية تؤذن بالقرع في الأذن ، وتفزع القلوب بالشدة ، تتوالى خلالها المترادفات والمشتركات ، لتنتقل بك إلى عالم الواقعة ، وهي مجاورة لها في الشدة والهول والصدى والإيقاع.

٣ ـ الآزفة ، قال تعالى :( أزفة الآزفة *ليس لها من دون الله كاشفة ) (٥) .

وقال تعالى :( وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) (٦) .

قال الراغب : معناه : أي دنت القيامة فعبر عنها بلفظ الماضي لقربها وضيق وقتها(٧) .

__________________

(١) الخليل ، العين : ١|١٥٦.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٣٤٢.

(٣) المصدر نفسه : ٥|٥٣٢.

(٤) المصدر نفسه : ٥|٣٤٣.

(٥) النجم : ٥٧ ـ ٥٨.

(٦) المؤمن : ١٨.

(٧) الراغب ، المفردات : ١٧.

١٧٣

وقال الطبرسي :( وأنذرهم يوم الأزفة ) (١) . أي الدانية. وهو يوم القيامة ، لأن كل ما هو آت دان قريب(٢) .

قال الزمخشري : والآزفة القيامة لأزوفها(٣) .

وفي اللغة : الآزفة القيامة ، وإن استبعد الناس مداها(٤) .

والآزفة : الدانية من قولهم أزف الأمر إذا دنا وقته(٥) .

ورقة الآزفة في لفظها بانطلاق الألف الممدودة من الصدر ، وصفير الزاي من الأسنان ، وانحدار الفاء من أسفل الشفة ، والسكت على الهاء منبعثة من الأعماق ، كالرقة في معناها في الدنو والاقتراب وحلول الوقت ، ومع هذه الرقة في الصوت والمعنى ، إلا أن المراد من هذا الصفير أزيزه ، ومن هذا التأفف هديره ورجيفه ، فادناه يوم القيامة غير إدناء الحبيب ، واقتراب الساعة غير اقتراب المواعيد ، أنه دنو اليوم الموعود ، والحالات الحرجة ، والهدير النازل ، إنه يوم القيامة في شدائده ، فكانت الآزفة كالواقعة والقارعة.

٤ ـ الراجفة والرادفة ، قال تعالى :( يوم ترجف الراجفة *تتبعها الرادفة ) (٦) وتبدأ القيامة بالراجفة ، وهي النفخة الأولى ( تتبعها الرادفة ) وهي النفحة الثانية(٧) .

وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك(٨) .قال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) « الراجفة : الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفحة الأولى ، وصفت بما يحدث بحدوثها ( تتبعها الرادفة ) أي الواقعة التي تردف الأولى ، وهي النفحة الثانية ؛ أي القيامة التي يستعجلها الكفرة ، استبعاداً لها وهي رادفة لهم لا قترابها. وقيل الراجفة : الأرض والجبال من قوله ـ يوم ترجف الأرض والجبال ـ والرادفة

__________________

(١) المؤمن : ١٨.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٥١٨.

(٣) الزمخشري ، أساس البلاغة : ٥.

(٤) ابن منظور ، لسان العرب : ١|٣٤٦.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٥١٨.

(٦) النازعات : ٦ ـ ٧.

(٧) الفراء ، معاني القرآن : ٣|٢٣١.

(٨) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم : ٤|٤٦٧.

١٧٤

السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها إثر ذلك »(١) . وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) الراجفة : يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق ، والراجفة صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمخض ( تتبعها الرادفة ) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى ، وهي التي يبعث معها الخلق(٢) .

وبمتابعة هذه المعاني : النفخة الأولى ، النفخة الثانية ، الصيحة ، التردد ، الاضطراب ، الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال ، الواقعة التي تردف الراجفة ، انشقاق السماء ، انتثار الكواكب ، الرعد إذا تمخض ، بعث الخلائق وانتشارهم إلخ.

بمتابعة أولئك جميعاً يتجلى العمق الصوتي في المراد كتجليه في الألفاظ دلالة على الرجيف والوجيف ، والتزلزل والاضطراب ، وتغيير الكون ، وتبدل العوالم( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) (٣) .

فتعاقبت معالم الراجفة والرادفة مع معالم الواقعة والقارعة والآزفة ، وتناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعاني في الصدى والأوزان.

٥ ـ الغاشية ، قال تعالى :( هل أتاك حديث الغاشية ) (٤) . وهو خطاب للنبي٦ يريد قد أتاك حديث يوم القيامة بغتة عن ابن عباس والحسن وقتادة(٥) .

قال الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) الغاشية كناية عن القيامة وجمعها غواش(٦) .

وقال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) : الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها ، يعني القيامة(٧) .

__________________

(١) الزمخشري ، الكشاف : ٤|٢١٢.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٠.

(٣) ابراهيم : ٤٨.

(٤) الغاشية : ١.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٧٨.

(٦) الراغب ، المفردات : ٣٦١.

(٧) الزمخشري ، الكشاف : ٤|٢٤٦.

١٧٥

وقال ابن منظور ( ت : ٧١١ هـ ) الغاشية القيامة ، لأنها تغشى الخلق بأفزاعها ، وقيل الغاشية : النار لأنها تغشى وجوه الكفار. وقيل للقيامة غاشية : لأنها تجلل الخلق فتعمهم(١) .

وبمقارنة هذه الأقوال ، وضم بعضها إلى بعض ، يبدو أن الغاشية كني بها عن القيامة لأنها تغشى الناس بأهوالها ، وتعم الخلق بأفزاعها ، فهي تجللهم الإحاطة من كل جانب ، وقد تكون هي النار التي تغشى وجوه الكفار ، وهي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها ، وتلبسهم أهوالها إلخ.

إذن ، ما أقرب هذا المناخ المفزع ، والأفق الرهيب لمناخ الواقعة والقارعة والآزفة والراجفة والرادفة ، إنه منطلق واحد ، في صيغة واحدة ، صدى هائل تجتمع فيه أهوالها ، وصوت حافل تتساقط حوله مصاعبها ، تتفرق فيه الألفاظ لتدل في كل الأحوال على هذه الحقيقة القادمة ، حقيقة يوم القيامة برحلتها الطولية ، في الشدائد ، والنوازل ، والقوارع ، والوقائع ، لتصور لنا عن كثب هيجانها وغليانها ، وشمولها وإحاطتها :

( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه *يسئل أيان يوم القيامة *فإذا برق البصر *وخسف القمر *وجمع الشمس والقمر *يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر *إلى ربك يومئذ المستقر ) (٢) .

دلالة الصدى الحالم :

تنطلق في القرآن أصداء حالمة ، في ألفاظ ملؤها الحنان ، تؤدي معناها من خلال أصواتها ، وتوحي بمؤداها مجردة عن التصنيع والبديع ، فهي ناطقة بمضمونها هادرة بإرادتها ، دون إضافة وأضاءة ، وما أكثر هذا المنحنى في القرآن ، وما أروع تواليه في آياته الكريمة ، ولنأخذ عينة على هذا فنقف عند الرحمة من مادة « رحم » في القرآن الكريم بجزء من إرادتها ، ولمح من هديها.

قال تعالى :( أؤلائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ) (٣) .

__________________

(١) ابن منظور ، لسان العرب : ١٩|٣٦٢.

(٢) القيامة : ٥ ـ ١٢.

(٣) البقرة : ١٥٧.

١٧٦

وقال تعالى :( لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ) (١) .

وقال تعالى :( فبما رحمة من الله لنت لهم ) (٢) .

وقال تعالى :( كهيعص *ذكر رحمت ربك عبده زكريا ) (٣) .

وقال تعالى :( قال رب أغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك ) (٤) .

وقال تعالى :( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمها كما ربياني صغيرا ) (٥) .

فأنت تنادي من صدى « الرحمة » بأزيز حالم ، وتحتفل من صوتها بنداء يأخذ طريقه إلى العمق النفسي ، يهز المشاعر ، ويستدعي العواطف ، ناضحاً بالرضا والغبطة والبهجة ، رافلاً بالخير والإحسان والحنان ، فماذا يرجو أهل الإيمان أكثر من اقتران صلوات ربهم برحمته بهم وعليهم ، ولمغفرة من الله تعالى ورحمة خير مما تجمع خزائن الأرض وكنوزها ، وهذا محمد٦ ذو الخلق العظيم ، والمخائل الفذة ، لولا رحمة ربه لما لإن لهؤلاء القوم الأشداء في غطرستهم وغلظتهم ، وهذا زكريا تتداركه رحمة من الله وبركات في أوج احتياجه وفزعه إلى الله عزّ وجل :( إذ نادى ربه نداءً خفيا ) (٦) .

فيهب له يحيى( والله يختص برحمته من يشاء ) (٧) .

ووقفة مستوحية عند الأبوين الكريمين( وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمها كما ربياني صغيرا ) (٨) . فستلمس صيغة الرحمة قد تجلت بأرق مظاهرها الصادقة وأرقاها ، توجيه رحيم ، واستعارة هادفة ، وعاطفة مهذبة ، فقد اقترنت الرحمة بالاسترحام ، وخفض الجناح بتواضع بل بذل إشفاقاً وحنواً وحدباً ، فكما يخفض الطائر الوجل أو المطمئن السارب جناحيه حذراً أو عطفاً أو احتضاناً لصغاره حباً بهم ، أو صيانة لهم من كل الطوارىء ، أو هما معاً ، فكذلك رحمة الولد البار بوالديه شفقة ورعاية ، مواساة ومعاناة ، في حالتي الصحة والسقم ، الرضا والغضب ،

__________________

(١) آل عمران : ١٥٧.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

(٣) مريم : ١ ـ ٢.

(٤) الأعراف : ١٥١.

(٥) الإسراء : ٢٤.

(٦) مريم : ٣.

(٧) البقرة : ١٠٥.

(٨) الإسراء : ٢٤.

١٧٧

الدعة والاحتياج ، يضاف إلى ذلك الدعاء من الأعماق « وقل رب ارحمها » مجازاة على تربيته صغيراً ، والرحمة ، وارحمها ، لفظان متلازمان في بحة الحاء المنطلقة من الصدر فهي صوتياً مثلها دلالياً من القلب وإلى القلب ، ومن الشغاف إلى الشغاف ، وهنا يظهر أن الرحمة ظاهرة واقعية تنبعث من داخل النفس الإنسانية ، فيتفجر بها الضمير الحي النابض بالطهارة والنقاء والحب السرمدي ، فهي إذن لا تفرض من الخارج بالقوة والقهر والإستطالة ، وإنما سبيلها سبيل الماء المتدفق من الأعالي لأنها صفة ملائكية ، تمزج الإنسانية بالصفاء الروحي.

« والرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة ، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة نحو : رحم الله فلاناً. وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة ، وعلى هذا روي أن الرحمة من الله إنعام وإفضال ، ومن الآدميين رقة وتعطف »(١) .

فالله تعالى تفرد بالإحسان في رحمته إلى رعيته ، فجاء له الحمد مساوقاً لهذه الرحمة( الحمد لله رب العالمين *الرحمن الرحيم ) (٢) . ونشر الرقة بين البشر في الطباع( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) (٣) .

ولو تابعنا أصل المادة لغوياً لوجدنا ملاءمتها للمعنى صوتياً في الرقة واللحمة والتناسب ، فالرحم رحم المرأة ، قل تعالى :( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشآء ) (٤) . ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم من رحم واحدة نسبياً ، لذلك قال تعالى :( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) (٥) . ولولا قرابتهم لما كانت الولاية بينهم.

فكان الالتصاق في الرحم قد نشر الالتصاق بالولاية من جهة ، وجدد الرحمة بالرقة والمودة والعطف الكريم.

__________________

(١) الراغب : المفردات : ١٩١.

(٢) الفاتحة : ٢ ـ ٣.

(٣) الفتح : ٢٥.

(٤) آل عمران : ٦.

(٥) الأنفال : ٧٥.

١٧٨

دلالة النغم الصارم :

أصوات الصفير في وضوحها ، وأصداؤها في أزيزها ، جعل لها وقعاً متميزاً ما بين الأصوات الصوامت ، وكان ذلك ـ فيما يبد ولي ـ نتيجة التصاقها في مخرج الصوت ، واصطكاكها في جهاز السمع ، ووقعها الحاصل ما بين هذا الالتصاق وذلك الاصطكاك ، هذه الأصوات ذات الجرس الصارخ هي : الزاي ، السين ، الصاد ، يلحظ لدى استعراضها أنها تؤدي مهمة الإعلان الصريح عن المراد في تأكيد الحقيقة ، وهي بذلك تعبر عن الشدة حيناً ، وعن العناية بالأمر حيناً آخر ، مما يشكل نغماً صارماً في الصوت ، وأزيزاً مشدداً لدى السمع ، يخلصان إلى دلالة اللفظ في إرادته الاستعمالية ، ومؤداه عند إطلاقه في مظان المعنى.

وسأقف عند ثلاث صيغ قرآنية ختمت بحروف الصفير ، لرصد أبعادها الصوتية ؛ هي : « رجز » و « رجس » و « حصحص ».

١ـ الرجز ، في مثل قوله تعالى :( أولآئك لهم عذاب من رجز أليم ) (١) .

وقوله تعالى :( لئن كشفت عنا الرجز ) (٢) .

وقوله تعالى :( فلمّا كشفنا عنهم الرجز ) (٣) .

ويظهر في أصل الرجز الاضطراب لغة ، فتلمس فيه الزلزلة في ارتجاجها ، والهدة عند حدوثها ، والنازلة في وقوعها ، ولما كان القرآن العظيم يفسر بعضه بعضها ، فإننا نأنس على هذه المعاني في كل من قوله تعالى :

( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء ) (٤) .

وقوله تعالى :( فأرسلنا عليهم رجزاً من السّماء بما كانوا يظلمون ) (٥) .

__________________

(١) سبأ : ٥.

(٢) الأعراف : ١٣٤.

(٣) الأعراف : ١٣٥.

(٤) البقرة : ٥٩.

(٥) الأعراف : ١٦٢.

١٧٩

وقوله تعالى :( إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كاموا يفسقون ) (١) . ونستظهر في الرجز الإرسال والإنزال من السماء بضرس قاطع وأمر كائن باعتبار آخر العلاج بعد التحذير والإنذار.

٢ ـ وحينما نقارن لفظ « الرجز » بمثيله معنى ومبنى « رجس » وهي مكونة كتكوينها في الراء والجيم ، والسين كالزاي من حروف الصفير شديدة الاحتكاك في مخرج الصوت ، ولها ذات الإيقاع على الأذن ؛ حينما نقارن صوتياً ودلالياً بين الصوتين نجد المقاطع واحدة عند الانطلاق من أجهزة الصوت ، ونجد المعاني متقاربة في الإفادة ، فقد قيل للصوت الشديد : رجس ورجز ، وبعير رجاس شديد الهدير ، وغمام راجس ورجاس شديد الرعد.

قال تعالى :( قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ) (٢) .

وقال تعالى :( ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) (٣) .

كل هذه الاستعمالات متواكبة دلالياً في ترصد العذاب وصبّه وإنزاله ، وهذا لا يمانع من أن تضاف للرجس جملة من المعاني الأخرى لإرادة الدنس والقذارة ومرض القلوب ، وحالات النفس المتقلبة ، نرصد ذلك في كل من قوله :( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) (٤) .

وقال تعالى :( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) (٥) .

وقال تعالى :( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (٦) .

وقال تعالى :( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وما توا وهم كافرون ) (٧) .

__________________

(١) العنكبوت : ٣٤.

(٢) الأعراف : ٧١.

(٣) يونس : ١٠٠.

(٤) المائدة : ٩٠.

(٥) الحج : ٣٠.

(٦) الأحزاب : ٣٣.

(٧) التوبة : ١٢٥.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215