الصوت اللغوي في القرآن

الصوت اللغوي في القرآن27%

الصوت اللغوي في القرآن مؤلف:
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 215

الصوت اللغوي في القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43233 / تحميل: 5960
الحجم الحجم الحجم
الصوت اللغوي في القرآن

الصوت اللغوي في القرآن

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

في المهموسات فلا تتغير ، وهو لا يتحقق في المجهورات ، ويستعاض في تمييزها على ما يسميه بصوت الصدر. « ولعل هذا الصوت هو صدى الذبذبات التي تحدث في الوتريين الصوتيين بالحنجرة »(١) .

وتشبيه ابن جني لجهاز النطق بالناي في انفتاحه وانطباقه تارة ، وبوتر العود في تشكيله الأصداء المختلفة والأصوات المتنوعة « إلا أن الصوت الذي يؤديه الوتر غفلاً غير محصور فالوتر في هذا التمثيل كالحلق ، والخفقة بالمضراب عليه كأول الصوت من أقصى الحلق ، وجريان الصوت فيه غفلاً غير محصور كجريان الصوت في الألف الساكنة »(٢) .

يمكن أن يفيد الباحث منه إشارته للوترين الصوتيين في حالة الصوت المجهور الذي يحركهما عند الانفتاح ، وحالة الصوت المهموس الذي لا يحركهما عند الانطباق ؛ هذا في تشبيه جهاز النطق بالمزمار. وفي شكيل مجموعة الأصداء المتفاوتة عند ضرب أو حصر آخر الوتر من قبل ضارب العود.

هذا وذاك مما يدلنا على معرفة علماء العربية بالوترين الصوتيين ولو على وجه الإجمال في الإدراك.

وثم تقسيم هائل للأصوات باعتبار مخارجها ، وقد امتاز بابتكاره الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت : ١٧٥ هـ ) وهو في نظرنا من أدق مبتكراته ، لأنه انطلق مع الأصوات من مخارجها ، وحقق القول في مساحاتها ، ووضع كل صوت موضعه في تتبع فريد لم يستطع العلم الحديث أن يتخطاه بكل أجهزته المتخصصة والأهم من هذا أن الأدمغة المبدعة في أوروبا لم تستطيع الخروج على مسميات الخليل الصوتية ، ولم تخالفه إلا فيما يتعلق بتقعيد بعض المصطلحات دون تغيير حقائقها بما يتناسب مع اللغة التي انتظمت عليها ، ومع ذلك فهي الأصل الأول لمصطلحات أقسام الأصوات التي سبق إليها الخليل في تطبيق التسميات منطلقة من مسمياتها التي تحدث تلك الأصوات.

__________________

(١) إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : ١٢٣.

(٢) ابن جني ، سر صناعة الاعراب : ٩ـ ١٠.

٢١

يمكن القول بأن تقسيم الأصوات عند الخليل بالإضافة إلى مخارجها ؛ تشتمل على مخطط تفصيلي لعملية إخراج الأصوات وإحداثها ، في شتى تقلباتها المكانية بدءاً من الرئتين في تدفق الهواء وانتهاء بالشفتين عند الميم ، تضاف إليها المميزات الأخرى والخصائص المتعلقة بالأصوات وفضائها ، وفي المستطاع تصنيف مناطق انطلاق الأصوات كما خططه الخليل على النحو الآتي :

١ ـ الذلق : تخرج من ذلق اللسان ، وهو تحديد طرفي اللسان أو طرف غار الفم ، وهي : ( ر. ل. ن ).

٢ ـ الشفوية : تخرج من بين الشفتين خاصة ( ف. ب. م ).

٣ ـ الحلق : مبدؤها من الحلق ( ع. ح. هـ. خ. غ ).

٤ ـ أقصى الحلق : الهمزة وحدها ، ومخرجها من أقصى الحلق مهتوتة مضغوطة.

٥ ـ الجوف : مخرجها من الجوف هاوية في الهواء وهي : ( الياء والواو والألف والهمزة ).

٦ ـ حروف اللين : مخرجها من الرئتين ( ي. و. ا ).

٧ ـ اللهوية : مبدؤها من اللهاء ( ق. ك ).

٨ ـ الشجرية : مبدؤها من شجر الفم ، أي : مخرج الفم ( ج. ش. ض ).

٩ ـ الأسلية : مبدؤها من أسلة اللسان ، وهي مستدق طرف اللسان ( ص. س. ز ).

١٠ ـ النطعية : مبدؤها من نطع الغار الأعلى ( ط. ت. د ).

١١ ـ اللثوية : مبدؤها من اللثة ( ظ. ذ. ث ).

ويضيف إلى هذه الأقسام نوعين من الأصوات هما :

أ ـ الصحاح وهي خمسة وعشرون حرفاً عدا الجوف.

ب ـ الهوائية وهي الياء والواو والألف والهمزة لأنها لا يتعلق بها

٢٢

شيء(١) . إن هذا النحو المستفيض لطبيعة تقسيم الأصوات ، وتبويب ذلك في مجالات متعددة ، تتلمس حقيقة الصوت مرة كما في الصوائب والصوامت ، وتنظر علاقة الصوت بوتري الصوت مرة كما في المجهور والمهموس ، وتراعي مخارج الأصوات بالنسبة لأجهزة النطق أو التصويت بعامة ، إن هو إلا أصالة صوتية لا تدانيها أصالة بالنسبة لبيئة انطلاق هذه المعلومات معتمدة على النظر والحس والتمحيص الشخصي ، دون الاستعانة بأي رعيل من الأجهزة أو المختبرات.

نتيجة هذا الجهد الشخصي لعلماء العربية ، وصفت لنا شخصية كل صوت باستقلالية تامة ، وذلك كل ما توصل إليه الأوروبيين بعد جهد وعناء ومثابرة جماعية لا فردية.

يقول إبراهيم أنيس « ولقد كان للقدماء من علماء العربية بحوث في الأصوات اللغوية شهد المحدثون الأوروبيين أنها جليلة القدر بالنسبة إلى عصورهم ، وقد أرادوا بها خدمة اللغة العربية والنطق العربية ، ولا سيما في الترتيل القرآني ، ولقرب هؤلاء العلماء من عصور النهضة العربية ، واتصالهم بفصحاء العرب كانوا مرهفي الحس ، دقيقي الملاحظة ، فوصفوا لنا الصوت العربي وصفاً أثار دهشة المستشرقين وإعجابهم »(٢) .

وكان الوصف ما رأيت في الأقسام السالفة.

تطور الصوت اللغوي :

تنتاب اللغات الحية تطورات أصواتية ، تنشأ عنها تغيرات أساسية في اللغات ، فيخيم عن ذلك تغيير ملحوظ بطبيعة الصيغ الكلامية ، ويحدث تطوير في الوحدات التركيبية ، وأهم من ذلك ما ينشأ من تغيير في الأصوات ، يمكن حصره باختصار كبير في عاملين أساسيين هما : التحوّل التأريخي والتحول التركيبي.

التحول التأريخي عبارة عن تغيير وتحوير في القواعد والأصول لنظام

__________________

(١) قارن في هذا عند الخليل ، العين : ٥١ ـ ٦٠.

(٢) إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : ٥.

٢٣

الأصوات في اللغة ، نابع عن تحولات المجتمعات البشرية من ساذجة إلى متطورة ، أو من بدائية إلى متحضرة ، وما يرافق هذا التحول من تحول بالعلاقات الاجتماعية ، والمناخ القومي العام ، مما ينطبع أثره على الظواهر الاجتماعية وأبرزها اللغة لأنها أكبر ظواهره التفاهمية والتخاطبية ، فتتحول تدريجياً إلى لغة متطور في كثير من أبعادها المرتبطة بتطور مجتمعها ، إذ لا يمكن أن ينفصل التفكير في تحول مسار لغة ما عن التفكير في تحوّل مسار متكلمي تلك اللغة ، فاللغة في تطورها جزء لا يتجزأ من المحيط في تطوره ، وليس بالضرورة التطور إلى الأفضل بل قد تتطور اللغة إلى شيء آخر يعود بها التدهور والانحطاط ، تفقد فيه جملة من خصائصها الفنية أو الصوتية أو الجمالية ، وتنسلخ فجأة عن ملامحها الذاتية وتستبدلها بما هو أدنى قيمة لغوية.

وقد تزدهر ازدهاراً يفوق حد التصور إذا كانت بسبيل من حماية أصالتها كما هي الحال في اللغة العربية إذ يحرسها القرآن العظيم.

التحول التأريخي هذا لا يعنينا الاهتمام بأمره كثيراً في ظاهرة الصوت اللغوي ، وإنما تعنى هذه الدراسة بالشق الآخر من التحول وهو التحول التركيبي الذي ينشأ عادة نتيجة لظواهر تغيير أصوات اللغة الواحدة ، واستبدال صوت منها بصوت آنياً أو دائمياً ، فما استجاب للإبدال الصوتي الموقت يطلق عليه مصطلح المماثلة ، وما استجاب للإبدال الصوتي الدائم يطلق عليه مصطلح المخالفة. هذا ما يبدو لي في التحول التركيبي ، وهذه علة هذين المصطلحين ، وقد يوافق هذا الفهم قوماً ، وقد لا يرتضيه قوم آخرون ، ولكنه ما توصلت إليه في ظاهرتي المماثلة والمخالفة في التراث العربي واللغة منه بخاصة.

أ ـ المماثلة : Assimilation ، ظاهرة أصواتية تنجم عن مقاربة صوت لصوت ، فكلما اقترب صوت من صوت آخر ، اقتراب كيفية أو مخرج ، حدثت مماثلة ، سواء ماثل أحدهما الآخر أو لم يماثله.

والمماثلة أنواع أبرزها :

١ ـ المماثلة الرجعية ، ومعناها : أن يماثل صوت صوتاً آخر يسبقه.

٢٤

٢ ـ المماثلة التقدمية ، ومعناها : أن يماثل الصوت الأول الصوت الثاني.

٣ ـ المماثلة المزدوجة ، ومعناها : أن يماثل صوت الصوتين اللذين يحوطانه(١) .

والمماثلة في أنواعها متناسقة الدلالة في اللغة العربية في حالات الجهر والهمس ، والشدة والرخاوة ، والانطباق والانفتاح ، مما يتوافر أمثاله في مجال الصوت ، وتنقل مجراه.

إن انتقال حالة الجهر في الصوت العربي إلى الهمس في المماثلة الرجعية شائع الاستعمال في أزمان موقوتة لا تتعداها أحياناً إلى صنعة الملازمة والدوام ، وإنما تتبع حالة المتكلم عند الممازجة بين الأصوات أو في حالة الإسراع ، وهناك العديد من الكلمات العربية قد أخضعت لقانون المماثلة الرجعية ، وهي أوضح فيما اختاره عبدالصبور شاهين ، فالكلمة ( أخذت ) مثلاً مما نظّر له عنها ، ( أخذت ) حينما تنطق آنياً ( أخَتُ ) فقد آثرت التاء في ( أخذت ) وهي مهموسة ، في الذال قبلها وهي مجهورة ، فأفقدتها جهرها ، وصارت مهموسة مثلها ، وتحولت إلى تاء ، ثم أدغم الصوتان.

أما عن المماثلة التقدمية ، فإن في العربية باباً تقع فيه هذه المماثلة بصورة قياسية ، في صيغة « افتعل ـ افتعالاً » حيث يؤثر الصامت الأول في الثاني ، قال تعالى :( واًدّكَرَ بَعدَ أمَّة أنَا أنَبّئُكُم بتَأويله فَأَرسلُون ) (٢) . الفعل : هو ذكر ، وصيغة ( افتعل ـ افتعالاً ) منه ( إذتكر ـ إذتكاراً ) إذ تزاد الألف في الأول ، والتاء تتوسط بين فاء الفعل وعينه ، فيكون الفعل ( إذتكر ) والذال مجهورة ، والتاء مهموسة ، فتأثرت التاء بجهر الذال ، فعادت مجهورة ، والتاء إذا جهر بها عادت دالاً ، فتكون : ( إذ دكر ) والدال تؤثر في الذال بشدتها ، فتتحول الذال من صامت رخو إلى صامت شديد ( دال ) ثم تدغم الدالان ، فتكون « إدَّكَرَ »(٣) .

__________________

(١) ظ : مالمبرج ، علم الأصوات : ١٤١بتصرف وأختصار.

(٢) يوسف : ٤٥.

(٣) ظ : عبد الصبور شاهين ، علم الأصوات الدراسة : ١٤٥ بإضافة وتصرف.

٢٥

ب ـ وأما المخالفة : Dissimilation فتطلق عادة على أي تغيير أصواتي يهدف إلى تأكيد الاختلاف بين وحدتين أصواتيتين ، إذا كانت الوحدات الأصواتية موضوع الخلاف متباعدة(١) أو تؤدي إلى زيادة مدى الخلاف بين الصوتين(٢) .

وقد وهم الدكتور إبراهيم أنيس; بعدّه علماء العربية القدامى لم يفطنوا لظاهرة المخالفة في الأصوات ولم يعنوا بها عناية بالغة(٣) .

بينما يدل الاستقراء المنهجي لعلم الأصوات عند العرب أن قوانين علم الصوت العربي لم تفتها ظاهرة المخالفة بل تابعتها بحدود متناثرة في كتب اللغة والنحو والتصريف ، وهو ما فعله علماء العربية في التنظير للمخالفة تارة ، وبدراستها تارة اخرى ، منذ عهد الخليل بن أحمد ( ت : ١٧٥ هـ ) حتى ابن هشام الأنصاري ( ت : ٧٦١ هـ ).

يقول الدكتور عبد الصبور شاهين « عرفت العربية ظاهرة المخالفة في كلمات مثل : تظنّن ، حيث توالت ثلاث نونات ، فلما استثقل الناطق ذلك تخلص من أحدها بقلبها صوت علة فصارت : تظنى ولها أمثلة في الفصحى مثل : نفث المخ : أنفثته نفثاً ، لغة في نقوته ، إذا استخرجته ، كأنهم أبدلوا الواو تاءّ »(٤) .

وهذا ما ذهب إليه الأستاذ فندريس في ظاهرة المخالفة صوتياً ، وكأنه يترجم تطبيق العرب بأن « يعمل المتكلم حركة نطقية مرة واحدة ، وكان من حقها أن تعمل مرتين »(٥) . فإذا تركنا هاتين الظاهرتين إلى مصطلحين صوتيين آخرين يعنيان بمسايرة تطور الصوت في المقطع أو عند المتكلم ، وهما : النبر والتنغيم ، لم نجد العرب في معزل عن تصورهما تصوراً أولياً إن لم يكن تكاملياً ، وإن لم نجد التسمية الاصطلاحية ، ولكننا قد نجد مادتها التطبيقية في شذرات ثمينة.

__________________

(١) ظ : مالمبرج ، علم الأصوات : ١٤٨.

(٢) ظ : تمام حسان ، مناهج البحث في اللغة : ١٣٤.

(٣) ظ : إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : ٢١١.

(٤) عبد الصبور شاهين ، علم الأصوات الدراسة : ١٥٠.

(٥) فندريس ، اللغة : ٩٤.

٢٦

النبر يُعنى عادة بمتابعة العلو في بعض الكلمات لأنه لا يسم وحدة أصواتية واحدة ، بل منظومة من الوحدات الأصواتية(١) .

والتنغيم ـ كما أفهمه ـ يعني عادة بمتابعتة صوت المتكلم في التغيرات الطارئة عليه أصواتياً بما يلائم توقعات النفس الإنسانية للتعبير عن الحالات الشعورية واللاشعورية.

وكان المستشرق الألماني الدكتور براجشتراس قد وقف موقف المتحير حيناً ، والمتسائل حيناً آخر ، من معرفة علماء العربية بمصطلح النبر ، فهو لم يعثر على نص يستند عليه ، ولا أثر يلتجىء إليه في إجابة العربية عن هذا الأمر(٢) .

والحق أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود كما يقال ؛ غير أن القدماء من العرب لم يدرسوا النبر في تأثيره في اللغة ، بل لأنه يعنى بضغط المتكلم على الحرف ، وبذلك ربطوه بالتنغيم أحياناً ، وبالإيقاع الذي يهز النفس ، ويستحوذ على التفكير ، وقد اختار عبد الصبور شاهين مقطعاً من خطبة تروى لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب٧ أثبتها وعقب عليها ، قال الإمام علي فيما روي عنه : « من وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال : فيم؟ فقد ضمَّنه ، ومن قال : علام؟ فقد أخفى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزاولة ». وللقارىء أن يتخيل أداء هذه الجمل المتتابعة موقعة على نحو يشد إليها أسماع الناس ، ويستأثر بإعجابهم »(٣) .

الحق أن اللحاظ المشترك بين النبر والتغنيم عند العرب القدامى يجب أن يكون موضع عناية من الناحية النظرية ، مع فرض توافره تطبيقاً

__________________

(١) ظ : مالمبرج ، علم الأصوات : ١٨٧.

(٢) ظ : براجشتراسر ، التطور النحوي : ٤٦.

(٣) عبد الصبور شاهين ، علم الأصوات الدراسة : ٢٠٠.

٢٧

قرأنياً في سور متعددة ، وخطابياً عند النبي٧ والأئمة والصحابة وفصحاء العرب في جملة من الخطب.

اتضح لزميلنا الدكتور خليل العطية أن ابن جني ( ت : ٣٩٢ هـ ) في عبارته ( التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم )(١) يمكن أن يشار عنده بها إلى مصطلحي النبر والتنغيم ، بما تتفتّق معاني ألفاظ العبارة من دلالات لغوية فقال :

« وتشير ألفاظ التطويح والتطريح والتّفخيم من خلال معانيها اللغوية إلى رفع الصوت وانخفاضه والذهاب به كل مذهب ، وهي على هذا إشارة الى النبر ، وليس النبر غير عملية عضوية يقصد فيها ارتفاع الصوت المنبور وانخفاضه ، كما أن تمطيط الكلام ، وزوي الوجه وتقطيبه ، مظهر من المظاهر التي تستند عليها ظاهرة التنغيم »(٢) .

فإذا نظرنا إلى تعريف التنغيم عند الأوروبيين بأنه « عبارة عن تتابع النغمات الموسيقية أو الإيقاعات في حدث كلامي معين »(٣) ، ثبت لدينا أن هذا التعريف الفضفاض لا يقف عند حدود في التماس ظاهرة التنغيم وضبطها ، لأن تتابع النغمات والإيقاعات بإضافتها إلى الحدث الكلامي تختلف في هبوطها وصعودها نغماً وإيقاعاً ، فهي غير مستقرة المستويات حتى صنف مداها عند الدكتور تمام حسان إلى اربعة منحنيات : « مرتفع وعال ومتوسط ومنخفض »(٤) .

ومعنى هذا أن ليس بالإمكان قياس مسافة التنغيم ليوضع له رمز معين ، أو إشارة معلمة عند العرب ، لهذا فقد كان دقيقاً ماتوصل إليه زميلنا الدكتور طارق الجنابي باعتباره التنغيم « قرينة صوتيية لا رمز لها ، أو يعسر أن تحدد لها رموز ، ومن ثم لم يكن موضع عناية اللغويين القدامى ، ولكنه وجد من المحدثين اهتماماً خاصاً بعد أن أضحت اللغات المحكية

__________________

(١) ابن جني ، الخصائص : ٢|٣٧٠.

(٢) خليل إبراهيم العطية ، في البحث الصوتي عند العرب : ٦٧ وما بعدها.

(٣) ماريو باي ، أسس علم اللغة : ٩٣.

(٤) ظ : تمام حسان ، اللغة العربية معناها ومبناها : ٢٢٩.

٢٨

موضع دراسة في المختبرات الصوتية »(١) .

وفقدان موضع العناية لا يدل على فقدان الموضوع ، فقد كان التنغيم مجال دراسة لجملة من فنون العربية في التراكيب والأساليب ، في تركيب الجملة لدى تعبيرها عن أكثر من حالة نفسية ، وأسلوب البيان لدى تعبيره عن المعنى الواحد بصور متعددة ، وهذا وذاك جزء مهم في علمي المعاني والبيان نحواً وبلاغة ؛ وهي معالم أشبعها العرب بحثا وتمحيصاً ، وإن لم يظهر عليها مصطلح التنغيم.

__________________

(١) طارق عبد عون الجنابي ، قضايا صوتية في النحو العربي : « بحث ».

٢٩

نظرية الصوت اللغوي

وليس جديداً القول بسبق العرب إلى تأصيل نظرية الصوت اللغوي ، واضطلاعهم بأعباء المصطلح الصوتي منذ القدم ، لقد كان ما قدمناه في « منهج البحث الصوتي عند العرب » وإن كان جزئي الإنارة ، فإنه كاف ـ في الأقل ـ للتدليل على أصالة هذا المنهج ، وصحة متابعته الصوتية في أبعاد لا يختلف بها إثنان.

نضيف إلى ذلك ظاهرة صوتية متميزة في أبحاث العرب لم تبحث في مجال الصوت ، وإنما بحثت في تضاعيف التصريف ، ذلك أن صلة الأصوات وثيقة في الدرس الصّرفي عند العرب في كل جزئياته الصوتية ، فكان ما توصل إليه العرب في مضمار البحث الصرفي عبارة عن استجابة فعلية لمفاهيم الأصوات قبل أن تتبلور دلالتها المعاصرة ، فإذا أضفنا إلى ذلك المجموعة المتناثرة لعناية البحت النحوي بمسائل الصوت خرجنا بحصيلة كبيرة متطورة تؤكد النظرية الصوتية في التطبيق مما يعد تعبيراً حيّاً عن الآثار الصوتية في أمهات الممارسات العربية في مختلف الفنون.

« ولقد كان للقدماء من علماء العربية بحوث في الأصوات اللغوية شهد المحدثون الأوروبيين أنها جليلة القدر بالنسبة إلى عصورهم ، وقد أرادوا بها خدمة اللغة العربية والنطق العربي ، ولا سيما في الترتيل القرآني ، ولقرب هؤلاء العلماء من عصور النهضة العربية ، وإيصالهم بفصحاء العرب كانوا مرهفي الحسّ ، دقيقي الملاحظة ، فوصفوا لنا الصوت العربي وصفاً أثار دهشة المستشرقين وإعجابهم »(١) .

__________________

(١) إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : ٥.

٣٠

وهذه البحوث الصوتية التي سبق إليها علماء العربية فأثارت دهشة المستشرقين ، وأفاد منها الأوروبيين في صوتياتهم الدقيقة التي اعتمدت أجهزة التشريح ، وقياس الأصوات في ضوء المكتشفات ، قد أثبتت جملة من الحقائق الصوتية ، كان قد توصل إليها الأوائل عفوياً ، في حسّ صوتي تجربته الذائقة الفطرية ، وبعد أن تأصلت لديهم إلى درجة النضج ، قدّمت منهجاً رصيناً رسّخ فيه المحدثون حيثيثات البحث الصوتي الجديد في المفردات والعرض والأسلوب والنتائج على قواعد علمية سليمة.

لقد قدم العرب والمسلمين مفصّلاً صوتياً مركباً من مظاهر البحث الصوتي يمثل غاية في الدقة والتعقيد ، لم يستند إلى أجهزة متطورة ، بل ابتكرته عقول علمية نيرة ، وأذهان صافية ، تجردت للحقيقة ، وتمحضت للبحث العلمي ، مخلصة فيه النية ، وكانت الخطوط العريضة لهذا العطاء على وجه الإجمال عبارة عن مفردات هائلة ، ونظريات متراصة ، يصلح أن يشكل كل عنوان منها فصلاً من باب ، أو باباً في كتاب ، يستقرىء به الباحث ما قدمه علماء العربية من جهد صوتي متميز واكبه الغربيون بعد ان عبّد طريقه العرب والمسلمون ، هذه المفردات في عنوانات ريادية تمثل الموضوعات الآتية في نظرية الصوت :

١ ـ ظاهرة حدوث الصوت.

٢ ـ معالم الجهاز الصوتي عند الإنسان.

٣ ـ أنواع الأصوات العالمية.

٤ ـ درجات الأصوات في الاهتزازات.

٥ ـ بدايات الأصوات عند المخلوقات.

٦ ـ علاقة الأصوات باللغات الحيّة.

٧ ـ أعضاء النطق وعلاقتها بالأصوات.

٨ ـ الأصوات الصادرة دون أعضاء نطق.

٩ ـ علاقة السمع بالأصوات.

٣١

١٠ ـ مقاييس الأصوات امتداداً أو قصراً.

١١ ـ تسميات الأصوات وأصنافها.

١٢ ـ الأصوات الزائدة على حروف المعاجيم.

١٣ـ الزمان والصوت ( مسافت الصوت ).

١٤ـ المكان والصوت ( مساحة الصوت ).

١٥ ـ المقاطع الصوتية بالإضافة إلى مخارج الأصوات.

١٦ ـ النقاء الصوتي.

١٧ ـ الموسيقي والصوت.

١٨ ـ العروض والصوت.

١٩ ـ النبر والصوت.

٢٠ ـ التنغيم والصوت.

٢١ ـ التقريب بين الأصوات.

٢٢ ـ الرموز الكتابية والأصوات.

٢٣ ـ إئتلاف الحروف وعلاقته بالأصوات.

هذه أهم مفردات المصطلح الصوتي في نظرية الصوت اللغوي عند العرب توصلنا إليها من خلال عروض القوم في كتبهم ، وطروحهم في بحوثهم ، وأن لم يشتمل عليها كتاب بعينه ، وإنما جاءت استطراداً في عشرات التصانيف ، ونحن لا نريد حصرها بقدر ما نريد من التنبيه ، أن هذه الموضوعات التي سبق إليها العرب ، هي التي توصل إليها الأوروبيين اليوم ، ومنها استقوا معلوماتهم الأولية ، ولكنهم أضافوا وجددوا وأبدعوا ، وتمرست عندهم المدارس الصوتية الجديدة ، تدعمها أجهزة العلم ، والأموال الطائلة ، والخبرات الناشئة ، مع الصبر على البحث ، والأناة في النتائج.

لقد كان ما قاله المرحوم الأستاذ مصطفى السقا وجماعته في

٣٢

مقدمتهم لسر صناعة الإعراب ملحظاً جديراً بالاهتمام « والحق أن الدراسة الصوتية قد اكتملت وسائلها وموضوعاتها ومناهجها عند الأوروبيين ، ونحن جديرون أن نقفو آثارهم وننتفع بتجاربهم ، كما انتفعوا هم بتجارب الخليل وسيبويه وابن جني وابن سينا في بدء دراساتهم للأصوات اللغوية »(١) . فالأوروبيون أفادوا من خبراتنا الأصيلة. فهل نحن منتفعون؟

لقد توصل العرب حقاً إلى نتائج صوتية مذهلة أيدها الصوت الغوي الحديث في مستويات هائلة نتيجة لعمق المفردات الصوتية التي خاض غمارها الروّاد القدامى ، وقد أيد هذا التوصل إثنان من كبار العلماء الأوروبيين هما : المستشرق الألماني الكبير الدكتور براجشتراسر ، والعالم الانكليزي اللغوي المعروف الأستاذ فيرث.

أ ـ يقول الدكتور براجشتراسر في معرض حديثه عن علم الأصوات :

« لم يسبق الأوروبيين في هذا العلم إلا قومان : العرب والهنود »(٢) .

ب ـ ويقول الأستاذ فيرث :

« إن علم الأصوات قد نما وشب في خدمة لغتين مقدستين هما : السنسكريتية والعربية »(٣) .

والعرب مقدمون على الهنود في النص الأول لأنهم أسبق ، والسنسكريتية في النص الثاني لغة بائدة آثارية ، والعربية خالدة.

وـ أقف عند رأيين في نظرية الصوت اللغوي :

الأول : توصل الدكتور العطية « أن بعض مباحث العرب في البحث الصوتي داخلة في ( علم الصوت : phonetics ) لاشتماله على دراسة التكوين التشريحي لجهاز النطق والصوت ومكوناته وعناصره وصفاته العامة والخاصة على مستوى المجموعة البشرية. كما أن بعض جوانب ( علم الصوت

__________________

(١) مصطفى السقا وآخرون ، سر صناعة الاعراب ، مقدمة التحقيق : ١٩.

(٢) براجشتراسر ، التطور النحوي : ٥٧.

(٣) ظ : أحمد مختار عمر ، البحث اللغوي عند العرب : ١٠١ وانظر مصدره.

٣٣

الوظيفي phonolgy ) تبدو جلية في دراسة قوانين التأثر والتأثير ، واستكناه النبر والتنغيم ، وطول الصوت وقصره ، سواء أكان طوله صفة دائمة أم آنية عارضة »(١) .

الثاني : إن الصوت قد فرض نفسه عند العرب في دراسات قد لا تبدو علاقتها واضحة بالصوت ، وقد وقف الدكتور الجنابي عند جملة « من مسائل النحو عرض لها النحويون وتأولوها ، واعتلوا لها بعلل لا تقنع باحثاً ، ولا ترضي متعلماً ، ولكن التفسير الصوتي هو الذي يحل الإشكال ويزيل اللبس بمعزل عن القرائن أو العلاقات المعنوية بين المفردات ، فلا صلة للتغيير الحركي بالفاعلية والمفعولية مثلاً ، ولا رابطة له بالأساليب. وإنما هو لون من الانسجام مع التغيير التلقائي الذي أشرت إليه »(٢) .

هذان الرأيان نلمح بهما تمكن الدرس الصوتي عند العرب ، فجملة مباحثهم صوتياً داخلة في علوم الصوت ، وما لم يجدوا له تعليلاً فيحل إشكاله التفسير الصوتي ، وهذان ملحظان جديران بالتأمل.

أما خلاصة تجارب الأروبيين في المصطلح الصوتي فقد كانت نتيجة حرفية لمداليل النظرية الصوتية عند العرب في نتائج ما توصل إليه علماؤهم الأعلام.

هذه النظرية الصوتية عند العرب عبارة عما توصل إليه العرب من خلال تمرسهم وتجاربهم بنظريات نحوية وصرفية وبيانية وصوتية وإيقاعية وتشريحية شكلت بمجموعها « نظرية الصوت » وهي في تصور تخطيطي تشمل المنظور الآتي :

أ ـ النظرية العربية في الأبجدية الصوتية على أساس المخارج والمدارج والمقاطع كما عند الخليل وسيبويه والفرّاء.

ب ـ النظرية العربية في أجهزة النطق وأعضائه ، وتشبيهه بالناي تارة ، وبالعود في جسّ أوتاره تارة أخرى كما عند ابن جني.

__________________

(١) خليل إبراهيم العطية ، في البحث الصوتي عند العرب : ١٠٨.

(٢) طارق عبد عون الجنابي ، قضايا صوتية في النحو العربي « بحث ».

٣٤

ج ـ النظرية العربية في التمييز بين الأصوات عن طريق إخفاء الصوت.

د ـ النظرية العربية في ربط الإعلال والإبدال ، والترخيم والتنغيم ، والمدّ والأشمام بعميلة حدوث الأصوات وإحداثها.

هـ ـ النظرية العربية في التلاؤم بين الحروف وأثره في سلامة الأصوات ، والتنافر فيها وأثره في تنافر الأصوات.

وـ النظرية العربية في أصول الأداء القرآني ، وعروض الشعر والإيقاع الموسيقي ، وعلاقة ذلك بالأصوات.

زـ النظرية العربية في التوصل إلى معالجة التعقيدات النحوية ، والمسوغات الصرفية في ضوء علم الأصوات.

هذا العرض الإشاري لنظرية الصوت اللغوي ، يكفي عادة للتدليل على أصالة النظرية عند العرب ، دون حاجة إلى استجداء المصطلحات الأجنبية ، أو استحسان الجنوح إلى الموارد الأوروبية ، فبحوث العرب في هذا المجال متوافرة ، وقد يقال إن التنظيم يعوزها ، وأنها تفتقر إلى الترتيب الحديث ، للاجابة عن هذه المغالظة نضع بين أيدي الباحثين المنصفين : الفصل الثاني من هذا الكتاب بين يدي الموضوع ، والذي أطمح أن يكون مقنعاً بأمانة وإخلاص في إثبات تنظيم البحث الصوتي ، وسلامة مسيرة الصوت اللغوي ، وموضوعية العرض دون تزيد أو ابتسار في علم الأصوات وعالمها.

والله ولي التوفيق.

٣٥
٣٦

الفصل الثاني

منهجية البحث الصوتي

١ـ الخليل بن أحمد ومدرسته الصوتية

٢ـ الصوت في منهجية سيبويه

٣ـ الفكر الصوتي عند ابن جني

٤ ـ القرآن والصوت اللغوي

٣٧

٣٨

الخليل ومدرسته الصوتية

ذهب استاذنا الدكتور المخزومي : « أن الخليل أول من التفت إلى صلة الدرس الصوتي بالدراسات اللغوية الصرفية ، الصرفية والنحوية ، ولذلك كان للدراسة الصوتية من عنايته نصيب كبير ، فقد أعاد النظر في ترتيب الأصوات القديمية ، الذي لم يكن مبنياً على أساس منطقي ، ولا على أساس لغوي ، فرتبها بحسب المخارج في الفم ، وكان ذلك فتحاً جديداً ، لأنه كان منطلقاً إلى معرفة خصائص الحروف وصفاتها »(١) .

لم تكن هذه الأولية اعتباطية ، ولا الحكم بها مفاجئاً ، فهما يصدران عن رأي رصين لأن الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت : ١٧٥ هـ ) هو أول من وضع الصوت اللغوي موضع تطبيق فني في دراسته اللغوية التي انتظمها كتابه الفريد ( العين ) بل هو أول من جعل الصوت اللغوي أساس اللغة المعجمي ، فكان بذلك الرائد والمؤسس.

لا أريد التحدث عن أهمية كتاب العين في حياة الدرس اللغوي ولكن أود الإشارة أن كتاب العين ذو شقين : الأول المقدمة ، والثاني الكتاب بمادته اللغوية وتصريفاته الإحصائية المبتكرة التي اشتملت على المهمل والمستعمل في لغة العرب.

والذي يعنينا في مدرسة الخليل الصوتية مواكبة هذه المقدمة في منهجيتها لتبويب الكتاب ، وبيان طريقته في الاستقراء ، وإبداعه في

__________________

(١) المخزومي ، في النحو العربي ، قواعد وتطبيق : ٤.

٣٩

الاحصاء ، ورأيه في الاستنباط ومسلكية التصنيف الجديد ، والأهم الذي نصبو إليه « إن مقدمة العين على إيجازها ؛ أول مادة في علم الأصوات دلت على أصالة علم الخليل ، وأنه صاحب هذا العلم ورائده الأول »(١) .

يبدأ الخليل المقدمة بالصوت اللغوي عند السطر الأول بقوله : « هذا ما ألفه الخيل بن أحمد البصري من حروف :

أ. ب. ت. ث »(٢) .

وأضاف أنه لم يمكنه « أن يبتدىء التأليف من أول : أ ، ب ، ت ، ث ، وهو الألف ، لأن الألف حرف معتل ، فلما فاته الحرف الأول كره أن يبتدىء بالثاني ـ وهو الباء ـ إلا بعد حجة واستقصاء النظر ، فدبّر ونظر إلى الحروف كلها ، وذاقها فوجد مخرج الكلام كله من الحلق ، فصيّر أولاها بالابتداء أدخل حرف في الحلق »(٣) .

ومعنى هذا أن الخليل قد أحاط بالترتيب ( الألفبائي ) من عهد مبكر ، ولم يشأ أن يبتديء به مع اهتدائه إليه ، لأن أول حرف في هذا النظام حرف معتل ، ولا معنى أن يبتدىء بما يليه وهو الباء لأنه ترجيح بلا مرجح ، وتقديم دون أساس ، فذاق الحروف تجريبياً ، فرأى أولاها بالابتداء حروف الحلق ، وذاقها مرة أخرى ، فرأى ( العين ) أدخل حرف منها في الحلق ، بل في أقصى الحلق.

قال ابن كيسان : ( ت :٢٩٩ هـ ) سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال : « لم أبدأ بالهمزة لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف ، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة لا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة ، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها ، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء ، فوجدت العين أنصع الحرفين فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف »(٤) .

__________________

(١) مقدمة التحقيق لكتاب العين :١|١٠.

(٢) الخليل : كتاب العين : ١|٤٧.

(٣) نفس المصدر :١|٤٧.

(٤) السيوطي : المزهر : ١|٩٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215