تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٣

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب9%

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 603

  • البداية
  • السابق
  • 603 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19186 / تحميل: 5522
الحجم الحجم الحجم
تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

أقلّ تقدير، إنّما يكمن في مفهومها الرفيع، وما تنطوي عليه من دلالة قاطعة على طهارة الإمام أمير المؤمنين وعصمته، ومن ثَمّ عصمة أهل البيت بالضرورة.

ولم تكن هذه الآية وحدها في الميدان، فبالإضافة إلى آية التطهير والجهود النبويّة الحثيثة التي بذلها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في إبلاغها وتطبيقها على أهل البيت (عليهم السلام)، توالت إلى جوارها روايات كثيرة نعت فيها النبي علي بن أبي طالب بالصدق والطهارة، والنقاء والتزام الحقّ، واستقامة السلوك وطُهر الفطرة، ثمّ توّج ذلك كلّه بالإعلان أنّ عليّاً هو عِدل القرآن، ومعيار الحقّ، والميزان الذي يفرِّق بين الحقّ والباطل، وبين الضلالة والصواب، وهو فصل الخطاب، وفي ذلك دلالة قاطعة على أنّ مَن ينبغي أن يكون الأُسوة والإمام، والقائد والمنار، والزعيم والمولى هو علي بن أبي طالب لا غير.

ثمّ انظروا وتأمّلوا في قوله (صلَّى الله عليه وآله): (عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ)، (عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ)، (عليّ على الحقّ؛ مَن اتّبعه اتّبع الحقّ، ومَن تركه ترك الحقّ)، (عليّ مع الحقّ والقرآن، والحقّ والقرآن مع عليّ).

ماذا يعني هذا؟ يعني أنّ عليّاً ثابت لا يزيغ، صلبٌ لا تتعثّر به خطاه، يقف في علي ذُرى الاستقامة والصلاح، لا يعرف غير الحقّ والصواب.

إنّ عليّاً ليحمل على جبهته الوضيئة عنواناً رفيعاً اسمه (العصمة)، ومن ثمّ ستكون الأمّة في أمان من نفسها، وسلامة من دينها وهي تهتدي بهدى علي، وتقتدي به أسوة ومناراً.

لقد توفّر هذا الفصل على بيان هذه الإشارات تفصيلاً من خلال النصوص الكثيرة التي رصدها (1) .

____________________

(1) راجع: أحاديث العصمة.

٤١

(11)

أحاديث العلم

يتبوّأ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) المرجعيّة الفكريّة للأمّة، بالإضافة إلى الزعامة السياسيّة، كما سلفت الإشارة لذلك، فالأُمّة تواجه في معترك حياتها عشرات المعضلات الفكريّة على الصعيدين: الفردي، والاجتماعي؛ فمَن الذي يتولَّى تذليل هذه العقبات؟ ومَن الذي يُميط اللثام عمّا يواجهه المجتمع من مشكلات معرفيّة، ويفسّر للناس آيات القرآن، ويعلّم الأمّة أحكام دينها وكلّ ما يمتّ بصلة إلى المرجعيّة العلميّة والفكريّة؟ ومَن الذي أراد له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أن يتبوّأ هذا الموقع في المستقبل، بحيث تلوذ به الأمّة، وتلجأ إليه بعد رحيل النبي؟

لقد ضمّت المصادر القديمة نصوصاً نبويّة مكثّفة، تدلّ بأجمعها على أنّ النبي اختار علي بن أبي طالب للمرجعيّة العلميّة والفكريّة من بعده، منها الحديث النبوي الكريم: (أنا مدينة العلم، وعليّ بابها)، فعلاوة على شوق علي (عليه السلام) إلى العلم، وتطلّعاته الذاتيّة إلى المعرفة، وتوقه الشديد للتعلّم، واستعداده الخاصّ على هذا الصعيد، كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لا يُخفي حرصه على إعداد علي إعداداً علميّاً خاصّاً، وزقّهِ العلم زقّاً، وإشباع روحه بالمعرفة، والفيض عليه من الحقائق الربّانيّة العُليا.

لقد جاء الكلام النبوي الكريم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها؛ فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب)، ليدلّ دلالة قاطعة لا يشوبها أدنى لبس، على أنّ العلم الصحيح

٤٢

عند علي وحسب لا عند سواه (1) .

لقد طلب النبي علي بن أبى طالب في اللحظات الأخيرة من حياته، وراح يسرّ له بينابيع المعرفة، فقال علي بعد ذلك - واصفاً الحصيلة التي طلع بها من إسرار النبي له -: (حدَّثني ألف باب، يَفتح كلُّ باب ألفَ باب)، وهذه هي الحقيقة، يدلّ عليها قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): (أنا دار الحكمة، وعلي بابها).

ثمّ هل انشقّت الحياة الإنسانيّة عن إنسان غير علي يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني)؟ وهل عرفت صفحات التاريخ مَن ينطق بهذا سوى أمير المؤمنين؟ لقد أجمع الصحابة على أعلميّة علي بن أبي طالب، وتركوا للتاريخ شهادة قاطعة تقول: أفضلنا علي. ولِمَ لا يكون كذلك والإمام أمير المؤمنين نفسه يقول: (والله، ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيمَ نزلت، وأين نزلت، وعلى مَن نزلت؛ إنّ ربّي وهب لي قلباً عَقولاً، ولساناً ناطقاً).

وما أسمى كلمات الإمام الحسن (عليه السلام)! وما أجلّ كلامه وهو يقول بعد شهادة أمير المؤمنين: (لقد فارقكم رجل بالأمس، لم يسبقه الأوّلون بعلم ولا يُدركه الآخرون)!

إنّ هذا وغيره - وهو كثير قد جاء في مواضع متعدِّدة - لَيشهد أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قصد من وراء التركيز على هذه النقطة - التي أقرّ بها الصحابة تبعاً للنبي - أن يعلن عمليّاً عن المرجع الفكري للأمّة مستقبلاً، ويحدّد للأمّة بوضوح الينبوع الثرّ، الذي ينبغي أن تُستمدّ منه علوم الدين (2) .

____________________

(1) لمزيد الاطّلاع على توثيق صيغ الحديث وضبط طرقه وأسانيده، وما يتّصل به من نقاط مهمّة راجع: نفحات الأزهار: ج 10 و11 و12.

(2) راجع: القسم الحادي عشر.

٤٣

(12)

أحاديث اثنا عشر خليفة

من بين الأحاديث المهمّة الجديرة بالتأمّل بشأن مستقبل الأمّة، هي تلك التي تتحدّث عن عدد خلفاء الرسول (صلَّى الله عليه وآله).

إنّ هذه الأحاديث الوفيرة التي جاءت في نقول متعدّدة، وطرق مختلفة وصحيحة (1) ؛ لتُشير إلى أنّ خلفاء النبي اثنا عشر خليفة.

تُطالعنا إحدى صيغ الحديث بالنصّ التالي: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش) (2) .

وقد جاء في نصّ آخر بالصيغة التالية: عن جابر بن سمرة قال: كنت مع أبي عند النبي (صلَّى الله عليه وآله) فسمعته يقول: (بعدي اثنا عشر خليفة)، ثمّ أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟

قال: قال: (كلّهم من بني هاشم) (3) .

وفي نصّ آخر: (يكون من بعدي اثنا عشر أميراً) (4) .

ما الذي قصده رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من هذه الأحاديث؟ هل تحدّث عن واقع سوف

____________________

(1) راجع على سبيل المثال: صحيح مسلم: 3/1451، باب 33 (الناس تبع لقريش والخلافة في قريش)، المعجم الكبير: 2/195 - 199 وص 232؛ الخصال: 466 - 480، إحقاق الحقّ: 13/1 - 48، أهل البيت في الكتاب والسنَّة: 73.

(2) صحيح مسلم: 3/1453/1822.

(3) ينابيع المودّة: 3/290/4.

(4) سنن الترمذي: 4/501/2223.

٤٤

يحصل؟ أم رام الحديث عن حقيقة ينبغي أن تكون؟ هل رام أن يستشرف المستقبل ليشير إلى الذين سيخلفونه في الواقع التاريخي، ويتسنّمون هذا الموقع من بعده؟ أم أنّه استند إلى حقيقة تنصّ صراحة أنّ خلفاءه اثنا عشر خليفة، وأنّ هؤلاء هم الذين ينبغي أن يكونوا خلفاء، ليس من ورائهم أحد حتى آخر الدهر؟

لا يبدو أنّ هناك شكّ في أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان بصدد إعلان الخليفة، وتحديد من يتبوّأ مكانه ويمارس الحاكميّة على الأمّة كما يمارسها هو، ويواصل نهج النبي في الخلافة.

بيد أنّ البعض سعى إلى اصطناع مصاديق لهذا الكلام الإلهي، الذي نطق به الرسول (صلَّى الله عليه وآله) تتطابق ورغباته (1) ، فذهب إلى أنّ المراد من الاثني عشر هم الخلفاء الأربعة، ومعاوية وولده يزيد وهكذا! (2)

وعلى طبق هذا التفسير؛ يكون النبي (صلَّى الله عليه وآله) قد نصَّب هؤلاء خلفاء له، وأهاب بالأمّة اتّباعهم وإطاعتهم والتسليم إليهم! أيْ طاعة يزيد وعبد الملك بن مروان وأضرابهم، ( ... كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) ! (3) .

كيف يمكن تصوّر رسول الكرامة والإنسانيّة، ومبعوث الحريّة والقيم العُليا، وهو يختار لخلافته الظلمة والفسّاق، ويحثّ الأمّة على طاعة المجرمين والفاسدين؟! (4) .

____________________

(1) راجع: الإمامة وأهل البيت: 2/54، حيث توفّر على ذكر هذه المصاديق.

(2) راجع: شرح العقيدة الطحاويّة: 2/736 والإمامة وأهل البيت: 2/56.

(3) الكهف: 5.

(4) راجع: الإمامة وأهل البيت: 2/56 - 76. والكتاب من تأليف الباحث المصري وأستاذ جامعة الإسكندريّة الدكتور محمّد بيومي مهران، من كبار كتّاب أهل السنّة، حيث استعرض ما اقترفه معاوية ويزيد وعبد الملك من فظائع، من خلال الوثائق والنصوص التاريخيّة، ثمّ عاد يطرح على القرّاء السؤال التالي: مع هذا كلّه، هل يقال: إنّ هؤلاء خلفاء النبي؟!

٤٥

لا جدال أنّ من يُذعن لأصل الرواية - ولا مفرّ من ذلك - يتحتّم عليه التسليم لتفسير الشيعة، الذي يذهب إلى أنّ هؤلاء الخلفاء هم عليّ وآل عليّ (عليهم السلام)، كما ذكرت ذلك بعض الروايات عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأتت على أسمائهم صراحة، حيث يمكن أن يُلحظ ما يلي:

1 - إنّهم اثنا عشر معروفون ينطبقون - في عددهم وأسمائهم - مع الحديث.

2 - إنّ الأئمّة من قريش؛ وهم من قريش.

3 - رأينا بعض الروايات تحمل في ذيلها عبارة: (كلّهم من بني هاشم).

والأمر كذلك في عليّ وآل عليّ (عليهم السلام)؛ فهم جميعاً من بني هاشم، يؤيّد ذلك الكلام العُلوي المنيف، الذي يقول فيه أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّ الأئمّة من قريش غُرِسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم) (1) .

4 - إنّهم من أهل بيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وهذا يتطابق مع ما سبق، وقد ذكرناه في الصفحات السابقة، كما يتوافق مع نصوص كثيرة ستأتي الإشارة إليها لاحقاً.

5 - كما أنّه يتطابق بدقّة مع ما جاء عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير هذه الجملة - كما سلفت الإشارة لذلك - حيث ذُكرت أسماء هؤلاء الخلفاء الكرام بشكل كامل وتامّ.

6 - على أساس روايات كثيرة تحدّث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن دوام إمامة المهدي (عليه السلام) واستمرارها إلى ما قبل القيامة، والمهدي المنتظر هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الأئمّة الاثني عشر في المعتقد الشيعي.

من هذه الروايات:

____________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 144.

٤٦

(المهدي منّا أهل البيت، يُصلحه الله في ليلة) (1) .

(المهدي من عترتي من ولد فاطمة) (2) .

(لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم، لبعث الله عزّ وجلّ رجلاً منّا، يملؤها عدلاً كما مُلئت جَوراً) (3) .

(لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي بواطئ اسمه اسمي) (4) .

(الأئمّة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسين، والتاسع مهديّهم) (5) .

واستكمالاً للحديث في هذا المضمار، نعرض فيما يلي عدداً من النقاط الأُخرى:

1 - يُعدّ حديث (اثنا عشر خليفة)، أو (اثنا عشر أميراً)، المروي عن جابر بن سمرة، من الأحاديث المشهورة التي أُخرجت بطرق متعدّدة، كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك، والذي عليه عقيدة أغلب الذين وثّقوا الحديث، ورووه أنّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) أدلى به في (حجّة البلاغ)، بيد أنّ عمليّة دراسة طرق الحديث وتحليل صيغه الروائيّة تدلّ بوضوح، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أدلى بهذا الحديث في مكانين، هما:

أ: مسجد النبي:

وفاقاً لرواية مسلم وأحمد بن حنبل، جاء نصّ جابر بالصيغة التالية: (سمعت

____________________

(1) سنن ابن ماجة: 2/1367/4085، مسند ابن حنبل: 1/183/645، المصنّف لابن أبي شيبة: 8/678/190.

(2) سنن أبي داود: 4/107/4284، والطريف الذي يُلفت النظر في هذا الكتاب، أنّه أورد الرواية مورد البحث - اثنا عشر خليفة - في باب (كتاب المهدي).

(3) مسند ابن حنبل: 1/213/773، سنن أبي داود: 4/107/4283 نحوه.

(4) مسند ابن حنبل: 2/10/3571، مسند البزّار: 5/225/1832 نحوه.

(5) كفاية الأثر: 23.

٤٧

رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوم الجمعة عشيّة رجم الأسلمي، يقول: (لا يزال الدين) (1) إلى آخر النصّ.

المعلوم أنّ ماغر بن مالك الأسلمي المذكور في النصّ قد تمّ رجمه بالمدينة جزماً (2) .

علاوة على ذلك، ثمّة نصوص أُخرى، تتحدّث صراحة أنّ الراوي سمع الحديث في مسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله)، كما في قوله: (جئت مع أبي إلى المسجد والنبي يخطب) إلى آخر الحديث (3) ، حيث يدلّ لفظ (المسجد) في الرواية على المسجد النبوي ظاهراً.

ب: حجّة البلاغ:

هذه المجموعة من الأخبار مرويّة عن جابر بن سمرة بن جندب أيضاً، وقد ذكر فيها أنّه سمع مقالة النبي هذه في ذلك الموسم العظيم (4) (حجّة البلاغ أو حجّة الوداع)، وفي الموقف بعرفات (5) .

2 - إنّ استثمار رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) للموسم، وتوظيفه لاجتماع الأمّة العظيم في عرفات؛ لكي يُعلن هذه الحقيقة ويصدع بها، لهو أمر خليق بالاعتبار، وينطوي على الدروس والعِبَر؛ فقد حرص النبي (صلَّى الله عليه وآله) على أن يستفيد من هذا الحشد الكبير في الإعلان عن (حديث الثقلين)، وذلك في واحدة من المرّات المتكرّرة التي كان النبي قد أعلن فيها هذا الحديث المصيري على الأمّة.

____________________

(1) صحيح مسلم: 3/1453/10، مسند ابن حنبل: 7/410/20869، مسند أبي يعلي: 6/473/7429؛ الخصال: 473/30.

(2) راجع: صحيح البخاري: 5/2020/4969 و4970 وصحيح مسلم: 3/1319 - 1323.

(3) المعجم الكبير: 2/197/1799.

(4) راجع: مسند ابن حنبل: 7/405/20840 و20843 وص 408/20857 وص 430/20992 والمعجم الكبير: 2/197/1800.

(5) راجع: مسند ابن حنبل: 7/418/20922 وص 424/20959 و20960 وص 429/20991.

٤٨

بشكل عامّ، عندما نطلّ على هذه المراسم نجدها شهدت عرض (الثقلين) بوصفهما معاً السبيل إلى هداية الأمّة، وفي المشهد ذاته تمّ تحديد مصاديق العترة والإعلان عنها بوضوح، وفي الذروة الأخيرة من هذا الموسم سجّل المشهد نزول آية (إكمال الدين) وإعلان الولاية، هذا الإعلان الذي ترافق مع إنذار للنبي (صلَّى الله عليه وآله)، يفيد أنّ عدم إبلاغه ما أُنزل إليه من ربّه يتساوق مع ضياع الرسالة وعدم إبلاغها بالمرّة.

بعبارة أُخرى: كأنّ المشهد يُخبرنا بوقائعه وما حصل فيه، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان في الموسم هذا بشأن أن يُلقي على الأمّة نظرة مستأنفة في جميع محتويات الرسالة، ويستعيد أُمور هذا الدين، وقد راح في الأيّام الأخيرة من سفره يركّز على الحجّ والولاية أكثر.

لننظر إلى الإمام الباقر (عليه السلام) وهو يقول: (حجّ رسول الله...) (1) .

3 - تنطوي بعض صيغ الحديث ونقوله على نقطة تستثير السؤال وتستحقُّ التأمّل؛ فقد انطوت بعض نقول الحديث على جملة: (كلّهم من قريش) ، وهي تدلّ على أنّ جابراً لم يسمع هذه الجملة، فسأل عنها أباه، فذكر له أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال في تتمّة الحديث: (كلّهم من قريش) أو (كلّهم من بني هاشم).

هذه الصيغ على ثلاثة أضرب، هي:

أ: إنّ جابراً قال فقط: (ثمّ قال كلمة لم أفهمها) (2) .

أو: (ثمّ تكلّم بكلمة خفيت عليّ) (3) ، من دون إيضاح علّة خفاء الصوت،

____________________

(1) راجع: واقعة الغدير.

(2) مسند ابن حنبل: 7/427/20976.

(3) مسند ابن حنبل: 7/427/20977.

٤٩

وسبب عدم السماع.

ب: وفي بعضها عزى جابر عدم سماعه تتمّة الحديث إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله) قائلاً: (ثمّ خفّض صوته، فلم أدرِ ما يقول) (1) .

أو: ثمّ همس رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بكلمة لم أسمعها، فقلت لأبي: ما الكلمة التي همس بها النبي (صلَّى الله عليه وآله)؟) (2) .

أو: ثمّ أخفى صوته، فقلت لأبي: قد سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول: (يكون بعدي اثنا عشر أميراً)، فما الذي أخفى صوته؟ قال: (كلّهم من قريش) (3) .

ج: ذكر في بعضها أنّ سبب عدم سماع كلام النبي كان لغط الناس واهتياجهم؛ حيث ضاع كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ولم يعد يُسمع وسط ضجيج الحاضرين وصراخهم.

والذي يبعث على الدهشة والأسى، أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) في الوقت الذي كان يتحدّث فيه إلى الناس، نجد الذين يستمعون إليه يرفعون أصواتهم خلافاً لصريح الأمر الإلهي: ( ... لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ... ) (4) ، وقد علت أصواتهم وزاد اهتياجهم، حتى لم يعد يتميّز كلام النبي وما يقوله في هذا الضجيج، بحيث لم يكن بمقدور الراوي - جابر - أن يتابع بقيّة الكلام، فلاذ بالآخرين، فذكروا له أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال: (كلّهم من قريش).

لقد جاءت صيغ متعدّدة تدلّ على هذا المعنى، منها:

____________________

(1) المعجم الكبير: 2/197/1799.

(2) المعجم الكبير: 2/196/1794.

(3) المعجم الكبير: 2/253/2062.

(4) الحجرات: 2.

٥٠

(ثمّ لغط القوم وتكلّموا، فلم أفهم قوله بعد (كلّهم)) (1) .

(فقال كلمة صمّنيها الناس) (2) .

(ثمّ تكلّم بكلمة أصمّنيها (3) الناس، فقلت لأبي - أو لابني -: ما الكلمة التي أصمّنيها الناس؟ قال: كلّهم من قريش) (4) .

كما جاء أيضاً: (فصرخ الناس، فلم أسمع ما قال) (5) .

وبتأمّل ما أوردناه يهتدي الباحث إلى نقاط، لا يخلو ذكرها من فائدة:

1 - تحظى قضيّة الخلافة ومستقبل الأمّة ومصيرها بعد النبي (صلَّى الله عليه وآله) بحسّاسيّة فائقة؛ بحيث كان النبي عندما يصل إلى النقطة الجوهريّة ويبلغ لبّ المسألة يخفض صوته، حتى لكأنّه يهمس، وفي موقع آخر كان الناس يبادرون إلى اللغط وإثارة الضوضاء حال سماعهم الكلام النبوي، يُظهرون بذلك إباءهم له.

2 - تذكر بعض الروايات في تصوير الحالة (خفض الصوت)، وبعضها الآخر ذكرت (اللغط والضجيج)، حيث يرتبط كلّ وصف من هذه الأوصاف بمورد من موارد النقل، فجابر يذكر أنّه لم يسمع الكلام النبوي في المسجد؛ لأنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) خفض صوته. أمّا في الحديث الذي جاء في مسند أحمد بن حنبل، فقد ذكر جابر أنّه لم يسمع الكلام للغط القوم وهياجهم.

والظاهر أنّ خفض النبي صوته كان في المسجد النبوي في المدينة، ولغط الناس وهياجهم كان في حجّة الوداع، كما أشارت لذلك الروايات المتقدّمة.

____________________

(1) مسند ابن حنبل: 7/430/20991، المعجم الكبير: 2/196/1795.

(2) صحيح مسلم: 3/1453/9، مسند ابن حنبل: 7/428/20980 وفيه (أصمّنيها).

(3) أصمّنيها الناس: أي شغلوني عن سماعها، فكأنّهم جعلوني أصمَّ (لسان العرب: 12/343).

(4) مسند ابن حنبل: 7/435/21020؛ الخصال: 472/23.

(5) الخصال: 473/29.

٥١

3 - إنّه لأمر حريٌّ بالانتباه ما جاء في أحد النقول، من أنَّ النبيّ قال عندما أخفى صوته: (كلّهم من بني هاشم).

والحقّ، لا يستبعد أن تكون تتمّة الكلام - على وجه الحقيقة - هي جملة: (كلّهم من بني هاشم)، التي أثارت الهياج، وعلا كلام كثيرين عند سماعها، فلم يذعنوا لها، وأبوا قبولها، والنقطة التي تزيد من قوّة هذا الاستنتاج، هي مشهد السقيفة وما جرى في ذلك اليوم من حوادث، ففي صراع يوم السقيفة لم يستند أيّ من أطراف اللعبة على مثل هذا الكلام، ولم يذكر أحد أنّه سمع النبيّ، يقول: (كلّهم من قريش) ، برغم أنّ هذا الكلام كان يمكن أن يكون مؤثّراً في حسم الموقف.

لهذا كلّه؛ يمكن القول: إنّ تتمّة الحديث النبوي كانت: (كلّهم من بني هاشم) لا غير، ثمّ بمرور الوقت، وعندما حانت لحظة تدوين الحديث قدّروا أنّ من (المصلحة) استبدال (كلّهم من بني هاشم) بتعبير (كلّهم من قريش) !

مهما يكن الأمر، ينطوي هذا الحديث بنقوله الكثيرة وطرقه المتعدّدة التي أيّدها محدّثو أهل السنّة أيضاً، ينطوي على رسالة واحدة لا غير، هي الإعلان عن ولاية عليّ بن أبي طالب وأولاده، والتصريح بخلافة عليّ (عليه السلام) بعد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بلا فصل؛ ومن ثمّ فهو دليل آخر على السياسة النبويّة الراسخة في تحديد مستقبل الحكم وقيادة الأمّة من بعده.

٥٢

(13)

حديث السفينة

والنبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يعيش بين الأمّة كان يُمسك بجميع الأُمور، ويُشرف على الشؤون كافّة، ولم يكن المجتمع الإسلامي على عهد النبيّ قد اتّسع بعدُ، بيد أنّ هذا المجتمع الفتيّ كان يواجه مصاعب كثيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويعاني عدداً من الانحرافات، فتيّار النفاق - مثلاً - كانت بذوره الأُولى قد نشأت في تضاعيف ذلك المجتمع، وهكذا لاحت أيضاً إرهاصات ارتداد البعض انطلاقاً من المجتمع ذاته.

لقد كان الرسول القائد ينظر ليومٍ تغيب فيه هذه الشعلة المتوهّجة، ويفقد المجتمع وجود النبيّ، فيما ينبغي للأمَّة أن تشقّ طريقها من بعده، وتواصل الدرب.

إنّ كلّ ما توفّرنا على ذكره يُشير إلى التخطيط لمستقبل الأمّة وتدبير غدها الآتي؛ هذا الغد الذي سينشقّ عن أجواء تتفجّر جوانبها بالفتنة، وتضطرم بالعواصف العاتية وأمواج الضلال.

على ضوء هذه الخلفيّة؛ انطلقت كلمات رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) تُدلّ الأمّة على الملاذ الآمِن، الذي تعتصم به من الفتن والضلال فيما اشتهر بـ (حديث السفينة)، الذي جاء في أحد نصوصه: (ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مَثل سفينة نوح؛ مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها هلك).

ما أروعه من تشبيه دالّ وموقظ، يبعث على التيقّظ والحذر!

فرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يتطلّع صوب المستقبل من وراء حُجب الغيب، فيبصره مليئاً بالفتن والضلالات التي يشبّهها بالأمواج المتلاطمة العاتية، أمواج مهولة تُغرق

٥٣

مَن يعرض لها، وتدفعه نحو قاع سحيق، وما أكثر من يتسلّق الأوهام حذر هذه الأمواج، بيد أنّها سُرعان ما تفترسه وتأتي عليه في ملاذه الواهن، فيُدركه الغرق ويصير هباءً ضائعاً.

فإذاً، ينبغي أن تكون الأمّة على حذر، وأن تُدرك أنّ طريق النجاة الوحيد يكمن في ركوب (السفينة)، واللوذ بأهل البيت (عليهم السلام)، والاعتصام بحُجْزتهم، والتمسّك بتعاليمهم وسنّتهم.

ليس هناك شكّ في دلالة الحديث على وجوب إطاعة أهل البيت (عليهم السلام)، وإلاّ هل لعاقل تأخذه أمواج عاتية، فيُشرف حتماً على الغرق والضياع، ثمّ يتردّد في النجاة، ولا يركب سفينة الإنقاذ؟!

من جهة أُخرى، إنّ التطلّع صوب هذه السفينة يستتبع الهداية بالضرورة والنجاة من أمواج الفتن والضلالات، فالسفينة منجية؛ وإذاً فهؤلاء الكرام معصومون منزّهون عن الزلل والخطأ (1) .

____________________

(1) لمزيد الاطّلاع على متن حديث السفينة وسنده وطرقه وما يتّصل به من بحوث راجع: نفحات الأزهار: الجزء الرابع، وأهل البيت في الكتاب والسنّة: 95.

٥٤

(14)

حديث الثقلين

من بين الخطوات التي تدبّرها الرسول القائد لمستقبل الأمّة، للحؤول دون تفشِّي الضلالة، وشيوع الجهل في وسطها، وانحدارها إلى هوّة الحيرة والضياع، هي جهوده التي بذلها لتعيين المرجعيّة الفكريّة، وتحديد مسار ثابت للحركة الفكريّة، وبيان كيفيّة تفسير القرآن والرسالة والمصدر الذي يستمدّ منه ذلك.

هذه الحقيقة ربّما عبّرت عن نفسها بأنصع وجه في (حديث الثقلين).

لقد تضوّعت مواطن كثيرة بشذى الحديث؛ حيث صدع به النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) مراراً بمحتوى واحد وصيغ بيانيّة متعدّدة، وفي مواضع مختلفة: في عرفة، ومسجد الخيف، وفي غدير خمّ، كما أتى على ذكره في آخر كلام له وهو على مشارف الرحيل وقد ثقل عليه المرض، في الحجرة الشريفة، وغير ذلك.

وبالإضافة إلى أهل البيت (عليهم السلام) فقد روى الحديث عدد كبير من الصحابة، كما ذهب إلى صحّته كثير من التابعين والعلماء (1) .

إنّ للحديث صيغاً متعدّدة، جاء في إحداها: (إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (2) .

____________________

(1) راجع: نفحات الأزهار: 2/90، وأهل البيت في الكتاب والسنّة: 135.

(2) سنن الترمذي: 5/663/3788.

٥٥

كلام عظيم، ومنقبة شاهقة، وفضيلة سامية لا نظير لها، وهداية تبعث على السعادة، وتوجيه يعصم من الضلالة والردى.

النقطة الأهمّ التي يحويها هذا الكلام النبوي العظيم، والحقيقة العظمى التي يجهر بها دون لبس، هي مرجعيّة أهل البيت (عليهم السلام)، والحثّ على وجوب اتّباعهم والائتمام بهم في الأقوال والأفعال، وقد صرّح بهذه الحقيقة الرفيعة عدد كبير من العلماء، منهم سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني؛ أحد كبار متكلِّمي أهل السنّة، حين قال: (إنّه (صلَّى الله عليه وآله) قرنهم بكتاب الله في كون التمسّك بهما منقذاً من الضلالة، ولا معنى للتمسّك بالكتاب إلاّ الأخذ بما فيه من العلم وآلهداية، فكذا في العترة) (1) .

على صعيد آخر، تتمثّل أهمّ مهامّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) ومسؤوليّاته بالهداية وإزالة الضلالة. هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى؛ فإنّ ما يأتي في طليعة واجبات الأمّة وأكثرها بداهة، هو ضرورة تمسّكها بكلّ ما يبعث على الهداية، ويعصم من الضلال، وهذا ما فعله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) تماماً، وهو يضع المسلمين أمام هذا الواجب، في قوله: (ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا)، وعندئذ هل يسع إنسان أن يتردّد في وجوب اتّباع (العترة) الهادية، والتسليم إليها وهي العاصمة عن الضلال؟!

ممّا يدلّ عليه الحديث أيضاً، أنّ التمسّك بهذين الثقلين الكريمين يكفي لبلاغ المقصد الأسنى وتحصيل الهداية، وأن ليس وراءهما إلاّ الضلال ( ... فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ

____________________

(1) شرح المقاصد: 5/303. ولمزيد الاطّلاع على آراء عدد من علماء أهل السنّة راجع: نفحات الأزهار: 2/248.

٥٦

إِلاَّ الضَّلاَلُ... ) (1) .

من جهة أُخرى يسجّل حديث الثقلين (عصمة) العترة من دون لبس وغموض؛ فمن زاوية عدّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) التمسّك بها واجباً ضروريّاً من دون أيّ قيد أو شرط، فهل من المنطقي أو المعقول أن نتصوّر النبيّ يدفع الأمّة إلى التمسَّك بمرجعيّة أشخاص، ويحثّها على التمسّك بتعاليمها دون قيد أو شرط، وأشخاص هذه المرجعيّة يعيشون الضلال؟ ثمّ إنّ هذه العترة هي عدل قرآن ( لاَّ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) (2) ، فهكذا العترة أيضاً.

وأخيراً دلّ الحديث على أنّ التمسّك بالعترة هو سدّ يحول دون الضلالة، فإذا ما كان الضلال سائغاً بحقّ هذه المرجعيّة فهل يمكنها أن تكون عاصمة عن الضلال؟!

فالعترة - إذاً - معصومة جزماً بدلالات الحديث.

____________________

(1) يونس: 32.

(2) فصّلت: 42.

٥٧

(15)

حديث الغدير

ذكرنا أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أكّد منذ الأيّام الأُولى التي صدع فيها بالرسالة، على الإمامة ومستقبل الأمّة من بعده، وشهدت له المواطن جميعاً، وهو يُعلن (الحقّ)، ويحدّد أمام الجميع الإمامة من بعده بأعلى خصائصها، وبمزاياها المتفوّقة، ولم يتوانَ عن ذلك لحظة، ولم يُضِع فرصة إلاّ وأفاد منها في إعلان هذا (الحقّ) والإجهار به.

وفي الحجّة الأخيرة التي اشتهرت بـ (حجّة الوداع)، بلغت الجهود النبويّة ذروتها، وقد جاءه أمر السماء بإبلاغ الولاية، لتكتسب هذه الحجّة عنوانها الدالّ، وهى تسمَّى (حجّة البلاغ) (1) .

لنشاهد المشهد عن كثب، ونتأمّل كيف تكوّنت وقائعه الأُولى، فهذا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قد قصد التوجّه للحجّ في السنة العاشرة من الهجرة، وقد نادى منادي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يُعلم الناس بذلك، فاجتمع من المسلمين جمع غفير قاصداً مكّة ليلتحق بالنبي (صلَّى الله عليه وآله)، ويتعلّم منه مناسك حجّه.

حجّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بالمسلمين، ثمّ قفل عائداً صوب المدينة، عندما حلَّ اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، كانت قوافل الحجيج تأخذ طريقها إلى مضاربها ومواضع سكَّناها، فمنها ما كان يتقدّم على النبيّ، ومنها ما كان يتأخّر عنه، بيد أنّها لم تفترق بعدُ، إذ ما يزال يجمعها طريق واحد.

حلّت قافلة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بموضع يقال له: (غدير خمّ) في وادي الجحفة، وهو مفترق تتشعّب فيه طرق أهل المدينة

____________________

(1) راجع: كتاب (الغدير): 1/9.

٥٨

والمصريّين والعراقيّين.

الشمس في كبد السماء تُرسل بأشعّتها اللاهبة، وتدفع بحممها صوب الأرض، وإذا بالوحي يغشى النبيّ ويأتيه أمر السماء، فيأمر أن يجتمع الناس في المكان المذكور.

ينادي منادي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بردّ مَن تقدّم من القوم، وبحبس مَن تأخّر؛ ليجتمع المسلمون على سواء في موقف واحد، ولا أحد يدري ما الخبر.

منتصف النهار في يوم صائف شديد القيظ، حتى إنّ الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدّة الحرّ، فيما يلوذ آخرون بظلال المراكب والمتاع.

راحت الجموع المحتشِّدة تتحلّق أنظارها بنبيّها الكريم، وهو يرتقي موضعاً صنعوه له من الرحال وأقتاب الإبل.

بدأ النبيّ خطبته، فراحت الكلمات تخرج من فؤاده وفمه صادعة رائعة، حمد الله وأثنى عليه، ثمّ ذكر للجمع المحتشِّد أنّ ساعة الرحيل قد أزِفت، وقد أوشك أن يُدعى فيُجيب، على هذا مضت سنّة البشر قبله من نبيّين وغير نبيّين.

أمَّا وقد أوشك على الرحيل، فقد طلب من الحاضرين أن يشهدوا له بأداء الرسالة، فهبّت الأصوات تُجيب النبيّ على نسق واحد: (نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت؛ فجزاك الله خيراً) .

ما لهذا جمَعَهم في هذه الظهيرة القائضة، بل هو يعدّهم لنبأٍ مُرتقب، ويُهيّئ النفوس لبلاغ خطير هذا أوانُه، تحدّث إليهم مرّات عن صدقه في (البلاغ)، كما تكلّم عن (الثقلين) وأوصى بهما، ثمّ انعطف يحدّثهم عن موقعه الشاهق العليّ في الأمّة، وطلب منهم أن يشهدوا بأولويّته على أنفسهم، حتى إذا ما شهدوا له بصوت واحد، أخذ بعضد عليّ بن أبي طالب ورفعه، فزاد من جلال المشهد

٥٩

وهيبته، ثمّ راح ينادي بصوت عالي الصدح قويَّ الرنين: (فمَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه).

قال هذه الجملة، ثمّ كرّرها ثلاثاً، وطفق يدعو لمَن يوالي عليّاً، ولمَن ينصر عليّاً، ولمَن يكون إلى جوار عليّ.

تبلّج المشهد عن نداء نبوي أعلن فيه رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) ولاية عليّ وخلافته، على مرأى من عشرات الأُلوف، وقد اجتمعوا للحجّ من جميع أقاليم القبلة، وصدع بـ (حقّ الخلافة) و(خلافة الحقّ).

فهل ثَمّ أحد تردّد في مدلول السلوك النبوي، وأنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) نصَّب بهذه الكلمات عليّ بن أبي طالب وليّاً وإماماً؟

أبداً، لم يسجّل المشهد التاريخي يومئذ مَن استراب بهذه الحقيقة أو شكّ فيها، حتى أولئك النفر الذين أخطأوا حظّهم، وعتت بهم أنفسهم، فأنفوا عن الانقياد، حتى هؤلاء لم يستريبوا في محتوى الرسالة النبويّة، ولم يشكّوا بدلالتها، إنّما انكفأت بهم البصيرة، فراحوا يتساءلون عن منشأ هذه المبادرة النبويّة، وفيما إذا كانت من عند نفس النبيّ أم وحياً نازلاً من السماء.

انجلى المشهد عن عليّ بن أبي طالب وهو متوّج بالولاية والإمارة، فانثال عليه كثيرون يهنّئونه من دون أن تلوح في أُفق ذلك العصر أدنى شائبة تؤثّر في نصاعة هذه الحقيقة أو تشكّك فيها، فهذا هو عمر بن الخطّاب نهض من بين الصفوف المهنّئة، وقد خاطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (هنيئاً لك يا بن أبي طالب، أصبحت اليوم وليَّ كلّ مؤمن) (1) .

____________________

(1) راجع: حديث الغدير/التهنئة القياديّة.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الأخرى ألفا كما أبدلت من «طائي(١)( مِنْ نَبِيٍ ) : بيان له.

( قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ) : ربّانيّون علماء أتقياء.

وقيل(٢) جماعات.

والرّبّيّ، منسوب إلى الرّبّة(٣) ، وهي الجماعة، للمبالغة.

وفي مجمع البيان(٤) : عن الباقرعليه‌السلام : الرّبّيّون، عشرة آلاف.

وفي تفسير العيّاشيّ(٥) : عن الصّادقعليه‌السلام أنّه قرأ: «وكأيّن من نبيّ قتل معه ربّيّون كثير» قال: ألوف وألوف.

ثمّ قال: إي والله يقتلون.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب: «قتل» وإسناده إلى «ربّيّون» أو ضمير النّبيّ. و «معه ربّيّون» حال عنه. ويؤيّد الأوّل أنّه قرئ بالتّشديد، وقرئ: «ربّيّون» بالفتح على الأصل، وبالضّمّ. وهي من تغييرات النّسب كالكسر(٦) .

( فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) : فما فتروا ولم ينكسر جدّهم، لما أصابهم من قتل النّبيّ أو بعضهم.

( وَما ضَعُفُوا ) : عن العدوّ أو في الدّين،( وَمَا اسْتَكانُوا ) : وما خضعوا للعدوّ. وأصل استكن، من السّكون، لأنّ الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده، والألف من إشباع الفتحة. أو استكون، من الكون، لأنّه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له. وهذا تعريض بما أصابهم عند الإرجاف بقتله - عليه السّلام.

( وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (١٤٦): فينصرهم، ويعظّم قدرهم.

( وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا

__________________

(١) نفس المصدر والموضع.

(٢) نفس المصدر والموضع.

(٣) المصدر: ربية.

(٤) مجمع البيان ١ / ٥١٧.

(٥) تفسير العياشي ١ / ٢٠١، ح ١٥٤. وفيه: عن منصور بن الوليد الصيقل أنّه سمع أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام - قرأ

(٦) أنوار التنزيل ١ / ١٨٥.

٢٤١

وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) (١٤٧): أي: وما كان قولهم من ثباتهم وقوّتهم في الدّين وكونهم ربّانيّين إلّا هذا القول، وهو إضافة الذّنوب والإسراف إلى أنفسهم، هضما لها، وإضافة لما أصابهم إلى سوء أعمالهم والاستغفار عنها. ثمّ طلب التّثبيت في مواطن الحرب والنّفرة على العدوّ، ليكون عن خضوع وطهارة، فيكون أقرب إلى الإجابة. وإنّما جعل قولهم خبرا، لأنّ «أن قالوا» أعرف لدلالته على جهة النّسبة وزمان الحدث.

( فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١٤٨) :

فآتاهم الله - بسبب الاستغفار واللّجأ إلى الله - النّصر، والغنيمة، والعزّ، وحسن الذّكر في الدّنيا، والجنّة والنّعيم في الآخرة. وخصّ ثوابها بالحسن، إشعارا بفضله، وأنّه المعتدّ به عنده.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ) (١٤٩) :

في مجمع البيان(١) : عن أمير المؤمنين - عليه السّلام: نزلت في المنافقين، إذ قالوا للمؤمنين يوم أحد عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وارجعوا إلى دينهم.

وقيل(٢) : عامّ في مطاوعة الكفرة والنّزول على حكمهم، فإنه سيجر(٣) إلى موافقتهم.

( بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ ) : ناصركم.

وقرئ، بالنصب، على تقدير: بل أطيعوا الله مولاكم(٤) .

( وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) (١٥٠): فاستغنوا به عن ولاية غيره، ونصره.

( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) : يريد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد، حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب.

ونادى أبو سفيان: يا محمّد، موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت.

فقالعليه‌السلام : إن شاء الله.

وقيل(٥) : لـمّا رجعوا وكانوا ببعض الطّريق، ندموا وعزموا أن يعودوا عليهم

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٥١٨.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ١٨٦.

(٣) المصدر: يستجرّ.

(٤) نفس المصدر والموضع.

(٥) نفس المصدر والموضع.

٢٤٢

ليستأصلوهم، فألقى الله الرّعب في قلوبهم.

في مجمع البيان(١) : عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : نصرت بالرّعب مسيرة شهر.

وفي كتاب الخصال(٢) : عن أبي أمامة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فضّلت بأربع، نصرت بالرّعب مسيرة شهر يسير بين يدي.

عن سعيد بن جبير(٣) ، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي، جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرّعب.

عن جابر بن عبد الله، عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حديث طويل(٤) ، يقولعليه‌السلام فيه: قال لي الله - جلّ جلاله - : ونصرتك بالرّعب الّذي لم أنصر به أحدا قبلك(٥) .

وقرأ ابن عامر والكسائيّ ويعقوب: «الرّعب» بضمّتين على الأصل في كلّ القرآن(٦) .

( بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ) : بسبب إشراكهم به،( ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ ) : عليهم،( سُلْطاناً ) أي: آلهة ليس على اشتراكها حجّة، ولم ينزل به عليهم سلطانا، وهو كقوله(٧) :

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر.

وأصل السّلطنة، القوّة. ومنه: السّليط، لقوّة اشتعاله. والسّلاطة، لحدّة اللّسان.

( وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) (١٥١)، أي: مثواهم. الظّاهر فوضع المضمر، للتّغليظ والتّعليل.

( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ ) : أي: وعده إيّاهم بالنّصر، بشرط التّقوى والصّبر.

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٥١٩.

(٢) الخصال / ٢٠١، ضمن حديث ١٤.

(٣) نفس المصدر / ٢٩٢، ح ٥٦. وله تتمة.

(٤) نفس المصدر / ٤٢٥، ضمن حديث ١.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) أنوار التنزيل ١ / ١٨٦.

(٧) أنوار التنزيل ١ / ١٨٦.

٢٤٣

وكان كذلك حتّى خالف الرّماة، فإنّ المشركين لـمّا أقبلوا جعل الرّماة يرشقونهم والباقون يضربونهم بالسّيف، حتّى انهزموا والمسلمين على آثارهم.

( إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ) : تقتلونهم. من حسّه، إذا أبطل حسه.

( حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ ) : جبنتم، وضعف رأيكم. أو ملتم إلى الغنيمة، فإنّ الحرص من ضعف العقل.

( وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ) ، يعني: اختلاف الرّماة حين انهزم المشركون، فقال بعضهم: فما موقفنا هاهنا. وقال الآخرون: لا نخالف أمر الرّسول. فثبت مكانه أميرهم في نفر دون العشرة، ونفر الباقون للنّهب. وهو المعنى بقوله:( وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ ) : من الظّفر والغنيمة، وانهزام العدوّ.

وجواب «إذا» محذوف، وهو «امتحنكم».

( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا ) : وهم التّاركون المركز للغنيمة.

( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) : وهم الثّابتون(١) ، محافظة على أمر الرّسول.

[وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٢) : قوله:( حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا ) يعني، أصحاب عبد الله بن جبير، الّذين تركوا مراكزهم(٣) وفرّوا(٤) للغنيمة. قوله:( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) يعني، عبد الله بن جبير وأصحابه، الّذين بقوا حتّى قتلوا].(٥) ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ) : ثمّ كفّكم عنهم، حتّى خالف الحال، فغلبوكم(٦) ،( لِيَبْتَلِيَكُمْ ) : على المصائب، ويمتحن ثباتكم على الإيمان عندها.

( وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) : تفضّلا، ولما علم من ندمكم على المخالفة.

( وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (١٥٢): بتفضّله عليهم بالعفو، أو في الأحوال كلّها، سواء أديل لهم أو عليهم، إذ الابتلاء أيضا رحمة،( إِذْ تُصْعِدُونَ ) : متعلّق «بصرفكم» أو «بيبتليكم» أو بمقدّر كما ذكروا.

والإصعاد، الذّهاب والإبعاد في الأرض. يقال: أصعدنا من مكّة إلى المدينة.

__________________

(١) أ: التائبون.

(٢) تفسير القمي ١ / ١٢٠.

(٣) المصدر: مركزهم.

(٤) المصدر: مرّوا.

(٥) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٦) ر: فقلبوكم.

٢٤٤

( وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ) : لا يقف أحد لأحد، ولا ينتظره،( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ) : كان يقول: إليّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنّة،( فِي أُخْراكُمْ ) : في ساقتكم وجماعتكم الأخرى،( فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ ) : فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم، غمّا متّصلا بغمّ.

في تفسير عليّ بن إبراهيم(١) : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفرعليه‌السلام [في قوله:( فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ ) ](٢) فأمّا الغمّ الأوّل فالهزيمة والقتل، والغمّ الآخر فإشراف خالد بن الوليد عليهم.

( لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ ) : من الغنيمة،( وَلا ) : على( ما أَصابَكُمْ ) : من قتل إخوانكم.

وقيل(٣) : «لا» مزيدة، والمعنى: لتأسفوا على ما فاتكم من الظّفر والغنيمة، وعلى ما أصابكم في الجرح والهزيمة عقوبة لكم.

وقيل: الضّمير في «أثابكم» للرّسول، أي: فآساكم في الاغتمام، فاغتمّ بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه، ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من النّصر، ولا على ما أصابكم من الهزيمة.

( وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) (١٥٣) عالم بأعمالكم، وبما قصدتم بها.

[وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٤) : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفرعليه‌السلام ( لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ ) من الغنيمة، ولا على( ما أَصابَكُمْ ) ، يعني، قتل إخوانهم.( وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) ].(٥)

( ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً ) : أنزل الله عليكم الأمن حتّى أخذكم النّعاس.

وعن أبي طلحة(٦) : غشينا النّعاس في المصافّ حتّى كان السّيف يسقط من

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٢٠.

(٢) من المصدر.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ١٨٧.

(٤) نفس المصدر والموضع.

(٥) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٦) أنوار التنزيل ١ / ١٨٧.

٢٤٥

يد أحدنا، فيأخذه ثمّ يسقط، فيأخذه.

والأمنة، الأمن. نصب، على المفعول. ونعاسا، بدل منها. أو هو المفعول، و «أمنة» حال منه متقدّمة. أو مفعول له. أو حال من المخاطبين، بمعنى، ذوي أمنة. أو على أنّه، جمع آمن، كبارّ وبررة.

وقرئ: أمنة، بسكون الميم، كأنّها المرّة من الأمن.

[وفي تفسير العيّاشيّ(١) : عن الحسين بن أبي العلا، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام وذكر يوم أحد - : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كسرت رباعيّته، وأنّ النّاس ولّوا مصعدين في الوادي والرّسول يدعوهم في أخراهم فأثابهم غمّا بغمّ، ثمّ أنزل عليهم النّعاس.

فقلت: النّعاس ما هو؟

قال: الهمّ، فلمّا استيقظوا قالوا: كفرنا.

والحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة].(٢) ( يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ) ، أي: النّعاسّ.

وقرأ حمزة والكسائيّ، بالتّاء، ردّا على الأمنة. والطّائفة، المؤمنون حقّا(٣) .

( وَطائِفَةٌ ) : هم المنافقون،( قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) : أوقعتهم(٤) أنفسهم في الهموم، أو ما بهم إلّا هم أنفسهم وطلب خلاصها،( يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ) : صفة أخرى «لطائفة» أو حال. أو استئناف، على وجه البيان لما قبله.

و «غير الحقّ» نصب على المصدر، أي: يظنّون بالله غير الظّنّ الحقّ الّذي يحقّ أن يظنّ به.

و «ظنّ الجاهليّة» بدل، وهو الظّنّ المختصّ بالملّة الجاهليّة وأهلها.

( يَقُولُونَ ) ، أي: لرسول الله. وهو بدل من «يظنّون».

( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ) : ممّا أمر الله، ووعده من النّصر والظّفر نصيب

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٠١، صدر حديث ١٥٥.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ١٨٧.

(٤) أ: أوثقهم.

٢٤٦

قطّ.

وقيل(١) : أخبر ابن أبيّ بقتل بني الخزرج، فقال ذلك.

والمعنى: إنّا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا، فلم يبق لنا من الأمر شيء أوهل يزول عنّا هذا القهر، فيكون لنا من الأمر شيء( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) ، أي: الغلبة الحقيقيّة لله وأوليائه، فإنّ حزب الله هم الغالبون. أو القضاء له، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وهو اعتراض.

وقرأ ابو عمرو ويعقوب «كلّه» بالرّفع، على الابتداء(٢) .

( يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ ) : حال، من ضمير «يقولون»، أي: يقولون مظهرين أنّهم مسترشدون طالبون للنّصر، مبطنين الإنكار والتّكذيب.

( يَقُولُونَ ) ، أي: في أنفسهم، أو إذا خلا بعضهم إلى بعض. وهو بدل من «يخفون.» أو استئناف، على وجه البيان له.

( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) : كما وعد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وزعم، متوصّلا أنّ الأمر كلّه لله - تعالى - ولأوليائه. أولو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرح، كما كان ابن أبيّ وغيره.

( ما قُتِلْنا هاهُنا ) : لما غلبنا، ولما قتل من قتل منّا في هذه المعركة.

( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضاجِعِهِمْ ) ، أي: لخرج الّذين قدّر الله عليهم القتل وكتب في اللّوح المحفوظ إلى مصارعهم، ولم ينفع الإقامة بالمدينة، ولم ينج منه أحد، فإنّه قدّر الأمور ودبّرها في سابق قضائه، لا معقّب لحكمه.

( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ ) : ليمتحن ما في صدوركم، ويظهر سرائرها من الإخلاص والنّفاق. وهو علّة فعل محذوف، أي: وفعل ذلك ليبتلي. أو عطف على محذوف، أي، لبرز لنفاذ القضاء، أو لمصالح جمّة وللابتلاء. أو على قوله: لكيلا تحزنوا.

( وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ) : وليكشفه ويميّزه، أو يخلّصه عن الوساوس.

( وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) (١٥٤): بخفيّاتها قبل إظهارها. وفيه وعد ووعيد، وتنبيه على أنّه غنيّ عن الابتلاء، وإنّما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين.

( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) : انهزموا يوم أحد.

__________________

(١) نفس المصدر والموضع.

(٢) نفس المصدر ١ / ١٨٨.

٢٤٧

والجمعان، جمع المسلمين وجمع المشركين.

( إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ ) : حملهم على الزّلة،( بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ) : من معصيتهم النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بترك المركز والحرص على الغنيمة وغير ذلك، فمنعوا التّأييد وقوّة القلب.

[وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(١) : قوله:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ ) أي، خدعهم(٢) حتّى طلبوا الغنيمة.( بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ) قال: بذنوبهم.

وفي تفسير العيّاشيّ(٣) عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم، عن أحدهما - عليهما السّلام - في قوله:( إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ) فهو عقبة بن عثمان، وعثمان بن سعد.](٤)

عن عبد الرّحمن(٥) بن كثير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام [في قوله( إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ) ](٦) قال: هم أصحاب العقبة.

( وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ ) : لتوبتهم واعتذارهم.

( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ ) : للذّنوب.

( حَلِيمٌ ) (١٥٥): لا يعاجل بعقوبة المذنب، كي يتوب.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ) ، يعني: المنافقين.

( وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ ) : لأجلهم وفيهم. ومعنى إخوتهم، اتّفاقهم في النّسب، أو المذهب.

( إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ ) : إذا سافروا فيها وأبعدوا للتّجارة، أو غيرها. وكان حقّه «إذ» لقوله: «قالوا» لكنّه جاء على حكاية الحال الماضية.

( أَوْ كانُوا غُزًّى ) : جمع، غاز كعاف، وعفّى.

( لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ) : مفعول «قالوا» وهو يدلّ على أنّ إخوانهم، لم يكونوا مخاطبين به.

( لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ) : متعلّق «بقالوا» على أنّ اللّام، لام

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٢١.

(٢) هكذا في المصدر. وفي الأصل ور: خزلهم.

(٣) تفسير العياشي ١ / ٢٠١، ح ١٥٦.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٥) نفس المصدر والموضع، ح ١٥٨.

(٦) من المصدر.

٢٤٨

العاقبة، مثلها في( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) . أولا تكونوا مثلهم في النّطق بذلك القول والاعتقاد، ليجعله حسرة في قلوبهم خاصّة.

[«فذلك» إشارة إلى ما دلّ عليه قولهم من الاعتقاد.

وقيل(١) : إلى ما دلّ عليه النّهي، أي، لا تكونوا مثلهم، ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ،](٢) فإنّ مخالفتهم ومضادّتهم(٣) مما يغمّهم.

( وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) : ردّ لقولهم، أي: هو المؤثّر في الحياة والممات، لا الإقامة والسّفر، فإنّه - تعالى - قد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد.

( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (١٥٦): تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ، بالياء، على أنّه وعيد للذين كفروا(٤) .

( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ ) : في سبيله.

وقرأ نافع وحمزة والكسائيّ، بكسر الميم، من مات يمات(٥) .

( لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) (١٥٧): جواب القسم. وهو سادّ، مسدّ الجزاء، والمعنى: أنّ السّفر والغزو ليس ممّا يجلب الموت ويقدّم الأجل، وإن وقع ذلك في سبيل الله، فما تنالون من المغفرة والرّحمة بالموت خير ممّا تجمعون من الدّنيا ومنافعها لو لم تموتوا.

وفي تفسير العيّاشيّ(٦) : عن عبد الله بن المغيرة [، عمّن حدّثه، عن جابر ،](٧) عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سئل عن قول الله:( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ ) .

قال: أتدري يا جابر ما سبيل الله؟

فقلت: لا والله إلّا أن أسمعه منك.

قال: سبيل الله عليّعليه‌السلام وذرّيّته، فمن(٨) قتل في ولايته قتل في سبيل الله، ومن مات في ولايته مات في سبيل الله.

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ١٨٩.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في ر.

(٣) أ: مضارعتهم.

(٤) نفس المصدر والموضع.

(٥) نفس المصدر والموضع.

(٦) تفسير العياشي ١ / ٢٠٢، ح ١٦٢. وله ذيل.

(٧) من المصدر.

(٨) هكذا في المصدر. وفي النسخ: من.

٢٤٩

وفي كتاب معاني الأخبار(١) : أبي - رحمه الله - قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن سنان، عن عمّار بن مروان، عن المنخل، عن جابر، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن هذه الآية في قول الله - عزّ وجلّ - :( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ ) .

قال: فقال: أتدري ما سبيل الله؟

قال: لا والله إلّا أن أسمعه منك.

قال: سبيل الله عليّ - عليه السّلام(٢) - وذرّيّته، و «سبيل الله(٣) » من قتل في ولايته قتل في سبيل الله، ومن مات في ولايته مات في سبيل الله.

وقرأ حفص، بالياء(٤) .

( وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ ) : على أي وجه اتّفق هلاكهم،( لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ ) (١٥٨) لإلى معبودكم الّذي توجّهتم إليه وبذلتم مهجكم لأجله لا إلى غيره، لا محالة تحشرون فيوفيّ جزاءكم ويعظّم ثوابكم.

وقرأ نافع وحمزة والكسائيّ: «متّم» بالكسر(٥) .

( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ) ، أي: فبرحمة. و «ما» مزيدة للتّأكيد. والدّلالة على أنّ لينه لهم ما كان إلّا برحمة من الله، وهو ربطه على جأشه وتوفيقه للرّفق بهم، حتّى اغتمّ لهم بعد(٦) أن خالفوه.

( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا ) : سيّء الخلق، جافيا،( غَلِيظَ الْقَلْبِ ) : قاسيه،( لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) : لتفرّقوا عنك، ولم يسكنوا إليك.

( فَاعْفُ عَنْهُمْ ) : فيما يختصّ بك،( وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) : فيما لله.

وفي تفسير العيّاشيّ(٧) : عن صفوان قال: استأذنت لمحمّد بن خالد على(٨) الرّضا

__________________

(١) معاني الأخبار / ١٦٧، ح ١.

(٢) المصدر: [هو] عليّ - عليه السّلام.

(٣) «وسبيل الله» في المصدر، بين المعقوفتين.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ١٨٩.

(٥) نفس المصدر والموضع.

(٦) النسخ: «بعده» بدل «لهم بعد». وما أثبتناه في المتن موافق أنوار التنزيل ١ / ١٨٩.

(٧) تفسير العياشي ١ / ٢٠٣، ح ١٦٣.

(٨) هكذا في المصدر. وفي النسخ: عن.

٢٥٠

أبي الحسنعليه‌السلام وأخبرته أنّه ليس يقول بهذا القول، وأنّه قال: والله لا أريد بلقائه إلّا لأنتهي إلى قوله.

فقال أدخله، فدخل.

فقال له: جعلت فداك، أنّه كان فرط منّي شيء وأسرفت على نفسي، وكان فيما يزعمون أنّه كان بعينه(١) ، فقال(٢) : وأنا(٣) أستغفر الله ممّا كان منّى، فأحبّ أن تقبل عذري وتغفر لي ما كان منّي.

فقال: نعم أقبل، إن لم أقبل كان إبطال ما يقول(٤) هذا وأصحابه - وأشار إليّ بيده - ومصداق ما يقول الآخرون، يعني، المخالفين. قال الله لنبيّه - عليه وآله السّلام - :( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) . ثمّ سأله عن أبيه، فأخبره أنّه قد مضى، واستغفر له.

( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) : في أمر الحرب، إذا الكلام فيه. أو فيما يصحّ أن يشاور فيه، استظهارا برأيهم، وتطيّبا لنفوسهم، وتمهيدا لسنّة المشاورة للأمّة.

وفي نهج البلاغة(٥) : قالعليه‌السلام من استبدّ برأيه هلك، ومن شاور الرّجال شاركها في عقولها.

وفيه(٦) : قالعليه‌السلام : والاستشارة عين(٧) الهداية، فقد خاطر من استغنى برأيه.

وفي كتاب التّوحيد(٨) ، بإسناده إلى أبي البختريّ، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّعليه‌السلام عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حديث طويل، وفيه: لا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة.

وفي كتاب الخصال(٩) . عن محمّد بن آدم، عن أبيه - بإسناده - قال: قال

__________________

(١) المصدر: يعيبه (بعينه - خ ل)

(٢) هكذا في أو المصدر. وفي رو الأصل: فقأ.

(٣) هكذا في المصدر. وفي النسخ: أن.

(٤) ر: أقول.

(٥) نهج البلاغة / ٥٠٠، حكمة ١٦١.

(٦) نفس المصدر / ٥٠٦، ضمن حكمة ٢١١.

(٧) هكذا في المصدر. وفي النسخ: عن.

(٨) التوحيد / ٣٧٦، ضمن حديث ٢٠.

(٩) الخصال / ١٠١ - ١٠٢، ح ٥٧.

٢٥١

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ، لا تشاورنّ جبانا فإنه يضيق عليك المخرج، ولا تشاورنّ البخيل فإنّه يقصر بك عن غايتك، ولا تشاورنّ حريصا فإنّه يزيّن لك شرّها(١) .

وفيه(٢) ، في الحقوق المرويّة، عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام وحقّ المستشير إن علمت له رأيا أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته إلى من يعلم. وحقّ المشير عليك(٣) أن لا تتّهمه فيما لا يوافقك من رأيه، فإن وافقك حمدت الله.

وعن سفيان الثّوريّ(٤) قال: لقيت الصّادق [بن الصّادق](٥) جعفر بن محمّد - عليهما السّلام - فقلت له: يا بن رسول الله أوصني.

فقال لي: يا سفيان، لا مرؤة لكذوب(٦) - إلى قوله - : وشاور في أمرك الّذين يخشون الله.

[( فَإِذا عَزَمْتَ ) : فإذا وطّنت نفسك على شيء بعد الشّورى.

( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) : في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك، فإنه لا يعلم سواه.

وقرئ: فإذا عزمت على التّكلّم، أي: فإذا عزمت لك على شيء وعيّنته لك، فتوكّل عليّ ولا تشاور فيه(٧) أحدا.

( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (١٥٩): فينصرهم ويهديهم إلى الصّلاح].(٨)

في تفسير العيّاشيّ(٩) : أحمد بن محمّد، عن عليّ بن مهزيار قال: كتب إليّ أبو جعفرعليه‌السلام أن سل فلانا أن يشير عليّ ويتخيّر لنفسه، فهو يعلم ما يجوز في بلده، وكيف يعامل السّلاطين، فإنّ المشورة مباركة، قال الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في محكم كتابه:( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) فإن كان ما يقول ممّا يجوز كنت أصوّب رأيه(١٠) ، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطّريق الواضح - إن شاء الله -( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) قال: يعني :

__________________

(١) هكذا في المصدر. وفي النسخ: ثرها.

(٢) نفس المصدر / ٥١٠، ضمن حديث ١.

(٣) هكذا في المصدر. وفي النسخ: «المستشير» بدل «المشير عليك».

(٤) نفس المصدر / ١٦٩، ضمن حديث ٢٢٢.

(٥) من المصدر.

(٦) هكذا في المصدر. وفي النسخ: للكذوب.

(٧) أنوار التنزيل ١ / ١٨٩.

(٨) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٩) تفسير العياشي ١ / ٢٠٤ - ٢٠٥، ح ١٤٧.

(١٠) هكذا في المصدر. وفي النسخ: لرأيه.

٢٥٢

الاستخارة.

( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ ) : فلا أحد يغلبكم.

( وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ ) ، كما خذلكم يوم أحد،( فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) : من بعد خذلانه، أو من بعد الله، بمعنى: إذا جاوزتموه فلا ناصر لكم. وهذا تنبيه، على المقتضي للتّوكّل. وتحريض، على ما يستحقّ به النّصر من الله. وتحذير، عمّا يستجلب بخذلانه.

وفي كتاب التّوحيد(١) : بإسناده إلى عبد الله بن الفضل الهاشميّ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام حديث طويل، يقول فيه: فقلت: قوله - عزّ وجلّ - : و( ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) وقوله - عزّ وجلّ - :( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) .

فقال: إذا فعل العبد ما أمره الله - عزّ وجلّ - به من الطّاعة كان فعله وفقا لأمر الله - عزّ وجلّ - وسمّي العبد به موفّقا، وإذا أراد العبد أن يدخل(٢) في شيء من معاصي الله فحال الله - تبارك وتعالى - بينه وبين تلك المعصية فتركها كان تركه لها(٣) بتوفيق الله - تعالى ذكره - ومتى خلّى بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتّى يرتكبها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفّقه.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (١٦٠) فليخصّوه بالتّوكّل عليه، لـمّا علموا أن لا ناصر سواه وآمنوا به.

( وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ ) : وما صحّ لنبيّ أن يخون في الغنائم، فإنّ النّبوّة تنافي الخيانة.

يقال: غلّ شيئا من المغنم، يغلّ غلولا، وأغلّ إغلالا، إذا أخذه في خفية.

والمراد منه براءة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا اتّهم به.

وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائيّ ويعقوب: «أن يغلّ» على البناء للمفعول، والمعنى: وما صحّ له أن يوجد غالّا، أو أن ينسب إلى الغلول(٤) .

__________________

(١) التوحيد / ٢٤٢، ذيل حديث ١.

(٢) أ: «لن يدخل» بدل «أن يدخل».

(٣) هكذا في المصدر. وفي النسخ: «تركها» بدل «تركه لها».

(٤) أنوار التنزيل ١ / ١٩٠.

٢٥٣

في تفسير عليّ بن إبراهيم(١) : أنّ سبب نزولها، أنّه كان في الغنيمة الّتي أصابوها يوم بدر قطيفة حمراء، ففقدت، فقال رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مالنا لا نرى القطيفة، لا أظنّ إلّا أنّ رسول الله أخذها. فأنزل الله في ذلك:( وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ ) (الآية) فجاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: إنّ فلانا غلّ قطيفة فأخبأها(٢) هنالك. فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحفر ذلك الموضع، فأخرج القطيفة.

( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ، أي: يأتي بما غلّ من النّار يوم القيامة، أي: يجعل ما غلّ في النّار ويكلّف بأن يخرجه منها، كما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره(٣) : عن أبي الجارود، عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ ) قال: فصدق(٤) الله لم يكن الله ليجعل نبيّا غالا، ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة، ومن غلّ شيئا رآه يوم القيامة في النّار، ثمّ يكلّف أن يدخل إليه فيخرجه من النّار.

وفي أمالى الصّدوق - رحمه الله(٥) - : بإسناده إلى الصّادقعليه‌السلام حديث طويل، يقول فيه: إنّ رضا النّاس لا يملك وألسنتهم لا تضبط [..].ألم ينسبوه(٦) يوم بدر إلى أنّه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء، حتّى أظهره الله على القطيفة، وبرّأ نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الخيانة وأنزل بذلك في كتابه:( وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) .

( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ) : تعطي جزاء ما كسبت وافيا. وكان الظّاهر أن يقال: ثمّ توفّى ما كسبت، لكنّه عمّم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه، فإنّه إذا كان كاسب مجزئا بعمله، فالغالّ مع عظم جرمه أولى.

( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (١٦١): فلا ينقص ثواب مطيعهم، ولا يزاد عقاب عاصيهم.

( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ ) : بالطّاعة، إنكار للتّسوية،( كَمَنْ باءَ ) : رجع ،

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٢٦ - ١٢٧.

(٢) هكذا في المصدر. وفي النسخ: فأحضرها.

(٣) نفس المصدر ١ / ١٢٢.

(٤) المصدر: «ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة. وصدق» بدل «قال فصدق».

(٥) أمالي الصدوق / ٩١ و ٩٢، ضمن حديث ٣.

(٦) أ: بينوه.

٢٥٤

( بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ ) : سبب المعاصي ،

( وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (١٦٢) :

و الفرق بينه وبين المرجع، أنّ المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع.

( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ ) :

قيل(١) : شبّهوا بالدّرجات لما بينهم من التّفاوت في الثّواب والعقاب، أو هم ذوو درجات.

وقيل: يحتمل أن يكون تشبّههم بالدّرجات في أنّهم وسائل الصّعود إلى الله، والهبوط من قربه إلى أسفل السّافلين.

ولا يخفى ما في هذه التّوجيهات من التّكلّف، والصّواب أنّ ضميرهم راجع إلى «من اتّبع» والمراد منهم الأئمّة، وهم درجات عند الله لمن اتّبعهم من المؤمنين، وأسباب لرفعتهم عند الله.

وفي تفسير العيّاشيّ(٢) : عن عمّار بن مروان(٣) قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قوله الله:( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

فقال: الذين اتبعوا رضوان الله(٤) ، هم الأئمّة، وهم(٥) والله [يا عمّار - ](٦) درجات عند الله للمؤمنين، وبولايتهم(٧) ومعرفتهم إيّانا يضاعف الله لهم أعمالهم(٨) ويرفع الله [لهم](٩) الدّرجات العلى. وأمّا قوله: - يا عمّار - كمن باء بسخط من الله (إلى [قوله](١٠)) المصير ،

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ١٩٠.

(٢) تفسير العياشي ١ / ٢٠٥، ح ١٤٩.

(٣) الأصل وأ: «عمران بن مروان». وفي ر: «عمران». وما أثبتناه في المتن موافق المصدر. والظاهر أنّ الراويّ هو «عمّار بن مروان اليشكري مولاهم الخزّاز الكوفي». ر. تنقيح المقال ٢ / ٣١٨، رقم ٨٥٩٢.

(٤) «الذين اتّبعوا رضوان الله» ليس في المصدر.

(٥) «وهم» ليس في المصدر.

(٦) من المصدر.

(٧) المصدر: وبموالاتهم.

(٨) المصدر: «وهم، والله يا عمّار! درجات للمؤمنين عند الله. وبموالاتهم ومعرفتهم إيّانا فيضاعف الله للمؤمنين حسناتهم» بدل «وهم، والله يا عمّار! درجات عند الله للمؤمنين. وبولايتهم ومعرفتهم إيّانا يضاعف الله لهم أعمالهم».

٩ و ١٠ - من المصدر.

٢٥٥

فهم والله الّذين جحدوا حقّ عليّ بن أبي طالب وحقّ الأئمّة منّا أهل البيت، فباؤوا بذلك بسخط(١) من الله.

عن أبي الحسن الرّضا - عليه السّلام(٢) - أنّه ذكر قول الله:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ ) قال الدّرجات(٣) ما بين السّماء والأرض.

وفي أصول الكافي(٤) : عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن هشام [بن سالم ،](٥) عن عمّار السّاباطيّ قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله - عزّ وجلّ - عن هذه الآية(٦) .

فقال: الّذين اتّبعوا رضوان الله، هم الائمّة، وهم والله - يا عمّار - درجات للمؤمنين، وبولايتهم ومعرفتهم إيّانا يضاعف الله لهم أعمالهم، ويرفع الله(٧) لهم(٨) الدّرجات العلى.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٩) : حدّثنا أحمد بن محمّد، عن المعلى بن محمّد، عن عليّ بن محمّد، عن بكر بن صالح، عن جعفر بن يحيى، عن عليّ بن النّضر، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام حديث طويل، يذكر فيه لقمان ووعظه لابنه، وفيه: من اتّبع أمره استوجب جنّته ومرضاته، ومن لم يتّبع رضوان الله فقد هان عليه سخطه(١٠) ، نعوذ بالله من سخط الله.

( وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) (١٦٣): عالم بأعمالهم، فيجازيهم على حسبها.

( لَقَدْ مَنَّ اللهُ ) : أنعم الله. واللّام، موطّئة للقسم.

__________________

(١) المصدر: «لذلك سخطا» بدل «بذلك بسخط».

(٢) نفس المصدر والموضع، ح ١٥٠.

(٣) المصدر: الدرجة.

(٤) الكافي ١ / ٤٣٠، ح ٨٤.

(٥) من المصدر.

(٦) ذكر في المصدر نفس الآية بطولها بدل «عن هذه الآية».

(٧) المصدر: [الله].

(٨) ليس في المصدر.

(٩) تفسير القمي ٢ / ١٦٥. والسند المذكور هنا هو في المصدر سند لحديث آخر (ص ١٦١ - ١٦٢). فراجع.

وسند هذا الحديث هاهنا، هكذا: حدّثنى أبي، عن القاسم بن محمّد، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن حمّاد، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن لقمان وحكمته الّتي ذكرها الله - عزّ وجلّ - فقال:

(١٠) النسخ: لسخطه.

٢٥٦

وقرئ بمن الجارّة، على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أي: منه، أو بعثه(١) .

( عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) : على الّذين آمنوا مع الرّسول. وتخصيصهم - مع أنّ نعمة البعثة عامّة - لزيادة انتفاعهم بها.

( إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) : من نسبهم، أو من صنفهم، عربيّا مثلهم، ليفهموا كلامه بسهولة، ويكونوا واقفين على حاله في الصّدق والأمانة، مفتخرين به.

وقرئ: من أنفسهم، أي: من أشرفهم، لأنّهعليه‌السلام كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم(٢) .

( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ) ، أي: القرآن، بعد ما كانوا جهّالا لم يسمعوا الوحي.

( وَيُزَكِّيهِمْ ) : ويطهّرهم من دنس الطّبائع، وسوء العقائد والأعمال،( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) : القرآن، والسّنّة.

( وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (١٦٤) :

«إن» هي المخفّفة. واللّام، هي الفارقة، والمعنى: وإنّ الشّأن كانوا من قبل بعثة الرّسول في ضلال ظاهر.

( أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها ) :

الهمزة، للتّقرير والتّقريع. والواو، عاطفة للجملة على ما سبق من قصّة أحد، أو على محذوف، أي: فعلتم كذا وقلتم كذا. «لمّا» وهو ظرفه المضاف إلى أصابتكم، أي: حين أصابتكم مصيبة، وهي قتل سبعين منكم يوم أحد، والحال أنّكم نلتم ضعفها يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين.

( قُلْتُمْ أَنَّى هذا ) ، أي: من أين أصابنا هذا؟ وقد وعدنا الله النّصر.

وفي تفسير العيّاشيّ(٣) : محمّد بن أبي حمزة، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام (٤) قال: كان المسلمون قد أصابوا ببدر مائة وأربعين رجلا، قتلوا سبعين رجلا وأسروا سبعين، فلمّا كان يوم أحد أصيب من المسلمين سبعون رجلا، قال: فاغتمّوا لذلك فأنزل الله - تبارك وتعالى - : أولمّا (الآية)(٥)

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ١٩٠.

(٢) نفس المصدر والموضع.

(٣) تفسير العياشي ١ / ٢٠٥، ح ١٥١.

(٤) يوجد في المصدر بعد هذه العبارة: في قول الله:( أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها ) .

(٥) ذكر في المصدر الآية بدل «الآية».

٢٥٧

( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) :

باختياركم الفداء يوم بدر، كذا عن أمير المؤمنينعليه‌السلام رواه في مجمع البيان(١) .

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٢) : أنّ يوم بدر قتل من قريش سبعون وأسر منهم سبعون، وكان الحكم في الأسارى يوم بدر(٣) القتل، فقامت الأنصار [إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ](٤) فقالوا: يا رسول الله، هبهم لنا ولا تقتلهم حتّى نفاديهم.

فنزل جبرائيلعليه‌السلام فقال: إنّ الله قد أباح لهم(٥) الفداء أن يأخذوا من هؤلاء القوم ويطلقوهم على أن يستشهد منهم في عام قابل بقدر من يأخذون(٦) منه الفداء(٧) .

فأخبرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الشّرط.

فقالوا: قد رضينا به، نأخذ العام الفداء عن هؤلاء ونتقوى به، ويقتل منّا في عام قابل بعدد من(٨) نأخذ منهم(٩) الفداء، وندخل الجنّة. فأخذوا منهم الفداء وأطلقوهم.

فلمّا كان يوم أحد(١٠) قتل(١١) من اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبعون، فقالوا: يا رسول الله، ما هذا الّذي أصابنا وقد كنت تعدنا النّصر(١٢)؟ فأنزل الله:( أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ ) (الآية)(١٣) ( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) بما اشترطتم يوم بدر.

قال البيضاويّ(١٤) : أي، ممّا قد اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز، فإنّ الوعد كان مشروطا بالثّبات والمطاوعة، أو اختيار الخروج من المدينة.

والأوّل مخالف للنّصّ، والثّاني لعدم الرّدّ على اختيار الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) بل في أنوار التنزيل ١ / ١٩١.

(٢) تفسير القمي.

(٣) «يوم بدر» ليس في المصدر.

(٤) من المصدر.

(٥) أ: لكم.

(٦) المصدر: يأخذوا.

(٧) يوجد في المصدر بعد هذه الكلمة: من هؤلاء.

(٨) المصدر: ما.

(٩) هكذا في المصدر. وفي النسخ: منه.

(١٠) المصدر: «فلمّا كان في هذا اليوم وهو يوم أحد» بدل «فلمّا كان يوم أحد».

(١١) ر: قتلوا.

(١٢) المصدر: بالنصر.

(١٣) المصدر: «مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا» بدل «الآية».

(١٤) أنوار التنزيل ١ / ١٩١.

٢٥٨

( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١٦٥): فيقدر على النّصر ومنعه، وعلى أن يصيب بكم ويصيب منكم.

( وَما أَصابَكُمْ ) : من القتل.

( يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) : يوم أحد. والجمعان، جمع المسلمين وجمع المشركين،( فَبِإِذْنِ اللهِ ) : فهو كائن بتخلية الكفّار. وسمّاها إذنا، مجازا مرسلا، لأنّها من لوازمه، ليفي بما شرطتم يوم بدر حين اختياركم،( وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١٦٦)( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا ) : وليتميّز المؤمنون والمنافقون، فيظهر إيمان هؤلاء بالصّبر، ونفاق هؤلاء بإظهار طلب وعد النّصر والإعراض عن الاشتراط. وفي إيراد أحد المفعولين ما يدلّ على الحدوث دون الآخر، مدح للمؤمنين بالثّبات على الإيمان والمنافقين بعدمه،( وَقِيلَ لَهُمْ ) : عطف على «نافقوا» داخل في الصّلة، أو لكلام مبتدأ،( تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا ) : تقسيم للأمر عليهم، وتخيير بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدّفع عن الأنفس والأموال. أو معناه: قاتلوا الكفرة. أو ادفعوهم بتكثير سواد المجاهدين، فإنّ كثرة السّواد ممّا يروّع العدوّ ويكسر منه.

( قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ ) ، أي: لو نعلم ما يصحّ أن يسمّى قتالا لاتّبعناكم فيه، لكن ما أنتم عليه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس إلى التّهلكة. أو لو نحسن قتالا لاتّبعناكم، قالوا ذلك دغلا واستهزاء.

( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ ) ، أي: يوم إذ قالوا ذلك. أو يوم إذ قام القتال، وأحسّوا به.

( أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ ) :

قيل(١) : لانخزالهم وكلامهم هذا، فإنّهما أوّل أمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم.

وقيل: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، إذ كان انخزالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلا(٢) للمؤمنين.

والأولى، الحمل على ما يشمل المعنيين، أي هم لتقوية الكفر، أي: كفرهم وكفر من شاركهم فيه أقرب منهم لتقوية الإيمان، لأنّ ما ظهر منهم يدلّ على كفرهم وتقوية للكافرين وتخذيل للمؤمنين.

__________________

(١) نفس المصدر والموضع.

(٢) المصدر: تخزيلا.

٢٥٩

( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) : يظهرون خلاف ما يضمرونه. وإضافة القول إلى «أفواههم» تأكيد.

( وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ ) (١٦٧): من النّفاق، ما يخلوا به بعضهم إلى بعض، فإنّه يعلمه مفصّلا بعلم واجب، وأنتم تعلمونه مجملا بأمارات.

في مصباح الشّريعة(١) : عن الصّادقعليه‌السلام في كلام له: ومن ضعف يقينه تعلّق بالأسباب ورخّص لنفسه بذلك، واتّبع العادات وأقاويل النّاس بغير حقيقة، والسّعي في أمور الدّنيا وجمعها وإمساكها، يقرّبا للّسان، أنّه لا مانع ولا معطي إلّا الله وأنّ العبد لا يصيب إلّا ما رزق وقسم له والجهد لا يزيد في الرّزق، وينكسر ذلك بفعله وقلبه، قال الله تعالى:( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ ) .

( الَّذِينَ قالُوا ) : مرفوع، بدل من واو «يكتمون.». أو منصوب على الذّمّ أو الوصف «للّذين نافقوا». أو مجرور، بدل من الضّمير في «بأفواههم» أو «قلوبهم»،( لِإِخْوانِهِمْ ) : لأجلهم. يريد من قتل بأحد من أقاربهم، أو من جنسهم،( وَقَعَدُوا ) : حال مقدّر بقد، أي: قالوا: قاعدين عن القتال،( لَوْ أَطاعُونا ) : في القعود،( ما قُتِلُوا ) : كما لم نقتل.

وقرأ هشام: ما قتّلوا، بالتّشديد(٢) .

( قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١٦٨): في أنّكم تقدرون على دفع القتل وأسبابه ممّن كتب عليه، فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه، فإنّه أحرى بكم.

والمعنى: أنّ القعود غير مغن، فإنّ أسباب الموت كثيرة، كما أنّ القتال يكون سببا للهلاك والقعود سببا للنّجاة، قد يكون الأمر بالعكس، فإنّه قد يدفع بالقتال العدوّ فينجو، وبالقعود يصير العدوّ جريئا فيغلب عليه فيهلك.

( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ) (٣) :

__________________

(١) شرح فارسى مصباح الشريعة ٢ / ١٨٨ - ١٨٩.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ١٩١.

(٣) ورد في حاشية الأصل عند تفسير هذه الآية هكذا: قال الفاضل الكاشي في تفسيره: والآية «تشتمل كل من قتل في سبيل [من سبل] الله [عزّ وجلّ] سواء كان قتله بالجهاد الأصغر وبدل النفس طلبا لرضا الله أو -

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603