مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

مفاهيم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672
المشاهدات: 141439
تحميل: 5155


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141439 / تحميل: 5155
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-249-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

التوحيد في الولاية

ولا نعني من الولاية « الولاية التكوينيّة » أي الربوبيّة والتدبير، بل المراد « الولاية التشريعيّة » وتنظيم شؤون الفرد والمجتمع في عامّة مجالات الحياة.

والولاية بهذا المعنى تعني الأمارة، ولها مظاهر ثلاثة :

١. التوحيد في الحاكميّة

ولقد وجّه القرآن الكريم عناية خاصة إلى « التوحيد في الحاكمية » بحيث يتبيَّن بوضوح أنّ الحكم والولاية في منطق القرآن ليس إلّا لله تعالى وحده، وأنّه لا يحقّ لأحد أن يحكم العباد دونه، وأنّه لا شرعية لحاكميّة الآخرين إلّا إذا كانت مستمدة من الولاية والحاكمية الإلهية وقائمة بأمره تعالى، وفي غير هذه الصورة لن يكون ذلك الحكم إلّا حكماً طاغوتياً لا يتصف بالشرعية مطلقاً ولا يقرّه القرآن أبداً.

على أنّنا حينما نطرح هذا الكلام ونقول: بأنّ الحكم محض حقٍّ لله وأنّ الحاكمية منحصرة فيه دون سواه فليس يعني ذلك أنّ على الله أن يباشر هذه الحاكمية بنفسه، ويحكم بين الناس ويدير شؤون البلاد دون واسطة، ليقال إنّ ذلك محال غير ممكن، أو يقال إنّ ذلك يشبه مقالة الخوارج إذ قالوا للإمام عليعليه‌السلام رافضين حكمه وإمارته :

« أن الحكم إلّا لله، لا لك يا علي، ولا لأصحابك »(١) .

بل مرادنا هو: أنّ حاكمية أيِّ شخص يريد أن يحكم البلاد والعباد لا بد أن

__________________

(١) كان هذا شعار الخوارج يردّدونه في المسجد وغيره.

٢١

تستمد مشروعيتها من: « الإذن الإلهي » له بممارسة الحاكمية.

فما لم تكن مستندة إلى هذا الإذن لم تكن مشروعة ولم يكن لها أي وزن، ولا أي قيمة مطلقاً.

ونفس هذا الكلام جار في مسألة الشفاعة أيضاً.

فعندما يصرح القرآن بوضوح قائلاً:( قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) لا يعني أنّه لا يشفع إلّا الله، إذ لا معنى لأن يشفع الله لأحد.

بل المفاد والمراد من هذه الآية هو أنّه ليس لأحد أن يشفع إلّا بإذن الله، وأنّه لا تنفع الشفاعة إذا لم تكن برضاه ومشيئته(٢) .

وإن شئت قلت: إنّ أمر الشفاعة بيد الله تعالى من حيث الشافع والمشفع واللام في قوله( لله ) يدل على اختصاص خاص وهو أنّ أمر التصرّف باختياره تعالى كقوله:( وَللهِ غَيْبُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ ) (٣) .

٢. التوحيد في الطاعة

كما أنّ الحاكمية على العباد مختصة بالله سبحانه، كذلك لا يجوز لأحد أن يطيع أحداً غير الله، فالطاعة هي أيضاً حقٌّ منحصر بالله سبحانه لا يشاركه فيها ولا ينازعه أحد.

وأمّا لو شاهدنا القرآن يأمرنا ـ في بعض الموارد ـ بطاعة غير الله، مثل

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) بحث المؤلف الشفاعة في كتاب مستقل باسم « الشفاعة بين يدي القرآن والسنّة والعقل ».

(٣) هود: ١٢٣.

٢٢

الأنبياء والأولياء، فليس لأنّ طاعة هؤلاء واجبة بالذات، بل لأنّ وجوب طاعتهم من جهة أنَّها « عين » طاعته سبحانه، وبأمره.

وبتعبير أجلى: حيث إنّ الله تعالى « أمر » بطاعة هؤلاء، لهذا وجبت إطاعتهم واتّباع أوامرهم والانقياد لأقوالهم امتثالاً لأمر الله وتنفيذاً لإرادته، فلا يكون هناك حينئذ إلّا « مطاع واحد » في واقع الحال، وهو الله جل جلاله. وأمّا إطاعة الآخرين (أي غير الله) فليست إلّا في ظل إطاعة الله تعالى شأنه، وفرع منها.

٣. التوحيد في التقنين

إنّ حق التقنين والتشريع ـ هو الآخر ـ مختص بالله في نظر القرآن الكريم، تماماً مثل الأُمور السالفة الذكر.

فليس لأحد سوى « الله » حق التقنين والتشريع وجعل الأحكام وسن القوانين للحياة البشرية.

ولذلك فإنّ الذين أعطوا مثل هذا الحق للأحبار والرهبان خرجوا من دائرة التوحيد في التقنين، ودخلوا في زمرة المشركين.

ويمكن إدراج هذا القسم ( أي التوحيد في التقنين ) تحت قسم ( التوحيد الافعالي ) ولكن من الأفضل أن نفرد له قسماً خاصاً، وبحثاً مستقلاً، لأنّ المقصود بالأفعال في « التوحيد الافعالي » هو الأفعال التكوينية أي المرتبطة بعالم الخلق والتكوين والطبيعة، في حين أنّ التقنين والتشريع نوع من الأُمور الاعتبارية والجعلية العقلائية، فليس التحليل والتحريم أمرين تكوينيين، بل من الملاحظات العرفية القائمة بذهن المعتبر واعتباره، ولهذا يكون من الأنسب التفريق بين هذين القسمين.

٢٣

وهكذا بالبحث في :

التوحيد في الحاكمية.

والتوحيد في الطاعة.

والتوحيد في التقنين.

أقول: بالبحث في هذه الأُمور تتضح صيغة الحكومة ونظام الحكم في الإسلام، وتتجلّـى لنا الصورة الواقعية للحكومة الإسلامية.

لأنّ على هذا الأساس لن تكون الحكومة الإسلامية من نوع « حكم الفرد على الشعب » ولا من نمط « حكم الشعب على الشعب » على إطلاقه، بل هي من نوع « حكومة الله على المجتمع بواسطة المجتمع »(١) أو بعبارة أُخرى: حكومة القانون الإلهي على المجتمع.

وأمّا بقية الصيغ الأُخرى للحكم التي سوف نستعرضها فيما بعد فلا توافق الصيغة القرآنية على صعيد نظام الحكم مطلقاً.

ففي كثير من الصيغ المطروحة لنظام الحكم يشار فيها ـ في العادة ـ إلى هذه الأُصول الثلاثة وهي :

١. السلطة التشريعية.

٢. السلطة القضائية.

٣. السلطة التنفيذية.

__________________

(١) على النحو الذي سيأتي بيانه موسعاً فيما بعد.

٢٤

وكل هذه السلطات الثلاث محترمة في نظر الإسلام، إلّا أنّ مهمة « السلطة التشريعية » في الحكومة الإسلامية ليست إلّا « التعريف بالقانون » والتخطيط وفق موازين الشريعة الإسلامية وليس سن القوانين، لأنّ في النظام الإسلامي يختص حق التقنين بالله، فلا مكان لمقنّن آخر فيه سوى الله الذي سن جميع ما يحتاجه البشر من القوانين وأبلغها إليهم عن طريق الأنبياء والمرسلين.

من هنا لا بد لتكميل « البحوث التوحيدية » ـ بالإضافة إلى دراسة مراتب التوحيد الأربع ـ من البحث في هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد على ضوء القرآن.

على أنّنا لا ندعي بتاتاً بأنّ مراتب التوحيد وأقسامها تنحصر في هذه المراتب السبع وتقف عند هذا الحد، بل يمكن أن يكون للتوحيد مراتب أُخرى ذكرها القرآن(١) ولكن بحثنا سيدور فعلاً حول هذه الأقسام السبعة.

ولكي نحيط إحاطة كاملة بالكثير من المسائل المرتبطة « بالتوحيد والشرك » من وجهة نظر القرآن الكريم يتعين علينا أن نتعرف على نظر القرآن الكريم في المباحث التالية التي هي موضع عناية القرآن :

١. الله والفطرة.

٢. الله وعالم الذر.

__________________

(١) مثل « التوحيد في الهداية » و « التوحيد في المالكية » و « التوحيد في الرازقية » و « التوحيد في الشفاعة » مما يمكن إدخال بعضها أو جميعها في قسم « التوحيد الافعالي ».

٢٥

٣. الله وبراهين وجوده في القرآن(١) .

٤. الله وسريان معرفته في الوجود بأسره.

٥. الله والتوحيد في الذات.

٦. الله وبساطة ذاته وعينيّة صفاته لذاته.

٧. الله والتوحيد في الخالقية(٢) .

٨. الله والتوحيد في الربوبية ( التدبير )(٣) .

٩. الله والتوحيد في العبادة.

١٠. الله والتوحيد في التقنين.

١١. الله والتوحيد في الطاعة.

١٢. الله والتوحيد في الحاكمية.

__________________

(١) ليس من الصحيح أن يؤخذ علينا استدلالنا بالقرآن على وجود الله بظن أنّ هذا يستلزم الدور الصريح بأن يقال :

إنّ القرآن حجة فيما يقول لو ثبت الوحي والرسالة، والوحي والرسالة لا يثبتان إلّا بعد ثبوت الموحي المرسل، فالاستدلال بالقرآن لثبوت الموحي المرسل استدلال بالشيء على نفسه.

أقول: لا يصح أن يؤخذ علينا إشكال كهذا، لأنّنا إنّما نستدل بالقرآن، لأنّه لا يعرض ما يتعلق بالعقائد الدينية إلّا مع الأدلة العقلية القاطعة، وهذا وحده أمر يستدعي الاهتمام بغض النظر عن كون القرآن وحياً إلهياً وكتاباً سماوياً.

فاستشهادنا واستهداؤنا بالقرآن إذن هو من قبيل استهداء التلميذ بأُستاذه الذي يريه الطريق، أي بصرف النظر عن كون القرآن كلام الله بل بالنظر إلى كونه مبيناً للأدلّة والبراهين العقلية ومشيراً إلى الأدلّة التي تستدعي من عقولنا التأمل.

(٢) و (٣) الخالقية والتدبير ( اللّذين فتحنا لهما فصلين مستقلين ) هما في الحقيقة من فروع التوحيد في الأفعال، ولكن لكثرة مباحثهما بحثنا عن كل واحد بالاستقلال.

٢٦

وسنبحث في هذا الكتاب وفق هذا الجدول الذي يؤلف فصول هذا الكتاب الرئيسية، وسيكون مستندنا الوحيد ـ طوال هذا البحث ـ هو (آيات القرآن الكريم ) ومداليل هذه الآيات ومفادها.

كما أنّنا لمزيد التوضيح ربّما استعنا ـ خلال البحث ـ بالأدلة العقلية الواضحة والتحليل الفلسفي، وربّما نستشهد ببعض الأحاديث التي رواها السنّة والشيعة عن النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله وآله: ومن الله نسأل العون والسداد.

٢٧
٢٨

الفصل الأوّل

الله والفطرة

٢٩

معرفة الله والفطرة

١. هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية.

٢. اعترافات علماء الاجتماع بأصالة التديّن.

٣. هل وجود الله أمر بديهي ؟

٤. تعاليم الدين ـ بأُصولها ـ أُمور فطرية.

٥. تجلّي الفطرة عند الشدائد.

٦. هل وحدانية الله أمر فطري وإن لم يكن الاعتقاد بذاته فطرياً ؟

٧. الإجابة عن هذا السؤال.

٨. ما هو الفرق بين التوحيد الفطري والاستدلالي ؟

٩. كيف نميز بين الفطري وغير الفطري ؟

١٠. علامات الفطرية الأربع.

١١. البعد الرابع أو غريزة التدين.

١٢. سلوك الماركسيين تجاه أُصولهم.

١٣. المعنى الآخر لفطرية الإيمان بالله.

١٤. الفطرة في الأحاديث.

٣٠

هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية

في التحوّل العلمي الأخير للغرب انطلق المكتشفون والمخترعون يعدون العالم البشري بأنّه لو تم لهم اكتشاف الضوابط والسنن المتحكمة في دنيا المادة، ولو تم لهم الوقوف والاطّلاع على العلاقات السائدة بين الظواهر الطبيعية وبالتالي لو أمكنهم أن يكبحوا جماح غول الجهل الذي يطارد البشرية دون رحمة.

لو تمَّ لهم كل ذلك لاستطاع البشر أن يحصل على « المدينة الفاضلة » التي وعد بها أفلاطون، بل لاستطاعوا أن يحصلوا على الجنّة التي طالما تحدّث عنها الأنبياء، وأخبر بها الرسل !! ولم يعد بعد ذلك أيّة حاجة إلى الدين والتعاليم الدينية !! فالتقدّم العلمي والتكنولوجي وحده كفيل بأن يحقّق للإنسانية ما يليق بها من العزة والكرامة والسعادة !!

هذا ما كان يتحدّث عنه.

بيد أنّ الحوادث المريعة التي شهدتها أوائل وأواسط القرن الأخير والتي بلغت ذروتها في الحربين العالميتين اللتين كان مجموع ضحاياهما ما يزيد عن مأة مليون إنسان ما بين قتيل وجريح ومفقود الأثر.

هذه الحوادث أفرغت اليأس في قلوب كل أُولئك المتشدّقين وفنّدت مزاعمهم، وأثبتت بقوّة بأنّ عهد الدين لم يول بعد، وأنّ الحاجة إلى التعاليم

٣١

الدينية لـمـّا، ولن ترتفع ولم تزول، وأنّ من المستحيل أن تسعد البشرية وتنال الرفاه المنشود ورغد العيش دون الأخذ بالدين، ودون التوجّه إلى الله، وأنَّها على فرض حصولها على العيش الرغيد في معزل عن الدين، فإنّها ـ ولا ريب ـ ستواجه مشكلات جديدة لا يمكن حلّها وعلاجها بأدوات التطور العلمي المادي والتقدم الصناعي، والتكنولوجي.

لأنّه ما الذي سيمنع ـ في ظل الأنظمة المعتمدة على العلم المجرّد عن الدين ـ من بروز الحروب المبيدة الساحقة، واندلاع المعارك المدمرة ؟

أم أيّ نظام حقوقي سيكون قادراً على تلبية كل احتياجات الإنسان الحقوقية ومعالجة كل المشكلات الطارئة على العلاقات الاجتماعية ؟!!

لقد أصبح عرض المبادئ والنظريات الفجة مع انتحال صفة « الآيديولوجية » لها، شعار هذا العصر، ولكن الواقع العملي أثبت أنّ كل هذه المبادئ والنظريات وما يسمّى بــ‍ « الآيديولوجيات التقدمية » عجزت، وفشلت، وسقطت على صعيد التطبيق السياسي والاجتماعي والأخلاقي، وعجزت عن تقديم نموذج أرقى للحياة وطريقة أفضل للعيش، فإذا بنا نجدها سرعان ما تختفي عن المسرح واحدة تلو الأُخرى، مسلمة نفسها إلى يد النسيان والفناء، والاندحار.

فالماركسية التي جعلت « الاقتصاد » مبدأ حركة التاريخ وغايته ومحور كل التحولات الاجتماعية لم تستطع ـ أبداً ـ أن تروي عطش الإنسان إلى القضايا الروحية والمعنوية ولم تستطع أن تشبع تلك الجوعة المتأصلة في كيان الكائن البشري إلى ما وراء المادة، وبالتالي عجزت الماركسية عن الإجابة على أبسط الأسئلة في هذا المجال !!

٣٢

فالإنسان يريد دائماً أن يعرف :

من أين جاء ؟؟

ولماذا جاء ؟؟

وإلى أين يذهب ؟؟

ولكنَّ الفكر الماركسي يلوذ بالصمت تجاه هذه الأسئلة المحرجة، ويعجز ـ تماماً ـ عن الإجابة عليها.

ومن المعلوم أنّ الإنسان ما لم يحصل على إجابات مقنعة على أسئلته حول علة خلقه والهدف منه والغاية التي تنتظره فإنّه لن تنحل عنده بقية مسائل الحياة بصورة جدية وقطعية.

وكيف ـ ترى ـ يمكن أن تنحل هذه المشاكل ويتضح جواب هذه التساؤلات والماركسية تعتبر الكون ككتاب مندرس سقط أوّله وآخره فلا أوّل له ولا آخر ولا مبدأ ولا منتهى حيث إنّها لا تعترف بالمبدأ الأوّل ولا تقرّ به ولا تعرفه كما لا تعرف الغاية من الخلق ولا تقرّ بها ولا تعترف.

من هنا يعتقد المفكرون الأحرار الواقعيون النظرة في العالم، اليوم بأنّ على البشرية أن تعود إلى أحضان الدين، وأنّ المعتقدات والتعاليم الدينية يجب أن تؤخذ في الحسبان على أنّها جانب أساسي في حياة الإنسان وأنّ أي مبدأ وآيديولوجية تريد أن تشغل الإنسان بالطبيعة فقط متجاهلة ما وراء الطبيعة فإنّها ستكون محكومة بالفشل وسيكون مآلها إلى السقوط في وجه المشاكل العويصة والطرق المسدودة التي تعترض سبيلها، وسبيل كل فكرة وعقيدة.

وصفوة القول هو ما قاله العالم المعروف: « جان ديورث » :

٣٣

كيفما فسرنا الأُمور الدينية وكيفما تصورناها، فإنّ للدين سابق عهد في الحياة البشرية وله دور فعلي الآن، ولا ريب أنّه سيكون له ذلك في المستقبل أيضاً.

إنّ كون الآيديولوجية ( إلهية ) وكون المنهج إلهياً لا يعني أنْ نوجه عنايتنا إلى ما « وراء الطبيعة » ونتجاهل عالم المادة ونهمل دنيا الطبيعة، بل إنّ الفارق بين « الإلهي » و « المادي » هو أنّ الإلهي يجعل معرفته بالطبيعة سبيلاً إلى معرفة ( ما وراء الطبيعة ) هذا إلى جانب الاستفادة الكاملة والمعقولة من عالم الطبيعة والمادة، في حين يقتصر المادي على الاستفادة من الطبيعة ويجعلها هدفه الوحيد، وغايته القصوى، ويحبس نفسه في سجن المادة دون أن يحاول اللحوق إلى آفاق ما وراء الطبيعة كما يفعل المادي.

علماء الاجتماع وأصالة التديّن

يذهب علماء الاجتماع المحقّقون المحايدون إلى أنّ للاعتقاد والإيمان بالله جذوراً عميقة، وتاريخاً عريقاً في حياة الإنسان، بحيث لم يحدث للبشر حذف الدين من منهاج حياته ولا حتى لبرهة عابرة من الزمن.

أمّا البلاد الشيوعية التي حذفت الإيمان بالله من برنامج حياتها، وتظاهرت بالإلحاد والكفر وإنكار الخالق وبكل ما يتعلق بما وراء الطبيعة « الميتافيزيقا » فلها تراجيديا واسعة سنشير إليها في خاتمة البحث.

والآن نبحث حول أصالة التديّن وتجذّره في تاريخ البشر :

إنّ حياة البشر على هذا الكوكب كنز غني وثمين متاح للإنسان المعاصر والقادم. ولكل فرد من أبناء البشر حسب رؤيته، وتبعاً لمقدار معلوماته وتخصصه

٣٤

أن يستفيد من هذا الكنز العظيم الزاخر بالعبر والدروس.

ومن أجل ذلك راح الأنبياء العظام والمصلحون العالميون، والحكماء والفلاسفة، ومن ورائهم المربون الاجتماعيون وأساتذة الأخلاق، والنفسانيون وغيرهم يلفتون نظر المجتمعات البشرية إلى « تاريخ الأسلاف » ويدعونهم إلى قراءته واستلهام الدروس منه، وراح كل واحد من هذه الطوائف التي ذكرنا يستفيد من هذا الكنز العظيم، أعني: التاريخ البشري، ما أمكنه لإنجاح مهمته، وأهدافه لما في التاريخ من أدلة وشواهد لما يقولون.

إنّ تصفح مثل هذا التاريخ ومطالعة حياة الأقوام والشعوب السالفة وعلل ظهور الحضارات « الواحدة والعشرين »(١) وأرضياتها وأُسسها، وسيلة مطمئنة للباحث الذي يريد الاطلاع على جذور التديّن في قلوب البشر وفي تاريخه الطويل.

فالمتصفح في التاريخ البشري الطويل يرى كيف أنّ البشر اختار ـ طوال آلاف السنين وخلال هذه الحضارات المتنوعة ـ عشرات المناهج والأساليب لحياته، ولكنّه سرعان ما كان ينبذها ويحذفها من حياته تماماً.

لقد كان البشر ولا يزال طالباً للجديد، وخاضعاً لسنة التطور والتحول والتغير ففيما هو يوجد لنفسه ولحياته، أو يختار، برامج وأساليب جديدة لنظامه نجده من جانب آخر يلغي أُموراً ـ تبعاً للعوامل الطبيعية والظروف المحيطية والعنصرية ـ طالما دافع عنها وأحبها إلى درجة بذل النفس في سبيلها.

لكنَّ هناك أمراً واحداً بقي ثابتاً لا يتغير في قاموس الحياة البشرية، رغم كل

__________________

(١) حسبما أحصاها بعض مؤرخي الحضارات.

٣٥

تلك التغيّرات والتحوّلات.

أمراً واحداً بالغ البشر في حفظه وصيانته وتوسيع دائرته ألا وهو: موضوع « الدين »، والإيمان بما وراء المادة الذي لم يعرف فيه مللاً ولا فتوراً ولا إعراضاً.

هذا القدم في الوجود وهذه الأصالة كاشفة ولا شك عن أنّ « التديّن » والدين يعتبر من العناصر التي تؤلِّف ذات الإنسان وتعد من غرائزه الأصيلة وحاجاته الروحية والنفسية التي كانت لا تزال معه بحيث لم تتسلل إليها يد التغيير والتبديل.

يقول « ويل دورانت » المؤرّخ المعاصر :

صحيح أنّ بعض الشعوب البدائية ليس لها ديانة على الظاهر فبعض قبائل الأقزام في إفريقية لم يكن لهم عقائد أو شعائر دينية على الإطلاق، إلّا أنّ هذه الحالات نادرة الوقوع ولا يزال الاعتقاد القديم بأنّ الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقاداً سليماً وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية.

ثم يقول :

إنّ الفيلسوف معني بمسألة العقيدة الدينية من حيث قدم ظهورها ودوام وجودها(١) .

ويقول العالم الاجتماعي المعروف « صموئيل كونيك » في بعض كلماته حول جذور الدين في الأسلاف من البشر :

إنّ أسلاف البشر المعاصر ـ كما تشهد آثارهم التى حصل عليها في

__________________

(١) قصة الحضارة: ١ / ٩٩.

٣٦

الحفريات ـ كانوا أصحاب دين، ومتدينين، بدليل أنَّهم كانوا يدفنون موتاهم ضمن طقوس ومراسيم خاصة وكانوا يدفنون معهم أدوات عملهم، وبهذا الطريق كانوا يثبتون اعتقادهم بوجود عالم آخر، وراء هذا العالم(١) .

انّ ذلك الفريق من البشر وان كان يعيش في عصر لم يتم فيه اختراع « الخط » بعد، ولكنه مع ذلك كان الالتفات إلى الدين الذي يلازم بالضرورة « التوجه إلى الميتافيزيقيا » جزء من حياته.

وفي موضع آخر يطرح « ويل دورانت » السؤال التالي ويقول :

ما أساس هذه التقوى التي لا يمحوها شيء من صدر الإنسان(٢) ؟

ثم يجيب هو بنفسه على هذا السؤال في موضع آخر من الصفحات التالية بنحو ما إذ يقول :

إنّ الكاهن لم يخلق الدين خلقاً لكن استخدمه لأغراضه كما يستخدم السياسي دوافع الإنسان الفطرية وغرائزه، فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو ألاعيب كهنوتيّة إنّما نشأت عن فطرة الإنسان(٣) .

وقد يقال: لو كان للدين والتدين جذور عميقة في فطرة الإنسان وأعماق وجدانه، إذن فلماذا خاض أصحاب الأديان كل تلك الحروف طوال التاريخ البشري من أجل إقرار الدين في مجتمعاتهم.

وجواب هذا واضح، فإنّه لم يكن هناك خلاف في أصل « وجود الله »

__________________

(١) كتاب « جامعه شناسي »: ١٩٢.

(٢) قصة الحضارة: ١ / ٩٩.

(٣) المصدر نفسه.

٣٧

والالتفات إلى ما وراء المادة وإنّما الخلاف وقع في خصوصيات هذا الاعتقاد وليس في جوهره وأصله.

وبهذا يتضح أنّ الصراع قام حول التفاصيل والخصوصيات، وأمّا أصل العقيدة والإيمان بوجود الله فقد اتفقت عليه كلمة البشرية على مدار التاريخ الإنساني الطويل.

هل وجود الله بديهي ؟

لقد اعتبر بعض العرفاء « وجود الله » في العالم أمراً بديهياً، وادّعوا بأنّ استنباط هذه الحقيقة من آيات القرآن والوقوف عليها استنباط واضح ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه والتفكير مطلقاً.

وكأنّ « توماس كارليل » الفيلسوف الانجليزي قد انتزع مقالته التالية من هذا التصور والاعتقاد إذ قال :

إنّ الذين يريدون إثبات وجود الله بالبرهان والدليل ما هم إلّا كالذي يريد الاستدلال على وجود الشمس الساطعة الوهّاجة بالفانوس(١) .

ولدى مراجعة الآيات القرآنية والأدعية الواردة عن أهل بيت النبي: يمكن الوقوف على إشارات جلية إلى هذا المطلب، ونعني بداهة « وجود الله »(٢) .

__________________

(١) گلشن راز: ٥١.

(٢) ليس المراد من البداهة أن لا يختلف فيه اثنان أو لا يحتاج إلى تذكير مذكر بل للبداهة مراتب بعضها يحتاج إلى تذكير مذكر أو إشارة مشير، وربما يحتاج التصديق به إلى تخلية النفس من الرواسب والآراء السابقة، ولأجل ذلك لا مانع من أن يكون وجود الله معنى بديهياً وإن اختلف فيه الناس والفلاسفة.

٣٨

ومن ذلك قوله تعالى :

( أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ والأرض ) (١) .

فما يمكن أن يكون إشارة إلى قضية « بداهة وجود الله » في هذه الآية هو قوله:( أَفِي الله شَكٌّ ) في حين أنّ المقطع التالي من الآية أعني قوله:( فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ والأرض ) يعتبر دليلاً مستقلاً على وجود الله كما سيأتي توضيحه وبيانه فيما بعد.

وكما يمكن أن تكون الآية المذكورة إشارة إلى « بداهة وجود الله » كذلك يستفاد ذلك من الآية التالية التي تصف الله بالظهور إذ تقول :

( هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ ) (٢) .

كما ويمكن استفادة إشارات واضحة إلى هذا الأمر من دعاء الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي سيد الشهداءعليه‌السلام ، ومناجاته يوم عرفة مع ربه إذ يقول :

« كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟!

أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ؟!

متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟!

ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟!

عميت عين لا تراك عليها رقيباً ».

__________________

(١) إبراهيم: ٩.

(٢) الحديد: ٣.

٣٩

ويقولعليه‌السلام في ختام دعائه :

« يا من تجلّـى بكمال بهائه، كيف تخفى وأنت الظاهر ؟!

أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر ؟ »(١) .

ولكن لابد أن نعلم أنّه لا تنافي بين « بداهة وجود الله » و « فطرية الإيمان به » فلا مانع من أن يكون وجود الله بديهياً ويكون الإيمان بوجوده فطرياً أيضاً.

وفي الحقيقة فإنّ بداهة وجود الله ما هي إلّا نتيجة فطريته، لأنّ أحد أقسام البديهي هو: « الفطريات » كما هو واضح لمن يراجع هذا البحث في محله(٢) .

ولأجل ذلك لا مانع من أن تكون مسألة وجود الله بديهية وفطرية في آن واحد وما ذلك إلّا لأنّ الإيمان بوجوده تعالى قد امتزج بوجداننا وبفطرتنا، ولذلك يبدو وجوده لنا في صورة الأمر البديهي.

الإنسان يبحث عن الله فطرياً

يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ فطرية الإيمان بالله أمر يمكن استفادته من الآيات القرآنية(٣) وإذا بهم يجعلون الإيمان بالله كسائر الغرائز المتأصلة في البشر

__________________

(١) راجع كتاب الأدعية في دعائهعليه‌السلام يوم عرفة.

(٢) بحث « مواد الأقيسة » وهذا البحث من المباحث الهامة جداً في علم المنطق، ولكنّ المتأخرين لم يهتموا به كما ينبغي مع الأسف، وقد انفرد العلاّمة الحلي فقط في كتابه « الجواهر النضيدة » بهذا المبحث.

(٣) بمعنى أنّ الآيات القرآنية تصرّح بأنّ الإذعان بوجود الله فطري لدى الإنسان.

٤٠