مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

مفاهيم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672
المشاهدات: 141348
تحميل: 5155


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141348 / تحميل: 5155
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-249-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي ختام هذا المبحث نذكّر بعدة نقاط :

١. انّ الآيات القرآنية، والدلائل العقلية أثبتت بوضوح أنّ التوحيد في الخالقية والتدبير لا يمنع من أن يقوم النظام الكوني على أساس العلة والمعلول، لأنّ تأثير الأسباب لا يكون في معزل عن إرادة الله، بل هو ـ بالتالي ـ فعله بنحو من الأنحاء.

٢. قد توجب المصالح بأن يعطّل الله سبباً من تأثيره، مثل أن يجرّد من النار خاصية الإحراق، ويأمر البحر بأن لا يغرق كما فعل لموسى وقومه، إذ يقول عن الأوّل :

( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً ) (١) .

ويقول عن الثاني :

( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ ) (٢) .

٣. كيف يمكن القول بأنّ الله خالق الحسنات والسيئات، وأي رابطة بين الكمال المطلق والخير البحت والجمال المحض وخلق السيئات ؟

والجواب: إنّ كون الشيء سيئاً ليس من الصفات الحقيقية التي يتّصف بها الشيء مطلقاً كالبياض والسواد حتى يمتنع صدوره من الله لكونه كمالاً وخيراً مطلقاً، بل من الصفات النسبية التي لا يتّصف بها الشيء إلّا بالمقايسة والنسبة، كما في الكبر والصغر فإنّ الشيء لا يتّصف به من دون مقايسة.

وعلى ذلك فالسيئات من حيث وجودها لا تتصف بالسوء حتى يمتنع

__________________

(١) الأنبياء: ٦٩.

(٢) طه: ٧٧.

٤٢١

انتسابها إلى الله، بل هي من تلك الزاوية طوارئ جميلة، وإنّما يتّصف بها إذا كان هناك نوع من النسبة بينها وبين حياة الإنسان، فقدرة العدو مثلاً سيئة ومضرة بالقياس إلى الطرف الآخر، والمطر مضر وشر بالقياس إلى تخريبه المنازل، ففي هذه الحالة فقط يمكن أن توصف هذه الظواهر بالشر والسوء وفي هذه الصورة بالذات يقول الناس « لقد نزل البلاء ».

وعلى الجملة: الهدف من انتساب الحسنة والسيئة كليهما إلى الله سبحانه، ليس هو انتساب السيئة ـ بوصف كونها سيئة ـ إلى الله، فإنّ الشيء إنّما يتّصف بكونه سيئاً إذا كانت هناك مقايسة بالنسبة إلى الإنسان، وإلاّ فلا يتصف من حيث وجوده بكونه شرّاً وسيئاً، فالعقرب شرّ إذا قيس بالنسبة إلى الإنسان، والسيل الجارف شر إذا قيس إلى الدور التي هدمها، ومع عدم هذه المقايسة لا يتصف شيء بكونه سيئاً، والآية بما أنّها في مقام توحيد الخالقية والربوبية تنسب وجود كل حادثة إلى الله سبحانه بما أنّه المنبع الوحيد للخلق والتقدير(١) .

٤. قد تبيّن ممّا ذكرناه في وجه الجمع بين نسبة الحسنات والسيئات إلى الله أوّلاً، ونسبة الحسنات إليه سبحانه والسيئات إلى الإنسان ثانياً، إنّه لا منافاة بين قوله سبحانه:( أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٢) .(٣)

وقوله سبحانه:( قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرتُم ) (٤) .

فما يتطيّرون به إنّما يجري في الكون بأمره سبحانه فلا خالق له إلّا هو، غير

__________________

(١) راجع ما حققنا في صفحة ٣٧٠ من نسبة الشرور والآفات إلى الله.

(٢) الأعراف: ١٣١.

(٣) ونظير ذلك قوله سبحانه:( قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ) ( النمل: ٤٧ ).

(٤) يس: ١٩.

٤٢٢

أنّ منبع الطائر ليس إلّا نفس الإنسان وعمله الذي يجري عليه الذي يسمّيه طائراً.

٥. إنّ أيّة ظاهرة في العالم مرتبطة بعلة، وهذا قانون كلّي وعام لا يقبل ـ في منطق العقل ـ أيَّ تغيير واستثناء، وفي هذه الصورة ينطرح سؤال وهو: كيف إذن تتحقّق معجزات الأنبياء والرسلعليهم‌السلام ، وفي ظل أي سبب تقع ؟

غير أنّ المحقّقين من الفلاسفة والمتكلّمين قد بحثوا حول هذاالسؤال بحثاً وافياً، فليراجع في محله.

٤٢٣
٤٢٤

الفصل التاسع

التوحيد في العبادة

٤٢٥

التوحيد في العبادة

١. دوافع الشرك في العبادة.

٢. لفظة العبادة في معاجم اللغة العربية.

٣. هل العبادة هي مطلق الخضوع ؟

٤. هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك ؟

٥. التعاريف الثلاثة للعبادة.

٦. الشيعة الإمامية وتهمة التفويض.

٧. معنى الإلوهية وما هو ملاكها ؟

٨. هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية غير المستقلة يوجب الشرك ؟

٩. هل التوسل بالأسباب غير الطبيعية يُعد شركاً ؟

١٠. هل الحياة والموت تعدّان حداً للتوحيد والشرك ؟

١١. هل تعظيم أولياء الله والتبرك بآثارهم أحياء وأمواتاً شرك ؟

١٢. هل قدرة المستغاث وعجزه من حدود التوحيد والشرك ؟

١٣. هل طلب الأُمور الخارقة للعادة شرك وملازم للاعتقاد بالوهية المسؤول ؟

١٤. هل يكون طلب الشفاعة من الصالحين ودعوتهم شركاً ؟

١٥. عقائد الوثنيين في العصر الجاهلي.

٤٢٦

١

دوافع الشرك في العبادة

الأمر الذي كان يؤلِّف أساس دعوة الأنبياء في جميع عهود الرسالة السماوية هو: دعوة البشر إلى عبادة الله الواحد، والاجتناب عن عبادة غيره.

فالتوحيد في العبادة وتحطيم أغلال الشرك والوثنية كان من أهم التعاليم السماوية التي تحتل مكان الصدارة في رسالات الأنبياء: حتى كأنّ الأنبياء والرسل لم يبعثوا ـ أجمع ـ إلّا لهدف واحد، هو تثبيت دعائم التوحيد ومحاربة الشرك.

لقد ذكر القرآن هذه الحقيقة ـ بجلاء ـ إذ قال :

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمّةٍ رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (١) .

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلّا نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (٢) .

ثم في موضع آخر يصف القرآن الكريم التوحيد في العبادة بأنّه الأصل

__________________

(١) النحل: ٣٦.

(٢) الأنبياء: ٢٥.

٤٢٧

المشترك بين جميع الشرائع السماويّة، إذ يقول :

( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تََعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلّا نَعْبُدَ إلّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) (١) .

وإذا أردت أن تعرف كيف بيّن القرآن الكريم الشرك في العبادة، أو جميع أقسامه، وصور المشرك في فقده ما يعتمد عليه في حياته فتدبّر في الآية التالية، إذ يقول تعالى :

( وَمَنْ يُشْرِكْ باللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) (٢) .

ولا يستطيع أيُّ تشبيه على ترسيم بطلان الشرك وضياع المشرك وخيبته وحيرته بأوضح ممّا رسمته هذه الآية الكريمة.

منشأ الشرك والوثنية

من العسير جداً إبداء الرأي في جذور الوثنية ومنشأ هذا الانحراف العقيدي ونموّه بين البشر، خاصّة أنّ موضوع الوثنية لم يكن عند قوم أو قومين، ولا في شكل أو شكلين، ولا في منطقة أو منطقتين، ليتيسّر للباحث إبداء نظر قطعي فيه وفي نشوئه.

فالوثنية عند « العرب الجاهليين » مثلاً تختلف عمّا عليها عند « البراهمة »، وهي عند « البوذيين » تختلف عمّا هي عليها عند « الهندوس »، فاعتقادات هذه الملل والشعوب مختلفة في موضوع الشرك، بحيث يعسر تصوّر قدر مشترك

__________________

(١) آل عمران: ٦٤.

(٢) الحج: ٣١.

٤٢٨

بينها(١) .

أمّا العرب البائدة مثل عاد وثمود: أُمم هود وصالح، ومثل سكنة مدين وسبأ: أُمم شعيب وسليمان، فكانوا بين وثنيين وعبدة الشمس.(٢) وقد ذكرت عقائدهم وطريقة تفكيرهم في القرآن الكريم.

وقد كان عرب الجاهلية من أولاد إسماعيل موحدين ردحاً من الزمن، يتَّبعون تعاليم النبي إبراهيم وولده إسماعيلعليهما‌السلام ولكن ـ على مرّ الزمان وعلى أثر الارتباط بالشعوب والأُمم الوثنية ـ حلّت الوثنية محل التوحيد في المجتمع العربي الجاهلي تدريجاً(٣) .

هذا حال الأُمّة العربية العائشة في تلكم النواحي، وأمّا الأُمّة العائشة في مكة وضواحيها المقاربة لعصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد نقل المؤرخون أنّ أوّل من أدخل الوثنية في مكة ونواحيها وروّجها فيها هو: « عمرو بن لحي ».

فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان، وعند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً :

ـ ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها ؟

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا !

__________________

(١) شرحت دوائر المعارف، وبخاصة دائرة معارف البستاني معتقدات هذه الشعوب الآسيوية التي تعيش في رقعة كبيرة في آسيا.

(٢) قال سبحانه:( وَجَدْتَهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلْشَمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ ) ( النمل: ٢٤ ).

(٣) وهذا يعطي أنّ الوثنية يمتد جذورها في المجتمع العربي الجاهلي إلى زمن بعيد وإن كان دخولها إلى مكة وضواحيها ليس بذاك البعد حسب ما ينقله ابن هشام وغيره من أهل السير والتاريخ.

٤٢٩

فقال لهم: أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه ؟

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم « هبل » ووضعه على سطح الكعبة المشرفة، ودعا الناس إلى عبادتها(١) .

هكذا تسرّبت الوثنية إلى الحجاز وظهرت عند الأقوام والقبائل العربية المختلفة: الأصنام والآلهة المدعاة التي كانوا يعبدونها.

يرى بعض الباحثين أنّ « الوثنية » نشأت من تعظيم الشخصيات وتكريمهم، فعندما كان يموت أحد الشخصيات كانوا ينحتون له تمثالاً لإحياء ذكراه وتخليد مثاله في أفئدتهم، ولكن مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال كانت تتحول هذه التماثيل ـ عند تلك الأقوام ـ إلى معبودات، وإن لم تقترن ساعة صنعها بمثل هذا الاعتقاد(٢) .

وأحياناً كان رئيس عائلة يحظى باحترام وتعظيم كبيرين ـ في حياته ـ حتى إذا مات نحتوا له تمثالاً على صورته وعكفوا على عبادته.

وفي اليونان والروم القديمتين كان ربُّ العائلة ورئيسها يعبد من قبل أهله، فإذا توفّي عبدوا تمثاله.

وتوجد اليوم في متاحف العالم أصنام وتماثيل لرجال الدين وللشخصيات البارزة الذين كانوا ـ ذات يوم ـ أو كانت أصنامهم تعبد كما يعبد الإله.

ومن محاورة النبي إبراهيمعليه‌السلام مع كبير قومه: « نمرود » يستفاد ـ بوضوح ـ أنّ نمرود كان موضع العبادة من جانب قومه.

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ١ / ٧٩.

(٢) هذا الرأي غير ثابت عند كاتب هذه السطور، ثمّ ليس من المعلوم هل كان عملهم ذاك مجرد تعظيم أو عبادة.

٤٣٠

كما يتبين بأنّ فرعون زمان موسىعليه‌السلام رغم أنّه كان بنفسه معبوداً عند قومه كان يعبد أصناماً، خاصة، لعلها كانت أشكالاً لشخصيات سابقة من أسلاف فرعون، حيث يخبرنا القرآن الكريم قائلاً :

( وَقَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (١) .

خلاصة النظر: أنّ هذه الأصنام والتماثيل كانت تنحت وتصنع بادئ الأمر لتخليد ذكرى رجال دين وزعماء وشخصيات كبار، ولكن مع مرور الزمن وانقراض أجيال وحلول أجيال أُخرى مكانها كان هذا الهدف ينحرف عن مجراه الأصلي، وتتحول تلك التماثيل إلى معبودات، وتلك الأصنام إلى آلهة مزعومة.

التوحيد في العبادة

والمقصود بهذا التوحيد هو: أن نفرد خالق الكون بالعبادة، ونجتنب عن عبادة غيره ممّا يكون مخلوقاً له تعالى، وهذا في مقابل الشرك في العبادة الذي يعني أن يعبد الإنسان رغم اعتقاده بوحدانية خالق هذا الكون ـ مخلوقاً، أو مخلوقات، لسبب من الأسباب.

وهذا هو ما تسمّيه الوهابية بالتوحيد في الإلوهية كما تسمّي التوحيد الذاتي بالتوحيد في الربوبية، وكلا الاصطلاحين خطأ لما عرفت من معنى الإلوهية حيث قلنا: بأنّ معناها ليس المعبودية، بل ( الإله، والله ) متساويان من حيث المبدأ والمفهوم، غير أنّ الأوّل كلّي، والثاني علم لواحد من مصاديق ذاك الكلّي.

__________________

(١) الأعراف: ١٢٧.

٤٣١

وأمّا الربوبية فهي بمعنى التدبير والتصرّف في الكون، لا « الخالقية » وان كان التدبير من حيث الأدلة الفلسفية لا ينفك عن الخالقية كما تقدّم تفصيله في « التوحيد في الربوبية »(١) .

والأولى بل المتعيّن أن نعبّر عن التوحيد الذاتي بالتوحيد في الإلوهية، وأنّه ليس هناك إله إلّا الله، لا أنّ هناك إلهاً أعلى وهو الله سبحانه، وألهة صغاراً يملكون بعض شؤونه سبحانه، من الشفاعة والمغفرة وغيرهما مما هو من أفعاله سبحانه كما كان عليه العرب الجاهليون.

كما أنّ المتعيّن أن نعبّر عن « التوحيد في الخلق » بالتوحيد في الخالقية لا التوحيد في الربوبية، لما عرفنا من أنّ الرب ليس بمعنى الخالق وإن كان لا ينفك عنه في الصعيد الخارجي حسب البرهان العقلي.

كما أنّ المتعيّن أن نعبّر عن التوحيد في العبادة بهذا اللفظ نفسه لا بالتوحيد الالوهي، لما عرفت من أنّ الإله ليس بمعنى المعبود.

والحاصل: أنّه ليس المطروح في هذه المرحلة من الشرك هو: تعدد الآلهة ولا الاعتقاد بأنّ للكون أجمع خالقاً غير الله الواحد الذي خلق الكون بما فيه من الآلهة المزعومة، ولكن مع هذا الاعتراف ربّما تترك عبادة الإله الواحد، ويعبد غيره.

وتختلف دوافع « عبادة المخلوق أو المخلوقات » عند الأُمم والشعوب، فربما كانت علة بسيطة، وأحياناً كان يتخذ الدافع صبغة فلسفية، وفيما يلي نستعرض أهم دوافع الشرك.

__________________

(١) الفصل الثامن.

٤٣٢

دوافع الشرك في العبادة

نشير ـ من بين الدوافع الكثيرة ـ إلى ثلاثة دوافع :

١ . الاعتقاد بتعدّد الخالق

كان الوثنيون ومن شاكلهم من القائلين بالتثليث، بحكم اعتقادهم بالثنوية والتثليث، مضطرين إلى عبادة أكثر من اله.

ففي البوذية تجلّى الإله الأزلي الأبدي في ثلاثة آلهة، أو ثلاثة مظاهر بالأسماء التالية :

١. براهما: أي الإله الموجد.

٢. فيشنو: أي الإله الحافظ المبقي.

٣. سيفا أي الإله المفني.

وفي النصرانية ظهر بالأسماء التالية :

١. الأب.

٢. الابن.

٣. روح القدس.

وفي الدين الزرادشتي اعتقد إلى جانب « اهورامزدا » بإلهين آخرين هما :

١. يزدان.

٢. اهريمن(١) .

__________________

(١) وعلى هذا التفسير يصير المجوس من الثنوية بلحاظ، ومن أهل التثليث بلحاظ آخر فتدبر.

٤٣٣

وإن كانت عقيدة الزرادشتيين ـ الواقعية ـ في شأن هذين الإلهين الأخيرين تكتنفها هالة من الإبهام والغموض.

وعلى كل حال فإنّ الاعتقاد الذهني بتعدد الذات الإلهية كان أحد الدوافع وراء عبادة غير الله، والسبب للشرك في العبادة، وقد أبطل القرآن الكريم بالبراهين العديدة الواضحة أساس مثل هذا الاعتقاد، وقد تقدّم البحث في تلك البراهين عند البحث عن التوحيد في الربوبية والتدبير.

٢ . تصوّر ابتعاد الخالق عن المخلوق

وقد كان الدافع الثاني لعبادة غير الله هو تصوّر ابتعاد الله عن المخلوق، بمعنى أنّهم كانوا يظنون أنّ الله بعيد عن المخلوقين لا يسمعهم ولا تبلغه أدعيتهم وطلباتهم، ولذلك اختاروا وسائل ظنوا أنّها تتكفّل إيصال أدعيتهم إليه، وكأنّ المقام الربوبي كالمقامات البشرية لا يمكن الوصول إليها إلّا عن طريق الوسائط، ومن أجل هذا راحوا يعبدون القدّيسين والملائكة والجن والأرواح لتوصل دعواتهم إلى المقام الربوبي !.

ولقد أبطل القرآن الكريم هذه التصوّرات ببيانات متنوعة ومتعددة يقول فيها :

بأنّ الله أقرب من كل قريب.

وانّه تعالى يسمع سرهم ونجواهم وعلانيتهم.

وانّه تعالى محيط بما يضمرون ويعلنون.

ولذلك فلا حاجة إلى اتخاذ تلك الآلهة المصطنعة، ولا حاجة إلى عبادتها، إذ

٤٣٤

لو كان الهدف من عبادتها هو توسطهم لإيصال مطالبهم إلى الله، فالله يعلم بها جميعاً، وهو الذي لا يعزب عنه شيء :

وجاء كل هذا في الآيات التالية :

( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ ) (١) .

( أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) (٢) .(٣)

( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (٤) .(٥)

( قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ ) (٦) .

( مَا يَكُونُ مِنْ نَجوَىٰ ثَلاَثَةٍ إلّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إلّا هُوَ سَادِسُهُمْ ) (٧) .

وبهذه الآيات وغيرها يبطل القرآن الكريم هذا الدافع للوثنية والشرك.

٣. تفويض التدبير إلى صغار الآلهة

يجد كل إنسان في قرارة نفسه الخضوع للقدرة العليا، ويستصغر نفسه في قبالها، ومثل هذا الإحساس الفطري وإن لم يظهر على اللسان والجوارح الأُخرى لكنّه يكمن في قرارة الضمير في صورة نوع من الإحساس بالخضوع، هذا من

__________________

(١) ق: ١٦.

(٢) الزمر: ٣٦.

(٣) و (٥) نعم ليست صراحة الآيتين في ما نرتئيه، مثل الآية المتقدمة فلاحظ.

(٤) غافر: ٦٠.

(٦) آل عمران: ٢٩.

(٧) المجادلة: ٧.

٤٣٥

جانب، ومن جانب آخر اعتاد على التعامل مع الموجودات المحسوسة فيريد صبَّ كلِّ أمر في قالب المحسوس.

وعلى هذا الأساس يريد المشرك أن يصبَّ القوى الغيبية في صورة الأجسام المشاهدة، والأشكال المنظورة، أضف إلى ذلك أنّه لقصور فكره، أو لتصوّر أنّ كل حادثة في هذا الكون أُنيطت إلى قوّة قاهرة هي أيضاً مخلوقة لله كإله البحر، وإله الحرب، وإله السلام، وكأنّ حكومة الكون مثل حكومات الأرض يفوض فيها كل جانب من جوانب الحياة إلى واحد، وتكون هذه القدرة مختارة فيما تريد، وفعالة لما تشاء !!

من أجل هذا عبد سكنة شواطئ البحار إله البحر، لكي يجود عليهم بنعم البحر ويدفع عنهم آفاته وغوائله، كالطوفان ; فيما عبد سكنة الأراضي والصحارى إله البر، ليفيض عليهم بمنافعها، ويدفع عنهم مضارها، كالزلزال وما شابه ذلك من آفات الأرض، وغوائل الصحراء.

ولكن حيث إنّهم ما كانوا متمكنين من رؤية هذه الآلهة التي توهموها واخترعوها، فافترضوا لها صوراً خيالية، وأشكالاً وهمية، ونحتوا على غرارها تماثيل وأصناماً، وراحوا يعبدون هذه الأصنام المصنوعة بدلاً عن عبادة القوى الغيبية نفسها التي تمثلها هذه الأصنام ـ كما في زعمهم ـ.

لهذا السبب كان بين عرب الجاهلية فريق يعبد الملائكة، وفريق آخر يعبد الجن، وثالث يعبد الكواكب الثابتة كالشعرى، ورابع يعبد الكواكب السيارة، وكان الهدف من عبادتها ـ جميعاً ـ هو جلب خيرها ونفعها، واجتناب ضررها وشرورها.

ولقد كانوا يتمتعون ـ في صنع التماثيل والأصنام ـ بسعة نظر خاصة، فهم لم

٤٣٦

يلزموا أنفسهم بأن يصنعوا ما ينطبق على الصور الواقعية لتلك الأشياء ولذلك كانوا يصنعون لكل واحد من الآلهة الموهومة أصناماً لا تشبه صورها الواقعية أبداً كإله الحرب، وإله السلام، وإله الحب، ولكن في كل هذه الموارد كان الدافع الوحيد هو صب الأُمور الغيبية في قالب المحسوسات، وحيث إنّ هذه الأرباب والآلهة ( الصغار ) لم تكن بذاتها في متناول الإحساس، وكان للكواكب طلوع وأُفول، وكان التوجه إليها لا يخلو ـ لذلك ـ من مشقة فتوجهوا صوب تماثيلها، وصاروا إلى عبادتها.

ولقد انتقد القرآن وندّد بشدَّة بفكرة تفويض القدرة وأمر تدبير الكون إلى الآلهة الصغار المدعاة المخلوقة لله، ووصف الله ـ في مواضع عديدة ـ بأنّه المدبّر الوحيد لأُمور الكون حيث يقول :

( ثُمَّ اسْتَوى عَلَىٰ العَرشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ ) (١) .(٢)

لقد جعل القرآن الكريم ـ في آيات كثيرة ـ الخلق الأحياء والإماتة وتسيير الكواكب والأفلاك وتنظيم الشمس والقمر والأرزاق، أفعالاً مختصة بالله تعالى(٣) وندّد بعنف وشدة بكلّ فكرة تقتضي بإشراك أيّة قدرة مع الله، وكلِّ فكرة تقول بتفويض تدبير الأُمور الكونية إلى مخلوقاته.

إنّ الآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن من الكثرة بحيث يعسر نقل

__________________

(١) يونس: ٣.

(٢) راجع الرعد: ٢ والسجدة: ٥.

(٣) اختصاص هذا النوع من الأُمور بالله لا يمنع من توسيط الأسباب التي تعمل هي أيضاً بأمر الله ومشيئته ويكون قدرتها في طول القدرة الإلهية، وواضح أنّ الإتيان بتلك الأُمور عن طريق الأسباب لا يعني تفويض أمر الكون إليها، وقد وافاك حق القول في هذا الأمر، عند البحث عن التوحيد في الربوبية والتدبير فلاحظ.

٤٣٧

عشرها هنا، ولكن للاطّلاع نذكر ونورد بعض هذه الآيات :

( إِنَّ رَبَّكُمْ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَىٰ العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشَّمْسَ والقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (١) .

( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الامْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ *فَذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ) (٢) .

* * *

إلى هنا بيّنا ثلاثة دوافع للإشراك بالله في العبادة ولن ندّعي ـ مطلقاً ـ بأن لا يكون ثمة دافع آخر للشرك غير ما ذكرناه، ولكن الدوافع التي ينتقدها القرآن الكريم تكون أساس نشوء الشرك وانتشاره في العالم.

إنّ المسلم المعتقد بإله الكون، الإله الواحد، الإله الحاضر في كل مكان، القريب إلى عباده، الإله الذي بيده الخلق المدبّر للكون بنفسه الذي لم يعط أمره ولم يفوضه إلى أحد.

إنّ المسلم مع هذا الاعتقاد، لا يمكن أن يتخذ معبوداً سوى الله، بل لا تكفي عبادته وحده، إنّما يجب عليه أن يحارب عقائد الشرك والوثنية، وأن لا يرضى بتجاوز أحد عن دائرة التوحيد لحظة واحدة.

* * *

__________________

(١) الأعراف: ٥٤.

(٢) يونس: ٣١ ـ ٣٢.

٤٣٨

وحول الدافع الثالث نذكّر بنكتة مهمة وهي: أنّه قد يمكن أن يعتقد أحد بأنّ أمر الكون كلّه لله، ولم يسلّم هذا النوع من الأُمور إلى غيره، ولكن يعتقد بأنّ الأُمور المعنوية التي ترتبط بأعمال العباد كالشفاعة والمغفرة مما تكون من الأُمور المختصة بالله فإنّه يمكن أن يعطيها الله للأفراد، وهذا هو أحد دوافع عبادة غير الله، ولقد جعل القرآن الكريم: الشفاعة ـ بصراحة تامة ـ محض حق لله فلا يمكن لأحد أن يشفع بدون إذنه، إذ يقول :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) .

كما جعل الغفران والمغفرة لذنوب عباده حقاً مختصاً به سبحانه لا يشاركه فيه أحد غيره، ومن زعم أنّ المغفرة بيد غيره سبحانه فقد أشرك، قال تعالى :

( فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا اللهُ ) (٢) .

ولقد كان فريق من وثنيي عصر الرسالة يعبدون الأصنام التي كانوا يتصوّرون أنَّها من ذوي النفوذ عند الله، وأنّها أُنيطت إليها أُمور الشفاعة والمغفرة.

وسوف نتحدث في البحوث القادمة حول هذا النوع من الشرك الذي هو أضعف أنواعه، وإذا تبيّنت هذه الدوافع واتضحت لنا كيفية انتقاد القرآن الكريم لها يلزم أن نلتفت إلى ما يذكره أغلب كتّاب الوهابيين ومؤلّفيهم في كتبهم.

لم يزل مؤلفو الوهابية يعترفون بنوعين من التوحيد، ويسمّون النوع الأوّل من التوحيد ب‍ « التوحيد الربوبي » ويسمون النوع الآخر ب‍ « التوحيد الالوهي » ثم يذكرون انّ التوحيد الربوبي، والاعتقاد بوحدانية الخالق لا يكفي بمجرده في

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) آل عمران: ١٣٥.

٤٣٩

التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسول الأعظم خاصة من أجل إقراره ونشره في المجتمع الإنساني، بل يجب ـ علاوة على التوحيد الربوبي ـ أن يفرد الله بالعبادة ولا يشرك به أحد، لأنّ مشركي العرب مع أنّهم كانوا يوحدون خالق الكون ويعتقدون بأنّه واحد لا أكثر، فإنّ القرآن كان يعتبرهم مشركين، إذ يقول :

( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللهِ إلّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) (١) .(٢)

ولا كلام في هذا المطلب، وليس من المسلمين أحد يتحلّى بالواقعية ينكر عدم كفاية التوحيد الربوبي وحده، بل للتوحيد ـ كما أسلفنا ـ مراحل أربع وإن اقتصر الوهابيون على مرحلتين منها ونسوا أو تناسوا المرحلتين الأُخريين.

غير أنّ الجدير بالذكر هو: انّه لا يختلف أحد مع هؤلاء في هذه المسألة الكلية، فالجميع متفقون على وجوب الاجتناب عن عبادة غير الله، ولكن المهم هو أنّ الوهابيين يتصورن أنّ تعظيم الأنبياء، وأولياء الله ـ مثلاً ـ عبادة، في حين أنّ بين التعظيم والعبادة ـ في نظر الآخرين ـ بوناً شاسعاً وفرقاً كبيراً.

وبعبارة أُخرى: ليس بين المسلمين خلاف في هذا الأصل الكلي، وهو عدم جواز عبادة غير الله أبداً، وإنّما الخلاف هو في نظر الفرقة الوهابية إلى بعض الأعمال ـ كالزيارة مثلاً ـ حيث اعتبرتها عبادة، في حين لا تكون هذه الأعمال عبادة في نظر الآخرين.

__________________

(١) يوسف: ١٠٦.

(٢) فتح المجيد تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ( المتوفّى عام ١٢٨٥ ه‍ ) ص ١٢ و ٢٠، وهذا الأمر يدرّس الآن في المناهج الدراسية عندهم، ويؤكدون على هذين النوعين من التوحيد ثم يتهمون المسلمين بأنّهم موحدون ربوبياً لا الوهياً.

وقد عرفت في ما مضى أنّ تسمية التوحيد في الخالقية بالتوحيد الربوبي، وتسمية التوحيد في العبادة بالتوحيد الالوهي خطأ من حيث اللغة ومصطلح القرآن فلاحظ الصفحة ٤٣١.

٤٤٠