مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

مفاهيم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672
المشاهدات: 141363
تحميل: 5155


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141363 / تحميل: 5155
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-249-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فخضوع أحد أمام موجود وتكريمه ـ مبالغاً في ذلك ـ دون أن ينبع من الاعتقاد بالوهيته لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود، وإن كان من الممكن أن يكون حراماً، مثل سجود العاشق للمعشوقة أو المرأة لزوجها، فإنّها وإن كانت حراماً في الشريعة الإسلامية، لكنها ليست عبادة، فكون شيء حراماً، غير القول بأنّه عبادة، فإنّ حرمة السجود أمام بشر من غير اعتقاد بالوهيته وربوبيته إنّما هي لوجه آخر.

من هذا البيان يتضح جواب سؤال يطرح نفسه في هذا المقام، وهو إذا كان الاعتقاد بالإلوهية أو الربوبية أو التفويض، شرطاً في تحقق العبادة، فيلزم أن يكون السجود لأحد دون ضم هذه النيّة جائزاً ؟

ويجاب على هذا: بأنّ السجود حيث إنّه وسيلة عامة للعبادة، وحيث إنّ بها يعبد الله عند جميع الأقوام والملل والشعوب وصار بحيث لا يراد منه إلّا العبادة، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد من هذه الوسيلة العالمية حتى في الموارد التي لا تكون عبادة، وهذا التحريم إنّما هو من خصائص الإسلام إذ لم يكن حراماً قبله، وإلاّ لما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسفعليه‌السلام ، إذ يقول:( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَىٰ العَرْشِ وَخَرُُّّوا لَهُ سُجَّداً ) (١) .

* * *

لقد استدل بعض المحقّقين(٢) بالآيات التالية على حرمة السجود لغير الله مطلقاً حتى لو لم يكن بعنوان العبادة :

( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ

__________________

(١) يوسف: ١٠٠.

(٢) البيان: ٥٠٤.

٤٨١

تَعْبُدونَ ) (١) .

( وَأنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدَاً ) (٢) .

ولكن الإمعان في هاتين الآيتين يفيد أنّ الهدف هو: تحريم السجدة التي تكون بقصد العبادة لا ما كان بقصد التعظيم، إذ يقول في أُولى الآيتين:( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدونَ ) ويقول في ثانيتهما:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدَاً ) على أنَّنا سنقول في المستقبل إنّ المقصود بالدعوة ـ هنا ـ هو: العبادة، لذلك فالأفضل ـ في هذا المجال ـ أن نستدل بالإجماع والأحاديث، ولذلك استدل هو بنفسه بعد الاستدلال بالآيتين الآنفتين بالإجماع، إذ قال: « فقد أجمع المسلمون على حرمة السجود لغير الله ».

قال الجصاص: قد كان السجود جائزاً في شريعة آدمعليه‌السلام ، للمخلوقين ويشبه أن يكون قد كان باقياً إلى زمان يوسفعليه‌السلام ، فكان فيما بينهم لمن يستحق ضرباً من التعظيم ويراد إكرامه وتبجيله بمنزلة المصافحة والمعانقة فيما بيننا، وبمنزلة تقبيل اليد، قد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في إباحة تقبيل اليد أخبار، وقد روي الكراهة، إلّا أنّ السجود لغير الله على وجه التكرمة والتحية منسوخ بما روت عائشة وجابر وأنس أنّ النبي قال: « ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها »(٣) .

* * *

__________________

(١) فصلت: ٣٧.

(٢) الجن: ١٨.

(٣) أحكام القرآن: ١ / ٣٢، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص ( المتوفّى عام ٣٧٠ ه‍ ).

٤٨٢

إلى هنا استطعنا ـ بشكل واضح ـ أن نتعرف على حقيقة « العبادة » و « الشرك » ويلزم أن نستنتج من هذا البحث فنقول: إذا خضع أحد أمام آخرين وتواضع لهم، لا باعتقاد أنّهم « آلهة » أو « أرباب » أو « مصادر للأفعال والشؤون الإلهية » بل لأنّ المخضوع لهم إنّما يستوجبون التعظيم، لأنّهم( عِبَادٌ مُكَرَمُونَ *لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (١) فإنّ هذا الخضوع والتعظيم والتواضع والتكريم لن يكون عبادة قطعاً، فقد مدح الله فريقاً من عباده بصفات تستحق التعظيم عندما قال :

( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَىٰ العَالَمِينَ ) (٢) .

وفي موضع آخر من القرآن صرح الله تعالى باصطفاء إبراهيم لمقام الإمامة، إذ يقول تعالى :

( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) (٣) .

وكل هذه الأوصاف العظيمة التي مدح الله بها: نوحاً وإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمداً ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ أُمور توجب نفوذهم في القلوب والأفئدة، وتستوجب محبتهم واحترامهم حتى أنّ مودة بعض الأولياء فرضت علينا بنصِّ القرآن(٤) .

فإذا احترم أحد هؤلاء، في حياتهم أو بعد وفاتهم، لا لشيء إلّا لأنّهم عباد الله المكرمون، وأولياؤه المقربون، وعظمهم دون أن يعتقد بأنّهم « آلهة » أو « أرباب »

__________________

(١) الأنبياء: ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) آل عمران: ٣٣.

(٣) البقرة: ١٢٤.

(٤)( قُل لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ( الشورى: ٢٣ ).

٤٨٣

أو « مصادر للشؤون الإلهية » لا يعد فعله عبادة ـ مطلقاً ـ ولا هو مشركاً أبداً.

وعلى هذا لا يكون تقبيل يد النبي أو الإمام أو المعلم، أو الوالدين، أو تقبيل القرآن أو الكتب الدينية، أو أضرحة الأولياء وما يتعلّق بهم من آثار، إلّا تعظيماً وتكريماً لا عبادة.

نحن ومؤلّف تفسير المنار

وفي ختام هذا البحث يجدر بنا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى طائفة من التعاريف للعبادة، ونذكر بعض ما فيها من الضعف :

١. قال في المنار: العبادة ضرب من الخضوع، بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشؤها واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها.(١)

وهذا التعريف لا يخلو عن قصور، إذ بعض مصاديق العبادة، لا تكون خضوعاً شديداً، ولا يكون بالغاً حد النهاية كبعض الصلوات الفاقدة للخشوع، ثم ربما يكون خضوع العاشق أمام معشوقته والجندي أمام آمره، أشدَّ خضوعاً مما يفعله كثير من المؤمنين بالله تجاه ربّهم في مقام الدعاء والصلاة والعبادة، ومع ذلك لا يقال لخضوعهما بأنّه عبادة، في حين يكون خضوع المؤمنين تجاه ربهم عبادة وإن كان أخف من الخضوع الأوّل.

نعم لقد ذكر هذا المؤلف نفسه ـ في حنايا كلامه ـ ما يمكن أن يكون معرّفاً صحيحاً للعبادة ومتفقاً ـ في محتواه ـ مع ما قلناه حيث قال :

للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرِّعت لتذكير الإنسان بذلك

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٥٧.

٤٨٤

الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة، وسرها(١) .

إنّ عبارة: « الشعور بالسلطان الإلهي » حاكية عن أنّ الفرد العابد حيث إنّه يعتقد بالوهية المعبود، لذلك يكون عمله عبادة وما لم يتوفر مثل هذا الاعتقاد في عمله لا يتصف بالعبادة.

٢. وقد جاء شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت بتعريف يتحد مع ما ذكره صاحب المنار معنى ويختلف معه لفظاً، فقال :

العبادة خضوع لا يحد لعظمة لا تحد(٢) .

فالتعريفان متحدان نقداً وإشكالاً، فليلاحظ، وان كان تفسير المنار يختص بإشكال آخر، حيث إنّه يقول: « العبادة ناشئة عن استشعار القلب عظمة لا يعرف منشؤها » في حين أنّ العابد يعلم أنّ علة العظمة هي: السلطة الإلهية، التي هي الوهية المعبود والإحساس بالحاجة الشديدة إليه، وأنّ بيده مصير العابد، وغير ذلك من الدوافع، فكيف لا يعرف منشؤها ؟(٣) .

٣. وأكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية، إذ قال :

العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة، والزكاة والصيام، والحج، وصدق الحديث، وإداء الأمانة وبر الوالدين، وصلة الأرحام(٤) .

وهذا الكاتب لم يفرق ـ في الحقيقة ـ بين العبادة، وبين التقرّب، وتصوّر أنّ

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٥٧.

(٢) تفسير القرآن الكريم: ٣٧.

(٣) آلاء الرحمن: ٥٩.

(٤) مجلة البحوث الإسلامية: العدد٢ / ١٨٧ نقلاً عن كتاب « العبودية »: ٣٨.

٤٨٥

كل عمل يوجب القربى إلى الله فهو عبادة له تعالى أيضاً، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، فهناك أُمور توجب رضا الله، وتستوجب ثوابه قد تكون عبادة كالصوم والصلاة والحج، وقد تكون موجبة للقربى إليه دون أن تعد عبادة كالإحسان إلى الوالدين وإعطاء الزكاة والخمس، فكل هذه الأُمور ( الأخيرة ) توجب القربى إلى الله في حين لا تكون عبادة، وإن سميت في مصطلح أهل الحديث عبادة فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتب الثواب عليها.

وبعبارة أُخرى: إنّ الإتيان بهذه الأعمال يعد طاعة لله، ولكن ليس كل طاعة عبادة.

وإن شئت قلت: إنّ هناك أُموراً عبادية، وأُموراً قربية، وكل عبادة قربة، وليس كل قربة عبادة، فدعوة الفقير إلى الطعام والعطف على اليتيم ـ مثلاً ـ توجب القرب ولكنها ليست عبادة، بمعنى أن يكون الآتي بها عابداً بعمله لله تعالى.

٤٨٦

٥

ما هو معنى الإلوهية

وما هو ملاكها ؟

إذا كانت العبادة هي الخضوع أمام أحد بما هو « إله »(١) ، فيقع الكلام في معنى ال‍: « إله » فنقول: لا نظن أنّ القارئ الكريم يحتاج في فهم معنى: « إله » إلى التعريف، فإنّ لفظي: « إله » و « الله » من باب واحد، فما هو المتفاهم من الثاني « أي الله » هو المتفاهم من الأوّل « أي إله »، وإن كانا يختلفان في المفهوم اختلاف الكلي والفرد.

غير أنّ لفظ الجلالة علم لفرد من ذاك الكلي ولمصداق منه، دون ال‍: « إله » فهو باق على كلّيته وإن لم يوجد عند الموحّدين مصداق آخر له، بل انحصر فيه.

__________________

(١) هذا هو أحد التعاريف الماضية في البحث السابق، وكانت هناك تعاريف أُخرى من كونها: الخضوع أمام أحد بما هو رب، أو بما هو غني في فعله عن غيره، أو بما هو مصدر للشؤون الإلهية كالشفاعة والمغفرة، فراجع. وقد أوضحنا أنّ هذه القيود جيء بها للإشارة إلى أنّها ليست مطلق الخضوع بل هو قسمٌ خاصٌّ منه وإنّ دخول هذه القيود في مفهوم العبادة على غرار دخول الدائرة في مفهوم القوس وإنّه من باب زيادة الحد على المحدود فراجع.

٤٨٧

فكما أنّه لا يحتاج أحد في الوقوف على معنى لفظ الجلالة إلى التعريف فلفظة « إله » مثله أيضاً، إذ ليس ثمة من فارق بين اللفظتين إلّا فارق الجزئية والكلية، فهما على وجه كزيد وإنسان، بل أولى منهما لاختلاف الأخيرين ( زيد وإنسان ) في مادة اللفظ بخلاف « إله » و « الله »، فهما متحدان في تلك الجهة، وليس لفظ الجلالة إلّا نفس إله حذفت همزته وأُضيفت إليه « الألف واللام » فقط، وذلك لا يخرجه عن الاتحاد، لفظاً ومعنى.

وإن شئت قلت: إنّ ها هنا اسماً عاماً وهو « إله » ويجمع على « آلهة »، واسماً خاصاً وهو « الله » ولا يجمع أبداً، ويرادفه في الفارسية « خدا » وفي التركية « تاري » وفي الانجليزية « گاد » غير أنّ الاسم العام والخاص في اللغة الفارسية واحد وهو « خدا » ويعلم المراد منه بالقرينة، غير أنّ « خداوند » لا يطلق إلّا على الاسم الخاص، وأمّا « گاد » في اللغة الانجليزية فكلما أُريد منه الاسم العام كتب على صورة « god » وأمّا إذا أُريد الاسم الخاص فيأتي على صورة « God » وبذلك يشخص المراد منه.

ولعل اختصاص هذا الاسم بالله بخالق الكون كان بهذا النحو: وهو أنّ العرب عندما كانت في محاوراتها تريد أن تتحدث عن الخالق كانت تشير إليه ب‍ « الإله » أي الخالق، والألف واللام المضافتان إلى هذه الكلمة كانتا لأجل الاشارة الذهنية ( أي الإشارة إلى المعهود الذهني )، يعني ذاك الإله الذي تعهده في ذهنك، وهو ما يسمّى في النحو بلام العهد، ثم أصبحت كلمة « الإله » مختصة في محاورات العرب بخالق الكون، ومع مرور الزمن انمحت الهمزة الكائنة بين اللامين وسقطت من الألسن وتطورت الكلمة من « الإله » إلى « الله » التي ظهرتفي صورة كلمة جديدة واسم خاص بخالق الكون تعالى وعلماً له

٤٨٨

سبحانه(١) .

وإلى ما ذكرنا يشير العلاّمة الزمخشري في « كشّافه »: الله أصله: الإله، قال الشاعر :

معاذ الإله أن تكون كظبية

ولا دمية ولا عقيلة ربرب(٢)

ونظيره: الناس أصله، الاناس، فحذفت الهمزة، وعوض عنها حرف التعريف، ولذلك قيل في النداء يا الله بالقطع، كما يقال: يا إله، والإله من أسماء الأجناس كرجل وفرس(٣) .

وينقل العلامة الطبرسي في « تفسيره » عن سيبويه أنّ « الله » أصله « إله » على وزن فعال، فحذفت فاء فعله، وهي الهمزة، وجعلت الألف واللام عوضاً لازماً عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم والنداء في قوله: يا الله اغفر لي، ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في غير هذا الاسم(٤) .

وقال الراغب في « مفرداته »: « الله أصله إله، فحذفت همزته وأُدخل عليه الألف واللام، فخصّ بالباري تعالى ولتخصّصه به قال تعالى:( هَلْ تَعْلَمْ لَهُ سَمِّياً ) (٥) .

وعلى ذلك فلا نحتاج في تفسير إله إلى شيء وراء تصوّر أنّ هذا اللفظ كلي

__________________

(١) في هذا الصدد نظريات أُخرى أيضاً راجع لمعرفتها تاج العروس: ٩ مادة « أله ».

(٢) استعاذ الشاعر بالله من تشبيه حبيبته بالظبية أو الدمية، والربرب: هو السرب من الوحش.

(٣) الكشّاف: ١ / ٣٠ تفسير البسملة.

(٤) مجمع البيان: ١ / ١٩ طبعة صيدا.

(٥) مفردات الراغب: ٣١ مادة « إله ».

٤٨٩

لما وضع عليه لفظ الجلالة، وبما أنّ هذا اللفظ من أوضح المفاهيم، وأظهرها فلا نحتاج في فهم اللفظ الموضوع للكلي إلى شيء أبداً، نعم إنّ لفظ الجلالة وإن كان علماً للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، أو الخالق للأشياء، إلّا أنّ كون الذات مستجمعة لصفات الكمال، أو خالقاً للأشياء ليسا من مقومات معنى الإله، بل من الخصوصيات الفردية التي بها يمتاز الفرد عمّن سواه من الأفراد، وأمّا الجامع بينه وبين سائر الأفراد، أو التي ربما تفرض ( لا المحقّقة ) فهو أمر سواه سنشير إليه.

ويؤيد وحدة مفهومهما، بالذات، مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة مادتهما أنّه ربّما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله(١) ، أي على وجه الكلية والوصفية، دون العلميّة فيصح وضع أحدهما مكان الآخر، كما في قوله سبحانه :

( وَهُوَ اللهُ فِي السَّمٰوَاتِ وَفِي الأرضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) (٢) .

فإنّ وزان هذه الآية وزان قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرضِ إِلهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ ) (٣) .

( وَلا تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) (٤) .

( هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إلّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ

__________________

(١) استعمالاً مجازياً مثل قول القائل: هذا حاتم قومه ويوسف أبنائه.

(٢) الأنعام: ٣.

(٣) الزخرف: ٨٤.

(٤) النساء: ١٧١.

٤٩٠

العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (١) .

( هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٢) .

ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله على وجه الكلية، ( أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا ).

ويقرب من الآية الأُولى قوله سبحانه :

( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيَّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) (٣) .

فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء والأمر بدعوة أي منها ربّما يشعر بخلوه عن معنى العلمية، وتضمّنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ: « الإله » وغيره، ومثله قوله سبحانه :

( هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) (٤) .

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلية لا العلميّة الجزئية، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.

نعم، ربما يقال من أنّ لفظ الجلالة من أله بمعنى عبد ; أو من أله بمعنى تحيّر، لأجل أنّ العبد إذا تفكر فيه تحيّر; أو من أله بمعنى فزع، لأنّ الخلق يفزعون إليه في حوائجهم ; أو من إله بمعنى سكن، لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

__________________

(١) الحشر: ٢٣.

(٢) الحشر: ٢٤.

(٣) الإسراء: ١١٠.

(٤) الحشر: ٢٣.

٤٩١

أو أنّه متخذ من لاه بمعنى احتجب لأنّه تعالى المحتجب عن الأوهام، أو غير ذلك مما ذكروه(١) ، ولكن ذلك مجرد احتمالات غير مدعمة بالدليل، وعلى فرض صحتها، أو صحة بعضها فلا تدل على أكثر من ملاحظة تلك المناسبات يوم وضع وأُطلق لفظ الجلالة أو لفظ الإله عليه سبحانه، وأمّا بقاء تلك المناسبات إلى زمان نزول القرآن، وانّ استعمال القرآن لهما كان برعاية هذه المناسبات فأمر لا دليل عليه مطلقاً.

والظاهر أنّ هذه المعاني من لوازم معنى الإله وآثاره، فإنّ من اتخذ أحداً إلهاً لنفسه فإنّه يعبده قهراً، ويفزع إليه عند الشدائد، ويسكن قلبه عند ذكره، إلى غير ذلك من اللوازم، والآثار التي تستلزمها صفة الإلوهية، ولو لاحظ القارئ الكريم الآيات التي ورد فيها لفظ الإله، وما احتف بها من القرائن لوجد أنّه لا يتبادر من الإله غير ما يتبادر من لفظ الجلالة، سوى كون الأوّل كلياً والثاني جزئياً.

هل الإله بمعنى المعبود ؟

نعم يظهر من كثير من المفسّرين بأنّ أله بمعنى عبد، ويستشهدون بقراءة شاذة في قوله سبحانه :

( لِيُفْسِدُوا فِي الأرضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (٢) .

حيث قرئ والاهتك، أي عبادتك.

ولعل منشأ هذا التصور هو كون الإله الحقيقي، أو الآلهة المصطنعة موضعاً للعبادة ـ دائماً ـ لدى جميع الأُمم والشعوب، ولأجل ذلك فسرت لفظة « الإله »

__________________

(١) راجع مجمع البيان: ٩ / ١٩.

(٢) الأعراف: ١٢٧.

٤٩٢

بالمعبود، وإلاّ فإنّ المعبودية هي لازم الإله وليست معناه البدوي.

والذي يدل ـ بوضوح ـ على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو: كلمة الإخلاص: « لا إله إلّا الله » إذ لو كان المقصود من الإله « المعبود » لكانت هذه الجملة كذباً صراحاً، لأنّ من البديهي وجود آلاف المعبودات في هذه الدنيا، غير الله، ومع ذلك فكيف يمكن نفي أي معبود سوى الله ؟!

ولأجل ذلك اضطر القائل بأنّ الإله بمعنى المعبود أن يقدر كلمة « بحق » بعد إله لتكون الجملة هكذا: « لا إله [ بحقّ ] إلّا الله » ليتخلّص من هذا الإشكال، ولكن لا يخفى أنّ تقدير كلمة « بحق » هنا خلاف الظاهر، وأنّ هدف كلمة الإخلاص هو نفي أيّ إله في الكون سوى الله، وانّه ليس لهذا المفهوم ( أي الإله ) مصداق بتاتاً سواه سبحانه، وهذا لا يجتمع مع القول بأنّ « الإله » بمعنى « المعبود »، لوجود المعبودات الأُخرى في العالم وإن كانت مصطنعة.

وأمّا جمعه على الآلهة فليس على أساس أنّه بمعنى المعبود، بل لأجل اعتقاد العرب بأنّ هاهنا آلهة غير الله سبحانه، قال تعالى :

( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ) (١) .

وإن شئت أن تفرغ ما نفهمه من لفظ الإله في قالب التعريف فارجع إلى الأُمور التي تعد عند الناس من شؤون الربوبية ولوازمها فالقائم بتلك الشؤون ـ كلها أو بعضها ـ هو: الإله، فالخلق والتدبير والإحياء والإماتة والتقنين والتشريع والمغفرة والشفاعة بالاستقلال كلّها من شؤون الربوبية، فالقائم بهذه الشؤون حقيقة أو تصوراً: إله، واقعاً أو عند المتصوّر.

__________________

(١) الأنبياء: ٤٣.

٤٩٣

وهنا آيات تدل بوضوح على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود، بل بمعنى المتصرّف المدبّر، أو من بيده أزمّة الأُمور، أو ما يقرب من ذلك مما يعد فعلاً له تعالى، وإليك بعض هذه الآيات :

١.( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا ) (١) ، فإنّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلّا إذا جعلنا « الإله » في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر، أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين، ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لبداهة تعدد المعبودين في هذا العالم، مع عدم الفساد في النظام الكوني، وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحم الآلهة، ومركزها مع كون العالم منتظماً، غير فاسد.

وعندئذ يجب على من يجعل « الإله » بمعنى المعبود أن يقيده بلفظ « بالحق » أي لو كان فيهما معبودات ـ بالحق ـ لفسدتا، ولـمّا كان المعبود بالحق مدبّراً ومتصرفاً لزم من تعدده فساد النظام وهذا كله تكلّف لا مبرر له.

٢.( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذَاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بعْضٍ ) (٢) .

ويتم هذا البرهان أيضاً لو فسرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلّي ما يطلق عليه لفظ الجلالة، وإن شئت قلت: إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعاله وشؤونه، والمناسب في هذا المقام هو الخالق، ويلزم من تعدده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلِّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان، ولا يلزم من تعدّده أيُّ اختلال

__________________

(١) الأنبياء: ٢٢.

(٢) المؤمنون: ٩١.

٤٩٤

في الكون، وأدل دليل على ذلك هو المشاهدة، فإنّ في العالم آلهة متعددة، وقد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون إلهاً ولم يقع أيُّ فساد واختلال في الكون.

فيلزم على من يفسّر « إله » بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

٣.( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي العَرْشِ سَبِيلاً ) (١) ، فإنّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدد الخالق أو المدبّر المتصرف أو من بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك مما يرسمه في ذهننا معنى الإلوهية، وأمّا تعدّد المعبود فلا يلازم ذلك إلّا بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

٤.( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ *لَوْ كانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا ) (٢) ، والآية تستدل من ورود الأصنام والأوثان في النار على كونها غير آلهة، إذ لو كانت آلهة ما وردت النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسرنا الآلهة بما أشرنا إليه فإنَّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرف فيه أو من فوّض إليه أفعال الله أجل من أن يحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان لأنّ المفروض أنّها كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنم، ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه، وإليك مورداً منها :

( فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتينَ ) (٣) .

__________________

(١) الإسراء: ٤٣.

(٢) الأنبياء: ٩٨ و ٩٩.

(٣) الحج: ٣٤.

٤٩٥

فلو فسّر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب، إذ المفروض تعدد المعبود في المجتمع البشري، ولأجل هذا ربما يقيد الإله هنا بلفظ « الحق » أي المعبود الحق إله واحد، ولو فسرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرف وإيصال النفع، ودفع الضرّ على نحو الاستقلال لصح حصر الإله ـ بهذا المعنى ـ في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة، إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة البشرية والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها.

ولا نريد أن نقول: إنّ لفظ الإله بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر، إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلّا المعنى البسيط، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الموضوع له لفظ الإله، ومعلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط، غير كونها معنى موضوعاً للفظ المذكور، كما أنّ كونه تعالى ذات سلطة على العالم كلِّه أو بعضه سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره، وصف مشير إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ الإله، لا أنّه نفس معناه.

وبما أنّ بعض الكتاب المعاصرين خلط بين السلطة الغيبية المستقلّة التي يمكن أن تقع رمزاً للالوهية، والسلطة المستندة إلى الله غير المستقلة التي ربما توجد عند الأنبياء، والأولياء، وخيار الناس والصالحين من العباد، فلا بأس بأن نبحث في هذا الموضوع في البحث القادم.

٤٩٦

٦

هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية

لغير الله موجب للشرك ؟

لا شك في أنّ طلب الحاجة من أحد ـ بصورة جدية ـ إنّما يصح إذا اعتقد طالب الحاجة بأنّه قادر على انجاز حاجته، وهذه القدرة قد تكون قدرة ظاهرية ومادية، كأن نطلب من أحد أن يسقينا ماءً، ويجعله تحت تصرفنا، وقد تكون القدرة قدرة غيبية، خارجة عن نطاق المجاري الطبيعية والقوانين المادية، كأن يعتقد أحد بأنّ الإمام علياًعليه‌السلام قلع باب « خيبر » بالقدرة الغيبية، كما جاء في الحديث.

أو أنّ المسيحعليه‌السلام كان يقدر، بقدرة غيبية على منح الشفاء لمن استعصي علاجه، دون دواء، أو إجراء عملية جراحية.

والاعتقاد بمثل هذه القدرة الغيبية إن كان ينطوي على الاعتقاد بأنّها مستندة إلى الإذن الإلهي، وإلى القدرة المكتسبة منه سبحانه، فهي حينئذ لا تختلف عن القدرة المادية الظاهرية، بل هي كالقدرة المادية التي لا يستلزم الاعتقاد بها الشرك، لأنّ الله الذي أعطى القدرة المادية لذلك الفرد، هو الذي أعطى القدرة

٤٩٧

الغيبية لآخر، دون أن يعد المخلوق خالقاً، وأن يتصور استغناء أحد عن الله.

فلو قام أحد بمعالجة المرضى عن طريق السلطة الغيبية، فقد قام بأمر الله وإذنه ومشيئته، ومثل ذلك لا يعد شركاً، وتمييز السلطة المستندة إلى الله عن السلطة المستقلة هو حجر الأساس لامتياز الشرك عن التوحيد، وبذلك يظهر خطأ كثير ممّن لم يفرقوا بين السلطة الغيبية المستندة، والسلطة الغيبية غير المستندة.

وقالوا: لو أنّ أحداً طلب من أحد الصالحين ـ حيّاً كان أم ميتاً ـ شفاء علّته أو رد ضالّته، أو أداء دينه، فهذا ملازم لاعتقاد السلطة الغيبية في حق ذلك الصالح وإنّ له سلطة على الأنظمة الطبيعية، الحاكمة على الكون بحيث يكون قادراً على خرقها وتجاوزها، والاعتقاد بمثل هذه السلطة لغير الله عين الاعتقاد بالوهية ذلك المسؤول، وطلب الحاجة في هذا الحال يكون شركاً.

فلو طلب إنسان ظامئ الماء من خادمه فقد اتبع الأنظمة الطبيعية لتحقّق مطلبه، أمّا إذا طلب الماء من إمام أو نبيّ موارى تحت التراب، أو عائش في مكان ناء، فإنّ مثل هذا الطلب ملازم للاعتقاد بسلطة غيبية لهذا النبي، أو الإمام على نحو ما يكون لله سبحانه، ومثل هذا عين الاعتقاد بالوهية المسؤول !!

وممّن صرح بهذا الكلام الكاتب أبو الأعلى المودودي، إذ يقول :

صفوة القول إنّ التصور الذي لأجله يدعو الإنسان الإله، ويستغيثه، ويتضرّع إليه، هو ـ لا جرم ـ تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة.(١)

__________________

(١) المصطلحات الأربعة: ١٧.

٤٩٨

وهذا الكلام صريح في أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطة المهيمنة ملاكاً للاعتقاد بالإلوهية، وقد صرّح بذلك في موضع آخر من كتابه حيث جعل ملاك الأمر في باب الإلوهية هو الاعتقاد بأنّ الموجود المسؤول قادر على أن ينفع أو يضر بشكل خارج عن إطار القوانين والسنن الطبيعية المألوفة، إذ قال :

فالذي يتخذ كائناً ما وليّاً له ونصيراً وكاشفاً عنه السوء، وقاضياً لحاجته، ومستجيباً لدعائه، وقادراً على أن ينفعه، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية، يكون السبب لاعتقاده ذلك ظنّه فيه أنّ له نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم، وكذلك من يخاف أحداً ويتّقيه ويرى أنّ سخطه يجر عليه الضرر، ومرضاته تجلب له المنفعة لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلّا ما يكون في ذهنه من تصور أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون، ثم إنّ الذي يدعو غير الله ويفزع إليه في حاجته بعد إيمانه بالله العلي الأعلى فلا يبعثه على ذلك إلّا اعتقاده فيه أنّه له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الإلوهية(١) .

وصريح هذا الكلام هو التلازم بين القدرة على النفع والضرر، والاعتقاد بالسلطة الإلوهية، وإنّ كل قدرة على النفع والضرر من غير المجاري الطبيعية ينطوي على الإلوهية، بالملازمة.

وهذا جد عجيب من المودودي.

إذا مضافاً إلى أنّ الاعتقاد بالإلوهية لا يستلزم الاعتقاد بالسلطة في الطرف الآخر، بل يكفي الاعتقاد بكونه مالكاً للشفاعة والمغفرة كما كان عليه فريق من عرب الجاهلية، إذ كانوا يعتقدون في شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم، لأنّها مالكة

__________________

(١) المصطلحات الأربعة: ٢٣، وفي موضع آخر صرح بهذا الاستلزام إذ قال في ص ٣٠: « انّ كلاّ من السلطة والالوهية تستلزم الأُخرى ».

٤٩٩

شفاعتهم ومغفرتهم، ومعلوم ـ جيداً ـ أنّ مالكية الشفاعة غير القول بوجود السلطة التي يراد منها: السلطة على عالم التكوين.

إنّ الاعتقاد بالسلطة الغيبية الخارجة عن إطار السنن الطبيعية لا يوجب الاعتقاد بالإلوهية.

إنّ السلطة على الكون بجميعه ـ فضلاً عن بعضه ـ إذا كانت بأقدار الله تعالى وبإذن منه ـ فهي بنفسها ـ لا تلازم الإلوهية، فكما أنّ الله أعطى لآحاد الناس قدرة محدودة في أُمورهم العادية، وفضل بعضهم على بعض في تلك القدرة، فكذلك لا مانع من أن يعطي لفرد أو أفراد من خيار عباده قدرة تامّة على جميع الكون، عادية أو غير عادية، وذلك بنفسه لا يستلزم الإلوهية، والذي يمكن أن يقع عليه الكلام هو البحث عن وجود تلك القدرة وانّه سبحانه هل أعطى ذلك أو لا ؟ والقرآن يصرح بذلك في عدة موارد، منها ما ورد في شأن يوسفعليه‌السلام :

١. يوسف عليه‌السلام والسلطة الغيبية

أمر يوسفعليه‌السلام إخوته بأن يأخذوا قميصه إلى أبيه ويلقوه على بصره ليرتد بصيراً، كما يقول القرآن الكريم في هذا الشأن :

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) (١) .

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ ألْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) (٢) .

إنّ ظاهر الآية يعطي أنّ رجوع البصر إلى يعقوب كان بإرادة يوسف، وأنّه لم يكن فعلاً مباشراً لله سبحانه، وإنّما فعل ما فعله يوسف بقدرة مكتسبة منه سبحانه.

__________________

(١) يوسف: ٩٣.

(٢) يوسف: ٩٦.

٥٠٠