مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

مفاهيم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672
المشاهدات: 141350
تحميل: 5155


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141350 / تحميل: 5155
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-249-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

التوسل بالأسباب غير الطبيعية

إلى هنا تبيَّن أنّ النظرة إلى الأسباب الطبيعية بلحاظ أنّها علل غير مستقلة عين التوحيد، وبلحاظ استقلالها في التأثير عين الشرك، وأمّا غير الطبيعية من العلل فحكمها حكم الطبيعية حيث إنّ التوسل على النحو الأوّل عين التوحيد، وعلى النحو الثاني عين الشرك حرفاً بحرف، غير أنّ الوهابيين جعلوا التوسل بغير الطبيعية من العلل توسّلاً ممزوجاً بالشرك ويقول المودودي في ذلك :

« فالمرء إذا كان أصابه العطش ـ مثلاً ـ فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء لا يطلق عليه حكم « الدعاء » ولا أنّ الرجل اتخذ الخادم إلهاً، وذلك إنّ كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب، ولكن إذا استغاث بولي في هذا الحال فلا شك انّه دعاه لتفريج الكربة واتَّخذه إلهاً.

فكأنِّي به يراه سميعاً بصيراً، ويزعم أنّ له نوعاً من السلطة على عالم الأسباب ممّا يجعله قادراً على أن يقوم بإبلاغه الماء، أو شفائه من المرض.

وصفوة القول: إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرع إليه هو لا جرم تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ الطبيعة.

إنّ الحديث حول هذا المقام يقع في موردين :

الأوّل: إذا اعتقد إنسان بأنّ للظاهرة المعينة سببين: طبيعياً، وغير طبيعي. فإذا يئس من الأوّل ولاذ بالثاني، فهل يعد فعله شركاً أو لا ؟

الثاني: إذا اعتقد بأنّ لشخص خاص سلطة غيبية على الكون بإذنه سبحانه، فهل يعد هذا الاعتقاد اعتقاداً بإلوهيته ؟

٥٢١

وقد حققنا القول حول الأمر الثاني ونركّز البحث على الأمر الأوّل، فنقول :

إذا اعتقد إنسان بأنّ لبرئه من المرض طريقين أحدهما طبيعي والآخر غير طبيعي، وقد سلك الطريق الأوّل ولم يصل إلى مقصوده فعاد يتوسل إلى مطلوبه بالتمسك بالسبب الثاني كمسح المسيح يديه عليه، فهل يعد اعتقاد هذا وطلبه منه شركاً وخروجاً عن جادة التوحيد أو لا ؟

وأنت إذا لاحظت الضوابط التي قد تعرفت عليها في تمييز الشرك عن غيره لقدرت على الإجابة بأنّه لا ينافي التوحيد ولا يضاده بل يلائمه كمال الملاءمة فإنّه يعتقد بأنّ الله الذي منح الأثر للأدوية الطبيعية أو جعل الشفاء في العسل هو الذي منح المسيح قدرة يمكنه أن يبرئ المرضى بإذنه سبحانه، ومعه كيف يعد اعتقاده هذا شركاً ؟

وبكلام آخر: انّ الشرك عبارة عن الاعتقاد باستقلال شيء في التأثير بمعنى أن يكون أثره مستنداً إليه لا إلى خالقه وبارئه والمفروض عدمه، ومع ذلك كيف يكون شركاً، والتفريق بين التوسل بالأسباب الطبيعية وغيرها بجعل الأوّل موافقاً للتوحيد دون الثاني تفريق بلا جهة، فإنّ نسبتها إلى الله سبحانه في كون التأثير بإذنه سواسية.

نعم يمكن لأحد أن يخطّئ القائل في سببية شيء، ويقول بأنّ الله لم يمنح للولي الخاص تلك القدرة وانّه عاجز عن الإبراء، ولكنه خارج عن محط بحثنا، فإنّ البحث مركز على تمييز الشرك عن غيره لا على إثبات قدرة لأحد أو نفيها عنه وأظن أنّ القائلين بكون هذا الاعتقاد والطلب شركاً لو ركزوا البحث على تشخيص ملاك الشرك عن غيره لسهل لهم تمييز الحق عن غيره، إذ أي فرق بين الاعتقاد بأنّ الله وهب الإشراق للشمس والإحراق للنار وجعل الشفاء في العسل ،

٥٢٢

وبين أنّه هو الذي أقدر وليه مثل المسيح وغيره على البرء، أو أنّه أعطى للأرواح المقدسة من أوليائه قدرة على التصرف في الكون وإغاثة الملهوف.

وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من إعطاء آثار خاصة لعلل غير طبيعية تلقي الضوء على ما ذكرنا، فإليك بيانها :

١. انّ القرآن يصف عجل السامري بقوله:( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هٰذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ ) (١) .

فبعد ما رجع موسى من الميقات ورأى الحال، سأل السامري عن كيفية عمله، وانّه كيف قدر على هذا العمل البديع ؟ فأجاب:

( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) (٢) .

فعلّل عمله هذا بأنّه أخذ قبضة من أثر الرسول فعالج بها مطلوبه فعاد العجل ذا خوار، وهذا يعطي أنّ التراب المأخوذ من أثر الرسول كان له أثر خاص وقد توسل به السامري.

٢. انّ القرآن يصف كيفية برء يعقوب مما أصاب عينيه، ويقول حاكياً عن يوسف أنّه قال :

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) (٣) .

__________________

(١) طه: ٨٨.

(٢) طه: ٩٦.

(٣) يوسف: ٩٣.

٥٢٣

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلْمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (١) .

فإذا اعتقد الإنسان بأنّ الذي خلق في التراب المأخوذ من أثر الرسول المعين أثراً خاصاً بحيث إذا امتزج مع الحلي يجعلها ذات خوار، أو منح للقميص ذلك الأثر العجيب هو الذي أعطى لسائر العلل غير الطبيعية آثاراً خاصة يستفيد منها الإنسان في ظروف معينة، فهل يجوز لنا رمي المعتقد بهذا، بأنّه مشرك، وأي فرق بين ما أخذ السامري من أثر الرسول وقميص يوسف وسائر العلل مع أنّ الجميع علل غير مألوفة.

إنّ التوسل بالأرواح المقدسة والاستمداد بالنفوس الطاهرة الخالدة عند ربها نوع من التمسك بالأسباب في اعتقاد المتمسك وقد قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (٢) .

وأمّا البحث عن أنّ هذه الأرواح والنفوس هل في مقدورها أن تغيث من يستغيث بها أو لا ؟ فهو خارج عما نحن بصدده.

__________________

(١) يوسف: ٩٦.

(٢) المائدة: ٣٥.

٥٢٤

٨

المعايير الثلاثة المتوهمَّة للشِّرك

١. هل الحياة والموت حدّان للتوحيد والشرك ؟

لا شك أنّ التعاون، والتعاضد بين أبناء الإنسان أساس الحياة، وما التاريخ الإنساني إلّا حصيلة الجهود البشرية التي نبعت من التعاون، وتقاسم المسؤوليات والاستفادة المتبادلة من الطاقات الإنسانية.

والقرآن حافل بنماذج كثيرة من استمداد البشر بمثله، إذ يقول :

( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَىٰ الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَى عَلَيْهِ ) (١) .

إذن فاستمداد الإنسان بالإنسان الآخر أمر واقع في الحياة البشرية وجائز عند جميع الأُمم غير أنّ للوهابيين تفصيلاً في المقام يرونه هو الحد الطبيعي الفاصل بين التوحيد والشرك.

فيقولون: إنّ التوسل بالأنبياء والأولياء جائز في حال حياتهم دون مماتهم

__________________

(١) القصص: ١٥.

٥٢٥

ويقول: محمد بن عبد الوهاب في هذا الصدد :

« وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي رجلاً صالحاً تقول له: ادع الله لي كما كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يسألونه في حياته، وأمّا بعد مماته فحاشا وكلا أن يكونوا سألوا ذلك، بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعاء نفسه »(١) .

إنّ للتوحيد والشرك معايير خاصة بها يمتاز أحدهما عن الآخر وإنّ الإسلام لم يترك تحديد تلك المعايير إلينا، بل حدّد كل واحد بحد خاص.

وقد ألمعنا بها فيما سبق ولم يذكر في تلك المعايير أنّ الحياة والموت حدّان للتوحيد والشرك.

وستعرف أنّه لا مدخلية لحياة المستغاث منه ومماته في تحديد الشرك أو التوحيد مطلقاً، لأنّ الاستمداد والاستغاثة بالحي مع الاعتقاد باستقلاله في القدرة والتأثير، وأصالته في إغاثة المستغيث يوجب الشرك، وكون الاستغاثة بالحي أمراً رائجاً بين العقلاء لا يوجب صحتها إذا كانت مقرونة مع الاعتقاد باستقلال المستغاث في الإغاثة، لأنّ الدارج بين العقلاء هو: أصل الاستغاثة بالحي لا باعتباره مستقلاً في العمل.

فلا تكون استغاثة شيعة موسى مطابقة للتوحيد إلّا في صورة واحدة وهي: أن لا يعتقد معها باستقلال موسى في التأثير، بل يجعل قدرته، وتأثيره في طول القدرة الإلهية، ومستمدة منه تعالى.

__________________

(١) كشف الارتياب: ٢٧١ نقلاً عن كشف الشبهات تأليف محمد بن عبد الوهاب، طبع مصر ص ٧٠.

٥٢٦

إنّ نفس هذه الحقيقة جارية في الاستمداد، والاستغاثة ب‍ « الأرواح المقدسة » العالمة الشاعرة حسب إخبار القرآن وتأييد العلوم الحديثة، فإذا استغاث شيعة موسىعليه‌السلام به بعد خروج روحه عن بدنه بهذه العقيدة لم يكن عمله شركاً، ولم يجعل موسى شريكاً لله لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال، ولا في العبادة، ولم يعبد موسى بهذه الاستغاثة والطلب.

وأمّا لو استغاث به وهو يعتقد باستقلال روحه في الإغاثة ويعتقد بأنّها قادرة على التأثير دون القدرة الإلهية، فإنّ هذا المستغيث يعد مشركاً ويكون موسى ـ كما يقتضي اعتقاده ـ في صف الآلهة.

ولو كانت حياة المستغاث ومماته مؤثرة في الأمر، فإنّما تكون مؤثرة في جدوائية الاستغاثة أوّلاً، لا في تحديد التوحيد والشرك، والبحث عن الجدوائية وخلافها خارج عن موضوع بحثنا.

ومن العجب العجاب اعتبار التوسل والاستغاثة بالحي والاستشفاع به عين التوحيد، وعد هذه الاستغاثة والاستشفاع ـ مع نفس الخصوصيات ـ بميت شركاً وفاعلها واجب الاستتابة مستحق القتل.

إنّ الوهابيين يسلمون انّ الله سبحانه أمر العصاة بأن يذهبوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويطلبوا منه أن يستغفر لهم أخذاً بظاهر الآية ( النساء ـ ٦٤ )، كما يسلمون أنّ أولاد يعقوب طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ( يوسف ٩٧ ـ ٩٨ ) غير أنّهم يقولون: إنّ هذين الموردين إنّما ينطبقان مع أُصول التوحيد لأجل حياة المستغاث، وأمّا إذا سئل ذلك في مماته عدّ شركاً.

غير أنّ القارئ النابه جد عليم بأنّ حياة الرسول ومماته لا يغيِّران ماهية العمل، إذ لو كان التوسل شركاً حقيقة للزم أن يكون كذلك في الحالتين من دون

٥٢٧

فرق بين حالتي الحياة والممات.

ولو اعترض على الاستغاثة بالميت بأنّه عمل عبثي أوّلاً، وبدعة لم يرد في الشرع ثانياً فيقال في جوابه :

أوّلاً: انّ هذا العمل إنّما يصطبغ بلون البدعة إذا أتى به المستغيث بعنوان كونه وارداً في الشرع وأمّا لو أتى به من جانب نفسه من دون أن ينسبه إلى مقام فلا يعد بدعة وإحداثاً في الدين، لأنّ البدعة هو إدخال ما ليس من الدين في الدين، وهو فرع الإتيان بالعمل بما أنّه أمر ديني.

وثانياً: أنّ البحث في المقام إنّما هو عن تحديد التوحيد والشرك ولا عن كون العمل مفيداً أو غيره أو بدعة وغير بدعة، فكل ذلك خارج عن بحثنا، أضف إلى ذلك أنّه قد ثبت في محله مشروعية التوسّل بالأرواح المقدسة بالدلائل النقلية الصريحة(١) .

وعلى كل حال لا يمكن اعتبار الاستغاثة بالميت شركاً، إذ هو لم يشرك بعمله بالله أبداً لا في الذات ولا في الصفات ولا في الفعل ليخرج بذلك عن توحيد الربوبية، ولا في العبادة ليخرج عن التوحيد في العبادة.

إنّ المفتاح لحل هذه المشكلة هو ما ذكرناه في تحديد معنى الشرك والتوحيد وهو انّ الاعتقاد باستقلال الفاعل في ذاته وفعله والتوجه به كذلك يعد شركاً في العبادة، كما أنّ الاعتقاد بعدم استقلاله في ذاته وصفاته وأفعاله يعد اعترافاً بعبوديته ويعد التوجّه به تكريماً واحتراماً، ولو تناسينا هذه القاعدة لما وجد على أديم الأرض موحد أبداً.

__________________

(١) راجع للوقوف على تلك الأدلة كشف الارتياب: ٣٠١.

٥٢٨

وفيما لي نلفت نظر القارئ الكريم إلى كلام لتلميذ ابن تيمية في هذا المجال، يقول ابن القيم :

ومن أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإنّ الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً »(١) .

وما ذكره من الدليل لا يثبت مدّعاه لأنّ قوله: « فإنّ الميت قد انقطع عمله » دليل على عدم فائدة الاستغاثة بالميت، وليس دليلاً على كونها شركاً، وهو لم يفرق بين الأمرين، والأغرب من ذلك قوله: « وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً »، إذ لا فرق في ذلك بين الحي والميت، فلا يملك أحد ضراً لنفسه ولا نفعاً بدون إذن الله وإرادته، سواء أكان حياً أم ميتاً، ومع الإذن الإلهي يملكون النفع والضر أحياء كانوا أم أمواتاً.

ومن هذا اتضح ضعف ما أفاده ابن تيمية، إذ قال :

كل من غلا في نبي، أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني، فكلّ هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب، وإلاّ قتل(٢) .

إذا كانت الاستغاثة ب‍ « الأرواح المقدسة » ( الأموات حسب تعبير الوهابيين ) ملازمة لنوع من الاعتقاد بإلوهية تلك الأرواح، إذن يلزم أن تكون الاستغاثة بأي شخص ـ أعم من الحي والميت ـ ملازمة لمثل هذا الاعتقاد، لأنّ حياة المستغاث ومماته حد لجدوائية الاستغاثة ولا جدوائيتها لا أنّها حد التوحيد، وللشرك في حين

__________________

(١) فتح المجيد: ٦٨ الطبعة السادسة.

(٢) المصدر السابق: ١٦٧.

٥٢٩

انّ الاستغاثة بالحي يعد من أشد ضروريات الحياة الاجتماعية البشرية، ومما به قوامها.

وإليك فيما يلي نبذة أُخرى من كلام ابن تيمية في هذا الصدد، فهو يقول :

« والذين يدعون مع الله آلهة أُخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنّها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر وإنّما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم يقولون ما نعبدهم إلّا ليقربونا إلى الله زلفى، أو هؤلاء شفعاؤنا »(١) .

إنّ قياس الاستغاثة بأولياء الله بما كان يقوم به المسيحيون والوثنيون ابتعاد عن الموضوعية، لأنّ المسيحيين كانوا يعتقدون في حق المسيح بنوع من الإلوهية، وكان الوثنيون يعتقدون بأنّ الأوثان تملك بنفسها مقام الشفاعة، بل كان بعضهم ـ على ما نقل ابن هشام ـ يعتقد بأنّها متصرفة في الكون، ومرسلة الأمطار(٢) ـ على الأقل ـ، ولأجل هذا الاعتقاد كان طلبهم واستغاثتهم بالمسيح وبتلك الأوثان عبادة لها.

فعلى هذا إذا كانت الاستغاثة مقرونة بالاعتقاد بالوهية المستغاث كانت شركاً حتماً، وأمّا إذا كانت الاستغاثة ـ بالحي أو الميت ـ خالية وعارية عن هذا القيد لم تكن شركاً ولا عبادة بل استغاثة بعبد نعلم أنّه لا يقوم بشيء إلّا بإذنه سبحانه.

نعم يجب في موارد الاستغاثة بالموتى أن نبحث في فائدة مثل هذه الاستغاثة وعدم فائدتها، لا في كونها شركاً وعبادة لغير الله، والكلام إنّما هو في الثاني دون الأوّل.

__________________

(١) المصدر السابق: ١٦٧.

(٢) راجع قصة عمرو بن لحي المذكورة في ص ٣٨٢ من هذا الكتاب.

٥٣٠

تعظيم أولياء الله وإحياء ذكرياتهم ؟

ينزعج الوهابيون ـ بشدة ـ من تعظيم أولياء الله وتخليد ذكرياتهم، وإحياء مناسبات مواليدهم أو وفياتهم، ويعتبرون اجتماع الناس في المجالس المعقودة لهذا الشأن شركاً وضلالاً، ففي هذا الصدد يكتب محمد حامد الفقي، رئيس جماعة أنصار السنّة المحمدية في هوامشه على كتاب فتح المجيد :

« الذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم »(١) .

إنّّ هؤلاء لم يعينوا حدّاً للتوحيد والشرك، وللعبادة على الأخص، ولذلك رموا كل عمل بالشرك حتى أنّهم تصوروا أنّ كل نوع من التعظيم عبادة وشرك.

ولأجل ذلك جعل الكاتب « العبادة » إلى جانب التعظيم وتصور أنّ للّفظتين معنى واحداً، ومما لاشك فيه أنّ القرآن يعظم فريقاً من الأنبياء والأولياء بعبارات صريحة كما يقول في شأن زكريا ويحيىعليهما‌السلام :

( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) (٢) .

فلو أنّ أحداً أقام مجلساً عند قبر من عناهم الله وسماهم في هذه الآية، وقرأ في ذلك المجلس هذه الآية المادحة، معظماً بذلك شأنهم، فهل اتبع غير القرآن ؟!

كما ويقول في شأن أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (٣) .

__________________

(١) فتح المجيد: ١٥٤ ثم نقل عن كتاب قرة العيون ما يشابه هذا المضمون.

(٢) الأنبياء: ٩٠.

(٣) الدهر: ٨.

٥٣١

فهل ترى لو اجتمع جماعة في يوم ميلاد علي بن أبي طالب ـ وهو أحد الآل ـ وقالوا: إنّ علياً كان يطعم الطعام للمسكين واليتيم والأسير، كانوا مشركين ؟

أو ترى لماذا يكون مشركاً لو أنّ أحداً تلا الآيات المادحة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في حفلة عامة في يوم مولده الشريف كالآيات التالية :

( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) .

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً *وَدَاعِياً إِلىٰ اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ) (٢) .

( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (٣) .

( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَىٰ النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٤) .

فلو تلا أحد هذه الآيات المثنية على النبي، أو قرأ ترجمتها بلغة أُخرى، أو سكب هذا المديح الإلهي القرآني في قالب الشعر وأنشد ذلك في مجلس كان مشركاً ؟!

إنّ عدم وجود هذه الاحتفالات في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس دليلاً على كونها شركاً، وأقصى ما يمكن أن يقال أنّها بدعة لا شركاً ولا عبادة للإنسان الصالح، بل لا تعد بدعة، إذ لو نسب إقامة الاحتفالات التكريمية أو مجالس العزاء في

__________________

(١) القلم: ٤.

(٢) الأحزاب: ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) التوبة: ١٢٨.

(٤) الأحزاب: ٥٦.

٥٣٢

الذكريات، إلى الشارع المقدس وادّعى بأنّ الله أمر بذلك يلزم أن نفحص عن مدى صحة هذه النسبة وصدق هذا الادّعاء، لا أن نصف إقامة هذه المجالس بأنّها شرك.

وأمّا لو أقامها من جانب نفسه من دون أن يسندها إلى أمره سبحانه فلا تكون بدعة بتاتاً.

كيف لا، وهذا القرآن الكريم يثني على أُولئك الذين أكرموا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعظموا شأنه، وبجّلوه، إذ يقول :

( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (١) .

إنّ الأوصاف التي وردت في هذه الآية والتي استوجبت الثناء الإلهي هي :

١. آمنوا به.

٢. وعزّروه.

٣. ونصروه.

٤. واتّبعوا النور الذي أُنزل معه.

فهل يحتمل أحد أن تختص هذه الجمل الثلاث :

« آمنوا به، ونصروه، واتبعوا » بزمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ الجواب: لا.

فإنّ الآية لا تعني الحاضرين في زمن النبي ـ خاصة ـ، فعندئذٍ من القطعي أن لا تختص جملة « عزَّروه » بزمان النبي، أضف إلى ذلك أنّ القائد العظيم يجب أن يكون موضعاً للتكريم والاحترام والتعظيم في كل العهود والأزمنة.

__________________

(١) الأعراف: ١٥٧.

٥٣٣

فهل إقامة المجالس لإحياء ذكريات: المبعث أو المولد النبوي، وإنشاء الخطب والمحاضرات والقصائد والمدايح إلّا مصداق جلي لقوله تعالى:( وَعَزَّرُوهُ ) والتي تعني: أكرموه وعظّموه.

عجباً كيف يعظم الوهابيون أُمراءهم بالاحترام الذي يفوق ما يفعله غيرهم تجاه أولياء الله فلا يكون ذلك شركاً، وأمّا إذا أتى أحد بشيء يسير من ذلك في حقهم عد شركاً ؟!

إنّ المنع عن تعظيم الأنبياء والأولياء وتكريمهم ـ أحياءً وأمواتاً ـ يصور الإسلام في نظر الأعداء ديناً جامداً لا مكان فيه للعواطف الإنسانية كما يصور تلك الشريعة السمحاء المطابقة للفطرة الإنسانية ديناً يفقد الجاذبية المطلوبة القادرة على اجتذاب أهل الملل الأُخرى واكتسابهم.

ماذا يقول ـ الذين يخالفون إقامة مجالس العزاء للشهداء في سبيل الله ـ في قصة يعقوبعليه‌السلام ؟ وماذا يقولون فيه وهو يبكي على ابنه أسفاً وحزناً في فراق ولده يوسف، ليله ونهاره، ويسأل كل من لقيه عن ابنه المفقود حتى يفقد بصره، كما يقول سبحانه:( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ ) (١) .

فلماذا يكون إظهار مثل هذه العلاقة في حال حياة الولد جائزاً ومشروعاً ومطابقاً لأُصول التوحيد بينما إذا كان في حال مماته عد شركاً ؟!

فإذا اتبع أحد طريق يعقوب فبكى على فراق أولياء الله وأحبائه يوم استشهادهم، فلماذا لا يعد عمله اقتداء بيعقوبعليه‌السلام .

لا ريب في أنّ مودة ذوي القربى هي إحدى الفرائض الإسلامية التي دعا

__________________

(١) يوسف: ٨٤.

٥٣٤

إليها بأوضح تصريح، فلو أراد أحد أن يقوم بهذه الفريضة الدينية بعد أربعة عشر قرناً فكيف يمكنه، وما هو الطريق إلى ذلك ؟ هل هو إلّا أن يفرح في أفراحهم، ويحزن في أحزانهم ؟

فإذا أقام أحد ـ لإظهار مسرته ـ مجلساً يذكر فيه حياتهم، وتضحياتهم أو يبين مصائبهم، فهل فعل إلّا إظهار المودة، المندوبة إليها في القرآن الكريم ؟! وإذا زار أحد ـ لإظهار مودة أكثر ـ مقابر أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقام مثل هذه المجالس عند تلكم القبور، فإنّه لم يفعل ـ في نظر العقلاء ـ إلّا إظهار المودة.

التبرّك بآثار النبي والأولياء

قد جرت سنّة السلف الصالح على التبرك بآثار النبي وآله سنّة قطعية لا يشك فيها كل من له إلمام بتاريخ المسلمين(١) غير انّ الوهابيين أنكروا ذلك أشد الإنكار وعدّوه شركاً وإن كان ذلك بدافع محبة النبي وآله ومودّتهم.

غير انّ المتبرّك إذا اعتمد في عمله على عمل يعقوب حيث وضع قميص يوسف على عينيه، فارتد بصيراً، هل يصح لنا رميه بالشرك ؟! إذ أي فرق بين التبرّك بآثار النبي وآثار سائر الأولياء وتبرّك يعقوب بقميص يوسف، قال سبحانه:( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) (٢) .

__________________

(١) لقد ألّف الشيخ محمد طاهر المكي المعاصر كتاباً في ذلك وأسماه ( تبرك الصحابة بآثار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ) نقل فيه شواهد تأريخية قطعية على تبركهم وتبرك التابعين بآثارهصلى‌الله‌عليه‌وآله قاطبة، وقد طبع ذلك الكتاب عام ١٣٨٥ ه‍، ثم أُعيد طبعه عام ١٣٩٤ ه‍.

(٢) يوسف: ٩٦.

٥٣٥

خاتمة المطاف

إنّ من يلاحظ عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وما تلاه من عصور التحول العقائدي والفكري يجد إقبال الأُمم المختلفة ذات التقاليد والعادات المتنوعة على الإسلام وكثرة دخولهم واعتناقهم هذا الدين، ويجد أنّ النبي والمسلمين كانوا يقبلون إسلامهم، ويكتفون منهم بذكر الشهادتين دون أن يعمدوا إلى تذويب ما كانوا عليه من عادات اجتماعية، وصوغهم في قوالب جديدة تختلف عن القوالب والعادات والتقاليد السابقة تماماً.

وقد كان احترام العظماء ـ أحياءً وأمواتاً ـ وإحياء ذكرياتهم والحضور عند القبور، وإظهار العلاقة والتعلّق بها من الأُمور الرائجة بينهم.

واليوم نجد الشعوب المختلفة ـ الشرقية والغربية ـ تعظم وتخلد ذكريات عظمائها، وتزور قبور أبنائها، وتتردّد على مدافنهم، وتسكب في عزائهم الدموع والعبرات، وتعتبر كل هذا الصنيع نوعاً من الاحترام النابع من العاطفة والمشاعر الداخلية الغريزية.

وصفوة القول: إنّنا لا نجد مورداً عمد فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قبول إسلام الوافدين والداخلين فيه بعد أن يشرط عليهم أن ينبذوا تقاليدهم الاجتماعية هذه، وبعد أن يفحص عقائدهم، بل نجدهصلى‌الله‌عليه‌وآله يكتفي من المعتنقين الجدد للإسلام بذكر الشهادتين ورفض الأوثان.

وإذا كانت هذه العادات والتقاليد شركاً لزم أن لا يقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام تلك الجماعات والأفراد إلّا بعد أن تتعهد له بنبذ تلكم التقاليد والمراسم.

والحاصل: أنّ ترك التوسّل بالأولياء والتبرّك بآثارهم وزيارة قبورهم لو كان

٥٣٦

شرطاً لتحقق الإيمان المقابل للشرك والصائن للدم والمال لوجب على نبي الإسلام اشتراط ذلك كله ( أي ترك هذه الأُمور ) عند وفود القبائل على الإسلام وللزم التصريح به على صهوات المنابر وعلى رؤوس الأشهاد مرة بعد أُخرى، ولو صرح بذلك لما خفي على المسلمين، إذن فكل ذلك يدل على عدم اشتراط ترك هذه الأُمور، وليس ذلك إلّا لأنّ تركها ليس شرطاً لتحقّق الإيمان ورفض الشرك ولعدم كون الآتي بها مجانباً للإيمان ومعتنقاً للشرك.

ولو كان التوسل والتبرك والزيارة ملازماً للاعتقاد بالإلوهية لما خفى ذلك على المسلمين الذين جرت سيرتهم العملية على ذلك حتى يكون عملهم مخالفاً لاعترافهم بإله واحد، وقد أوضحنا معنى الإلوهية في هذا الفصل الصفحة ٤٨٧ فراجع.

وقد تواترت الأخبار عن النبي وآله ـ صلى الله عليهم أجمعين ـ بأنّ الإسلام يحقن به الدم، ويصان به العرض، والمال، وتؤدّى به الأمانة، إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة على الإسلام.

وحسبك أيها القارئ الكريم ما أخرجه البخاري عن ابن عباس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن :

« إنّك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم »(١) .

__________________

(١) صحيح البخاري: ٥ / ١٦٢، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن.

٥٣٧

وأخرج البخاري ومسلم في باب فضائل عليعليه‌السلام أنّه(١) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم خيبر :

« لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ».

قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلّا يومئذ قال: فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها، قال: فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال: « امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك » فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت وصرخ: يا رسول الله على ماذا أُقاتل الناس ؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على الله »(٢) .

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« بني الإسلام على خمس :

شهادة أن لا إله إلّا الله

وأنّ محمداً رسول الله

وإقام الصلاة

وإيتاء الزكاة

والحج

__________________

(١) واللفظ لمسلم، وراجع البخاري: ٢ / في مناقب عليعليه‌السلام .

(٢) صحيح مسلم: الجزء ٦، باب فضائل علي بن أبي طالب.

٥٣٨

وصوم رمضان »(١) .

وأخرج البخاري ـ أيضاً ـ عن ابن عمر انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

« أمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحق الإسلام وحسابهم على الله »(٢) .

إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية المبثوثة في كتاب الإيمان في كتب الصحاح والسنن.

وأمّا ما روي عن أئمّة أهل البيت فيكفيك ما رواه سماعة عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال :

« الإسلام: شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله به حقنت الدماء وجرت المناكح والمواريث »(٣) .

وكل هذه الأحاديث تصرح بأنّ ما تحقن به الدماء وتصان به الأعراض ويدخل الإنسان به في عداد المسلمين هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه ورسالة الرسول.

وعلى ذلك جرت سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد كان يكتفي من الرجل بإظهاره

__________________

(١) راجع التاج الجامع للأُصول في أحاديث الرسول تأليف الشيخ منصور على ناصف: ١ / ٢٠.

(٢) صحيح البخاري: ج ١، كتاب الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة، وفي صحيح ابن ماجة: ٢ / ٤٥٧، باب الكف عمّن قال: لا اله إلّا الله.

(٣) الكافي ٢ / ٢٥، الطبعة الحديثة راجع باب الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان ترى فيها نصوصاً رائعة وصريحة في هذا المقام.

وراجع التاج الجزء الأوّل كتاب الإسلام والإيمان من صفحة ٢٠ إلى صفحة ٣٤.

٥٣٩

الشهادتين، ولم ير منه أنّه سأل عن الوافدين المظهرين للشهادتين: هل هم يتوسلون بالأنبياء والأولياء والقديسين أو لا ؟ هل هم يتبركون بآثارهم أو لا ؟ هل هم يزورون قبور الأنبياء أو لا ؟ فيشترط عليهم أن يتركوا التوسل والتبرك والزيارة.

أجل كل ذلك يدل على أنّ الإسلام الحاقن للدماء الصائن للأعراض والأموال هو قبول الشهادتين وإظهارهما فقط، وأمّا ما وراء ذلك فلا دخالة له في حقن الدماء والأموال والأعراض.

نعم انّ الله فرض على المسلمين عندما تنازعوا، أو اختلفوا في أمر أن يردّوه إلى الله والرسول كما قال سبحانه :.( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (١) ، وقال سبحانه:( وَلَو رَدُّوهُ إِلَىٰ الرَّسُولِ وإلى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) .(٢) .

وعلى ذلك فليس لأحد من المسلمين سب طائفة منهم وشتمها ورميها بالكفر والإلحاد ما دامت تتمسك بالشهادتين وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وذلك لأجل توسّلهم بالأنبياء أو تبرّكهم بآثارهم، أو غير ذلك من المسائل الفكرية الدقيقة التي تضاربت فيها آراء علمائهم ونظرياتهم.

فإن طعن فيهم طاعن أو رماهم بالشرك، فقد خرج عن النهج الذي شاءه الله للمسلمين، وقال:( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (٣) ، أو قال:( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) .(٤) . وقال

__________________

(١) النساء: ٥٩.

(٢) النساء: ٨٣.

(٣) الأنعام: ١٥٩.

(٤) النساء: ٩٤.

٥٤٠