مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

الصفحات: 627
المشاهدات: 207462
تحميل: 5179


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207462 / تحميل: 5179
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

[ إلى أبيه ] فأعلمه )(١) .

٢. نقل الحافظ أبو نعيم الأصفهانيّ المتوفىّ عام (٤٣٠) أنّ عبد الله بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال: ( انّي سمعت الناس يقولون مقالةً فآليت أن أقولها لك وزعموا أنّك غير مستخلف وأنّه لو كان لك راعي إبل ـ أو راعي غنم ـ ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيّع، فرعاية الناس أشدّ )(٢) .

٣. قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة ليزيد، فاجتمع مع عدة من الصحابة إلى أن أرسل إلى ابن عمر، فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام وقال: إنّي كرهت أن أدع أمّة محمّد بعدي كالضأن لا راعي لها.(٣) .

كلّ هذه النصوص، تدلّ بجلاء على أنّ ادّعاء انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبيّ أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين لم يكن له أصل ولا ذكر في دراسات المتقدمين من أعلام التاريخ وكتّاب السيرة وعلماء المسلمين.

ولو دل هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على، أنّ الأصل الذي كان يعتقد به الصحابة والخلفاء في مسألة الخلافة والقيادة، كان هو التنصيص والتعيين، وعدم ترك الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها.

* * *

نظرية تفويض الأمر إلى الاُمّة بعد النبيّ

إنّ في الاُمّة الإسلاميّة طائفةً كبيرةً تعتقد، بأنّ أمر الحكومة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مفوضاً إلى انتخاب الاُمّة ونظرها، وهم يستندون في ذلك إلى عمل المسلمين في تعيين الخليفة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) الإمامة والسياسة للدينوريّ: ٣٢.

(٢) حلية الأولياء ١: ٤٤.

(٣) الإمامة والسياسة ١: ١٦٨ ( طبعة مصر ).

١٦١

ولكنّك ـ أيّها القارئ الكريم ـ اطّلعت على كيفية تصدي الخليفة الثاني والثالث للحكم، وعرفت أنّه لم يكن هناك أي انتخاب من جانب المسلمين، بل تم الأمر للخليفتين بالاستخلاف من جانب الخليفة السابق.

نعم، يمكن أن يستند القائل إلى انتخاب ( ابي بكر ) و ( الإمام علي ) للحكم، فهما تسلّما زمام الحكم والأمر بهذا الطريق.

والحق أنّ هذين الموردين هما من أهم وأوضح ما يمكن أن يستدلّ به القائل بتفويض الأمر إلى نظر الاُمّة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على مذهبه، وهو بظاهره يتصادم مع ما شرحناه وأوردناه من الأدلة على كون صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان على التنصيص والاستخلاف لا على التفويض والانتخاب.

ولنتناول البحث حول خلافة ( ابي بكر ) اولاً، ونعقبه بالبحث حول كيفية استتباب الأمر للإمام عليّ ثانياً.

تحليل لخلافة أبي بكر

إنّ الاستدلال على نظرية تفويض الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها، أو إلى أهل الحلّ والعقد منهم، أو ما شابه ذلك، بتصدي أبي بكر للخلافة، يتوقف على أثبات أمرين، لولا ثبوتهما لما صح الاستناد بهذا الطريق على هذا الانتخاب أبداً :

الأوّل: هل كان هناك انتخاب شعبيّ واقعيّ بحيث اجتمع المسلمون عامّة، وتشاوروا في الأمر ودرسوا الموضوع، فانتخبوا أبا بكر وفق الضوابط والمعايير الإسلاميّة، أو كان هناك انتخاب محدود من جانب عدّة قليلة يهاب منها، واتبعها الآخرون بلا تفكير ولا مشاورة بينما تخلف عن ذلك عدّة اُخرى ؟

الثاني: هل كان انتخاب المنتخبين لأبي بكر بأسلوب المبايعة، ينبع من تعليم اسلاميّ ويرتكز إلى أصل جاءت به الشريعة، وكان الداعي لهم إلى ذلك هو ما أخذوه وتعلموه من الرسول، أو كان اتخاذهم لذلك الاسلوب، مستنداً إلى ما كان مركوزاً في

١٦٢

أذهانهم ممّا قبل الإسلام، حيث كانوا يعيّنون الأمير والرئيس بالبيعة ؟

والحقّ أنّ هاتين النقطتين في خلافة أبي بكر قابلتان للمناقشة و التحقيق والتأمّل فنقول:(١)

أمّا النقطة الاُوّلى: فإنّ دراسة التأريخ الإسلاميّ في هذه القظية خير دليل على أنّ خلافة أبي بكر لم تأت نتيجة مشاركة الاُمّة الإسلاميّة في اختياره وانتخابه للحكم والقيادة، بل لم ينتخبه إلّا أربعة أنفار لا غير، وهؤلاء النفر هم، عمر بن الخطاب وأبو عبيدة من المهاجرين وبشير بن سعد واسيد بن حضير من الأنصار. وأمّا الباقون من رجال الأوس لم يبايعوا أبا بكر إلّا تبعاً لرئيسهم أسيد بن حضير، في حين غاب عن هذا المجلس كبار الصحابة وأفاضلهم كالإمام عليّ بن أبي طالب، والمقداد، وأبي ذر وحذيفة بن اليمان، وأبّي بن كعب وطلحة والزبير، وعشرات اخرين من الصحابة.

كما أنّ الخزرجيين ـ رغم حضورهم في السقيفة ـ امتنعوا من البيعة لأبي بكر.

وحتّى لو سلّم بوقوع الانتخاب المزعوم فإنه لا ريب كان فريداً من نوعه، لأنّه لم يقترع فيه الحاضرون على أبي بكر كما هو المتّبع في الانتخابات الحرّة المتعارفة، بل تمّ بمبادرة ( عمر ) إلى مبايعة أبي بكر، ثمّ بايعه المهاجر الآخر وبايعه بشير ورئيس الأوس أسيد بن حضير، وتبعه الأوسيون بينما تخلّف الخزرجيون الحاضرون في السقيفة عن مبايعة أبي بكر كما تبين لك ذلك من ما ذكرناه سابقاً من تهاجيهم.

ثمّ أخذوا البيعة من كلّ من صادفوه في الطريق خارج السقيفة، واستمرّ ذلك إلى ستة أشهر بالتهديد والترغيب وهذا أمر واضح لمن درس تاريخ السقيفة وما تلاها من الأحداث والوقائع.

__________________

(١) البحث عن النقطة الاولى، بحث في الصغرى وهو كون خلافة أبي بكر كانت بالانتخاب الشعبيّ.

والبحث عن النقطة الثانية ؛ بحث عن الكبرى أي كون صيغة الحكومة بعد وفاة رسول الله ـ بلا فصل ـ هي تعيين الخليفة باسلوب المبايعة، واللازم على القارئ أن لا يخلط بين الأمرين.

١٦٣

ومن الواضح أنّ بيعةً بهذه الصفة، لا يمكن انّ تكون انتخاباً حقيقيّاً واستفتاءً حرّاً.

فأيّ انتخاب شعبيّ حرّ جاء بالخليفة الأوّل، وهذا التأريخ يروي لنا ما جرى في السقيفة وما وقع من التهديد والتنديد والسيف، والشتيمة والمهاترات.

فها هو الحبّاب بن المنذر الصحابيّ البدريّ الأنصاريّ العظيم وقد انتضى سيفه على أبي بكر ـ يوم السقيفة ـ وهو يقول: ( والله لا يرد عليّ أحد ما أقول إلّا حطّمت أنفه بالسيف أنا جذيلها المحكّك [ أي أصل الشجرة ] وعذيقها المرجب [ أي النخلة المثقلة بالثمر ] أنا أبو شبل في عرينة الأسد يعزى إليّ الأسد )(١) .

وهو بكلامه هذا يتهدّد كلّ من يحاول إخراج القيادة من الأنصار وإقرارها لغيرهم.

وها هو آخر ( وهو سعد بن عبادة ) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي: ( انا أرميكم بكلِّ سهم كنانتي من نبل واخضّب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي )(٢) .

وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشبّ نار الحرب بقوله: ( انّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلّا دم )(٣) .

وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار، يداس بالأقدام، وينزى عليه وينادى عليه بغضب: ( اقتلوا سعداً قتله الله إنّه منافق، أو صاحب فتنة ) وقد قام الرجل على رأسه ويقول: ( لقد هممت أنّ أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك )(٤) .

فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول: ( والله لو حصصت منه شعرةً ما

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٢: ١٦.

(٢) الغدير ٧: ٧٦.

(٣) الإمامة والسياسة ١: ١١، تاريخ الطبري ٣: ٢١٠.

(٤) مسند أحمد ١: ٥٦، تاريخ الطبري ٣: ٢١٠ وغيرهما.

١٦٤

رجعت وفي فيك واضحة !!! أو: لو خفضت منه شعرةً ما رجعت وفيك جارحة )(١) .

وهذا الزبير لـمّا رأى أنّ الأمر قد عقد لأبي بكر يخترط سيفه ويقول: ( لا أغمده حتّى يبايع عليّ ) فيقول عمر: عليكم الكلب، فيؤخذ سيفه من يده، ويضرب به الحجر ويكسر(٢) .

وها هو المقداد ذلك الرجل الصحابيّ العظيم يدافع في صدره(٣) .

وها هو أبو بكر يبعث عمر بن الخطاب إلى بيت الإمام عليّ وفاطمة، ويتهدّد اللائذين به الممتنعين عن مبايعته ويقول له: إن أبوا فقاتلهم.

فيأتي عمر إلى بيت فاطمة ويقول: والله لتحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فتقول فاطمة الزهراء بنت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتصيح وتنادي: « يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة »(٤) .

وها هو الإمام عليّعليه‌السلام يقاد إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش ويساق سوقاً عنيفاً ويقال له: بايع فيقول: « إن أنا لم أفعل فمه » ؟ فيقال: إذن والله الذي لا إله إلّا هو نضرب عنقك، فيقول: « إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله »(٥) .

وهؤلاء لـمّا يتناقشون الأمر في السقيفة فيقول الأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، يردّ عليه عمر قائلاً: إذا كان ذلك فمت إن استطعت !!

وهذا عمر يعترف أنّ هذه البيعة كانت فلتةً لا تخضع لضابطة، ولا تقوم على أساس من المبادئ الإسلاميّة والمنطلقات الصحيحة والمشروعة إذ يقول: ( كانت بيعة أبي بكر فلتةً كفلتة الجاهليّة، وقى الله شرّها ».

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٢١٠، السيرة الحلبيّة ٣: ٣٨٧.

(٢) الإمامة والسياسة ١: ١١، تاريخ الطبري ٣: ١٩٩.

(٣) تاريخ الطبري ٣: ٢١٠.

(٤) تاريخ الطبري ٣: ٢١٠، الإمامة والسياسة ١: ١٣.

(٥) الإمامة والسياسة ١: ١٣، أعلام النساء ٣: ٢٠٦.

١٦٥

ولهذا يحذِّر المسلمين من الأخذ بها لأنّها لم تكن تمثّل أي صورة انتخابيّة صحيحة حتّى لو قيل بمشروعية تعين الخليفة عن طريق الانتخاب فيقول: ( فمن عاد إليها فاقتلوه )(١) .

تحليل لخلافة الإمام عليّ

وأمّا خلافة الإمام عليّعليه‌السلام فهي وإن أجمع المسلمون عليها، وأقبل عليه الناس برمّتهم، إلّا أنّهعليه‌السلام لم يستدلّ لخلافته باجتماع الآراء والأصوات عليه وانتخاب الناس له، بل كان يستند غالباً بالنصوص النبويّة الواردة في حقّهعليه‌السلام والتي تنص على خلافته من جانب الله سبحانه.

وما عليك إلّا أنّ تستعرض ما قاله في يوم الرحبة.

عن الصحابيّ أبي الطفيل الليثي قال: جمع عليّرضي‌الله‌عنه الناس في الرحبة، ثم قال لهم: « أنشد الله كلّ أمرء مسلم سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يوم غدير خم ما سمع لـمّا قام »، فقام ثلاثون من الناس وقال، أبو نعيم: فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس: « أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم » قالوا: نعم يا رسول الله، قال: « من كنت مولاه فهذا مولاه، أللّهم وال من والاه وعاد من عاداه » قال: فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إنّي سمعت عليّاًرضي‌الله‌عنه تعالى يقول: كذا وكذا. قال: فما تنكر ؟ قد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له ذلك(٢) .

وفي رواية أنّ علياًعليه‌السلام نشد الناس من سمع رسول الله يقول من كنت مولاه فهذا مولاه فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد، وكان يعلمها فدعا عليّعليه‌السلام عليه بذهاب البصر فعمي فكان يحدّث الناس بالحديث بعد ما كفّ بصره(٣) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ١٢٣ ( طبعة مصر ).

(٢ و ٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٣٦٢، اسد الغابة٣: ٣٠٧ و ٥: ٢٠٥، والإصابة ٤: ٨٠، ومسند أحمد بن حنبل ١: ٨٤، ومجمع الزوائد ٩: ١٠٧، ومطالب السؤل: ٥٤، شرح المواهب ٧: ١٣، ذخائر العقبى: ٦٧، خصائص النسائيّ: ٢٦ وأسنى المطالب: ٣.

١٦٦

هذا كله في البحث عن النقطة الاولى، أي البحث عن الصغرى وهو هل كان انتخاب الخليفة الأوّل انتخاباً شعبياً أو لا ؟

وأمّا النقطة الثانية: أعني البحث عن الكبرى أي كون صيغة الحكم بعد رسول الله بلا فصل هو تفويض الأمر إلى الاُمّة لانتخاب القائد عن طريق البيعة.

نقول: أنّ تعيين القائد والرئيس بهذه الكيفيّة ( أي البيعة ) لم يكن تعليماً إسلاميّاً، سار على ضوئه من حضر في السقيفة وأخذوا به بما أنّه قانون نصّت عليه الشريعة، وأتى به الإسلام.

لأنّ تعيين الحاكم في منطق الدين الإسلاميّ لم يكن بمبايعة أحد على ذلك، وما قد يتبادر إلى الذهن من وقوع ذلك مع الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ بايعه بعض الناس أو بايعه اصحابه، فإنّ تلك البيعة لم تكن إلّا بعد الإقرار بنبوّته وحاكميّته وقيادته وكانت البيعة بمثابة إظهار الإخلاص والوفاء القلبيين له، وعهداً لفظياً وظاهرياً على التقيد بطاعته، وتنفيذ اوامره في الحروب والوقائع المهمّة، لا أنّ البيعة كانت بمعنى نصبه للقيادة، فالقيادة كانت مجعولة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من جانب الله تعالى، وهي لا تخضع للبيعة وعدم البيعة.

وعلى كلّ حال، فإنّ البيعة كانت بعد الإقرار بالقيادة النبويّة المجعولة إلهيّاً ولأجل الإخلاص والوفاء للنبيّ المعترف بنبوّته قبلاً.

ومن المحتمل جداً أنّ طريقة تعيين الخليفة بالبيعة له التي تمّت في السقيفة وبموجبها عيّنوا الخليفة كانت تقليداً لما كان مرتكزاً في نفوس البعض ممّا قبل الإسلام، حيث كان المتبع في الجاهلية إذا أرادوا أن ينصبوا لأنفسهم رئيساً بايعوا أحداً، وكانت البيعة بمعنى نصبه للقيادة، وبمثابة جعل الإمرة والرئاسة لشخص(١) .

__________________

(١) وسيوافيك عند البحث عن طرق انتخاب الحاكم، أنّ البيعة المذكورة في الآيات القرآنيّة لم تكن إلّا تأكيداً لاعترافهم بالنبوّة وقيادة النبيّ المجعولة من جانب الله سبحانه، ولطمأنة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يكنّون له من إخلاص وثبات.

١٦٧

وممّا يدلّ على أنّ تعيين الخليفة والقائد بهذا النمط الذي تمّ في السقيفة كان أسلوباً يعتمد على ما كان مرتكزاً ومترسِّباً في نفوسهم ممّا قبل الإسلام، أنّهم لم يلتفتوا ولم يعتنوا ـ في تعيين الخليفة ـ بالشروط اللازمة في الحاكم الإسلاميّ، ولم يستندوا في ذلك إلى أصل قرآنيّ واسلاميّ لتصحيح عملهم ـ في وقته ـ كآيات الشورى والمشورة، أو الآيات التي تضمنت كلمة البيعة، بل كان كلّ من الطائفتين المتنازعتين على نيل الرئاسة والقيادة، يرجِّح نظره وموقفه باُمور لا أساس لها في الإسلام ولا عبرة بها في تعيين الحاكم وتقرير مصير الحاكميّة كالنسب والنصرة، حيث ادّعى المهاجرون أنّ الخلافة يجب أنّ تكون فيهم لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان من قريش، وعارضهم الأنصار بأنّهم أولى بالخلافة، لأنّهم آووا الرسول ونصروه وفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم.

ومن المعلوم، أنّ ما استندوا إليه واستدلوا به من الملاكات لم تكن ملاكات إسلاميّة في تعيين الخليفة.

وإلى عدم اعتبار تلك الملاكات الواهية، يشير الإمام عليّعليه‌السلام وينتقد أهل السقيفة على تمسكهم بها إذ يقول محتجاً عليهم :

فإن كنت بالشّورى حججت خصيمهم

فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنّبيِّ وأقرب(١)

أمّا ما ورد في كلامهعليه‌السلام من الاستدلال بالشورى. ورأي المهاجرين والأنصار وأهل الحلّ والعقد، فلم يكن إلّا لإبطال ادِّعاء معاوية في الخلافة من باب إفحام الخصم بما يعتقده ويدّعيه، وذلك لأنّ موضوع القيادة ـ كما أسلفناه ـ، كان ينحصر في التنصيص والاستخلاف، وهوما ظلّ يعتقد به المسلمون بعد الرسول حتّى انّهم قد بنوا سيرتهم العمليّة عليه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨: ٤١٦.

١٦٨

٣. صيغة القيادة والخلافة عند الأمم السابقة :

إنّ ملاحظة الآيات القرآنيّة الواردة حول القيادة، ومراجعة ما نقل وصحّ من الأحاديث والتأريخ في هذا المجال، تفيد ثلاث نقاط بارزة تؤيّد فكرة التنصيص على الخليفة، وما أسميناه بالاستخلاف، وتفيد ـ بالتالي ـ أنّ المتّبع بين الأمم الغابرة كان هو التنصيص والتعيين للقائد، وليس ترك الأمر إلى نظر الناس وانتخابهم.

وإليك هذه النقاط :

١. لقد كان المتّبع بين الانبياء السابقين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم وتربيتهم من الأمم وسهروا في صياغتهم، واجتهدوا في تعليمهم، إلى خلفاء صالحين لائقين(١) . ليتسنّى لتلك الأمم والأقوام والجماعات ـ في ظلِّ الرعاية والتربية الصحيحة التي يوليها الخلفاء والأوصياء ـ أن تستمر في طريق التكامل والرشد.

صحيح أنّ أكثر الذين كانوا يخلّفون الانبياء كانوا من الانبياء أيضاً، إلّا أنّ بعضهم لم يكونوا من الانبياء، بل كانوا مجرد أوصياء يقومون بما يقوم به الإمام في الاُمّة الإسلاميّة.

وحتّى لو كان الخلفاء المذكورين من الانبياء أيضاً، فان ذلك يفيد قانوناً كليّاً هو أنّ مسألة القيادة والزعامة والرئاسة بعد غياب النبيّ كان من الأهميّة والخطورة، بحيث لم يترك أمرها إلى اختيار الناس ونظرهم، بل كانت تعهد على طول التاريخ إلى رجال أكفّاء، يعيّنونهم بالاسم والشخص، لأنّ ترك تعيين القائد إلى اختيار الاُمّة قد يؤدي إلى الاختلاف والفرقة والفتنة، أو الاشتباه والخطأ في تعيين الراعي الصالح والقائد الكفوء.

٢. إنّ القيادة والرئاسة بين الأمم السالفة كانت تتحقّق بصورة وراثيّة غالباً، فيتوارثها أفراد من سلالة الأنبياء والرسل خلفاً عن سلف كما نلاحظ في الآيات التالية :

__________________

(١) هذا معلوم على نحو الإجمال، وإن لم نعلم خصوصيّات ولا أسماء تلكم الشخصيات الذين كانوا يخلفّون الأنبياء السابقين.

١٦٩

أ ـ ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران: ٣٣ ).( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران: ٣٤ ).

ب ـ ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( العنكبوت: ٢٧ ).

ج ـ ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) ( الحديد: ٢٦ ).

ففي هذه الآيات، نرى كيف ينتقل مقام الحاكميّة والقيادة بين أفراد من سلالة الانبياء وذريتهم فيتوارثون ذلك المقام الخطير خلفاً عن سلف.

د ـ وعندما يختار الله تعالى إبراهيم لمقام النبوّة والقيادة، يدعو إبراهيم ربّه أن يجعل هذا المقام في ذرّيّته أيضاً كما جعله فيه، ولا يردّ الله دعاءه ولا يستنكر عليه مطلبه، بل يخبره بأنّه لا ينيلها الظالمين منهم إذ يقول:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة: ١٢٤ ).

ه‍ ـ وعند ما يطلب موسىعليه‌السلام أن يكون أخاه هارون مساعداً ومعيناً له في القيادة يحكي الله ذلك عنه دون أن يستنكر طلبه إذ يقول:( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي ) ( طه: ٣٠ ).

وهذه الآيات، تكشف بوضوح عن توارث النبوّة والقيادة خلفاً عن سلف وصالحاً عن صالح، فلا تخرج من سلالة الانبياء وذرياتهم غالباً.

٣. إنّ مراجعة تاريخ الانبياء والاُمم السالفة، تكشف عن أنّ الأنبياء كانوا ينصّون على الخلفاء من بعدهم بصورة الوصاية، ونذكر فيما يأتي طائفةً من الانبياء، وأوصيائهم كما يرويها المسعوديّ :

ونبدأ ذلك من النبيّ إبراهيمعليه‌السلام :

١. إسماعيل بن إبراهيم.

١٧٠

٢. إسحاق بن إبراهيم.

٣. يوسف بن يعقوب.

٤. ببرز بن لاوي بن يعقوب.

٥. أحرب بن ببرز.

٦. ميتاح بن أحرب.

٧. عاق بن ميتاح.

٨. خيام بن عاق.

٩. مادوم بن خيام.

١٠. شعيب بن مادوم.

* * *

١١. موسى بن عمران.

١٢. يوشع بن نون.

١٣. فيخاس بن يوشع.

١٤. بشير بن يوشع.

١٥. جبرئيل بن بشير.

١٦. أبلث بن جبرئيل.

١٧. أحمر بن أبلث.

١٨. محتان بن أحمر.

١٩. عوق بن محتان.

٢٠. طالوت بن عوق.

* * *

٢١. داود.

٢٢. سليمان بن داود.

٢٣. آصف بن برخيا.

١٧١

٢٤. صفورا بن برخيا.

٢٥. منبه بن صفورا.

٢٦. هندوا بن منبه.

٢٧. أسفر بن هندوا.

٢٨. رامي بن أسفر.

٢٩. إسحاق بن رامي.

٣٠. أيم بن إسحاق.

٣١. زكريا بن أيم.

و

وقد أخرجنا هذا الفهرس من كتاب إثبات الوصيّة للمسعوديّ المتوفىّ عام (٣٤٥) تاركين الاطِّلاع على بقيّة أسماء الانبياء وأوصيائهم وأسباطهم للقارئ.

إنّ مراجعة هذا الفهرس من الأسماء، ومراجعة ذلك الكتاب، تهدينا إلى نقطتين بوضوح :

الاُوّلى: إنّ القيادة وإن كانت مقرونةً بالنبوّة غالباً، غير أنّها كانت وراثيّةً في الأمم السالفة، يرثها صالح عن صالح وكابر عن كابر ممّا يعني أنّها لم يكن أمرها متروكاً إلى الناس ومفوضاً إلى آرائهم.

الثانية: أنّ جميع الزعامات والقيادات كانت بأمر الله وبنصّ الانبياء السابقين. وممّا يدلّ على أنّ الاُمّة الناشئة لا يجوز ترك أمرها إلى نفسها، دون تعيين قائد محنّك وراع صالح منصوص عليه يأخذ بزمام أمرها. ويحفظها عن الانحراف، ما جرى في أمّة موسىعليه‌السلام وذلك لـمّا أراد النبيّ موسى بن عمران الاعتزال عن قومه مدّة أربعين ليلةً لمناجاة ربّه سبحانه، لم يترك امّته دون تعيين الخليفة عليهم بل عيّن هارون خليفةً وأميراً في غيابه وإلى هذا يشير قول الله سبحانه منبّهاً إلى هذه الواقعة:( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ

١٧٢

اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) ( الاعراف: ١٤٢ ).

فإذا كان هذا هو المتّبع عند الأمم السالفة في مسألة القيادة والخلافة بعد الانبياء، وكان ذلك أمراً متكرراً ومتعارفاً بينهم، فالانصراف عن تلك الطريقة والإعراض عنها في الإسلام يحتاج إلى التصريح والبيان.

الخلافة بالوصاية

ومن طالع الكتاب والسنّة بتتبّع وتوسّع، لا يجد أي دليل يدلّ على ما يخالف هذه الطريقة ولا أي صارف عن الأخذ بها، بل يجد في ذينك المصدرين العظيمين المقدسين ما يدلّ على أنّ كلّ ما جرى على الأمم السابقة يجري على هذه الاُمّة إلّا ما استثني، وهو مبيّن.

ويدل على ذلك بصراحة لا تقبل جدلاً ما روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ، وإنّه لا نبيّ بعدي وسيكون خلفاء »(١) .

وبما أنّ التلازم بين النبوّة والاستخلاف ممّا تقتضيه طبيعة الحياة الاجتماعيّة وتؤكّده حياة الأمم السالفة كما ذكرنا لك، لهذا نجد أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمجرد أنّ يصدع بنبوّته، يواجه الناس بمسألة الخلافة من بعده ويشير إلى الخليفة الذي سيخلفه، والوصيّ الذي سيلي مهمّاته ومهامّه بعد وفاته

وهذا يدلّ على أنّ النبوة والاستخلاف ( وتعيين الخليفة بالوصاية ) متلازمان لا ينفصلان وتوأمان لا يفترقان

وإليك ما جرى في يوم الدار المعروف، وهو يثبت ما قلناه :

أخرج الطبريّ في تاريخه عن عبد الله بن عبّاس عن علي بن أبي طالب قال: « لمّا

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم كما في جامع الاُصول لابن الاثير الجزريّ ٤: ٤٨.

١٧٣

نزلت هذ الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء: ٢١٤ )، دعاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا علي إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي متى ابادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليه حتى جاء جبرئيل فقال: يا محمّد إنّك إن لا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة، وأملأ لنا عسّاً من لبن، ثمّ أجمع لي بني عبد المطلب حتّى أكلّمهم وأبلغهم ما أمرت به. ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الّذي صنعت لهم فجئت به فلمّا وضعته تناول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حذيةً من اللحم فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصّحفة ثمّ قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتّى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلّا موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس عليّ بيده وإنّه كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله اسق القوم، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول الله أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقدما سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال الغد: يا عليّ إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثمّ أجمعهم إليّ، قال ففعلت، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتّى ما لهم بشيء حاجة ثمّ قال اسقهم فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ».

قال: « فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثمّ قال :

١٧٤

إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».

قال: « فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع »(١) .

إنّ الناظر في كلمات الإمام عليّعليه‌السلام يرى أنّ الإمام يصرّح بوجود النصّ النبويّ على خلافته وولايته بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول في أهل البيتعليه‌السلام وهو منهم يقولعليه‌السلام : « هم موضع سرّه وملجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وهم أساس الدين وعماد اليقين، وإليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصيّة »(٢) .

وهذه العبارة صريحة في أنّهعليه‌السلام الصاحب الشرعيّ لمقام الخلافة، لوجود خصائص الولاية في أهل البيت وهو رئيسهم، ولوجود الوصيّة في أعيانهم وهو أوّلهم.

كما يرى أنّهعليه‌السلام يصرّح، بأنّ الولاية حقّ شرعيّ له خاصّةً ولكنّ قريشاً حالوا بينه وبين ذلك الحقّ إذ يقول: « إنّ الله لـمّا قبض نبيّه استأثر علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من النّاس كافةً، ورأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدّين يمخض مخض الرّطب، يفسده أدنى وهن ويقلبه أقلّ خلق »(٣) .

وفي عبارة أخرى يصرّح الإمامعليه‌السلام بهذا الحقّ بأشدّ وضوح إذ يقول: « أللّهم استعينك على قريش ومن أعانهم، فإنّهم قطعوا رحمي وصغّروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي »(٤) .

__________________

(١) تاريخ الطبريّ ٢: ٢١٦، نقض العثمانيّة كما في شرح نهج البلاغة ٣: ٢٦٣، شرح الشفاء للقاضي عياض ٣: ٣٧، تفسير الخازن: ٣٩٠، وحياة محمّد لهيكل: ١٠٤، مسند أحمد ١: ١٥٩ وغيرها.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٢.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٨: ٣٠.

(٤) نهج البلاغة لعبده: الخطبة ١٦٨.

١٧٥

وفي عبارة رابعة قال مجيباً على اعتراض أبي عبيدة الجّراح على الإمام حرصه على الخلافة والإمرة: « بل أنتم ـ والله ـ أحرص وأبعد وأنا أخصّ وأقرب، وإنّما طلبت حقّاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه وتصرفون وجهي دونه »(١) .

ووجه الدلالة لهذا الكلام العلويّ يتّضح إذا درسنا هذا الحقّ الذي يدّعيه الإمام لنفسه، ماهيّته وحقيقته.

وفي عبارة خامسة يقول الإمامعليه‌السلام : « فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقّي مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يوم النّاس هذا »(٢) .

والعجيب، أنّ ابن أبي الحديد فسّر هذا ( الحقّ ) الذي صرّح به الإمام في مواضع عديدة بما يخالف ظاهره. إذ قال ما توضيحه :

إنّ الإمام لـمّا كان أقرب الناس إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان أعلمهم وأعدلهم كان له بذلك ( حقّ طبيعيّ ) بأن يكون هو الخليفة، وأن يقع اختيار الاُمّة عليه للقيادة والإمرة، غير أنّ الاُمّة ـ مع ماله من الحقّ المذكور ـ عدلت عنه، وقدّمت المفضول على الفاضل لمصلحة كانت تراها، فعمد الإمام إلى التظلّم والشكوى واللوم على الناخب والمنتخب.

فالحقّ الذي يدّعيه الإمامعليه‌السلام في هذه العبارات، والذي حرمته قريش وأزالته عنه ليس حقّاً شرعيّاً، وليس انتخاب غيره عدولاً عن أمر الشرع، بل كان حقاً طبيعيّاً، وعقليّاً واجباً يوجب على الإنسان ان لا يعدل مع وجود الأعلم إلى العالم، ومع وجود الأفضل إلى المفضول، ومع وجود اللائق إلى غير اللائق، بل لابدّ أن يعطى زمام الأمر إلى العالم المستجمع لشرائط القيادة روحيّاً وجسميّاً.

بيد أنّ هذا التوجيه والتفسير، ينبع عن رأي مسبّق اتخذه صاحبه، ودرس ( الحقّ ) مستنداً على ذلك الرأي والموقف المسبّق وهو غير مقبول.

__________________

(١) نهج البلاغة لعبده: الخطبة ١٦٧.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٥٩.

١٧٦

فإنّه إذ ذهب إلى تصحيح خلافة الخلفاء الذين تسلّموا قيادة المسلمين بعد الرسول، صار إلى تأويل هذه العبارات وتفسير الحقّ على النحو المخالف لظواهرها الواضحة.

والناظر إلى هذه العبارات والعارف بكلمات الإمامعليه‌السلام يعلم أنّ الإمام يقصد غير ما قاله ابن ابي الحديد، فإنّه :

أوّلاً: يعتمد على كلمة ( الوصاية )، وهو يبطل بصراحة ما أدّعاه ابن أبي الحديد إذ المراد من الوصاية هو إيصاء النبيّ بالخلافة والولاية الشرعيّة له بعده.

وكلمات الوصاية هذه وردت في كلمات كثيرة للإمام مرّ عليك بعضها في العبارات السابقة، كما وصف الإمام بها في بعض كلمات المسلمين وأشعارهم(١) .

ثانياً: إنّ اللياقة التي توجد في الإمام عليّعليه‌السلام لا تولّد لوحدها حقّاً لعليّعليه‌السلام ما لم ينضّم إليه انتخاب الاُمّة على مبنى ابن أبي الحديد، الذي يرى أنّ الخلافة عمليّة انتخابيّة، فإنّ الحقّ في الخلافة على هذا المبنى يعتمد على أمرين :

١. اللياقة الذاتيّة.

٢. انتخاب الشعب.

فلو انتفى أحد الجزئين، انتفى الحقّ في الخلافة، فلا يبقى حقّ لكي يدّعيه الإمام ويركّز عليه.

وبتعبير آخر: إنّ أمر القيادة لو كان راجعاً إلى المشاورة والاستفتاء ومفوّضاً إلى انتخاب الصحابة أو أهل الحلّ والعقد، فإذا لم ينتخبوا أحداً لا يكون الشخص ذا حقّ في الخلافة والإمرة والقيادة، وإن كان ذا فضائل وكفاءات وصفات قياديّة، ولا يعدّ العدول عنه عدولاً عن الحقّ، وميلاً إلى الظلم والإجحاف بأحد، مع أنّ كلمات الإمامعليه‌السلام صريحة في أنّ هذا العدول كان عدولاً من الحقّ إلى غير الحقّ إذ قال: « وأجمعوا

__________________

(١) لاحظ شرح النهج ١: ١٤٣ ـ ١٥٠.

١٧٧

على منازعتي أمراً هو لي ».

وأمّا أنّ الإمام لماذا لم يقم على اخذ الحقّ مع ما يتمتّع به من الشرعيّة والقوّة ؟ فقد أشار الإمام إلى سببه في كلماته إذ قال معزياً ذلك إلى حرصه على وحدة المسلمين ودمائهم: « فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من فرقة المسلمين وسفك دمائهم والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدّين يمخض مخض الرّطب يفسده أدنى وهن ويقلبه أقلّ خلق ».

وإلى هذا السبب أشار في موضع آخر إذ قال: « لـمّا قبض الله نبيّه قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون النّاس وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن لا يعود الكفر ويبور الدّين لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه »(١) .

ولمّا طالب بعض اصحاب الإمام في أبيات له أن يطالب الإمام بذلك الحقّ الشرعيّ قالعليه‌السلام : « سلامة الدّين أحبّ إلينا من غيره »(٢) .

وفي كلام آخر لهعليه‌السلام نجده يعزي سكوته العظيم وإحجامه عن استخدام القوّة إلى عدم وجود النصير الحقيقيّ له إلّا أهل بيته الذين كان يحرص على المحافظة عليهم: « فنظرت فإذا ليس معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى وشربت على الشّجى، وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمر من طعم العلقم »(٣) .

ويؤيّد أنّ الحقّ الذي كان يدّعيه الإمامعليه‌السلام إنّما هو حقّ شرعيّ، أنّه حكّم الله بينه وبين من دفعوه عن مقامه إذ قال لمن سأله وهو أحقّ به: « فاعلم فأمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدّون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نوطاً ( أي تعلّقاً ) فإنّها كانت أثرةً شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين والحكم الله، والمعود إليه يوم القيامة »(٤) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٣٠٧.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ٤١.

(٣ و ٤) نهج البلاغة: الخطبة ٢٦ ـ ١٥٧.

١٧٨

وهذا يفيد بوضوح أنّ ذلك الحقّ كان حقّاً شرعيّاً إلهيّاً ستسئل الاُمّة الإسلاميّة عنه يوم القيامة.

وخلاصة القول: أنّ النصوص متضافرة على أنّ الإمام كان موصى له بالخلافة ومنصوصاً عليه بالإمرة والولاية ولكنّهعليه‌السلام لم يجد الظروف مناسبةً للمطالبة بذلك المقام المنصوص والحقّ المصرّح به، حفاظاً على مصلحة الإسلام والمسلمين، وتجنباً من سفك الدماء وتفرق وحدة الاُمّة وسقوط هيبتها. وهو أمر تقتضيها مصلحة القيادة الحكيمة.

وهكذا تبيّن ممّا سبق من البحث المفصّل، أنّ القاعدة الأصليّة في صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّ هو التنصيص الإلهيّ على حاكم معين باسمه وشخصه وهذا هو ما يعبر عنه بالوصاية.

وحاصلها، أنّ الحاكم الأعلى في نظام الحكم الإسلاميّ يجب أن يكون منصوصاً عليه من جانب الله سبحانه، فكما أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان نبيّاً ورسولاً وحاكماً وقائداً من جانب الله سبحانه، فلابدّ أن يكون خليفته المتولّي لشؤون المسلمين من بعده، منصوصاً عليه، وعلى قيادته من جانبه سبحانه أيضاً.

فذلك كما أسلفنا، ممّا يقتضيه العقل ويدلّ عليه الكتاب والسنّة ويؤكّده موقف الصحابة والخلفاء، وتكشف عنه سيرة الأمم السالفة والأنبياء السابقين.

وقد اقتصرت مهمّتنا في هذا البحث الموسّع، على الاستدلال والبرهنة على هذه القاعدة الأصيلة في صيغة الحكومة الإسلاميّة ولا يهمّنا هنا إثبات من ورد في شأنه النصّ الإلهيّ، وعيّنه الله سبحانه لإمرة المسلمين وقيادتهم فذلك موكول إلى الكتب المعتبرة والمصادر الموثوقة التي تهتمّ بهذا الأمر وتحتوي على النصوص المرتبطة به.

وصفوة القول، أنّ جميع الأدلة النقليّة والمحاسبات العقليّة والاجتماعيّة والشواهد التأريخيّة تدلّ بالإجماع على، أنّ الأصل الأصيل في الحاكميّة هو أنّ الحكم لله سبحانه وحده بالأصالة والاستقلال، وهو يستخلف من يشاء من عباده الصالحين اللائقين

١٧٩

القادرين على إدارة البشريّة وكفايّة اُمورهم وهم ممن تتوفر فيهم مؤهّلات، وكفاءات عالية ولا تعرف بالطريق العاديّ، ولا تكشف بالتجربة والاختيار ولا تحصل إلّا بإعداد إلهيّ وتربية ربانيّة.

بيد أنّ الإسلام إذ لم يشرّعه الله سبحانه إلّا ليكون منهج حياة للبشريّة يتكفّل تنظيم حياتهم عامّةً، ولم يكن له بدّ من التخطيط لموضوع الحكومة والدولة التي هي محور الحياة الاجتماعيّة وأساسها في جميع الأحوال وجميع الظروف والأزمنة، فإذا لم يتسنّ للمجتمع التوصّل إلى الحاكم المنصوص عليه من جانب الله بالاسم، لأسباب استثنائيّة، وظروف خاصّة، ولم يجز للإسلام إهمال مسألة الحكومة، فلابدّ أن يكون له منهج رصين في هذا المجال ايضاً.

وبتعبير آخر أنّ ما ذكرناه لك في الصفحات الماضية والبحوث المتقدمة إنّما هو راجع إلى الظروف التي يوجد فيها إمام منصوص عليه يمكن التوصّل إليه بالأسباب العاديّة، ويتسنّى له أن يباشر إدارة المجتمع وتدبيره.

غير أنّ المفروض في هذا العصر هو عدم وجود مثل ذلك الإمام فلابدّ أن يكون للدين الإسلاميّ تخطيط آخر قطعاً ولا شكّ أنّه تخطيط موجود في الشريعة ويمكن تحصيله بالدراسة والتحقيق، إذ لا يمكن للإسلام أن يهمل هذه الناحية الحساسّة من حياة المجتمع على كلّ حال.

فلابدّ إذن للباحث عن الحقيقّة، أن يتحرّى برنامج الإسلام في هذا المجال في الكتاب والسنّة ونصوص الأئمّة الإسلامييّن، حتّى يستنبط ما يقرره الإسلام في مجال الحكم في هذه الظروف.

وهذا هو ما سنفعله في البحث القادم.

رأي الخُضريّ ومناقشته

وفي الختام نأتي بما قاله الاستاذ محمّد الخضرّي :

١٨٠