مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن6%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219029 / تحميل: 6013
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

( لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول الله أللّهم إلّا تلك الأوامر العامّة التي تتناول الخلافة وغيرها مثل وصف المسلمين بقوله تعالى:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) (١) وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة إلّا بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق، كأنّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتّى يحلّوه بأنفسهم، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده وأوضحت سبله، كما أوضحت سبل الصلاة والصيام )(٢) .

وما ذكره الأستاذ ادّعاء غريب إذ فيه :

أوّلاً: كيف لم يرد في السنّة بيان نظام خاصّ حول الخلافة إلّا الأوامر العامّة، وقد فصّل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله جلائل الأمور وصغائرها فيما هو أقلّ شأناً من أمر الخلافة بكثير.

كيف وقد بين الرسول كثيراً من المستحبات والمسنونات التي لا تبلغ في الأهميّة والخطورة مبلغ الخلافة والحكومة.

وثانياً: إنكّ قد عرفت أنّ أمر الخلافة لا يصحّ أن يكله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الاُمّة وقد عرفت الوجوه الدالة على ذلك، من عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة، وتجذّر الخلافات العشائريّة بينهم، والخطر الثلاثي الذي يحدق بهم، ويهدّد كيانهم(٣) .

وثالثاً: أنّ الاستاذ لو أحاط بتاريخ الإسلام والمسلمين وما أثر من الرسول من أحاديث صحيحة ومتواترة حول الخلافة لوقف على النصوص الصريحة في لون الخلافة ونظامها في جميع الظروف.

__________________

(١) الشورى: ٣٨.

(٢) محاضرات في تاريخ الأمم الإسلاميّة ٢: ١٦١.

(٣) لاحظ صفحة ٧٦ ـ ١٠٠ من هذا الجزء.

١٨١
١٨٢

الفصل الثالث

صيغةُ الحكومة الإسلاميّة

في العصور الحاضرة

قد أوقفك ما مضى من البحث على لون الحكومة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعرفت حقّ المقال فيه بما لا يبقى لمشكّك شكّ، ولا لذي ريب ريب.

غير أنّ المهمّ ـ الآن ـ هو، بيان صيغة الحكومة في العصور الحاضرة التي لا تتمكن الاُمّة فيها من الوصول إلى الإمام المنصوص عليه باسمه وشخصه، وهذا هو ما عقدنا له الفصل التالي.

* * *

ماذا كُتب حول الحكومة ؟

إنّ إيضاح صيغة الحكومة الإسلاميّة في هذه العصور، وبيان مناهجها وخطوطها وخصائصها مع كونها من أهمّ الموضوعات الحيويّة، لم يبذل علماء الفريقين حولها الجهود الكبيرة اللائقة بشأنها، وذلك لسبب في جانب أهل السنّة، وسبب في جانب الشيعة.

أمّا الأوّل، فبما أنّ الاسلوب الّذي تمّت به خلافة الخلفاء في العصر الأوّل قد صار ملاكاً للحكومة الإسلاميّة عندهم وحسبوا أنّه المعيار الصحيح ولأجل ذلك صار هذا

١٨٣

مانعاً عن تحقيق الموضوع حسب ما يليق به.

وقد صار ذلك مؤثراً في تعطيل القوى المفكِّرة للبحث عن إسلوب آخر من أساليب الحكم التي ربّما يرشدنا إليه الكتاب والسنّة عند التدبُّر.

وقد سبقنا إلى ذكر هذا السبب الكاتب عبد الكريم الخطيب في كتابه الخلافة والإمامة ( صفحة ٢٧٢ ) حيث قال: ( وقد كان لهذا الإسلوب أثره في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن إسلوب آخر من أساليب الحكم التي جرّبتها الأمم إذ أصبحت البيعة التي ظهرت صورتها في سقيفة بني ساعدة، هي الصورة المرتسمة في ذهن المسلمين وهي عندهم الصورة المثلى لاختيار الخليفة ).

وأمّا من جانب الشيعة، فلأجل أنّهم لم تقم لهم حكومة إسلاميّة واسعة الأطراف إلّا دويلات مثل الحمدانييّن والبويهييّن والفاطمييّن، وقد قضت عليها السلطات الجائرة، لم يستدعي ذلك البحث عن خطوط الحكومة الإسلاميّة ومسائلها ولأجل ذلك، اكتفوا بالبحث عن المسائل التي كانت تبتلي بها الشيعة في جميع العصور، كالخراج والمقاسمة والتولّي عن الحاكم الجائر وغيرها ممّا لم تكن خاصّةً بعصر دون عصر.

نعم ذكر ابن النديم في فهرسته ( صفحة ٥٠ ) كتاباً لأبي موسى جابر بن حيّان تلميذ الإمام جعفر الصادق المتوفّى عام ( ٢٠٠ ) اسمه ( الحكومة ) ولا نعلم خصوصيّات الكتاب.

وألّف بعض علماء الشيعة كتباً ورسائل في بعض المسائل التي تمت إلى الحكومة بصلة « كقاطاعة اللجاج في حلّ الخراج » للمحقّق الكركي المتوفّى عام ( ٩٤٠ ه‍ )، و « الخراجيّة » للمحقّق الأردبيليّ المتوفّى عام (٩٩٣) وقد طبعت في هامش كتاب درر الفوائد للمحقّق الخراسانيّ.

كما أنّ هناك رسائل اخرى في هذا الموضوع ذكرها البحّاثة شيخنا الطهرانيّ في موسوعته الذريعة، راجع الجزء ٧ صفحة ٦٨ و ١٤٤.

وألّف غير واحد من علماء الشيعة حول الدفاع والجهاد، كتباً مفصّلة وهما يعدّان

١٨٤

من مسؤوليات الدولة، كما ألفّوا رسالات حول الولاية عن الحاكم الجائر.

وقد قام في العصر الحاضر أعلام من الشيعة بدراسة هذا الأمر الحيويّ، ونخص بالذكر العلمين الجليلين: آية الله المحقّق النائينيّ المتوفي عام (١٣٥٥) وقد سمّى كتابه: تنبيه الاُمّة وتنزيه الملّة وطبع عام (١٣٢٧) وقرضه العلمان ( آية الله الخراسانيّ وآية الله المازندراني ) وآية الله العظمى الإمام الأكبر المجاهد السيد روح الله الخمينيّ قائد الثورة الإسلاميّة الظافرة، وقد بحث عن الحكومة الإسلاميّة بصورة مسهبة في سلسلة محاضرات منتظمة وقد طبعت تحت عنوان « الحكومة الإسلاميّة ».

ولأعلام السنّة مؤلفات في هذا المجال، يعالج كلّ واحد منها بعض النواحي من الحكومة الإسلاميّة، وأخصُّ بالذكر كتب :

١. الأموال للإمام الحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفّى عام (٢٢٤) وهو من أنفس ما ألّف في هذا الموضوع.

٢. « الأحكام السلطانيّة » للشيخ أبي الحسن عليّ بن محمد الماورديّ الشافعيّ المتوفّى عام (٤٥٠) وقد رتّبه على عشرين باباً.

٣. « الأحكام السلطانيّة » للشيخ أبي يعلى محمّد بن الحسين الفرّاء الحنبليّ المتوفّى ببغداد عام (٤٥٨) وهو معاصر للماورديّ.

٤. « معالم القربة في أحكام الحسبة » لابن الأخوة القرشيّ المتوفّى عام ( ٧٦٠ ه‍ ) وهو من أبسط ما كتب في شؤون المحتسب.

٥. « الحسبة في الإسلام » تأليف أحمد بن تيمية المولود عام ( ٦٦١ ـ ٧٢٨ ه‍ ) هذا ما كتبه القدامى من المفكّرين والعلماء.

وأمّا المتأخِّرون، فقد أكثروا في الكتابة عن الموضوع في عصرنا هذا، غير أنّ الجميع ـ كما أشرنا إليه ـ لم يتجاوزوا عن تصوير الحكومة الإسلاميّة التي قامت في عهد الخلفاء ومن بعدهم من الأموييّن والعباسييّن، فهذه الكتب أشبه بتأريخ الخلافة الإسلاميّة من

١٨٥

تحقيق خطوطها ورسم معالمها على ضوء الكتاب والسنّة.

والغريب، أنّ هذه المسائل تهمل ولا يعتني بها كتابنا الأوائل والحال أنّنا نجد بعض مؤرخينا السالفين، دأبوا على تكريم الظالمين وكالوا لهم الثناء بغير حساب، وسخّروا تفكيرهم وجهودهم للإطراء على سرفهم وترفهم، وأعمالهم السيئة فحفلوا ـ فيما كتبوه من تاريخ ـ حتّى بحياة المشعوذين والمجانين، بل وأحوال غلمان الملوك وقردتهم والمغنيّن والراقصين، ونمثل لذلك بكتاب ( الأغاني ) لأبي فرج الأصفهانيّ المتوفّى عام (٣٥٦) الذي حفل بكلّ مغنّ ومغنيّة وكلّ راقص وراقصة، وكلّ شاذّ وشاذّة، ونقل أشعارهم المائعة وقصائدهم الماجنة، وكتب في ألوان الألحان والأصوات وذكر الأشعار الموافقة لألحانها مع تراجم شعرائها والمغنيّن بها بينما غفل اولئك الكتّاب عن الكتابة والتأليف عن الحكومة الإسلاميّة وخطوطها وخصوصيّتها وما ورد في شأنها في الكتاب والسنّة إلّا عدّة مختصرات مرّت عليك، وهو لا يكشف إلّا عن عدم الاهتمام بهذا الأمر الحيويّ، هذا وسيقف القارئ الكريم على أنّ صيغة الحكومة في العصور الحاضرة هو التنصيص أيضاً لكن لا على العين والشخص بل على الوصف والمواصفات.

وبعبارة أخرى: إنّ صيغة الحكومة في هذه العصور هي انتخاب الاُمّة للحاكم حسب الضوابط المنصوص عليها في الكتاب والسنّة أو كون الحاكم الأعلى مرضيّاً عند الاُمّة بعد أن يكون متّصفاً بالضوابط الشرعيّة.

وهذا هو الذي يتجلى لك بالتفصيل والبرهان في الصفحات القادمة، ولا يرجع هذا النمط إلى النظام الدارج في الغرب وفي كثير من البلاد الاُخرى في العالم الثالث.

إذ في الأنظمة الديمقراطيّة السائدة اليوم، يكفي مجرّد اجماع الشعب، أو أكثريّته على اختيار فرداً للحكم والرئاسة، بغضّ النظر عمّا يجب أن تتوفّر في الحاكم والرئيس الأعلى من مؤهّلات وكفاءات عالية تتوقّف عليها عمارة البلاد وسعادة العباد.

بينما يختلف الأمر عن ذلك في ظلّ النظام الإسلاميّ الذي يحصر حقّ الحاكميّة في الله وحده.

١٨٦

فإنّ هذا المنطلق وهذه القاعدة الأصليّة الرصينة في الفكر الإسلاميّ تفرض، أن تكون حاكميّة غير الله مستندةً إلى حاكميّته سبحانه، وموضع رضاه تعالى، فتكون إمّا منصوصاً عليها بالاسم والعين من جانبه تعالى ـ كما أسلفناه ـ، وإمّا أن تكون موافقةً للصفات والضوابط التي نصّ عليها الكتاب والسنّة، فلا يكفي في شرعيّة الحكومة والرئاسة مجرد انبثاقها من إرادة الشعب كلّه أو أغلبيّته، ما لم تكن وفق الضوابط الإلهيّة والمعايير الإسلاميّة المقرّرة في شأن الحاكم.

وهذا أمر منطقيّ، لأنّ الغرض من إقامة الحكومة في منطق الإسلام إنّما هو إشاعة العدل والحق والأمن، ولا يتحقق ذلك إلّا في ظلّ حكومة تكون منطبقةً على المعايير والضوابط الإلهيّة.

ولذلك لا يمكن أن نصف ( الحكومة الإسلاميّة ) في هذه الحال بأنّها: حكومة الشعب على الشعب. بل هي حكومة الله على الشعب بقوانينه وضوابطه، أو حكومة القانون الإلهيّ.

ولا يهمّ مع ذلك، الوصف والتسمية، بعد أن اتضح منشأ الحكومة الإسلاميّة وهو حاكميّة الله، وحاكميّة قوانينه وضوابطه وأحكامه.

وبذلك يفترق اسلوب الانتخاب الشعبيّ في ظلّ النظام الإسلاميّ عمّا هو متعارف في ظلّ الأنظمة الديمقراطيّة السائدة، التي تعتمد على السيادة الشعبيّة دون قيد أو مراعاة للمواصفات والمؤهّلات اللازمة في الحاكم والمنتخب، وهي بذلك تعتبر الحاكميّة حقّاً خاصّاً بالشعب ونابعاً منه، ومن إجماعه على شيء أو شخص وارتضائه به حقّاً أو باطلاً، صالحاً أو فاسداً، وستعرف المواصفات التي يشترطها الإسلام في الحاكم الأعلى في الفصول القادمة، ويتعّين علينا هنا أوّلاً أن نعرف الأدلّة التي تعطي الاُمّة حقّ اختيار الحاكم أو ارتضائه ـ على الأقل ـ في ظرف عدم التوصُّل إلى الحاكم المنصوص عليه من جانب الله.

١٨٧

انتخاب الاُمّة والأدلّة الإسلاميّة (١)

يحتوي الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين العمليّة على أدلّة كثيرة تدلّ على أنّ للاُمّة أن تنتخب حكامها ورؤساءها وفق الضوابط والمعايير الإسلاميّة، وهي إلى جانب دلالتها على هذا الأمر، وإثباتها هذا الحقّ للاُمّة، تكشف عن طبيعة ( الحكومة الإسلاميّة ) ومنطلقاتها ومبادئها الإلهيّة التي تميّزها عن غيرها من أنظمة الحكم المعمول بها في التاريخ أو الرائجة في العالم المعاصر.

وإليك هذه الأدلّة :

١. استخلاف الله للإنسان

تصرّح بعض الآيات القرآنيّة، بأنّ الله تعالى استخلف الإنسان في الأرض، فهو إذن (خليفة الله ) فيها من غير فرق بين آدم وأبنائه إلى يوم القيامة، غير أنّ تلك الخلافة قد تجسّدت في ذلك الوقت في آدم، حيث يقول الله تعالى:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة: ٣٠ ).

وهذه الآية والآيات التي ستمرّ عليك، تدلّ بوضوح كامل على أنّ الخلافة لم تكن منحصرة في فرد واحد من النوع الإنسانيّ وهو آدمعليه‌السلام بل هي تشمل جميع أبناء البشريّة، بدليل أنّه بعد ما قال سبحانه:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) سأل الملائكة بقولهم:( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) مظهرين بذلك، أنّ الخليفة المزمع استخلافه في الأرض سيركب الفساد ويسفك الدماء، ومن المعلوم، أنّ هذا العمل لم يكن صادراً من الإنسان الشخصيّ المتمثّل في آدمعليه‌السلام بل من أبنائه وأبناء أبنائه، الذين طالما اقترفوا الذنوب وارتكبوا المعاصي، وأخبر القرآن

__________________

(١) إنّ الأدلّة التي ستمر عليك في الصفحات القادمة تتكفّل بيان أمرين: أحدهما ضمنيّ والآخر استقلاليّ، فهي مضافاً إلى أنّها تبيّن صيغة الحكومة في العصور الحاضرة تبيّن لزوم إقامة الدولة وتشكيل السلطة في إطار الضوابط الإلهيّة.

١٨٨

الكريم عن فسادهم الكبير في الأرض.

وبعبارة آخرى: بما أنّ الملائكة تنسب الفساد وسفك الدماء إلى الخليفة المجعول في الأرض، يعلم أنّ الخلافة هذه كانت عامّةً والاستخلاف كان شاملاً لجميع أبناء البشر.

ويمكن استظهار هذا المطلب من الآيات التالية أيضاً :

أ ـ ( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) ( فاطر: ٣٩ )

ب ـ ( أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ) ( النمل: ٦٢ ).

إنّ هاتين الآيتين ـ بإطلاقهما تفيدان أنّ المخاطبين بهما: خلفاء الله في أرضه وينبغي أن لا نتوهّم أنّ المراد هو خلافتهم عن الأمم السابقة، إذ لو كان المراد هو ذلك، لوجب إلقاء الكلام على غير هذا النحو كما في بعض الآيات التي أريد منها خلافة أمّة لاحقة عن أمّة سابقة كقوله سبحانه:( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ ) ( يونس: ١٤ )(١) .

وصفوة القول: أنّ مقتضى هذه الآيات هو أنّ الله سبحانه شرّف الإنسان باستخلافه وجعله خليفته في الأرض، فكان الإنسان بذلك خلقاً ممتازاً على جميع عناصر الكون، وبهذه الخلافة والاستخلاف استحقّ أن تسجد له الملائكة تكرمةً وإعظاماً، وإظهاراً لفضله ومقامه.

أبعاد خلافة الإنسان عن الله

إنّ كون الإنسان خليفة الله في الأرض يقصد ( أو يستنتج ) منه أمران :

١. كون الإنسان خليفةً لله سبحانه في تمثيل أسمائه، وصفاته الحسنى.

__________________

(١) وبهذا المضمون الآية (٧٣) من سورة يونس والآيتين ( ٦٩ و ٧٤ ) من الأعراف.

١٨٩

فهو بما أنّه خليفة الله يحكي ـ بوجوده ـ قدرة الله المستخلف له، وعمله، فهو يتفنّن ويبتدع، ويكتشف، ويستخرج، ويجدّ، ويعمل، فيجعل الحزن سهلاً والماحل خصباً، والخراب عمراناً، والبراري بحاراً أو خلجاناً، ويولّد بالتلقيح أزواجاً من النبات، وقد يتصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية، والتوليد حتّى ظهر التغيير في خلقتها، وخلائقها، وأصنافها فصار منها الكبير والصغير، ومنها الأهليّ والوحشيّ، فهو ينتفع بكلّ نوع منها ويسخِّره لخدمته، كما سخّر القوى الطبيعيّة، وسائر المخلوقات.

أليس من حكمة الله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى، أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض يقيم سننه، ويظهر عجائب صنعه، وأسرار خليقته، وبدائع حكمه، ومنافع أحكامه ؟ وهل وجدت آية على كمال الله، وسعة علمه أظهر من هذا الإنسان، الذي خلقه على أحسن تقويم، وإذا كان الإنسان خليفته بهذا المعنى فكيف تعجب الملائكة منه(١) .

ولأجل خلافة الإنسان عن الله سبحانه في الاُمور التكوينيّة جعل الله تعالى عمارة الأرض، على عاتق هذا الإنسان حتّى يمثّل بعمله وتعميره للأرض تدبير الله سبحانه فقال:( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ( هود: ٦١ ).

وكما أنّ الله سبحانه ربّ البقاع والبهائم ومدبّرها، فإنّ الخليفة مسؤول عنها ومسؤول عن العناية بها أيضاً كما قال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم »(٢) .

وخلاصة هذا البعد هي، خلافة الإنسان عن الله سبحانه في الاُمور التكوينيّة بما أعطي من مقدرة من جانبه سبحانه.

٢. إنّ الإنسان يخلفه سبحانه في الاُمور الاجتماعيّة، أعني بها الاُمور الراجعة إلى القيادة والحاكميّة.

__________________

(١) تفسير المنار ١: ٢٦٠.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (١٦٥).

١٩٠

فإنّ كونه خليفةً لله في الأرض لا يقتصر على ما ذكر، بل يعمّ كونه خليفةً فيها في ( الحكم والحاكميّة ) أيضاً، إذ من المعلوم أنّه إذا كان الإنسان مسؤولاً ـ بالخلافة ـ عن تعمير البقاع ومكلّفاً بالعناية بالبهائم وتدبير شؤونها، فإنه بالأحرى مسؤول ومكلف بتدبير أمر نفسه ومجتمعه. وهذا ما نعبر عنه بخلافته عن الله في الاُمور الاجتماعيّة والاعتباريّة ( الحاكميّة ).

وعلى ذلك يكون معنى استخلاف الله للإنسان، أنّه خوّل إليه أمر القيادة وتدبير مجتمعه، وممارسة ( الحكم والولاية ) في إطار الضوابط والسنن التي جاء بها الدين.

وفي هذا الصدد يقول العلامة الطباطبائيّ في تفسيره ( الميزان ): ( انّ الملائكة فهموا من قوله سبحانه( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) أنّ الخلافة لا تقع في الأرض إلّا بكثرة من الأفراد وقيام وضع اجتماعيّ بينهم، وهو يفضي بالتالي إلى الفساد والسفك، والخلافة وهي قيام شيء مقام الآخر لا تتمّ إلّا بكون الخليفة حاكياً للمستخلف في جميع شؤونه الوجوديّة وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف.

وبما أنّ الخليفة الأرضيّ بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف بهذا المعنى الجامع تساءل الملائكة.

ثمّ أنّه سبحانه أجاب عن هذا التساؤل بأنّ هناك مصالح في خلقه ما لا تعرفه الملائكة ولم تقف عليه )(١) .

فخلافة الإنسان عن الله لا تنحصر بالاُمور التكوينيّة من عمارة الأرض وغيرها، بل تعمُّ حاكميّته وقيادته نيابةً عن الله سبحانه، فهو بوجوده الفردي يحكي عن أسمائه وصفاته، وبوجوده الاجتماعيّ يمثّل حاكميّة الله العليا في الأرض.

وبذلك يظهر أنّ حاكميته تنبثق من خلافته.

* * *

__________________

(١) الميزان ١: ١١٥.

١٩١

وصفوة القول: أنّ كون الإنسان خليفة الله في أرضه مضافاً إلى كونه ممثلاً بصفاته، صفات المستخلف له ـ بمقدار ما يمكن ـ وممثّلاً بكماله وقدرته وعلمه، كماله وقدرته وعلمه تعالى، يعني أيضاً كون الخليفة ذات مسؤوليات من جانب مخلِّفه، كمسؤوليّة الوكيل عن جانب موكِّله في مجتمعه، ومن المسؤوليات الموجّه إلى الإنسان من جانب ربّه ـ بهذا الاستخلاف ـ هو القيام بتدبير شؤون نفسه، وشؤون مجتمعه بممارسة القيادة لذلك المجتمع ومزاولة الحكومة والولاية خلافة عن الله.

إذن فللناس أن يزاولوا الحاكميّة في الأرض بالخلافة والنيابة عن الله ولكن من البيّن أنّ هذا لا يتحقّق إلّا بتقسيم المسؤوليات في عامّة المجالات الحكوميّة، حتّى تتفرّغ جماعة لإدارة شؤون المجتمع الإنسانيّ، وسياسته.

وعلى هذا الأساس تقوم فكرة سيادة الاُمّة في منطق الإسلام، وتتّجه شرعيّة ممارسة الجماعة البشريّة للولاية والحاكميّة على نفسها وبالتالي يبتنى عليه مبدأ الانتخاب الشعبيّ للحكّام في النظام الإسلاميّ السياسيّ.

* * *

آثار الحاكميّة نيابةً عن الله

وتترتّب على هذه السيادة والولاية الشعبيّة المنبثقة عن الاستخلاف الإلهيّ للإنسان اُمور :

أوّلاً: انتماء الجماعة البشريّة الواحدة إلى محور واحد، وهو ( المستخلف الواحد ) الذي استخلفها على الأرض، بدلاً عن كلّ الانتماءات الاخرى، وما يتبع ذلك من الإيمان بسيد واحد، ومالك واحد للكون، وما فيه.

ويشير القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العليا في الآية التالية، لكن استفادتها تحتاج إلى ذوق خاصّ، قال سبحانه:( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ) ( الزمر: ٢٩ ).

١٩٢

فالآية تصور حال الفرد المؤمن والفرد الكافر.

فالمؤمن، بما أنّه ليس في عنقه إلّا طاعة الله فهو بمنزلة رجل سلم لرجل، والفرد الكافر، بما أنّه يعتقد بالوهيّات مختلفة متعدّدة فإنّه كرجل فيه شركاء متشاكسون، هذا حال الفرد، ومثله حال المجتمع المؤمن والمجتمع الكافر، فالأوّل بما أنّه لا يخضع لحاكميّة أحد سوى الله سبحانه فهو بمنزلة رجل سلم لرجل، والمجتمع الكافر بما أنّه لا يدور أمره حول محور واحد في العقيدة والنظام فهو كرجل تتنازع فيه شركاء.

ونظيره قوله سبحانه:( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف: ٣٩ ).

ثانياً: إقامة العلاقات الاجتماعيّة على أساس العبودية المخلصة لله تعالى، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثّل أبشع أنواع الاستغلال والجهل والطاغوت كما يشير إليه قوله:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) ( يوسف: ٤٠ ).

وهو إلذي أشار إليه الإمام عليّعليه‌السلام بقوله: « بعث الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته »(١) .

ثالثاً: تجسيد روح الاُخوة العامّة في جميع العلاقات الاجتماعيّة، بعد محو كلّ ألوان التمييز والتسلط والاستغلال فما دام الله واحداً ولا سيادة إلّا له وحده ومادام الناس جميعاً متساوون بالنسبة إليه، فالجميع خلفاؤه في الأرض في تدبير ما فيها من أشياء، فيجب أن يكونوا اخوة متكافئين في الكرامة الإنسانية والحقوق الطبيعيّة كأسنان المشط.

فالجماعة البشريّة التي تتحمّل مسؤوليّة الخلافة على الأرض، إنّما تمارس هذا الدور بوصفها خليفةً عن الله سبحانه، ولهذا فهي غير مخوّلة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه، لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف

__________________

(١) الوافي ٣: ٢٢.

١٩٣

ومقتضاه.

وبهذا تتمّيز سيادة الجماعة البشريّة حسب منطلقها القرآنيّ والإسلاميّ عن الأنظمة الديمقراطيّة الغربيّة.

فإنّ الجماعة البشريّة ـ حسب هذه الأنظمة ـ هي بنفسها صاحبة السيادة، لا أنّها تنوب عن الله في ممارستها للسيادة، ويترتّب على ذلك أنّها ليست مسؤولةً بين يدي أحد، وغير ملزمة بمقياس موضوعيّ في الحكم، بل يكفي أن يتّفق الشعب على أمر ليصبح قانوناً يؤخذ به حتّى إذا كان ذلك الأمر مخالفاً لكرامته، أو مخالفاً لمصلحة جزء من الجماعة.

وهذا بخلاف حكم الجماعة باعتبار الاستخلاف، فإنّه حكم مسؤول، والجماعة بمقتضاه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل، ورفض الظلم، ومقاومة الطغيان وتكون مسؤولة أمام الله فيما تفعل، وعلى ذلك فالحكومة الإسلاميّة هو « حكومة الاُمّة على الاُمّة خلافةً عن الله » بمعنى: إجراء سننه وقوانينه ومراعاة ضوابطه وحدوده، في الحكم والحاكميّة(١) .

* * *

٢. استخلاف داود يستبطن حاكميّته

والذي يدلّ على أنّ الحكم والحاكميّة من آثار الاستخلاف الإلهيّ للإنسان: أنّ الله سبحانه لـمّا جعل داود خليفته في الارض، رتّب على هذا الاستخلاف أمره بأن يحكم ويقود الناس بالعدل والحقّ فقال:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ) ( ص: ٢٦ ).

ومن المعلوم أنّ ( الخليفة ) هنا وهناك في قصّة آدمعليه‌السلام واحدة معنىً ومراداً، غير أنّها هناك ذات معنىً أعمّ، وهنا ذات معنىً أخصّ.

وقد نقل شيخ الطائفة ( الطوسي )رحمه‌الله في تفسير التبيان عن ابن مسعود أنّه

__________________

(١) لاحظ رسالةً ( لمحة فقهيّة تمهيديّة ) للمفكّر الإسلاميّ الشهيد السيد محمّد باقر الصّدر.

١٩٤

قال في تفسير الخليفة مشيراً إلى البعد الأوّل: ( قيل: إنّه يخلفني في إنبات الزرع وإخراج الثمار، وشقّ الأنهار ).

وقال مشيراً إلى البعد الثاني: ( انّه تعالى أراد بقوله( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) أنّه يخلفني في الحكم بين الخلق، وهو آدم ومن يقوم مقامه من ولده )(١) .

* * *

٣. أداء الأمانة لا يمكن إلّا بالحكومة

إنّ القرآن الكريم يتحدث عن أنّ الله سبحانه عرض الأمانة على الأشياء كلّها ولم يحملها إلّا الإنسان، فقال سبحانه:( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً *لِيُعَذِّبَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب: ٧٢ ـ ٧٣ ).

فالمراد من الأمانة: هو ما أنزل الله سبحانه على الإنسان عن طريق سفرائه من الأحكام والفرائض والحدود وغيرها(٢) .

ولا شكّ أنّ تحمّل الأمانة، لأجل أدائها وتنفيذها. ومن المعلوم أنّ تنفيذ الأحكام والفرائض والحدود في الحياة البشريّة لا يمكن إلّا في ظلّ حكومة نابعة من نفس الدين الإلهيّ تقيمها الاُمّة المؤمنة، لتستطيع في ظلهّا على طاعة الله سبحانه والإتيان بأوامره والاجتناب عن نواهيه وإقامة دينه.

على أنّ الآية الثانية( لِيُعَذِّبَ اللهُ ) توضّح حقيقة الأمانة المذكورة، فهي تفيد أنّ حملة الأمانة ينقسمون إلى مؤمن ومنافق ومشرك، ولا يكون هذا التقسيم صحيحاً إلا بالقياس إلى الاعتقاد بالحقّ والعمل بالدين. فيكون المؤمن هو من يقوم بالدين والمشرك هو من يشرك في ذلك فيأخذ بالدين وبغيره والمنافق هو من يتظاهر بالأخذ

__________________

(١) التبيان ١: ١٣١.

(٢) التبيان ٨: ٣٧٣.

١٩٥

بالدين.

وبعبارة اُخرى: إنّ الأمانة هو الدين الحق وأداؤها هو الأخذ به والعمل بمقتضاه، ولا شكّ أنّ الأخذ بالدين ينطوي على مسؤولية كبيرة اتّجاه الله سبحانه، واتّجاه نبيّه واتّجاه اُمّته.

وهذه المسؤوليّة إذا فسِّرت، كان من أجزاءها: تدبير المجتمع، وتنظيم شؤونه، وأموره، وإجراء السياسات والحدود في ذلك المجتمع.

وممّا يجدر بالذكر، أنّ العلاّمة الطباطبائيّ اعترض على هذا التفسير لكلمة الأمانة المذكورة في الآية بالدين الإلهيّ بقوله: ( انّ الآية تصرِّح بحمل مطلق الإنسان لتلك الأمانة كائناً من كان، أي مؤمناً كان أم كافراً، مشركاً كان أو منافقاً ومن البين أنّ أكثر من لا يؤمن لا يحمله، ولا يعلم به أساساً، فكيف يمكن تفسير الأمانة بالدين، فلابدّ من تفسيرها بغير الدين، ليصدق حمل جميع أفراد النوع الإنسانيّ لها )(١) .

غير أنّ ما ذكره من الإشكال ليس صحيحاً إذ ليس المراد من ( الحمل ) هو الأخذ الفعليّ بالدين وتطبيقه في المجالات، بل هو ( تقبّل ) الأخذ بالدين، ولـمّا كان الإنسان ظلوماً، جهولاً حسب نصّ الآية فإنّه قد خان الأمانة ولم يخرج عن عهدتها ولأجل ذلك، صار بين مؤمن يقوم بتعهده والتزامه، ومنافق يختلف ظاهره عن باطنه، فيتظاهر بالتسليم للدين. وهو كاره له في باطنه، ومشرك يشرك في الأخذ فيأخذ من الدين ضغثاً ومن أهوائه ضغثاً.

* * *

الاستخلاف غير التفويض

قد صار المحصّل من هذا البحث الضافي، أنّ الإنسان بما هو خليفة الله في أرضه، خليفته في الحكم والقيادة.

__________________

(١) ملخّص ما كتبه في تفسير الميزان ١٦: ٣٧١.

١٩٦

وهذه السيادة التي تفيده هذه الآيات كما تختلف اختلافاً أساسياً عن الحقّ الإلهيّ الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة، قروناً من الزمن للتحكم والسيطرة على الآخرين، ووضعوا السيادة اسميّاً لله، لكي يحتكرونها واقعيّاً، وينصبوا من أنفسهم خلفاء لله على الأرض.

أقول: كما يختلف عن ذلك يختلف أيضاً عن تفويض الحاكميّة من الله للمجتمع كلّه، بل هو خلافة ونيابة عن الله سبحانه، فما فوِّضت الخلافة للإنسان حتّى يتقلب فيها بأيّ نحو يشاء، بل هو يحكم ويدير خلافةً ونيابةً عن الله سبحانه.

ولأجل ذلك فما دام الله سبحانه هو مصدر السلطات، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعيّ المحدّد عن الله، يجب أن تحدّد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإلهيّة.

وبهذا ترتفع الاُمّة ـ وهي تمارس السلطة ـ إلى قمّة شعورها بالمسؤوليّة لأنها تدرك بأنها تتصرف بوصفها خليفة لله في الأرض، فحتّى الاُمّة ليست هي صاحبة السلطان وإنّما هي المسؤولة أمام الله سبحانه عن حمل الأمانة وأدائها(١) .

* * *

٤. الوظائف الاجتماعيّة وتشكيل الدولة

تدل الآيات القرآنية التالية ـ بالدلالة الالتزاميّة ـ على، أنّه يتوجب على الاُمّة القيام بتشكيل دولة في إطار القوانين الإسلاميّة، وأنّ للشعب السيادة، وأنّه لا يحقّ لأحد أن يحمل نفسه على كاهل الشعب، ويفرض سيادته عليه دون رضاه ودون موافقته.

وقبل الخوض في تفاصيل هذا البحث لا بدّ من طرح سؤال هو :

هل للمجتمع وجود على الصعيد الخارجيّ، وواقعيّة مستقلة عن وجود الفرد. أو أنّه أمر اعتباريّ يعتبره الذهن من انضمام فرد إلى فرد آخر ؟

__________________

(١) لاحظ ( لمحة فقهيّة تمهيديّة )، للمفكر الإسلاميّ الشهيد محمّد باقر الصّدر: ٢٠ ـ ٢٤ بتصرّف.

١٩٧

المجتمع في نظر الفلاسفة والحقوقيّين

يعتقد الفلاسفة بأنّه ليس للمجتمع أي وجود على الصعيد الخارجيّ فليس في الواقع الخارجيّ إلّا ( الأفراد ) وما المجتمع سوى صورة تنتزعها عقولنا عن انضمام الفرد إلى الفرد.

وعلى العكس من الفلاسفة، يعتقد علماء الاجتماع والحقوقيون أنّ للمجتمع وجوداً وحقيقةً قائمةً على الصعيد الخارجيّ، ولذلك تكون هناك علاقات اجتماعيّة، وحقوق، وأحكام خاصّة للمجتمع.

والحقّ أن كلتا الطائفتين على صواب، وذلك، لأنّ الفيلسوف الذي يلاحظ الأشياء من زاوية العينيّة الملموسة، لا يجد واقعاً في عالم التكوين بمعزل عن واقع الفرد التكوينيّ، ووجوده الخارجيّ فلا يرى مناصاً من إنكار الوجود الخارجيّ للمجتمع وراء وجود الأفراد.

فعندما يجلس خمسة أشخاص حول طاولة فإنّ الفيلسوف لا يعتبر ( الهيئة الاجتماعيّة ) الحاصلة من اجتماع الأشخاص الخمسة، شيئاً مستقلاً ووجوداً خاصّاً، ليفترضه سادساً لهم.

ولكن النظر من الزاوية الحقوقيّة التي هي أكثر مساساً بالواقعيّات العرفيّة يهدينا إلى، أنّ المجتمع البشريّ سواء كان في حجمه الصغير ( القبيلة ) أو الكبير ( الاُمّة ) يتمتّع بواقعيّة عرفيّة، وله حقوق وواجبات غير ما للفرد، وكما للفرد من حقوق وواجبات ومسؤوليّات. فهكذا للمجتمع ومن هذه الزاوية تنظر الأمم المتحضّرة إلى المجتمع، وتعترف به وبوجوده، وتقرّر له الأنظمة، والحقوق والواجبات.

وعندما ينظر الإسلام إلى الفرد والمجتمع من الزاوية الحقوقيّة، نجده يعترف بكلّ واحد منهما في موضعه ومحلّه، ويقرّر لكلّ واحد منهما ما يناسبه من الشخصيّة والحقوق والواجبات سواء بسواء.

١٩٨

فعندما ينظر القرآن الكريم إلى المجتمع من هذه الزاوية الحقوقيّة، يعتبر للمجتمع وجوداً، وعدماً وحياةً ونشوراً، وأجلاً وكتاباً وتقدمّاً وتقهقراً إلى غير ذلك من الآثار التي تكون للفرد. وفي هذا الصدد يكتب العلاّمة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ القرآن اعتبر للمجتمع وجوداً وعدماً، وأجلاً وكتاباً، وشعوراً وفهماً وعملاً وطاعةً ومعصيةً وكلُّ ذلك يدلّ على أنّ للمجتمع ـ في مقابل الفرد حقيقةً واقعيّةً في ظرفه المناسب له، يقول سبحانه:( وَلِكُلِّ أمّة أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف: ٣٤ )

وقال:( كُلُّ أمّة تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ) ( الجاثية: ٢٨ )

وقال:( كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أمّة عَمَلَهُمْ ) ( الأنعام: ١٠٨ )

وقال:( مِنْهُمْ أمّة مُّقْتَصِدَةٌ ) ( المائدة: ٦٦ )

وقال:( أمّةقَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ ) ( آل عمران: ١١٣ )

وقال:( وَهَمَّتْ كُلُّ أمّة بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) ( غافر: ٥ )

وقال:( وَلِكُلِّ أمّة رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) ( يونس: ٤٧ ).

ومن هنا، نرى أنّ القرآن يعتني بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر، حينما لم يتداول في التواريخ إلّا ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء، ولم يشتغل المؤرّخون بتواريخ الأمم والمجتمعات إلّا بعد نزول القرآن، فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم المسعودي وابن خلدون، حتّى ظهر التحول الأخير في التأريخ النقليّ، بتبديل الأشخاص اُمماً وهذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع، ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد نظيره في واحد من الشرائع ولا في سنن الأمم المتمدِّنة، فإنّ تربية الأخلاق والغرائز في الفرد وهوالأصل في وجود المجتمع، لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق والغرائز المعارضة والمضادةّ القوية القاهرة في المجتمع، إلّا يسيراً لا قدر له عند القياس والتقدير.

١٩٩

ولأجل ذلك وضع الإسلام أهّم أحكامه كالحجّ والصلاة والجهاد والإنفاق أساس الاجتماع وحافظ على ذلك، مضافاً إلى قوى الحكومة الإسلاميّة الحافظة لشعائر الدين العامّة وحدودها، ومضافاً إلى فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشاملة لجميع الاُمّة، بجعل سعادة المجتمع هي السعادة الحقيقيّة وجعل غرض المجتمع الإسلاميّ هو القرب والمنزلة عند الله.

وهذا هو الذي ذكرناه من أنّ الإسلام تفوق سنّة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن والطرق )(١) .

فكما تجب على الفرد ـ في نظام الإسلام ـ اُمور كالصلاة والصيام واحترام الوالدين وما شابه ذلك، كذلك، توجّهت الشريعة الإسلاميّة إلى المجتمع بسلسلة من التكاليف والواجبات ويتعيّن على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بها دون تلكؤ أو ابطاء.

فيأمر الإسلام المجتمع مثلاً بأن يقطع يد السارق إذ يقول:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة: ٣٨ ).

ويأمره بجلد الزاني والزانية إذ يقول:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ ) ( النور: ٢ ).

كما يأمره بأن يحافط على حدود الوطن الإسلاميّ ويدافع عن ثغوره بالصبر والمرابطة إذ يقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( آل عمران: ٢٠٠ ).

ويأمره بأن يقاتل البغاة والطغاة حتّى يفيئوا إلى الحق، ويكفّوا عن البغي والطغيان والعدوان إذ يقول:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات: ٩ ).

__________________

(١) الميزان ٤: ٩٦ ـ ٩٧.

٢٠٠

وفي هذا الصدد يكتب العلامة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ عامّة الآيات المتضمنّة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجّه خطاباتها إلى عامّة المؤمنين دون النبيّ خاصّةً كقوله تعالى:( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) ( البقرة: ١٩٥ )

وقوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران: ١٠٤ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) ( المائدة: ٣٥ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) ( الحج: ٧٨ )

وقوله:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ( البقرة: ١٧٩ )

وقوله:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) ( الطلاق: ٢ )

وقوله:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) ( آل عمران: ١٠٣ )

وقوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى: ١٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها أنّ الدين ذو صبغة اجتماعية الشكل وقد حملها الله تعالى على الناس بصفتهم الاجتماعيّة ( كما حمل بعض الاُمور على الافراد بوصفهم الفرديّة ) ولم يرد إقامة الدين إلّا منهم أجمعهم، فالمجتمع المتكون منهم هو الذي أمره الله وندبه إلى ذلك من غير مزيّة في ذلك لبعضهم )(١) .

إنّ توجيه الخطاب بهذه التكاليف إلى المجتمع، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المجتمع بما هو مجتمع عليه أن يقوم بها كما يقوم الفرد بواجبه الدينيّ، وهي على نحو الواجب الكفائّي الذي يجب على الجميع القيام بها أوّلاً وبالذات، فإن قام بها أحد سقطت عن الآخرين، وأمّا إذا لم يقم بها أحد كان الجميع عصاةً مسؤولين.

وحيث أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن

__________________

(١) الميزان ٤: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠١

القيام بها وأدائها دون جماعة متفرّغة لذلك، ودون جهاز حكم يتولّى تنفيذها، توجّب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل دولة يعهد إليها مسؤولية القيام بهذه التكاليف، وتطبيق النظم الاجتماعيّة الإسلاميّة، والوظائف المتوجهة إلى المجتمع أساساً، وذلك صيانةً للمجتمع من الإنهيار، وحفظاً لمصالحه وشؤونه، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلّا الهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.

من هذا البيان المقتضب، يمكن لنا أن نستنبط كون الاُمّة والمجتمع هو مصدر السلطات الحكوميّة، ولكن ليس مصدراً مطلقاً بل مصدراً في إطار الحاكميّة الإلهيّة والقوانين الإسلاميّة، فالناس في الدين الإسلاميّ هم المكلفون بتشكيل الحكومة والدولة وتعيين الحاكم وانتخابه ـ إن لم يكن هناك حاكم منصوص عليه من جانب الله ـ لقيادة الاُمّة، وإدارة شؤونها، وتطبيق الشريعة الإلهيّة في المجالات الاجتماعيّة، لأنّهم هم المخاطبون بالخطابات المذكورة ولـمّا لم يكن في مقدورهم جميعاً القيام بذلك بأشخاصهم، لزم أن يبادروا إلى استنابة من يقوم بها.

أليس المجتمع ـ حسب منطق القرآن ـ هو الذي توجه إليه الأمر بقطع السارق وحدّ الزاني وردّ المعتدي وحفظ الثغور، وإقامة النظام الدينيّ ؟؟.

أفلا يدلّ ذلك ضمناً على أن الإسلام سمح للمجتمع الإسلاميّ بأن يشكّل الدولة التي تتولّى القيام بهذه الواجبات الاجتماعيّة، لأنّ الإسلام جعل هذه التكاليف في عهدة المجتمع، وطلب منه أداءها ؟ وهل يمكن للمجتمع الذي يقوم كلّ صنف من أصنافه بتكفُّل جانب ضروريّ من الجوانب المعيشيّة، بكلّ تلك الواجبات الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة، دون جهاز حكوميّ متفرّغ ينّفذ ويراقب ويضمن إجراء القوانين الإلهيّة في المجالات المذكورة ؟

وهل يمكن أن يريد الإسلام إقامة الاُمور الاجتماعيّة والنظم الاجتماعيّ ولا يريد مقدّمة ذلك وهي تشكيل دولة تقوم وتتعهّد بتوزيع المسؤوليات وحفظ الحقوق.

٢٠٢

وحراسة العلاقات ؟

وهكذا تكون الاُمّة ـ في نظر الإسلام ـ مصدر السلطة الذي له أن يختار وينتخب حكّامه، وتكون الحكومة نابعةً من إرادته.

* * *

٥. العقلُ وتشكيل الدولة

يعتبر ( العقل ) أحد الأدلّة الشرعيّة التي يستند إليها الفقهاء في استنباط الأحكام جنباً إلى جنب مع القرآن والسّنة والاجماع.

وقد أشبع العلماء البحث في حجّية العقل في الموارد التي له الحكم فيها.

لقد دلّ العقل هذا على وجوب تشكيل الدولة من جانب الاُمّة، وذلك لما في إقامة الدولة من حفظ النظام الإنسانيّ ومن المعلوم أنّ حفظ النظام الإنسانيّ من الواجبات العقليّة التي يحتِّمها العقل على البشر.

فإنّه يتوجب على البشر ـ بحكم العقل ـ أن يبذل غاية جهده في إقرار النظام وحفظه والدفاع عنه وصيانته، إذ في ظلّ النظام يمكن أن يحصل الإنسان على سعادته وسلامته ويضمن مصالحه ومستقبله.

ولأجل هذا، نجد الشعوب تقرّر أنظمةً وقوانين لحفظ هذا النظام رغم أنّ بعضها لا يتديّن بدين ولا يتمسّك بشريعة إلهيّة.

وهذا إنّما يدلّ على أنّ موضوع إقامة النظام الاجتماعيّ، ممّا يقرُّ به الناس ويذعنون له عقلاً وبديهةً، قبل أن يأتي لهم في ذلك شرع ودين.

فهذه إذن حقيقة لا نقاش فيها.

ولكن ترى، هل يمكن للمجتمع أن يقوم بنفسه ـ ورغم عدم تخصُّصه في شؤون الإدارة، وعدم تفرغه لها ـ بحفظ النظام وإقراره ؟ أو هل يمكن التوصل إلى ذلك بمجرد أن يؤمن الناس بهذه الحقيقة إيماناً مجرّداً من أي رادع، ومن دون أنّ يكون ثمة جهاز يتولّى

٢٠٣

مسؤولية الحفاط على النظام الاجتماعيّ الذي يدعو إليه العقل ويطلبه العقلاء، وينادون به.

والحقّ أنّ مجرّد الاعتقاد بضرورة حفظ النظام الاجتماعيّ وبحجّة أنّه يكفل سعادة الفرد والمجتمع، من دون إقامة ( دولة )، لا يمنع من وقوع الاختلال في هذا النظام، ولذلك فإنّ العقل نفسه يحتِّم على البشر أن يقيم جهازاً يعهد إليه حفظ النظام، ولأجل ذلك لم يخل ـ كما قلنا ـ أي مجتمع بشريّ من دولة أو دويلة وزعيم كبير أو صغير يتكفّل إقرار النظام الاجتماعيّ المطلوب.

وهذا خير دليل على، أنّ للشعوب بل عليها أن تقوم بتشكيل السلطات فهي إذن مصدرها، وهذا هو بالضبط ما يؤكّده الإسلام ويؤيّده، إذ الشرع كما يقولون يعضد العقل ويؤيّده فيما تكون فيه مصلحة الناس ومنفعتهم وخيرهم.

* * *

٦. سيرة المسلمين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ الصحابة ـ بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أحسّوا بضرورة إقامة دولة وتشكيل جهاز حكوميّ يخلف القيادة النبويّة، يلمّون به شعثهم ويحفظون به اجتماعهم، فأقدموا على انتخاب رئيس من بينهم لزعامة الاُمّة وقيادة البلاد، وإن كان ذلك لا يخلو من علّة وعلاّت، كما أوضحناه.

إنّ الصحابة ـ وإن تناسوا وجود إمام منصوص عليه من جانب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عيّن عليّاًعليه‌السلام إماماً للمسلمين من بعده، كما تدلّ الأخبار القطعيّة والأحاديث المتواترة(١) على ذلك ـ إلّا أنّ فعلهم كان يدلّ في حدّ نفسه على أنّ الطريق الطبيعيّ لتأسيس الحكومة وإقامتها، هو انتخاب الاُمّة للحاكم والقائد، لولا النصّ.

* * *

__________________

(١) لقد أشرنا إلى بعض مصادر هذه النصوص في الصفحة ١٠٤ ـ ١٨١ من هذا الكتاب وتركنا الكثير.

٢٠٤

٧. سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم

إنّ من أبرز مسلّمات الفقه الإسلاميّ هو قاعدة ( سلطة الإنسان على ماله ) التي هي مفاد قول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس مسلطون على أموالهم »(١) .

فإذا كان الناس مسلّطين على أموالهم بحيث لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلّا بإذن أصحابها، فهم ـ بطريق أولى ـ مسلّطون على أنفسهم، فلا يجوز لأحد أن يحدّد حرياتهم، ويحمل نفسه عليهم أو يتصرّف في مقدّراتهم وشؤونهم دون إذنهم.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر نرى ؛ أنّ إقرار النظام يستلزم بالضرورة تصرّفاً في أموال الناس ونفوسهم وتحديداً لحرياتهم المشروعة بالذات، فإنّ الجمع بين هذين الأمرين ( سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم، واستلزام أقرار النظام، التصرّف في تلك الأموال والنفوس )، هو بأن تكون الدولة التي تقيم النظام نابعةً من انتخاب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ.

وبعبارة أوضح: إنّ سيادة أي نظام على الناس لا تخلو من السلطة على أموالهم وأرواحهم والتصرّف فيها بالضرورة لأنّ من النظام أخذ الضرائب، وتنظيم الصادرات والواردات وتحديدها، وذلك بوضع القيود اللازمة عليها، وتنظيم الحريات والعلاقات

__________________

(١) مبدأ البرهان في هذا الدليل هو القاعدة المسلّمة بين الفقهاء وهي ( الناس مسلّطون على أموالهم ) وقلنا: إذا كان الناس مسلّطين على أموالهم فبالأولى أن يكونوا مسلّطين على نفوسهم.

غير أنّه يجب التنبيه على نكتة وهي أنّ الأولوية في الجانب السلبيّ لا الجانب الإيجابيّ.

والمقصود من الجانب السلبيّ أنّه إذا كان للأنسان أن يردّ الغير عن التصرّف في ماله فبالأولى يكون له ردُّ الغير عن التصرّف في نفسه، إذ جواز الردّ في جانب الأموال يستلزم جوازه في جانب النفس بطريق أولى.

وأمّا الجانب الإيجابيّ فليست هناك أيّة ملازمة والمراد منه هو أنّه إذا جاز للرجل أن يتصرّف في ماله فبالأولى له أن يتصرّف في نفسه، ومن المعلوم بطلان هذه الملازمة.

٢٠٥

وإرسال الجيوش إلى ميادين القتال، واستحضار الأفراد للخدمة العسكريّة، وما شابه ذلك ممّا يكون به حفظ النظام وصيانته وإقراره، ولـمّا كان حفظ النظام واجباً مفروضاً عقلاً وشرعاً وكان ممّا لا يتحقّق إلّا بإقامة دولة قويّة ذات سلطة واقتدار، يتراءى ـ في بادئ النظر ـ أنّه يصطدم مع ما أقرّه الإسلام للإنسان من سلطة وسلطان على أمواله ونفسه فكان الحلّ، هو أن تكون الدولة المتصرفة واقعةً موقع رضاهم، حتّى يكون التصرّف بإذنهم ورضاهم حفظاً للقاعدة المسلّمة ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى أنفسهم.

* * *

٨. الحكومة أمانةٌ عند الحاكم

إنّ تشكيل الدولة وانتخاب الحاكم الأعلى، حقّ اجتماعيّ للاُمّة ولها أن تستوفي هذا الحق متى شاءت وأرادت وهذا يعني أنّ الحكومة ( أمانة ) عند الحاكم تعطيها الاُمّة له، وعليه أن يحرص على الأمانة غاية الحرص، ويواظب على أدائها أشدّ المواظبة.

أقول: إنّ هذه الحقيقة تستفاد من بعض الآيات والأحاديث العديدة التي تصف الحكم بأنّه أمانة، ومنها قول الله سبحانه:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء: ٥٨ ـ ٥٩ ).

إنّ الخطاب في قوله سبحانه( يَأْمُرُكُمْ ) موجّه إلى الحكام بقرينة قوله( وَإِذَا حَكَمْتُم ) وهذه قرينة على أنّ الأمانة المذكورة هي: الحكومة.

ويؤيّد كون المراد من الأمانة هو ( الحكومة ) ما جاء في الآية الثانية من الحثّ على إطاعة الله وإطاعة الرسول واولي الأمر، فمجيء هذه الآية عقيب الآية المتضمنة لكلمة الأمانة، يؤيّد أنّ المراد بالأمانة المذكورة هو ( الحكومة ) وأنّ الكلام في الآيتين إنمّا هو

٢٠٦

حول ( الحكومة ) وما لها وما عليها من الحقوق والواجبات.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على كون المراد من أهل الأمانة هو « الناس » فعندئذ تدل الآية على، أنّ الحكومة نابعة من جانب الاُمّة، وإن كانت نابعةً من جانب الله بالأصالة، وهي أمانة بيد الحاكم، ووديعة في عنقه، يطلب منه أداؤها. غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود من أهل الأمانة هو ( الله ) سبحانه وتعالى، فإن الحكومة له لا غير كما قال في كتابه الكريم:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ ) فعندئذ لا يتمّ الاستدلال بالآية على المطلوب، ولكنّ الإجابة عن هذا الاحتمال واضحة، فإنّ الحكومة كما قلنا في الجزء الأوّل، حقّ ذاتيّ لله تعالى، ولا يعني من كونه حقّاً للناس أنّه حقّ أصيل لهم في قبال كونه حقّاً لله سبحانه، بل المراد أنّه حقّ أعطاه الله سبحانه له.

وبعبارة أخرى: ليس المقصود أنّ للشعب سيادةً وحاكميّةً في عرض السيادة والحاكميّة الإلهيّة، بل هما حقّان من نوعين، أحدهما حقّ مستقل وذاتيّ، والآخر حقّ تبعيّ موهوب، وهما لذلك يجتمعان دونما تضادّ وتباين، ولا منافاة بين أن يكون أهل الأمانة هو الاُمّة أو الله سبحانه.

وممّا يؤيّد القول بأنّ المراد من ( اهلها ) هو الناس، ما ورد في هذا الصدد من الاحاديث التي يستفاد منها كون ( الحكومة ) أمانة في عنق الحاكم، أو أنّ الحكّام خزّان الرعيّة ومؤتمنون على الحكومة، ومسؤولون عنها، إلى غير ذلك من النصوص التالية :

يقول الإمام عليّعليه‌السلام لأحد ولاته: « إنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعىً لما فوقك ليس لك أن تفتات في رعيّة »(١) .

ويقولعليه‌السلام أيضاً: « أيّها الناس إنّ أمركم هذا ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمرتم، وإنّه ليس لي دونكم إلّا مفاتيح مالكم معي »(٢) .

ويقول الإمامعليه‌السلام أيضاً: « انصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥).

(٢) الكامل لابن الأثير ٣: ١٩٣.

٢٠٧

فإنّكم خزّان الرّعيّة ووكلاء الاُمّة »(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً ما روي حول الآية عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوه، وأن يجيبوه إذا دعوا »(٢) .

فهذه العبارات صريحة في كون الاُمّة هي صاحبة الأمانة، التي هي الحكومة والسيادة، لأنّ الحكام حسب هذه النصوص ليسوا إلّا حفظةً للسلطة وحراسها وخزاناً لها لا أصحابها. ويؤيّد ذلك أيضاً، أنّ الروايات والأحاديث تضافرت من أهل البيت: حول الآية، وهي تفسرها بالإمامة التي يجب على كلّ إمام أن يؤدّيها إلى الإمام الذي بعده.

ففي تفسير البرهان في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى آخر قوله تعالى) عن زرارة عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا ) فقالعليه‌السلام : « أمر الله الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده ليس له أن يزويها عنه، ألا تسمع قوله:( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ) هي الحكّام يا زرارة، إنّه خاطب بها الحكّام »(٣) .

نعم، إنّ الجمع بين المعنى ( وهو كون المقصود من الأمانة هو الحكومة التي تسلمّها الاُمّة إلى الحاكم ) والمعنى الثاني ( الذي روي عن أهل البيت من أنّ المقصود هو أداء كلّ إمام الإمامة إلى من بعده ) يحتاج إلى تأمّل ودقة تفكير.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه، أنّ المفسر الإسلاميّ الكبير الطبرسيّ فسّر ( الأمانة ) في الآية بأنّ المراد هو ( الفيء وغير الفيء ) الذي يجب إيصاله إلى الاُمّة، أصحابها

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥١٥).

(٢) الأموال لأبي عبيد: ١٢، ٣٨٨.

(٣) تفسير الميزان ٥: ٣٨٥ نقلاً عن البرهان قال العلاّمة الطباطبائيّ: وصدر هذا الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهمعليهم‌السلام .

٢٠٨

الحقيقيين وهو داخل في موضوع الحكومة، وأعمالها وصلاحياتها ومسؤوليّاتها ويقول: ( ومن جملتها ( أي من جملة الأمانات ) الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة )(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام قال في ذيل هاتين الآيتين: « آيتان إحداهما لنا، والأخرى لكم »(٢) .

وعنى الإمام بالاولى قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) وبالثانية قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ) .

٩. كتب الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام إلى معاوية قبل نشوب الحرب بينهما: « إنّ عليّاً لـمّا مضى لسبيله ( رحمة الله عليه يوم قبض ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّا ) ولاّني المسلمون الأمر من بعده فادخل فيما دخل فيه النّاس »(٣) .

وهذه العبارات صريحة في أنّ القاعدة المركوزة في أذهان المسلمين ( لولا التنصيص من الله سبحانه على شخص معيّن ) هي انتخاب المسلمين لحاكمهم، بحيث يجب ـ بعد انتخابه ـ دخول المخالف والمعارض فيما دخل في جمهرة الناس، ولذلك مضى الإمام الحسنعليه‌السلام يلفت نظر معاوية إليها.

١٠. ذمّ الإمام الصادقعليه‌السلام من يجبر الناس على حكمه بالسوط والسيف: ممّا يعني أنّ الشارع المقدس لا يرضى بالحاكم الذي يحمل نفسه على رقاب الناس قهراً ويحكمهم دون رضاهم، وذلك عندما قال له رجل: إنّه ربّما تكون بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا ؟ [ أي هل فيه بأس ] فقال الإمامعليه‌السلام : « هذا ليس من ذاك إنّما ذاك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسّوط »(٤) .

__________________

(١ و ٢) مجمع البيان ٢: ٦٣.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤: ١٢.

(٤) المستدرك ٣: ١٨٧ نقلا عن دعائم الإسلام.

٢٠٩

١١. قال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

« الواجب في حكم الله والإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدّم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم، عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم، ويقيم حجّتهم ويجبي صدقاتهم »(١) .

وهو صريح في أنّ على الاُمّة أن تبادر إلى انتخاب حاكمها ( لولا النصّ على أحد طبعاً ).

١٢. وممّا يؤيّد ما ذكرناه من أنّ القاعدة المركوزة في أذهان الناس في مجال الحاكم كانت هي أن يكون الحاكم منتخب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ هو ما كتبه رجال من أهل الحكومة إلى الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام :

« بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليك فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتآمر عليها بغير رضا منها ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ».

ولأجل ذلك كتب الإمام الحسينعليه‌السلام إليهم قائلاً: « أن بلغني أنّه قد اجتمع رأي ملئكم ذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم »(٢) .

فهذه الوجوه الاثنا عشر ـ عند التدبّر ـ تعطي للاُمّة، الحريّة الكاملة في انتخاب حكامّها تحت الضوابط الشرعيّة أو تدلّ ـ على الأقلّ ـ على لزوم كون الحكومة مورد رضاها.

__________________

(١) أصل سليم بن قيس: ١٨٢، وبحار الأنوار ٨: ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٢) الكامل للجزري ٣: ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٢١٠

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

قد اتضح من البحث المتقدّم، أنّ رضا الاُمّة وانتخابها يعدّ منبعاً للسلطة، وعندئذ ينطرح السؤال التالي :

إذا كانت إرادة الاُمّة منبعاً للسلطة في الحكومة الإسلاميّة وهي بنفسها مصدر للسلطة في الديمقراطيّة الغربيّة أيضاً فما الفرق بين الحكومتين ؟

الجواب :

إنّ المراد بكون الاُمّة ذات سيادة وحقّ في الحكومة الإسلاميّة يختلف عن السيادة الشعبيّة التي تقول بها الأنظمة الديمقراطيّة.

فالاُمّة في ظل الإسلام يجب أن تختار حاكماً متّصفاً بالشروط والصفات المعتبرة في الحاكم الإسلاميّ، من الفقه والعدل والدراية السياسيّة والمقدرة الإدارية، وغيرها من الشروط والمواصفات التي سيأتي ذكرها مفصّلاً في صفات الحاكم بينما يختلف الأمر عمّا هو عليه في الديمقراطيّة إذ في ظل هذا النظام يحقُّ للشعب أن يختار من يريد سواء أكان صالحاً أم لا، وسواء أكان متحلّياً بالمؤهّلات والشروط المذكورة أم لا.

كما أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى أن يمشي ويسير وفق النظام الإسلاميّ وليس له أن يحيد عن ذلك قيد شعرة، بينما يكون الأمر في النظام الديمقراطيّ على غير هذا

٢١١

النحو ؛ حيث يجب على الحاكم المنتخب أن يسير وفق ما يريده الشعب ويرتضيه ويرتئيه صالحاً كان أو فاسداً، وحقّاً كان أو باطلاً.

وبذلك يظهر، أنّه لا جامع ولا تشابه بين النظامين حتّى يرد على الاسلوب الإسلاميّ في ( انتخاب الحاكم من جانب الشعب ) ما يرد على الاسلوب الديمقراطيّ ولأجل ذلك، نجد أنفسنا في غنىً عن الإجابة على تلكم الإشكالات والاعتراضات والمؤاخذات. نعم لا بأس مع ذلك بالإشارة إلى ما أورد على الديمقراطيّة من اعتراضات ومؤاخذات تتميماً للفائدة.

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة

إنّ الديمقراطيّة التي يعنى منها حكومة الشعب على الشعب عن طريق انتخاب النوّاب والحكام وذلك على النمط الغربيّ الذي يعتمد على تغليب الأكثريّة وترجيح آرائها، ينطوي على ثلاثة معايب رئيسيّة :

أوّلاً: إنّ الحاكم المنتخب يكون تابعاً للناس، وليس تابعاً للمصالح والحقائق، فإنّ الحاكم الذي يعتمد على آراء الناس وأصواتهم ( لا الضوابط والمؤهّلات والمعايير ) سيحاول دائماً أن يفعل ما يرضيهم، ويخطب ودّهم ويحقّق ما يشاؤون حقّاً كان أو باطلاً، وسيحاول مثل هذا الحاكم والنائب أن يكيِّف نفسه وفق أهواء ناخبيه، لا أن يهديهم ويرشدهم إلى مصالحهم الحقيقيّة، ويعمل بما يقتضيه الواقع في شأنهم، فما أكثر النوّاب الذين تجاهلوا نداءات الضمير إرضاءً للناس وإبقاءً على تأييدهم وكسباً لآرائهم وأصواتهم في المراحل التالية والدورات الاخرى. وما أكثر الأشخاص الصالحين الذين أرادوا أن يتّبعوا الحقّ والمصلحة الحقيقيّة لإرضاء الناس فخسروا تأييد الناس، وخسروا أصواتهم.

ثانياً: إنّ الشرط الأساسيّ لصحّة الانتخاب الشعبيّ، هو أن يكون الناخبون على درجة من الرشد الفكريّ والوعي والبصيرة حتّى لا يقعوا فريسة العواطف الرخيصة

٢١٢

والحادّة عند اختيار النوّاب أو الحكّام.

فلو توفر مثل هذا الشرط كان الانتخاب انتخاباً صحيحاً، ومفيداً.

ولكنّ المشكلة هي أنّ الأكثريّة الساحقة والتي هي الملاك في النظام الديمقراطيّ تفقد مثل هذه البصيرة والوعي والرشد الفكريّ، فإنّ الوعي والتفكير يختصان بطبقة خاصّة دون جمهرة الناس وسوادهم، فهي وحدها تفعل على بصيرة وبوعي، وأمّا الأكثرية الساحقة، فتتّبع في فعلها وتركها الأهواء الشخصيّة والتوجيهات التي يقوم بها اللاعبون خلف الستار من السياسيين ومحترفي السياسة.

فهل يمكن أن ننسى ما يعمله المرشّحون للنيابة أو الرئاسة لكسب هذه الأكثريّة من التوسل بجميع الوسائل الإغرائيّة، والأجهزة الدعائيّة والإعلاميّة ؟ فهم يستخدمون كل وسيلة رخيصة حتّى الفتيات والراقصات والأفلام الخليعة وإعطاء الوعود الخلاّبة، لاكتساب المزيد من أصوات الناس، إذ بهذه الاُمور يمكن الاستحواذ على عواطف أكثرية الجماهير، واستمالتهم، تلك الأكثريّة التي تتألف ـ في الأغلب ـ من السذّج، والبسطاء وغير المثقفين، فكيف يمكن أن تكون هذه الأكثرية ملاكاً لصحّة الانتخاب ومشروعيّته ؟

ثالثاً: إنّ تغليب الأكثريّة ولو بصوت واحد لا يكون ( عدلاً ) مضافاً إلى أنّه لا يجعل ما اختارته الأكثريّة ( حقاً ) لا نقاش فيه.

وإنّما لا يكون عدلاً، لأنّ تغليب هذه الأكثريّة ـ حتّى لو حصلت باسلوب صحيح بعيد عن المؤثّرات والإغراءات والاحتيالات ـ تجاهل لحقّ ما يقارب نصف المجتمع ومصالحه وإجحاف بحقّهم وهو إجحاف أدركه الغرب نفسه وتفطّن له كبار مفكّريه، وحقوقيّيه، واجتماعيّيه، ولكنّه لم يجد مفرّاً منه لأنّه لايعرف نهجاً بديلاً عنه، ولأجل ذلك لا يكون حقاً أيضاً.

هذه بعض معايب الديمقراطيّة وانتخاب الشعب لحكّامه ونوّابه على النهج الشائع في الأنظمة الديمقراطيّة وهو قليل من كثير.

٢١٣

وهي معايب واُمور يعاني الغرب من تبعاتها وآلامها أشدّ العناء، ويتحمّل بسببها أشدّ الأذى. ولذلك يبدو ؛ أنّ الانتخاب الشعبيّ للحاكم لا يكون مثالياً ولا صالحاً.

غير أنّ ما يقرّره النظام الإسلاميّ عار عن هذه المعايب ؛ وخال عن هذه المؤاخذات وذلك لوجوه هي :

أوّلاً: أنّه لا شكّ في أنّ أفضل أنواع الحكومات هو ( الحكومة التنصيصيّة الإلهيّة ) وإنّما الكلام هو فيما إذا لم يمكن التوصّل إلى هذا النوع فإنّه لن يكون سوى طريق واحد هو، قيام الاُمّة بانتخاب حكامها، بدلاً من أن يتسلّط على مصيرها ومقدّراتها بالقوّة، من يستبدّ برأيه، ويستأثر بفيئها، ولا يكون للناس في الأمر أي إرادة وكلمة.

ثانياً: انّ هذه الاعتراضات والمؤاخذات إنّما ترد على الانتخاب على النمط الغربيّ، والذي يجري في المجتمعات والبيئات الغربيّة التي لا تتمتّع بتربية أخلاقيّة ودينيّة رفيعة، والتي لا تخضع لأيّ شروط أو مواصفات موضوعيّة ومنطقيّة لا في الناخب ولا في المنتخب، ولا يعتبر سوى المزيد من الآراء والأصوات التي تباع وتشترى، وتكتسب بالأبواق وأجهزة الإعلام، وتحت تأثير الدعايات البرّاقة والوعود المنمّقة، لا ما يجري في البيئة الإسلاميّة وعلى النمط الإسلاميّ، الذي يشترط فيه للحاكم شروط ومواصفات تجعله رجلاً مثالياً في الأخلاق، نموذجيّاً في الإدراة، ويشترط على المنتخب، أن لا يختار إلّا من تتوفّر فيه الشرائط المعتبرة في الحاكم المثاليّ(١) ، إذ لولا ذلك لكان عمله من باب الركون إلى الظالم الذي أوعد الله عليه بالعذاب الأليم وبالنار إذ قال:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود: ١١٣ ).

فيكون الانتخاب ـ في ظل النظام الإسلاميّ على العكس من النظام الديمقراطيّ ـ مسؤوليّةً للناخب والمنتخب، وليس لعبةً سياسيّة.

ثالثاً: إنّ الأدلّة الإسلاميّة تدلّ على أنّه يجب على الفقيه العادل، بل على كلّ

__________________

(١) ففي الحديث: « إنّما الإمام هو الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات الله إلى آخره » وسوف توافيك تلك الشروط في محلّها في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

٢١٤

مسلم ملتزم إذا رأى بدعةً شائعةً، وحكومةً منكرةً القيام ضدّها، ورفض شرعيّتها، وشجب عملها بل والإعلان عن إلغائها، بحكم ماله من الولاية التي له من جانب الله سبحانه كما يقول الإمام الحسينعليه‌السلام : « أيُّها الناس إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقُّ من غيّر »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها »(٢) .

وبهذا يأمن المجتمع الإسلاميّ من مخاطر الانتخاب الشعبيّ، ويسلم من تبعاته وسيئاته.

إنّ افتقاد الانتخاب الشعبيّ على النهج الديمقراطيّ الغربيّ، الضمانات التي أقامها الإسلام في الانتخاب، هو الفارق الكبير بين الانتخابين ( الإسلاميّ والغربي ) وهو بالتالي يكون سبباً لفشل الديمقراطيّة الغربيّة بخلاف الإسلام.

إنّ المجتمع الإسلاميّ الذي يرسم القرآن ملامحه في آيات عديدة ويلخِّصها في قوله:( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

إنّ مجتمعاً كهذا، من الجدير أن لا ينتخب لإدارة شؤونه إلّا ( حكومةً ) رشيدةً أمينةً رساليّةً مؤمنةً، وفيّةً للدين، ملتزمةً بالإسلام، ومخلصةً لمصالح الاُمّة وذلك على العكس من النظام الديمقراطيّ.

إنّ الأخذ بالضوابط والمقاييس التي ذكرها واشترطها الإسلام للقادة والزعماء ،

__________________

(١) الطبري ٤: ٣٠٤.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

٢١٥

كفيل أيضاً بأن يزيل جميع الاعتراضات الواردة على الانتخاب الشعبيّ ويحقّق أفضل حكومة من نوعها بين الحكومات.

* * *

السؤال الثاني :

إذا كان انتخاب الحاكم الأعلى غير مختص بفريق معيّن من أفراد الاُمّة، فلماذا يقول الإمام عليّعليه‌السلام في بعض رسائله: « وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً »(١)

الجواب :

إنّ السبب في حصر الإمام عليّعليه‌السلام حقّ انتخاب الإمام في المهاجرين والأنصار ـ بغضِّ النظر عن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في هذه الرسالة ـ هو تعذّّر إجراء الاستفتاء العامّ الشامل، وعدم إمكان استعلام آراء المسلمين كلّهم في ذلك العهد، الذي كان يفقد الوسائل الكافية للاتصال بجميع أفراد الاُمّة. وحيث أنّ تأخير الانتخاب للحاكم الأعلى ريثما يتمّ الوقوف على كلّ آراء المسلمين جميعاً، كان ينطوي على تعريض الاُمّة الإسلاميّة لأخطار جديّة حقيقيّة لا تخفى على كلّ من يعرف الأوضاع في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام، نجد الإمامعليه‌السلام يختار هذا الاُسلوب ويعلّل ذلك بقوله: « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار »(٢) .

كيف لا وقد مر عليك أيّها القارئ الكريم أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام صرّح في بعض خطبه بوضوح لا يقبل جدلاً، أن إرادة الاُمّة الإسلاميّة، هي مصدر السلطات، وأنّ الحكومة يجب أن تكون موضع رضا الناس(٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٦).

(٢) نهج البلاغة: الرسالة (١٧٣) طبعة عبده.

(٣) راجع الصفحة ٢٠٧ ـ ٢٠٨ من هذا الجزء.

٢١٦

لقد كان المهاجرون والأنصار ـ في ذلك العهد ـ بحكم سبقهم إلى الإيمان بالإسلام بمنزلة وكلاء الاُمّة الإسلاميّة، فكان ما يختارونه يقرّه الآخرون. ولأجل ذلك، اعتبر الإمام عليّعليه‌السلام ما يختاره شورى المهاجرين والأنصار ومن يتّفقون عليه للحكم، حجّةً نافذةً على الآخرين.

ولا بأس بأن نذكر في خاتمة هذا الجواب، أنّ انتخاب الحاكم الأعلى للدولة كما يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب الاُمّة مباشرةً، كذلك يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب نوّابها للحاكم الأعلى، ويكون مآل ذلك إلى رأي الاُمّة أيضاً.

ولعلّ ما ذكره الإمام عليّعليه‌السلام كان إشارةً إلى هذا الاُسلوب وكأنّ المسلمين في ذلك العصر كانوا ـ لاعتمادهم على المهاجرين والأنصار ـ يعدّونهم نوّاباً لهم، وإن لم يصرّحوا بذلك لفظاً.

يقول صاحب المنار في شأن هؤلاء المهاجرين والأنصار: ( وقد كانوا ( أي المهاجرين والأنصار ) في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يكونون معه حيث كان، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات ثمّ تفرّقوا وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام ( الخليفة ) وفي الشورى وفي السياسة والإدارة والقضاء فأمّا المبايعة، فكانوا يرسلون إلى البعيد من اُمراء الأجناد، ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم )(١) .

ثمّ إنّ استدلال الإمام بشورى المهاجرين والأنصار مع كون إمامته وخلافته منصوصاً عليها من جانب الله سبحانه، إنّما هو من باب الجدل وإفحام الخصم، وسيأتيك تفصيل ذلك عند البحث عن نظرية « الشورى أساس الحكم ».

السؤال الثالث :

لمّا كان الاتفاق على شخص واحد أمراً مستحيلاً عادةً، فعندئذ كيف ينتخب الحاكم الأعلى ؟ هل بتغليب الأكثريّة على الأقليّة، وذلك مناف لأصالة الحريّة الإنسانيّة

__________________

(١) المنار ٥: ١٩٥.

٢١٧

الفرديّة وقاعدة سلطة الإنسان على ماله ونفسه، ومستلزماً لبخس حقوق الأقليّة.

الجواب :

إذا نظرنا إلى الحياة الإنسانيّة من الزاوية الفرديّة، وأخذنا الإنسان بمعزل عن المجتمع، جاز لنا أن نستنكر هذا الترجيح، ونعتبره نقضاً صريحاً لحريّته الفرديّة وحقّه في الأخذ برأيه وانتخابه واختياره إذ لا مبرّر لذلك، ولا مسوّغ فلكلّ إنسان حقّ في إبداء رأيه وتنفيذه، ولا سلطة لأحد على أحد كما أسلفناه.

ولكنّنا لو نظرنا إلى ( الحياة الإنسانيّة ) من الزاوية الاجتماعيّة ودرسنا الإنسان والفرد وهو ضمن مجتمع متكوّن من أفراد آخرين، ذوي حقوق ومصالح مماثلة، فإنّ الحياة والعيش بالكيفيّة الاجتماعيّة حينئذ تقتضي القبول بكلّ لوازمها، ففي الحياة الاجتماعيّة تضمن المصالح، والحريّات الفرديّة في إطار المصلحة الاجتماعيّة، إذ بذلك وحده يمكن التوصّل إلى الاستقرار الاجتماعيّ وتحقيق السعادة الاجتماعيّة العامّة التي يتوقف عليها الاستقرار الفرديّ، وتتحقق في ظلّها السعادة الفرديّة ولـمّا كان الطريق الوحيد إلى حفظ النظام الاجتماعيّ وصيانة مصالح الاُمّة متوقّفة ـ بعد التشاور والمداولة ـ على ترجيح إحدى الطائفتين المختلفتين في الرأي على الاُخرى، فلا مناص من تغليب الأكثريّة على الأقليّة، لأنّ تغليب الأقليّة على الأكثريّة عند العقلاء ترجيح للمرجوح على الراجح.

من هنا يلزم على الأقليّة القبول برأي الأكثريّة وانتخابها، والتنازل عن حقّها ورأيها.

وبعبارة اُخرى: إنّ الحياة الاجتماعيّة تشبه شركة مساهمة، يشترك فيها الأفراد المتعددون بالأسهم، فكما أنّ على مشتري السهم أن يتّبع في شرائه للسهم، ومشاركته في تلك الشركة برنامج الشركة المدوّن، ويكون شراؤه بمثابة الموافقة الضمنيّة على ذلك البرنامج، فإنّ العيش ضمن الحياة الاجتماعيّة يعتبر إمضاءً لشروط الحياة الاجتماعيّة، وقبولاً بمستلزماتها وأحكامها إذ لا بقاء للحياة الاجتماعيّة، ولا قيام لأمرها إلا بهذا

٢١٨

الطريق، كما لابقاء للشركة المساهمة إلّا بموافقة أصحاب الأسهم على برنامج الشركة وأهدافها، والقبول بمتطلباتها فهو باختصار، أشبه شيء بالشرط في ضمن العقد كما هو المصطلح في الفقه، والاعتراف بالملزوم اعتراف بلازمه.

* * *

الفرق الواضح بين الترجيحين

يمكن أن ينطرح في ذهن القارئ الكريم، أنّ ما أخذنا به على الديمقراطيّة الغربيّة جار في المقام، إذ قلنا هناك بأنّ ترجيح الأكثريّة ولو بصوت واحد بخس وتجاهل لحقّ الأقليّة، وعندئذ فما الفرق بين الترجيحين الحاكمين في الديمقراطيّة الغربيّة والحكومة الإسلاميّة ؟

غير أنّ القارئ الكريم الذي لمس حقيقة الحكومة الإسلاميّة يقف على الفرق الجوهريّ بين الترجيحين، فإنّ الأكثريّة في النظام الديمقراطيّ الغربيّ تأخذ بزمام الحكم وتتصرف في مصير المجتمع بأيّ نحو شاءت، وليس هناك ضابطة غالباً تحدد تصرّفاتها في مقابل الأقليّة، سواء أكانت في مجال التقنين والتشريع أم في مجال التطبيق والتخطيط، إذ لا يشترط في المتصرِّف شيء من الشرائط سوى تصويت الأكثريّة له. ولذلك لا رادع هناك من أي بخس وتجاوز لحقوق الأقليّة من جانب الأكثريّة الحاكمة.

أمّا الحكومة الإسلاميّة، فالأقليّة والأكثريّة كلاهما يتّبعان حكماً وقانوناً واحداً لا يختلفان في ذلك أبداً، فليس لهما إلّا الاتّباع لما شرعه الإسلام وجاء به الكتاب والسنة، وإنمّا الاختلاف في اُسلوب التطبيق والتخطيط، فليس للحاكم الأخذ بزمام الحكم أن يتجاهل حقوق الأقليّة، كما أنّه ليس للطرف الآخر الخروج عن دائرة الحقّ والعدل المتمثّلين في الشريعة المقدسة فتبقى هناك مسألة التصدّي لمقام الحكم ولا مناص من ترجيح الأكثريّة على الأقليّة حفظاً لنظام المجتمع وإبقاءً على وحدته وكيانه، ويتضح ما ذكرناه إذا لاحظنا مواصفات الحاكم وشرائطه في الحكومة الإسلاميّة كما ستوافيك في الفصل القادم.

٢١٩

السؤال الرابع :

ولاية الفقيه ومكانتها

في

الحكومة الإسلاميّة

ربّما يتصور البعض، أنّ القول بولاية الفقيه التي اتّفق على أصلها في الجملة جميع الفقهاء في فقه الإماميّة، يتنافى مع ما مر تقريره من إثبات السيادة للاُمّة وحقّها في انتخاب حكّامها ونوّابها.

الجواب :

إنّ البحث في ولاية الفقيه، وتوضيح حقيقتها ودلالتها، وبيان ما حولها من حقائق، يحتاج إلى تأليف رسالة، وقد أغنانا عن ذلك ما كتبه قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخمينيّقدس‌سره فنقول باختصار :

إنّ ما ذكرناه في « صيغة الحكومة الإسلاميّة » وتركيبتها هو ما يمكن لكلّ مطالع في الإسلام، استنباطه من الكتاب والسنّة بجلاء، غير أنّ هناك في فقه الشيعة الإماميّة « عنصراً خاصّاً » في الحكومة الإسلاميّة هو عنصر « ولاية الفقيه » الذي لا نجد مثيله في سائر المذاهب، وينبغي للقارئ الكريم أن يتعرّف على هذا العنصر استكمالاً لمعرفته بجميع عناصر الحكومة الإسلاميّة في عامّة المذاهب الفقهيّة.

إنّ الحديث عن ولاية الفقيه يقع في أمرين :

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627