مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219060 / تحميل: 6013
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس: ٢٧ ـ ٣١ )، ثمّ قال: ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال: ( هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه )(١) .

(ز): خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ وكان أمير المؤمنين حاضراً فقال: « يا عمر، ليس هذا حكمهم »، قال عمر: أقم أنت عليهم الحكم، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، وقدّم الخامس فعزّره، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال: يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم أما الأوّل: فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني: فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث: فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع: فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس: فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر: ( لا عشت في أمّة لست فيها يا أبا الحسن )(٢) .

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح، على أنّه لو كان

__________________

(١) المستدرك للحاكم ٢: ٥١٤، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١: ٢٦٨، الكشّاف ٣: ٣١٤.

(٢) الكافي ٧: ٢٦٥.

١٢١

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة )، إذ بهذه الصورة فحسب، كان من الممكن أن يلي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه، من حل معضلاتها، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك، ومن التحيّر والمفاجأة ـ كما عرفت ـ.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

٢. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً، وعلى نسق واحد، بل فيه: المحكم والمتشابه والعامّ، والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمنسوخ والناسخ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته(١) .

ثمّ لـمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

__________________

(١) ولقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى هذه الاُمور بقوله :

« خلّف ( أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيكم كتاب ربّكم، مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه » نهج البلاغة: الخطبة رقم (١).

١٢٢

درجةً، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر، وعلى أبعاد عديدة(١) تخفى على العاديين من الناس، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة ـ كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة ـ مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة: ١٥ ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول:( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل: ١٠٣ ).

ويقول في آية اخرى بأن الله سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠ ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان: ٥٨ ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح، وما التفسير إلّا رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام في شأنه: « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به

__________________

(١) ولقد أشار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذا بقوله :

« له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » الكافي ( كتاب القرآن ) ٢: ٥٩٨ ـ ٥٩٩.

١٢٣

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض »(١) .

لأجبنا: صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس إذ يقول تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ).( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل: ٦٤ ).

فقد وصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هاتين الآيتين، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس، كما يقول سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩ ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً: وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً: كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً: إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩ ( طبعة عبده ).

١٢٤

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن: المطلق والمقيّد، والعام والخاصّ، والمنسوخ والناسخ، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان مجمله ومطلقه ومقيده وما شابه ذلك، وقد فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين بيد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة، لعدم الحاجة إلى ذلك، وتحيّناً للظروف المناسبة، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها، فتعيّن أن يخلّف النبيّ ـ من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم، قال شيخ الطائفة الطوسيّرحمه‌الله في تفسير قوله سبحانه:( حم *وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف: ١ ـ ٢ والدخان: ١ ـ ٢ ).

( إنّما وصف بأنّه مبين، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه )(١) .

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً، هو وضوح انتسابه إلى الله، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام الله والآية نظير قوله سبحانه( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

__________________

(١) التبيان ٩: ٢٢٤ ( طبعة النجف الأشرف ).

١٢٥

فِيهِ ) ( البقرة: ٢ )، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ) وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩، ، يقضي، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً: لـمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة »(١) .

فكأنّ القرآن الكريم ـ في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه ـ هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره، إلّا معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره، فإنّ كتاب الله تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار، لأنّه منزّل من عند الله الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية، ولا تحصى أبعاد قدرته، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة، وأفاق كثيرة، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ١: ٢٨.

١٢٦

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته: وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة، وإن كان ممكناً للجميع، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء: ٢٢ ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ( المؤمنون: ٩١ ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل: ٨٢ ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف، واستعدّت له النفوس المعاصرة، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

١٢٧

للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فيما يأتي من الزمان، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً: لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ولذلك، فقد كان القرآن ـ في عصر تنزّله ـ محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن، وبعد الناس عن عهد نزوله، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم، وتاريخه، وعلومه.

ولأجل ذلك، يطلب الإمام عليّعليه‌السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقولعليه‌السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً »(١) .

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلّا بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة، وتعتبر قوله قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١. قال سبحانه في آية الوضوء:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة: ٦ ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٧٧).

١٢٨

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟(١) .

٢. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل: إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل: إنّ القطع من الكوع، وهو المفصل بين الكفّ والذراع، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل: إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج(٢) .

٣. أمر الله سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه:( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء: ١٢ ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال:( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

__________________

(١) وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى ٣: ٥٤، لاحظ المسألة (٢٠٠) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها، ومفاتيح الغيب ١١: ١٦١ ( طبع دار الكتب العلمية ).

(٢) راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ): ١٨٤.

١٢٩

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات، كالواحديّ وغيره، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود، وإليك نماذج من ذلك :

١. قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة: ١٨٩ ).

فيقال، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ) وعلى فرض وضوح المناسبة، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

٢. قوله سبحانه:( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل: ٨٢ ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

٣. وقوله سبحانه:( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة: ١١٨ ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

١٣٠

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ، من دون زيادة أو نقصان، ومن دون تحريف أو تزييف، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه، وأميناً على سره، ومؤدّباً بتأديبه، وناشئاً على ضوء تربيته، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على الله بحكم الضرورة والعقل، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته، ويبيّن أبعاده، ويكشف عن معالمه، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة، وهو الإرشاد والهداية، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر ـ فيما يقدر ـ على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم، قلت لأبي عبد الله ( جعفر بن محمّد الصادق )عليه‌السلام :

إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله.

قال: « صدقت ».

قلت: إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلّا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، وأنّ لهم الطاعة المفترضة، وقلت للناس: تعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو الحجّة من الله على خلقه ؟ قالوا: بلى، قلت: فحين

١٣١

مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلّا بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيّم القرآن ؟(١) فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلّه ؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلّا عليّاًعليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّاًعليه‌السلام كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضةً، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ): « رحمك الله »(٢) .

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام فقال له: « كلّم هذا الغلام »، يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ: أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال: فمن هو ؟

قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال هشام: فبعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال: الكتاب والسنّة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ: نعم.

قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

__________________

(١) أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).

(٢) الكافي ١: ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٣٢

قال: فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد الله للشاميّ: « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهّما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلّا أنّ لي عليه هذه الحجّة(١) .

أجل، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن الله به كتابه هو من عناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٢) .

وروي هكذا أيضاً: « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: الثّقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، إلّا وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٣) .

فقد صرح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم افتراق الكتاب والعترة، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده، وذلك يقتضي، وجوب التمسك بهم كالقرآن

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٢.

(٢ و ٣) رواه أحمد بن حنبل في مسنده ٥: ١٨٢ و ١٨٩، والحاكم في مستدركه ٣: ١٠٩، ومسلم في صحيحه ٧: ١٢٢، والترمذيّ في سننه ٢: ٣٠٧، والدارميّ في سننه ٢: ٤٣٢، والنسائيّ في خصائصه: ٣٠، وابن سعد في طبقاته ٤: ٨، والجزريّ في اسد الغابة ٢: ١٢، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.

وقد أفرد دار التقريب رسالةً ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونه ونشره عام ١٣٧٥ ه‍.

١٣٣

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

٣. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون، تهدينا إلى أنّ الله خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله، وعلّته الغائيّة، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة، فقد زوده الله تعالى ـ بعد أن أفاض عليه الوجود ـ بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ

ولم يكن معقولاً أن يهمل الله تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين: المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلّا في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته، وتوجيهه، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم، بالتزكية والتعليم والتربية، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده الله لها.

وقد قام انبياء الله ورسله الكرام ـ بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم ـ بهداية البشريّة على مدار الزمن، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

١٣٤

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً، دوراً أساسيّاً وعظيماً، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة، فسقطت في الحضيض، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة: « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة، فكانوا كما وصف في محكم كتابه( إِنْ هُمْ إلّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) »(١) .

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلّا عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء الأوّل.

١٣٥

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل، وهداية الأنبياء ورعايتهم، هو نفسه يستدعي، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين، للنبيّ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب، والتقهقر إلى الوراء، كيف لا، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين، ضمان لتكامل المجتمع، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟(١) .

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت: في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب الله سبحانه، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ ـ يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم »(٢) .

ب ـ روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ]عليهما‌السلام : « إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل »(٣) .

__________________

(١) هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ): ٣٠٤.

(٢ و ٣) الكافي ١: ١٧٨.

١٣٦

ج ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في نهج البلاغة: « أللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته »(١) .

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام: أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال: نعم.

فقال: ألك عين ؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بها ؟

فقال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قال: فلك أنف ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أشمّ به الرائحة.

قال: ألك فم ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أذوق به الطعام.

قال: فلك اُذن ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

__________________

(١) نهج البلاغة: قصار الكلمات.

١٣٧

فقال: أسمع به.

قال: ألك قلب ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال: أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال: لا.

قال: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته، أو ذاقته، أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام: فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال: نعم.

قال: لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال: نعم.

قال: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام: فسكت ولم يقل لي شيئاً(١) .

وغير خفي على القارئ النابه، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٠.

١٣٨

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً ـ خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله ـ فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول: أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام، إلّا بتنصيب من الله سبحانه وتعيينه.

٤. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود الله أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلّا أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

١٣٩

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

١. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

٢. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه ؟

٣. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة، فأخبرهم عن أجوبتها، وأخبرهم بأنّ الأوّل، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف، والثاني، هو ذو القرنين الذي ذكره الله في سورة الكهف أيضاً، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى الله بأمره حيث قال:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء: ٨٥ )، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى الله تعالى إليه(١) .

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستدلوا لاعتقادهم في المسيحعليه‌السلام بكونه ولداً لله، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، فأجابهم بما أوحى إليه الله سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال الله في هذا الصدد:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران: ٥٩ )(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل خمسة أديان: اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

(٢) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وفي هذا الصدد يكتب العلامة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ عامّة الآيات المتضمنّة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجّه خطاباتها إلى عامّة المؤمنين دون النبيّ خاصّةً كقوله تعالى:( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) ( البقرة: ١٩٥ )

وقوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران: ١٠٤ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) ( المائدة: ٣٥ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) ( الحج: ٧٨ )

وقوله:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ( البقرة: ١٧٩ )

وقوله:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) ( الطلاق: ٢ )

وقوله:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) ( آل عمران: ١٠٣ )

وقوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى: ١٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها أنّ الدين ذو صبغة اجتماعية الشكل وقد حملها الله تعالى على الناس بصفتهم الاجتماعيّة ( كما حمل بعض الاُمور على الافراد بوصفهم الفرديّة ) ولم يرد إقامة الدين إلّا منهم أجمعهم، فالمجتمع المتكون منهم هو الذي أمره الله وندبه إلى ذلك من غير مزيّة في ذلك لبعضهم )(١) .

إنّ توجيه الخطاب بهذه التكاليف إلى المجتمع، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المجتمع بما هو مجتمع عليه أن يقوم بها كما يقوم الفرد بواجبه الدينيّ، وهي على نحو الواجب الكفائّي الذي يجب على الجميع القيام بها أوّلاً وبالذات، فإن قام بها أحد سقطت عن الآخرين، وأمّا إذا لم يقم بها أحد كان الجميع عصاةً مسؤولين.

وحيث أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن

__________________

(١) الميزان ٤: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠١

القيام بها وأدائها دون جماعة متفرّغة لذلك، ودون جهاز حكم يتولّى تنفيذها، توجّب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل دولة يعهد إليها مسؤولية القيام بهذه التكاليف، وتطبيق النظم الاجتماعيّة الإسلاميّة، والوظائف المتوجهة إلى المجتمع أساساً، وذلك صيانةً للمجتمع من الإنهيار، وحفظاً لمصالحه وشؤونه، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلّا الهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.

من هذا البيان المقتضب، يمكن لنا أن نستنبط كون الاُمّة والمجتمع هو مصدر السلطات الحكوميّة، ولكن ليس مصدراً مطلقاً بل مصدراً في إطار الحاكميّة الإلهيّة والقوانين الإسلاميّة، فالناس في الدين الإسلاميّ هم المكلفون بتشكيل الحكومة والدولة وتعيين الحاكم وانتخابه ـ إن لم يكن هناك حاكم منصوص عليه من جانب الله ـ لقيادة الاُمّة، وإدارة شؤونها، وتطبيق الشريعة الإلهيّة في المجالات الاجتماعيّة، لأنّهم هم المخاطبون بالخطابات المذكورة ولـمّا لم يكن في مقدورهم جميعاً القيام بذلك بأشخاصهم، لزم أن يبادروا إلى استنابة من يقوم بها.

أليس المجتمع ـ حسب منطق القرآن ـ هو الذي توجه إليه الأمر بقطع السارق وحدّ الزاني وردّ المعتدي وحفظ الثغور، وإقامة النظام الدينيّ ؟؟.

أفلا يدلّ ذلك ضمناً على أن الإسلام سمح للمجتمع الإسلاميّ بأن يشكّل الدولة التي تتولّى القيام بهذه الواجبات الاجتماعيّة، لأنّ الإسلام جعل هذه التكاليف في عهدة المجتمع، وطلب منه أداءها ؟ وهل يمكن للمجتمع الذي يقوم كلّ صنف من أصنافه بتكفُّل جانب ضروريّ من الجوانب المعيشيّة، بكلّ تلك الواجبات الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة، دون جهاز حكوميّ متفرّغ ينّفذ ويراقب ويضمن إجراء القوانين الإلهيّة في المجالات المذكورة ؟

وهل يمكن أن يريد الإسلام إقامة الاُمور الاجتماعيّة والنظم الاجتماعيّ ولا يريد مقدّمة ذلك وهي تشكيل دولة تقوم وتتعهّد بتوزيع المسؤوليات وحفظ الحقوق.

٢٠٢

وحراسة العلاقات ؟

وهكذا تكون الاُمّة ـ في نظر الإسلام ـ مصدر السلطة الذي له أن يختار وينتخب حكّامه، وتكون الحكومة نابعةً من إرادته.

* * *

٥. العقلُ وتشكيل الدولة

يعتبر ( العقل ) أحد الأدلّة الشرعيّة التي يستند إليها الفقهاء في استنباط الأحكام جنباً إلى جنب مع القرآن والسّنة والاجماع.

وقد أشبع العلماء البحث في حجّية العقل في الموارد التي له الحكم فيها.

لقد دلّ العقل هذا على وجوب تشكيل الدولة من جانب الاُمّة، وذلك لما في إقامة الدولة من حفظ النظام الإنسانيّ ومن المعلوم أنّ حفظ النظام الإنسانيّ من الواجبات العقليّة التي يحتِّمها العقل على البشر.

فإنّه يتوجب على البشر ـ بحكم العقل ـ أن يبذل غاية جهده في إقرار النظام وحفظه والدفاع عنه وصيانته، إذ في ظلّ النظام يمكن أن يحصل الإنسان على سعادته وسلامته ويضمن مصالحه ومستقبله.

ولأجل هذا، نجد الشعوب تقرّر أنظمةً وقوانين لحفظ هذا النظام رغم أنّ بعضها لا يتديّن بدين ولا يتمسّك بشريعة إلهيّة.

وهذا إنّما يدلّ على أنّ موضوع إقامة النظام الاجتماعيّ، ممّا يقرُّ به الناس ويذعنون له عقلاً وبديهةً، قبل أن يأتي لهم في ذلك شرع ودين.

فهذه إذن حقيقة لا نقاش فيها.

ولكن ترى، هل يمكن للمجتمع أن يقوم بنفسه ـ ورغم عدم تخصُّصه في شؤون الإدارة، وعدم تفرغه لها ـ بحفظ النظام وإقراره ؟ أو هل يمكن التوصل إلى ذلك بمجرد أن يؤمن الناس بهذه الحقيقة إيماناً مجرّداً من أي رادع، ومن دون أنّ يكون ثمة جهاز يتولّى

٢٠٣

مسؤولية الحفاط على النظام الاجتماعيّ الذي يدعو إليه العقل ويطلبه العقلاء، وينادون به.

والحقّ أنّ مجرّد الاعتقاد بضرورة حفظ النظام الاجتماعيّ وبحجّة أنّه يكفل سعادة الفرد والمجتمع، من دون إقامة ( دولة )، لا يمنع من وقوع الاختلال في هذا النظام، ولذلك فإنّ العقل نفسه يحتِّم على البشر أن يقيم جهازاً يعهد إليه حفظ النظام، ولأجل ذلك لم يخل ـ كما قلنا ـ أي مجتمع بشريّ من دولة أو دويلة وزعيم كبير أو صغير يتكفّل إقرار النظام الاجتماعيّ المطلوب.

وهذا خير دليل على، أنّ للشعوب بل عليها أن تقوم بتشكيل السلطات فهي إذن مصدرها، وهذا هو بالضبط ما يؤكّده الإسلام ويؤيّده، إذ الشرع كما يقولون يعضد العقل ويؤيّده فيما تكون فيه مصلحة الناس ومنفعتهم وخيرهم.

* * *

٦. سيرة المسلمين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ الصحابة ـ بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أحسّوا بضرورة إقامة دولة وتشكيل جهاز حكوميّ يخلف القيادة النبويّة، يلمّون به شعثهم ويحفظون به اجتماعهم، فأقدموا على انتخاب رئيس من بينهم لزعامة الاُمّة وقيادة البلاد، وإن كان ذلك لا يخلو من علّة وعلاّت، كما أوضحناه.

إنّ الصحابة ـ وإن تناسوا وجود إمام منصوص عليه من جانب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عيّن عليّاًعليه‌السلام إماماً للمسلمين من بعده، كما تدلّ الأخبار القطعيّة والأحاديث المتواترة(١) على ذلك ـ إلّا أنّ فعلهم كان يدلّ في حدّ نفسه على أنّ الطريق الطبيعيّ لتأسيس الحكومة وإقامتها، هو انتخاب الاُمّة للحاكم والقائد، لولا النصّ.

* * *

__________________

(١) لقد أشرنا إلى بعض مصادر هذه النصوص في الصفحة ١٠٤ ـ ١٨١ من هذا الكتاب وتركنا الكثير.

٢٠٤

٧. سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم

إنّ من أبرز مسلّمات الفقه الإسلاميّ هو قاعدة ( سلطة الإنسان على ماله ) التي هي مفاد قول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس مسلطون على أموالهم »(١) .

فإذا كان الناس مسلّطين على أموالهم بحيث لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلّا بإذن أصحابها، فهم ـ بطريق أولى ـ مسلّطون على أنفسهم، فلا يجوز لأحد أن يحدّد حرياتهم، ويحمل نفسه عليهم أو يتصرّف في مقدّراتهم وشؤونهم دون إذنهم.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر نرى ؛ أنّ إقرار النظام يستلزم بالضرورة تصرّفاً في أموال الناس ونفوسهم وتحديداً لحرياتهم المشروعة بالذات، فإنّ الجمع بين هذين الأمرين ( سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم، واستلزام أقرار النظام، التصرّف في تلك الأموال والنفوس )، هو بأن تكون الدولة التي تقيم النظام نابعةً من انتخاب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ.

وبعبارة أوضح: إنّ سيادة أي نظام على الناس لا تخلو من السلطة على أموالهم وأرواحهم والتصرّف فيها بالضرورة لأنّ من النظام أخذ الضرائب، وتنظيم الصادرات والواردات وتحديدها، وذلك بوضع القيود اللازمة عليها، وتنظيم الحريات والعلاقات

__________________

(١) مبدأ البرهان في هذا الدليل هو القاعدة المسلّمة بين الفقهاء وهي ( الناس مسلّطون على أموالهم ) وقلنا: إذا كان الناس مسلّطين على أموالهم فبالأولى أن يكونوا مسلّطين على نفوسهم.

غير أنّه يجب التنبيه على نكتة وهي أنّ الأولوية في الجانب السلبيّ لا الجانب الإيجابيّ.

والمقصود من الجانب السلبيّ أنّه إذا كان للأنسان أن يردّ الغير عن التصرّف في ماله فبالأولى يكون له ردُّ الغير عن التصرّف في نفسه، إذ جواز الردّ في جانب الأموال يستلزم جوازه في جانب النفس بطريق أولى.

وأمّا الجانب الإيجابيّ فليست هناك أيّة ملازمة والمراد منه هو أنّه إذا جاز للرجل أن يتصرّف في ماله فبالأولى له أن يتصرّف في نفسه، ومن المعلوم بطلان هذه الملازمة.

٢٠٥

وإرسال الجيوش إلى ميادين القتال، واستحضار الأفراد للخدمة العسكريّة، وما شابه ذلك ممّا يكون به حفظ النظام وصيانته وإقراره، ولـمّا كان حفظ النظام واجباً مفروضاً عقلاً وشرعاً وكان ممّا لا يتحقّق إلّا بإقامة دولة قويّة ذات سلطة واقتدار، يتراءى ـ في بادئ النظر ـ أنّه يصطدم مع ما أقرّه الإسلام للإنسان من سلطة وسلطان على أمواله ونفسه فكان الحلّ، هو أن تكون الدولة المتصرفة واقعةً موقع رضاهم، حتّى يكون التصرّف بإذنهم ورضاهم حفظاً للقاعدة المسلّمة ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى أنفسهم.

* * *

٨. الحكومة أمانةٌ عند الحاكم

إنّ تشكيل الدولة وانتخاب الحاكم الأعلى، حقّ اجتماعيّ للاُمّة ولها أن تستوفي هذا الحق متى شاءت وأرادت وهذا يعني أنّ الحكومة ( أمانة ) عند الحاكم تعطيها الاُمّة له، وعليه أن يحرص على الأمانة غاية الحرص، ويواظب على أدائها أشدّ المواظبة.

أقول: إنّ هذه الحقيقة تستفاد من بعض الآيات والأحاديث العديدة التي تصف الحكم بأنّه أمانة، ومنها قول الله سبحانه:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء: ٥٨ ـ ٥٩ ).

إنّ الخطاب في قوله سبحانه( يَأْمُرُكُمْ ) موجّه إلى الحكام بقرينة قوله( وَإِذَا حَكَمْتُم ) وهذه قرينة على أنّ الأمانة المذكورة هي: الحكومة.

ويؤيّد كون المراد من الأمانة هو ( الحكومة ) ما جاء في الآية الثانية من الحثّ على إطاعة الله وإطاعة الرسول واولي الأمر، فمجيء هذه الآية عقيب الآية المتضمنة لكلمة الأمانة، يؤيّد أنّ المراد بالأمانة المذكورة هو ( الحكومة ) وأنّ الكلام في الآيتين إنمّا هو

٢٠٦

حول ( الحكومة ) وما لها وما عليها من الحقوق والواجبات.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على كون المراد من أهل الأمانة هو « الناس » فعندئذ تدل الآية على، أنّ الحكومة نابعة من جانب الاُمّة، وإن كانت نابعةً من جانب الله بالأصالة، وهي أمانة بيد الحاكم، ووديعة في عنقه، يطلب منه أداؤها. غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود من أهل الأمانة هو ( الله ) سبحانه وتعالى، فإن الحكومة له لا غير كما قال في كتابه الكريم:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ ) فعندئذ لا يتمّ الاستدلال بالآية على المطلوب، ولكنّ الإجابة عن هذا الاحتمال واضحة، فإنّ الحكومة كما قلنا في الجزء الأوّل، حقّ ذاتيّ لله تعالى، ولا يعني من كونه حقّاً للناس أنّه حقّ أصيل لهم في قبال كونه حقّاً لله سبحانه، بل المراد أنّه حقّ أعطاه الله سبحانه له.

وبعبارة أخرى: ليس المقصود أنّ للشعب سيادةً وحاكميّةً في عرض السيادة والحاكميّة الإلهيّة، بل هما حقّان من نوعين، أحدهما حقّ مستقل وذاتيّ، والآخر حقّ تبعيّ موهوب، وهما لذلك يجتمعان دونما تضادّ وتباين، ولا منافاة بين أن يكون أهل الأمانة هو الاُمّة أو الله سبحانه.

وممّا يؤيّد القول بأنّ المراد من ( اهلها ) هو الناس، ما ورد في هذا الصدد من الاحاديث التي يستفاد منها كون ( الحكومة ) أمانة في عنق الحاكم، أو أنّ الحكّام خزّان الرعيّة ومؤتمنون على الحكومة، ومسؤولون عنها، إلى غير ذلك من النصوص التالية :

يقول الإمام عليّعليه‌السلام لأحد ولاته: « إنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعىً لما فوقك ليس لك أن تفتات في رعيّة »(١) .

ويقولعليه‌السلام أيضاً: « أيّها الناس إنّ أمركم هذا ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمرتم، وإنّه ليس لي دونكم إلّا مفاتيح مالكم معي »(٢) .

ويقول الإمامعليه‌السلام أيضاً: « انصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥).

(٢) الكامل لابن الأثير ٣: ١٩٣.

٢٠٧

فإنّكم خزّان الرّعيّة ووكلاء الاُمّة »(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً ما روي حول الآية عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوه، وأن يجيبوه إذا دعوا »(٢) .

فهذه العبارات صريحة في كون الاُمّة هي صاحبة الأمانة، التي هي الحكومة والسيادة، لأنّ الحكام حسب هذه النصوص ليسوا إلّا حفظةً للسلطة وحراسها وخزاناً لها لا أصحابها. ويؤيّد ذلك أيضاً، أنّ الروايات والأحاديث تضافرت من أهل البيت: حول الآية، وهي تفسرها بالإمامة التي يجب على كلّ إمام أن يؤدّيها إلى الإمام الذي بعده.

ففي تفسير البرهان في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى آخر قوله تعالى) عن زرارة عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا ) فقالعليه‌السلام : « أمر الله الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده ليس له أن يزويها عنه، ألا تسمع قوله:( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ) هي الحكّام يا زرارة، إنّه خاطب بها الحكّام »(٣) .

نعم، إنّ الجمع بين المعنى ( وهو كون المقصود من الأمانة هو الحكومة التي تسلمّها الاُمّة إلى الحاكم ) والمعنى الثاني ( الذي روي عن أهل البيت من أنّ المقصود هو أداء كلّ إمام الإمامة إلى من بعده ) يحتاج إلى تأمّل ودقة تفكير.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه، أنّ المفسر الإسلاميّ الكبير الطبرسيّ فسّر ( الأمانة ) في الآية بأنّ المراد هو ( الفيء وغير الفيء ) الذي يجب إيصاله إلى الاُمّة، أصحابها

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥١٥).

(٢) الأموال لأبي عبيد: ١٢، ٣٨٨.

(٣) تفسير الميزان ٥: ٣٨٥ نقلاً عن البرهان قال العلاّمة الطباطبائيّ: وصدر هذا الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهمعليهم‌السلام .

٢٠٨

الحقيقيين وهو داخل في موضوع الحكومة، وأعمالها وصلاحياتها ومسؤوليّاتها ويقول: ( ومن جملتها ( أي من جملة الأمانات ) الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة )(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام قال في ذيل هاتين الآيتين: « آيتان إحداهما لنا، والأخرى لكم »(٢) .

وعنى الإمام بالاولى قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) وبالثانية قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ) .

٩. كتب الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام إلى معاوية قبل نشوب الحرب بينهما: « إنّ عليّاً لـمّا مضى لسبيله ( رحمة الله عليه يوم قبض ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّا ) ولاّني المسلمون الأمر من بعده فادخل فيما دخل فيه النّاس »(٣) .

وهذه العبارات صريحة في أنّ القاعدة المركوزة في أذهان المسلمين ( لولا التنصيص من الله سبحانه على شخص معيّن ) هي انتخاب المسلمين لحاكمهم، بحيث يجب ـ بعد انتخابه ـ دخول المخالف والمعارض فيما دخل في جمهرة الناس، ولذلك مضى الإمام الحسنعليه‌السلام يلفت نظر معاوية إليها.

١٠. ذمّ الإمام الصادقعليه‌السلام من يجبر الناس على حكمه بالسوط والسيف: ممّا يعني أنّ الشارع المقدس لا يرضى بالحاكم الذي يحمل نفسه على رقاب الناس قهراً ويحكمهم دون رضاهم، وذلك عندما قال له رجل: إنّه ربّما تكون بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا ؟ [ أي هل فيه بأس ] فقال الإمامعليه‌السلام : « هذا ليس من ذاك إنّما ذاك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسّوط »(٤) .

__________________

(١ و ٢) مجمع البيان ٢: ٦٣.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤: ١٢.

(٤) المستدرك ٣: ١٨٧ نقلا عن دعائم الإسلام.

٢٠٩

١١. قال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

« الواجب في حكم الله والإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدّم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم، عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم، ويقيم حجّتهم ويجبي صدقاتهم »(١) .

وهو صريح في أنّ على الاُمّة أن تبادر إلى انتخاب حاكمها ( لولا النصّ على أحد طبعاً ).

١٢. وممّا يؤيّد ما ذكرناه من أنّ القاعدة المركوزة في أذهان الناس في مجال الحاكم كانت هي أن يكون الحاكم منتخب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ هو ما كتبه رجال من أهل الحكومة إلى الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام :

« بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليك فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتآمر عليها بغير رضا منها ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ».

ولأجل ذلك كتب الإمام الحسينعليه‌السلام إليهم قائلاً: « أن بلغني أنّه قد اجتمع رأي ملئكم ذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم »(٢) .

فهذه الوجوه الاثنا عشر ـ عند التدبّر ـ تعطي للاُمّة، الحريّة الكاملة في انتخاب حكامّها تحت الضوابط الشرعيّة أو تدلّ ـ على الأقلّ ـ على لزوم كون الحكومة مورد رضاها.

__________________

(١) أصل سليم بن قيس: ١٨٢، وبحار الأنوار ٨: ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٢) الكامل للجزري ٣: ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٢١٠

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

قد اتضح من البحث المتقدّم، أنّ رضا الاُمّة وانتخابها يعدّ منبعاً للسلطة، وعندئذ ينطرح السؤال التالي :

إذا كانت إرادة الاُمّة منبعاً للسلطة في الحكومة الإسلاميّة وهي بنفسها مصدر للسلطة في الديمقراطيّة الغربيّة أيضاً فما الفرق بين الحكومتين ؟

الجواب :

إنّ المراد بكون الاُمّة ذات سيادة وحقّ في الحكومة الإسلاميّة يختلف عن السيادة الشعبيّة التي تقول بها الأنظمة الديمقراطيّة.

فالاُمّة في ظل الإسلام يجب أن تختار حاكماً متّصفاً بالشروط والصفات المعتبرة في الحاكم الإسلاميّ، من الفقه والعدل والدراية السياسيّة والمقدرة الإدارية، وغيرها من الشروط والمواصفات التي سيأتي ذكرها مفصّلاً في صفات الحاكم بينما يختلف الأمر عمّا هو عليه في الديمقراطيّة إذ في ظل هذا النظام يحقُّ للشعب أن يختار من يريد سواء أكان صالحاً أم لا، وسواء أكان متحلّياً بالمؤهّلات والشروط المذكورة أم لا.

كما أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى أن يمشي ويسير وفق النظام الإسلاميّ وليس له أن يحيد عن ذلك قيد شعرة، بينما يكون الأمر في النظام الديمقراطيّ على غير هذا

٢١١

النحو ؛ حيث يجب على الحاكم المنتخب أن يسير وفق ما يريده الشعب ويرتضيه ويرتئيه صالحاً كان أو فاسداً، وحقّاً كان أو باطلاً.

وبذلك يظهر، أنّه لا جامع ولا تشابه بين النظامين حتّى يرد على الاسلوب الإسلاميّ في ( انتخاب الحاكم من جانب الشعب ) ما يرد على الاسلوب الديمقراطيّ ولأجل ذلك، نجد أنفسنا في غنىً عن الإجابة على تلكم الإشكالات والاعتراضات والمؤاخذات. نعم لا بأس مع ذلك بالإشارة إلى ما أورد على الديمقراطيّة من اعتراضات ومؤاخذات تتميماً للفائدة.

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة

إنّ الديمقراطيّة التي يعنى منها حكومة الشعب على الشعب عن طريق انتخاب النوّاب والحكام وذلك على النمط الغربيّ الذي يعتمد على تغليب الأكثريّة وترجيح آرائها، ينطوي على ثلاثة معايب رئيسيّة :

أوّلاً: إنّ الحاكم المنتخب يكون تابعاً للناس، وليس تابعاً للمصالح والحقائق، فإنّ الحاكم الذي يعتمد على آراء الناس وأصواتهم ( لا الضوابط والمؤهّلات والمعايير ) سيحاول دائماً أن يفعل ما يرضيهم، ويخطب ودّهم ويحقّق ما يشاؤون حقّاً كان أو باطلاً، وسيحاول مثل هذا الحاكم والنائب أن يكيِّف نفسه وفق أهواء ناخبيه، لا أن يهديهم ويرشدهم إلى مصالحهم الحقيقيّة، ويعمل بما يقتضيه الواقع في شأنهم، فما أكثر النوّاب الذين تجاهلوا نداءات الضمير إرضاءً للناس وإبقاءً على تأييدهم وكسباً لآرائهم وأصواتهم في المراحل التالية والدورات الاخرى. وما أكثر الأشخاص الصالحين الذين أرادوا أن يتّبعوا الحقّ والمصلحة الحقيقيّة لإرضاء الناس فخسروا تأييد الناس، وخسروا أصواتهم.

ثانياً: إنّ الشرط الأساسيّ لصحّة الانتخاب الشعبيّ، هو أن يكون الناخبون على درجة من الرشد الفكريّ والوعي والبصيرة حتّى لا يقعوا فريسة العواطف الرخيصة

٢١٢

والحادّة عند اختيار النوّاب أو الحكّام.

فلو توفر مثل هذا الشرط كان الانتخاب انتخاباً صحيحاً، ومفيداً.

ولكنّ المشكلة هي أنّ الأكثريّة الساحقة والتي هي الملاك في النظام الديمقراطيّ تفقد مثل هذه البصيرة والوعي والرشد الفكريّ، فإنّ الوعي والتفكير يختصان بطبقة خاصّة دون جمهرة الناس وسوادهم، فهي وحدها تفعل على بصيرة وبوعي، وأمّا الأكثرية الساحقة، فتتّبع في فعلها وتركها الأهواء الشخصيّة والتوجيهات التي يقوم بها اللاعبون خلف الستار من السياسيين ومحترفي السياسة.

فهل يمكن أن ننسى ما يعمله المرشّحون للنيابة أو الرئاسة لكسب هذه الأكثريّة من التوسل بجميع الوسائل الإغرائيّة، والأجهزة الدعائيّة والإعلاميّة ؟ فهم يستخدمون كل وسيلة رخيصة حتّى الفتيات والراقصات والأفلام الخليعة وإعطاء الوعود الخلاّبة، لاكتساب المزيد من أصوات الناس، إذ بهذه الاُمور يمكن الاستحواذ على عواطف أكثرية الجماهير، واستمالتهم، تلك الأكثريّة التي تتألف ـ في الأغلب ـ من السذّج، والبسطاء وغير المثقفين، فكيف يمكن أن تكون هذه الأكثرية ملاكاً لصحّة الانتخاب ومشروعيّته ؟

ثالثاً: إنّ تغليب الأكثريّة ولو بصوت واحد لا يكون ( عدلاً ) مضافاً إلى أنّه لا يجعل ما اختارته الأكثريّة ( حقاً ) لا نقاش فيه.

وإنّما لا يكون عدلاً، لأنّ تغليب هذه الأكثريّة ـ حتّى لو حصلت باسلوب صحيح بعيد عن المؤثّرات والإغراءات والاحتيالات ـ تجاهل لحقّ ما يقارب نصف المجتمع ومصالحه وإجحاف بحقّهم وهو إجحاف أدركه الغرب نفسه وتفطّن له كبار مفكّريه، وحقوقيّيه، واجتماعيّيه، ولكنّه لم يجد مفرّاً منه لأنّه لايعرف نهجاً بديلاً عنه، ولأجل ذلك لا يكون حقاً أيضاً.

هذه بعض معايب الديمقراطيّة وانتخاب الشعب لحكّامه ونوّابه على النهج الشائع في الأنظمة الديمقراطيّة وهو قليل من كثير.

٢١٣

وهي معايب واُمور يعاني الغرب من تبعاتها وآلامها أشدّ العناء، ويتحمّل بسببها أشدّ الأذى. ولذلك يبدو ؛ أنّ الانتخاب الشعبيّ للحاكم لا يكون مثالياً ولا صالحاً.

غير أنّ ما يقرّره النظام الإسلاميّ عار عن هذه المعايب ؛ وخال عن هذه المؤاخذات وذلك لوجوه هي :

أوّلاً: أنّه لا شكّ في أنّ أفضل أنواع الحكومات هو ( الحكومة التنصيصيّة الإلهيّة ) وإنّما الكلام هو فيما إذا لم يمكن التوصّل إلى هذا النوع فإنّه لن يكون سوى طريق واحد هو، قيام الاُمّة بانتخاب حكامها، بدلاً من أن يتسلّط على مصيرها ومقدّراتها بالقوّة، من يستبدّ برأيه، ويستأثر بفيئها، ولا يكون للناس في الأمر أي إرادة وكلمة.

ثانياً: انّ هذه الاعتراضات والمؤاخذات إنّما ترد على الانتخاب على النمط الغربيّ، والذي يجري في المجتمعات والبيئات الغربيّة التي لا تتمتّع بتربية أخلاقيّة ودينيّة رفيعة، والتي لا تخضع لأيّ شروط أو مواصفات موضوعيّة ومنطقيّة لا في الناخب ولا في المنتخب، ولا يعتبر سوى المزيد من الآراء والأصوات التي تباع وتشترى، وتكتسب بالأبواق وأجهزة الإعلام، وتحت تأثير الدعايات البرّاقة والوعود المنمّقة، لا ما يجري في البيئة الإسلاميّة وعلى النمط الإسلاميّ، الذي يشترط فيه للحاكم شروط ومواصفات تجعله رجلاً مثالياً في الأخلاق، نموذجيّاً في الإدراة، ويشترط على المنتخب، أن لا يختار إلّا من تتوفّر فيه الشرائط المعتبرة في الحاكم المثاليّ(١) ، إذ لولا ذلك لكان عمله من باب الركون إلى الظالم الذي أوعد الله عليه بالعذاب الأليم وبالنار إذ قال:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود: ١١٣ ).

فيكون الانتخاب ـ في ظل النظام الإسلاميّ على العكس من النظام الديمقراطيّ ـ مسؤوليّةً للناخب والمنتخب، وليس لعبةً سياسيّة.

ثالثاً: إنّ الأدلّة الإسلاميّة تدلّ على أنّه يجب على الفقيه العادل، بل على كلّ

__________________

(١) ففي الحديث: « إنّما الإمام هو الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات الله إلى آخره » وسوف توافيك تلك الشروط في محلّها في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

٢١٤

مسلم ملتزم إذا رأى بدعةً شائعةً، وحكومةً منكرةً القيام ضدّها، ورفض شرعيّتها، وشجب عملها بل والإعلان عن إلغائها، بحكم ماله من الولاية التي له من جانب الله سبحانه كما يقول الإمام الحسينعليه‌السلام : « أيُّها الناس إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقُّ من غيّر »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها »(٢) .

وبهذا يأمن المجتمع الإسلاميّ من مخاطر الانتخاب الشعبيّ، ويسلم من تبعاته وسيئاته.

إنّ افتقاد الانتخاب الشعبيّ على النهج الديمقراطيّ الغربيّ، الضمانات التي أقامها الإسلام في الانتخاب، هو الفارق الكبير بين الانتخابين ( الإسلاميّ والغربي ) وهو بالتالي يكون سبباً لفشل الديمقراطيّة الغربيّة بخلاف الإسلام.

إنّ المجتمع الإسلاميّ الذي يرسم القرآن ملامحه في آيات عديدة ويلخِّصها في قوله:( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

إنّ مجتمعاً كهذا، من الجدير أن لا ينتخب لإدارة شؤونه إلّا ( حكومةً ) رشيدةً أمينةً رساليّةً مؤمنةً، وفيّةً للدين، ملتزمةً بالإسلام، ومخلصةً لمصالح الاُمّة وذلك على العكس من النظام الديمقراطيّ.

إنّ الأخذ بالضوابط والمقاييس التي ذكرها واشترطها الإسلام للقادة والزعماء ،

__________________

(١) الطبري ٤: ٣٠٤.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

٢١٥

كفيل أيضاً بأن يزيل جميع الاعتراضات الواردة على الانتخاب الشعبيّ ويحقّق أفضل حكومة من نوعها بين الحكومات.

* * *

السؤال الثاني :

إذا كان انتخاب الحاكم الأعلى غير مختص بفريق معيّن من أفراد الاُمّة، فلماذا يقول الإمام عليّعليه‌السلام في بعض رسائله: « وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً »(١)

الجواب :

إنّ السبب في حصر الإمام عليّعليه‌السلام حقّ انتخاب الإمام في المهاجرين والأنصار ـ بغضِّ النظر عن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في هذه الرسالة ـ هو تعذّّر إجراء الاستفتاء العامّ الشامل، وعدم إمكان استعلام آراء المسلمين كلّهم في ذلك العهد، الذي كان يفقد الوسائل الكافية للاتصال بجميع أفراد الاُمّة. وحيث أنّ تأخير الانتخاب للحاكم الأعلى ريثما يتمّ الوقوف على كلّ آراء المسلمين جميعاً، كان ينطوي على تعريض الاُمّة الإسلاميّة لأخطار جديّة حقيقيّة لا تخفى على كلّ من يعرف الأوضاع في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام، نجد الإمامعليه‌السلام يختار هذا الاُسلوب ويعلّل ذلك بقوله: « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار »(٢) .

كيف لا وقد مر عليك أيّها القارئ الكريم أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام صرّح في بعض خطبه بوضوح لا يقبل جدلاً، أن إرادة الاُمّة الإسلاميّة، هي مصدر السلطات، وأنّ الحكومة يجب أن تكون موضع رضا الناس(٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٦).

(٢) نهج البلاغة: الرسالة (١٧٣) طبعة عبده.

(٣) راجع الصفحة ٢٠٧ ـ ٢٠٨ من هذا الجزء.

٢١٦

لقد كان المهاجرون والأنصار ـ في ذلك العهد ـ بحكم سبقهم إلى الإيمان بالإسلام بمنزلة وكلاء الاُمّة الإسلاميّة، فكان ما يختارونه يقرّه الآخرون. ولأجل ذلك، اعتبر الإمام عليّعليه‌السلام ما يختاره شورى المهاجرين والأنصار ومن يتّفقون عليه للحكم، حجّةً نافذةً على الآخرين.

ولا بأس بأن نذكر في خاتمة هذا الجواب، أنّ انتخاب الحاكم الأعلى للدولة كما يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب الاُمّة مباشرةً، كذلك يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب نوّابها للحاكم الأعلى، ويكون مآل ذلك إلى رأي الاُمّة أيضاً.

ولعلّ ما ذكره الإمام عليّعليه‌السلام كان إشارةً إلى هذا الاُسلوب وكأنّ المسلمين في ذلك العصر كانوا ـ لاعتمادهم على المهاجرين والأنصار ـ يعدّونهم نوّاباً لهم، وإن لم يصرّحوا بذلك لفظاً.

يقول صاحب المنار في شأن هؤلاء المهاجرين والأنصار: ( وقد كانوا ( أي المهاجرين والأنصار ) في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يكونون معه حيث كان، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات ثمّ تفرّقوا وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام ( الخليفة ) وفي الشورى وفي السياسة والإدارة والقضاء فأمّا المبايعة، فكانوا يرسلون إلى البعيد من اُمراء الأجناد، ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم )(١) .

ثمّ إنّ استدلال الإمام بشورى المهاجرين والأنصار مع كون إمامته وخلافته منصوصاً عليها من جانب الله سبحانه، إنّما هو من باب الجدل وإفحام الخصم، وسيأتيك تفصيل ذلك عند البحث عن نظرية « الشورى أساس الحكم ».

السؤال الثالث :

لمّا كان الاتفاق على شخص واحد أمراً مستحيلاً عادةً، فعندئذ كيف ينتخب الحاكم الأعلى ؟ هل بتغليب الأكثريّة على الأقليّة، وذلك مناف لأصالة الحريّة الإنسانيّة

__________________

(١) المنار ٥: ١٩٥.

٢١٧

الفرديّة وقاعدة سلطة الإنسان على ماله ونفسه، ومستلزماً لبخس حقوق الأقليّة.

الجواب :

إذا نظرنا إلى الحياة الإنسانيّة من الزاوية الفرديّة، وأخذنا الإنسان بمعزل عن المجتمع، جاز لنا أن نستنكر هذا الترجيح، ونعتبره نقضاً صريحاً لحريّته الفرديّة وحقّه في الأخذ برأيه وانتخابه واختياره إذ لا مبرّر لذلك، ولا مسوّغ فلكلّ إنسان حقّ في إبداء رأيه وتنفيذه، ولا سلطة لأحد على أحد كما أسلفناه.

ولكنّنا لو نظرنا إلى ( الحياة الإنسانيّة ) من الزاوية الاجتماعيّة ودرسنا الإنسان والفرد وهو ضمن مجتمع متكوّن من أفراد آخرين، ذوي حقوق ومصالح مماثلة، فإنّ الحياة والعيش بالكيفيّة الاجتماعيّة حينئذ تقتضي القبول بكلّ لوازمها، ففي الحياة الاجتماعيّة تضمن المصالح، والحريّات الفرديّة في إطار المصلحة الاجتماعيّة، إذ بذلك وحده يمكن التوصّل إلى الاستقرار الاجتماعيّ وتحقيق السعادة الاجتماعيّة العامّة التي يتوقف عليها الاستقرار الفرديّ، وتتحقق في ظلّها السعادة الفرديّة ولـمّا كان الطريق الوحيد إلى حفظ النظام الاجتماعيّ وصيانة مصالح الاُمّة متوقّفة ـ بعد التشاور والمداولة ـ على ترجيح إحدى الطائفتين المختلفتين في الرأي على الاُخرى، فلا مناص من تغليب الأكثريّة على الأقليّة، لأنّ تغليب الأقليّة على الأكثريّة عند العقلاء ترجيح للمرجوح على الراجح.

من هنا يلزم على الأقليّة القبول برأي الأكثريّة وانتخابها، والتنازل عن حقّها ورأيها.

وبعبارة اُخرى: إنّ الحياة الاجتماعيّة تشبه شركة مساهمة، يشترك فيها الأفراد المتعددون بالأسهم، فكما أنّ على مشتري السهم أن يتّبع في شرائه للسهم، ومشاركته في تلك الشركة برنامج الشركة المدوّن، ويكون شراؤه بمثابة الموافقة الضمنيّة على ذلك البرنامج، فإنّ العيش ضمن الحياة الاجتماعيّة يعتبر إمضاءً لشروط الحياة الاجتماعيّة، وقبولاً بمستلزماتها وأحكامها إذ لا بقاء للحياة الاجتماعيّة، ولا قيام لأمرها إلا بهذا

٢١٨

الطريق، كما لابقاء للشركة المساهمة إلّا بموافقة أصحاب الأسهم على برنامج الشركة وأهدافها، والقبول بمتطلباتها فهو باختصار، أشبه شيء بالشرط في ضمن العقد كما هو المصطلح في الفقه، والاعتراف بالملزوم اعتراف بلازمه.

* * *

الفرق الواضح بين الترجيحين

يمكن أن ينطرح في ذهن القارئ الكريم، أنّ ما أخذنا به على الديمقراطيّة الغربيّة جار في المقام، إذ قلنا هناك بأنّ ترجيح الأكثريّة ولو بصوت واحد بخس وتجاهل لحقّ الأقليّة، وعندئذ فما الفرق بين الترجيحين الحاكمين في الديمقراطيّة الغربيّة والحكومة الإسلاميّة ؟

غير أنّ القارئ الكريم الذي لمس حقيقة الحكومة الإسلاميّة يقف على الفرق الجوهريّ بين الترجيحين، فإنّ الأكثريّة في النظام الديمقراطيّ الغربيّ تأخذ بزمام الحكم وتتصرف في مصير المجتمع بأيّ نحو شاءت، وليس هناك ضابطة غالباً تحدد تصرّفاتها في مقابل الأقليّة، سواء أكانت في مجال التقنين والتشريع أم في مجال التطبيق والتخطيط، إذ لا يشترط في المتصرِّف شيء من الشرائط سوى تصويت الأكثريّة له. ولذلك لا رادع هناك من أي بخس وتجاوز لحقوق الأقليّة من جانب الأكثريّة الحاكمة.

أمّا الحكومة الإسلاميّة، فالأقليّة والأكثريّة كلاهما يتّبعان حكماً وقانوناً واحداً لا يختلفان في ذلك أبداً، فليس لهما إلّا الاتّباع لما شرعه الإسلام وجاء به الكتاب والسنة، وإنمّا الاختلاف في اُسلوب التطبيق والتخطيط، فليس للحاكم الأخذ بزمام الحكم أن يتجاهل حقوق الأقليّة، كما أنّه ليس للطرف الآخر الخروج عن دائرة الحقّ والعدل المتمثّلين في الشريعة المقدسة فتبقى هناك مسألة التصدّي لمقام الحكم ولا مناص من ترجيح الأكثريّة على الأقليّة حفظاً لنظام المجتمع وإبقاءً على وحدته وكيانه، ويتضح ما ذكرناه إذا لاحظنا مواصفات الحاكم وشرائطه في الحكومة الإسلاميّة كما ستوافيك في الفصل القادم.

٢١٩

السؤال الرابع :

ولاية الفقيه ومكانتها

في

الحكومة الإسلاميّة

ربّما يتصور البعض، أنّ القول بولاية الفقيه التي اتّفق على أصلها في الجملة جميع الفقهاء في فقه الإماميّة، يتنافى مع ما مر تقريره من إثبات السيادة للاُمّة وحقّها في انتخاب حكّامها ونوّابها.

الجواب :

إنّ البحث في ولاية الفقيه، وتوضيح حقيقتها ودلالتها، وبيان ما حولها من حقائق، يحتاج إلى تأليف رسالة، وقد أغنانا عن ذلك ما كتبه قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخمينيّقدس‌سره فنقول باختصار :

إنّ ما ذكرناه في « صيغة الحكومة الإسلاميّة » وتركيبتها هو ما يمكن لكلّ مطالع في الإسلام، استنباطه من الكتاب والسنّة بجلاء، غير أنّ هناك في فقه الشيعة الإماميّة « عنصراً خاصّاً » في الحكومة الإسلاميّة هو عنصر « ولاية الفقيه » الذي لا نجد مثيله في سائر المذاهب، وينبغي للقارئ الكريم أن يتعرّف على هذا العنصر استكمالاً لمعرفته بجميع عناصر الحكومة الإسلاميّة في عامّة المذاهب الفقهيّة.

إنّ الحديث عن ولاية الفقيه يقع في أمرين :

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627