مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219080 / تحميل: 6015
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

النفسيّ، وإظهار الطاعة القلبيّة بعمل محسوس.

ثمّ لو كانت ( البيعة ) الطريق الوحيد لانتخاب الحاكم وتعيين القائد، لوجب أن يرد لها ذكر في أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين: ولقد كان الإمام عليّعليه‌السلام هو الخليفة الوحيد الذي انتخب للحكم عن طريق البيعة دون بقيّة الخلفاء، فالاُمّة لم تبايع أيّاً من الخلفاء الأربعة بحقيقة البيعة، سواه أللّهم إلّا في أبي بكر والتي كانت البيعة في مورده بيعةً ناقصةً، أقتصرت على بعض المسلمين لا عامّتهم(١) ، وكانت بمثابة التسليم للأمر الواقع.

وهناك أحاديث غامضة حول البيعة تحتاج إلى الدراسة والتحقيق فلتراجع المصادر التالية :

بحار الأنوار ( الجزء ٢ ) كتاب العلم ( باب ٣٣ ) الأحاديث: ٢١ و ٢٢ و ٢٣ و ٢٨. وبحار الأنوار ( الجزء ٢٧ ) كتاب الإمامة ( الباب ٣ ) الأحاديث: ١ و ٤ و

__________________

(١) كما مرّ عليك سابقاً.

٢٤١
٢٤٢

الفصل الرابع

صفات الحاكم الإسلاميّ

إنّ أهميّة ( القيادة والحكم ) في حياة الاُمّة وخطورتها البالغة وما يترتّب عليها من سعادة وشقاء، تقتضي اعتبار سلسلة من الشروط والصفات في الحاكم، والرئيس لولاها لانحرفت القيادة عن طريق الحقّ، وانتهت بالاُمّة إلى أسوء مصير. ولقد فطن الإسلام إلى ذلك الأمر الخطير والناحية الحسّاسة، فاشترط وجود صفات معينة في الحاكم والرئيس وقد فرض على الاُمّة الإسلاميّة مراعاة هذه الأوصاف والشروط عند انتخاب الحاكم

وها نحن نشير فيما يلي إلى بعض هذه الصفات، مع الإشارة إلى شيء من أدلتها وفلسفتها على نحو الإجمال والاختصار :

١. الإيمان :

وهو الإعتقاد القلبيّ بالإسلام عقيدةً ونظاماً وخلقاً كما في القرآن الكريم والسنّة المطهرة، ويدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى أنّ الدين الإسلاميّ أفضل المبادئ وخير المناهج، وأنّ العقيدة بالله تعالى، وبشرائعه من مبادئه الأوّليّة فلا يحقّ للكافر بها أن يسود المؤمنين ؛ بحكم العقل ؛ لأنّ ذلك يكون من قبيل تسويد من لا كفاءة له على صاحب

٢٤٣

الكفاءة التامّة ـ قوله سبحانه:( وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ( النساء: ١٤١ ).

وأيّ سبيل أقوى من الولاية والحكومة على المؤمنين.

* * *

٢. حسن الولاية والقدرة على الإدارة :

إنّ صلاحية الشخص للحكم والإدارة منوطة بقدرته على القيام بلوازم الولاية وأعبائها، فحسن الولاية والكفاءة الإدارية شرط أساسيّ لاحتلال مقام الحكومة والرئاسة، إذ التأريخ البشريّ قديماً وحديثاً يشهد بأنّ تصديّ الحكّام غير القادرين على الإدارة وغير الأكّفاء للولاية جرّ على الشعوب والاُمم ـ وخاصّةً الإسلاميّة ـ أسوء المآسي، وأشد الويلات.

إنّ بداهة هذا الشرط وأهميّة هذه الصفة واضحة لكلّ أحد بحيث لا نحتاج إلى إقامة دليل عليها، فالقيادة توجب بذاتها هذا الشرط وتوفّر مثل هذه الصفة في الحاكم والرئيس حتّى إذا لم يقم على ذلك دليل من خارج.

وإلى أهمية هذه الصفة الحيوية في الحاكم يشير الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول: « لا تصلُح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاثُ خصال :

١. ورع يحجزه عن معاصي الله.

٢. وحلم يملكُ به غضبهُ.

٣. وحسنُ الولاية على من يلي حتّى يكون كالوالد ( وفي رواية كالأب ) الرحيم »(١) .

بل ويشترط الإسلام أن يكون الحاكم أكفأ من غيره على الإدارة، وأقدر من غيره

__________________

(١) الكافي ١: ٤٠٧.

٢٤٤

على الولاية والقيادة.

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « أيّها الناسُ إنّ أحقَّ الناس بهذا الأمر أقومهم [ وفي رواية أقواهم ] وأعلمهم بأمر الله فإن شغب شاغب استُعتب وإن أبى قُوتل »(١) .

إنّ أهم ما يشترط في الحاكم في نظر الإسلام هو حسن الولاية على من يلي اُمورهم، والمقدرة الكافية على قيادتهم، إذ بذلك يمكن للحاكم والرئيس أن يلمَّ شعث المسلمين، ويجمع شملهم، ويدفعهم إلى مدارج الكمال والتقدّم، ويجعلهم في المقدّمة من الشعوب والاُمم، وفي القّمة من الحضارة المدنيّة والازدهار، وحسن الولاية، هذا هو ما يسمّيه ويقصده السياسيّون اليوم بالنُضج العقليّ والرُشد السياسيّ.

٣. التفوّق في الدراية السياسيّة :

على أنّ مجرّد المقدرة وحسن الولاية لا يكفي كما عرفت في منطق الإسلام بل يشترط أن يكون الحاكم الإسلاميّ متفوّقاً على غيره في الدراية السياسيّة فيكون أوسع من غيره في الاطّلاع على مصالح الاُمّة، وأعرف من غيره باُمورها وحاجاتها، لكي لايغلب في رأيه، ولا يُخدع في إدارته، ولكي يصل المجتمع الإسلاميّ إلى أفضل أنواع القيادة وأدراها، وأكفأها.

من أجل ذلك يتعين على الحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة أن تبلغ رؤيته السياسيّة والاجتماعيّة درجةً يستطيع معها أن يقود الاُمّة سياسيّاً واجتماعيّاً ويدفع بهم في طريق التقدم جنباً إلى جنب مع الزمن.

وهذا يستلزم أن يكون الحاكم الأعلى للاُمّة مُلماً بالأوضاع السياسيّة وعارفاً بما يجري على الساحة الدوليّة من تطورات سياسيّة لكي يحفظ اُمّته من كلّ ما يمكن أن يتوجّه إليها من أخطار.

يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد: « العالمُ بزمانه لا

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (١٧٢).

٢٤٥

تهجمُ عليه اللوابسُ »(١) .

فإنّ من يسوس الاُمّة ويقودها دون بصيرة بالأحوال والأوضاع المحيطة بها يجرّ إليها الويل والانحراف عن جادّة الحقّ كما قال الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : « العاملُ على غير بصيرة كالسَّائر على غير الطَّريق، لا تزيده سرعة السير من الطريق إلّا بُعداً »(٢) .

إنّ تسليم القيادة الجماعة إلى من لا يعرف شؤون السياسة والإدارة، ولا يحسن الولاية والإمرة، يكون كإعطائها إلى الصبيان وهو أمر معلوم العواقب، واضح المخاطر كما يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « يأتي على الناس زمان لا يُقرّب فيه إلّا الماحلُ ( أي الساعي في الناس بالوشاية ) ولا يُظرّف فيه إلّا الفاجر ».

إلى أن قالعليه‌السلام : « فعند ذلك يكون السلطانُ بمشورة النساء، وإمارة الصبيان »(٣) .

ومن المعلوم أنّ المراد من قولهعليه‌السلام من إمارة الصبيان هو الإشارة إلى تفويض الاُمور إلى من لا يتمتع بالرشُد السياسيّ، والخبرة القياديّة، والبصيرة الإداريّة، وليس المراد من الصبيّ ـ في المقام ـ هو غير البالغ شرعاً وذلك بقرينة أنّ الإمام يتحدث عن زمن تضيع فيه المقاييس الصحيحة للسياسة والاجتماع، فبدل أن تسلّم فيه القيادة إلى ذوي الفهم والفكر والكفاءة تُسلّم إلى من لا يملك ذلك.

إنّ تأكيد الإسلام على هذا الشرط ـ بهذه الدرجة الكبيرة من التأكيد ـ إنّما هو لصيانة الاُمّة الإسلاميّة من التورّط في المشاكل بسبب ضعف القادة والحكام في السياسة أو غفلتهم عن مقتضيات عصرهم، وجهلهم بمتطلبات زمانهم وضروراته، فبسبب هذا الضعف والجهل والغفلة يمكن أن تقع الاُمّة الإسلاميّة فريسةً للمؤامرات الأجنبيّة الشرسة، وتغدو آلةً طيّعةً بأيدي الأعداء، لتنفيذ أغراضهم، وتحقيق مقاصدهم، وهو أعظم ما تصاب به الأمم والشعوب في حياتها وتاريخها.

__________________

(١ و ٢) الكافي ١: ٢٧، ٤٣.

(٣) نهج البلاغة: الحكم رقم (١٠٢).

٢٤٦

٤. العدالة :

إنّ أهمّ ما يجب أنّ يتحلّى به الحاكم الإسلاميّ والرئيس الأعلى للحكومة الإسلاميّة ـ بعد حسن الولاية ـ هو أن يكون متصفاً بالعدالة، بعيداً عن المعاصي والذنوب فأيّ حاكم يمكن أن يؤتمن على مصير الاُمّة، ومقدّراتها ويكون ملتزماً بالدين، ومخلصاً لواجباته ووفيّاً لمصالح الاُمّة، ما لم يتصف بالعدالة التي هي حالة نفسانيّة تمنعه من ارتكاب الذنوب، وتردعه عن اقتراف المعاصي، التي منها الخيانة، والكذب، والتضليل، والغلول.

ولعلّ أوضح ما يدلّ على لزوم وجود مثل هذه الصفة في الحاكم، وحثّ الناس على اعتبارها وملاحظتها فيه عند اختياره وانتخابه هو قوله تعالى:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ) ( هود: ١١٣ ).

وأيّ ركون إلى الظلم أعظم من تسليط الحاكم الفاسق، والقبول بولايته، والانصياع لأوامره وتسليم مقدرات الاُمّة إليه ؟

وقال سبحانه:( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف: ٢٨ ).

وفي آية أُخرى يعتبر طاعة الأسياد الفاسدين الفاسقين موجباً للضلال وينقل عن لسان المضلَّلين بهم وقولهم:( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) ( الأحزاب: ٦٧ ).

وأنت إذا لاحظت الآيات الواردة حول الإطاعة تجد أنّ إطاعة الفاسق أمر محرّم بنص الكتاب فراجع الآيات الواردة بهذا الصدد.

وفي هذا المجال قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تصلُح الإمامةُ إلّا لرجل فيه ثلاثُ خصال: ورع يحجزه عن محارم الله »(١) .

__________________

(١) الكافي ١: ٤٠٧.

٢٤٧

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدِّماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين :

١. البخيل، فتكون في أموالهم نهمتهُ

٢. ولا الجاهل، فيُضلَّهم بجهله

٣. ولا الجافي، فيقطعهم بجفائه

٤. ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم

٥. ولا المُرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ( أي الحدود التي عيّنها الله لها ).

٦. ولا المُعطّل للسّنّة فيهلك الاُمّة »(١) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « من نصب نفسه للنَّاس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحقّ بالإجلال من معلّم النَّاس ومؤدّبهم »(٢) .

قال الإمام عليّعليه‌السلام : « لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلّا بإمام عدل »(٣) .

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوم واحد من سطان عادل خير من مطر أربعين يوماً، وحدّ يقام في الأرض أزكى من عبادة سنة »(٤) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « وعدل السلطان خير من خصب الزَّمان »(٥) .

وقال الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام : « فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الله، الحابس نفسه على ذات الله »(٦) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (١٢٧) شرح عبده.

(٢) نهج البلاغة: الحكم الرقم (٧٣).

(٣) الكافي ١: ٣١٤.

(٤) المستدرك ٣: ٢١٦.

(٥) البحار ٧٨: ١٠.

(٦) روضة الواعظين: ٢٠٦، الإرشاد للمفيد: ٢١٠.

٢٤٨

وقالعليه‌السلام أيضاً: « إنّما الخليفةُ من سار بكتاب الله وسُنّة نبيّه »(١) .

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « ايّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد هؤلاء الفُسّاق »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « اتقوا الله وأطيعوا إمامكم فإنَّ الرَّعيَّة الصَّالحة تنجو بالإمام العادل، ألا وإنَّ الرَّعيَّة الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر »(٣) .

وقال الإمام الكاظمعليه‌السلام : « طاعة ولاة العدل تمام العزِّ »(٤) .

وكتب الإمام عليّعليه‌السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامله على أرديشرخرة: « أمَّا بعد فإنَّ من أعظم الخيانة خيانة الاُمّة، وأعظم الغشِّ على أهل المصر غشّ الإمام »(٥) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « اتقوا الحكومة إنَّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين كنبيّ أو وصيِّ نبيّ »(٦) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إيّاكُم أن يُحاكم بعضُكُم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلمُ شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلتُهُ قاضياً فتحاكموا إليه »(٧) .

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أحبّ النَّاس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغضُ الناس إلى الله، وأبعدهم منهُ مجلساً إمام جائر »(٨) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرَّحمن وكلتا يديه

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٦: ٤٩.

(٢) التهذيب ٦: ٣٠٣.

(٣) البحار ٨: ٤٨٢.

(٤) تحف العقول: ٢٨٢.

(٥) البحار ٨: ٦١٨.

(٦) وسائل الشيعة ( كتاب القضاء ) ١٨: الباب ٣ الطبعة الجديدة نقلاً عن الكافي ٧: ٤٠٦.

(٧) الوسائل ١٨: أبواب صفات القاضي الباب (١).

(٨) جامع الاُصول ٤: ٥٥ أخرجه الترمذيّ.

٢٤٩

يمين، الَّذين يعدلون في حُكمهم وأهلهم وما ولوا »(١) .

إنّ الحديث الأخير وإن كان حول القضاء والفصل بين الخصومات إلّا أنّ اعتبار هذه الصفة في مقام القيادة والزعامة العليا يكون أقوى بدليل الأولويّة، لأنّ مقام الرئاسة العليا والقيادة أكثر خطورةً وأهميّةً من مقام القضاء، ومسؤوليّة الفصل بين الخصومات ولذلك فهو أكثر حاجة إلى اعتبار وصف العدالة.

أضف إلى ذلك، أنّ من كان يتصدّى للقضاء ـ في تلك العهود ـ كان نفسه يشغل مقام الحكم والإدارة أيضاً

ثمّ إذا كان وصف العدالة مشترطاً في إمام الجماعة الذي يؤم جماعةً من المصلّين وهو عمل محدود ومؤقت، كما نعلم، فمن الأولى أن يكون مشترطاً في الحاكم الإسلاميّ للاُمّة المتربّع علس مسند القيادة العامّة والآخذ بمقدرات الاُمّة، والمتصرف في عامّة شؤونها، والمدبّر لاُمورها في شتى المجالات الحيويّة في خضمِّ الحياة السياسيّة.

* * *

٥. الرجولة :

إذا كان الإسلام يشترط أن يكون الوالي والحاكم والقاضي رجلاً فليس لأجل أنّه يريد الحطّ من كرامة المرأة والتقليل من شأوها وشأنها، أو احتقارها، إنّما يقوم بهذا العمل مراعاةً للظروف والنواحي الطبيعيّة في المرأة والخصائص التكوينيّة التي تقتضي مثل هذا التفاوت في موضوع الرئاسة العليا، كما أنّ مبدأ توزيع المسؤوليات الاجتماعيّة وتقسيم الوظائف حسب الإمكانيات يقتضي من جانب آخر إيكال كلّ مسؤوليّة ووظيفة إلى من يمكنه ـ بحكم طبيعته ـ القيام بها، وأدائها.

وحيث إنّ ( المرأة ) انسانة عاطفية أكثر من الرجل، لذلك، فهي قد اعفيت في ـ منطق الإسلام ـ من المسؤوليّات الشاقة والواجبات الثقيلة، وأوكل كلّ ذلك إلى

__________________

(١) جامع الاُصول ٤: ٥٣ أخرجه مسلم.

٢٥٠

( العنصر الرجاليّ ) باعتباره قادراً ـ بحكم خلقته وصلابة تكوينه ـ على القيام بالأعمال الخشنة والمهمّات الثقيلة العبء، ولذلك أُنيطت إليه الرئاسة العليا للاُمّة والبلاد لكونها أثقل المسؤوليّات الاجتماعيّة وأشدّها وطأةً فيما حظر على المرأة التصدي لها وتحمّلها.

فكما أنّ الرجل لا يصلح للاُمور المحتاجة إلى مزيد من العاطفة كالاُمومة والتربية، فكذلك لا تصلح المرأة للاُمور التي تحتاج إلى مزيد من الصلابة كالقيادة والزعامة.

وهذا أمر أثبتته التجارب فقد دلّت على عدم استعداد المرأة لخوض هذا الميدان بنفسها.

إنّ ( المرأة ) حسب نظر القرآن الكريم إنسانة ظريفةُ الإحساس، لطيفةُ المشاعر ولذلك، فهي تتناسب حسب حكاية القرآن عنها ـ مع الزينة والحليّ، لا مع النواحي الخشنة من الحياة البشريّة، فليس للمرأة في مقام الجدل والمناقشة منطق قويّ، وموقف صلب، لأنّها بحكم طبيعتها ومشاعرها العاطفيّة الطاغية، ميّالة إلى الزينة ميالة إلى العيش فيها إذ يقول:( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ( الزخرف: ١٨ ).

فالآية تستنكر على المشركين جعلهم البنات لله واختيارهم الذكور

يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان: ( قوله تعالى:( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ، أي ؛ وجعلوا لله سبحانه من ينشأ في الحلية، أي يتربى في الزينة، وهو في المخاصمة والمحاجّة غير مبين لحجّته، لا يقدر على تقدير دعواه.

وإنّما ذكر هذان الوصفان لأنّ المرأة بالطبع أقوى عاطفةً، وشفقةً، وأضعف تعقّلاً بالقياس إلى الرجل، وهو بالعكس، ومن أوضح مظاهر قوّة عواطفها ؛ تعلّقها الشديد بالحلية والزينة وضعفها في تقرير الحجّة المبنيّ على قوّة التعقّل )(١) .

إنّ الأدلّة الإسلاميّة ( سنّةً وسيرةً وإجماعاً ) تقتضي بأنّ المرأة لا يجوز لها أن تتصدّى

__________________

(١) الميزان ١٨: ٩٣.

٢٥١

لفصل الخصومات والقضاء وهو شعبة صغيرة من شُعب الإمارة، وما ذلك إلّا لعدم قدرتها على الاستقامة والثَّبات أمام المؤثّرات القويّة التي تعترض القضاة غالباً، وعجزها عن التزام جانب الحقّ بعيداً عن العاطفة، والتأثير العاطفيّ. فعن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « يا عليّ ليس على النساء ولا تولي القضاء »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام في وصية لابنه الحسنعليه‌السلام كتبها له بحاضرين: « ولا تملكُ المرأةُ ما جاوز نفسها فإنَّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة »(٢) .

ومن المعلوم ؛ أنّ القضاء هو أحد الاُمور الخارجة عن شؤونها الخارجة عن حيطة قدرتها

وأمّا السيرة العمليّة فلم يعهد من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة حياته أن أعطى امرأة منصب القضاء، ونصب منهنّ قاضيةً تفصل بين الخصومات(٣) .

رغم وجود طائفة من النساء ذوات علوم ومحاسن أخلاق.

بل لم يفعل ذلك حتّى الأمويّون والعباسيّون الذين ولُوا أمر الاُمّة الإسلاميّة أكثر من خمسمائة سنة رغم أنّهم ولّوا كثيراً من عبيدهم وغلمانهم وقلّدوهم المناصب الرفيعة(٤) .

وأمّا إجماع العلماء فهو أوضح من أن يخفى على أحد، فقد أجمع علماء الإماميّة كلّهم على عدم انعقاد القضاء للمرأة وإن استكملت جميع الشرائط الاُخرى، ووافقهم على ذلك طائفة من علماء الطوائف الإسلاميّة الاُخرى كالشافعي(٥) .

قال ابن قُدامة في المغني: ( إنّ المرأة لا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يولّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأةً قضاءاً ولا ولاية

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ٦ ( كتاب القضاء ).

(٢) نهج البلاغة: الرسائل الرقم (٣١).

(٣) تفسير الميزان ٥: ٣٤٧.

(٤) راجع كتاب: رسالة بديعة في تفسير آية( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) من الصفحة ٧٠ ـ ٧٦ وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.

(٥) راجع كتاب: رسالة بديعة في تفسير آية( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) من الصفحة ٧٠ ـ ٧٦ وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.

٢٥٢

بلد فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً )(١) .

وقال الشيخ الطوسيّ في « الخلاف »: لا يجوز أن تكون امرأة قاضيةً في شيء من الأحكام وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن تكون شاهدةً فيه، وهو جميع الأحكام إلّا الحدود والقصاص، وقال ابن جرير: يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن يكون الرجل قاضياً فيه، لأنّها تُعدّ من أهل الاجتهاد.

ثمّ استدل على المنع بقوله: إنّ جواز ذلك يحتاج إلى دليل لأنّ القضاء حكم شرعيّ، فمن يصلح له يحتاج إلى دليل شرعيّ وروي عن النبيّ أنّه قال: « لا يفلح قوم وليتهم امرأة »(٢) .

فإذا كان تولّي القضاء محظوراً على المرأة وهو ليس إلّا شعبةً محدودةً من شعب الزعامة والولاية، كان حظر تولّي الرئاسة العليا للبلاد والتي يأخذ الرئيس والحاكم الأعلى بموجبها بمقادير الاُمّة ؛ بطريق أولى.

وقد دلّت على حظر تولّي الولاية والحكم على المرأة أحاديث كثيرة منها :

عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: « لا يفلح قوم وليتهم امرأة »(٣) .

ورواه الترمذيّ بنحو آخر هو: « لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة »(٤) .

كما رواه ابن حزم بكيفيّة أُخرى هي: « لا يُفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة »(٥) .

وذكره ابن الأثير في النهاية « ما أفلح قوم قيّمهم امراة »(٦) .

__________________

(١) المغني لابن قدامة ١٠: ١٢٧.

(٢) الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) ٢: ٢٣٠ المسألة (٦).

(٣) الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) ٢: ٢٣٠ المسألة (٦).

(٤) أخرجه الترمذيّ كما في جامع الاُصول ٤: ٤٩ والنسائيّ أيضاً في سُننه: ٨ ( كتاب آداب القضاء ).

(٥) الملل والأهواء ٤: ٦٦، ٦٧، ورواه في كنز العمال ٦: ١١ وأسنده إلى البخاريّ وابن ماجة وأحمد بن حنبل، وفي لفظهم ( لن يُفلح ) بدل ( لا يُفلحُ ).

(٦) النهاية ٤: ١٣٥.

٢٥٣

وفي المستند: « لا يصلُح قوم وليتُهُم امرأة »(١) .

وعن أبي هريرة عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « إذا كان أُمراؤُكُم شراركُم، وأغنياؤكم بخلاءكم، واُموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهورها »(٢) .

وهذا وقد جمع الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام الحظر عن الأمرين ( القضاء والحكومة ) في حديث واحد إذ قال: « ليس على النساء أذان ولا إقامة ».

إلى أن قال: « ولا تولَّى المرأة القضاء ولا تولَّى الإمارة »(٣) .

إلى غيرها من الأحاديث والروايات المتضافرة مضافاً إلى السيرة العمليّة. بل وروح الشريعة الإسلاميّة المتمثّلة في الحفاظ على شرف المرأة وكرامتها ومكانتها الحقيقية الطبيعيّة، ومضافاً إلى سعي الشريعة الإسلاميّة للحفاظ على الأخلاق الاجتماعيّة وسلامة أمر الاُمّة بإشاعة جوّ التقوى ؛ وذلك يستلزم بأن تُصان المرأة من الظهور على المسرح السياسيّ في أعلى مستوياته لما في ذلك من أخطار لا تخفى.

ولابدّ في الأخير من الإشارة إلى أمرين هامّين :

الأوّل: أنّ عدم السماح للمرأة بتولّي القضاء والولاية ليس بخساً لحقّها، أو حطّها من كرامتها أو حرماناً لها من حقّها، بل رفع لمسؤوليّة ثقيلة جداً عن كاهلها، ووضعها في الموضع الصحيح لها في تركيبة الحياة الاجتماعيّة المستقيمة السويّة، وفي الحقيقة إيكال ما هو مناسب لها إليها، ممّا يكون متناسباً مع تركيبتها العاطفيّة الرقيقة ألا وهو تربية الأولاد وتثقيفهم، وتعليمهم مالهم وما عليهم من الشؤون والوظائف الاجتماعيّة، كما لها أن تقوم بما هو دون الولاية من قبيل التصدّي للتعليم والتمريض والخياطة والطبابة وما سواها من الشؤون والأعمال الاجتماعيّة.

يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان: ( وأمّا غيرها ( أي الولاية والقيادة ) من

__________________

(١) المستند ٢ ( كتاب القضاء ): ٥١٩.

(٢) الترمذيّ في سننه ٤ ( كتاب الفتن ): ٥٢٩ و ٥٣٠.

(٣) الخصال٢: ٣٧٣، البحار ١٠٣: ٢٥٤، الحديث ١.

٢٥٤

الجهات كجهات التعلّم والتعليم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها ممّا لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهنّ السنّة، والسيرة النبويّة تُمضي كثيراً منها، والكتاب أيضاً لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقّهنّ، فإنّ ذلك لازم ما أُعطين من الحريّة والإرادة والعمل في كثير من شؤون الحياة )(١) .

ثمّ في الجوّ الإسلاميّ الذي يوجده الإسلام بتعاليمه ونظامه يتّخذ أعمال المسلم والمسلمة صفة العبادة الشرعيّة ويتحلّى بقداسة لا يماثلها شيء في غير المجتمع الإسلاميّ. ولذلك فإنّ ما أُعطيت المرأة من المسؤوليّة تتّخذ صفة العبادة والقداسة، وهذا يعني أنّ الإسلام أبدل عملاً بعمل آخر مع الاحتفاظ بالقيمة الشرعيّة فإذا أسقط عن المرأة الجهاد مثلاً، جعل حسن تبعّلها جهاداً كالجهاد في سوح الحرب. فلا فضل لعمل على عمل مادام الهدف واحداً هو تحقيق أمر الله وإرادته وإطاعته فيما أراد.

وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان: ( انّ الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن يكون قد تداركها، وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية، كما أنّه جعل حسن التبعّل مثلاً جهاداً للمرأة(٢) وهذه الاُمور التي هي مفاخر في نظر الإسلام أوشكت أن لا يكون لها عندنا ـ في ظرفنا الفاسد ـ قدر، لكن الظرف الإسلاميّ الذي يقوّم الاُمور بقيمها الحقيقية، ويتنافس فيه في الفضائل الإنسانيّة المرضية عند الله سبحانه، وهو يقدّرها حقّ قدرها، يقدّر لسلوك كلّ إنسان مسلكه الذي ندبه إليه، وللزومه الطريق الذي خطّ له ؛ من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانيّة، وتتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج ـ على ما فيه من الفضل ـ، على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجيّة وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيويّ، ولا لقاض يتكئ على مسند القضاء وهما منصبان ليس للمتقلِّد

__________________

(١) تفسير الميزان ٥: ٣٤٧.

(٢) لاحظ نهج البلاغة: الحكم (١٣٦) قال الإمام عليّ: « وجهاد المرأة حسن التَّبعّل ».

٢٥٥

ـ بهما في الدنيا ـ لو عمل فيما عمل، بالحقّ وجرى فيما جرى على الحقّ ـ إلّا تحمّل أثقال الولاية والقضاء، والتعرّض لمهالك ومخاطر تهدّدهما حيناً بعد حين في حقوق من لا حامي له إلّا ربّ العالمين فأيّ فخر لهؤلاء على من منعه الدين من الورود موردهما، وخطّ له خطّاً آخر، وأشار إليه بلزومه وسلوكه

وخلاصة القول: أنّه ليس من المستبعد أن يُعظِّم الإسلام اُموراً نستحقرها، أو يُحقّر اُموراً نستعظمها ونتنافس فيها )(١) .

* * *

الثاني: انّنا لا ننكر وجود نساء معدودات تمتَّعن بالقدرة على الإمرة، وتحلَّين بالمنطق القويّ، والفكر المتفوّق إلّا أنّ وجود هؤلاء النسوة المعدودات لا يدلّ على قدرة العنصر النسويّ بعمومه على الإدارة والولاية، والتحلّي بهذه الخصيصة وهل يمكن خرق القاعدة العامّة لعدة موارد شاذّة ؟ ونحن نعلم أنّ المقنّين يراعون عند وضع القوانين، الأكثريّة الساحقة، فهي الملاك في الخطابات القانونية وهي الملاك أيضاً في الخطابات الشرعيّة لا الأقليّة النادرة والأفراد المعدودون.

* * *

٦. العلم بالقانون اجتهاداً أو تقليداً :

لمّا كانت الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ على الناس لزم أن يكون الحاكم المجري له في مجالات الحكم والإدارة عالماً به، وإلاّ عادت حكومةً استبداديّةً ينبع القانون فيها من إرادة الحاكم وهواه. وفي هذا المجال يقول الإمام الخمينيّ :

( بما أنّ الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون كان لزاماً على حاكم المسلمين أن يكون عالماً بالقانون ـ كما ورد في الحديث ـ وكلّ من يشغل منصباً أو يقوم بوظيفة معينة فإنّه يجب عليه أن يعلم في حدود اختصاصه وبمقدار حاجته ). إلى أن قال: ( انّ الحاكم

__________________

(١) تفسير الميزان ٥: ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٢٥٦

ينبغي أن يتحلّى بالعلم بالقانون وعنده ملكة العدالة مع سلامة الاعتقاد وحسن الأخلاق وهذا ما يقتضيه العقل السليم، خاصّة ونحن نعرف أنّ الحكومة الإسلاميّة تجسيد عمليّ للقانون وليست ركوب هوى فالجاهل بالقوانين لا أهليّة فيه للحكم )(١) .

ثمّ على القول بأنّ الولاية ـ عند عدم التمكن من الإمام المعصوم ـ من شؤون الفقيه العدل، يلزم أنّ يكون الحاكم هو الفقيه، بيد أنّه لا يلزم أن يتصدّى الفقيه بنفسه إدارة البلاد، بل يمكن له أن يُوكل شخصاً آخر ـ ترتضيه الاُمّة وتختاره ـ ويكون عارفاً بالقانون عن طريق الاجتهاد، وتجتمع فيه سائر الصفات والمؤهّلات.

ولأجل ذلك قلنا: اجتهاداً أو تقليداً ويدلّ على ذلك مضافاً إلى ما عرفت قول الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام : « مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله والامناء على حلاله وحرامه »(٢) .

وقولهعليه‌السلام : « والله ما الإمام إلّا القائم بالقسط، الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات الله »(٣) .

ومن المعلوم أنّ القيام بالقسط والحكم على طبق الكتاب لا ينفكّ عن العلم بالقانون الإسلاميّ اجتهاداً، أو تقليداً.

* * *

٧. الحريّة :

يختلف نظام الرقِّ في الإسلام عمّا هو عليه في سائر الأنظمة البشريّة، فإنّ النظم البشريّة ترى جواز استعباد الانسان واسترقاقه لأخيه الإنسان بحجّة أنّه أقلّ ثقافةً أو لأنّه يعيش في بلد متأخّر، أو لأنّه يجري في عروقه دم وضيع، أو لأنّه لا ينتمي إلى حزب !!

غير أنّ الإسلام الذي حرّم على الناس التفاضل بهذه الخرافات، انقذهم من سيادة بعضهم على بعض بتلك الحجج الواهية السخيفة، ولم يجز لأحد أن يسلب حريّة

__________________

(١) الحكومة الإسلاميّة: ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) تحف العقول: ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

(٣) روضة الواعظين: ٢٠٦.

٢٥٧

غيره لتلك الحجج والمعاذير فقال القرآن الكريم:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلّا نَعْبُدَ إلّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) ( آل عمران: ٦٤ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : « بعث الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ليُخرج عبادهُ من عبادة عباده إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عُهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته »(١) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « ولا تكُن عبد غيرك وقد جعلك الله حُراً »(٢) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : « أيّها الناسُ إنّ آدم لم يلد سيّداً ولا أمة. وإنّ الناس كلهم أحرار ولكنَّ الله خوّل بعضكم بعضاً »(٣) .

وقد وجّه الإسلام دعوته الشاملة إلى كلّ اُمم الأرض، ودعاها إلى التحرّر من العبوديات الباطلة والانضواء تحت لواء واحد هو لواء الإسلام لله تعالى والتسليم لأوامره في جوّ من المساواة الكاملة والوحدة الشاملة يوم لم يسمع العالم عن الاُمميّة الحديثة شيئاً.

منذ ذلك اليوم دعا الإسلام إلى صيانة الحريّات الطبيعيّة المعقولة، وحارب بشدة من يحاول إغفالها وتجاهلها.

إنّ تحرير الإنسان من وطأة استعباد الآخرين له ممّا جوز القرآن أن تراق من أجله الدماء إذ قال سبحانه:( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ) ( النساء: ٧٥ ).

ولذلك فإنّ الإسلام لا يُقرّ بالرقّيّة والاسترقاق الذي تقول به الأنظمة البشريّة، نعم ؛ للإسلام نظام للرقّ بشكل آخر، وهو موقف يتخذه الإسلام الحنيف كعمل اضطراري لمعالجة حالة شاذّة.

__________________

(١) الوافي ٣ ج ١٤٢: ٢٢.

(٢) نهج البلاغة: الرسائل ( الرسالة ٣١ ).

(٣) روضة الكافي: ٦٩.

٢٥٨

فإنّ أعداء الإسلام وأعداء الحريّة إذا هاجموا المسلمين وعرّضوا حياتهم للخطر كان جزاء المعتدين أن يُقتلوا أينما ثُقفوا ما لم تضع الحرب أوزارها(١) ، فإذا وضعت الحرب أوزارها استؤسروا ثمّ وضعوا تحت ولاية حكيمة تعلمهم ما هو جزاء المعتدين على حقوق الآخرين وحرياتهم وتعطي لهم ولأمثالهم درساً عملياً تُفهمهم أنّ الذي يريد أن يستعبد الناس فهو يستعبد جزاءً وفاقاً، وستظل هذه الولاية ريثما ينشأ نشأةً أُخرى يفهم في ضوئها قيمة الحريّة المخوّلة إليه، والسبيل الذي يجب أن تصرف فيه فإذا عرف ذلك ردّت إليه حريته، ويعيش معه في راحة وأمان قال الله سبحانه:( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور: ٣٣ ).

وهذه الآية تفيد ؛ أنّ تعريض العبد للحريّة والخروج من حالة الرقيّة أمر مرغوب فيه في الإسلام بشرط أن يُعلم منه الخير، ولا يكون تحريره مضرّاً بالإسلام والمسلمين.

وبهذا تظهر العلّة في عدم سماح الإسلام للعبيد بأن يتصدّروا مسند القيادة ويسلّم إليهم المجتمع الإسلاميّ زمام إدارتهم وحكومتهم.

فإنّ الذي استُرقّ لسوء ماضيه ولإرادته العدوان على نفوس المسلمين وحرياتهم وأموالهم وأعراضهم، لا يجوز أن يعطى إليه زمام قيادتهم إذ لا يؤمن على أموال المسلمين وحريّاتهم ونفوسهم وأعراضهم، وهو الذي سبق له الاعتداء عليها.

وخلاصة القول: نعلم من هذا الموقف الإسلاميّ اتّجاه العبد ؛ بأنّ الإسلام إنّما سلب عنهم الصلاحيّة للقيادة لأنّهم كانوا من الذين يريدون أن يسلبوا حريّة الناس، فلا يمكن لمن يحمل هذه النزعة الخطيرة، ولو في أمد من الزمان ـ أن سيود على المسلمين، ويُسلَّط على شؤونهم.

* * *

هذا مضافاً إلى أنّ حرمان العبد من الارتفاع إلى مستوى القيادة نوع من النكال

__________________

(١) سيأتي مفصّل القول في هذا المجال عند البحث عن أحكام الجهاد.

٢٥٩

والتبكيت للعبد، ولكلّ من يريد ما أراد من العدوان والتجاوز على حرمة المسلمين وبلادهم.

ثمّ كيف يصلح العبد للولاية وهو بدوره مولّىً عليه فهل يجوز أن يرفع إلى مستوى قيادة الأحرار ؟

يبقى أن يعرف القارئ الكريم أنّ الإسلام كما قلنا لم يعمد الاسترقاق إلّا للضرورة ؛ إذ لم يكن أمام الإسلام اتّجاه المعتدين بعد السيطرة عليهم إلّا خمس خيارات :

١. أن يقتلهم جميعاً ويسفك دمائهم عن آخرهم وهي قسوة تتنافى مع روح الإسلام الرحيمة المحبّة للسلام.

٢. أن يسجنهم جميعاً وذلك يكلف الدولة تكاليف باهضةً وميزانيةً ضخمةً مضافاً إلى أنّ السجن ممّا يعقّد السجين، ويزيده اندفاعاً في الشرور والفساد.

٣. أن يتركهم ليعودوا إلى بلادهم سالمين، وهذا رجوع إلى المؤامرة والاحتشاد والعدوان مرّة اُخرى.

٤. أن يتركهم ليسرحوا في بلاد الإسلام وهذا يعني تعريضهم لسفك دمائهم على أيدي المسلمين، انتقاماً منهم.

ولـمـّا لم يكن اختيار شيء من هذه الطرق اختياراً عقلائيّاً يبقى أمام الإسلام طريق خامس وهو :

٥. استرقاقهم، بمعنى جعلهم تحت ولاية المسلمين ليراقبوا بشدة تصرفاتهم، وليتسنّى لهم من خلال العيش في ظل الحياة الإسلاميّة أن يقفوا على تعاليم الدين وينشأوا نشأةً إسلاميّةً ويكون الإسلام بهذا قد حافظ على حياتهم، ومنع من سفك دمهم، لأنّ مالكهم سوف يحرص عليهم أشدّ الحرص ويحافظ على حياتهم أشد المحافظة بخلاف من لا يملكهم، ولا يرجوا منهم نفعاً.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة، وأمّا الاعتقاد القلبيّ فله علل وأسباب اُخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقاً علميّاً، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينيّاً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً انشائيّاً تشريعيّاً كما يشهد به ما عقّبه تعالى من قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة، وهي الّتي مرّ بيانها أنّ الإكراه إنّما يعمل ويؤثّر في مرحلة الأفعال البدنيّة دون الاعتقادات القلبيّة.

وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، وهو في مقام التعليل فإنّ الإكراه والإجبار إنّما يركن إليه الآمر الحكيم والمربّي العاقل في الاُمور المهمّة الّتي لا سبيل إلى بيان وجه الحقّ فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات اُخرى، فيتسبّب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأمّا الاُمور المهمّة الّتي تبيّن وجه الخير والشرّ فيها، وقرّر وجه الجزاء الّذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لمّا انكشفت حقائقه واتّضح طريقه بالبيانات الإلهيّة الموضحة بالسنّة النبويّة فقد تبيّن أنّ الدين رشد والرشد في اتّباعه، والغيّ في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين.

وهذه إحدى الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدّة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الإسلام دين السيف واستدلّوا عليه: بالجهاد الّذي هو أحد أركان هذا الدين.

وقد تقدّم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أنّ القتال الّذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدّم وبسط الدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأمّا بعد انبساط

٣٦١

التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوّة ولو بالتهوّد والتنصّر فلا نزاع لمسلم مع موحّد ولا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبّر.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الآية أعني قوله: لاإكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.

ومن الشواهد على أنّ الآية غير منسوخة التعليل الّذي فيها أعني قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، فإنّ الناسخ ما لم ينسخ علّة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإنّ الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أنّ تبيّن الرشد من الغيّ في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإنّ قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلاً، أو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثّران في ظهور حقّيّة الدين شيئاً حتّى ينسخا حكماً معلولاً لهذا الظهور.

وبعبارة اُخرى الآية تعلّل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحقّ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كلّ حال، فهو غير منسوخ.

قوله تعالى: ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) الخ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحدّ ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام والشياطين والجنّ وأئمّة الضلال من الإنسان وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتّباعه، ويستوى فيه المذكّر والمؤنّث والمفرد والتثنية والجمع.

وإنّما قدّم الكفر على الإيمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق الترتيب الّذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لأنّ الاستمساك بشئ إنّما يكون بترك كلّ شئ والأخذ بالعروة، فهناك ترك ثمّ أخذ، فقدّم الكفر وهو ترك على الإيمان وهو أخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الأخذ والإمساك بشدّة، والعروة ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الإناء، والعروة

٣٦٢

هي كلّ ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلّق يقال: عراه واعتريه أي تعلّق به.

والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أنّ الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء وما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذاً مطمئنّاً حتّى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقيّة لا يستقرّ أمرها ولا يرجى نيلها إلّا أن يؤمن الإنسان بالله ويكفر بالطاغوت.

قوله تعالى: ( لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، الانفصام: الانفصام والانكسار، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكّد معنى العروة الوثقى، ثمّ عقّبه بقوله: والله سميع عليم، لكون الإيمان والكفر متعلّقاً بالقلب واللسان.

قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم ) إلى آخر الآية، قد مرّ شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات، وقد بيّنّا هناك أنّ هذا الإخراج وما يشاكله من المعاني اُمور حقيقيّة غير مجازيّة خلافاً لما توهّمه كثير من المفسّرين وسائر الباحثين أنّها معان مجازيّة يراد بها الأعمال الظاهريّة من الحركات والسكنات البدنيّة، وما يترتّب عليها من الغايات الحسنة والسيّئة، فالنور مثلاً هو الاعتقاد الحقّ بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشكّ واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث أن رشده بيّن، وأثره في السعادة جليّ، كما أنّ النور الحقيقيّ على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كلّ ذلك بالاستعارة. والإخراج من الظلمة إلى النور الّذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى الظلمات الّذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد، لا فعل من الله تعالى وغيره كالإخراج مثلاً ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسّرين والباحثين.

وذكر آخرون: أنّ الله يفعل فعلاً كالإخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتّب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنّا نؤمن

٣٦٣

بحسب ما أخبر به الله - وهو يقول الحقّ - بأنّ هذه الاُمور موجودة وأنّها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبراً، ولازم هذا القول أيضاً كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور والظلمة والإخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنّما الفرق بين القولين أنّ مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأوّل نفس أعمالنا وعقائدنا، وعلى القول الثاني اُمور خارجة عن أعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها.

والقولان جميعاً خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرّط، والحقّ في ذلك أنّ هذه الاُمور الّتي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنّما هي اُمور حقيقيّة واقعيّة من غير تجوّز غير أنّها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها الّتي في باطنها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدّم في بحث الكلام أنّ النزاع في مقامين: أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرّد تشبيه لا حقيقة له. وثانيهما: أنّه على تقدير تسليم أنّ لها حقائق وواقعيّات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً في الحقيقة الّتي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أيّ حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلّا لزم أن يكون لكلّ من المؤمن والكافر نور وظلمة معاً، فإنّ لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة وبالعكس في الكافر، فعامّة المؤمنين والكفّار - وهم الّذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفّاراً فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا كما ترى.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الإنسان بحسب خلقته على نورالفطرة، هو نور إجماليّ يقبل التفصيل، وأمّا بالنسبة إلى المعارف الحقّة والأعمال الصالحة تفصيلاً

٣٦٤

فهو في ظلمة بعد لعدم تبيّن أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيليّة، والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أنّ الحقّ واحد لا اختلاف فيه كما أنّ الباطل متشتّت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الأنعام - ١٥٣.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج أبوداود والنسائيّ وابن المنذر وابن أبي حاتم والنّحاس في ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبّان وابن مردويه والبيهقيّ في سننه والضياء في المختارة عن ابن عبّاس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلمّا أجليت بنوا النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

اقول: وروي أيضاً هذا المعنى بطرق اُخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبيّ.

وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالاً من الأوس، فلمّا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الأوس: لنذهبنّ معهم ولنديننّ دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

اقول: وهذا المعنى أيضاً مرويّ بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدّم من نذر النساء اللّاتي ما كان يعيش أولادها أن يهوّدنهم.

وفيه أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصارمن بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له

٣٦٥

ابنان نصرانيّان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلّا النصرانيّة؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : قال: النور آل محمّد و الظلمات أعداؤهم.

اقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.

٣٦٦

( سورة البقرة آية ٢٥٨ - ٢٦٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٢٥٨ ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٥٩ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٦٠ )

( بيان)

الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، المحاجّة إلقاء الحجّة قبال الحجّة لإثبات المدّعي أو لإبطال ما يقابله، وأصل الحجّة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربّه متعلّق بحاجّ، والضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربّي الّذي يحيى ويميت، وهذا الّذي حاج إبراهيمعليه‌السلام في ربّه هو الملك الّذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك

٣٦٧

بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.

وبالتأمّل في سياق الآية، والّذي جرى عليه الأمر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجّة الّتي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الّذي وقعت فيه محاجّتهما.

بيان ذلك: أنّ الإنسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثّرة فيه، وهذا ممّا لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الاُمم الخالية المتأمّل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعاً مؤثّراً فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مرّ أيضاً بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدّد الآلهة كما عليه الوثنيّون أو نفي الصانع كما عليه الدهريّون والمادّيّون، فإنّ الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنساناً وإن قبلت الغفلة والذهول.

لكن الإنسان الأولىّ الساذج لمّا كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أنّ أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الأفعال المختلفة الإجتماعيّة تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وإن كانت جميع الأزمّة تجتمع عند الصانع الّذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كربّ الأرض وربّ البحار وربّ النار وربّ الهواء والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصّة السيّارات الّتي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثمّ كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.

ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الاُمم والأجيال لأنّ الآراء كانت

٣٦٨

مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيّل صور أرباب الانواع المحكيّة بأصنامها، وربّما لحقت بذلك أميال وتهوّسات اُخرى. وربّما انجرّ الأمر تدريجاً إلى التشبّث بالأصنام ونسيان أربابها حتّى ربّ الأرباب لأنّ الحسّ والخيال كان يزيّن ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما وراها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كلّ ذلك إنّما كان منهم لأنّهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيراً في شؤن حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

وربّما كان يستفيد بعض اُولي القوّة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدّعي الاُلوهيّة كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحسّ كان يوجب تقدّمه عند عبّاده على سائر الأرباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات - ٢٤، فقد كان يدّعي أنّه أعلى الأرباب مع كونه ممّن يتّخذ الأرباب كما قال تعالى:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف - ١٢٧، وكذلك كان يدّعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا اُحيي واُميت، في هذه الآية على ما سنبيّن.

وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجّة الواقعة بين إبراهيمعليه‌السلام ونمرود، فإنّ نمرود كان يرى لله سبحانه اُلوهيّة، ولو لا ذلك لم يسلم لإبراهيمعليه‌السلام قوله: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أنّ بعض الآلهة الاُخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى أنّ هناك آلهة اُخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدلّ عليه عامّة قصص إبراهيمعليه‌السلام كقصّة الكوكب والقمر والشمس وما كلّم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذاً إلّا كبيراً لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى اُلوهيّة، وأنّ معه آلهة اُخرى لكنّه

٣٦٩

كان يرى لنفسه اُلوهيّة، وأنّه أعلى الآلهة، ولذلك استدلّ على ربوبيّته عند ما حاجّ إبراهيمعليه‌السلام في ربّه، ولم يذكر من أمر الآلهة الاُخرى شيئاً.

ومن هنا يستنتج أنّ المحاجّة الّتي وقعت بينه وبين إبراهيمعليه‌السلام هي: أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يدّعي أنّ ربّه الله لا غير ونمرود كان يدّعي أنّه ربّ إبراهيم وغيره ولذلك لمّا احتجّ إبراهيمعليه‌السلام على دعواه بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، قال: أنا اُحيي واُميت، فادّعى أنّه متّصف بما وصف به إبراهيم ربّه فهو ربّه الّذي يجب عليه أن يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وأنا اُحيي واُميت لأنّ لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيّته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعيّن بالتفوّق كما عرفت، ولم يقل أيضاً: والآلهة تحيي وتميت.

ولم يعارض إبراهيمعليه‌السلام بالحقّ، بل بالتمويه والمغالطة وتلبيس الأمر على من حضر، فإنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما أراد بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحيّة الشاعرة المريدة فإنّ هذه الحياة المجهولة الكنه لا يستطيع أن يوجدها إلّا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلّل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحيّة، فإنّ حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الّذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنّه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازيّ أو الأعمّ من معناهما الحقيقيّ والمجازيّ فإنّ الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفّي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتّالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا وأطلق ذاك فقال: أنا اُحيي واُميت، ولبّس الأمر على الحاضرين فصدّقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيمعليه‌السلام أن يبيّن له وجه المغالطة، وأنّه لم يرد بالإحياء والإماتة هذا المعنى المجازيّ، وأنّ الحجّة لا تعارض الحجّة، ولو كان في وسعهعليه‌السلام ذلك لبيّنه، ولم يكن ذلك إلّا لأنّه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضّار في

٣٧٠

تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنّه لو بيّن وجه المغالطة لم يصدّقه أحد، فعدل إلى حجّة اُخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشئ فقال إبراهيمعليه‌السلام : إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أنّ الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصّتهعليه‌السلام لكنّها وما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع والغروب ممّا يستند بالأخرة إلى الله الّذي كانوا يرونه ربّ الأرباب، والفاعل الإراديّ إذا اختار فعلاً بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإنّ الأمر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لمّا قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إنّ هذا الأمر المستمرّ الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائماً امر اتّفاقيّ لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه أن يقول: إنّه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلّم خلاف ذلك، ولا كان يسعه أن يقول: إنّي أنا الّذي آتيها من المشرق وإلّا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجراً وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) ، ظاهر السياق: أنّه من قبيل قول القائل: أساء إلىّ فلان لأنّي أحسنت إليه يريد: أنّ إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلىّ لكنّه بدّل الإحسان من الاسائه فأساء إلى، وقولهم: واتّق شرّ من أحسنت إليه، قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار

فالجملة أعني قوله: أن آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضدّه للشكوى والاستعداء ونحوه، فإنّ عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجّة كان ينبغي أن يعلّل بضدّ إنعام الله عليه بالملك، لكن لمّا لم يتحقّق من الله في حقّه إلّا الإحسان إليه وايتاؤه الملك فوضع في موضع العلّة فدلّ على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) القصص - ٨، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

وهناك نكته اُخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك أنّه إنّما

٣٧١

كان يدّعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنّما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربّه، وأمّا هو في نفسه فلم يكن إلّا واحداً من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبّر عنه بقوله: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، دلالة على حقارة شخصه وخسّة أمره.

وأمّا نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مرّ في المباحث السابقة: أنّه لا محذور فيه، فإنّ الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الاُمّة كسائر أنواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الإنسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) القصص - ٧٧، وإن عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقّه نقمة وبواراً، قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم - ٢٨، وقد مرّ بيان أنّ لكلّ شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدّس من جهة الحسن الّذي فيه دون جهة القبح والمسائة.

ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام ، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء - ٥٤، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيهأوّلا: أنّ القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ) المؤمن - ٢٩، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -:( يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الزخرف - ٥١، وقد قال تعالى:( لَهُ الْمُلْكُ ) التغابن - ١، فقصر كلّ الملك لنفسه فما من ملك إلّا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسىعليه‌السلام :( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ) يونس - ٨٨، وقال تعالى في قارون:( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) القصص - ٧٦، وقال تعالى خطاباً لنبيّه:

٣٧٢

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا - إلى أن قال -وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) المدّثّر - ١٥، إلى غير ذلك.

وثانياً: أنّ ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإنّ ظاهرها أنّ نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده وإيمانه لا أنّه كان ينازعه ويحاجّه في ملكه، فإنّ ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لإبراهيم ملكاً حتّى يشاجره فيه.

وثالثاً: أنّ لكلّ شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مرّ تفصيل بيانه.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضاً كالنبات، وقد صدّقه القرآن كما مرّ بيانه في تفسير آية الكرسيّ، لكن مرادهعليه‌السلام منهما إمّا خصوص الحياة والممّات الحيوانيّين أو الأعمّ الشامل له لإطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا اُحيي واُميت، فإنّ هذا الّذي ادّعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً، ولا إحياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً، فإنّ ذلك وأشباهه كان لا يختصّ به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، وهذا يؤيّد ما وردت به الروايات: أنّه أمر بإحضار رجلين ممّن كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا اُحيي واُميت.

وإنّما أخذعليه‌السلام في حجّته الإحياء والإماتة لأنّهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصّة الّتي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإرادة وهما أمران غير مادّيّين قطعاً، وكذا الموت المقابل لها، والحجّة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقّهم، لأنّ انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقّل كان فوق ما كان يظنّهعليه‌السلام في حقّهم، فلم يفهموا من الإحياء والإماتة إلّا المعنى المجازيّ الشامل لمثل الإطلاق والقتل، فقال نمرود: أنا اُحيي واُميت وصدّقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجّة يمكن أن يحدس المتأمّل ما بلغ إليه الانحطاط الفكريّ يؤمئذ في المعارف والمعنويّات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاريّ والتقدّم

٣٧٣

المدنيّ الّذي يدلّ عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإنّ المدنيّة المادّيّة أمر والتقدّم في معنويّات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيّتها وانحطاطها في الأخلاق والمعارف المعنويّة ما تسقط به هذه الشبهة.

ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذهعليه‌السلام في حجّته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات والأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الأنعام - ٧٩، فإنّ القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالاً كانوا أنزل سطحاً من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتّضح مرادهعليه‌السلام ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربّي الّذي يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ، أي فأنا ربّك الّذي وصفته بأنّه يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) ، لمّا أيسعليه‌السلام من مضيّ احتجاجه بأنّ ربّه الّذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء والإماتة إلى حجّة اُخرى، إلّا أنّه بنى هذه الحجّة الثانية على دعوى الخصم في الحجّة الاُولى كما يدلّ عليه التفريع بالفاء في قوله: فإنّ الله الخ، والمعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنّك ربّي ومن شأن الربّ أن يتصرّف في تدبير أمر هذا النظام الكونيّ فالله سبحانه يتصرّف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرّف أنت بإتيانها من المغرب حتّى يتّضح إنّك ربّ كما أنّ الله ربّ كلّ شئ أو أنّك الربّ فوق الأرباب فبهت الّذي كفر، وإنّما فرّع الحجّة على ما تقدّمها لئلّا يظنّ أنّ الحجّة الأولى تمّت لنمرود وأنتجت ما ادّعاه، ولذلك أيضاً قال، فإنّ الله ولم

٣٧٤

يقل: فإنّ ربّي لأنّ الخصم استفاد من قوله: ربّي سوءاً وطبّقه على نفسه بالمغالطة فأتىعليه‌السلام ثانياً بلفظة الجلالة ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق! قد مرّ بيان أنّ نمرود ما كان يسعه أن يتفوّه في مقابل هذه الحجّة بشئ دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، ظاهر السياق أنّه تعليل لقوله فبهت الّذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إيّاه لا كفره، وبعبارة اُخرى معناه أنّ الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجّة لا أنّه لم يهده فكفر لذلك وذلك لأنّ العناية في المقام متوجّهة إلى محاجّته إبراهيمعليه‌السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر: أنّ في الوصف إشعاراً بالعلّيّة أعني: أنّ السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصفّ - ٧، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة - ٥، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى:( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصفّ - ٥.

وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عمّا ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤدّ إلى الخيبة والخسران بالأخرة، وهذه من الحقائق الناصعة الّتي ذكرها القرآن الشريف وأكّد القول فيها في آيات كثيرة.

٣٧٥

( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)

هذه حقيقة ثابتة بيّنها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً، وهي كلّيّة لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، دلّ على أنّ كلّ شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك إلّا بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتّصال والانفصال والقرب والبعد والأخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ الاُمور التكوينيّة لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعيّة لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسّها الحطب مثلاً وهي حارّة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلاً وهو نام لا يقصد إلّا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، فلا تخلّف ولا اختلاف في الوجود.

ولازم هاتين المقدّمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطّأ في التكوين أن يكون لكلّ شئ روابط حقيقيّة مع غيره، وأن يكون بين كلّ شئ وبين الآثار والغايات الّتي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجوديّة إنّما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصّة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة إنّما تنبت الشجرة الّتي في قوّتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدّي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصّة، وكذلك الشجرة إنّما تثمر الثمرة الّتي من شأنها إثمارها، فما كلّ سبب يؤدّي إلى كلّ مسبّب، قال تعالى:( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) الأعراف - ٥٨، والعقل والحسّ يشهدان بذلك وإلّا اختلّ قانون العلّيّة العامّ.

وإذا كان كذلك فالصنع والإيجاد يهدي كلّ شئ إلى غاية خاصّة، ولايهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كلّ غاية من طريق خاصّ لا يهدي إليها من غيره، صنع الله الّتي

٣٧٦

أتقن كلّ شئ، فكلّ سلسلة من هذه السلاسل الوجوديّة الموصلة إلى غاية وأثر إذا فرضنا تبدّل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدّل أثرها لا محالة، هذا في الاُمور التكوينيّة.

والاُمور غير التكوينيّة من الاعتبارات الإجتماعيّة وغيرها على هذا الوصف أيضاً من حيث إنّها نتائج الفطرة المتّكئة على التكوين، فالشؤن الإجتماعيّة والمقامات الّتي فيه والأفعال الّتي تصدر عنها كلّ منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولّد منه إلّا تلك الآثار والغايات ولاتتولّد هي إلّا منه فالتربية الصالحة لاتتحقّق إلّا من مربّ صالح والمربّي الفاسد لا يترتّب على تربيته، إلّا الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطويّ في نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلّب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكلّ من تقلّد منصباً اجتماعيّاً من غير طريقه المشروع، وكذلك كلّ فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبّه بالحقّ وحلّ بذلك محلّ الفعل الحقّ، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحقّ كالخيانة موضع الأمانة والإسائة موضع الإحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكلّ ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها أيّاماً، وتلبّس بلباس الصدق والحقّ أحياناً، سنّة الله الّتي جرت في خلقه ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

فالحقّ لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على إدراك المدركين اُويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربّما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، من تحقيق الحقّ تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبّس به من لباس الحقّ بالتشبّه والتمويه، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

٣٧٧

الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقد أطلق الظالمين فالله يضلّهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلّا أنّهم يريدون آثار الحقّ من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف - الصدّيق:( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف - ٢٣، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أنّ ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتّقي بتقواه، قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩، وقال تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢.

والآيات القرآنيّة في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرّقة، ومن أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّ العقل يؤيّده، فإنّ ذلك لازم كلّيّة قانون العلّيّة والمعلوليّة الجارية بين أجزاء العالم، وأنّ التجربة القطعيّة الحاصلة من تكرّر الحسّ تشهد به، فما منّا من أحد إلّا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.

قوله تعالى: ( وْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خوائاً إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائماً على أعمدة، قال تعالى:( جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) الأنعام - ١٤٢، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكنّ بينهما فرقاً، فإنّ السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الأركان الّتي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صحّ أن يقال في الديار أنّها خالية على عروشها ولا يصحّ أن يقال: خالية على سقفها.

وقد ذكر المفسّرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالّذي، فقيل:

٣٧٨

إنّه عطف على قوله في الآية السابقة: الّذي حاجّ إبراهيم، والكاف اسميّة، والمعنى أو هل رأيت مثل الّذي مرّ على قرية الخ، وقد جيئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدّد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم أو الّذي مرّ على قرية الخ، وقيل: إنّه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، وقيل: إنّه من كلام إبراهيم جواباً عن دعوى الخصم أنّه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الّذي مرّ على قرية الخ فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكنّ الجميع كما ترى.

وأظنّ - والله أعلم - أنّ العطف على المعنى كما مرّ في الوجه الثالث إلّا أنّ التقدير غير التقدير، توضيحه: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر قوله: الله وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والّذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصّل من ذلك: أنّه يهدي المؤمنين إلى الحقّ ولا يهدي الكافر في كفره بل يضلّه أولياؤه الّذين اتّخذهم من دون الله أولياء، ثمّ ذكر لذلك شواهد ثلاث يبيّن بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتّبة:

أوليها: الهداية إلى الحقّ بالبرهان والاستدلال كما في قصّة الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، حيث هدى إبراهيم إلى حقّ القول، ولم يهد الّذي حاجّه بل أبهته وأضلّه كفره، وإنّما لم يصرّح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدلّ على فائدة جديدة يدلّ عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين.

والثانية: الهداية إلى الحقّ بالإرائة والإشهاد كما في قصّة الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فإنّه بيّن له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كلّ ذلك بالإرائة والإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحقّ وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلّة الّتي تترشّح منه الحادثة، وبعبارة اُخرى بإرائة السبب والمسبّب معاً، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما أنّ من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في أمره تزاح شبهته تارةً بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه، وتارةً بإرائته قطعة من الجبن

٣٧٩

وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحه وخلط مقدار منها به حتّى يجمد ثمّ إذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصحّ فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: ألم تر إلى قصّة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصّة الّذي مرّ على قرية، أو لم تر إلى قصّة إبراهيم والطير، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: إمّا كما هدى إبراهيم في قصّة المحاجّة وهي نوع من الهداية، أو كالّذي مرّ على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصّة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ واُذكّرك ما يشهد بذلك فاذكر قصّة المحاجّة، واذكر الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني.

فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أنّ الله سبحانه أخذ بالتفنّن في البيان وخصّ كلّ واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلث تنشيطاً لذهن المخاطب واستيفائاً لجميع الفوائد السياقيّة الممكنة الاستيفاء.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: أو كالّذي، معطوف على مقدّر يدلّ عليه الآية السابقة، والتقدير: إمّا كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، ويظهر أيضاً أنّ قوله في الآية التالية: واذ قال إبراهيم، معطوف على مقدّر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصّة المحاجّة وقصّة الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ.

وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الّذي مرّ على قرية واسم القرية والقوم الّذين كانوا يسكنونها، والقوم الّذين بعث هذا المارّ آية لهم كما يدلّ عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أنّ الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكنّ الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لمّا

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627