مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

الصفحات: 627
المشاهدات: 207502
تحميل: 5179


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207502 / تحميل: 5179
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

الذّلفاء ».

فانطلق جويبر برسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده، فاستأذن فأعلم فاذن له فدخل وسلم عليه ثمّ قال: يا زياد بن لبيد انّي رسول رسول الله إليك في حاجة لي فأبوح بها أم أسرّها إليك ؟

فقال له زياد: بل بح بها فإنّ ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لك: زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقال له زياد: أرسول الله أرسلك إليّ بهذا ؟

فقال له: نعم ما كنت لأكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال له زياد: إنّا لا نزوّج فتياتنا إلّا أكفّائنا من الأنصار، فانصرف يا جويبر حتّى ألقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاخبره بعذري، فانصرف جويبر وهو يقول: والله ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد وهي في خدرها فأرسلت إلى أبيها: ادخل إليّ، فدخل إليها، فقال ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبراً ؟

فقال لها: ذكر لي أنّ رسول الله أرسله، وقال: يقول لك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقالت له: والله ما كان جويبراً ليكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحضرته فابعث الآن رسولاً يرّد عليك جويبراً.

فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً فقال له زياد: يا جويبر مرحباً بك اطمئنّ حتّى أعود إليك.

ثمّ انطق زياد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له بأبي أنت واُميّ إنّ جويبراً أتاني برسالتك وقال: إنّ رسول الله يقول لك: زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء، فلم ألن له بالقول، ورأيت لقاءك ونحن لا نزوّج إلا أكفّاءنا من الأنصار.

فقال له رسول الله: « يا زياد ! جويبر مؤمن والمؤمن كفؤ للمؤمنة، والمسلم كفؤ

٣٦١

للمُسلمة فزوّجهُ يا زياد ولا ترغب عنهُ ».

فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته فقال لها ما سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت له: إنّك عصيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكفرت فزوّج جويبراً.

فخرج زياد، فأخذ بيد جويبر ثمّ أخرجه إلى قومه فزوّجه على سنّة الله وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وضمن صداقه(١) .

وروي أنّه جاء قيس بن مطاطيه [ وهو رجل منافق ] إلى حلقة فيها سلمان الفارسيّ وصهيب الروميّ وبلال الحبشيّ فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا ؟

وهو يقصد بالرجل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقصد من مجموع كلامه أنّ الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنّه من قومه فما الذي يدعو الفارسيّ والروميّ والحبشيّ إلى أن ينصروه.

فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه ثمّ أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بمقالته، فقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مغضباً يجرّ رداءه حتّى أتى المسجد ثمّ نودي: أنّ الصلاة جماعة وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أيُّها النّاس إنّ الربّ واحد والأب واحد وإنّ الدين واحد، وليست العربيّة لأحدكم بأب، ولا اُمّ، وإنّما هي اللسان، فمن تكلّم بالعربيّ فهو عربيٌّ ».

فقام معاذ، فقال فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله ؟ قال: « دعهُ إلى النّار » فكان قيس ممّن ارتدّ في الرّدّة فقتل(٢) .

وقد خطب الإمام عليّ بن أبي طالب وقال: « أيُّها النّاس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمةً، وإنّ النّاس كلُّهم أحرار ولكنّ الله خوّل بعضكم بعضاً فمن كان له بلاء فصبر في الخير، فلا يمنُّ به على الله عزّ وجلّ.

ألا وقد حضر شيء ونحن مسّووُن فيه بين الأسود والأحمر ».

__________________

(١) الكافي ٥: ٣٤٠ ـ ٣٤٢ والقصة مفصّلة وجديرة بالمطالعة.

(٢) تفسير المنار لمحمّد رشيد رضا ١١: ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

٣٦٢

فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا غيركما.

قال الراوي فأعطى كلّ واحد ثلاثة دنانير وأعطى رجلاً من الأنصار ثلاثة دنانير، وجاء ـ بعد ـ غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير فقال الأنصار: يا أمير المؤمنين هذا غلام اعتقته بالأمس، تجعلنا وايّاه سواء ؟ فقال: « إنّي نظرتُ في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً، إنّي لا أرى في هذا الفيء فضيلةً لبني إسماعيل على غيرهم »(١) .

وروي أنّ الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر فسلّم عليه، ونزل عنده وحادثه طويلاً، ثمّ عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له فقيل له: يا ابن رسول الله أتنزل إلى هذا ثمّ تسأله عن حوائجه وهو أحوج إليك فقالعليه‌السلام : « عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله يجمعنا وإيّاه خير الآباء آدمعليه‌السلام وأفضل الأديان الإسلام »(٢) .

هكذا نجد الإسلام على لسان نبيّه وأئمّته: يجعل الإيمان هو الرابطة الجامعة بين أفراد المسلمين والملاك الوحيد المكوّن للاُمّة الإسلاميّة دون سواه فيما ينفي كلّ ملاك آخر لكونه ملاكاً مزيّفاً وفرقاً غير فارق.

وعن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : « لـمّا ولي عليٌّعليه‌السلام صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أمّا إنّي والله ما أرزأكم من فيئكم هذه درهماً ما قام بي عذق بيثرب فلتصدّقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم، قال: فقام إليه عقيل كرّم الله وجهه فقال: فتجعلني وأسود في المدينة سواء، فقال: اجلس ما كان هاهنا أحد يتكلّم غيرك وما فضلك عليه إلّا بسابقة أو تقوى »(٣) .

__________________

(١) الكافي ٨: ٦٩.

(٢) تحف العقول: ٣٠٥ ( طبعة بيروت ) و: ٤١٣ ( طبعة طهران ).

(٣) وسائل الشيعة ١١: كتاب الجهاد ( باب ٣٩ ) نقلاً عن الكافي.

٣٦٣

ولعل من الجدير هنا أنّ نورد ما ذكره العلاّمة الطباطبائيّ في هذا الصدد تحت عنوان: حدود الدولة الإسلاميّة هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعيّة أو المصطنعة :

( لقد ألغى الإسلام فكرة الإنشعابات القوميّة، ورفض أن يكون لها أثرها في تكوّن الاُمّة، تلك الإنشعابات التي عاملها الأصليّ الحياة البدويّة والمعيشة القبائليّة العشائريّة أو اختلاف الوطن وهما أمران يجرّان ورائهما الاختلاف في الألسن والألوان ونشوء القبائل، والشعوب، ثمّ صارا سبباً لأن تحوز كلّ جماعة قطعة من الأرض وتخصّصها لنفسها، وتسمّيها وطناً يألفونه ويذبّون عنه.

وهذا وإن كان أمراً ساقهم إليه الحوائج الطبيعيّة التي يدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أنّ فيه خاصّية تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانيّة، فإنّ الطبيعة تدعو ـ بالضرورة ـ إلى اجتماع القوى المتشتّتة وتألفها وتقوّيها بالتراكم والتوحيد لتنال ما تطلبه من غاياتها الصالحة بوجه أتمّ وأصلح.

والانشعابات بحسب الأوطان ( أو الألوان أو اللغات ) تسوق الاُمّة إلى توحّد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الاُخرى ذات الأوطان الاُخرى فتصير جماعة واحدة منفصلة الجسم والروح عن المجتمعات الاُخرى، فتنعزل الإنسانيّة عن التوحيد المطلوب والتجمّع المنشود وتصاب بالتفرّق والتشتّت الذي كانت تفرّ منه، كما ويترتّب على ذلك أن يعامل هذا الجزء البشريّ بقية الأجزاء البشريّة الاُخرى كما يعامل الإنسان سائر الأشياء الكونيّة، أي على أساس الاستثمار والاستخدام لا على أساس التعاون والتعايش والمعاشرة الإسلاميّة المطلوبة.

وهذا هو السبب في إلغاء الإسلام للإنشعابات القوميّة والتميّزات الأرضيّة وبناء الاجتماع على العقيدة دون الجنسيّة والقوميّة والوطن ونحو ذلك، حتّى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث فإنّ المدار فيهما على الاشتراك في العقيدة لا في المنزل والوطن مثلاً )(١) .

__________________

(١) تفسير الميزان ٤: ٢٠٠ بتصرّف بسيط.

٣٦٤

إنّ رابطة الإيمان لا تجمع الأفراد الحاضرين الأحياء فقط، وتشكّل منهم أمّة واحدة متعاطفة متحابّة، بل تجعل المؤمن يشعر بالاخوّة والعلاقة والرابطة حتّى بالنسبة إلى كلّ الذين سبقوه، وتطهّر قلبه من أيّة ضغينة أو غلّ تجاههم كما يقول القرآن.( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( الحشر: ١٠ ).

إنّ البحث حول الإشكالات الواردة على العناصر المكوّنة للاُمّة في نظر الحقوقيّين موكول إلى موضع آخر، ونحن هنا نكتفي ببيان العنصر المعقول الصحيح الذي يبني عليه الإسلام مفهوم الاُمّة ويحقّق وجودها الخارجيّ الحقيقيّ وهو رابطة الإيمان، ووحدة العقيدة.

إنّ الإيمان هو الملاك الطبيعيّ لتكوّن الاُمّة في نظر الإسلام، فهو الذي تترتّب عليه الحقوق، وتبتني عليه علاقات الفرد المؤمن مع الفرد الآخر في الاُمّة الإسلاميّة، وعلاقات الاُمّة مع غيرها من الطوائف والاُمم الاُخرى.

إنّ التجارب التاريخيّة المسلّمة، والوقائع المحسوسة أثبتت أنّ رابطة الإيمان أقدر من غيرها على تجميع الأفراد وتكوين الاُمّة الواحدة منهم، وتوجيههم وجهة واحدة ودفعهم إلى حماية أنفسهم وكيانهم وبثّ روح التعاطف والتراحم والتواصل بينهم، وإخراجهم أمّة واحدة متماسكة بينما أثبتت التجارب والوقائع فشل الملاكات والعناصر التي ذكرها الحقوقيّون، لتكوين مفهوم الاُمّة فضلاً عن تحقيق حقيقتها ووجودها على الصعيد الخارجيّ، لأنّها عجزت عن إيجاد أيّة وحدة حقيقيّة وأيّ تعاطف حقيقيّ وأيّ تلاحم وتراحم، وتعاون وتعايش ووئام وانسجام بين الأفراد.

إنّ التجربة الماضية والحاضرة برهنت على عجز ( العامل القومي ) المرتكز على وحدة الأرض أو الدم أو اللغة، أو التاريخ، عن إثارة همم الأشخاص وعزائمهم، ودفعهم إلى أن يفكروا معاً في مسيرهم ومصيرهم ويتعاونوا فيما بينهم كما يتعاون أعضاء العائلة الواحدة، بينما برهنت التجربة قديماً وحديثاً على أنّ الرابطة العقيديّة في الإسلام

٣٦٥

كانت سبباً للتضحيات الجسيمة وتغاضي الأفراد عن مصالحهم بل وحياتهم في سبيل إسعاد الجماعة.

وهذا كلّه يدلّ على أنّ الملاك الوحيد القادر على صنع الاُمّة وتكوينها بحقيقتها وجوهرها هو الإيمان ووحدة العقيدة دون سواه، بل وإنّ الأدلّة والوثائق الموجودة تدلّ على أنّ « القوميّة » كانت إحدى الأسلحة والوسائل الاستعماريّة لتفتيت وحدة الاُمّة الإسلاميّة وشقّ عصا المسلمين حيث فرّقوا الاُمّة الواحدة إلى قوميّة عربيّة وتركيّة وفارسيّة وكرديّة، في حين كان العدو الإسرائيليّ يجمع أبناءه وأعضاءه تحت لواء الدين دون أن يفرّق بينهم بالنعرات القوميّة والدعوات الجنسيّة فجمع من أنحاء العالم كلّ من انتمى إلى الدين اليهوديّ دون النظر إلى اختلاف أجناسهم وألوانهم وشكّل بذلك قوّة كبيرة عبّأها ضد العرب، بينما راح العرب يطرحون القضيّة من وجهة قوميّة فابعدوا المسلمين عن أنفسهم وخسروا بذلك قوّة عظمى في الحرب والمواجهة مع إسرائيل.

هذا بالإضافة إلى أنّ القوميّة أخّرت الاُمّة الإسلاميّة في كلّ المجالات لأنّها قتلت الكفاءات وأهدرت الطاقات في نزاعات جانبيّة وتخلّفت بذلك عن التقدم والرقيّ واللحاق بركب الحضارة(١) .

__________________

(١) راجع كتاب حركات ومذاهب في ميزان الإسلام.

٣٦٦

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

٣

المساواة أمام القانون(١)

« النّاسُ أمامُ الحقّ سواء »

( حديث نبوي )

تتميّز الحكومة الإسلاميّة عن غيرها من الحكومات بأنّها لا تفرّق بين من يعيشون تحت رايتها في تطبيق القوانيين عليهم وشملهم بالأحكام الحقوقيّة، والجزائيّة فلا تفرّق بين الغنيّ والفقير والراعي والرعيّة، والحضريّ والقرويّ، بل والبرّ والفاجر، على العكس من الحكومات الاُخرى التي تعامل رعاياها على أساس من التمييز والتفريق الشديد أو الخفيف.

وتعود هذه الخصيصة في الحكومة الإسلاميّة إلى طبيعة الدين الإسلاميّ أساساً

__________________

(١) فيما كان هذا المقطع من كتابنا يهيّأ للطباعة ( صبيحة ١٨ / محرم / ١٤٠٢ ه‍ ) ـ الطبعة الاُولى ـ فجع العالم الإسلاميّ بفقدان علم من أعلام الفقه والفكر هو آية الله العلاّمة السيد محمّد حسين الطباطبائيّقدس‌سره ذلك الرجل الذي كان ينطوي على كنوز عظيمة من العلم والمعنويّة، والذي قام ـ طوال ثمانين سنة من عمره المبارك ـ بأعظم الخدمات إلى العالم الإسلاميّ حيث أسّس منهج ( تفسير القرآن بالقرآن ) متمثّلاً في تفسير الميزان وأشاع اُسلوب التفكّر الإسلاميّ على أساس التعقّل والكتاب والسنّة.

ونحن إذ نعزّي العالم الإسلاميّ بهذه الفاجعة نهيب بالمسلمين أن يهتمّوا بما تركه هذا الرجل العظيم من تراث فكريّ غنيّ.

٣٦٧

فإنّ الإسلام يتميّز ـ عن المبادئ الوضعيّة ـ بتركيزه الشديد على التسوية بين جميع أفراد البشر، مهما اختلفت طبقاتهم وأوضاعهم الاجتماعيّة والسياسيّة، وانتماءاتهم العشائريّة وتعود هذه التسوية الإسلاميّة إلى أمرين أساسيين :

أوّلاً / اعتقاد الإسلام بوحدة بني الإنسان جميعاً، في المنشأ والعنصر، فماداموا جميعاً بشراً من آدم وحواء وهما من تراب وطين.

وماداموا يشتركون في المشاعر والأحاسيس والحاجات والآمال والألام فكلّهم عباد الله تعالى على السواء وكلّهم مخلوقون له بدون استثناء، فلماذا التمييز بين راعيهم ورعيّتهم وغنيّهم وفقيرهم ؟

إنّ الاختلاف في المكانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة لا يمكن ـ في نظر الإسلام ـ أن يكون عاملاً موجباً لتفضيل بعض على بعض، وإخضاع بعض للقانون دون آخر.

ثانيا / لأنّ التمييز في الأخذ بالقانون وتطبيقه والخضوع له، وجعل طائفة من الناس فوق القانون، واُخرى محكومة به ممّا يوهن موضع القانون، ويقلّل من مهابته، فينتفي الغرض المهم منه، وهو تنظيم سلك المجتمع، وإصلاح وضعه وتنسيق شؤونه.

إنّ مكانة القانون ومهابته تظلّ محفوظة ومصانة، ما دام يكون موضع الاعتراف والاحترام من الجميع فلا خارج عنه، ولا مترفّع عليه، ولا ناقض لأحكامه. ولو سمح الإسلام لأحد أن يخرج عن القانون ويجعل نفسه فوق أحكامه لعاد نقض القانون فخراً. وفي ذلك ما فيه من ضياع النظام وسقوطه، وانعدام تأثيره.

ولأجل ذلك مضى الإسلام يكافح ـ بدون هوادة وبكلّ قوّة ـ أي نقض للقانون حتّى في أبسط الصور مثل أن يكون لجماعة خاصّة محكمة خاصّة بهم نظراً لمكانتهم الاجتماعيّة والسياسيّة بينما يكون لعامّة الناس محكمة اُخرى لأنّهم الطبقة الدنيا من المجتمع، وإن كانت الأحكام السائدة في جميع هذه المحاكم المختلفة، نوعاً واحداً.

إنّ الخضوع والتسليم لهذا الأصل الإسلاميّ في التسوية بين جميع أفراد الاُمّة، وتطبيق القانون على الجميع بدون استثناء بلغ إلى حدّ أدّى بأن يعتبر الدين الإسلاميّ ،

٣٦٨

الانقياد للقانون والتسليم له، من شرائط تحقّق الإيمان وصدق ادّعائه إذ قال سبحانه :

( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ( النساء: ٦٥ ).

ومن المعلوم أنّ المراد بتسليمهم للنبيّ هو التسليم لأحكامه والقوانين التي جاء بها والشرع الذي صدع به، وهو يعني عدم التمييز.

ولقد ذمّ الله سبحانه شرذمة من الناس يخضعون للقانون ويذعنون له ما دام يحقّق مصالحهم وينسجم مع رغباتهم فإذا وجدوه خلاف ذلك نبذوه وخالفوه وأعرضوا عنه، يقول القرآن عن هؤلاء:( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ *وَإِن يَكُن لَّهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) ( النور: ٤٨ ـ ٤٩ ).

وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ ) ( الحج: ١١ ).

ولهذا وصف الله سبحانه ( النسيء ) بأنّه زيادة في الكفر وكان النسيء عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر وهو أمر كانت تفعله الجاهليّة فتؤخّر حرمة شهر المحرّم ـ إذا أهلّ وهم في القتال ـ إلى شهر صفر، وقد كان سدنة الكعبة يرتكبون ذلك لقاء ثمن قليل يأخذونه من المعتدين والراغبين في القتال والعدوان في الأشهر الحرم فقال سبحانه:( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة: ٣٧ ).

كما ذمّ الله سبحانه أحبار اليهود على تحريفهم الكتاب جلباً لرضا الناس ولقاء أجر بخس حيث قال سبحانه عنهم:( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء: ٤٦ ).

وقال تعالى:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ

٣٦٩

لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة: ٧٩ ).

وقال تعالى:( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ ) ( المائدة: ١٣ ).

ولقد ورد في ذيل قوله تعالى:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ ) عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « إنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشا وبتغيير الأحكام، عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات وعرفوهم بالتّعصب الشّديد الذّي يفارقون به أديانهم، وإنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم وعرفوهم يقارفون الحرمات »(١) .

ولأجل ذلك رفض الإسلام بشدّة أي شفاعة في إجراء الحدود، فالحدود يجب أن تجرى على الجميع بغض النظر عن مكانة المستحقّ ما دام مستحقّاً فقد وردت في هذا المجال طائفة كبيرة من الأحاديث، كما عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام حيث قال: « كان لاُمّ سلمة زوجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أمة فسرقت من قوم، فأتي بها إلى النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فكلّمته اُمُّ سلمة فيها. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أُمّ سلمة هذا حد من حدود الله لا يُضيعُ، فقطعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٢) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لاُسامة بن زيد: لا يُشفعُ في حدّ »(٣) .

وعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أيضاً قال: « كان أُسامةُ بن زيد يشفعُ في الشيء الذي لا حدّ فيه، فاتي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بإنسان قد وجب عليه حدّ فشفع لهُ أُسامةُ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تشفع في حدّ »(٤) .

ولقد جسد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه التسوية أمام القانون عملياً في قصة سوادة بن قيس.

__________________

(١) إحتجاج الطبرسيّ ( طبعة النجف ) ٢: ٢٦٢.

(٢ و ٣ و ٤) وسائل الشيعة ١٨: ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

٣٧٠

فقد قال سوادة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيام مرضه لـمّا صعد المنبر وطلب من الناس أن يطالبوه بما لهم عليه من حقّ إن كان: يا رسول الله انّك لـمّا اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فأمره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقتص منه، فقال اكشف لي عن بطنك يا رسول الله فكشف عن بطنه فقال سوادة: أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك، فأذن له، فقال أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا سوادة أتعفو أم تقتصّ » فقال سوادة: بل أعفو يا رسول الله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أللّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيّك محمّد »(١) .

ولأجل هذا قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس سواسيّة كأسنان المشط »(٢) .

وأوضح نص في هذا المجال هو قول الله تعالى:( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) ( المائدة: ٤٥ )، فقد جعل الله النفس في مقابل النفس دون تمييز يعود إلى الغنى والفقر وما شابه ذلك.

وقد اعتبر الإسلام أي تمييز بين الأفراد أمام القانون بحجّة الغنى والفقر، أو القوة والضعف إيذاناً بالسقوط والهلاك والعذاب حيث نقل المحدثون عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: « أيُّها الناس إنّما هلك من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ »(٣) .

كما أنّ أوضح دليل عملي على هذه المساواة هو ما فعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع، فإنّه لـمّا أبطل ما كان من الربا بين الناس بدأ بعمّه العباس فأبطل ما كان له في ذمّة الناس من الربا قائلاً: « إنّ ربا الجاهليّةُ موضوع وإنّ أوّل ربا أبدأ به ربا العبّاس بن عبد المطلب »(٤) .

وعندما وضع ماسبق من دماء الجاهلية بدأ بدم عامر بن ربيعة الذي كان من

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦، سفينة البحار ١: ٦٧١، وقد ذكر ابن الاثير في اُسد الغابة نظير هذه القصّة ٢: ٣٧٤.

(٢) من لا يحظره الفقيه ٤: ٢٧٢.

(٣) صحيح مسلم ٥: ١١٤.

(٤) تحف العقول: ٢٩ خطبة حجّة الوداع.

٣٧١

أقرباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: « وإنّ دماء الجاهليّة موضوعة وإنّ أوّل دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن المطلّب »(١) .

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق قال: « قال أمير المؤمنين ( الإمام عليّ بن أبي طالب )عليه‌السلام لعمر بن الخطاب: ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شيء سواهنّ.

قال: وما هنّ يا أبا الحسن ؟

قالعليه‌السلام : إقامة الحدود على القريب والبعيد والحكم بكتاب الله في الرّضا والسّخط والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود.

قال عمر: لعمري لقد أوجزت وأبلغت »(٢) .

وقد جسّد الإمام عليّعليه‌السلام هذه التسوية بين الأفراد عمليّاً وذلك لـمّا حدّ النجاشيّ فغضب اليمانية فدخل طارق بن عبد الله عليه، فقال: « يا أمير المؤمنين ما كُنّا نرى أنّ أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء حتّى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث فأوغرت صدورنا وشتّت اُمورنا وحملتنا على الجادّة التي كنّا نرى أنّ سبيل من ركبها النار، فقالعليه‌السلام : « وإنّها لكبيرة إلّا على الخاشعين، يا أخا بني نهد، وهل هو إلّا رجل من المـُسلمين انتهك حُرمة ما حرّم الله فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارتهُ، إنّ الله تعالى قال:( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ) ».

فلما جنّ الليل همس هو والنجاشيّ إلى معاوية(٣) .

إلى غير ذلك من النصوص والأمثلة العمليّة على ذلك.

وينشأ هذا الأصل الإسلاميّ العظيم من إهتمام الإسلام الأكيد بالعدالة الذي يعتبر في حقيقته خصيصة برأسها.

__________________

(١) تحف العقول: ٢٩ خطبة حجّة الوداع.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦.

(٣) البحار ٤١: ٩ و ١٠.

٣٧٢

المساواة من ثمار العدل :

فقد تميّز الإسلام بتركيزه الشديد على أمر العدل، واهتمّ به أكثر من اهتمامه بأيّ شيء آخر، حتّى عاد العدل أساس الإسلام وقاعدته الكبرى، ومطلبه الرئيسيّ فلقد نادى الإسلام بالعدالة، وطلب إجراءها، وتنفيذها على الإطلاق بحيث تشمل جميع الأفراد من دون نظر إلى اختلافاتهم العنصريّة والاقليميّة والمذهبيّة.

إنّ الإسلام إذ يعتقد وحدة الناس أباً واُمّاً خاطبهم جميعاً بقوله: أيُّها الناس، وهو كما نلاحظ خطاب يعمّ كلّ بني الإنسان كافّة وقد بنى على هذا الأصل ما نشده من التسوية بين القويّ والضعيف والغنيّ والفقير، والشريف والوضيع.

إنّ تعميم العدل ـ في نظر الإسلام ـ ضرورة لا مندوحة منها، وقد اعتبر العدول عن ذلك ناجماً عن اتّباع الهوى كما قال سبحانه:( فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ) ( النساء: ١٣٥ ).

ورفض أن يكون أي شيء مانعاً من تطبيقه وإجرائه خصوصاً شنآن قوم على ذلك ومعاداتهم بسبب إجراء العدل فقال:( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ ) ( المائدة: ٨ ).

وقد اعتبره الإسلام أجمل مطلب يطمح إليه النوع الإنسانيّ إذ قال الصادقعليه‌السلام : « العدلُ أحلى من العسل »(١) .

وذلك لأنّ العدل طريق إلى تحقّق الأمن الاجتماعيّ، فلولاه لما بقي من الأمن أثر ولا خبر. ولهذا كان أهمّ وظيفة من وظائف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو إجراء العدل وبسطه في المجتمع إذ قال سبحانه:( وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) ( الشورى: ١٥ ).

وراح القرآن الكريم يقارن بين من يعدل وبين من لا يعدل، ويستنكر التسوية بينهما إظهاراً لأهمّية العدل، إذ قال:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ

__________________

(١) سفينة البحار ١: ١٦٦.

٣٧٣

مُّسْتَقِيمٍ ) ( النحل: ٧٦ ).

ولذلك أمر سبحانه جميع الناس بإجراء العدل وتطبيقه وصيانته قائلاً:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) ( النحل: ٩٠ ) وهو كما نلاحظ أمر مطلق غير مقيّد بزمان أو مكان خاصّ أو أفراد معينّين.

من نتائج العدل

إنّ من أبرز نتائج العدل وثماره هو خروج القابليات إلى كمالها، ونموّها وتكاملها لأنّ صاحب القابليات والمواهب إذا عرف أنّ جهده لا يضيع، وأنّه لو أظهر نبوغه وعمل على ابراز قابليّته فاز بالمقام والتقدير دون حيف وجور، اجتهد في ذلك، وأعطى من نفسه وراحته ما يحقّق تقدّمه وهذا بعكس ما إذا كان الملاك للتقدير في المجتمع هو العلاقات والخداع، والدهاء فعندئذ تبقى المواهب والقابليات محبوسة في مواضعها خامدة جامدة.

إنّ التعامل على أساس العدل وموافاة كلّ ذي حقّ حقّه، وتقديم الضوابط على العلاقات يطمئنّ الناس إلى مصير سعيهم ونتيجة عملهم ويشجّعهم على الخير والاجتهاد فينطلق المحسن في إحسانه ويرتدع المسيء عن إساءته.

ولأجل هذا قال الإمام عليّعليه‌السلام في عهده المعروف للأشتر النخعيّ: « ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة »(١) .

ويكفي إظهاراً لأهمّية العدل وعظمة دوره في إسعاد المجتمع أنّ الله سبحانه جعل إقامة العدل، الهدف النهائيّ لإرسال الرسل والأنبياء إلى البشريّة وإنزال الكتب عليهم إذ قال:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ( الحديد: ٢٥ ).

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

٣٧٤

إهتمام الإسلام بالعدل

ولقد بلغ اهتمام الإسلام باجراء العدل أنّه نهى أن يقف المسلم موقف الحياد من الظلم والبغي ومن الظالم والباغي، وفرض عليه أن يصلح بين طائفتين من المؤمنين اقتتلا، فرض عليه ذلك صوناً للعدل ومنعاً للظلم فقال:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) .

وإذا بغت إحدى الطائفتين وتجاوزت حدودها، ولم تخضع للصلح أوجب الإسلام محاربتها، وإيقافها عند حدّها وإرجاعها إلى جادّة الحقّ والسلام إذ قال:( فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ) .

على أن يكون الإصلاح بينهما بالعدل لا بالظلم وإبطال الحقّ وإحياء الباطل، وسحق المظلوم ودعم الظالم، وتشجيع المعتدي وتضييع المعتدى عليه: فقال سبحانه:( فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات: ٩ ).

ولأجل هذه الأهمّية البالغة صارت العدالة من الاُصول التي لا تقبل أي تخصيص.

كما لأجل هذه الأهمّية البالغة نجد الإسلام الذي يدعو إلى السلم والصلح والتعايش السلميّ يجوّز الحرب والقتال دفعاً للظلم وردعاً للظالم، وقد وعد الله سبحانه عليه بالنصر تثبيتاً لموقع العدل، وإظهاراً للإهتمام به فقال سبحانه:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) ( الحج: ٣٩ ).

واشترط الإسلام أن لا يتجاوز هذا القتال والحرب حدود العدل، لأنّه لإقامة العدل فكيف يتجاوز حدوده، ولذلك نهى عن الاعتداء على الطرف الآخر بمزيد من عدوانه واعتدائه إذ قال:( فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( البقرة: ١٩٤ ).

إنّ العدل ـ في النظام الإسلاميّ ـ يمثّل أساس الأحكام والقوانين، وميزان

٣٧٥

التشريع وقسطاسه المستقيم فلا شيء في النظام الإسلاميّ إلّا وينطلق من منطلق العدل، ولا شيء فيه إلّا ويهدف تحقيق العدالة في الحياة الإجتماعيّة، ولقد أمر القرآن الكريم عامّة المسلمين أنّ يهتمّوا بإقامة القسط والعدل غاية الاهتمام فقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ) ( النساء: ١٣٥ ).

ومن الواضح أنّ ( قوّام ) الذي هو صيغة المبالغة من ( قائم ) يوحي بشدّة التأكيد الإلهيّ على مسألة العدل، وإجرائه فعلى المسلمين ـ لذلك ـ أن يبالغوا في تحقيق العدالة حتّى على الأغنياء فلا يحابوهم ولا يداروهم، ولذا قال الله سبحانه في ذيل تلك الآية:( أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) ( النساء: ١٣٥ ).

فإنّ غنى المحكوم يجب أن لا يقف سدّاً في طريق العدل، وينبغي أن لا يكون سبباً للتخلّي عنه.

فها هو الإمام عليّعليه‌السلام يرى أنّ من أهمّ واجبات الحاكم هو إقامة العدل: « وايم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً »(١) .

إنّ العدل لا يشكل طريقاً للأمن الإجتماعيّ للاُمّة الإسلاميّة فقط، بل يمثّل طريقاً طبيعياً لحفظ السلام العالميّ أيضاً، فإذا أراد العالم أن يأمن الحرب ويتخلّص من التجاوز فما عليه إلّا إجراء العدل والأخذ به في تعامله وتعايشه ولا يمكن ذلك إلّا بالأخذ بالنظام الإسلاميّ.

أبعاد العدل ومجالاته

إنّ للعدل أبعاداً ومجالات كثيرة ومفصّلة ذكرها القرآن الكريم، نشير إليها هنا باختصار :

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة رقم ١٣٢.

٣٧٦

١. العدل في مجال الحكم

لقد أكّد الإسلام على الأخذ بالعدل في مجال الحكم، فاشترط أن يكون الحاكم عادلاً، وفرض عليه العمل وفق سنن العدالة في كلّ مجالات الحكم والولاية قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء: ٥٨ ).( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

ومن المعلوم أنّ إقامة المعروف هو أظهر مصاديق العدل كما أنّ النهي عن المنكر أظهر مصاديق ردع الظالم ودفع الظلم.

٢. العدل في مجال الأخذ بالقانون

لقد حثّ الإسلام حثّاً أكيداً على إجراء العدل على جميع أفراد المجتمع بدون استثناء فالكلّ أمام القانون سواء من دون فرق بين رئيس ومرؤوس، وغنيّ وفقير، وآمر ومأمور. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « النّاس أمام الحقّ [ القانون ] سواء ».

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « الحقُّ لا يجري لأحد إلّا جرى عليه ولا يجري على أحد إلّا جرى لهُ »(١) .

٣. العدل في مجال الأقتصاد

فلقد سنّ الإسلام برامجه الاقتصاديّة على اُسس عادلة، وأوجب على الحاكم بسط العدل في مجالات الاقتصاد بكلّ الوسائل الممكنة، فمنع من كلّ ألوان الظلم الاقتصاديّ كالربا والاحتكار وإعطاء الامتيازات لبعض دون بعض، وشرّع لذلك

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة رقم ٢١١ ( طبعة عبده ).

٣٧٧

قوانين جزائيّة صارمة تضمن العدالة في هذه المجالات فقال سبحانه:( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة: ٢٧٩ ).

والجملة الأخيرة قاعدة كليّة في كلّ المجالات الاقتصاديّة وغيرها.

كما أنّه يرى الحاكم مسؤولاً عن أموال الاُمّة حتّى لا يهضم حقّ أحد ففي هذا المجال يقول الإمام عليّعليه‌السلام وهو يقصد من استولوا على أموال بيت المال في عهد عثمان: « والله لو وجدته قد تزوّج به النّساء وملك به الأماء لرددته فإنّ في العدل سعةً، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق »(١) .

وعن مسؤولية الحاكم اتّجاه العدالة الاقتصاديّة قال لمن أتاه يطلب منه مالاً في غير حقّ ( أيضاً ): « إنّ هذا المال ليس ليّ ولا لك وإنّما هو فيء للمسلمين، وجلب أسيافهم فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم، وإلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم »(٢) .

٤. العدل في مجال العلاقات الاجتماعيّة

لقد سعى الإسلام غاية السعي إلى إقامة العلاقات الاجتماعيّة على قواعد العدل وأسسه بحيث لا يقع حيف من أحد على أحد في هذه العلاقات والروابط.

ومن هنا سنّ حقوقاً للوالدين والجيران والصغار والنساء والأيتام والمرضى والمقعدين الخ(٣) .

وأخيراً لقد اعتبر الإسلام العدل أفضل وأحسن مآلاً للمجتمع إذ قال:( وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( الأسراء: ٣٥ ).

وإنّما يكون العدل خيراً وأحسن مآلا لأنّ الظلم إذا اجتمع جزء فجزء أوجب الانفجار والنقمة، وآل بالبلاد والعباد إلى الفساد والشرّ.

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة رقم ١٤.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة رقم ٢٢٧.

(٣) راجع رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسينّعليهما‌السلام .

٣٧٨

إنّ المجتمع المهضوم حقّه الذي يتعرّض للظلم الاقتصادي والسياسيّ لا يمكن أن يطول به الأمر دون أن ينفجر في المآل ويثور في وجه حكّامه.

إنّ الاستبداد والديكتاتوريّة وإن استطاعت أن تكبح جماح الشعوب لفترة من الزمن باستخدام العنف والقوّة والقهر والإرغام، ولكنّ الظلم والحيف إذا اجتمعا شيئاً فشيئاً تحوّل إلى طوفان جارف، وانفجار يأتي على كلّ شيء فلا يبقي ولا يذر ولهذا كان العدل خيراً وأحسن مآلا والظلم بخلافه.

* * *

وخلاصة القول أنّ الإسلام جاء والبشر أجناس متفرّقون يتعادون في الأنساب والألوان، واللغات والأوطان والأديان والمذاهب والمشارب والشعوب والقبائل والحكومات والسياسات فدعاهم الإسلام إلى الوحدة الإنسانيّة العامّة الجامعة وفرضها عليهم فدعا إلى الوحدات التالية :

١. وحدة الاُمّة.

٢. وحدة الأجناس البشريّة.

٣. وحدة الدين.

٤. وحدة التشريع بالمساواة في الحقوق المدنيّة والتأديبيّة.

٥. الوحدة بين المؤمنين.

٦. وحدة الجنسيّة السياسيّة الدوليّة(١) .

وبذلك تكون الدعوة إلى الوحدة في هذه المجالات من خصائص الإسلام والحكومة الإسلاميّة وامتيازاتها.

على أنّ ما ذكرناه من خصائص الحكومة الإسلاميّة إنّما هو مساواة المعتنقين أمام القانون لا مساواتهم في كلّ شيء حتّى في حيازة المناصب، إذ هي تابعة للقابليّات والمؤهّلات وأهمّية الجهود وقلّتها وشدّتها.

__________________

(١) تفسير المنار ١١: ٢٥٥.

٣٧٩

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

٤

الإسلام بين الماديّة والمعنويّة

( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمّة وَسَطًا )

( البقرة: ١٤٣ ).

لا شكّ في أنّ الدين الإسلاميّ دعا إلى العبادة والأخذ بتقوى الله سبحانه، إلى جانب الدعوة إلى الاستفادة من النعم الماديّة، والتمتّع بلذائذ الحياة الدنيا، وهو بهذا استطاع أن يخلق من الاُمّة الإسلاميّة، أمّة ( وسطاً ) حازت الجوانب الماديّة والمعنويّة معاً. فهي ليست كالاُمم ( الماديّة ) التي تعتقد بأصالة اللذة فتلخّص الإنسانيّة والحياة البشريّة في مجرد الاستمتاع بلذائذ الدنيا ونعمها، ومواهبها، كما يشاء الأعداء أن يتّهموا الإسلام بذلك.

كما ليست كالاُمم ذات الاتّجاه الروحيّ البحت، التي لخّصت الحياة الإنسانيّة في الانسياق وراء الجوانب الروحيّة المحضة ناسية وراءها الدنيا وما فيها، والجسد ومتطلباته، بل الإنسان الكامل ـ في ظل النظام الإسلاميّ وبحكم طبيعته المزدوجة من الروح والجسد ـ هو الذي يتمتع بكلا الجانبين الماديّ والمعنويّ، فيأخذ من الدنيا زاده ومتاعه، ويتّجه إلى الآخرة هدفاً ومقصداً فيأخذ من هذا حظّاً، ومن ذلك حظّاً غير

٣٨٠