مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219011 / تحميل: 6012
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثُمّ إنّ القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان ، قال سبحانه :( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ) .(١)

قال ابن عبّاس : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به

وقد خُصّ بالكتاب المُنزَّل على نبيِّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصار له كالعَلَم ، كما أنّ التوراة لمّا أُنزل على موسىعليه‌السلام ، والإنجيل لمّا أُنزل على عيسىعليه‌السلام

قال بعض العلماء : تسمية هذا الكتاب قُرآناً من بين كتب اللّه ، لكونه جامعاً لثَمرَة كُتبِه ، بل لجمعه ثَمرَة جميع العلوم ، كما أشار تعالى إليه بقوله :( وَتَفصيلاً لكلِّ شيء ) .(٢)

وعلى هذا ، فالقرآن مِن قَرَأَ بمعنى : جمع ، ولكن يُحتمل أن يكون بمعنى القراءة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقُرآنَ الفَجْر ) (٣) ، أي : قراءته

الحلف بالكتاب :

حلف سبحانه بالكتاب مرَّتين وقال :

١ ـ( حم * والكتابِ المُبِين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرين ) (٤)

٢ ـ( حم * وَالكتابِ المُبِين * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) القيامة : ١٧ـ ١٨

(٢) الأنعام : ١٥٤

(٣) الإسراء : ٧٨

(٤) الدخان : ١ـ٣

(٥) الزخرف : ١ـ٣

٦١

فالمُقسَم به هو الكتاب ، والمُقسَم عليه في الآية الأولى قوله :( إِنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُباركة ) ، والصِلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنّه مُنزَّل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة

كما أنّ المُقسَم به في الآية الثانية هو الكتاب المبين ، والمُقسَم عليه هو الحلف على أنّه سبحانه جعله قرآناً عربيّاً للتعقّل ، والصِلة بينهما واضحة

ووُصف الكتاب بالمُبين دون غيره ؛ لاَنّ الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم وتعقّلهم ، كما جاء في الآيتين ، حيث قال :( إِنّا كُنّا مُنذرين ) ، وقال :( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) ، وهذا النوع من الغاية ، أي : الإنذار والتعقّل ، يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحاً مفهوماً ، لا مجهولاً ومعقداً

والكتاب في الأصل مصدر ، ثُمّ سُمّي المكتوب فيه كتاباً

إلى هنا تمّ الحلف بالقرآن والكتاب

بقي هنا الكلام في عظمة المُقسَم به

ويكفي في ذلك أنّه فعله سبحانه ، حيث أنزله لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة

وقد تكلّم غير واحد من المُفكّرين الغربيّين حول عظمة القرآن ، والأحرى بنا أن نرجع إلى نفس القرآن ونَستنطِقه حتى يُبدي رأيه في حقِّ نفسه

أ ـ القرآن نور ينير الطريق لطلاّب السعادة ، قال سبحانه :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِين ) (١)

ب ـ إنّه هدى للمُتَّقين ، قال سبحانه : ( هُدىً لِلْمُتَّقين ) (٢) فهو وإن كان هدى لعامّة الناس ، إلاّ أنّه لا يستفيد منه إلاّ المُتَّقون ؛ ولذلك خصَّهم بالذِكر

ــــــــــــــــ

(١) المائدة : ١٥

(٢) البقرة : ٢

٦٢

ج ـ هو الهادي إلى الشريعة الأقوَم ، قال سبحانه :( إِنَّ هذا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتي هِي أَقْوم ) (١)

د ـ الغاية من إنزاله قيام الناس بالقِسط ، قال سبحانه :( وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ ) .(٢)

هـ ـ لا يتطرَّق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ، ولا في مضامينه ولا محتواه ، قال سبحانه :( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً ) (٣)

و ـ يحثّ الناس إلى التدبُّر والتفكّر فيه :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُباركٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) (٤)

ز ـ تبيان لكلّ شيء :( وَنَزلْنا عَليْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء ) (٥)

ح ـ نذير للعالمين :( تَبارَكَ الَّذي نَزَّل الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) (٦)

ط ـ فيه أحسن القَصص :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَص ) (٧)

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٩

(٢) الحديد : ٢٥

(٣) النساء : ٨٢

(٤) ص : ٢٩

(٥) النحل : ٨٩

(٦) الفرقان : ١

(٧) يوسف : ٣

٦٣

ي ـ ضُرب فيه للناس من كلِّ مَثل :( وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذا الْقُرآنِ لِلنّاسِ من كُلِّ مَثَل ) (١)

هذه نماذج من الآيات الّتي تصف القرآن ببعض الأوصاف

وللنبي والأئمّة المعصومين كلمات قيِّمة حول التعريف بالقرآن ، ننقل شذرات منها :

قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً ، فقال :( أيّها الناس ، إنّكم في دار هُدنة ، وأنتم على ظَهرِ سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يُبليان كلّ جديد ، ويُقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدّوا الجهاز لبُعد المُجاز )

فقام المُقداد بن الأسود وقال : يا رسول اللّه ، و ما دار الهُدنة ؟

قال : ( دار بلاغٍ وانقطاعٍ .

فإذا التبست عليكم الفِتن كقطع اللّيل المُظلِم ، فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافِع مُشفَّع وماحِل مُصدَّق ، ومَن جعله أَمامَه قادَه إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه ساقه إلى النار

وهو الدليل ، يدلُّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفَصل ليس بالهَزل ، وله ظَهْر وبَطْن ، فظاهره حكم وباطنه عِلم ، ظاهره أنيق وباطنه عَميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تُحصى عجائبه ولا تبلَى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمَن عرف الصِفة

فليَجل جال بَصَره ، وليبلغ الصِفة نظره ، ينج مَن عطب ، ويتخلَّص مَن نشب ، فإنّ التَفكُّر حياة قلبِ البصير ، كما يمشي المُستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحُسنِ التخلّص وقلَّة التربّص ) (٢)

ــــــــــــــــ

(١) الكهف : ٥٤

(٢) الكافي : ٢/٥٩٩ ، كتاب فضل القرآن

٦٤

وقال الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصف القرآن :

( ثُمّ أنزلَ عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبُو توقُّده ،وبحراً لا يُدرك قعرُه ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحر لا يَنزِفه المُستنزفون ، وعيون لا يُنضِبُها الماتِحُون ، ومناهل لا يَغيضُها الواردون ) (١)

إلى غير ذلك من الخُطب والكلم حول التعريف بالقرآن ، الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام

ــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٨

٦٥

الفصل الخامس : القَسَمُ بالعَصْر

حلف سبحانه بالعصر مرّةً واحدة ، دون أن يقرنه بمُقسَمٍ به آخر ، وقال :( وَالعَصْر * إِنّ الإنْسانَ لَفي خُسْر ) (١)

تفسير الآيات :

العَصْر يُطلق ويراد منه تارة : الدَهر ، وجَمْعه عصور

وأُخرى : العَشيّ مقابل الغداة ، يُقال : العصران : الغداة والعشي ، والعصران : الليل والنهار ، كالقمرين للشمس و القمر

وثالثة : بمعنى الضَغْط ، فيكون مصدر عَصَرْتُ ، والمَعصور الشيء العصر ، والعُصارة نفاية ما يُعصَر ، قال سبحانه :( أَراني أَعْصِرُ خَمراً ) (٢) ، وقال :( وفيهِ يَعْصِرُون ) (٣) ، وقال :( وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً ) (٤) أي : السُّحُب الّتي تعتصرُ بالمَطَر

ورابعة : بمعنى ما يُثير الغبار ، قال سبحانه :( فَأَصابَها إعصار ) (٥) .(٦)

والمُراد من الآية أحد المَعنيين الأوّليين :

الأوّل : الدَهر والزمان

الثاني : العَصْر مقابل الغداة

ولا يناسب المعنى الثالث ، أعني : الضغط ، ولا الرابع ، كما هو واضح

ــــــــــــــــ

(١) العصر : ١ـ٢

(٢) يوسف : ٣٦

(٣) يوسف : ٤٩

(٤) النبأ : ١٤

(٥) البقرة : ٢٦٦

(٦) مفردات القرآن : مادّة عصر ، و مجمَع البيان : ٥/٥٣٥

٦٦

وإليك بيان المَعنَيين الأوّلين

١ ـ العَصْر : الدَهْر . وإنّما حلف به ؛ لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار

وقد نُسب ذلك القول إلى ابن عبّاس ، والكلبي ، والجبائي

قال الزَمخشري : وأقسَمَ بالزمان ؛ لما في مروره من أصناف العجائب(١)

ولعلّ المُراد من الدهر والزمان اللّذين يُفسِّرون بهما العصر هو تاريخ البشريّة ؛ وذلك لأنّه سبحانه جعل المُقسَم عليه كون الإنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصّة ، ومن المعلوم أنّ خسران الإنسان أنّه هو مِن تصرّم عُمْره ، ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مالٍ وقع في يده

وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة ، نأتي بنصِّها :

قال : وعن بعضِ السَلَف ، تعلّمتُ معنى السورة من بائع الثلج ، كان يصيح ويقول : ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، فقلت : هذا معنى أنّ الإنسان لفي خُسْر ؛ يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب ، فإذا هو خاسر(٢)

٢ ـ العصر : أحدُ طَرفَي النهار . وأقسم بالعَصر كما أَقسم بالضُحى ، وقال :( والضحى * واللَّيل إذا سَجى ) (٣) ، كما أقسم بالصبح وقال :( والصُّبح إِذا أَسفَر ) (١)

وإنّما أقسَمَ بالعَصرِ لأهمّيّته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المَعيشة وحياة البشر ، فالأعمال اليوميّة تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب ، ويستولي الظلام على السماء ، ويخلد الإنسان إلى الراحة

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٣/٣٥٧

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٣٢/٨٥

(٣) الضحى : ١ـ٢

٦٧

وهناك قولان آخران :

أ ـ المرادُ عَصْر الرسول ذلك لما تضمَّنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني ، إلاّ لمَن اتَّبع الحقّ وصبر عليه ، وهم المؤمنون الصالحون عملاً ، وهذا يؤكّد على أن يكون المراد من العصر عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو عصر بزوغ نجم الإسلام في المجتمع البشري ، وظهور الحقّ على الباطل

ب ـ المراد به وقت العصر وهو المروي عن مقاتل ، وإنّما أقسَمَ بها ، لفضلها ، بدليل قوله :( حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطى ) (٢) ، كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى :( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ ) (٣) هو صلاة العصر

أضف إلى ذلك ، أنّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبةِ تُختَم بها الأعمال.

ولا يخفى أنّ القول الأخير في غاية الضعف ؛ إذ لا صِلة بين القَسَم بصلاة العصر والمُقسَم عليه ، أعني :( الإنْسان لفي خُسر ) ، على أنّه لو كان المُقسَم به هو صلاة العصر ، لماذا اكتفى بالمضاف إليه وحذف المضاف ، مع عدم توفُّر قرينة عليه ؟! ومنه يظهر حال الوجه المُتقدّم عليه

والظاهر أنّ الوجه الأوّل هو الأقوى ؛ حيث أنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب ، أي : خسران الإنسان في الحياة ، كما سيوافيك بيانه

ــــــــــــــــ

(١) المُدّثّر : ٣٤

(٢) البقرة : ٢٣٨

(٣) المائدة : ١٠٦

٦٨

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( إِنَّ الإنسانَ لَفي خُسْر ) ، والمراد من الخسران هو : مضيّ أثمَن شيء لديه وهو عمره ، فالإنسانُ في كلّ لحظة يفقد رأس ماله ، بنحوٍ لا يُعوَّض بشيء أبداً ، وهذه هي سُنَّة الحياة الدنيويّة ، حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج ، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت ، فأيُّ خسران أعظم من ذلك ؟!

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فأوضح من أن يخفى ؛ لاَنّ حقيقة الزمان حقيقة مُتصرّمة غير قارة ، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً ، وهكذا الحال في عمر الإنسان ، فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج

ثُمّ أنّه سبحانه استثنى من الخسران مَن آمن وعمل صالحاً ، وتواصى بالحقِّ وتواصى بالصبر

ووجه الاستثناء واضح ؛ لأنّه بدَّلّ رأس ماله بشيء أغلى وأثمَن ، يستطيع أن يقوم مقام عمره المُنقضي ، فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة ، حافلة برضوانه سبحانه ونِعمه المادِّية والمعنويّة

يقول سبحانه :( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١)

ــــــــــــــــ

(١) التوبة : ١١١

٦٩

الفصل السادس : القَسَم بالنَجْم

وردتْ كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرّات في أربع سور(١) ، وحلف به مرَّة واحدة وقال :( وَالنَّجمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (٢) ، وهي من السور المكِّية

تفسير الآيات :

النَجْمُ في اللغة : الكوكب الطالِع ، وجمعه نُجوم ، فالنجوم مرّة اسم كالقلوب والجيوب ، ومرّة مصدر كالطلوع والغروب

وأمّا ( هوى ) في قوله :( إِذا هَوى ) ، فيُطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة ، وأُخرى على السقوط من علوٍ إلى سفل

ولكنّ تفسيره بسقوط النجم وغروبه لا يُساعده اللفظ ، وإنّما المُراد هو ميله

وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى ، أي : إذا مالَ

ثُمّ إنّ المراد من النجم أحد الأمرين :

أ ـ أمّا مُطلَق النجم ، فيشمل كافّة النجوم الّتي هي من آيات عظمة اللّه سبحانه ، ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الإحاطة بها

ــــــــــــــــ

(١) وهي : النحل : ١٦ ، النجم : ١ ، الرحمن : ٦ ، الطارق : ٣

(٢) النجم : ١ـ٤

٧٠

ب ـ المراد هو نجم الشِعْرَى ، الّذي جاء في نفس السورة ، قال سبحانه :( وَانَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعرى ) (١)

ونظيره القول بأنّ المراد هو الثُريّا ، وهي مجموعة من سبعة نجوم ، ستَّة منها واضحة وواحد خافت النور ، وبه تُختبر قوَّة البَصَرِ

وربّما فُسّر بالقرآن الّذي نزل على قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة ٢٣ سنة ؛ لنزوله نجوماً(٢) ، لكنّ لفظ الآية لا يُساعد على هذا المعنى ، فاللّه سبحانه إمّا أن يحلف بعامّة النجوم ، أو بنجم خاصِّ يهتدي به السائر

ويدلّ على ذلك أنّه قيَّد القَسَم بوقت هويِّه ، ولعلّ الوجه هو أنّ النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرضِ لا يهتدي به الساري ، لأنّه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال ، تبيَّن بزواله جانب المغرب من المشرق(٣)

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( ما ضَلَّ صاحِبكُمْ وَما غوى * وما ينطق عن الهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحيٌ يُوحى )

جمع سبحانه هناك بين الضلال والغَيِّ فنفاهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقرآنُ يستعمل الضلالة في مقابل الهدى ، يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ ) (٤)

ــــــــــــــــ

(١) النجم : ٤٩

(٢) انظر الميزان : ١٩/٢٧ ، مجمع البيان : ٥/١٧٢

(٣) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٧٩

(٤) المائدة : ١٠٥

٧١

كما يستعمل الغَيّ في مقابل الرُشد ، يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً ) (١)

والمُهمُّ بيان الفرق بين الضلالةِ والغواية ، فنقول :

ذكرَ الرازي : أنّ الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصَده طريقاً أصلاً ، والغِواية أن لا يكون له طريق مُستقيم إلى المقصَد يدلّك على هذا أنّك تقول للمؤمن الّذي ليس على طريق السَداد : إنّه سَفيه غير رشيد ، ولا تقول إنّه ضالّ ، والضالّ كالكافر ، والغاوي كالفاسق(٢)

وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب : الغيّ جهلٌ من اعتقادٍ فاسد ، وذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً ، وقد يكون من اعتقاد شيء ، وهذا النحو الثاني يُقال له : غَيّ(٣)

وعلى هذا ، فالآية بصَدَد بيان نفي الضلالة والغَي عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّ كلّ نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليردّ به التُهم المُوجّهة إليه من جانب أعدائه

وأمّا بيان الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فواضح ، لما ذكرنا من أنّ النجم عند الهوى والميل يهتدي به الساري ، كما أنّ النبي يهتدي به الناس ، أي : بقوله وفعله وتقريره

فكما أنّه لا خطأ في هداية النجم لأنّها هداية تكوينيّة ، وهكذا لا خطأ في هداية الوحي المُوحى إليه ، ولذلك قال :( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى )

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ١٤٦

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٨٠

(٣) مفردات الراغب : ٣٦٩

٧٢

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم

حَلَفَ سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم * إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيم * فِي كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ المُطَهَّرُون ) (١)

تفسير الآيات :

المُراد من مواقع النجوم مساقِطها حيث تغيب

قال الراغب : الوقوع : ثبوت الشيء وسقوطه ، يُقال : وقع الطائر وقوعاً ، وعلى ذلك يراد منه مطالِعها ومَغاربها ، يقال : مواقع الغَيث أي : مَساقِطه(٢)

ويدلُّ على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها ، أنّ اللّه سبحانه يُقسِم بالنجوم وطلوعها وجَريها وغروبها ، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة ، كما في قوله تعالى :( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوارِ الكُنَّس ) (٣) ، وقال :( وَالنَّجْم إِذا هَوى ) ، وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب )

ــــــــــــــــ

(١) الواقعة : ٧٥ـ ٧٩

(٢) مفردات الراغب : ٥٣٠ ، مادَّة وَقَعَ

(٣) التكوير : ١٥ـ ١٦ .

٧٣

ويرجح هذا القول أيضاً : أنّ النجوم حيث وقعت في القرآن ، فالمراد منها الكواكب ، كقوله تعالى :( وَإدْبار النُّجوم ) (١) ، وقوله :( وَالشَّمْسُ وَالْقَمرُ وَالنُّجُوم ) (٢)

وأمّا المُقسَم عليه : فهو قوله سبحانه :( إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَريم * في كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَّهَرُون )

وصفَ القرآن بصفاتٍ أربع :

أ ـ ( لقُرآنٌ كَريم ) والكريم هو البَهيّ الكثير الخير العظيم النفع ، وهو من كلّ شيء أحسنه وأفضله ، فاللّه سبحانه كريم ، وفعله ـ أعني القرآن ـ مثله

وقال الأزهري : الكريم : اسم جامع لما يُحمَد ، فاللّه كريم يُحمَد فِعاله ، والقرآن كريم يُحمَد ؛ لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة

ب ـ( في كتابٍ مَكنُون ) ولعلّ المراد منه هو اللوح المحفوظ ، بشهادة قوله :( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيد * في لَوحٍ مَحْفُوظ ) (٣) ويُحتمَل أن يكون المراد الكتاب الّذي بأيدي الملائكة ، قال سبحانه :( في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرةٍ * بِأَيدِي سَفَرَةٍ * كِرامٍ بَررَةٍ ) (٤)

ج ـ( لا يَمَسُّه إِلاّ المُطهَّرون ) فلو رجع الضمير إلى قوله :( لقُرآنٌ كَريم ) ، كما هو المتبادَر ، لأنّ الآيات بصَدَد وصفه وبيان منزلته ، فلا يمسّ المصحف إلاّ طاهر ، فيكون الإخبار بمعنى الإنشاء ، كما في قوله سبحانه :( وَالمُطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) الطور : ٤٩

(٢) الحجّ : ١٨

(٣) البروج : ٢١ ـ ٢٢

(٤) عبس : ١٣ ـ ١٦

(٥) البقرة : ٢٢٨

٧٤

ولو قيل برجوع الضمير إلى ( كتابٍ مَكنُون ) ، فيكون المعنى لا يمسّ الكتاب المَكنون إلاّ المطهَّرون

وربّما يُؤيَّد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين ، وأنّ محلّه لا يصل إليه ، فلا يمسّه إلاّ المطهّرون ، فيستحيل على أخابثِ خلق اللّه وأنجسِهم أن يصلوا إليه أو يَمسُّوه ، قال تعالى :( وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغي لَهُمْ وَما يَسْتَطيعُون ) (١)

د ـ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين ) وهذا هو الّذي يُركِّز عليه القرآن في مواقف مختلفة ، وأنّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر

وأمّا الصِلة بين القَسَمِ والمُقسَم به فهو واضح ؛ فلاَنّ النجوم بمواقعها ـ أي طلوعها وغروبها ـ يهتدي بها البشر في ظلمات البرِّ والبحر ، فالقرآن الكريم كذلك ، يهتدي به الإنسان في ظلمات الجهل والغَي ، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادَّة ، كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنويَّة في عالم المُجرَّدات

إكمال :

إنّه سبحانه قال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم ) ، فالمراد منه القَسَم بلا شكّ ، بشهادة أنّه قال بعده :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم ) ، فلو كان معنى الآية هو نفي القَسَم ، فلا يُناسب ما بعده ؛ حيث يصفه بأنّه حلف عظيم

وقد اختلف المفسِّرون في هذه الآيات ونظائرها إلى أقوال :

١ ـ ( لا ) زائدة ، مثلها قوله سبحانه :( لئلاّ يَعْلَم )

٢ ـ أصلها ( لأُقسِمُ ) بلام التأكيد ، فلمّا أُشبعَت فتحتها صارت ( لا ) كما في الوقف

٣ ـ ( لا ) نافية ، بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المُخاطَب ، ثُمّ الابتداء بالقَسَمِ ، كما نقول : لا واللّه ، لا صحَّة لقول الكفّار ، أُقسِم عليه

ــــــــــــــــ

(١) الشعراء : ٢١٠ـ٢١١

٧٥

ثُمّ إنّه سبحانه يصف هذا القَسَم بكونه عظيماً ، كما في قوله :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) ، فقوله : ( عظيم ) وصف ( القَسَم ) ، أُخِّر لحفظِ فواصل الآيات

وهذا القَسَم هو القَسَم الوحيد الّذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم

فالحديث هنا هو حديث على الأبعاد ، أبعاد النجوم عنّا وعن بعضها البعض ، في مجرّتنا وفي كلّ المَجرّات

ولأنّها كلّها تتحرَّك ، فإنّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها ، وحركاتها الأُخرى العديدة ، وسرعاتها ، وعلى علاقاتها بالنجوم الأُخرى ، وعلى القوى العظيمة والحسابات المُعقَّدة الّتي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاصّ به ، وحفظته في علاقات متوازنة دقيقة مُحكمَة ، فهي لا يعتريها الاضطراب ، ولا تتغيَّر سُنَنها وقوانينها ، وهي لا تسير خَبطَ عَشواء ، أو في مساراتٍ متقاطعةٍ أو متعارضة ، بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم ، وانسجام وانتظام تامّين دائمين ، آيات على قدرة القادر سبحانه(١)

يقول الفلكيُّون : إنّ من هذه النجوم والكواكب ـ الّتي تزيد على عدَّة بلايين نجم ـ ما يمكن روَيته بالعين المُجرَّدة ، وما لا يُرى إلاّ بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تَحسَّ به الأجهزة دون أن تراه

هذه كلّها تسبحُ في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجمٍ من مجال نجمٍ آخر ، أو يصطدم كوكب بآخر ، إلاّ كما يُحتمَل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسّط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتّجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد ، وبعيداً جداً ، إن لم يكن مستحيلاً(٢)

ــــــــــــــــ

(١) أسرار الكون في القرآن : ١٩٢

(٢) اللّه والعلم الحديث : ٢٤

٧٦

الفصل الثامن : القَسَمُ بالسماءِ ذات الحُبُك

حَلَفَ سبحانه في سورة الذاريات بأُمورٍ خمسة ، وجعل للأربعة الأُوَل جواباً خاصّاً ، كما جعل للخامس من الأقسام جواباً آخر ، وبما أنّ المُقسَم عليه مُتعدِّد ؛ فصلنا القَسَم الخامس عن الأقسام الأربعة ، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القَسَمِ المُفرَد

قال سبحانه :( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (١)

ترى أنّه ذكر للأقسام الأربعة جواباً خاصاً ، أعني قوله :( إِنّما تُوعَدُون لَصادِق * وانّ الدِّين لواقِع )

ثُمّ شرع بحلفٍ آخر ، وقال :( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ * إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) (٢)

فهناك قَسَم خامس وهو : ( والسماء ذات الحُبُك ) ، وله جواب خاصّ لا يمتّ لجواب الأقسام الأربعة ، وهو قوله :( إِنَّكُمْ لَفي قولٍ مختلِف )

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ١ـ ٦

(٢) الذاريات : ٧ـ ٨

٧٧

تفسير الآيات :

الحُبُك : جمع الحِباك ، كالكتب جمع كتاب ، تُستعمَل تارة في الطرائق ، كالطرائق الّتي تُرى في السماء ، وأُخرى في الشَعْرِ المجعد ، وثالثة في حُسن أثرِ الصنعة في الشيء واستوائه

قال الراغب :( والسَّماء ذات الحُبُك ) أي : ذات الطرائق ، فمن الناس مَن تصوّر منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرّة

ولعلّ المراد منه هو المعنى الأوّل ، أي : السماء ذات الطرائق المختلفة ، ويؤيّده جواب القَسَم ، وهو اختلاف الناس وتشتُّت طرائقهم ، كما في قوله :( إنّكم لفي قولٍ مختلِف )

وربّما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث ، أي : أُقسم بالسماء ذات الحُسنِ والزينة ، نظير قوله تعالى :( إِنّا زَيَّنا السَّماءَ الدُّنيا بزِينةٍ الكَواكِب ) .(١)

ولكنّه لا يناسبه الجواب ، إذ لا يصحّ أن يحلفَ حالِف بالأمواج الجميلة الّتي ترتَسِم بالسُحب أو بالمجرّات العظيمة ، الّتي تبدو كأنّها تجاعيد الشَعْرِ على صفحة السماء ، ثُمّ يقول :( إِنّكم لفي قولٍ مختلِف ) ، أي : إنّكم متناقضون في الكلام

وعلى كلّ حال ، فالمُقسَم عليه هو : التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام ، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم ، فينكرون المعاد ، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتهم عظاماً رميم ، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبويّة ويصفونه بأنّه قول شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو ممّا علّمه بشر ، أو هي من أساطير الأوَّلين

وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم ، إذ لا تعتمدون على دليلٍ خاصّ ، فانّ تناقض المُدَّعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ٦

٧٨

ثُمّ إنّه سبحانه يقول : إنّ الإعراض عن الإيمان بالمعاد ليس أمراً مختصَّاً بشخصٍ أو بطائفة ، بل هو شيمة كلّ مُخالِف للحقِّ يقول :( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) . (١)

والأفْك : الصَرف ، والضمير في ( عنه ) يرجع إلى الكتاب ، من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء ، أي : يُصرَف عن القرآن من صُرف وخالفَ الحقّ

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فقد ظهر ممّا ذكرنا ؛ لما عرفتَ من أنّ معنى الحُبُك هو الطرائق المختلفة المتنوِّعة ، فناسب أن يحلفَ به سبحانه على اختلافهم وتشتّت آرائهم ، في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته ، والكتاب الّذي أُنزل معه ، والمعاد الّذي يدعو إليه

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ٩

٧٩

القسم الثاني : القَسَم المُتَعدِّد

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَم في سورة الصافّات

حلف سبحانه بالملائكة في السور الأربع التالية :

١ ـ الصافّات ، ٢ ـ الذاريات ، ٣ ـ المُرسلات ، ٤ ـ النازعات

وليس المُقسَم به هو لفظ المَلَكِ أو الملائكة ، وإنّما هو الصِفات البارزة للملائكة ، وأفعالها ، وإليك الآيات :

١ ـ( وَالصّافاتِ صَفّاً * فَالزّاجراتِ زَجْراً * فَالتّالياتِ ذِكراً *إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحد ) .(١)

٢ ـ( والذّارِياتِ ذَرْواً * فَالحامِلاتِ وِقْراً * فَالجارِياتِ يُسراً * فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً * إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادق * وَانَّ الدِّين لواقع ) (٢)

٣ ـ( وَالْمُرسَلات عُرفاً * فَالعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنّاشراتِ نَشْراً * فالفارِقات فَرقاً * فالمُلقِياتِ ذِكراً * عُذراً أَو نُذراً * إنّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) (٣)

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ١ـ٤

(٢) الذاريات : ١ـ٦

(٣) المُرسَلات : ١ـ٧

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

مهمل جانب الروح، أوناس جانب الجسد، ويتجلّى هذا المنطق وهذا المنطلق في موقف القرآن الكريم من الدنيا والآخرة، فهو يرسم لنا كيف يجب أن يتعامل الإنسان مع كلّ واحد من هذين الجانبين، ولهذا يتعيّن علينا ـ قبل أي شيء ـ أن نلقي نظرة فاحصة على ما ذكره القرآن في هذا الصعيد.

ورغم أنّ هذا البحث حول ( الدنيا والآخرة ) في القرآن يعتبر من أهمّ البحوث وأوسعها لكثرة الآيات الواردة فيه، إلّا أنّه ربّما غفل البعض عن موقف القرآن الحقيقيّ في هذه المسألة، فخرج بتفسيرات وتوجيهات بعيدة عن هدف الإسلام، وروح تعاليمه الجامعة.

لقد نظر القرآن الكريم في آياته نظرة شاملة جامعة إلى الدنيا والآخرة، ولكن فريقاً من الناس لم يلاحظ إلّا الآيات التي تحث على الاستفادة من النعم الدنيويّة فوصف ( الإسلام ) بأنّه دين ماديّ المنزع يسعى لضمان الجانب الماديّ فحسب، في حين لاحظ فريق آخر تلك الآيات الذامة للدنيا والآخذين بها، والتي تصفها بأنّها ( متاع قليل ) ولذلك وصف الإسلام بأنّه يخالف الدنيا، وأنّه دين الآخرة ليس إلاّ، في حين أنّ النظرة الشاملة لجميع الآيات الواردة حول هذه المسألة تهدينا إلى غير ما ذهب إليه هذا، أو ذاك الفريق. فهي تقودنا إلى معرفة الموقف القرآني الحقيقيّ اتّجاه الدنيا والآخرة، واتّجاه الماديّة والمعنويّة.

ولـمـّا كان هذا البحث بحثاً قرآنياً مفصّلاً ومستقلاً فإنّنا نكتفي هاهنا بعرض المسألة إجمالاً، ونشير إلى بعض الآيات تاركين تحقيق المطلب إلى موضع آخر.

إنّ الناظر إلى آيات القرآن الكريم حول الدنيا يجدها على طوائف ثلاث :

١. طائفة مادحة للدنيا.

٢. طائفة ذامة لها.

٣. طائفة حاثّة على الأخذ بالدنيا والآخرة معاً ومشيرة إلى أنّ الدنيا الملهية هي المذمومة دون غيرها.

٣٨١

وبما أنّ الآيات في كلّ طائفة، كثيرة جداً نكتفي بسرد بعضها :

الآيات المادحة للدنيا

وأمّا الطائفة التي تمدح الحياة الدنيا فهي كثيرة منها ما تأمر بتحصيل المواهب الماديّة والنعم الدنيويّة كقوله سبحانه:( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ ) ( الجمعة: ١٠ ).

وقوله تعالى:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) ( الملك: ١٥ ).

ومنها ما تصفها بأنّها خير كقوله:( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) ( البقرة: ٢١٥ ).

ومنها ما تعد الدنيا فضلاً من فضل الله سبحانه كقوله تعالى:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) ( البقرة: ١٩٨ ).( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) ( الإسراء: ١٢ ).

أو تعدّها رحمة وجزاء للمحسنين كقوله تعالى:( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ) ( يوسف: ٥٦ ).

ومنها ما نصّت على أنّ الدنيا ومواهبها ونعمها خلقت لعباد الله كقوله تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ) ( البقرة: ٢٩ ).

أو أنها زينة لهم ومتاع جميل كقوله:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ( الأعراف: ٣٢ ).

ومنها ما تصفها بكونها حسنة ورحمة كقوله سبحانه:( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ) ( يونس: ٢١ ).

وقوله سبحانه:( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) ( الأعراف: ١٥٦ ).

٣٨٢

وغير ذلك من الآيات التي تمدح الدنيا والنعم الدنيويّة وتحثّ الناس والمؤمنين خاصّة على الأخذ والتمتع بها.

الآيات الذامّة للدنيا

وهي التي تذم الأخذ بالدنيا والتوجّه إليها كقوله سبحانه:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( الحجر: ٨٨ ).

ومنها ما تصفها بأنّها عرض زائل كقوله سبحانه:( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( النساء: ٩٤ ).

أو تصفها بأنّها متاع الغرور إذ يقول سبحانه:( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) ( آل عمران: ١٨٥ ).

أو تصرّح بأنّها لا تجتمع مع الآخرة، فهما على طرفي نقيض كقوله لنساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( الأحزاب: ٢٨ ـ ٢٩ ).

وكقوله سبحانه:( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) ( الشورى: ٢٠ ).

أو تصفها بأنّها لهو ولعب إذ يقول سبحانه:( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( الأنعام: ٣٢ ).

أو تعتبر الأخذ بالدنيا والتوجّه إليها وإلى أنعمها ولذائذها موجباً للإعراض عن الآخرة مثل قوله سبحانه:( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ) ( الإسراء: ٨٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي تشتمل على ذمّ الدنيا، وذمّ الآخذين بها.

٣٨٣

وأمّا الطائفة الثالثة فهي التي تدعو إلى الأخذ بالدنيا والآخرة معاً كقوله:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) ( القصص: ٧٧ ).

والتي يستفاد منها أنّ أصل الدنيا بما هي ليست مذموماً بل المذموم هو حبّ الدنيا والانخداع بها، والوقوع في فخاخها، والفرح بها فرحاً صارفاً عن الآخرة ومن هذه الآيات قوله سبحانه:( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ ) ( آل عمران: ١٤ ).

فقد أصبحت الدنيا وما فيها من متع ونعم مذمومة لأنّها حجبت الإنسان عن الآخرة وأوجبت نسيان طاعة الله والابتعاد عن العمل الصالح.

أو كقوله سبحانه:( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ *وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ) ( القيامة: ٢٠ ـ ٢١ ).( إِنَّ هَٰؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً ) ( الإنسان: ٢٧ ).

وقوله تعالى:( وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلّا مَتَاعٌ ) ( الرعد: ٢٦ ).

وخلاصة القول، أنّ مقتضى الجمع بين الطائفتين المادحة للدنيا والذامّة لها، هو ما ذكرته الطائفة الثالثة من أنّ الدنيا ليست في حدّ ذاتها مذمومة بل ما كان منها ملهياً عن الآخرة وصارفاً عن ذكر الله وطاعته.

ولذلك وصف الله سبحانه الرجال الذين لا تلهيهم الدنيا عن التوجّه إلى الآخرة، فقال:( رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) ( النور ـ ٣٧ ).( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ ) ( المنافقون: ٩ ).

إنّ الدنيا ليست مذمومة في نظر القرآن إلّا إذا شغلت عن الآخرة، كما صرّح بذلك القرآن بقوله:( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ

٣٨٤

وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( التوبة: ٢٤ ).

ولا تكون مذمومة إلّا إذا أدّى حبّها والتعلّق بها إلى شرائها بالآخرة، إذ قال سبحانه:( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) ( البقرة: ٨٦ ).

ولا تكون مذمومة إلّا إذا آل الرضا بالدنيا إلى نسيان الآخرة، كما يقول سبحانه:( أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلّا قَلِيلٌ ) ( التوبة: ٣٨ ).

ولكن إذا كانت الدنيا عوناً على الآخرة فنعمت الدنيا، عندئذ، ونعمت العون والوسيلة:( إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) ( التغابن: ١٧ ).

وإلى هذا أشار الحديث النبوي الشريف المشهور « الغنى نعم العون على الآخرة ».

ولهذا حثّ القرآن على الأخذ بالدنيا والآخرة معاً، ولا يجد بينهما تبايناً لو كان الانتفاع بالدنيا من هذا الباب، كما في قوله:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) ( القصص: ٧٧ ).

ومن هنا يتبيّن أنّ حاصل الجمع بين الآيات المادحة للدنيا، والذامّة لها هو أنّ الدنيا محبوبة ومرغوب فيها إذا كانت وسيلة لكسب الآخرة، والتوصّل إلى المقامات المعنويّة، ومذمومة ومرغوب عنها إذا كانت هدفاً بنفسها، وغاية لذاتها.

والكلمة الجامعة في الجمع بين الآيات ما أشار إليه الإمام عليّعليه‌السلام في كلامه في صفة الدنيا حيث قال: « ومن أبصر بها بصّرتهُ ومن أبصر إليها أعمتهُ »(١) .

فمن جعلها وسيلة للحياة وطريقاً إلى الآخرة كما يتّخذ الإنسان المرآة وسيلة لرؤية

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة رقم ٩٧.

٣٨٥

نفسه وتشخيص ما في وجهه من آثار وأشياء بصّرته، ومن جعلها هدفاً واشتغل بها بما هي مطلوبة بالذات لا مطلوبة للغير فإنّها تعمي عن كلّ خير فيها.

وللإمام عليّعليه‌السلام في وصف الدنيا كلمات يتفق مضمونها مع ما ذكرناه فلاحظ من خطبه الكثيرة خصوص الخطبة رقم (٢٠٤) طبعة عبده.

إنّ الدنيا محبوبة في ـ نظر الإسلام ـ إذا كانت وسيلة لعمل الخيرات وبلاغاً إلى الآخرة لأنّها حينئذ ليست إلّا مطيّة كما صرّح بذلك الحديث النبويّ القائل: « الدُنيا مطيّة المؤمن ».

وتكون مذمومة مبغوضة إذا كانت سبباً لتناسي فعل الخيرات، وترك المعنويّات وهجرانها، ومن هنا نكتشف أنّ كلّ طائفة من هاتين الطائفتين: المادحة، والذامّة ناظرة إلى جهة خاصّة وعنوان خاصّ، وليست مطلقة.

ومن هنا أيضاً نعرف، أنّ الإسلام يقيم توازناً فريداً بين الماديّة والمعنويّة، بين الدنيا والآخرة، فلا يرجح شيئاً ويترك آخر وهو موقف تفرضه طبيعة الكينونة الإنسانيّة وتتطلّبه حقيقة الفطرة البشريّة.

ولأجل هذا يجب أن تكون الحكومة الإسلاميّة في تركيبها، ومنهاجها متّصفة بهذا اللون ومتّسمة بهذه الكيفية، فلا ينصرف همهّا إلى توفير الظروف الماديّة وتتجاهل الجوانب الروحيّة والمعنويّة بل عليها أن تسعى إلى إقامة ذلك التوازن بين الجانبين، في حياة الاُمّة الإسلاميّة فلا تدع جانباً يطغى على جانب آخر، ولا تدع شيئاً يأتي على حساب شيء آخر.

إنّ الحكومة الإسلاميّة تتميّز عن سائر الحكومات بأنّ وظيفتها لا تنحصر فقط في توفير الظروف الماديّة للناس، ولا يقتصر واجبها على تهيئة وسائل الاستفادة المطلقة من أنواع اللذائذ الماديّة كيفما كان، وبأيّة وسيلة كانت، بل هي مسؤولة عن العناية بكلا الجانبين على قدم المساواة، فعليها أن تعتني بالجانب الروحيّ وتعمل جهدها على إصلاحه وإنعاشه كما تعتني بالجانب الماديّ وتهيّء الظروف المعيشيّة الماديّة بأفضل شكل.

٣٨٦

إنّ الحكومات غير الإسلاميّة حيث لا تنطلق من أيديولوجيّة جامعة للروح والجسد والمادّة والمعنى ولا ترى لنفسها من وظيفة إلّا توفير الحاجات الماديّة وتلبية النداءات الجسديّة للناس فقط، ترى من واجبها أن تهيّء لشعوبها كلّ ما يرضيهم في هذا الجانب فلا تأل جهداً في توفير وسائل الاستمتاع واللذة من دون النظر إلى ماهيتها وآثارها وعواقبها السيّئة. فهي تخصّص الميزانيات الضخمة والأموال الطائلة لبرامج الترفيه، واللهو والتسلية، ولكي تسد هذه النفقات وتوفّر هذه الميزانيات الهائلة تحصل المال من كلّ سبيل حرام كالتجارة بالخمور، ووضع الضرائب على البغاء، والفحشاء والقمار، وغير ذلك من الموارد المحرّمة التي لو عمدت إلى حذفها لأختلت ميزانيّاتها، وأصيبت بالنقص والشلل والعجز.

ولكن الحكومة الإسلاميّة حيث تنطلق من المنطلق الإسلاميّ الذي يوفّق بين الجانب الماديّ والمعنويّ تسعى جهدها في الاهتمام بالجوانب الروحيّة إلى جانب النواحي الماديّة فلا تضحّي بمعنويات الشعوب واخلاقهم، وهي لذلك لا تفعل ما تغعله الحكومات الاُخرى من تحصيل مواردها من الطرق والسبل الماديّة المحّرمة فلا تعتمد على عائدات القمار والخمور والبغاء وغير ذلك.

لقد حرّم الإسلام كلّ هذه المكاسب وحرّم ما يحصل منها من أموال، وحظرها على الاُمّة الإسلاميّة في حين تشكّل هذه المكاسب أهم الموارد الاقتصاديّة للحكومات غير الإسلاميّة ولقد حرّم هذه المكاسب لأخطارها على الجانب المعنويّ والأخلاقيّ للاُمّة ولما لها من تبعات سيّئة في حياتها الروحيّة.

إنّ العناية والاهتمام بالجانب الروحيّ ليست فقط إحدى الوظائف التي تضطلع بها الحكومة الإسلاميّة بل هي أهمّ وظيفة من وظائفها إذ في ظل استقامة هذا الجانب يستقيم الجانب الماديّ، ويسعد البشر في الحياة الدنيويّة(١) ، ولهذا كان النبيّ يوصي

__________________

(١) ونعم ما قال القائل :

وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هُمو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

٣٨٧

عمّاله الذين يعهد إليهم إدارة المناطق أن يركّزوا اهتمامهم على تربية الناس وتزكيتهم وتثقيفهم بالثقافة الإسلاميّة فها هوصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما يولّي معاذ بن جبل يوصيه بأن يهتم بتربية الناس وتثقيفهم وتنمية معنوياتهم إذ يقول: « يا معاذُ علّمهم كتاب الله وأحسن أدبهُم على الأخلاق الصّالحة وأمت أمر الجاهليّة إلّا ما سنّهُ الإسلامُ »(١) .

هذا والحديث مفصل.

كما ويكتب لعمرو بن حزم حينما ولاّه نجران بأن يبالغ في تربية الناس إذ يقول: « بسم الله الرّحمن الرّحيم( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) عهد من رسُول الله لعمرو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن أمرهُ بتقوى الله في أمره كلّه فإنّ الله مع الذين اتّقُوا والذين هُم محسنُون، وأمرهُ أن يأخُذ بالحقّ كما أمره الله وأن يبشّر الناس بالخير ويأمُرهُم به ويُعلّمُ الناس القُرآن، ويفقّههم فيه وينهى الناس فلا يمسُّ القُرآن إلّا وهُو طاهرُ إنسان، ويخبرُ الناس بالذي لهم والذي عليهم، ويلين لهُم في الحقّ [ أي ينشر الحقّ بينهُم وينفذه بأساليب ليّنة تستهويهم ] ويشتدّ عليهُم في الظلم فإنّ الله كره الظُلم ونهى عنهُ، وقال( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ويُبشّر الناس بالجنة وبعملها ويُنذر الناس النار وعملها ويستألف النّاس حتّى يفقهوا في الدّين، ويُعلّم النّاس معالم الحجّ وسُننه وفرائضه »(٢) .

إلى غير ذلك من الوصايا التي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوصي بها من يولّيهم شؤون البلاد وإدارة المناطق المختلفة، ويدعوهم فيها إلى الاهتمام بالجوانب الروحيّة والمعنويّة والأخلاقيّة، إلى جانب اهتمامهم بالجوانب الاقتصاديّة الماديّة.

__________________

(١) تحف العقول ( طبعة بيروت ): ٢٧.

(٢) تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك للسيوطيّ ١: ١٥٧، والطبريّ ٢: ٣٨٨، والبداية والنهاية ٥: ٧٦، وسيرة ابن هشام ٤: ٥٩٥ ومصادر اُخرى هذا والحديث مفصّل وفيه تعاليم اقتصاديّة وإداريّة واجتماعيّة مفصّلة.

٣٨٨

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

٥

الشورى

( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ )

( قرآن كريم )

تمتاز الحكومة الإسلاميّة بأنّها تعتمد على مبدأ الشورى في إدارة البلاد، ومعالجة مشكلاتها بعيداً عن الديكتاتوريّة، والاستبداد، والتفرّد بالرأي، وقد كان الإسلام أوّل من أتى بمدأ الشورى في مجال الحكم في عصر كان العالم يخضع فيه للحكومات الديكتاتوريّة والملكيّات المستبدة، وقد سمّيت سورة كاملة في القرآن باسم الشورى تعظيماً لهذا المبدأ، وإيذانا بأهمّيته الإجتماعيّة.

القرآن والشورى :

إنّ القرآن الكريم يصف المجتمع الإسلاميّ بأنّه يعالج أُموره ومشاكله عن طريق التشاور وتبادل الرأي فيقول:( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ *وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا

٣٨٩

رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) ( الشورى: ٣٧ ـ ٣٨ ).

إنّ على المجتمع الإسلاميّ طبقاً لهذه الآية أن يعالج مشاكله، بالشورى وتبادل الرأي وذلك فيما يتعلّق بكيفيّة العيش وطريقة الحياة ويخطّط بالتشاور لما يحتاج إليه من برامج لترفيع مستوى الثقافة والتعليم، وتوسيع نطاق العمران والانتاج الاقتصاديّ وكيفيّة التوزيع وتأسيس الجيش والحرس، وتنظيم شؤون الدفاع وما سوى ذلك من برامج لمختلف المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وذلك لما في الشورى من نتائج طيبة لا تحصل إلّا بها.

وتبلغ أهمّية الشورى في الاُمور بحيث يأمر الله نبيّه ( المعصوم من السهو والخطأ ) أن يتشاور مع أصحابه في بعض الاُمور، ويتّخذ الطريق الصحيح، والرأي الأصوب، بعد تبادل الرأي والاستماع إلى جميع وجهات النظر حيث يقول:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ) ( آل عمران: ١٥٩ ).

ولقد ذكر المؤرّخون نماذج عديدة من مشاورة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مع أصحابه في طائفة من الشؤون العسكريّة كما وقع منه في الخروج إلى بدر حيث جمع أصحابه وقال: « أشيرُوا عليّ أيُّها النّاس » فيظهر أصحابه أراءهم بحريّة كبيرة، ويختار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ما اقترحه الأنصار(١) .

الأحاديث والشورى

ولم يرد ذكر الشورى في القرآن فقط، بل ورد في شأنها ما لا يحصى من الأحاديث نذكر طائفة منها هنا :

قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله « إذا كانت أُمراؤُكُم خيارُكُم وأغنياؤُكُم سُمحاؤُكُم وأمُورُكُم شُورى بينكُم فظهرُ الأرض خير من بطنها »(٢) .

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ١: ٦١٥.

(٢) سنن الترمذيّ كتاب الفتن: ٧٨.

٣٩٠

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « استرشدُوا العاقل ولا تعصوهُ فتندمُوا »(١) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا مُظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتّدبير »(٢) .

ولـمّا سئل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الحزم ما هو ؟ قال: « مُشاورةُ ذوي الرأي واتّباعُهُم »(٣) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : « فلا تكُفّوا عنّ مقالة بحقّ أو مشُورة بعدل »(٤) .

وقالعليه‌السلام أيضاً في وصية إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة: « اضمُم آراء الرّجال بعضها إلى بعض، ثُمّ اختر أقربها من الصواب، وأبعدها من الارتياب، قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه ومن استقبل وُجُوه الآراء عرف مواقع الخطأ »(٥) .

وقال الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام : « من لا يستشيرُ يندم »(٦) .

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « لن يهلُك امرء من مشُورة »(٧) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « استشر العاقل من الرّجال الورع، فإنّهُ لا يأمرُ إلّا بخير وإيّاك والخلافُ فإنّ مُخالفة الورع العاقل مفسدة في الدّين والدُّنيا ».

وعن الإمام زين العابدينعليه‌السلام في نصح المستشير قال: « وأمّا حقُّ المستشير فإن حضرك لهُ وجهُ رأيّ جهدت لهُ في النصّيحة وأشرت عليه بما تعلمُ أنّك لو كُنت مكانهُ عملت به وذلك ليكُن منك في رحمة ولين، فإنّ اللين يُؤنسُ الوحشة، وإنّ الغلظ يُوحشُ موضع الانس وإن لم يحضرك لهُ رأيٌ وعرفت لهُ من تثق برأيه، وترضى به لنفسك دللتهُ عليه، وأرشدتهُ إليه فكُنت لم تأله خيراً، ولم تدّخر نُصحاً، ولا حول ولاقوّة إلّا بالله.

وأمّا حقّ المشير عليك فلا تتّهمهُ فيما وافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك فإنّما هي الآراءُ وتصرُفُ النّاسُ فيها واختلافهم، فكُن في رأيه بالخيار إذا اتّهمت رأيهُ، فأمّا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨: ٢٢٤.

(٢) وسائل الشيعة ٨: باب ٩ أبواب أحكام العشرة: ٤٠٩.

(٣) وسائل الشيعة ٨: ٢٢٤.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة رقم ٢١٤.

(٥ و ٦ و ٧) وسائل الشيعة ٨: ٤٢٩، ٤٢٤.

٣٩١

تُهمتهُ فلا تجوز لك إذا كان عندك ممّن يستحقُّ المشاورة، ولا تدعُ شُكرهُ على ما بدا لك من إشخاص رأيه وحُسن وجه مشورته، فإذا وافقك حمدت الله وقبلت ذلك من أخيك بالشّكر، والإرصاد بالمـُـكافأة في مثلها إن فزع إليك ولا قوّة إلّا بالله »(١) .

وقد جمعت الأحاديث المرتبطة بالشورى الحاثة عليها، والمشيرة إلى نتائجها الطيّبة، في أبواب « العشرة » من كتاب وسائل الشيعة للحرّ العامليّ وهي كثيرة ذكرنا منها هنا غيض من فيض وقليلا من كثير(٢) .

وقد نقل أهل السنّة أحاديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حثّ فيها على المشاورة منها قوله: « المُستشارُ مُؤتمن فإذا استُشير فليُشر بما هُو صانع لنفسه ».

وقوله: « إذا استشار أحدكُم أخاهُ فليُشر عليه ».

وقوله: « ما ندم من استشار ».

وقوله: « من استشار أخاهُ فأشار عليه بغير رُشده فقد خانهُ ».

وقوله: « ما يستغني رجُل عن مشُورة ».

وقوله: « من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هُدي لأرشد الاُمُور ».

وعندما نزل قوله تعالى:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أما، إنّ الله ورسُولهُ لغنيّان عنها ولكن جعلها الله رحمةً لاُمّتي، من استشار منهُم لم يعدم رُشداً، ومن تركها لم يعدم غيّاً »(٣) .

ثمّ إنّه إذا اختلف أصحاب الشورى في الرأي فبماذا يعالج الأمر ؟ فالمعروف هو أنّه يعالج فيما إذا كانا موافقين للإسلام بتقديم الأكثريّة على الأقليّة، ولكن ذلك الترجيح يتمّ إذا لم يكن هناك رئيس نافذ منتخب من جانب الاُمّة، إذ الطريق عند عدم وجود مثل هذا الرئيس، ينحصر لا محالة في تغليب رأي الأكثريّة على رأي الأقليّة.

__________________

(١) تحف العقول: ٢٩٦.

(٢) وسائل الشيعة ٨: ٤٢٦.

(٣) هذه الأحاديث السبعة وغيرها وردت في كتاب الشورى بين النظريّة والتطبيق: ٢٧ ـ ٣٠.

٣٩٢

وأمّا إذا اختارت الاُمّة رئيساً نافذاً كامل الصلاحيات فله أن يتدخّل في الأمر ويأخذ بما هو مطابق للإسلام، وإذا كان كلاهما مطابقين مع الموازين الإسلاميّة فللرئيس أن يختار ما هو أصلح لحال الاُمّة، وأنفع لها سواء أيّدته الأكثريّة أو الأقليّة.

ولعلّه إلى ذلك يشير قوله سبحانه:( فَإِذَا عَزَمْتَ ) المشير إلى أنّ صاحب القرار الأخير هو الرئيس فهو الذي يعزم ويقصد في مجال الأخذ بالآراء المتضاربة كما في قوله سبحانه:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ( العمران: ١٥٩ ).

فإنّ الآية تتضمّن أمرين :

الأوّل: ايصاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمشاورة مع المسلمين، والاستماع إلى آرائهم فإنّ المشاورة واحتكاك الرأي بالرأي الآخر يفيد تلاقح الأفكار، والوصول إلى النتيجة الناضجة، والرأي الصواب، كما يفيد احتكاك الأسلاك الكهربائيّة انبثاق النور والحرارة ولذلك يجب على الحاكم الإسلاميّ ـ على الإطلاق ـ المشاورة، وتجنّب الاستبداد والتفرّد بالرأي وإلى هذه الوظيفة الحساسة يشير قوله سبحانه:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) .

الثاني: إنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى بعد المشاورة والاستماع إلى الآراء المختلفة ويقلّب وجوه الرأي، أن يقيّمها بتعمّق ثم يختار ما هو الأصلح بحال الاُمّة وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( فَإِذَا عَزَمْتَ ( أي بعد التشاور والعزم على الرأي الأصلح )فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ونفّذه، وأوكل الأمر إليه سبحانه ليمدّك ويعينك في المشاكل.

فالخطاب في ( عزمت ) يدلّ على أنّ صاحب القرار ومن بيده الأمر هو نفس ( النبي ) بعد المشاورة.

وبتعبير آخر: إنّ هذا يكشف عن أنّ وظيفة الاُمّة اتّجاه النبيّ الأكرم هو مجرّد الإدلاء بالرأي وإبداء النظر، وأمّا القرار النهائيّ فلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن شأنه وحده، ويؤيّد ذلك ما روي عن الإمام عليّعليه‌السلام حيث قال لابن عباس في إحدى الوقائع وقد اشار ابن

٣٩٣

عباس على الإمام ما لم يوافق رأيه: « لك أن تُشير عليّ وأرى، فإن عصيتُك فأطعني »(١) .

إذن فلرئيس الدولة الأعلى أن يختار عند اختلاف الآراء ما هو أصلح لحال الاُمّة وأقرب إلى الموازين الإسلاميّة، وإلاّ انحصر الطريق في تغليب الأكثريّة على الأقليّة لما ذكرنا.

وأمّا سيرة الرسول في الشورى فلم يظهر منه أنّه قدّم الأكثريّة على الأقليّة إطلاقاً، بل الظاهر أنّه بحكم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مفوّضاً إليه الأمر على الإطلاق في التصميم واتّخاذ القرار والاستنتاج كما هو الظاهر من خطابه سبحانه إليه( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) أنّ يقدّم ما هو الحقّ والصلاح أو الأحقّ والأصلح على غيره سواء أوافق نظرية الأكثرين أم خالفها.

هذا وللرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله عدة مشاورات ضبطها التاريخ مبثوثة في طيّات الكتب والمؤلّفات ونحن نجمعها في مكان واحد حتّى تتبيّن كيفيّة استشارته.

إنّ للرسول الأعظم مشاورات خمس حسبما وقفنا عليها وإليك توضيحها :

الاُولى / في غزوة بدر، قبل أن يواجه العدو، فاستشار الناس، وأخبرهم بأمر قريش فقام أبو بكر وقال: يا رسول الله إنّها والله قريش وعزّها، والله ما ذلّت منذ عزّت، والله ما آمنت منذ كفرت، والله لا تسلّم عزّها أبداً فاتّهب لذلك أهبته وأعدّ لذلك عدّته، وتكلّم بمثله أيضاً عمر، ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله: امض لأمر الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها:( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ( المائدة: ٢٤ ) ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون.

فقال له رسول الله خيراً ودعا له بخير ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أشيرُوا عليّ أيُّها النّاسُ » وإنّما يريد رسول الله الأنصار وكان يظنّ أنّ الأنصار لا تنصره إلّا في الدار، وذلك أنّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم وأولادهم فقال رسول الله: « أشيروا عليّ ».

__________________

(١) نهج البلاغة: باب الحكم ( الرقم ٣٢١ ) وقد مرّ في الصفحة ٣٩١ و ٣٩٢ ما يدلّ على ذلك أيضاً.

٣٩٤

فقام سعد بن معاذ وقال: أنا اجيب عن الأنصار كأنّك يا رسول الله تريدنا، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أجل »، قال: إنّك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره وإنّا قد آمنا بك وصدّقناك فامض يا نبيّ الله، فو الذي بعثك بالحقّ، لو استعرضت هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما بقي منّا رجل وصل من شئت واقطع من شئت إلى آخر ما قاله سعد بهذا المنوال فلمّا فرغ سعد قال رسول الله: « سيرُوا على بركة الله فإنّ الله قد وعدني إحدى الطّائفتين، والله لكأنّي أنظُر إلى مصارع القوم »، قال: وأرانا رسول الله مصارعهم يومئذ(١) .

وممّا قاله رسول الله في ذيل كلامه من أنّ الله وعده احدى الطائفتين، حتّى أراهم مصارع القوم يعلم أنّه قدّم نظرية مندوب الأنصار، لأنّه وقف على صحّتها عن طريق الوحي.

الثانية / في غزوة اُحد، وذلك عندما سمع رسول الله نزول قريش عند مشارف المدينة، فشاور الرسول اصحابه في الخروج أو البقاء.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فإن رأيتُم أن تُقيمُوا بالمدينة وتدعُوهُم حيثُ نزلُوا، فإن أقاموُا، أقامُوا بشرّ مقام وإن هُم دخلُوا علينا قاتلناهُم فيها » وكان رسول الله يكره الخروج، فقال رجال من المسلمين: يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنّا جبنّا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أُبيّ: يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم.

فلم يزل الناس برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين كان من أمرهم حبّ لقاء القوم، حتّى دخل رسول الله بيته فلبس لاُمّته، ثمّ خرج عليهم وقد ندم الناس، وقالوا استكرهنا رسول الله، قالوا: يا رسول الله استكرهناك ولم يكن ذلك لنا.

فقال رسول الله: « ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لاُمّتهُ أن يضعها حتّى يُقاتل »(٢) .

ونقل الواقدي في مغازيه صورة المشاورة بوجه أبسط وقال: وكان رأي رسول الله

__________________

(١) المغازي للواقدي المتوفّى عام (٢٠٧) ١: ٤٨ ـ ٤٩ بتلخيص.

(٢) سيرة ابن هشام ٢: ٦٣ بتلخيص.

٣٩٥

مع رأي ابن اُبيّ وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار.

فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً وطلبوا من رسول الله الخروج إلى عدوّهم ورغبوا في الشهادة وأحبّوا لقاء العدو: أخرج بنا إلى عدوّنا.

وقال رجال من أهل السنّ والنبه منهم حمزة بن عبد المطلّب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك من الأوس والخزرج: إنّا نخشى يا رسول الله، أن يظنّ عدونا أنّا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة، ورسول الله لما يرى من إلحاحهم كاره، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم يتسامون كأنّهم الفحول.

وقال مالك بن سنان: يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين، إمّا أن يظفرنا الله بهم، أو يرزقنا الله الشهادة، وقال حمزة بن عبد المطّلب: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجادلهم بسيفي خارجاً من المدينة.

وتكلّم آخرون بمثل ما تكلّم به طلاّب الشهادة والخروج.

فلما أبوا إلّا الخروج، صلّى رسول الله الجمعة بالناس ثمّ وعظ الناس وأمرهم بالجدّ والجهاد(١) .

فالناظر فيما نقله الواقديّ حول هذه المشورة يرى تسليم النبيّ للطائفة الثانية لما رأى منهم من الحرص والولع إلى الشهادة، ورأى أنّ مخالفة هذه الجماعة تميت فيهم روح الحماسة والشجاعة، ولعلّه يستتبع ردّ فعل سيّء، فخرج معهم، وأخبرهم أنّ النصر لهم ما صبروا.

الثالثة / في غزوة الأحزاب ( الخندق )، لـمّا وقف رسول الله على أنّ قريشاً قد وصلوا مع حلفائهم إلى مشارف المدينة، أمر بحفر الخندق، وأشار به سلمان الفارسيّ وكان أوّل مشهد شهده مع رسول الله، وهو يومئذ حرّ(٢) .

وقال الواقدي: وشاور رسول الله أصحابه في أمرهم بالجدّ والجهاد ووعدهم

__________________

(١) المغازي للواقديّ ١: ٢١٠ ـ ٢١٤ وقد أخذنا موضع الحاجة منه.

(٢) تاريخ الكامل لابن الاثير ٢: ١٢٢.

٣٩٦

النصر إن هم صبروا وكان رسول الله يكثر مشاورتهم في الحرب فقال: « أنبرز لهم من المدينة أم نكون فيها أم نكون قريباً ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل »، فاختلفوا فقالت طائفة: نكون ممّا يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف وقال قائل: ندع المدينة خلوفاً فقال سلمان يا رسول الله إنّا إذ كنّا بأرض فارس وتخوّفنا الخيل خندقنا علينا فهل لك يا رسول الله أن نخندق، فأعجب رأي سلمان المسلمين وذكروا حين دعاهم النبيّ يوم اُحد أن يقيموا ولا يخرجوا فكره المسلمون الخروج وأحبّوا الثبات في المدينة.

ومن المعلوم أنّ تقديم نظريّة سلمان مع أنّه كان واحداً بين المشاورين كان لأجل كونه رأياً رصيناً ونظريّة صائبة، وكان مصداقاً لقوله تعالى:( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) .

الرابعة / في غزوة الخندق أيضاً، عندما اشتد على الناس البلاء بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف قائد غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا حتّى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلّا المراوضة في ذلك، فلمّا أراد رسول الله أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه، فقال له: يا رسول الله أمراً نحبّه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به أم شيئاً تصنعه لنا، قال: « بل شيء أصنعهُ لكُم، واللّهما أصنعُ ذلك لأنّي رأيتُ العرب رمتكُم عن قوس واحدة » فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلّا قرى أو بيعاً، أفحين اكرمنا بالإسلام، وهدانا له وأعزّنا بك وبه نعطيهم أموالنا ؟ قال رسول الله: « فأنت وذاك »، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحى ما فيها من الكتاب(١) .

الخامسة / ما ورد في غزوة الطائف ما يشبه المشاورة، وذلك عندما مضى رسول الله حتّى نزل قريباً من حصن الطائف، فضرب عسكره هناك، فساعة حلّ رسول الله

__________________

(١) المغازي للواقديّ ٢: ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

٣٩٧

وأصحابه جاءه الحبّاب بن المنذر فقال يا رسول الله: إنّا قد دنونا من الحصن فإن كان عن أمرنا سلمنا، وإن كان عن الرأي فالتأخّر عن حصنهم قال: فأَسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وينقل الواقدي عن عمرو بن أميّة أنّ رسول الله دعا الحباّب بن منذر فقال: « أُنظُر مكاناً مُرتفعاً مُستأخراً عن القوم » فخرج الحبّاب حتّى انتهى إلى موضع مسجد الطائف فجاء إلى النبيّ فأخبره فأمر رسول الله أصحابه أن يتحوّلوا(١) .

وأنت إذا عطفت النظر على المشورتين الرابعة والخامسة تقف على أنّ قبول النبيّ لقول المشاورين كان من باب الأخذ بالأحقّ والأصلح في مجال العمل وهو حفظ كيان الأنصار وصون دمائهم وأموالهم بعد أن رأى أنّ العرب تألّبت عليهم، وقصدت رميهم عن قوس واحدة فلمّا تكلّم مع رئيس الأوس سعد بن معاذ ورأى فيهم قوّة قلب ورباطة جأش وإصراراً على المواجهة والتفدية والتضحية انقلب الموضوع فنزل عند رأيهم وطلب منهم على مواصلة الحرب.

كما أنّ النزول عند اقتراح من اقترح تغيير المعسكر لم يكن إلّا تقديراً لاقتراح المقترح مع كون النزول في المعسكرين سواسية.

فالناظر في تلكم المشاورات يجد أنّ النبيّ لم يكن يقدّم رأياً ويؤخّر اُخرى لأجل الأقليّة والأكثريّة، بل لإنّه كان يستمع لجميع الأراء والاقتراحات ثم يختار ما هو الأصوب.

ولأجل ذلك نرى أنّه ربما كان يعارض رأي الجماعة كما في صلح الحديبيّة فإنّ أكثر الأصحاب ممّن كان يعبأ بقوله ورأيه كانوا يخالفونه في عقد الصلح مع المشركين في الحديبية ومع ذلك كلّه فقد عقد الصلح، وأمضاه، راجع تفصيل ذلك كلّه في السير والتواريخ(٢) .

وأوضح من ذلك قصّة اُسامة بن زيد حيث عقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اللواء له وفعل

__________________

(١) المغازي للواقديّ ٣: ٩٢٥ ـ ٩٢٦.

(٢) سيرة ابن هشام ٢: ٣١٦ ـ ٣١٧.

٣٩٨

ذلك بيده الشريفة تحريكاً لحميّتهم وإرهافاً لعزيمتهم وقال: « سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهُم الخيل فقد ولّيتك هذا الجيش »، لكن الصحابة تثاقلت هناك فلم يبرحوا مع ما وعوه ورعوه من النصوص الصحيحة في وجوب إسراعهم، وطعن قوم منهم في تأمير اُسامة، كما طعنوا من قبل في تأمير أبيه.

ولكن هذه المخالفة لم تثن عزيمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم ترده عن رأيه فصعد المنبر فقال: « أيُّها النّاسُ ما مقالةً بلغتني عن بعضكُم في تأميري أُسامة ولئن طعنتُم في تأميري أُسامة لقد طعنتُم في تأميري أباهُ من قبله، وأيمُ والله إن كان لخليقاً بالإمارة وإنّ ابنهُ من بعده لخليق بها »(١) .

ولعلّه يؤيّد ما ذكرنا من أنّ قبول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لقول المشاورين كان من باب الأخذ بالأحقّ والأصلح في مجال العمل لا الأخذ بالأكثريّة بداعي الأكثريّة ما قاله صاحب المنار: إنّ النبيّ رجّح في أحد رأي الأكثرين مخالفاً لرأيه ورجّح في بدر الرأي الموافق لرأيه ولم يكن هناك أكثريّة ظاهريّة فيجب أن يراعي الإمام ذلك ولا مجال في هذا للتفريق والخلاف(٢) .

وحصيلة القول: انّ الإمام المفترض طاعته سواء أكان معصوماً أم غيره إذا استشار يجب عليه أن يتحرى الأصلح والأحقّ ولا يخضع للأكثريّة بما هي أكثريّة ولا يوجب رأي الأكثريّة إلزاماً على الإمام أن يختاره، نعم ربما تقتضي المصلحة الأخذ برأي الأكثريّة كما فعل الرسول في موقف اُحد.

نعم مسألة الاستشارة في الاُمور تختلف عن مسألة انتخاب الحاكم أو النائب الأصلح فإنّه يؤخذ فيه بالأكثريّة حسماً لمادّة النزاع والاختلاف لا أنّ الحلّ منحصر في هذا الاسلوب لا غير بخلاف ما إذا كان هناك حاكم إسلاميّ مفروغ السلطة آخذاً بالزمام تحت الضوابط السالفة، فعندئذ إذا استشار جماعة، في مشاكل الاُمور، وطلب آراءهم، لم تكن آراء المشيرين ملزمة له وحجّة عليه، إذا رأى الحقّ في خلافهم.

__________________

(١) راجع طبقات ابن سعد ٢: ١٩٠.

(٢) المنار ٥: ١٩١.

٣٩٩

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

٦

ضمان الحريّات المعقولة

( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )

( الأعراف: ١٥٧ )

لم تزل الحريّة ( أعزّ ) ما تنشده البشريّة قديماً وحديثاً، وتبذل من أجلها النفوس والدماء، ولذلك فالحريّة كلمة مقدّسة تهفو إليها الشعوب والجماعات وخاصّة المستضعفة والمضطهدة منها وتسعى لتحقيقها بكلّ وسيلة ولكنّها قليلاً ما تنالها وتصل إليها رغم ما تبذل من دماء، وتقدّم من ضحايا في سبيلها.

فلا تزال شعوب وجماعات إلى اليوم ترزح تحت ضغط الاستبداد والديكتاتوريّة وتعيش بين مخالب الاستعباد والاستعمار.

ما هي الحريّة ؟

لقد عرّف الحقوقيّون ( الحريّة ) بتعاريف مختلفة فعرّفها مونتسكيو بأنّ ( الحريّة هي حقّ صنع جميع ما تبيحه القوانين، فإذا استطاع أحد أن يصنع ما تحرّمه القوانين فقد

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627