مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219061 / تحميل: 6013
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس: ٢٧ ـ ٣١ )، ثمّ قال: ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال: ( هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه )(١) .

(ز): خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ وكان أمير المؤمنين حاضراً فقال: « يا عمر، ليس هذا حكمهم »، قال عمر: أقم أنت عليهم الحكم، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، وقدّم الخامس فعزّره، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال: يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم أما الأوّل: فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني: فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث: فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع: فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس: فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر: ( لا عشت في أمّة لست فيها يا أبا الحسن )(٢) .

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح، على أنّه لو كان

__________________

(١) المستدرك للحاكم ٢: ٥١٤، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١: ٢٦٨، الكشّاف ٣: ٣١٤.

(٢) الكافي ٧: ٢٦٥.

١٢١

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة )، إذ بهذه الصورة فحسب، كان من الممكن أن يلي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه، من حل معضلاتها، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك، ومن التحيّر والمفاجأة ـ كما عرفت ـ.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

٢. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً، وعلى نسق واحد، بل فيه: المحكم والمتشابه والعامّ، والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمنسوخ والناسخ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته(١) .

ثمّ لـمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

__________________

(١) ولقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى هذه الاُمور بقوله :

« خلّف ( أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيكم كتاب ربّكم، مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه » نهج البلاغة: الخطبة رقم (١).

١٢٢

درجةً، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر، وعلى أبعاد عديدة(١) تخفى على العاديين من الناس، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة ـ كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة ـ مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة: ١٥ ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول:( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل: ١٠٣ ).

ويقول في آية اخرى بأن الله سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠ ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان: ٥٨ ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح، وما التفسير إلّا رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام في شأنه: « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به

__________________

(١) ولقد أشار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذا بقوله :

« له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » الكافي ( كتاب القرآن ) ٢: ٥٩٨ ـ ٥٩٩.

١٢٣

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض »(١) .

لأجبنا: صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس إذ يقول تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ).( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل: ٦٤ ).

فقد وصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هاتين الآيتين، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس، كما يقول سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩ ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً: وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً: كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً: إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩ ( طبعة عبده ).

١٢٤

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن: المطلق والمقيّد، والعام والخاصّ، والمنسوخ والناسخ، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان مجمله ومطلقه ومقيده وما شابه ذلك، وقد فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين بيد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة، لعدم الحاجة إلى ذلك، وتحيّناً للظروف المناسبة، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها، فتعيّن أن يخلّف النبيّ ـ من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم، قال شيخ الطائفة الطوسيّرحمه‌الله في تفسير قوله سبحانه:( حم *وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف: ١ ـ ٢ والدخان: ١ ـ ٢ ).

( إنّما وصف بأنّه مبين، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه )(١) .

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً، هو وضوح انتسابه إلى الله، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام الله والآية نظير قوله سبحانه( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

__________________

(١) التبيان ٩: ٢٢٤ ( طبعة النجف الأشرف ).

١٢٥

فِيهِ ) ( البقرة: ٢ )، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ) وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩، ، يقضي، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً: لـمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة »(١) .

فكأنّ القرآن الكريم ـ في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه ـ هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره، إلّا معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره، فإنّ كتاب الله تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار، لأنّه منزّل من عند الله الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية، ولا تحصى أبعاد قدرته، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة، وأفاق كثيرة، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ١: ٢٨.

١٢٦

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته: وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة، وإن كان ممكناً للجميع، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء: ٢٢ ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ( المؤمنون: ٩١ ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل: ٨٢ ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف، واستعدّت له النفوس المعاصرة، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

١٢٧

للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فيما يأتي من الزمان، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً: لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ولذلك، فقد كان القرآن ـ في عصر تنزّله ـ محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن، وبعد الناس عن عهد نزوله، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم، وتاريخه، وعلومه.

ولأجل ذلك، يطلب الإمام عليّعليه‌السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقولعليه‌السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً »(١) .

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلّا بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة، وتعتبر قوله قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١. قال سبحانه في آية الوضوء:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة: ٦ ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٧٧).

١٢٨

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟(١) .

٢. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل: إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل: إنّ القطع من الكوع، وهو المفصل بين الكفّ والذراع، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل: إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج(٢) .

٣. أمر الله سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه:( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء: ١٢ ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال:( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

__________________

(١) وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى ٣: ٥٤، لاحظ المسألة (٢٠٠) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها، ومفاتيح الغيب ١١: ١٦١ ( طبع دار الكتب العلمية ).

(٢) راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ): ١٨٤.

١٢٩

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات، كالواحديّ وغيره، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود، وإليك نماذج من ذلك :

١. قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة: ١٨٩ ).

فيقال، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ) وعلى فرض وضوح المناسبة، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

٢. قوله سبحانه:( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل: ٨٢ ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

٣. وقوله سبحانه:( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة: ١١٨ ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

١٣٠

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ، من دون زيادة أو نقصان، ومن دون تحريف أو تزييف، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه، وأميناً على سره، ومؤدّباً بتأديبه، وناشئاً على ضوء تربيته، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على الله بحكم الضرورة والعقل، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته، ويبيّن أبعاده، ويكشف عن معالمه، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة، وهو الإرشاد والهداية، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر ـ فيما يقدر ـ على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم، قلت لأبي عبد الله ( جعفر بن محمّد الصادق )عليه‌السلام :

إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله.

قال: « صدقت ».

قلت: إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلّا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، وأنّ لهم الطاعة المفترضة، وقلت للناس: تعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو الحجّة من الله على خلقه ؟ قالوا: بلى، قلت: فحين

١٣١

مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلّا بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيّم القرآن ؟(١) فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلّه ؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلّا عليّاًعليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّاًعليه‌السلام كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضةً، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ): « رحمك الله »(٢) .

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام فقال له: « كلّم هذا الغلام »، يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ: أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال: فمن هو ؟

قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال هشام: فبعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال: الكتاب والسنّة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ: نعم.

قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

__________________

(١) أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).

(٢) الكافي ١: ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٣٢

قال: فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد الله للشاميّ: « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهّما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلّا أنّ لي عليه هذه الحجّة(١) .

أجل، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن الله به كتابه هو من عناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٢) .

وروي هكذا أيضاً: « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: الثّقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، إلّا وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٣) .

فقد صرح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم افتراق الكتاب والعترة، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده، وذلك يقتضي، وجوب التمسك بهم كالقرآن

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٢.

(٢ و ٣) رواه أحمد بن حنبل في مسنده ٥: ١٨٢ و ١٨٩، والحاكم في مستدركه ٣: ١٠٩، ومسلم في صحيحه ٧: ١٢٢، والترمذيّ في سننه ٢: ٣٠٧، والدارميّ في سننه ٢: ٤٣٢، والنسائيّ في خصائصه: ٣٠، وابن سعد في طبقاته ٤: ٨، والجزريّ في اسد الغابة ٢: ١٢، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.

وقد أفرد دار التقريب رسالةً ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونه ونشره عام ١٣٧٥ ه‍.

١٣٣

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

٣. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون، تهدينا إلى أنّ الله خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله، وعلّته الغائيّة، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة، فقد زوده الله تعالى ـ بعد أن أفاض عليه الوجود ـ بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ

ولم يكن معقولاً أن يهمل الله تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين: المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلّا في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته، وتوجيهه، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم، بالتزكية والتعليم والتربية، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده الله لها.

وقد قام انبياء الله ورسله الكرام ـ بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم ـ بهداية البشريّة على مدار الزمن، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

١٣٤

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً، دوراً أساسيّاً وعظيماً، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة، فسقطت في الحضيض، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة: « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة، فكانوا كما وصف في محكم كتابه( إِنْ هُمْ إلّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) »(١) .

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلّا عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء الأوّل.

١٣٥

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل، وهداية الأنبياء ورعايتهم، هو نفسه يستدعي، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين، للنبيّ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب، والتقهقر إلى الوراء، كيف لا، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين، ضمان لتكامل المجتمع، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟(١) .

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت: في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب الله سبحانه، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ ـ يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم »(٢) .

ب ـ روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ]عليهما‌السلام : « إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل »(٣) .

__________________

(١) هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ): ٣٠٤.

(٢ و ٣) الكافي ١: ١٧٨.

١٣٦

ج ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في نهج البلاغة: « أللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته »(١) .

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام: أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال: نعم.

فقال: ألك عين ؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بها ؟

فقال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قال: فلك أنف ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أشمّ به الرائحة.

قال: ألك فم ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أذوق به الطعام.

قال: فلك اُذن ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

__________________

(١) نهج البلاغة: قصار الكلمات.

١٣٧

فقال: أسمع به.

قال: ألك قلب ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال: أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال: لا.

قال: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته، أو ذاقته، أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام: فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال: نعم.

قال: لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال: نعم.

قال: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام: فسكت ولم يقل لي شيئاً(١) .

وغير خفي على القارئ النابه، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٠.

١٣٨

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً ـ خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله ـ فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول: أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام، إلّا بتنصيب من الله سبحانه وتعيينه.

٤. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود الله أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلّا أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

١٣٩

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

١. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

٢. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه ؟

٣. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة، فأخبرهم عن أجوبتها، وأخبرهم بأنّ الأوّل، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف، والثاني، هو ذو القرنين الذي ذكره الله في سورة الكهف أيضاً، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى الله بأمره حيث قال:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء: ٨٥ )، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى الله تعالى إليه(١) .

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستدلوا لاعتقادهم في المسيحعليه‌السلام بكونه ولداً لله، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، فأجابهم بما أوحى إليه الله سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال الله في هذا الصدد:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران: ٥٩ )(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل خمسة أديان: اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

(٢) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

وأمّا ما يتعلّق بالحقوق والقوانين الدوليّة بعامّتها وخاصّتها فسيوافيك الحديث عنها في بحث خاصّ تحت عنوان: « السياسة الخارجيّة في الحكومة الإسلاميّة ».

إنّ من له أدنى إلمام بالفقه الإسلاميّ يجده غنيّاً عن أي تشريع بشريّ وأيّ قانون وضعيّ.

ولو أنّ المسلمين ـ اليوم ـ أخذوا بالتشريع الإسلاميّ كاملاً، وفرّعوا الفروع، واجتهدوا على أساسه لوجدوه ووجدوا أنفسهم في غنى عن أي اقتباس من هنا أو هناك، وللتأكّد من هذه الحقيقة الساطعة لاحظ ـ أيّها القارئ الكريم ـ كتاب « تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة » في تمام الفقه، لآية الله العلاّمة الحليّ المولود عام ( ٦٤٨ ه‍ ) والمتوفّى عام ( ٧٢٦ ه‍ ) والذي اقتصر فيه المؤلّف على مجرّد الفتوى، وترك الاستدلال ولكنّه استوعب الفروع والجزئيّات حتّى أنّه اُحصيت مسائله فبلغت أربعين ألف مسألة، رتّبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد للعبادات والمعاملات والإيقاعات والأحكام(١) .

ولهذا فإنّ الحضارة الغربيّة لـمّا داهمت المسلمين لم تخلب عقولهم من الناحية الحقوقيّة، والقانونيّة، وإن خلبتهم من ناحية التكنولوجيا والصناعة وذلك لما كان يتمتّع به المسلمون من الغنى الفقهيّ بفضل التشريع الإسلاميّ الواسع الأطراف من جانب، وما كانوا يعانون منه من الفقر في الجانب التكنولوجيّ حيث أنّهم كانوا قد تركوا الغور في العلوم الطبيعيّة منذ زمن طويل، وإن كان أسلافهم قد بدأوها وأبدعوا فيها، وأتوا بابتكارات لا سابق لها.

شموليّة الحقوق الإسلاميّة

يبقى أن نعرف أنّ الحقوق التي جاء بها الإسلام لا تقتصر على الاُمور المذكورة في الكتب الفقهيّة، بل هناك حقوق أخلاقيّة بين الأفراد والأفراد، بل وبين الإنسان

__________________

(١) لاحظ كتاب الذريعة ٣: ٣٧٨.

٤٦١

والحيوان(١) ، والإنسان والأشياء الاُخرى(٢) في عالم الطبيعة، وهي تعكس دقّة الإسلام وعمق نظره، وسعة اُفقه التشريعيّ، وشموليّة بعده الفقهيّ وتفوّقه على ما يسمى الآن بميثاق حقوق الإنسان وغيره الرائج في الغرب.

وبهذا يكون الإسلام قد امتاز على القوانين الوضعيّة بميزة اُخرى مضافاً إلى الميزات السابقة المذكورة، وهي ميزة الشموليّة.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا أردت أن تقف على الحقوق الإسلاميّة بشكل إجماليّ فعليك بمراجعة الكتب والرسائل التالية :

١. رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليهما‌السلام .

٢. رسالة الحقوق للشيخ الصدوق المعروفة برسالة مصادقة الإخوان وقد طبعت.

٣. الحقوق للعلاّمة السيد صدر الدين المتوفّى بقم عام ( ١٣٧٣ ه‍ ) أورد فيه اثنين وستّين حقّاً، وقد طبع.

٤. حقوق المؤمنين للشيخ الحسين بن سعيد الأهوازيّ وهو مخطوط.

وهناك مؤلّفات اُخرى لمشايخنا الإماميّة حول الحقوق العامّة والخاصّة وحول الفرق بين الحقّ والحكم وقد طبع بعضها ولا زال أكثرها مخطوطاً.( لاحظ الذريعة ٧: ٣٩ ـ ٤٧ ).

هذا وحيث أنّ حقوق الأقليّات في المجتمع الإسلاميّ تحظى بأهميّة خاصّة ولها صلة شديدة بالحكومة الإسلاميّة أفردنا لها البحث التالي، ونحيل البحث عن سائر الحقوق بالتفصيل إلى الكتب المعدّة لها وكذا أفردنا للحقوق الدوليّة فصلاً آخر.

__________________

(١) لاحظ وسائل الشيعة كتاب الحجّ الجزء الثامن أبواب أحكام الدواب الصفحة ٣٣٩ ـ ٣٩٧ فقد عقد فيها الشيخ الحرّ العامليّ ٥٣ باباً في أحكام الدواب وحقوقها، وفصّل حقوق الحيوان في كتاب الجواهر ٣١: ٣٤٩ ـ ٣٩٨، فقد بحث ذلك الفقيه المحقّق الذي كان يعيش في القرن الثالث عشر الهجري حقوق الحيوان على ضوء الإسلام قبل أن يعرف العالم الحديث قضيّة الرفق بالحيوان.

(٢) وإلى ذلك يشير قول الإمام عليّعليه‌السلام في نهج البلاغة: « فإنّكُم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم » الخطبة ١٦٢ ( طبعة عبده ).

٤٦٢

الأقليّات الدينيّة في الحكومة الإسلاميّة

إنّ حكومة تقوم على أساس الإيمان بالله سبحانه وعلى أساس الشريعة الإلهيّة لا يمكن أن تكون معاملتها وموقفها من الأقليّات الدينيّة إلّا أفضل موقف، وأحسن معاملة وأقربها إلى الإنسانيّة والعدل والنصفة والحقّ وإليك ملامح من هذه المعاملة الحسنة العادلة فيما يأتي :

١. الإعتراف بحقوق الأقليّات

إنّ أبرز ما يتجلّى في معاملة الحكومة الإسلاميّة للأقليّات الدينيّة هو الاعتراف بحقوقهم الطبيعيّة في العدل والقسط وغيره، فها هو القرآن الكريم يبيّن بكلّ صراحة سياسة الإسلام الكليّة بالنسبة إلى حقوق الشعوب غير المسلمة سواء أكانوا أهل الكتاب أم لا إذ يقول:( لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الممتحنة: ٨ ).

فهذه الآية تفيد أنّ الأقليّات والشعوب غير المسلمة تحظى بالاحترام وتستحقّ العدل والقسط إذا لم تعلن حرباً على المسلمين، ولم تخرجهم من مساكنهم وأوطانهم، ولم تتآمر ضدّهم، فإذن ينبغي أن يشلمها المسلمون بالعدل والإنصاف والبرّ، وبهذا يسمح النظام الإسلاميّ للأقليّات الدينيّة أن تعيش ضمن المجتمع الإسلاميّ وتستفيد من الحقوق الإنسانيّة في الحياة الآمنة.

نعم إنّ القرآن الكريم ينهى عن المعاشرة السلميّة مع الفرق والجماعات التي تتآمر ضدّ الإسلام ومصالح المسلمين، إذ يقول:( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة: ٩ ).

٤٦٣

إنّ سياسة الإسلام العامّة اتّجاه الأقليّات الدينيّة تفهم من هاتين الآيتين جيّداً فالأقليّات الدينيّة ـ حسب هاتين الآيتين ـ محترمون في البلاد الإسلاميّة وعلى المسلمون أن يعايشونهم ويعترفوا لهم بحقوقهم في الحياة الآمنة ما لم يتجاوز أبناؤها وأعضاؤها على حقوق الأكثريّة المسلمة، ولم تتآمر ضدّ الإسلام، فإذا تآمرت، وتحالفت مع أعداء الإسلام ومعارضيه وخصومه، ارتفعت عنهم هذه الحصانة الإسلاميّة وجاز للمسلمين أن يقفوا ضدهم ولا يوادّوهم.

ولقد بلغت هذه الحريّة والاحترام إلى درجة لو فعل أهل الذمّة ما هو سائغ في شرعهم وليس بسائغ في الإسلام كشرب الخمر لم يتعرّض لهم ما لم يتجاهروا به، نعم إن تجاهروا به عمل بهم ما تقتضيه الجناية بموجب الشرع.

وإن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم(١) كالزنا واللواط، فالحكم فيه أيضاً كما في المسلم. وإن شاء الحاكم رفعه إلى أهل نحلته ليقيموا الحدّ فيه، بمقتضى شرعهم كما لو تحاكم إلينا ذميّان كان الحاكم مخيّراً بين الحكم عليهما بحكم الإسلام وبين الإعراض عنهم لقوله سبحانه:( فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) ( المائدة: ٤٢ ).

٢. حسن المعاشرة مع الأقلّيات

إنّ الإسلام يحث المسلمين على الإحسان إلى أهل الكتاب، وأخذهم بحسن المعاشرة واحترام عقائدهم وإبقائهم على دينهم إذا هم اختاروا ذلك، قال الله تعالى:( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ) ( العنكبوت: ٤٦ ).

وقال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ظلم مُعاهداً وكلّفهُ فوق طاقته فأنا حجيجهُ يوم القيامة »(٢) .

__________________

(١) لاحظ في ذلك جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ٢١: ٣١.

(٢) فتوح البلدان للبلاذريّ: ١٦٧ ( طبعة مصر ).

٤٦٤

وقال: « من آذى ذميّاً فأنا خصمُه ومن كُنتُ خصمهُ خصمتُهُ يوم القيامة »(١) .

وكتب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي الحارث بن علقمة أسقف نجران :

« بسم الله الرّحمن الرحّيم. من محمّد النبيّ إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم، أنّ لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيّتهم وجوار الله ورسوله، لا يغيّر أسقف من أسقفيّته، ولا راهب من رهبانيّته ولا كاهن من كهانته، ولا يغيّر حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء ممّا كانوا عليه ما نصحوا وصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين وكتب المغيرة »(٢) .

وإليك نموذج آخر من هذه العهود :

( بسم الله الرحّمن الرّحيم، وبه العون، هذا كتاب كتبه محمّد بن عبد الله إلى كافّة النّاس أجمعين بشيراً ونذيراً، ومؤتمناً على وديعة الله في خلقه لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل، وكان الله عزيزاً حكيماً، كتبه لأهل ملّته، ولجميع من ينتحل دين النّصرانيّة من مشارق الأرض ومغاربها، قريبها وبعيدها، فصيحها وعجميها، معروفها ومجهولها، كتاباً جعله لهم عهداً، ومن نكث العهد الّذي فيه وخالفه إلى غيره، وتعدّى ما أمره كان لعهد الله ناكثاً، ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئ، وللّعنته مستوجباً، سلطاناً كان أم غيره من المسلمين المؤمنين، وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة فأنا أكون من ورائهم ذابّ عنهم، من كلّ عدة لهم، بنفسي وأعواني، وأهل ملّتي وأتباعي، كأنّهم رعيّتي، وأهل ذمّتي وأن أعزل عنهم الأذى في المؤن التي تحمل أهل العهد من القيام بالخراج إلّا ما طابت به نفوسهم وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك، ولا يغيّر أسقف من أسقفيّته، ولا راهب من رهبانيّته، ولا حبيس من صومعته، ولا سائح من سياحته، ولا يهدم بيت من بيوت

__________________

(١) روح الدين الإسلاميّ: ٢٧٤.

(٢) الطبقات الكبرى ١: ٢٦٦، والبداية والنهاية ٥: ٥٥، والوثائق السياسيّة: ١١٥ رقم ٩٥ كما في مكاتيب الرسول ٢: ٣٣٣.

٤٦٥

كنائسهم وبيعهم، ولا يدخلُ شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل الـمُسلمين فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد الله، وخالف رسُولهُ، ولا يحملُ على الرّهبان والأساقفة، ولا من يتعبّد جزيةً ولا غرامةً، وأنا أحفظُ ذمّتهم أينما كانُوا من برّ أو بحر، في المشرق والمغرب والشّمال والجنُوب. وهُم في ذمّتي وميثاقي وأماني من كُلّ مكرُوه.

وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المـُباركة، لا يلزمُهُم ما يزرعُوهُ، لا خراج ولا عُشر، ولا يُشاطرُونهُ لكونه برسم أفواههم، ويُعانُوا عند إدراك الغُلّة بإطلاق قدح واحد، من كلّ أردب برسم أفواههم، ولا يُلزمُوا بخرُوج في حرب ولا قيام بجزية ولا من أصحاب الخراج، وذوي الأموال والعقارات والتّجارات ممّا أكثر [ من ] اثني عشر درهم بالحُجّة في كُلّ عام، ولا يُكلّفُ أحداً منهُم شططاً، ولا يُجادلُوا إلّا بالتي هي أحسنُ، ويُخفضُ لهُم جناحُ الرّحمة ويُكفّ عنهُم أدبُ المكرُوه حيثُما كانُوا وحيثُما حلّوا.

وإن صارت النصّرانيّةُ عند المـُسلمين فعليه برضاها، وتمكينها من الصّلوات في بيعها، ولا يُحيلُ بينها وبين هوى دينها.

ومن خالف عهد الله، واعتمد بالضدّ من ذلك، فقد عصى ميثاقهُ ورسُولهُ ويُعانُوا على مرمّة بيعهم ومواضعهم، ويُكونُ ذلك معونةً لهُم على دينهم ومعا [ وفاء ] لهُم بالعهد، ولا يُلزمُ أحد منهُم بنقل السّلاح، بل المـُسلمين يذبّون عنهُم ولا يُخالفُوا هذا العهد أبداً إلى حين تقُومُ الساعة وتنقضي الدّنيا.

وشهد بهذا العهد الّذي كتبهُ مُحمّد بنُ عبد الله رسُول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لجميع النّصارى والوفاء بجميع ما شرط لهُم عليه عليّ بنُ أبي طالب و )(١) .

إنّ أبرز ما يتجلّى للقارئ في هذا العهد النبويّ للنصارى اُمور :

١. مدى الحريّة العقائديّة المعطاة من جانب الإسلام للأقلّيات الدينيّة.

__________________

(١) مجموعة الوثائق السياسيّة: ٣٧٣، كما عن أحمد زكي باشا، رسالة صورة العهد النبويّة الطوريّة عن خطية دار الكتب المصريّة رقم ٨١٤ كما في مكاتيب الرسول ٢: ٦٣٥.

٤٦٦

٢. سعة الحماية التي تقوم بها الحكومة الإسلاميّة لهذه الأقليّات.

٣. سعة الرحمة التي يشمل بها الدين الإسلاميّ الأقليّات.

إلى غير ذلك من النقاط الكليّة والجزئيّة التي يقف عليها المتتبّع بالإمعان في هذه الوثيقة الإسلاميّة التاريخيّة التي تمثّل ـ في حقيقتها ـ سياسة الحكومة الإسلاميّة اتّجاه الأقليّات وتصوّر اُسس هذه السياسة وخطوطها العريضة التي لا تجد لها مثيلاً في الحقوق الدوليّة المعاصرة !! وما عليك أيّها القارئ الكريم إلّا أن تقايس هذه الحريّة المعطاة للأقليّات في مجال العقيدة، بما جرى على فروة بن عمرو الذي كان عاملاً للروم على من يليهم من العرب، فلمّا بعث فروة رسولاً بإسلامه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهدى له بغلة بيضاء طلبه الروم حتّى أخذوه فحبسوه عندهم فلمّا قدموا ليقتلوه أنشأ فروة قائلاً :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني

سلم لربّي أعظُمي وبناني(١)

بل وقايسه بما جرى وحلّ بالنصارى على أيدي كنائسهم في محاكم التفتيش في القرون الوسطى، وما وقع من مجازر شملت آلاف الناس بمن فيهم العلماء والمفكّرون لأجل الاختلاف العقيديّ(٢) .

وقد ورد مفاد هذه الرسالة والوثيقة في وثائق وكتب اُخرى للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله اُعطيت لأهل الملل، والعقائد غير الإسلاميّة رسم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها خطوط التعايش السلميّ الذي أشار إليه القرآن الكريم، الذي يقوم على احترام الحقوق والعقائد للأقلّيّات الدينيّة.

لقد كانت معاملة الرسول الحسنة مع أهل الكتاب وما يسمّى الآن بالأقليّات الدينيّة قدوة للمسلمين دائماً، فهذا هو الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام يوصي واليه بأهل الذمّة فيقول: « ولا تبيعنّ للنّاس في الخراج [ وهو ما يؤخذ من الضرائب على الأراضي العامة ] كُسوة شتاء، ولا سيفاً ولا دابّةً يعتملُون عليها ولا عبداً ولا تضربنّ أحداً

__________________

(١) اُسد الغابة ٤: ١٧٨.

(٢) راجع ما كتبه ويل دورانت في قصّة الحضارة.

٤٦٧

سوطاً لمكان درهم، ولا تمُسّنّ مال أحد من النّاس مُصلّ ولا مُعاهد »(١) .

كما أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام لـمّا رأى ذات يوم شيخاً نصرانيّاً يستجدي ويتكفّف فقال: « ما هذا ؟ » قالوا: يا أمير المؤمنين، نصرانيّ. فقال: « استعملتُمُوهُ حتّى إذا كبر وعجز منعتُمُوهُ. أنفقُوا عليه من بيت المال »(٢) .

ولقد كانت هذه السيرة مع الأقلّيّات الدينيّة هي سيرة أغلب قادة الإسلام فالتاريخ يحدّثنا: أنّ أحد الخلفاء مرّ على شيخ مضطرب الحال يتكفّف فسأل عنه، ولـمّا تبيّن له أنّه يهوديّ قال له: وما الذي دعاك إلى هذا.

فلمّا قال: إعطاء الجزية والحاجة، والكبر، أخذ الخليفة بيده، وأدخله إلى منزله وسدّ حاجته بمبلغ من المال وأوصى خازن بيت المال وأمره أن يرفق به ويراعي حاله، وحال من يشابهه وقال: « ليس من النصفة أن نستعمله في شبابه ونتركه في كبره »(٣) .

على أنّ الإسلام لم يكتف بهذا القدر من الاحترام وحسن المعاشرة والمعاملة، فلم يقتصر على الأمر باحترام الأحياء من أهل الكتاب، بل دعا إلى احترام أمواتهم كذلك. يقول جابر بن عبد الله: مرّت بنا جنازة، فقام لها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقمنا به. فقلنا: يا رسول الله: إنّها جنازة يهوديّ. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا رأيتم الجنازة فقوموا »(٤) .

وقال: كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسيّة فمرّوا عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنّهما من أهل الأرض، أي من أهل الذمّة، فقالا: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مرّت به جنازة فقام، فقيل له: إنّها جنازة يهوديّ، فقال: « أليست نفساً »(٥) .

ولهذا السبب كان أهل الكتاب في البلاد غير الإسلاميّة يستقبلون المسلمين الفاتحين لتلك البلاد باشتياق كبير، ويفتحون في وجوههم أبواب مدنهم وحصونهم، فعندما وصل الجيش الإسلاميّ بقيادة أبي عبيدة بن الجرّاح إلى أرض الأردن، كتب إليه

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب رقم ٥١.

(٢) وسائل الشيعة ١: كتاب الجهاد: الباب ١٩ ح ١.

(٣) السلام العالميّ والإسلام.

(٤ و ٥) البخاريّ ٢: ٨٥.

٤٦٨

مسيحيّوا الأردن كتاباً قالوا فيه :

( أنتم أيها المسلمون أحبّ إلينا من الروم، وإن كانوا معنا على دين واحد لكنّكم أوفى لنا، وأرأف وأعدل، وأبرّ، إنّهم حكمونا، وسلبوا منّا بيوتنا وأموالنا )(١) .

وقد كان هذا الكلام كتبه قسّيس أنطاكية الكبير الذي دفعه ظلم الروم وجفوتهم وقسوتهم ـ رغم نصرانيّتهم ـ إلى اللجوء إلى أحضان المسلمين، والاحتماء بالنظام الإسلاميّ العادل الرحيم.

فهو يعترف في موضع آخر من رسالته قائلاً :

( انّ إله الانتقام لـمّا رأى شرور الروم الذين لجأوا إلى القوّة فنهبوا كنائسنا وسلبونا ديارنا في كافّة ممتلكاتهم وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة، أرسل أبناء إسماعيل ( أي العرب المسلمين ) من بلاد الجنوب ( أي مكّة والمدينة ) لتخليصنا من قبضة الروم )(٢) .

ثمّ يكتب مؤلّف « الدعوة إلى الإسلام » قائلاً :

( امّا ولايات الدولة البيزنطيّة التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم فقد وجدت أنّها تنعم بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة بسبب ما شاع بينهم من الآراء اليعقوبيّة والنسطوريّة ( المتضاربة فيما بينها ) فقد سمح الإسلام لهم أن يؤدّوا شعائر دينهم دون أن يتعرّض لهم أحد، أللّهم إلّا إذا استثنينا بعض القيود التي فرضت عليهم منعاً لإثارة أي احتكاك بين أتباع الديانات المتنافسة )(٣) .

وقد دفعت مداراة المسلمين وحسن معاشرتهم ومعاملتهم لأهل الكتاب في أن يجدوا أمنهم المطلوب في كنف المسلمين، ويحسّوا بالطمأنينة في ظلال الحكومة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ حتّى أنّ الأدلّة التاريخيّة والشواهد القطعيّة الكثيرة تشهد على أنّ الكثير من النصارى الذين كانوا يطاردون من قبل الكنيسة الرسميّة في بيزنطية

__________________

(١ و ٢ و ٣) الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد: ٥٣.

٤٦٩

كانوا يلجأون إلى البلاد الإسلاميّة حصولا على الحماية والأمن والاستقرار ولأجل هذا نجد أنّ أجمل الكنائس والصلوات هي تلك التي بنيت في أرض الإسلام أيّام مجد المسلمين ودولتهم.

وهذا أمر ملحوظ في جميع البلاد الإسلاميّة الحاضرة.

هذا مضافاً إلى أنّ الأقليّات الدينيّة كانت ولا تزال تتمتّع بالحريّة الاقتصاديّة والتجاريّة والمعيشيّة، دون أن تحسّ بحاجة إلى التحزّب والتمركز والتجمّع لمواجهة أي خطر.

٣. احترام الإسلام لحياة الأقليّات

إنّ الذي لا يمكن إنكاره أبداً أنّه ليس هناك أي دين ولا أيّة حكومة في العالم كالدين الإسلاميّ والحكومة الإسلاميّة تضمن حريّات الأقليّات، وتحفظ شرفها وحقوقها الوطنيّة، فأيّ دين يحترم الأقليّات كهذا الاحترام، أم أي قانون يقدّرها كما يحترمها النظام الإسلاميّ، ويقدّرها ويرعى حقوقها.

أجل إنّه الإسلام وحده يكفل العدالة الاجتماعيّة الكاملة الشاملة للمسلمين، وغير المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وألوانهم ولغاتهم، وإنّ هذا لمن احدى ميزات الدين الإسلاميّ وخصائصه الإنسانيّة التي ينفرد بها دون غيره، ويعجز الآخرون عن تحقيقه، وأدلّ دليل على حسن معاملة الإسلام للأقليّات أنّ الإسلام أمّن على أنفسهم وأموالهم وتعهّد في ذمّته بحمايتهم وحفظهم وأمانهم من كلّ شرّ وسوء ازاء شروط خاصّة لا يصعب تحمّلها عادة في مقابل ما تعهّد الإسلام لهم به. وإليك هذه الشروط :

في شرائط الذمّة

إنّ الشرائط المقوّمة للذمّة ( التي تنتفي الذمّة بانتفاء واحدة منها ) ثلاثة :

الأوّل: أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين، أو إمداد

٤٧٠

المشركين والتواطؤ معهم ضدّ مصالح الإسلام والمسلمين.

الثاني: أن يلتزموا بأن تجري عليهم أحكام المسلمين بمعنى وجوب قبولهم لما يحكم به المسلمون من أداء حقّ أو ترك محرّم.

والمراد من الأحكام هي الأحكام الاجتماعيّة والجزائيّة، كجلدهم إذا زنوا، وقطع أيديهم إذا سرقوا وما شابه.

الثالث: القبول بدفع الجزية .

فهذه الشروط الثلاثة تعتبر من مقوّمات الذمّة، وأمّا غير ذلك من الشروط فإنّما يجب العمل بها من جانبهم إذا اشترطت في ( عقد الذمّة )(١) .

إنّ في مقدور الأقليّات الدينيّة ـ بعقد الذمّة ـ أن تعيش بين المسلمين عيشة حرّة، ويكون لها ما للمسلمين وعليها ما على المسلمين، من حقوق اجتماعيّة، وأمن داخليّ، وحماية خارجيّة، وتلك هي وظيفة الحكومة الإسلاميّة أن توفّر ظروف العيش الآمن، والاحترام المناسب للأقليّات الدينيّة، والحفاظ على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، من دون أي عدوان وتجاوز وحيف، هذا فيما إذا عمل أهل الكتاب وغيرهم بشرائط الذمّة والهدنة.

إنّ الإسلام يحترم دماء الكتابيّين الذين يعيشون في الذمّة وأعراضهم كما يحترم دماء المسلمين وأعراضهم دون فرق، وتلك حقيقة لا تجد نظيرها في أي نظام غير النظام الإسلاميّ مهما كان إنسانيّاً، ولهذا عندما يسمع الإمام عليّعليه‌السلام بأنّ جماعة من البغاة أغاروا بأمر معاوية على ( الأنبار ) وهي إحدى مدن العراق، واعتدوا على أهلها، وأعراضهم وأموالهم، نجده ينزعج غاية الانزعاج ويحزن غاية الحزن، ويمضي في لومهم وشجبهم قائلاً ـ في أسف ظاهر ـ: « ولقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والاُخرى المعاهدة، فينتزع حجلها، وقلبها، وقلائدها ورعاثها، ما تمنع منه إلّا بالاسترجاع، والاسترحام ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ولا اريق منهم

__________________

(١) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ٢١: ٢٧١.

٤٧١

دم » !!

إنّ أعراض المسلمين والذميين عند الإمام عليّعليه‌السلام من حيث الاحترام والحرمة بحيث يقول في شأن ذلك في ذيل العبارات السابقة: « فلو أنّ امرأً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملُوماً، بل كان به عندي جديراً »(١) .

إنّ القانون الإسلاميّ يقضي بأن تتكفّل الحكومة الإسلاميّة حماية الأقليّات الدينيّة، وأعراضهم وأموالهم وكنائسهم ومعابدهم، بحيث يمكنهم أن يؤدّوا شعائرهم الدينيّة بحريّة وأمان، وفي الوقت الذي يدعو فيه الإسلام هذه الأقليّات وغيرها إلى اعتناق الإسلام، لا يسمح بأن تعطّل حريّة الأقليّات في تعليم دينها لأبنائها.

إنّ الذمّيين أحرار ـ تماماً ـ من جهة ( القضاء ) فلهم أن يتحاكموا ـ في منازعاتهم واختلافاتهم الخاصّة ـ إلى محاكمهم الخاصّة، أو إلى محاكم المسلمين وقضاتهم، إن كان النزاع بينهم وبين مسلم، وأن يدافعوا عن حقوقهم في محاكم المسلمين بمنتهى الحريّة والطمأنينة والحصانة(٢) .

إنّ للذمّي ـ حسب نظر الإسلام ـ أن يشتكي أمام قاضي المسلمين على أكبر شخصيّة إسلاميّة كالخليفة وحاكم البلاد، أو يدافع عن نفسه إذا اشتكى عليه تلك الشخصيّة، ويطالبه بالبيّنة لدعواه.

ولا يخفى أنّ هذه الأحكام ليست مجرّد نظريّة قانونيّة لم يعمل بها في تاريخ المسلمين وحياتهم، بل لها نماذج ومصاديق مطبّقة أكثر من أن تحصى، منها قضيّة الدعوة التي أقامها الإمام عليّعليه‌السلام على رجل يهوديّ في قصّة الدرع التي، مرّت عليك فيما سبق في هذا الكتاب(٣) .

انّ تاريخ الإسلام المشرق يبيّن لنا أنّ علاقات المسلمين مع الشعوب والأقليّات

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٦).

(٢) لاحظ في ذلك الصفحة ٤٦٤ من كتابنا هذا.

(٣) راجع الصفحة ٣٣٥ من كتابنا هذا.

٤٧٢

الدينيّة كانت قائمة منذ ظهور الحكومة الإسلاميّة، وحصول الاستقلال السياسيّ للمسلمين على اُسس التسامح والسلام والمحبّة والمعاشرة الإنسانيّة، والمعاهدات المتبادلة، ولهذا كانت تلك الأقليّات الدينيّة تعيش بين المسلمين بحريّة كاملة، ودون أن يلحقها أي أذى أو سوء، وتستفيد من حقوقها المُسلمة دون أي عدوان أو نقصان، وهذا هو الأمر الذي جعلهم يفضّلون حكم الإسلام على غيره.

كما أنّ هذا هو الذي حدى بالكتاب المسيحيّين ومؤرّخيهم أن يعترفوا بفضل الإسلام وحسن سيرة المسليمن بالنسبة إلى أبناء دينهم، لاحظ في ذلك ما قاله غوستاف لوبون.

وقال روبرتسون في كتابه تاريخ شارلكن: ( إنّ المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الجهاد والتسامح نحو أتباع الأديان الاُخرى الذين غلبوهم وتركوهم أحراراً في إقامة شعائرهم الدينيّة )(١) .

٤. الجزية ضريبة عادلة

يبقى أن نعرف أنّ الإسلام فرض على أهل الكتاب ـ بعد الغلبة عليهم ـ دفع ضريبة تسمّى بالجزية، وهي بمنزلة الضريبة التي تؤخذ من المسلمين تحت عناوين مختلفة من الزكاة والخمس وسائر الصدقات لتصرف في شؤون الدولة الإسلاميّة ولأجل ذلك لا تؤخذ الجزية من المعتُوه ولا من المغلُوب على عقله، ولا الصبيان ولا النساء، لأنّ الجزية إنّما هي في مقابل الدخل تقريباً. قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « جرت السنّة أن لا تُؤخذ الجزية من المعتُوه ولا من المغلُوب على عقله »(٢) .

ثمّ إنّ الجزية تقدر بقدر المُكنة والقدرة فقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن حدّ الجزية فقال: « ذلك إلى الإمام يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما

__________________

(١) روح الدين الإسلاميّ: ٤١١.

(٢) الوسائل ١١: ١٠٠، وراجع تحرير الوسيلة ٢: ٤٩٨ للإمام الخمينيّ.

٤٧٣

يُطيقُ »(١) .

كما أنّ الإمام مخيّر في الجزية في أن يضع الجزية على حسب رؤوسهم دون أرضهم أو على أرضهم دون رؤوسهم في حين أنّه يأخذ من المسلمين الضرائب المتوجّبة عليهم من أموالهم خاصّة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مدى روح السماحة والعطف والعدالة التي يعامل بها الإسلام الأقليّات الاُخرى، فعن محمّد بن مسلم قال: سألتهعليه‌السلام عن أهل الذمّة ماذا عليهم ما يحقنون به دماءهم وأموالهم ؟ قال: « الخراج، وإن أُخذ من رُؤوسهُمُ الجزية فلا سبيل على أرضهم وإن أُخذ من أرضهم فلا سبيل على رُؤوسهم »(٢) .

كما أنّه لا يجوز للحكومة الإسلاميّة أن تأخذ من الأقليّات شيئاً علاوة على الجزية، فعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام في أهل الجزية أيؤخذ من أموالهم ومواشيهم سوى الجزية ؟ قال: « لا »(٣) .

وبالتالي، إنّ الجزية لم تكن ضريبة شاقّة لو عرفنا مقاديرها فقد جعل الإسلام على غنيّهم ثمانية وأربعين درهماً، وعلى أوساطهم أربعة وعشرون درهماً، وعلى فقرائهم إثنا عشر درهما يؤخذ منهم كلّ سنة، راجع لمعرفة ذلك الحديث المروي في هذا الباب(٤) .

وفي الحقيقة لا تقدير خاصّ للجزية، ولا حدّ لها بل تقديرها إلى الوالي، والحكومة الإسلاميّة بحسب ما يراه من المصالح والأزمنة ومقتضيات الحال(٥) والمقدار المذكور في الرواية هو مصداق لهذا التقدير.

وبالتالي فإنّ ما تأخذه الدولة الإسلاميّة من الأقليّات باسم الجزية إنّما هو في الحقيقة لتقديم الخدمات إليهم، وحمايتهم، لا أنّه أتاوة على نحو ما يفعل الفاتحون عادة.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل ١١: ١١٤ و ١١٥.

(٤) وسائل الشيعة ١١: ١١٦.

(٥) تحرير الوسيلة للإمام الخمينيّ ٢: ٤٤٩.

٤٧٤

وفي هذا الصدد يقول السيد رشيد رضا: ( إنّ الجزية في الإسلام لم تكن كالضرائب التي يضعها الفاتحون على من يتغلّبون عليهم فضلاً عن المغارم التي يرهقونهم بها، وإنّما هي جزاء قليل على ما تلتزمه الحكومة الإسلاميّة من الدفاع عن أهل الذمّة، وإعانة الجند الذي يمنعهم ( أي يحميهم ) ممّن يعتدي عليهم كما يعلم من سيرة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والشواهد على ذلك كثيرة )(١) .

فهي إذن ضريبة ضئيلة يقابلها تأمين الإسلام لهم الحراسة والحفظ وتوفير ضروريّات الحياة.

وبذلك يبقى الكتابيّ على دينه ويقيم شعائره في حدود المصلحة الإسلاميّة العامّة حسب ما قرّر لها من شروط، وأحكام.

__________________

(١) تفسير المنار ١١: ٢٨٢.

٤٧٥

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٣

الحكومة الإسلاميّة

والدعوة إلى التنمية الاقتصاديّة

أهميّة الاقتصاد في الحياة البشريّة :

لا شكّ في أنّ الاقتصاد يحتلّ موقعاً حسّاساً وهاماً في الحياة البشريّة، إذ يدور عليها رحى جوانب كثيرة من هذه الحياة، ومن هنا اهتمّ الإسلام بالمسائل الاقتصاديّة اهتماماً بالغاً. فوجود الأبواب الكثيرة، المتعلّقة بالمبادلات الماليّة في الفقه والتشريع الإسلاميّ إلى جانب التوجيهات والإرشادات المرتبطة بهذا الحقل ينبئ عن اهتمام الإسلام الشديد بالاقتصاد ويكشف عن أنّ الدين الإسلاميّ ليس كسائر الأديان تنحصر مسؤوليّته في إعطاء العظات الأخلاقيّة، وتقديم الوصايا المعنويّة الفرديّة مهملاً أهمّ مسألة في حياة الإنسان وهي القضية الاقتصاديّة.

كيف والعمل من أجل الآخرة يتوقّف على قدرة الجسم، وسلامة البدن، وانتعاش الجانب الاقتصاديّ فقد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « أللّهم بارك لنا في الخبز، ولا تفرّق

٤٧٦

بيننا وبينهُ، فلولا الخُبزُ ما صلّينا ولا صُمنا ولا أدّينا فرائض ربّنا »(١) .

وعن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « وبالدّنيا تُحرزُ الآخرةُ »(٢) .

ثمّ لا ريب في أنّ الإنسان مركّب من المادة والروح، وأنّ لوجوده بعدين: بعداً ماديّاً، وبعداً معنويّاً، ولذلك لابد للإسلام كنظام للإنسان ومنهج للحياة أن يعتني بهذا البعد ( المادي ) أيضاً لأنّ تجاهله ما هو إلّا تجاهل لنصف الإنسان.

وبعبارة اُخرى، إنّ ( الغنى ) في الجانب المعنويّ ـ وحده ـ لا يكفي، لأنّ الفقر الاقتصاديّ كفقر الدم تماماً، إذ الاقتصاد عصب الحياة، ودم يجري في عروق المجتمع، ويضمن حياته وبقاءه، فكما أنّ فقر الدم يوجب سلسلة من الأمراض والمضاعفات الخطيرة مثل ضعف السماع والبصر، وظهور اللكنة في اللسان، وتعرقل عمليات المخّ، إلى غير ذلك من العوارض، وألوان الخلل في وظائف الأعضاء فإنّ للفقر الاقتصاديّ والماديّ ( عوارض ) سيّئة، وآثار خطيرة على الحياة الفرديّة والاجتماعيّة فهو يوجب ضعفاً في الهيكل الاجتماعيّ وتصدّعاً في تماسكه، ولذلك يكون الاقتصاد مطروحاً للإنسان منذ أن يولد حتّى يوسّد في لحده، هذا مضافاً إلى أنّ بقاء الاُصول الأخلاقيّة والتزام الصراحة، ومناعة الطبع واستقلال الشخصيّة اُمور متفرّعة على الجانب الماديّ، بمعنى أنّ الإبقاء على هذه الاُمور في غاية الصعوبة على من اضطرب أمر معاشه، وأصابه الفقر، واختلّ اقتصاده. فكم من إنسان ابتلي بصفة التملّق وفقدان الشهامة، والاخلال بالواجب نتيجة الفقر، واضطراب المعاش ؟ وكم من إنسان اضطّر إلى الكذب والخداع، والمساومة على العقيدة والدين لهذا السبب ؟ بل وكم من شعب وقع فريسة الاستعمار والتبعيّة نتيجة التدهور الاقتصاديّ والحرمان الماديّ، والحاجة إلى المساعدات، فحرم المجد والعظمة، وفقد الاستقلال، والحريّة.

ومن هنا لم يكن للاُمم الفقيرة أي نصيب في العزّة والكرامة والمكانة الدوليّة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢: ١٧.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١٤٥.

٤٧٧

اللائقة بين شعوب الأرض.

بل وعلى هذا الأساس الاقتصاديّ قامت العلاقات الدوليّة، والروابط السياسيّة بين الحكومات والشعوب.

الاقتصاد أصل هامّ وليس محوراً

نعم إنّ الفرق بين النظام الإسلاميّ والنظامين الرأسماليّ والاشتراكيّ هو أنّ الاقتصاد في الإسلام يشكّل أصلاً هاماً إلى جانب الاُصول الهامّة الاُخرى ـ كما ظهر من البيان السابق ـ لا أنّه الأصل الوحيد الذي تقوم عليه سائر المسائل الأيديولوجيّة، والأخلاقيّة، والسياسيّة كما تدّعيه الاشتراكيّة، أو تذهب إليه الرأسماليّة عمليّاً.

ونعود لنقول إنّ أفضل ما يدلّ على أنّ الاقتصاد في الإسلام يشكّل أحد الاُصول، الهامّة هو أنّ أكثر الكتب الفقهيّة تتركّز على ذكر القوانين المتعلّقة بالاقتصاد، وتعقد أبواباً خاصّة كأبواب المكاسب، والشفعة والإقالة والصلح والمضاربة والمزارعة والمساقاة والإجارة والجعالة والعارية والقسمة، والدين والرهن والحجر والمفلس والضمان والحوالة، والهبة والوقف والصدقة، والصيد والذباحة والغصب وإحياء الموات، والمشتركات واللقطة والإرث وأحكام الأبنية والأرضين وما شابه ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّنا نجد القرآن يقرن ذكر الصلاة بذكر الزكاة كلّما تحدث عن تلك العبادة وقد تكرّر ذلك في القرآن ما يقارب ٣٢ مرّة تقريباً، ومن المعلوم أنّ الأوّل ينظّم علاقة المخلوق بالخالق، والثاني ينظّم علاقة الفرد بالمجتمع ؛ واقتران كلّ من الأمرين بالآخر يشهد بأنّ هناك بين المعاش والمعاد صلة وثيقة، وارتباطاً لا ينفك ّ.

ثمّ لـمّا كان الإسلام منهجاً كاملاً وكافلاً لاحتياجات المجتمعات البشريّة ماديّها ومعنويّها، اقتضى ذلك أن يكون له ( منهج اقتصاديّ واحد ) يخضع له الجميع، ويكون قادراً على رفع تلك الاحتياجات، ومتمشّياً مع الحاجات المتجدّدة، والاكتشافات الحديثة، ومتمكّناً من إقامة التوازن بين الإنتاج والتوزيع، وموفّراً لكلّ أعضاء المجتمع

٤٧٨

البشريّ جوّاً مناسباً ومطلوباً من الخير والرفاه ؛ لتعيش البشريّة في كنفه في أمان وسلام ورخاء واكتفاء.

إنّ هذا هو ما يتوخّاه النظام الإسلاميّ ويسعى إليه في منهجه الاقتصاديّ.

الدعوة إلى التنمية الإقتصاديّة وإطاراتها

إنّ بيان المنهج الاقتصاديّ في الإسلام يستدعي بحثاً مترامي الأطراف، وهو خارج عن نطاق هذه الدراسة، غير أنّ الذي له صلة وثيقة بهذا البحث هو معرفة أنّ الإسلام اهتمّ ـ اهتماماً شديداً ـ بالجانب الاقتصاديّ في حياة الاُمّة ودعا إلى التنمية الاقتصاديّة في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها.

ولإيقاف القارئ على تلك الدعوة نأتي بإجمال عن ذلك في ضمن عناوين خاصّة ونحيل التفصيل إلى مجال آخر.

١. الإنسان مأمور بعمارة الأرض

إنّ الإنسان ـ في هذا النظام ـ مأمور من جانب الله سبحانه بعمارة الأرض، وإصلاحها، وإحيائها، دون أن يمنعه مانع عن ذلك إذا ما كان في حدود الدين وشرائعه، إذ قال سبحانه:( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ( هود: ٦١ ).

وعن الإمام عليّعليه‌السلام في حديث أنّه قال: « إنّ معايش الخلق خمسة: الإمارةُ، والعمارةُ، والتّجارةُ، والإجارةُ والصّدقاتُ [ إلى إن قال ] وأمّا وجه العمارة فقوله تعالى:( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) فأعلمنا سبحانه أنّه قد أمرهم بالعمارة، ليكون ذلك سبباً لمعايشهم بما يخرج من الأرض »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٣: ١٩٥.

٤٧٩

٢. الإنسان مدعو إلى الكدح والعمل

لقد دعا الإسلام إلى الكدّ والكدح والعمل دعوة أكيدة، وحثّ عليها حثّاً بليغاً لا نجد نظيره في أي نظام آخر، فهو نهى عن الكسل، كما نهى أن يكون المرء كلاًّ على الآخرين، يستهلك ولا يعمل، ويأكل ولا يشتغل وإليك طائفة من الأحاديث المرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين: في هذا المجال، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ملعون من ألقى كلّهُ على النّاس »(١) .

وقال في وصيّته لعليّعليه‌السلام : « إيّاك وخصلتين: الضجرُ والكسلُ، فإنّك إن ضجرت لم تصبر على حقّ وإن كسلت لم تُؤدّ حقّاً، يا عليّ من استولى عليه الضجرُ رحلت عنهُ الرّاحةُ »(٢) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « إنّ الأشياء لـمّا ازدوجت ازدوج الكسلُ والعجزُ فنجا بينهُما الفقرُ »(٣) .

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : « إنّي لأبغضُ الرّجُل ( أو لأبغض للرجل ) أن يكون كسلان عن أمر دُنياهُ ومن كسل عن أمر دُنياهُ فهو عن أمر آخرته أكسلُ »(٤) .

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : « إنّي لأجدُني أمقُتُ الرّجُل يتعذّرُ عليه المكاسبُ فيستلقي على قفاه ويقولُ: ( أللّهم ارزقني ) ويدع أن ينتشر في الأرض ويلتمس من فضل الله، والذرةُ ( أيّ النّملُ ) تخرُجُ من حجرها تلتمسُ الرّزق »(٥) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لا تكُونُوا كُلُولاً على النّاس »(٦) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « لا تكسلُوا في طلب معايشكُم فإنّ آباءنا، قد كانُوا يركُضُون فيها، ويطلُبونها »(٧) .

__________________

(١ و ٣ و ٤ و ٦) وسائل الشيعة ١٢: ١٨، ٣٧، ١٨، ١٨.

(٢) الوسائل ١١: ٣٢٠.

(٥ و ٧) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٥.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627