مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219078 / تحميل: 6015
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة، وأمّا الاعتقاد القلبيّ فله علل وأسباب اُخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقاً علميّاً، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينيّاً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً انشائيّاً تشريعيّاً كما يشهد به ما عقّبه تعالى من قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة، وهي الّتي مرّ بيانها أنّ الإكراه إنّما يعمل ويؤثّر في مرحلة الأفعال البدنيّة دون الاعتقادات القلبيّة.

وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، وهو في مقام التعليل فإنّ الإكراه والإجبار إنّما يركن إليه الآمر الحكيم والمربّي العاقل في الاُمور المهمّة الّتي لا سبيل إلى بيان وجه الحقّ فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات اُخرى، فيتسبّب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأمّا الاُمور المهمّة الّتي تبيّن وجه الخير والشرّ فيها، وقرّر وجه الجزاء الّذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لمّا انكشفت حقائقه واتّضح طريقه بالبيانات الإلهيّة الموضحة بالسنّة النبويّة فقد تبيّن أنّ الدين رشد والرشد في اتّباعه، والغيّ في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين.

وهذه إحدى الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدّة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الإسلام دين السيف واستدلّوا عليه: بالجهاد الّذي هو أحد أركان هذا الدين.

وقد تقدّم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أنّ القتال الّذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدّم وبسط الدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأمّا بعد انبساط

٣٦١

التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوّة ولو بالتهوّد والتنصّر فلا نزاع لمسلم مع موحّد ولا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبّر.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الآية أعني قوله: لاإكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.

ومن الشواهد على أنّ الآية غير منسوخة التعليل الّذي فيها أعني قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، فإنّ الناسخ ما لم ينسخ علّة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإنّ الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أنّ تبيّن الرشد من الغيّ في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإنّ قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلاً، أو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثّران في ظهور حقّيّة الدين شيئاً حتّى ينسخا حكماً معلولاً لهذا الظهور.

وبعبارة اُخرى الآية تعلّل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحقّ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كلّ حال، فهو غير منسوخ.

قوله تعالى: ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) الخ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحدّ ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام والشياطين والجنّ وأئمّة الضلال من الإنسان وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتّباعه، ويستوى فيه المذكّر والمؤنّث والمفرد والتثنية والجمع.

وإنّما قدّم الكفر على الإيمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق الترتيب الّذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لأنّ الاستمساك بشئ إنّما يكون بترك كلّ شئ والأخذ بالعروة، فهناك ترك ثمّ أخذ، فقدّم الكفر وهو ترك على الإيمان وهو أخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الأخذ والإمساك بشدّة، والعروة ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الإناء، والعروة

٣٦٢

هي كلّ ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلّق يقال: عراه واعتريه أي تعلّق به.

والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أنّ الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء وما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذاً مطمئنّاً حتّى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقيّة لا يستقرّ أمرها ولا يرجى نيلها إلّا أن يؤمن الإنسان بالله ويكفر بالطاغوت.

قوله تعالى: ( لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، الانفصام: الانفصام والانكسار، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكّد معنى العروة الوثقى، ثمّ عقّبه بقوله: والله سميع عليم، لكون الإيمان والكفر متعلّقاً بالقلب واللسان.

قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم ) إلى آخر الآية، قد مرّ شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات، وقد بيّنّا هناك أنّ هذا الإخراج وما يشاكله من المعاني اُمور حقيقيّة غير مجازيّة خلافاً لما توهّمه كثير من المفسّرين وسائر الباحثين أنّها معان مجازيّة يراد بها الأعمال الظاهريّة من الحركات والسكنات البدنيّة، وما يترتّب عليها من الغايات الحسنة والسيّئة، فالنور مثلاً هو الاعتقاد الحقّ بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشكّ واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث أن رشده بيّن، وأثره في السعادة جليّ، كما أنّ النور الحقيقيّ على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كلّ ذلك بالاستعارة. والإخراج من الظلمة إلى النور الّذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى الظلمات الّذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد، لا فعل من الله تعالى وغيره كالإخراج مثلاً ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسّرين والباحثين.

وذكر آخرون: أنّ الله يفعل فعلاً كالإخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتّب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنّا نؤمن

٣٦٣

بحسب ما أخبر به الله - وهو يقول الحقّ - بأنّ هذه الاُمور موجودة وأنّها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبراً، ولازم هذا القول أيضاً كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور والظلمة والإخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنّما الفرق بين القولين أنّ مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأوّل نفس أعمالنا وعقائدنا، وعلى القول الثاني اُمور خارجة عن أعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها.

والقولان جميعاً خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرّط، والحقّ في ذلك أنّ هذه الاُمور الّتي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنّما هي اُمور حقيقيّة واقعيّة من غير تجوّز غير أنّها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها الّتي في باطنها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدّم في بحث الكلام أنّ النزاع في مقامين: أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرّد تشبيه لا حقيقة له. وثانيهما: أنّه على تقدير تسليم أنّ لها حقائق وواقعيّات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً في الحقيقة الّتي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أيّ حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلّا لزم أن يكون لكلّ من المؤمن والكافر نور وظلمة معاً، فإنّ لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة وبالعكس في الكافر، فعامّة المؤمنين والكفّار - وهم الّذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفّاراً فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا كما ترى.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الإنسان بحسب خلقته على نورالفطرة، هو نور إجماليّ يقبل التفصيل، وأمّا بالنسبة إلى المعارف الحقّة والأعمال الصالحة تفصيلاً

٣٦٤

فهو في ظلمة بعد لعدم تبيّن أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيليّة، والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أنّ الحقّ واحد لا اختلاف فيه كما أنّ الباطل متشتّت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الأنعام - ١٥٣.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج أبوداود والنسائيّ وابن المنذر وابن أبي حاتم والنّحاس في ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبّان وابن مردويه والبيهقيّ في سننه والضياء في المختارة عن ابن عبّاس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلمّا أجليت بنوا النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

اقول: وروي أيضاً هذا المعنى بطرق اُخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبيّ.

وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالاً من الأوس، فلمّا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الأوس: لنذهبنّ معهم ولنديننّ دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

اقول: وهذا المعنى أيضاً مرويّ بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدّم من نذر النساء اللّاتي ما كان يعيش أولادها أن يهوّدنهم.

وفيه أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصارمن بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له

٣٦٥

ابنان نصرانيّان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلّا النصرانيّة؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : قال: النور آل محمّد و الظلمات أعداؤهم.

اقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.

٣٦٦

( سورة البقرة آية ٢٥٨ - ٢٦٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٢٥٨ ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٥٩ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٦٠ )

( بيان)

الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، المحاجّة إلقاء الحجّة قبال الحجّة لإثبات المدّعي أو لإبطال ما يقابله، وأصل الحجّة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربّه متعلّق بحاجّ، والضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربّي الّذي يحيى ويميت، وهذا الّذي حاج إبراهيمعليه‌السلام في ربّه هو الملك الّذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك

٣٦٧

بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.

وبالتأمّل في سياق الآية، والّذي جرى عليه الأمر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجّة الّتي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الّذي وقعت فيه محاجّتهما.

بيان ذلك: أنّ الإنسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثّرة فيه، وهذا ممّا لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الاُمم الخالية المتأمّل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعاً مؤثّراً فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مرّ أيضاً بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدّد الآلهة كما عليه الوثنيّون أو نفي الصانع كما عليه الدهريّون والمادّيّون، فإنّ الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنساناً وإن قبلت الغفلة والذهول.

لكن الإنسان الأولىّ الساذج لمّا كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أنّ أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الأفعال المختلفة الإجتماعيّة تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وإن كانت جميع الأزمّة تجتمع عند الصانع الّذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كربّ الأرض وربّ البحار وربّ النار وربّ الهواء والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصّة السيّارات الّتي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثمّ كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.

ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الاُمم والأجيال لأنّ الآراء كانت

٣٦٨

مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيّل صور أرباب الانواع المحكيّة بأصنامها، وربّما لحقت بذلك أميال وتهوّسات اُخرى. وربّما انجرّ الأمر تدريجاً إلى التشبّث بالأصنام ونسيان أربابها حتّى ربّ الأرباب لأنّ الحسّ والخيال كان يزيّن ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما وراها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كلّ ذلك إنّما كان منهم لأنّهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيراً في شؤن حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

وربّما كان يستفيد بعض اُولي القوّة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدّعي الاُلوهيّة كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحسّ كان يوجب تقدّمه عند عبّاده على سائر الأرباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات - ٢٤، فقد كان يدّعي أنّه أعلى الأرباب مع كونه ممّن يتّخذ الأرباب كما قال تعالى:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف - ١٢٧، وكذلك كان يدّعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا اُحيي واُميت، في هذه الآية على ما سنبيّن.

وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجّة الواقعة بين إبراهيمعليه‌السلام ونمرود، فإنّ نمرود كان يرى لله سبحانه اُلوهيّة، ولو لا ذلك لم يسلم لإبراهيمعليه‌السلام قوله: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أنّ بعض الآلهة الاُخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى أنّ هناك آلهة اُخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدلّ عليه عامّة قصص إبراهيمعليه‌السلام كقصّة الكوكب والقمر والشمس وما كلّم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذاً إلّا كبيراً لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى اُلوهيّة، وأنّ معه آلهة اُخرى لكنّه

٣٦٩

كان يرى لنفسه اُلوهيّة، وأنّه أعلى الآلهة، ولذلك استدلّ على ربوبيّته عند ما حاجّ إبراهيمعليه‌السلام في ربّه، ولم يذكر من أمر الآلهة الاُخرى شيئاً.

ومن هنا يستنتج أنّ المحاجّة الّتي وقعت بينه وبين إبراهيمعليه‌السلام هي: أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يدّعي أنّ ربّه الله لا غير ونمرود كان يدّعي أنّه ربّ إبراهيم وغيره ولذلك لمّا احتجّ إبراهيمعليه‌السلام على دعواه بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، قال: أنا اُحيي واُميت، فادّعى أنّه متّصف بما وصف به إبراهيم ربّه فهو ربّه الّذي يجب عليه أن يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وأنا اُحيي واُميت لأنّ لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيّته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعيّن بالتفوّق كما عرفت، ولم يقل أيضاً: والآلهة تحيي وتميت.

ولم يعارض إبراهيمعليه‌السلام بالحقّ، بل بالتمويه والمغالطة وتلبيس الأمر على من حضر، فإنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما أراد بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحيّة الشاعرة المريدة فإنّ هذه الحياة المجهولة الكنه لا يستطيع أن يوجدها إلّا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلّل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحيّة، فإنّ حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الّذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنّه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازيّ أو الأعمّ من معناهما الحقيقيّ والمجازيّ فإنّ الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفّي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتّالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا وأطلق ذاك فقال: أنا اُحيي واُميت، ولبّس الأمر على الحاضرين فصدّقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيمعليه‌السلام أن يبيّن له وجه المغالطة، وأنّه لم يرد بالإحياء والإماتة هذا المعنى المجازيّ، وأنّ الحجّة لا تعارض الحجّة، ولو كان في وسعهعليه‌السلام ذلك لبيّنه، ولم يكن ذلك إلّا لأنّه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضّار في

٣٧٠

تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنّه لو بيّن وجه المغالطة لم يصدّقه أحد، فعدل إلى حجّة اُخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشئ فقال إبراهيمعليه‌السلام : إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أنّ الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصّتهعليه‌السلام لكنّها وما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع والغروب ممّا يستند بالأخرة إلى الله الّذي كانوا يرونه ربّ الأرباب، والفاعل الإراديّ إذا اختار فعلاً بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإنّ الأمر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لمّا قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إنّ هذا الأمر المستمرّ الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائماً امر اتّفاقيّ لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه أن يقول: إنّه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلّم خلاف ذلك، ولا كان يسعه أن يقول: إنّي أنا الّذي آتيها من المشرق وإلّا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجراً وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) ، ظاهر السياق: أنّه من قبيل قول القائل: أساء إلىّ فلان لأنّي أحسنت إليه يريد: أنّ إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلىّ لكنّه بدّل الإحسان من الاسائه فأساء إلى، وقولهم: واتّق شرّ من أحسنت إليه، قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار

فالجملة أعني قوله: أن آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضدّه للشكوى والاستعداء ونحوه، فإنّ عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجّة كان ينبغي أن يعلّل بضدّ إنعام الله عليه بالملك، لكن لمّا لم يتحقّق من الله في حقّه إلّا الإحسان إليه وايتاؤه الملك فوضع في موضع العلّة فدلّ على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) القصص - ٨، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

وهناك نكته اُخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك أنّه إنّما

٣٧١

كان يدّعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنّما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربّه، وأمّا هو في نفسه فلم يكن إلّا واحداً من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبّر عنه بقوله: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، دلالة على حقارة شخصه وخسّة أمره.

وأمّا نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مرّ في المباحث السابقة: أنّه لا محذور فيه، فإنّ الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الاُمّة كسائر أنواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الإنسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) القصص - ٧٧، وإن عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقّه نقمة وبواراً، قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم - ٢٨، وقد مرّ بيان أنّ لكلّ شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدّس من جهة الحسن الّذي فيه دون جهة القبح والمسائة.

ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام ، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء - ٥٤، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيهأوّلا: أنّ القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ) المؤمن - ٢٩، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -:( يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الزخرف - ٥١، وقد قال تعالى:( لَهُ الْمُلْكُ ) التغابن - ١، فقصر كلّ الملك لنفسه فما من ملك إلّا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسىعليه‌السلام :( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ) يونس - ٨٨، وقال تعالى في قارون:( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) القصص - ٧٦، وقال تعالى خطاباً لنبيّه:

٣٧٢

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا - إلى أن قال -وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) المدّثّر - ١٥، إلى غير ذلك.

وثانياً: أنّ ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإنّ ظاهرها أنّ نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده وإيمانه لا أنّه كان ينازعه ويحاجّه في ملكه، فإنّ ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لإبراهيم ملكاً حتّى يشاجره فيه.

وثالثاً: أنّ لكلّ شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مرّ تفصيل بيانه.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضاً كالنبات، وقد صدّقه القرآن كما مرّ بيانه في تفسير آية الكرسيّ، لكن مرادهعليه‌السلام منهما إمّا خصوص الحياة والممّات الحيوانيّين أو الأعمّ الشامل له لإطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا اُحيي واُميت، فإنّ هذا الّذي ادّعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً، ولا إحياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً، فإنّ ذلك وأشباهه كان لا يختصّ به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، وهذا يؤيّد ما وردت به الروايات: أنّه أمر بإحضار رجلين ممّن كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا اُحيي واُميت.

وإنّما أخذعليه‌السلام في حجّته الإحياء والإماتة لأنّهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصّة الّتي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإرادة وهما أمران غير مادّيّين قطعاً، وكذا الموت المقابل لها، والحجّة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقّهم، لأنّ انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقّل كان فوق ما كان يظنّهعليه‌السلام في حقّهم، فلم يفهموا من الإحياء والإماتة إلّا المعنى المجازيّ الشامل لمثل الإطلاق والقتل، فقال نمرود: أنا اُحيي واُميت وصدّقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجّة يمكن أن يحدس المتأمّل ما بلغ إليه الانحطاط الفكريّ يؤمئذ في المعارف والمعنويّات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاريّ والتقدّم

٣٧٣

المدنيّ الّذي يدلّ عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإنّ المدنيّة المادّيّة أمر والتقدّم في معنويّات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيّتها وانحطاطها في الأخلاق والمعارف المعنويّة ما تسقط به هذه الشبهة.

ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذهعليه‌السلام في حجّته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات والأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الأنعام - ٧٩، فإنّ القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالاً كانوا أنزل سطحاً من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتّضح مرادهعليه‌السلام ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربّي الّذي يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ، أي فأنا ربّك الّذي وصفته بأنّه يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) ، لمّا أيسعليه‌السلام من مضيّ احتجاجه بأنّ ربّه الّذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء والإماتة إلى حجّة اُخرى، إلّا أنّه بنى هذه الحجّة الثانية على دعوى الخصم في الحجّة الاُولى كما يدلّ عليه التفريع بالفاء في قوله: فإنّ الله الخ، والمعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنّك ربّي ومن شأن الربّ أن يتصرّف في تدبير أمر هذا النظام الكونيّ فالله سبحانه يتصرّف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرّف أنت بإتيانها من المغرب حتّى يتّضح إنّك ربّ كما أنّ الله ربّ كلّ شئ أو أنّك الربّ فوق الأرباب فبهت الّذي كفر، وإنّما فرّع الحجّة على ما تقدّمها لئلّا يظنّ أنّ الحجّة الأولى تمّت لنمرود وأنتجت ما ادّعاه، ولذلك أيضاً قال، فإنّ الله ولم

٣٧٤

يقل: فإنّ ربّي لأنّ الخصم استفاد من قوله: ربّي سوءاً وطبّقه على نفسه بالمغالطة فأتىعليه‌السلام ثانياً بلفظة الجلالة ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق! قد مرّ بيان أنّ نمرود ما كان يسعه أن يتفوّه في مقابل هذه الحجّة بشئ دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، ظاهر السياق أنّه تعليل لقوله فبهت الّذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إيّاه لا كفره، وبعبارة اُخرى معناه أنّ الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجّة لا أنّه لم يهده فكفر لذلك وذلك لأنّ العناية في المقام متوجّهة إلى محاجّته إبراهيمعليه‌السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر: أنّ في الوصف إشعاراً بالعلّيّة أعني: أنّ السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصفّ - ٧، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة - ٥، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى:( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصفّ - ٥.

وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عمّا ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤدّ إلى الخيبة والخسران بالأخرة، وهذه من الحقائق الناصعة الّتي ذكرها القرآن الشريف وأكّد القول فيها في آيات كثيرة.

٣٧٥

( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)

هذه حقيقة ثابتة بيّنها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً، وهي كلّيّة لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، دلّ على أنّ كلّ شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك إلّا بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتّصال والانفصال والقرب والبعد والأخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ الاُمور التكوينيّة لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعيّة لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسّها الحطب مثلاً وهي حارّة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلاً وهو نام لا يقصد إلّا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، فلا تخلّف ولا اختلاف في الوجود.

ولازم هاتين المقدّمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطّأ في التكوين أن يكون لكلّ شئ روابط حقيقيّة مع غيره، وأن يكون بين كلّ شئ وبين الآثار والغايات الّتي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجوديّة إنّما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصّة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة إنّما تنبت الشجرة الّتي في قوّتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدّي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصّة، وكذلك الشجرة إنّما تثمر الثمرة الّتي من شأنها إثمارها، فما كلّ سبب يؤدّي إلى كلّ مسبّب، قال تعالى:( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) الأعراف - ٥٨، والعقل والحسّ يشهدان بذلك وإلّا اختلّ قانون العلّيّة العامّ.

وإذا كان كذلك فالصنع والإيجاد يهدي كلّ شئ إلى غاية خاصّة، ولايهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كلّ غاية من طريق خاصّ لا يهدي إليها من غيره، صنع الله الّتي

٣٧٦

أتقن كلّ شئ، فكلّ سلسلة من هذه السلاسل الوجوديّة الموصلة إلى غاية وأثر إذا فرضنا تبدّل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدّل أثرها لا محالة، هذا في الاُمور التكوينيّة.

والاُمور غير التكوينيّة من الاعتبارات الإجتماعيّة وغيرها على هذا الوصف أيضاً من حيث إنّها نتائج الفطرة المتّكئة على التكوين، فالشؤن الإجتماعيّة والمقامات الّتي فيه والأفعال الّتي تصدر عنها كلّ منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولّد منه إلّا تلك الآثار والغايات ولاتتولّد هي إلّا منه فالتربية الصالحة لاتتحقّق إلّا من مربّ صالح والمربّي الفاسد لا يترتّب على تربيته، إلّا الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطويّ في نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلّب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكلّ من تقلّد منصباً اجتماعيّاً من غير طريقه المشروع، وكذلك كلّ فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبّه بالحقّ وحلّ بذلك محلّ الفعل الحقّ، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحقّ كالخيانة موضع الأمانة والإسائة موضع الإحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكلّ ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها أيّاماً، وتلبّس بلباس الصدق والحقّ أحياناً، سنّة الله الّتي جرت في خلقه ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

فالحقّ لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على إدراك المدركين اُويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربّما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، من تحقيق الحقّ تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبّس به من لباس الحقّ بالتشبّه والتمويه، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

٣٧٧

الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقد أطلق الظالمين فالله يضلّهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلّا أنّهم يريدون آثار الحقّ من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف - الصدّيق:( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف - ٢٣، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أنّ ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتّقي بتقواه، قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩، وقال تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢.

والآيات القرآنيّة في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرّقة، ومن أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّ العقل يؤيّده، فإنّ ذلك لازم كلّيّة قانون العلّيّة والمعلوليّة الجارية بين أجزاء العالم، وأنّ التجربة القطعيّة الحاصلة من تكرّر الحسّ تشهد به، فما منّا من أحد إلّا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.

قوله تعالى: ( وْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خوائاً إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائماً على أعمدة، قال تعالى:( جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) الأنعام - ١٤٢، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكنّ بينهما فرقاً، فإنّ السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الأركان الّتي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صحّ أن يقال في الديار أنّها خالية على عروشها ولا يصحّ أن يقال: خالية على سقفها.

وقد ذكر المفسّرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالّذي، فقيل:

٣٧٨

إنّه عطف على قوله في الآية السابقة: الّذي حاجّ إبراهيم، والكاف اسميّة، والمعنى أو هل رأيت مثل الّذي مرّ على قرية الخ، وقد جيئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدّد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم أو الّذي مرّ على قرية الخ، وقيل: إنّه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، وقيل: إنّه من كلام إبراهيم جواباً عن دعوى الخصم أنّه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الّذي مرّ على قرية الخ فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكنّ الجميع كما ترى.

وأظنّ - والله أعلم - أنّ العطف على المعنى كما مرّ في الوجه الثالث إلّا أنّ التقدير غير التقدير، توضيحه: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر قوله: الله وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والّذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصّل من ذلك: أنّه يهدي المؤمنين إلى الحقّ ولا يهدي الكافر في كفره بل يضلّه أولياؤه الّذين اتّخذهم من دون الله أولياء، ثمّ ذكر لذلك شواهد ثلاث يبيّن بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتّبة:

أوليها: الهداية إلى الحقّ بالبرهان والاستدلال كما في قصّة الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، حيث هدى إبراهيم إلى حقّ القول، ولم يهد الّذي حاجّه بل أبهته وأضلّه كفره، وإنّما لم يصرّح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدلّ على فائدة جديدة يدلّ عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين.

والثانية: الهداية إلى الحقّ بالإرائة والإشهاد كما في قصّة الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فإنّه بيّن له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كلّ ذلك بالإرائة والإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحقّ وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلّة الّتي تترشّح منه الحادثة، وبعبارة اُخرى بإرائة السبب والمسبّب معاً، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما أنّ من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في أمره تزاح شبهته تارةً بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه، وتارةً بإرائته قطعة من الجبن

٣٧٩

وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحه وخلط مقدار منها به حتّى يجمد ثمّ إذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصحّ فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: ألم تر إلى قصّة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصّة الّذي مرّ على قرية، أو لم تر إلى قصّة إبراهيم والطير، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: إمّا كما هدى إبراهيم في قصّة المحاجّة وهي نوع من الهداية، أو كالّذي مرّ على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصّة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ واُذكّرك ما يشهد بذلك فاذكر قصّة المحاجّة، واذكر الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني.

فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أنّ الله سبحانه أخذ بالتفنّن في البيان وخصّ كلّ واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلث تنشيطاً لذهن المخاطب واستيفائاً لجميع الفوائد السياقيّة الممكنة الاستيفاء.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: أو كالّذي، معطوف على مقدّر يدلّ عليه الآية السابقة، والتقدير: إمّا كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، ويظهر أيضاً أنّ قوله في الآية التالية: واذ قال إبراهيم، معطوف على مقدّر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصّة المحاجّة وقصّة الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ.

وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الّذي مرّ على قرية واسم القرية والقوم الّذين كانوا يسكنونها، والقوم الّذين بعث هذا المارّ آية لهم كما يدلّ عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أنّ الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكنّ الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لمّا

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

والطهارة المذكورة أعمّ من طهارة النفس والجسد، وتنظيف الباطن والظاهر.

وينبّه القرآن الكريم إلى دور الماء في النظافة والطهارة فيقول:( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) ( الفرقان: ٤٨ ).

ومن أجل هذا فرض الإسلام الوضوء فدعى إلى التوضّؤ قبل كلّ صلاة، أي في اليوم خمس مرّات ( مضافاً إلى كونه بنفسه عبادة ) إذ قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة: ٦ ).

ودعا إلى الاغتسال والاستحمام عند الجنابة فقال:( وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ) ( المائدة: ٦ ).

أو التيمّم بالتراب الطاهر بدلاً عن الغسل أو الوضوء إذا تعذّر الماء، أو تعسّر استعماله فقال:( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ) ( المائدة: ٦ ).

وذلك لأنّ التراب الطاهر يصون الجسم من الميكروبات، مضافاً إلى أنّ التيمّم بالتراب يتضمّن الخضوع لله سبحانه وهو بنفسه عبادة.

وقد فرض الإسلام هذه الأنواع من الطهارات لأنّها طريق إلى نظافة الجسم وهي بدورها طريق إلى الحفاظ على سلامته ولذلك قال القرآن معقّباً على الأمر بالوضوء أو الاغتسال أو التيمّم:( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة: ٦ ).

وهي إشارة واضحة إلى الهدف من هذه الطهارات.

ومن هذا الباب نهى الإسلام عن مقاربة النساء ( الأزواج ) وهنّ في حالة ( المحيض ) وقاية عن الأمراض الجسمية والمعنويّة الناجمة عن ذلك فيقول:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ

٥٠١

المُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة: ٢٢٢ ).

وهو أمر أكّده الطبّ الحديث، وكشف عن أضراره بالنسبة إلى الزوج والزوجة معاً، فإنّ الدم الفاسد الذي تفرزه المرأة أثناء العادة الشهريّة يحتوي على ميكروبات عديدة وجراثيم متنوّعة لا تلبث أن تصيب الرجل فتحدث له الالتهابات، كمّا أنّه في زمن المحيض تحتقن أغشية المرأة الداخليّة، وفي المقاربة الجنسيّة قد يحدث لها التمزّق فتنتشر العدوى من الميكروبات، وتؤثّر في صحّة المرأة، وتضّر بها، وقد تسبّب لها السرطان، بسبب التمزّق كما يقول العلم الحديث.

كما نهى الإسلام عن ( الزنا ) وقاية من كثير من الأمراض الجنسيّة إذ يقول سبحانه:( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) ( الإسراء: ٣٢ ).

فالزنا ـ مضافاً إلى أنّها توجّه ضربة كبيرة إلى العلاقات الاجتماعيّة السليمة، والقيم الأخلاقيّة الرفيعة، تسبّب أمراضاً جنسيّة خطيرة كالزهريّ والقرحة والسيلان للرجل والمرأة كليهما.

هذه هي أهمّ التعاليم الصحيّة التي يشير إليها القرآن الكريم، وهي توافق في نتائجها، وفلسفتها، وعللها، أحدث ما توصّل إليه العلم الحديث.

الصحّة في السنّة المطهّرة

لقد حفلت السنّة المطهّرة المرويّة عن النبيّ والأئمّة من أهل البيت بطائفة كبيرة جداً من التعاليم الصحيّة سواء في مجال الوقاية، أو النظافة، أو العلاج وسواء في مجال الصحّة الفرديّة أو العامّة، وقد دوّنت هذه التعاليم وجمعت هذه الأحاديث القيّمة في الكتب والمؤلّفات التي ألّفها علماء الإسلام حول الطبّ، وقوانين الصحّة فجاؤوا في هذا المضمار بما يكشف عن أنّ الإسلام سبق العلم الحديث في وضع برنامج كامل للصحّة لا يعرف له مثيل وإليك فيما يأتي أسماء بعض تلك المؤلّفات الخاصّة بطبّ النبيّ وأهل بيته الطاهرين :

٥٠٢

١. طبّ النبيّ: للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهانيّ، المتوفّى عام ( ٤٣٠ ه‍ ).

٢. طبّ النبيّ: للشيخ الإمام أبي العبّاس المستغفريّ، ينقل عنه المحقّق الطوسي في آداب المتعلّمين.

٣. طبّ النبيّ: لأبي الوزير أحمد الأبهريّ، وينقل عنه العلاّمة المجلسيّ في كتاب العترة من بحار الأنوار.

٤. طبّ أهل البيت: للسيّد أبي محمّد زيد بن عليّ بن الحسين. تلميذ شيخ الطائفة الطوسيّ.

٥. طبّ الإمام الصادق: جمعه الطبيب الماهر محمّد بن صادق الرازيّ طبع عام ( ١٣٧٤ ه‍ ).

٦. طبّ الرضا: الموسوم بالرسالة الذهبيّة، أورد تمامه العلاّمة المجلسيّ في مجلّد السماء والعالم من موسوعته بحار الأنوار.

وأنت إذا راجعت الكتب الحديثيّة للفريقين وبالأخصّ ما ألّفه علماء الشيعة ومؤلّفوهم، وجدت اهتماماً خاصّاً من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين بسلامة الأبدان وعافيتها.

كما أنّك إذا راجعت الكتب الحديثيّة والفقهيّة الإسلاميّة وجدت فيها أبواباً خاصّة ترتبط بهذا الجانب الحيويّ من الحياة الفرديّة والاجتماعيّة مثل كتاب الأطعمة والأشربة، وكتاب الزيّ والتجمّل وهما بابان واسعان عقدهما صاحب وسائل الشيعة، والكافي في كتابيهما، ومثل كتاب مكارم الأخلاق للطبرسيّ(١) المخصّص لهذا الجانب

__________________

(١) وهو الشيخ أبو نصر رضي الدين الحسن الطبرسيّ وهو نجل العلاّمة الطبرسيّ صاحب تفسير مجمع البيان وقد طبع مرّة بالحروف في مطبعة بولاق سنة ( ١٣٠٠ ه‍ ) ومرّة بالحروف في مطبعة الخيريّة سنة ( ١٣٠٣ ه‍ ) وبهامشه طهارة الأعراق لابن مسكويه ثمّ طبع عدّة مرّات والمؤلّف من أعلام المائة السادسة.

٥٠٣

وغير ذلك من الأبواب، والكتب وإليك بعض الأحاديث المرويّة عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المكرمين: في مجال الطبّ، والوقايّة الصحيّة، وقضايا السلامة الجسديّة، ونقتصر في ذلك على المهمّات :

قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المعدة بيت الدّاء والحميّة هي الدّواء، وعوّد البدن ما اعتاد ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة تفزع إليهم في أمر دنياهم وآخرتهم، فإن عدموا كانوا همجاً: فقيه عالم ورع وأمير خيّر مطاع وطبيب بصير ثقة ».

وروي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « إنّ في صحّة البدن فرح الملائكة ومرضاة الرّبّ وتثبيت السّنّة ».

وأنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا خير في الحياة إلّا مع الصّحّة ».

وفي مجال العلاج والمداواة قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « تجنّب الدّواء ما احتمل بدنك الدّاء، فإذا لم يحتمل الدّاء، فالدّواء ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إمش بدائك ما مشى بك ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « من ظهرت صحّته على سقمه فعالج نفسه بشيء فمات، أنا إلى الله بريء منه ».

وفي رواية اُخرى: « فشرب الدّواء فقد أعان على نفسه ».

وكلّ الأحاديث تشير إلى أنّ على الإنسان أن لا يستعمل الدواء إلّا للضرورة لأنّ الدواء لا يسكن داء إلّا ويثير آخر وفي هذا الصدد قال الإمام عليّعليه‌السلام : « ليس من دواء إلّا وهو يهيّجُ داءً ».

ولكنّ المعالجة والمداواة مطلوبة على كلّ حال، ولهذا يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : « تداوُوا فما أنزل الله داءً إلّا وأنزل معه الدّواء إلّا السّام ( أي الموت ) ».

٥٠٤

ثمّ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة: يشيرون إلى أنّ أهمّ عامل من عوامل المرض هو الأكل غير المعتدل، والمطعم غير المستقيم قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما ملا ابنُ آدم وعاءً شرّاً من بطنه، وبحسب ابن آدم لُقيمات يُقمن صُلبهُ، فإن كان لا بُدّ فثُلث لطعامه، وثُلث لشرابه، وثُلث لنفسه ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام لكميل: « صحّةُ الجسم من قلّة الطّعام وقلّة الماء.

يا كُميلُ لا تُوقرن معدتك طعاماً ودع فيها للماء موضعاً ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لو اقتصد النّاسُ في المطعم لاستقامت أبدانُهُم ».

ثمّ إنّ الوصايا والتعاليم الصحيّة التي بيّنها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته تنقسم إلى نوعين :

النوع الأوّل: ما يرتبط بالصحّة الفرديّة.

النوع الثاني: ما يرتبط بالصحّة العامّة.

ونحن وإن قسّمنا هذه التعاليم إلى فرديّة واجتماعيّة، لكن الحقيقة أنّهما متداخلتان، إذ أنّ استقامة الصحّة الفرديّة تضمن استقامة الصحّة العامّة، وهكذا بالعكس، فالتقسيم الموجود ليس تقسيماً حقيقيّاً.

التعاليم الصحيّة الفرديّة

لقد اعتنى الإسلام على لسان النبيّ وأهل بيته المطهّرين بالصحّة الفرديّة عناية بالغة تفوق الوصف فسنّوا اُمواراً وأعمالا من شأنها ـ إذا روعيت ـ أن تقي الإنسان كثيراً من الأمراض والأسقام، وتهيّء جوّاً سليم ورائعاً من الصحّة، والعافية، ففي مجال المطعم والمشرب نهى النبيّ عن أكل الطعام الحار فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « برّد الطعام فإنّ الحارّ لا بركة فيه ».

ونهى عن النفخ في الطعام فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « النّفخُ في الطعام يُذهبُ بالبركة ».

٥٠٥

ونهى الإمام الصادقعليه‌السلام عن ترك العشاء فقال: « أصلُ خراب البدن تركُ العشاء ».

ودعا إلى غسل اليدين قبل الطعام فقال: « من غسل يده قبل الطعام وبعده عاش في سعة وعوفي من بلوى في جسده ».

ونهى عن كثرة الأكل فقال: « كثرة الأكل مكروه ».

وقال: « الأكل على الشّبع يورث البرص ».

ودعا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الافتتاح بالملح والاختتام به عند الطعام فقال: « يا عليّ افتتح بالملح واختتم به فإنّه شفاء من سبعين داءً منها الجنون والجذام والبرص ووجع الحلق ووجع الأمراض ووجع البطن ».

وقال: « افتتحوا بالملح واختتموا به وإلاّ فلا تلوموا إلّا أنفسكم ».

وحول آداب الشرب وكيفيّته السليمة: يقول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يشربنّ أحدكم الماء من عروة الإناء فإنّه مجتمع الوسخ ».

وقال: « لا يشرب من عند عروته ( أي عروة الكوز أو الأناء ) ولا من كسر إن كان فيه ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لا تشربوا الماء من ثلمة الأناء ولا من عروته فإنّ الشيطان يقعد على العروة والثلمة ».

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مصّوا الماء مصّاً ولا تعبّوه عبّاً فإنّه يوجد منه الكباد » ( مرض يصيب الكبد ).

وقال الإمام الرضاعليه‌السلام : « من أراد أن لا تؤذيه معدته فلا يشرب بين طعامه ماءً حتّى يفرغ، ومن فعل ذلك رطب بدنه وضعفت معدته ولم تأخذ العروق قوّة الطّعام فإنّه يصير في المعدة فحا إذا صبّ الماء على الطعام أوّلاً فأوّلا ».

وفي مجال مضغ الطعام قال الإمام عليّعليه‌السلام في وصيّته لابنه الحسنعليه‌السلام : « وجوّد المضغ ».

٥٠٦

وفي مجال العناية بالملبس: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من اتّخذ ثوباً فليطهّره » وفي رواية « فلينظّفه » وقال الصادقعليه‌السلام : « النّظيف من الثّياب يذهب الهمّ والحزن ».

وقال في جواب من سأله هل يجوز أن يكون للمؤمن عشرة ثياب: « نعم وثلاثون فليس هذا من السّرف ».

وقال: « لبس الخفّ يزيد في قوّة البصر ».

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : « لبس الخفّ أمان من السّل ».

وفي مجال العناية بالحذاء: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إدمان لبس الخفّ ( أي الحذاء ) أمان من الجذام، شتاءً وصيفاً ».

وقال: « من اتّخذ نعلاً فليستجدها ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إستجادة الحذاء وقاية للبدن ».

وحول نظافة المسكن وسعته: قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « من سعادة المرء حسن مجلسه وسعة فنائه، ونظافة متوضّئه ».

وقالعليه‌السلام : « من الشّقاء المسكن الضيّق ».

وقالعليه‌السلام : « من سعادة المرء المسلم سعة المنزل ».

وقالعليه‌السلام : « غسل الإناء، وكسح الفناء ( أي كنس البيت ) مجلبة للرّزق ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اكنسوا أفنيتكم ولا تشبّهوا باليهود ».

وقال الإمام عليعليه‌السلام : « لا تأووا التّراب ( أي القاذورات ) خلف الباب فإنّه مأوى للشّياطين »(١) .

وقالعليه‌السلام : « نظّفوا بيوتكم من حول العنكبوت فإنّ تركه في البيت يورث

__________________

(١) لقد وردت كلمة ( الشيطان ) في كثير من الروايات الصحيّة، وحيث إنّ الشيطان كائن يترقّب منه الشرّ ويضرّ بالإنسان فاستعير لفظه في هذه الأحاديث للجراثيم والميكروبات التي تضرّ بالحياة البشريّة ولا يستبعد ذلك بل يلمسه كلّ من له إلمام بالأحاديث الإسلاميّة.

كما أنّ إطلاق الجن عليها من باب أنّ الجن في اللغة هو الموجود الذي لا يرى بالعين.

٥٠٧

الفقر ».

وقال: « لا تبيّتوا القمامة في بيوتكم فأخرجوها نهاراً فإنّها مقعد الشّيطان ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام حول المناديل الوسخة ووجودها في البيت: « لا تأووا منديل اللحم في البيت، فإنّه مربض الشّيطان ».

وحول تنظيف شعر الرأس وتمشيطه وتسريحه أو استئصاله قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كثرة تسريح الرأس تجلب الرّزق و ».

وقال: « مشط الرأس يذهب بالوباء ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « استأصل شعرك يقلّ درنه، ودوابه ووسخه، ويجلو بصرك ويستريح بدنك ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من اتّخذ شعراً فليحسن ولايته أو ليجزّه ».

وحول تقليم الأظفار قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « تقليم الأظفار يمنع الدّاء الأعظم ويدرّ الرّزق ».

وقال: « من أدمن أخذ أظفاره كلّ خميس لم ترمد عينه ».

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : « إنّ أستر وأخفى ما يسلّط الشّيطان على ابن آدم أن صار يسكن تحت الأظافير ».

وقال: « تقليم الأظفار يوم الجمعة يؤمّن من الجذام والبرص والعمى ».

وقال: « إنّما قصّ الأظفار لأنّها مقيل الشّيطان ومنه يكون النسيان ».

وحول شعر الأبط والشارب الذي يكون موضعاً مناسباً وصالحاً لنموّ الجراثيم قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يطوّلنّ أحدكم شعر أبطه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبئاً يستتر به ».

وقال: « لا يطوّلنّ أحدكم شاربه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبئاً يستتر به ».

وفي مجال العناية بالعين دعا الإسلام إلى التكّحل وغير ذلك فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الكحل ينبت الشّعر، ويحفظ الدمعة ويعذب الريق ويجلو البصر ».

وفي مجال العناية بالاسنان دعا إلى تنظيفها باستمرار وذلك بالسواك والمضمضة

٥٠٨

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لولا أن أشققّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك ( أي لأوجبته عليهم وجوباً ) ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « في السّواك عشرُ خصال ( أي فوائد ): مطهرة للفم، ومرضاة للرّب، ومُفرحة للملائكة وهو من السّنة، ويشُدّ اللّثّة ويجلُو البصر، ويذهبُ بالبلغم، ويذهبُ بالحُفر ».

وحول الاستحمام وغسل الرأس قال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : « الحمّامُ يوم ويوم لا، يُكثرُ اللّحم ».

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « غسلُ الرّأس بالخطميّ في كُلّ جُمعة أمان من البرص والجُنُون والصُداع وطهُور للرّأس من الخزار ( أي القرع ) ».

وحول الختان قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « طهّرُوا أولادكُم اليوم السابع فإنّهُ أطيبُ وأطهرُ وأسرعُ لنبات اللحم ».

وحول عدة اُمور اُخرى من هذا الباب قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« خمس من السُنن في الرّأس وخمس في الجسد.

فأمّا التي في الرّأس فالسّواكُ وأخذُ الشّارب وفرقُ الشعر والمضمضةُ والاستنشاق.

وأمّا التي في الجسد فالختانُ وحلقُ العانة ونتفُ الأبطين وتقليمُ الأظفاروالاستنجاءُ »(١) .

هذا هو بعض ما أمكن إيراده من التعاليم والتوصيات في مجال الصحّة الفرديّة، والسلامة الشخصيّة، وهي غيض من فيض، وقليل من كثير، وإنّما ألمحنا إلى ذلك للإلفات إلى جانب من البرنامج الصحّي في النظام الإسلاميّ وأعرضنا عن الإلمام الكامل بتلك التعاليم رعاية للاختصار.

__________________

(١) وسنوقّفك على مصادر تلك الأحاديث قريباً.

٥٠٩

التعاليم الصحيّة العامّة

للإسلام تعاليم وبرامج صحيّة عامّة توجب مراعاتها حفظ الصحّة العامّة، وعدم انتقال الأمراض، وسرايتها وهي تعتبر من أفضل وأعظم البرامج الوقائيّة التي عرفها العالم اليوم.

فقد دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى دفن كلّ ما من شأنه أن يلوّث الهواء والجوّ كالأشياء التي تنفصل من الإنسان من الفضلات والزوائد، فعن عائشة قالت :

( انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشعر والظفر والدم والحيض والمشيمة والسنّ والعلقة ).

ونهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الفرار من الطاعون إذا جاء في بلد، وحكمة ذلك أن لا يسري المرض إلى بلد آخر، فتنتشر العدوى وتتعرّض السلامة العامّة للخطر.

فقال: « إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا نزل وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها »(١) .

وقال للوقاية من العدوى أيضا: « لا يورد ممرض على مصحّ ».

وقال: « فرّ من المجذوم فرارك من الأسد ».

ومن هذا الباب نهى الإسلام عن الاشتراك في المنديل فقد روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « كانت لأمير المؤمنينعليه‌السلام خرقة يمسح بها إذا توضّأ للصّلاة ثمّ يعلّقها على وتد ولا يمسحه غيره ».

ومن هذا الباب أيضا أوجب الإسلام إزالة النجاسة عن المساجد، كما أوجب دفن الأموات، ونزح البئر إذا سقط فيها شيء نجس أو مات فيه حيوان، كما نهى عن تعاطي النجاسات وبيعها وشرائها ومنها الخمر، قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ».

__________________

(١) رواه أصحاب السنن، وتاريخ الطبريّ ٤: ٥٧، طبع دار المعارف شرح حوادث سنة ( ٢٧ ه‍ ).

٥١٠

هذا ولعلّ من أبرز ما يدلّ على عناية الإسلام بالصحّة العامّة هو حثّه البالغ على الزواج لأنّ الزواج لو تحقّق بصورة سليمة تكفّل شطراً كبيراً من سلامة الفرد والجماعة. إذ الزواج علاج طبيعيّ مفيد لكثير من المفاسد الخلقيّة والصحيّة التي تصيب المجتمع كما أنّه علاج ناجع لكثير من الادواء التي قد تصيب الأفراد نتيجة الحيادة العزوبيّة وما تتركه هذه الحالة من الآثار السيّئة على الصحّة.

الزواج والصحّة

لقد أصبحت قضيّة الزواج وبعدها الصحيّ الآن علماً مستقلاً من علوم الصحّة ألّفت حوله الكثير من الدراسات، فيما كانت هذه المسألة موضع اهتمام الدين الإسلاميّ منذ أربعة عشر قرناً حيث أتى فيها باُمور سبق بها جميع الكشوف والتوصيات التي توصّل إليها العلم الحديث مؤخّراً.

فهو مثلاً حرّم الزواج بطائفة من النساء من المحارم إذ قال سبحانه :

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( النساء: ٢٣ ).

وهذا يعني أنّ الإسلام حرّم التزوّج بسبع طوائف من النساء المنتمين إلى الشخص بالنسب وهنّ التي ذكرتهنّ الآية السابقة(١) .

وقد توصّل العلم الحديث أخيراً إلى علل هذا التحريم، كما أنّ الشريعة الإسلاميّة انفردت من بين الشرائع القائمة بجعل الرضاع سبباً من أسباب التحريم، وذلك لأنّ المرضعة التي ترضع الولد إنّما تغذيه بجزء من جسمها فتدخل أجزاؤها في

__________________

(١) نعم لا تختصّ الحرمة بمن ذكرن في الآية.

٥١١

تكوينه، ويصبح جزءاً منها. فإنّ لبنها خلاصة من دمها منه ينبت لحم الطفل ويقوى عظمه، وإذا كان الطفل جزءاً منها فهي كالأُمّ النسبيّة محرّمة إلى الأبد(١) .

كما أنّ الإسلام نهى عن التزوّج بالحمقاء لما في مثل هذا الزواج من نتاج غير مطلوب قال الإمام عليعليه‌السلام : « إيّاكُم وتزويج الحمقاء فإنّ صُحبتها بلاء وولدها ضياع ».

كما نهى عن التزوّج بشارب الخمر لنفس السبب، قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « من زوَّج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها ».

ونهى عن مقاربة الزوج في فترة العادة الشهريّة لما أسلفنا، نهياً تحريميّاً مغلظاً.

ونهى عن مقاربتها في بعض الحالات النفسيّة أو الجسديّة أو الكونيّة الخاصّة نهياً تنزيهيّاً، لما تجرّه المقاربة في تلك الظروف والحالات والأوقات والأوضاع من آثار سيّئة على صحّة الزوج والزوجة، وصحّة الولد الناشئ منهما.

وقد وردت تفصيلات هذه الأوقات في وصيّة مطوّلة للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإمام عليّ تجدها في كتاب مكارم الأخلاق وغيره من الكتب الحديثيّة في هذا المجال.

وقد توصّل العلم الحديث الآن إلى الكثير من علل هذه التوصيات التي سبق الإسلام إلى ذكرها.

هذا ونظراً لأهمّية الزواج من الناحية الصحّية سواء في المجال الفرديّ أو في المجال الاجتماعيّ حثّ النبيّ وأهل بيته المعصومون: على التزوّج، وترك الحياة العزوبيّة وها نحن نورد هنا طائفة من الأحاديث تتميماً للفائدة :

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « تزوّجوا، وزوّجوا الأيم فمن حظّ امرء مسلم انفاق قيمة أيّمة، وما من شيء أحبّ إلى الله من بيت يعمر في الإسلام بالنّكاح ».

وقال: « تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة ».

__________________

(١) لاحظ أحكام الرضا (ع) في الكتب الفقهيّة.

٥١٢

وقال: « من أحبّ أن يكون على فطرتي فليستنّ بسنّتي فإنّ من سنّتي النكاح ».

وقال: « ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً لعلّ الله يرزقه نسمةً تثقل الأرض بلا إله إلّا الله ».

وقال: « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوّج فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج ».

وقال: « من تزوّج فقد أعطي نصف السّعادة ».

وقال: « إنّ من سنّتي وسنّة الأنبياء من قبلي النّكاح والختان والسّواك والعطر ».

وقال: « ما بني في الإسلام بناء أحبّ إلى الله من التزويج ».

وقال: « من تزوّج أحرز نصف دينه فليتّق الله في النّصف الآخر ».

وقال: « النّكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي ».

وقال: « أكثر أهل النّار العزّاب ».

وقال: « أراذل موتاكم العزّاب ».

وقال: « من أحبّ أن يلقى الله طاهراً مطهّراً فليستعفف بزوجة ».

وقال: « شرار أمّتي عزّابها ».

وقال: « شراركم عزّابكم والعزّاب إخوان الشّياطين ».

وقال: « لو خرج العزّاب من موتاكم إلى الدّنيا لتزوّجوا ».

وقال: « ما للشّيطان سلاح أبلغ في الصّالحين من النّساء إلّا المتزوّجون اُولئك المطهّرون المبرّؤون ».

وقال عكاف أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي: « يا عكاف: ألك زوجة » قلت: لا، قال: « وأنت صحيح موسر » قلت: نعم والحمد لله، قال: « فإنّك إذن من إخوان الشّيطان، إمّا أن تكون من رهبان النّصارى، وإمّا أن تصنع كما يصنع المسلمون وإنّ من سنّتنا النّكاح، شراركم عزّابكم وأراذل موتاكم عزّابكم ـ إلى أن قال ـ ويحك يا عكاف تزوّج

٥١٣

تزوّج وإلاّ فإنّك من الخاطئين ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « لم يكن أحد من أصحاب رسول الله يتزوّج إلّا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : كمل دينه ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « ركعتان يصلّيهما المتزوّج أفضل من سبعين ركعةً يصلّيها العزب ».

ولم يكتف الإسلام بإعطاء هذا القدر من التوصيات المفيدة في مجال الزواج بل حرص على جودة النسل ؛ فنهى الزوجة الحامل عن أكل أشياء أو فعل اُمور حفاظاً على صحّتها وصحّة جنينها، كما حثّها على تناول مأكولات خاصّة(١) ، تقوية لها ولجنينها وهي اُمور كشف الطبّ الحديث عن صحّتهاوعمقها وجدواها.

كما نهى عن إرضاع الطفل بلبن الحمقاء، قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللّبن يعدي »(٢) .

هذه بعض ما أتى به الإسلام في مجال الزواج، هذه المسألة الاجتماعيّة المهمّة التي يكون لها دور فعّال في حفظ الصحّة الفرديّة والعامّة مضافاً إلى حفظ العلاقات الاجتماعيّة السليمة، وتقوية القيم والمثل الأخلاقيّة الإنسانيّة.

إهتمام المسلمين بعلم الطبّ

هذا وقد اقتفى المسلمون أثر النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين في العناية بالصحّة والطبّ فكتبوا الكتب الطبيّة، وأقاموا المستشفيات بل وكان المسلمون أوّل من أقامها وأقاموا المصحّات، وشيّدوا المختبرات، وتخرّج منهم الأطبّاء الحاذقون الذين شاع

__________________

(١) مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « اسقُوا نسائكُم الحوامل اللّبن فإنّها تُزيدُ في عقل الصّبيّ ».

(٢) جميع الأحاديث والتعاليم الصحيّة المذكورة في هذا الفصل اقتبست من :

الكافي ٦: كتاب الأطعمة والأشربة والزي والتجمّل، وكتاب مكارم الأخلاق، ونهج البلاغة، وخصال الصدوق، ووسائل الشيعة ٨: كتاب العشرة، فراجع الفصول والأبواب المختلفة من تلك الكتب.

٥١٤

صيتهم في الآفاق ولا زالت الكثير من مؤلّفاتهم وتحليلاتهم وكشوفاتهم موضع اهتمام الغربيّين.

وبالتالي نبغ فيهم رجال مثل جابر بن حيّان، والكندي وابن مسكويه وابن سينا، والرازيّ وغيرهم ممّن تركوا مؤلّفات كثيرة في مجال الطبّ، وخرجوا إلى العالم بنظريّات وابتكارات في هذا المجال.

وبإمكان القارئ الكريم أن يتعرّف على هذه الاُمور من المصادر التالية :

١. الطبّ العربي، مقدمة تدرس مساهمة العرب ( والمراد بهم المسلمون ) في الطبّ، والعلوم المتّصلة به، تأليف الدكتور أسعد خير الله.

٢. الطبّ عند العرب للدكتور أحمد شوكت شطّي طبعة القاهرة مؤسّسة المطبوعات الحديثة.

٣. تاريخ الصيدلة والعقاقير في العهد القديم والعهد الوسيط تأليف جورج شحاته قنواتي، القاهرة دار المعارف عام (١٩٥٩).

٤. ميراث الإسلام تأليف ١٣ مستشرقاً واُستاذ جامعة.

٥. شمس الشرق تطلع على الغرب.

٦. فلاسفة الشيعة للعلاّمة الشيخ عبد الله نعمة.

٧. وراجع كشف الظنون ٢: ٨٦ إلى ٨٨، والذريعة ١٥: ١٣٥ ـ ١٤٤.

العناية بالصحّة وظيفة الحكومة الإسلاميّة

لا شكّ أنّ الحفاظ على الصحّة الفرديّة والصحّة العامّة وتهيئة الأجواء المناسبة لذلك لا يمكن أن يتوفّر إلّا بأمرين :

أ ـ التوجيه والتثقيف الصحّي المستمر.

ب ـ تهيئة الأجواء الصحّية في الوسط الاجتماعيّ من قبيل إقامة المستشفيات

٥١٥

والمصحّات، وإجراء التلقيح الصحّي للوقاية إذا داهم البلد مرض معد، وإقامة المختبرات والمؤسّسات للتحقيق في شؤون الطبّ، وتعاهد أمر التنظيف البلديّ.

ومن المعلوم أنّ كلّ هذه الوظائف الثقيلة لا يمكن القيام بها إلّا بواسطة الأجهزة المزوّدة بالتخطيط والقانون والمال ولهذا فإنّ مسؤوليّة العناية بالصحّة الفرديّة والصحّة العامّة تقع في الدرجة الاُولى على عاتق الحكومة الإسلاميّة استلهاماً من الأحاديث الحاثّة على الصحّة في المجالين، بل ويمكن القول بأنّ هذه المسألة من أهمّ الواجبات التي تقع على كاهل الحكومة إذ الحصول على أمّة قوّية متحرّكة متقدّمة منتجة مدافعة عن نفسها لا يتيسّر إلّا بوجود أمّة سالمة تتمتّع بالصحّة والعافية الكاملة.

إنّ على الحكومة الإسلاميّة أن تهتمّ ـ بواسطة أجهزتها المختصّة ومؤسسات وزارة الصحّة ـ بالصحّة العامّة فتراقب نظافة الشوارع والأزقّة، وتراقب صانعي المأكولات والأطعمة والقصّابين والحمامات والمسابح العامّة لتكون موافقة مع قوانين الصحّة، وتقيم المستشفيات والمصحّات، وتقوم بتلقيح الأطفال والكبار ضد الأمراض الداهمة، وتقوم بتوجيه النّاس إلى وظائفهم الصحّية وتفرض رقابة مشدّدة على الاجتماعات من الناحية الصحّية لتمنع من تسرّب أي مرض يهدّد سلامة الاُمّة، ولعلّ من أهمّ ما يجب على الحكومة الإسلاميّة هو برنامج الضمان الصحّي لجميع افراد الاُمّة بلا استثناء، لينشأوا أصحّاء البدن أقوياء البنية أخذا بقول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المُؤمنُ القويّ خير وأحبّ إلى الله من المُؤمن الضّعيف وفي كُلّ خير »(١) .

وقد كان هذا هو سيرة المسلمين شعوباً وحكومات منذ الصدر الأوّل للإسلام ويدلّ على ذلك ما أقاموه هنا وهناك من مؤسّسات صحّية، وشيّدوه من مختبرات علميّة طبيّة، فقد كانت الحكومات الإسلاميّة الغابرة ترى نفسها ملزمة بإقامة الصحّة ورعايتها في المجتمع الإسلاميّ، فكان القسم الأكبر من وظائف الصحّة الاجتماعيّة على عاتق المحتسبين، وفي ذلك كتب ابن الاخوة الذي كان يعيش في القرن السابع الهجريّ حول

__________________

(١) سنن ابن ماجة: ٢، كتاب الزهد، الباب ١٤، الحديث ٥، رقم التسلسل ٤١٦٨.

٥١٦

وظائف المحتسب في هذا المجال قائلاً :

( في الحسبة على الفرّانين والخبّازين: ينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل المعاجن وتنظيفها، ولا يعجن العجّان بقدميه وبركبتيه ولا بمرفقيه، فربما قطر في العجين شيء من عرق أبطيه أو بدنه، وأن يعجن ملثّماً لأنّه ربّما عطس أو تكلّم فقطر شيء من بصاقه في العجين.

وقال في الحسبة على الجزّارين ( القصّابين ): يجب على المحتسب أن يمنعهم من الذبح على أبواب دكاكينهم فإنّهم يلوّثون الطريق بالدم والروث.

وقال في الحسبة على الطبّاخين: يأمرهم بتغطية أوانيهم وحفظها من الذباب وهوامّ الأرض بعد غسلها بالماء الحارّ.

وقال في الحسبة على صانعي الأدوية والعقاقير: ويعتبر عليهم في عقاقير الأقراص والمعاجين قبل عملها بمن ظهرت مخبرته وكثرت تجربته للعقاقير ويكون من أهل الخير والصلاح، فإنّها إذا اختلّ أمرها أضرّت بالمريض لا محالة(١) .

وقال في الحسبة على الأطباء والجرّاحين والمجبّرين: الطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها وأسبابها وأعراضها وعلاماتها والأدوية النافعة فيها والاعتياض عمّا لم يوجد منها والوجه في استخراجها وطريق مداواتها بالتساوي بين الأمراض والأدوية في كمّياتها ولا يجوز له الإقدام على علاج يخاطر فيه ولا يتعرّض لما لا علم له فيه ففي الخبر: « من تطبّب ولم يُعلم منهُ طبّ قبل ذلك فهو ضامن »(٢) .

وينبغي أن يكون لهم مقدم من أهل صناعتهم فقد حكي أنّ ملوك اليونان كانوا يجعلون في كلّ مدينة حكيماً مشهوراً بالحكمة ثمّ يعرضون عليه بقيّة أطبّاء البلد

__________________

(١) هذه ملاحظة في الطب مهمّة جداً وقد عرفها العالم اليوم، حيث أسّس جهازاً خاصاً بمراقبة الأدوية والعقاقير قبل إنزالها إلى الأسواق.

(٢) مجمع البحرين ( مادّة طبب ).

٥١٧

فيمتحنهم فمن وجده مقصّراً في علمه أمره بالاشتغال وقراءة العلم ونهاه عن المداواة(١) .

وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض أن يسأله عن سبب مرضه وعن ما يجد من الألم ثمّ يرتّب له قانوناً من الأشربة وغيره من العقاقير ثمّ يكتب له نسخة لأولياء المريض بشهادة من حضر معه عند المريض وإذا كان من الغد حضر ونظر إلى قارورته ( أي بوله ) وسأل المريض هل تناقص به المرض أم لا ثمّ يرتّب له ما ينبغي على حسب مقتضى الحال وهكذا حتّى يبرأ المريض، وينبغي للمحتسب أن يأخذ على الأطباء عهداً أن لا يعطوا أحداً دواء مضرّاً ولا يركّبوا له سمّاً ولا يصفوا سمّاً عند أحد من العامّة ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنّة ولا للرجال الذي يقطع النسل وليغضّوا أبصارهم عند المحارم عند دخولهم على المرضى )(٢) .

__________________

(١) هذا هو ما عرفه العالم الحديث اليوم وأخذ به حتّى أنّه لا يجيز طبيباً ولا يسمح له بفتح العيادة الطبيّة ومعالجة المرضى إلّا بعد تقديم اطروحة تشهد على إكتماله في هذا الفن.

(٢) راجع معالم القربى في أحكام الحسبة من ٩٠ إلى ١٧٠ والكتاب برمّته جدير بالمطالعة جدّاً.

٥١٨

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٥

الحكومة الإسلاميّة

والسياسة الخارجيّة

الإسلام يرسم قواعد السياسة الخارجيّة :

يظنّ بعض الكتّاب الغربيّين، ومن استقى معلوماته من دراساتهم ومؤلّفاتهم أنّ الغرب هو أوّل من ابتكر ( نظاماً للعلاقات الدوليّة )، وأوّل من أسّس ما يسمّى بالسياسة الخارجيّة، للحكومات والدول، ولم يكن للعالم ـ قبل ميلاد الحضارة الغربيّة ـ أي نظام للسياسة الخارجيّة، لأنّه لم تكن هناك علاقات وروابط بين الدول، كما ظنّوا.

بيد أنّ هذا ادّعاء يعرف ضعفه وخطأه كلّ من له أدنى إلمام بالتاريخ البشريّ فقد كان بين الشعوب علاقات وروابط، ولأجل ذلك فقد كان بينهم قوانين ورسوم وضوابط وحقوق تنظّم علاقاتهم وروابطهم حسبما تقتضيه الظروف، وتتطلّبه الحاجة ولقد اتّخذت هذه السياسة آخر وأفضل أشكالها بمجيء الإسلام.

ولا نريد ـ في هذا المقام ـ أن نستعرض جميع تلك الضوابط الدوليّة، وخطوط

٥١٩

تلك السياسة الخارجيّة التي سنّها الإسلام فإنّ شرح كلّ ذلك على وجه التفصيل يحتاج إلى دراسة موسّعة وعامّة تتناول بالبحث جميع المعاهدات التي عقدها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع الدول، والملوك وزعماء القبائل، وكذا دراسة المعاهدات والمواثيق التي عقدها بعض الحكّام المسلمين بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

غير أنّ الهدف ـ هنا ـ هو إشارة خاطفة وتلميح عابر إلى ( اُصول ) هذه السياسة وخطوطها العريضة، ليعرف الجميع أنّ الحكومة الإسلاميّة يوم قامت كانت جامعة لكلّ البرامج وآلمناهج التي تحتاج إليها أيّة حكومة، وحاوية لكلّ ما تحتاج إليه الشعوب والاُمم، في علاقاتها الخارجيّة.

وأمّا ما سيتجدّد من الاُمور والحاجات فيمكن معرفة حلولها، على ضوء الاُصول والقواعد المقرّرة كما هو الحال في غير هذا الباب فإنّ على الشارع المقدّس بيان الاُصول وعلى علماء الحقوق والفقهاء التفريع، والاستنتاج.

ونحن نشير في هذا البحث إلى بعض الخطوط الكلّية في السياسة الخارجيّة للحكومة الإسلاميّة :

١. إحترام العهود والمواثيق الدوليّة

إنّ إحترام المواثيق، والوفاء بالعهود من الاُمور الفطريّة التي طبع عليها البشر وتعلّمها في أوّل مدرسة من مدارس تكوين الشخصيّة، أعني مدرسة الفطرة ولأجل ذلك نجد الأطفال يعترضون على أوليائهم إذا خالفوا وعودهم ولم يفوا بها ولهذا قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « احبّوا الصّبيان وارحموهم وإذا وعدتّموهم شيئاً فأوفوا لهم »(١) .

هذا مضافاً إلى أنّ الاحترام للميثاق والوفاء بالعهد شرط ضروريّ لإستقرار الحياة الاجتماعيّة واستقامتها، إذ الثقة المتبادلة ركن أساسيّ لهذه الحياة، ولا تتحقّق هذه الثقة المتبادلة إلّا بالوفاء بالعهود، والاحترام المتقابل للمواثيق، والوعود، ولهذا أمر الله سبحانه

__________________

(١) بحار الأنوار ١٦: ١٥٥.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627