مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219098 / تحميل: 6016
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

وتعالى بلزوم الوفاء بالعهد وقال:( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) ( الإسراء: ٣٤ ).

ويقول عن صفات المؤمنين:( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) ( المؤمنون: ٨ ).

وتبلغ أهميّة ذلك أنّ القرآن كما يمدح الموفين بالعهد، ويقول:( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ ) ( الرعد: ٢٠ )، يذمّ في المقابل الناقضين للعهود، ويقول عنهم:( وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) ( الرعد: ٢٥ ).

بل يشبّه الناقض للعهد بالمرأة الناقضة لغزلها، بعد أن تعبت على صنعه إشارة إلى ما يتركه نقض العهد من اختلال في الحياة الاجتماعيّة فيقول:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ *وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) ( النحل: ٩١ ـ ٩٢ ).

وقد تضافرت الأحاديث على التأكيد والإيصاء بهذا الأمر فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد »(١) .

وقال أيضاً: « أقربكم منّي غداً في الموقف أصدقكم في الحديث وأدّاكم للأمانة وأوفاكم بالعهد »(٢) .

وقال أيضاً: « يجب على المؤمن الوفاء بالمواعيد والصّدق فيها »(٣) .

إنّ نقض العهد والميثاق خير دليل على فقدان الوازع الدينيّ، وانعدام الشخصيّة الدينيّة ولهذا قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا دين لمن لا عهد لهُ »(٤) .

إنّ الذي لا يرتاب فيه أحد هو أنّ المشركين واليهود أشدّ الناس عداوة للمؤمنين كما صرّح القرآن بذلك قائلا:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) ( المائدة: ٨٢ ).

__________________

(١ و ٢) الكافي ٢: ٣٦٣، ٣٦٤.

(٣) المستدرك ٢: ٨٥.

(٤) بحار الأنوار ١٦: ١٤٤.

٥٢١

ومع ذلك نجد القرآن الكريم يصرّح بلزوم احترام المواثيق والمعاهدات المعقودة مع المشركين فيقول:( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إلّاالَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ) ( التوبة: ٣ ـ ٤ ).

نعم أجاز الإسلام قتال المشركين إذا نكثوا ايمانهم وخالفوا عهودهم مع المسلمين ولذلك قال سبحانه:( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) ( التوبة: ١٢ ).

ولأجل أهمّية العهود والمواثيق المعقودة بين المسلمين وغيرهم من الحكومات والأطراف أوصى الإمام عليّعليه‌السلام واليه الأشتر باحترام المواثيق إذ كتب في عهده المعروف :

« وإن عقدت بينك وبين عدُوّك عُقدةً أو ألبستهُ منّك ذمّةً فحُط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جُنّةً دون ما أعطيت فإنّهُ ليس من فرائض الله شيء النّاسُ أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم، وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعُهود »(١) .

كما أنّه لـمّا تمّ التحكيم ـ في صفّين ـ طلب الخوارج من الإمام أن ينقض قرارالتحكيم ولكنّهعليه‌السلام ردّهم بأشدّ الردّ قائلاً: « ويحكُم أبعد الرّضا والعهد نرجعُ، أو ليس الله يقولُ:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقال:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) »(٢) .

ومن نماذج التزام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمواثيقه وتعهّداته ردّ أبي بصير إلى مكّة بعد توقيع ميثاق الحديبيّة حيث التزم ـ توخّياً للمصلحة ـ في أحد بنود ذلك الميثاق أن يردّ إلى

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم: ٥٣.

(٢) وقعة صفّين لابن مزاحم ( طبعة مصر ): ٥١٤، وفي الارشاد للشيخ المفيد: ١٤٣ ـ ١٤٤ ما يقارب هذا.

٥٢٢

المشركين كلّ من فرّ من مكّة إلى المدينة، واعتنق الإسلام فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة أتاه أبو بصير، وكان ممّن حبس لإسلامه بمكّة فلمّا قدم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتب فيه قريش إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله يطلبونه منه ـ حسب ما التزم في صلح الحديبيّة ـ وأرسلوا من يعيده إلى مكّة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلُحُ لنا في ديننا الغدر وإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً فانطلق إلى قومك ».

قال يا رسول الله أتردّني إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أبا بصير انطلق فإنّ الله تعالى سيجعلُ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً »(١) .

وقد فرّج عنه فيما بعد كما وعده الرسول بإذن الله وممّا يؤكد أهمّية العهد والميثاق أنّ الله سبحانه صرّح بوجوب نصرة المؤمنين القاطنين في مكّة غير المهاجرين إلى المدينة إذا طلبوا النصرة من مسلمي المدينة على المشركين إلّا إذا طلبوا العون والنصرة على قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق وعهد، وإلى هذا أشار قوله سبحانه:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( الأنفال: ٧٢ ).

ويندرج تحت هذا الأصل احترام جميع المعاهدات والمواثيق على اختلاف مقاصدها، ومحتوياتها، كالمواثيق التجاريّة والعسكريّة والسياسيّة إذا كانت في صالح المسلمين حدوثاً وبقاء.

٢. الإسلام والسلام العالميّ

لا شكّ أنّ لفظة السلام ممّا تلتذّ بسماعها الاذان، وتهوى إلى حقيقتها الأفئدة والقلوب، ولذلك تتستّر ورائها الدول الكبرى لتضليل الشعوب.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٣.

٥٢٣

وقد أصبح ( السلام العالمي ) اليوم أكبر مشكلة في المجال الدوليّ حيث تتبارى القوى العظمى في تسليح نفسها بأخطر الأسلحة، وأفتكها. ولذلك تجري محاولات كبيرة وجهود جبّارة للحفاظ على السلام العالميّ وإقامته، ومن هذا الباب عقدت مؤتمرات نزع السلاح، والحدّ من صنع ( الأسلحة النووية ) وانتشارها، ولكن هل تُرى استطاعت البشريّة أن تحقّق أيّة خطوات إيجابيّة في هذا المجال أو أخفقت ؟ إنّ الوقائع الدامية في أرجاء العالم هي التي تجيب عن هذا السؤال. نعم لقد استطاع الإسلام بما وضع من اُسس وقواعد إنسانيّة أن يحقّق أمل البشريّة في السلام.

ويكفي دلالة على عناية الإسلام بالسلام اشتقاق اسمه من السلم قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) ( البقرة: ٢٠٨ ).

ثمّ هو يدعو إلى الصلح والمسالمة إذا جنح العدو لذلك، قال سبحانه:( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ( الأنفال: ٦١ ).

وهو يدعو إلى اقرار السلام حتّى في المحيط العائلي لأنّه مقدّمة لإقرار الصلح في المحيط الاجتماعيّ، قال:( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) ( النساء: ١٢٨ ).

ثمّ هو يعتبر جميع المؤمنين والمؤمنات اخوة فإذا حدث بينهم نزاع أوجب على المسلمين المبادرة إلى المصالحة بين المتنازعين، فقال:( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) ( الحجرات: ١٠ ).

وإذا ما حدث نزاع واقتتال بين طائفتين من المسلمين أمر باصلاح أمرهم ودعا إلى الضرب على أيدي الباغي منهما فقال:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات: ٩ ).

وقد شاء الإسلام كلّ ذلك وأراده حفاظاً على السلام والتعايش السلميّ، بحيث يأمل الإسلام في أن تحصل المودّة حتّى بين المؤمنين ومن يعادونهم ويخالفونهم في العقيدة، قال سبحانه:( عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ

٥٢٤

قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( المممتحنة: ٧ ).

وبالتالي فإنّ الإسلام يدعو إلى اقرار السلام في جميع أرجاء الحياة البشريّة.

وقد سار النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا النهج الإنسانيّ، فقد فعل ـ عند فتح مكّة ـ ما يكون اُسوة حسنة بعده للحكومات الإسلاميّة حال الفتح فقد أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رايته ـ يوم فتح مكّة ـ سعد بن عبادة، وهو أمام الكتيبة فلمّا مرّ سعد براية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على أبي سفيان نادى: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ(١) الحرمة اليوم أذلّ الله قريشاً.

فأقبل رسول الله حتّى إذا حاذى أبا سفيان ناداه :

يا رسول الله أمرت بقتل قومك، زعم سعد ومن معه حينما مرّ بنا فقال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة اليوم أذلّ الله قريشاً وإنّي أنشدك الله في قومك، فأنت أبرّ الناس وأرحم الناس وأوصل الناس.

قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اليومُ يومُ المرحمة اليومُ أعزّ الله فيه قُريشاً ».

[ قال ]: وأرسل رسول الله إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد(٢) .

وأقدم دليل على توخّي الإسلام للتعايش السلميّ، والسعي إليه بكلّ وسيلة ممكنة ما دام الخصم لا يريد العدوان، تلك الوثيقة المعروفة التي وقّعها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع قريش في ( الحديبيّة )، فإنّ فيها مواداً تدلّ على مدى اهتمام الإسلام بقضيّة السلام، والتعايش السلميّ ومدى سعيه لإقراره ما أمكنه، فإنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا أراد أن يكتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل مكّة، دعاصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فقال: « اكتُب بسم الله الرّحمن الرّحيم ».

فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن اكتب: باسمك اللّهمّ.

__________________

(١) في رواية: تسبى.

(٢) مغازي الواقديّ ٢: ٨٢١ ـ ٨٢٢ وأعلام الورى للطبرسيّ: ١٩٧.

٥٢٥

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اكتُب باسمك أللّهم » فكتبها.

ثمّ قال: « اكتُب هذا ما صالح عليه مُحمّد رسولُ الله سُهيل بن عمرو ».

فقال سهيل: لو شهدت أنّك رسول الله لم اقاتلك، ولكن اكتب: اسمك واسم أبيك.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن النّاس عشر سنين يأمن فيهنّ النّاس ويكفّ بعضهم عن بعض على أنّه من أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه، وأنّ بيننا عيبةً مكفوفةً وأنّه لا أسلال ولا أغلال، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه »(١) .

انظر كيف رضي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحذف لقبه توخّيا للسلام وطلباً للصلح.

وانظر كم بلغت مرونة الإسلام حتّى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله رضي في عهده أن يعيد الهارب من صفوف الكفّار، في حين التزم بأن لا يعيدوا إليه من ترك صفوف المسلمين وهرب إلى قريش، وهو غاية في التنازل بهدف إقرار السلام.

والعجيب أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عمل بهذا البند من الوثيقة في نفس المجلس تدليلاً على حسن نيّته، والتزامه بما كتب، وحرصه على السلام، فبينا رسول الله يكتب هذا الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه ثمّ قال: يا محمّد قد لجّت [ تمّت ] القضيّة بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: « صدقت »، فجعل يجذبه جذباً شديداً ويجرّه ليردّه إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتننوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحاً، وأعطيناهُم على ذلك

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤: ٣١٨، والكامل للجزريّ ٢: ١٣٨، وأعلام الورى للطبرسيّ: ٩٧.

٥٢٦

وأعطُونا عهد الله، وإنّا لا نغدُر بهم »(١) .

وهذا هو نموذج أو نماذج معدودة في هذا المجال وكتب التاريخ والسير والفقه والحديث طافحة بأمثالها.

٣. حكم الأسرى

تعتبر مسألة ( الأسرى ) من أهمّ القضايا في النظام السياسيّ الخارجيّ للدول وتعتبر حقوقهم من أبرز ما لفت نظر الحقوقيّين، واهتمامهم في عالمنا المعاصر حتّى أنّه اتفقت الدول على ميثاق ينصّ على هذه الحقوق هو ( ميثاق جنيف ).

وللأسرى في النظام الإسلاميّ مكانة خاصّة، وقوانين تضمن حقوقهم، وكرامتهم، وتكفل احترامهم وسلامتهم.

إنّ الأسارى على نوعين :

نوع ؛ يؤخذون قبل انقضاء القتال والحرب قائمة ما لم يسلموا، والإمام مخيّر بين ضرب أعناقهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركهم حتّى ينزفوا.

ونوع آخر ؛ وهو ما إذا اُخذوا بعد انقضائها فحينئذ لم يقتلوا وكان الإمام مخيّراً بين المنّ والفداء، والاسترقاق، ولا يسقط هذا الحكم لو أسلموا(٢) وهذا هو المشهور بين الفقهاء.

ويستفاد ذلك من كتاب الله العزيز قال سبحانه:( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال: ٦٧ ).

فالآية صريحة في وجوب قتل الأسارى لغاية الاثخان في الأرض والتمكّن فيها

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٣١٨، والكامل للجزريّ ٢: ١٣٨، وأعلام الورى للطبرسيّ: ٩٧.

(٢) نعم نقل أمين الإسلام في مجمع البيان ٥: ٩٧، قولا آخر يلاحظه من أراد الوقوف عليه وهو لا يوافق القول المشهور بين فقهاء الشيعة فهو يخالف المشهور في كلا القسمين فلاحظ.

٥٢٧

واستضعاف المشركين، كما أنّها ناظرة إلى النوع الأوّل من الأسارى كقوله سبحانه:( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الأنفال: ٥٧ ).

فهي نزلت في حقّ الناقضين للعهود وتؤكّد على النبيّ بأنّه إذا صادفتهم في الحرب وظفرت بهم وأدركتهم فنكّل بهم تنكيلاً وأثّر فيهم تأثيراً حتّى تشرّد بهم من بعدهم وتطردهم وتمنعهم من نقض العهد بأن ينظروا فيهم فيعتبروا بهم فلا ينقضوا العهد ويتفرّقوا في البلاد مخافة أن تقابلهم بمثل ما قابلتهم به، وأن يحلّ بهم ما حلّ بمن قبلهم فالآية ناظرة إلى النوع الأوّل من الأسارى أعني المأخوذين قبل أن تضع الحرب أوزارها، ويشهد على ذلك قوله تعالى:( فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ) ، وقوله سبحانه:( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) ( محمد: ٤ ).

والظاهر أنّ قوله:( حَتَّىٰ تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) غاية لقوله:( فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) أي القتل والتنكيل لحد وضع الحرب أوزارها، فيختصّ القتل بالأسرى المأخوذين قبل انقضاء القتال وانتهائه.

وأمّا النوع الآخر أعني المأخوذين بعده فحكمه ما أفاده قوله:( حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) فالآية تخيّر الحاكم بين إطلاق سراحهم مجّاناً بلا عوض، وأخذ الفداء بالنفس أو المال.

وأمّا الاسترقاق فقد دلّت عليه الأحاديث الإسلاميّة، فلاحظ الكتب الفقهيّة.

* * *

بقي هنا أمران :

الأوّل: أنّ قتل الأسارى المأخوذين والحرب قائمة يختص بوضع خاصّ لا بزمان خاصّ، فالحكم أبديّ إلى يوم القيامة لكنّه حكم على موضوع محدّد وهو ما إذا كان في استبقاء الأسارى قبل الاثخان محذور كما هو الحال في الصدر الأوّل من التاريخ الإسلاميّ، فإنّ معيشتهم في ذلك العصر وإمكانيّاتهم كانت محدودة بحيث لا يمكن

٥٢٨

لهم حفظ الأسرى في أثناء الحرب لقلّة الإمكانيّات وعدم وجود الأماكن المناسبة لحفظهم واستبقائهم(١) فربّما كان في استبقاؤهم مظنّة وقوع الفتنة، وكان موجباً لبقاء قوّة العدو، وشوكته، فلأجل ذلك يأمر الكتاب العزيز بقتلهم لغاية الإثخان والغلبة في الأرض والتمكّن فيها في مقابل العدو.

فكلمة( حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) وقوله:( حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ ) توحي بذلك القيد وأنّ الحكم مختصّ بما إذا كان في قتلهم تقوية للمسلمين وإضعاف للعدو.

وأمّا إذا كان المسلمون أقوياء وكان استبقاؤهم أمراً ممكناً، ولم تكن في قتلهم تقوية لهم وإضعاف للعدو فالآية منصرفة عن ذلك الوضع، وممّن تنبّه إلى ذلك « الجصّاص » في إحكام القرآن حيث قال :

( وذلك في وقت قلّة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوّهم من المشركين فمتى اُثخن المشركون واُذلّوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء، فالواجب أن يكون هذا حكماً ثابتاً إذا وجد مثل الحالة التي كان عليها المسلمون في أوّل الإسلام )(٢) .

وقال صاحب المنار في فلسفة القتل قبل الإثخان ما يؤيّد هذا الاتّجاه :

( فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى لإنّ ذلك يفضي إلى ضعفنا ورجحانهم علينا حتّى إذا أثخنّاهم في المعركة جرحاً وقتلاً وتمّ لنا الرجحان عليهم فعلاً، رجّحنا الأسر(٣) المعبّر عنه بشدّ الوثاق لأنّه يكون حينئذ من الرحمة الاختياريّة، وجعل الحرب ضرورة تقدّر بقدرها، ولذلك خيّرنا الله تعالى فيه بين المنّ عليهم وإعتاقهم بفكّ وثاقهم وإطلاق حريّتهم. وامّا بفداء أسرانا عند

__________________

(١) والذي يدلّ على فقدان الأمكنة لحبس الأسارى ما نقله الكتاني عن شفاء الغليل للخفاجيّ أنّه كتب قائلا: « لم يكن في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سجن »، وأضاف قائلا: « وكان يحبس في المسجد وفي الدهاليز » التراتيب الإداريّة ١: ٢٩٧.

(٢) أحكام القرآن ٣: ٣٩١، ولاحظ أيضاً الصفحة ٧٢ من ذلك الجزء.

(٣) الأولى أن يقول: رجّح القرآن الأسر.

٥٢٩

قومهم ودولتهم إن كان لنا أسرى عندهم أو بمال نأخذه منهم.

وجملة القول، أنّ اتّخاذ الأسرى إنّما يحسن ويكون خيراً ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحقّ والعدل، إمّا في المعركة الواحدة فبإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وإمّا في الحالة العامّة التي تعمّ كلّ معركة وكلّ قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوّة العامّة والسلطان الذي يرهب الأعداء )(١) .

والعجب أنّ الدكتور محمّد فتحي عثمان الاُستاذ بكليّة العلوم الاجتماعيّة قد نقل في تأليفه « من اُصول الفكر السياسيّ الإسلاميّ » في الصفحة ٢٠٦ عن الكاتب الشهير محمّد عبد الله درّاز في كتابه « دراسات إسلاميّة في العلاقات الاجتماعيّة الدوليّة » في بحث الإسلام والرقّ، كلمة صرح فيها ( بأنّنا إذا نظرنا في القرآن لم نجد فيه أثراً لقتل الأسير والاسترقاق ).

أقول: أمّا الاسترقاق فصحيح أنّه لا يوجد في القرآن ولكنّه ورد في الأحاديث الإسلاميّة، وإن كان الاسترقاق خطوة انتقالية إلى أمر آخر وهو تربيتهم على النهج الإسلاميّ ثمّ تحريرهم.

وأمّا قتل الأسير فيدلّ عليه قوله سبحانه:( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) ( الأنفال: ٦٧ ) وقد عرفت المراد من الآية.

* * *

الأمر الثاني: قد عرفت أنّ الإمام مخيّر في الأسارى المأخوذين بعد وضع الحرب أوزارها بين اُمور منها الاسترقاق، فلابدّ من بيان النكتة في ذلك.

إنّ الاسترقاق لأجل أنّه ربّما تكون المصلحة المنحصرة فيه إذ ربّما يكون إطلاق سراحهم بلا عوض أو مع العوض سبباً لاجتماعهم مرّة اُخرى وتآمرهم ضدّ الإسلام والمسلمين، ويكون الحبس أمراً شاقّاً وعسيراً.

__________________

(١) المنار ١٠: ٩٧ ـ ٩٨.

٥٣٠

وأمّا قتلهم بعد وضع الحرب أوزارها فتعدّ ضراوة بسفك الدماء وإسرافاً بلا جهة فيتعيّن الأمر في الاسترقاق بتوزيعهم في بيوت المسلمين وجعلهم تحت ولايتهم حتّى يتربّوا بتربيتهم ويتخلّقوا بأخلاقهم وآدابهم(١) .

هذا وتخيّر الإمام أدلّ دليل على مرونة الإسلام حيث ترك للإمام والحاكم المجال ليقوم بما تقتضيه المصلحة.

وقد أكّد الإسلام على احترام الأسرى والعطف عليهم والرحمة بهم وحسن المعاملة معهم، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « استوصُوا بالأسارى خيراً »(٢) .

ويكفي دلالة عمليّة على ذلك أنّه لـمّا افتتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله القموص [ وهي من قلاع اليهود بخيبر ] أتى رسول الله بصفيّة بنت حيّي بن أخطب، وباُخرى معها فمرّ بها بلال، وهو الذي جاء بهما، على قتلى من قتلى يهود فلمّا رأتهم التي مع صفيّة صاحت، وصكّت وجهها وحثّت التراب على رأسها فلمّا رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « اعزُبُوا عنّي هذه الشّيطانة »، وأمر بصفيّة فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد اصطفاها لنفسه فقال رسول الله لبلال: حين رأى بتلك اليهوديّة ما رأى: « أنزعت منّك الرّحمةُ يا بلالُ حين تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما »(٣) .

بل وحث على إطعام الأسير وسقيه حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إطعامُ الأسير حقّ على من أسرهُ »(٤) .

وقد بلغ من عطف الإسلام وإنسانيّته أنّه حرّم المثلة بالقتلى، فلمّا وقف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في اُحد على جسد حمزة بن عبد المطّلب فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ،

__________________

(١) راجع في أحكام الأسارى المصادر التالية: الخلاف لشيخ الطائفة الطوسيّ ٢: ٤٦، والمختلف للعلاّمة الحليّ ١: ١٦٩، وكنز العرفان: ٣٦٥.

وقد أشرنا إلى فلسفة الرقّ والاسترقاق في الإسلام وأنّها حالة استثنائيّة اقتضتها ظروف الحرب خاصّة فلاحظ: ٢٧٥ ـ ٢٦١ من كتابنا هذا.

(٢ و ٣) سيرة ابن هشام ٢: ٢٩٩ و ٢٣٦.

(٤) وسائل الشيعة ١١: ٦٩ وقد مرّت الإشارة إلى هذا الأمر في: ٤١٥ من كتابنا هذا.

٥٣١

ومثّل به فجدع أنفه واُذنه، فحزن حزناً شديداً وقال: « ولئن أظهرني الله على قُريش في موطن من المواطن لأُمثّلنّ بثلاثين رجُلاً منهُم ».

فأنزل الله سبحانه:( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ *وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) ( النحل: ١٢٦ ـ ١٢٧ ).

فعفا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

* * *

٤. الحصار الاقتصاديّ ضدّ المعتدين فقط

لا شكّ أنّ للحكومة الإسلاميّة أن تتوسّل بالحصار الاقتصاديّ، كوسيلة من وسائل الحرب والدفاع ولكن هذا الأمر تابع لهدف عسكريّ فقط بمعنى أنّه يجوز فقط لأجل تحديد الفعاليّات العسكريّة للعدو في اطار الأهداف الاستراتيجيةّ.

إنّ الإسلام يقوم بهذا الأمر ضدّ المعتدين والمهاجمين فحسب، ولا يسوغ استخدامه ضدّ الأبرياء من الناس.

وهذا هو سيرة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإليك نموذجاً من ذلك :

خرجت خيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأسّروا ثمامة بن أثال الحنفيّ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أحسنُوا اُسارهُ » فمكث مدة ثمّ اطلقوا سراحه فأسلم، ثمّ خرج إلى مكّة معتمراً فأخذته قريش وأرادوا قتله، فقال قائل منهم: دعوه فإنّكم تحتاجون إلى اليمامة [ وكان من ملوكها ] لطعامكم، فخلّوه، ثمّ خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكّة شيئاً فكتبوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك تأمر بصلة الرحم، وإنّك قد قطعت أرحامها فقد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع. فكتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليه، أن يخلّي بينهم وبين الحمل(٢) .

وهكذا منع الرسول من استخدام الحصار الاقتصاديّ ضدّ الأبرياء من الناس ،

__________________

(١ و ٢) سيرة ابن هشام ٢: ٩٦ و ٦٣٩.

٥٣٢

وأعطى درساً رائعاً في مقابلة الأعداء.

٥. الحدّ من التسلّح

يشهدا العالم اليوم سعياً شديداً من الشرق والغرب لنزع السلاح أو الحدّ من التسلّح، وهو أمر يتبنّاه كثير من الحقوقيّين والمفكّرين غير أنّهم لم ينجحوا في ذلك أللّهم إلّا في حقّ الشعوب الضعيفة حيث تمكّن الدول العظمى من إبقاء هذه الشعوب في إطارات محدودة من التسلّح فيما مضت هي في تسليح نفسها حتّى قمّة رؤوسها.

ويرجع فشل هؤلاء الحقوقيّين والساعين إلى أنّهم يطلبون أمراً غير عمليّ فالإنسان ينزع بصورة فطريّة إلى السيطرة، والاستيلاء وهي نزعة تجرّه إلى أن يسلّح نفسه بما يتسنّى له من أسلحة.

ولذلك فإنّ الإسلام يعمد ـ بدل الدعوة إلى نزع السلاح أو ما شابهه إلى تغيير هدف التسلّح، ووجهة الكفاح والنضال فهو يحثّ البشريّة على أن تجعل نضالها من أجل العقيدة الإلهيّة وبسط العدالة الاجتماعيّة.

وعندئذ يتغيّر استعمال الأسلحة بتغيّر الأهداف والمقاصد ولا يضير التسلّح ولا يشكّل خطراً على أحد.

وبالجملة إذا كان النضال من أجل عقيدة دينيّة صحيحة وبوحي منها وتوجيه من تعاليمها تحدّد استخدام الوسيلة الحربيّة بصورة قهريّة، وأحسن الإنسان استعمالها تبعاً لذلك، ولهذا يتعيّن على المصلحين السعي في هذا المجال لتثمر جهودهم وتتخلّص البشريّة من الرعب الناشئ عن سباق التسلّح إذ في غير هذه الصورة لن تثمر جهودهم ويبقى الحدّ من التسلّح أو عدم استخدامه في تدمير الحياة أملاً بعيد المنال.

٦. الحصانة الدبلوماسيّة في الإسلام

كما يمتلك الإسلام نظاماً للقتال والحرب كذلك يمتلك نظاماً رائعاً في حال

٥٣٣

السلم والصلح ومن ذلك: النظام الخاصّ بالدبلوماسيّين فإنّ للدبلوماسيّين والسفراء والرسل عند الإسلام احتراماً كبيراً، وحصانة خاصّة لا نجد لها مثيلا أبداً، حتّى أنّ للدبلوماسيّ أن يظهر عقيدته المخالفة للدولة الإسلاميّة دون أن يصيبه أذى أو يمسّه من المسلمين ضرر، ونذكر من باب المثال نموذجاً واحداً يدلّ على ما قلناه: فقد كتب مسيلمة بن حبيب [ الكذّاب ] إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً جاء فيه :

أمّا بعد فإنّي قد أشركت في الأمر معك وأنّ لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوماً يعتدون. فلمّا قدم رسول مسيلمة بهذا الكتاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقرأه قال لهما: فما تقولان أنتما، قالا نقول كما قال، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أمّا والله لولا أنّ الرّسُل لا تُقتلُ لضربتُ أعناقكُما ».

ثمّ كتبصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مسيلمة: « بسم الله الرّحمن الرّحيم من مُحمد رسُول الله إلى مُسيلمة الكذّاب السّلامُ على من اتّبع الهُدى أمّا بعدُ فإنّ الأرض لله يُورثُها من يشاءُ من عباده والعاقبةُ للمُتّقين »(١) .

انظر كيف عامل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله سفيري مسيلمة ولم يعاقبهما على إلحادهما.

وانظر كيف قابل النبيّ مسيلمة، وقايس بين الكتابين، فإنّك تجد رائحة الوحي الطيّبة تفوح من كتاب الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وتنبئ عن ذكائه وعقله وحسن درايته وعظيم سياسته وكياسته.

٧. التعهّدات المتقابلة، والمنفردة

إنّ من أهمّ ما يستدعي اهتماماً خاصّاً في السياسة الخارجيّة هي التعهّدات بين الدول وهي على نوعين :

١. التعهّد من جانب واحد.

٢. التعهّد من جانبين.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٦٣٩.

٥٣٤

أمّا التعهّد من جانب واحد فهو شكل بسيط من التعهّدات فإنّ الدولة تلتزم من ناحيتها باُمور اتّجاه دولة اُخرى بصورة ابتدائية، كأن تعترف بها، وبأمنها وتتعهّد بعدم العدوان عليها وعدم التعرّض لها، ونحن نجد ـ في الإسلام ـ نماذج من هذا النوع، فعندما خرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك في ملاحقة الروم، فانتهى إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة، فصالح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأعطاه النبيّ كتاباً التزم فيه باُمور وإليك نصّه :

« بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه أمنة من الله ومحمّد النبيّ رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيّارتهم في البرّ والبحر لهم ذمّة الله، وذمّة محمّد النبيّ، ومن كان معهم من أهل الشّام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثاً فإنّه لا يحول ماله دون نفسه وأنّه طيّب لمن أخذه من النّاس وأنّه لا يحلّ أن يمنعوا ماءً يردونه ولا طريقاً يريدونه من برّ أو بحر »(١) .

إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يتعهّد لتلك الجماعة بأن يحترم أمنهم في كلّ الحالات والأماكن ويعترف لهم بحقّ الحياة والعيش، ويضمن سلامة تنقّلاتهم من دون أن يأخذ منهم تعهّداً متقابلا.

وأمّا التعهّدات المتقابلة فهي أيضا على قسمين: فتارة يلتزم الطرفان بالاُمور السلبيّة مثل: أن يتعهّدا بأن لا يتعرّض أحدهما للاخر، وغير ذلك، وتارة يلتزم الطرفان بالاُمور الإيجابيّة مثل التعهّد بالتبادل التجاريّ والثقافيّ، ونحن نرى نماذج من كلا النوعين في تاريخ الحياة السياسيّة للإسلام.

ونمثّل للنوع الأوّل بقصّة بني ضمرة.

فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما بلغ « ودان » وهي غزوة الأبواء يريد قريشاً، وبني ضمرة بن بكر بن عبد منات بن كنانة فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذي وادعه منهم عليه مخشي ابن عمرو الضمري وكان سيّدهم في زمانه، فلمّا خرج الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده فأتاه مخشي بن عمرو الضمري وهو الذي وادعه على بني ضمرة في

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٥٢٥.

٥٣٥

غزوة ودان فقال: يا محمّد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال: « نعم يا أخا بني ضمرة وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك(١) ثُمّ جالدناك حتّى يحكُم الله بيننا وبينك »(٢) .

ومن هذا القبيل ما جرى في صلح الحديبيّة الذي مرّ عليك.

ونمثّل للتعهّدات المتقابلة على الاُمور الإيجابيّة بما حصل بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وخزاعة في الحديبيّة، حيث كان من بنود صلح الحديبيّة مع قريش أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت خزاعة في عقد رسول الله وعهده، وهو يمثّل التعاون الدفاعيّ الذي يطلق عليه اليوم بالمعاهدات الدفاعيّة.

ويستفاد من حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ إلغاء المعاهدة كان يتمّ تارة بصورة مباشرة واُخرى بصورة غير مباشرة.

فنرى أنّ قريشاً لـمّا عاونت بني كنانة معاونة غير مباشرة بالسلاح عدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك نقضاً وذلك عندما تحقّقت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منها ثأراً، فخرج نوفل بن معاوية وهو يومئذ قائدهم حتّى بيت خزاعة وهم على الوتير، ماء لهم، فأصابوا منهم رجلا وتحاوزوا واقتتلوا ورفدت بني بكر قريش بالسلاح وقاتل معهم قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتّى حازوا خزاعة إلى الحرم.

فلمّا تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من العهد والميثاق بما استحلّوا من خزاعة وكان في عقده وعهده وعرف النبيّ بذلك اعتبره نقضاً للعهد وإلغاء للمعاهدة، فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فتح مكّة ملغياً ما كان بينه وبين قريش من وثيقة الصلح(٣) .

__________________

(١) المقصود هو الموداعة التي تمّت في اللقاء الأول لاحظ سيرة ابن هشام ١: ٥٩١.

(٢ و ٣) سيرة ابن هشام ٢: ٢١٠ و ٣٩٠ ـ ٣٩٧.

٥٣٦

كل هذا يكشف عن وجود نظام خاصّ لهذه التعهّدات في السياسة الخارجيّة للإسلام يتجلّى خطوطه في مجموعة المواقف النبويّة وغيرها من مصادر الشريعة.

٨. المعاهدة للاستقراض الحربيّ

إنّ للحكومة الإسلاميّة أن تستقرض أو تستعير من الآخرين ما تحتاج إليه من المال أو السلاح في حالات الحرب. والحاجة إلى ذلك وهو أمر فعله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لما عاهد نصارى نجران ووضع عليهم جزية معيّنة، وشرط عليهم أن يعيروا ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة.

وقد جاء في هذه الوثيقة. « وما هلك ممّا أعاروُا رُسلي من خيل أو ركاب فهُم ضمن حتّى يردّوهُ إليهم، ولنجران وحاشيتها جوارُ الله وذمّةُ مُحمّد النبيّ رسُول الله على أنفُسهم وملّتهم وأرضهم وأمُوالهم وغائبهم وشاهدهم الخ »(١) .

٩. قطع العلاقات السياسيّة

لما كانت إقامة العلاقات الوديّة مع الدول الاُخرى، وتوقيع المعاهدات معها لأجل مصالح تقتضي ذلك، وفي مقابل أعمال يجب أن يقوم بها المعاهد، فإنّ الإخلال بمحتويات هذه المعاهدات، والقيام بما يخالف هذه المصالح يجوّز ـ في منطق العقل ـ قطع العلاقات ونقض المواثيق المعقودة وقد فعل الرسول الأكرم ذلك في قصّة الحديبيّة حيث أقدم على نقض الصلح مع قريش، وفتح مكّة عندما أظهرت قريش سوء نيّتها.

بيد أنّه يجب أن يكون قطع العلاقات تابعاً للمعايير الإنسانيّة، ولمبرّرات صحيحة، فإذا اقتضى الأمر قطع العلاقات ونقض المعاهدة وجب على الحكومة الإسلاميّة إعلام الطرف الآخر بذلك وإبلاغه بالقطع، قال الله سبحانه:( الَّذِينَ

__________________

(١) راجع فتوح البلدان للبلاذريّ ٧٦.

٥٣٧

عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ *فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ *وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال: ٥٦ ـ ٥٨ ).

١٠. الإسلام والبلاد المفتوحة

لقد كان المتعارف في العصور الماضية إذا استولت دولة على بلد، أن تفعل فيه ما تشاء من القتل والتشريد والاسترقاق والنهب وما شابه ذلك، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم إذ قال:( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ ) ( النمل: ٣٤ ).

وأدلّ دليل على ما ذكره التاريخ من أعمال الملوك والقادة عند فتحهم للبلاد، وللمثال نذكر القصّة التالية :

لمّا دخل إسكندر المقدونيّ فارس هدم حصون فارس، وبيوت النيران وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم واستعمل على مملكة فارس رجالاً وسار قدماً إلى أرض الهند فقتل ملكها، وهدم مدنها، وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم ثمّ سار منها إلى الصين(١) .

ولا يخفى عليك ما ارتكبه جيش المغول والتتار من الدمار والجرائم عند غزو إيران والعراق وارتكاب ما لا يمكن ذكره في هذا المختصر، وقد كانوا يفعلون كلّ ذلك استناداً إلى ما كانوا يعتقدونه من حقّ التسخير والفتح للفاتحين.

نعم إنّ الحقوقيّين قرّروا اُموراً لمن يسخّرون البلاد ويفتحونها ولكن من ترى يصغي لهم ويعمل بما قرّروه من قيود وأحكام، فليس كلّ ما تقرّره المؤسّسات العالميّة من اُمور تجريه الدول وتنفّذه الحكومات، فهذه منظمة الأمم المتّحدة لا يتجاوز أحكامها عن

__________________

(١) الكامل لابن الاثير ٢: ١٦٠.

٥٣٨

حدود التوصيات والرجاءات وهذه إسرائيل قد صدرت بحقّها عشرات القرارات والطلبات من منظمة الأمم المتّحدة ولكنّها تنفّذ كلّ يوم جرائمها في لبنان وغيرها من الأراضي الإسلاميّة بلا اكتراث واعتناء بالاُمم المتّحدة وقراراتها وطلباتها ونداءاتها المكرّرة.

وها هو الإسلام قد فتح ـ أيام حكومته ـ بلاداً ومدناً، وسيطر على الامبراطوريّتين الكبيرتين ( فارس والروم ) ولكن لم يفعل ما يفعله الفاتحون، إلّا بما تقتضيه الضرورة، ولم يأخذ من المغلوب عليه سوى ( الجزية ) التي وقفت على قدرها وأحكامها السهلة السمحة.

ولأجل ذلك نجد الشعوب المختلفة تستقبل الفتوحات الإسلاميّة برحابة صدر بل وتطالب الحكومات الإسلاميّة تخليصها من حكوماتهم والعيش تحت راية الإسلام وفي ظلّ حكومته العادلة.

وما ذكرناه في سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في مجال العلاقات الخارجيّة وعهوده يعتبر قدوة ومنهجاً كاملا للحكومة الإسلاميّة في معاملتها مع الدول والشعوب الاُخرى. وقد أشرنا غير مرّة إلى أنّ الواجب على الإسلام هو بيان الاُسس الكليّة والاُصول العامّة وأمّا الأشكال المناسبة لهذه الاُسس فمتروكة للزمن والظروف الطارئة.

ثمّ لـمّا كان الإسلام نظاماً للبشريّة كافّة فإنّ هذا النظام لم يرتض لحكومته أن تعيش منغلقة على العالم كجزيرة في وسط بحر بل يدعو إلى أن تقيم هذه الحكومة جسوراً مع المجتمع الدوليّ لتستفيد من خبرات البشر، كما تفيدها ديناً وأخلاقاً ونظاماً إلهيّاً ضامناً لسعادة البشريّة.

٥٣٩

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٦

الحكومة الإسلاميّة

والاستخبارات والأمن العامّ

لا تفتيش عن العقائد، ولا اطّلاع على الأسرار

لا شكّ في أنّ أهمّ ما جاء به الإسلام من اُصول اجتماعيّة هو الحريّة العقائديّة والشخصيّة، والاحترام الكامل للإنسان وعقائده، وأفكاره وأسراره، ولذلك فهو لم يسمح بتفتيش عقائد الأفراد ومنع من محاولة التعرّف على أسرارهم ودخائل حياتهم وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله:( وَلا تَجَسَّسُوا ) ( الحجرات: ١٢ ).

كما أنّه لم يسمح لأحد ـ فيما لو اطّلع على دخيلة أحد أو علم بسرّ من أسراره الخاصّة ـ أن يبوح به للناس، أو يفضحه على رؤوس العباد وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله:( وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ) ( الحجرات: ١٢ )، فهاتان الجملتان اللتان وردتا في آية واحدة تكشفان عن هذا الأصل الإسلاميّ الذي أشرنا إليه إلّا وهو الحفاظ على أسرار الآخرين وحرمة الاطّلاع عليها، وهو أصل دلّت عليه الروايات والنصوص المتضافرة القاطعة في النهي، والتحريم والتحذير.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

العاصمة العالمية للدولة المهدوية.

وسيتَّخذ المهدي - كما يظهر من الأخبار - من مساجدها منطلقات للحكم والإرادة، فجامع الكوفة مجلس حكمه، وهو ما يقابل قصر الرئاسة أو البلاط بلغة العصر الحاضر، ومسجد السهلة بيت المال، وهو ما يقابل وزارة المالية في الدولة المعاصرة، وأمَّا موضع عبادته وخلواته مع الله عزَّ وجلَّ فهو الذكوات البيض ( بين الغريَّين ) وهو النجف الأشرف، موضع قبر جدِّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ولم يكن عصر صدور هذه الأخبار مناسباً للدول في التفاصيل الإدارية أكثر من ذلك.

وليس اتخاذ المهدي المساجد مركزاً للإدارة أمراً غريباً، فإنَّ فكرة المساجد في الإسلام أُسِّست على ذلك، فإنَّ المساجد ليست ببنيانها وجمال شكلها، فإنَّ هذه ممَّا عليه سيشطب عليه المهدي (ع)... وإنَّما هي بما تؤدِّيه للإسلام والمجتمع العادل من خدمات ومنافع، وهل هناك أعظم منفعة من إدارة الدولة العالمية العادلة؟! إنَّها دولة أرادها الله، فينبغي أن تُدار من بيوت الله.

هذا، وقد تعرَّضت هذه الأخبار إلى وضع المهدي (ع) الجزية على أهل الكتاب، وهذا ما سنسمعه تفصيلاً في الفصل الآتي بتوفيق الله عزَّ وجلَّ.

الخاتمة الثانية: في المـُنجزات العلمية – بالمصطلح الحديث – لدولة المهدي (ع).

وهذا ممَّا لا يمكن فَهمه بالصراحة من الأخبار، باعتبار ضرورة موافقة ظواهر الكلام مع المجتمع الذي يصدر فيه، وحيث لم يكن في ذلك المجتمع الأول أثر للصناعات والآلآت الحديثة، لم يكن من الممكن أن يرد في الأخبار ذكر واضح لها، أو أن نتوقَّع منها التصريح باسمها وصفتها، وإنَّما كل ما يمكن تصيُّده من الأخبار، بعض العبارات الرمزية المـُتفرِّقة التي ترمز إلى وجود الأجهزة الحديثة في دولة المهدي (ع)، بل هناك من الأخبار ما يدلُّ على وجودها قبل الظهور أيضاً في عصر الظلم والانحراف، وهذا هو الذي نعرفه الآن بالوجدان من الوضع الصناعي لعصورنا الحاضرة.

ولأجل استيعاب ما دلَّت عليه الأخبار في هذا الصدد، نودُّ أن نتحدَّث عن كلا العصرين: عصر ما قبل الظهور، وعصر ما بعده، ولذلك نتكلَّم في جهتين.

٥٨١

الجهة الأُولى: ما دلَّت عليه الأخبار من وجود الصناعات والأجهزة الحديثة في عصر ما قبل الظهور:

أخرج مسلم في صحيحه(1) ، بإسناده عن يزيد بن جابر، عن رسول الله (ص) حديثاً طويلاً يذكر خلاله يأجوج ومأجوج، فيقول: (... ثمَّ يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا أهل الأرض، هلمَّ فلنقتل مَن في السماء، فيرمون بنشَّابهم إلى السماء، فيردُّ الله عليهم نشَّابهم مخضوبة دماً ).

وأخرج أبن ماجة(2) حديثاً طويلاً، يتحدَّث خلاله عن يأجوج ومأجوج، ويذكر أنَّهم يقولون: (... هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، ولنُنازلنَّ أهل السماء. حتى إنَّ أحدهم ليهزَّ حربته إلى السماء، فترجع مُخضَّبة بالدم، فيقولون: قد قتلنا أهل السماء، أو يقولون - بلفظ الحاكم(3) -: قهرنا أهل الأرض وغلبنا من السماء قوَّة وعلوَّاً ).

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(4) ، بإسناده عن النزال بن سبرة قال: خطبنا علي بن أبي طالب (ع)، فحمد الله عزَّ وجلَّ وأثنى عليه، وصلَّى على محمد وآله، ثمَّ قال: ( سلوني - أيُّها الناس - قبل أن تفقدوني - ثلاثاً - ).

فقام إليه صعصعة بن صوحان، فقال: يا أمير المؤمنين، متى يخرج الدجَّال؟

والحديث طويل، وفيه من صفات الدجَّال أنَّه ( يخوض البحار، وتسير معه الشمس، بين يديه جبل من دخان، وخلفه جبل أبيض يرى الناس أنَّه طعام، يخرج في قحط شديد تحته جمار أقمر، خطو حماره ميل، تُطوى له الأرض مَنهلاً مَنهلاً... يُنادي بأعلى صوته، يُسمع ما بين الخافقين... يقول: إليَّ أوليائي.. أنا الذي خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، أنا ربُّكم الأعلى... - ثمَّ يذكر دابة الأرض، ويقول عنها: - ثمَّ ترفع الدابة رأسها فيراها ما بين الخافقين... )

____________________

(1) ج8 ص199.

(2) السُّنن ص1364.

(3) المـُستدرك ج4 ص 488.

(4) انظر إكمال الدين ( نسخة مخطوطة ).

٥٨٢

الحديث.

ولا ينبغي للقارئ أن ينسى فَهمنا ليأجوج ومأجوج والدجَّال، فإنَّهما بوجودهما المعاصر، وجهان للحضارة المادِّية الحديثة، وأمَّا إعطاء الفهم المتكامل لدابة الأرض، فهو ما سيأتي في الباب الأخير من هذا التاريخ.

وقد أوضحنا بجلاء - خلال حديثنا عن يأجوج ومأجوج - أنَّ المراد من السهام التي يرمونها إلى السماء الصواريخ الكونية، وإنَّما كرَّرنا الرواية لتلتحق هنا بنظائرها من هذه الناحية.

وأمَّا الصفات المـُعطاة للدجَّال، فهي بعد البرهنة على استحالة صدور المعجزة من المـُبطلين، يتعيَّن حملها على المعاني الطبيعية المناسبة.

فهو يخوض البحار، وهذا ما حدث فعلاً، فقد خاضت المدنية الحديثة في أعماق البحار، وسيَّرت البواخر على سطحه بكثرة مُسرفة.

( وتسير معه الشمس )، في الأغلب أنَّ هذا تعبير عن السلاح الذي يُرهب الدجَّال به العالم، وهو القنبلة الذرِّية أو الهيدروجينية، من حيث إنَّ حرارتها عالية جدَّاً كالشمس.

و( بين يديه جبل من دخان )، وما أكثر الدخان في المدنية الحديثة، في الحرب والسلم معاً، كما هو واضح، وكله يبدو في مصلحة هذه المدنية.

و( خلفه جبل أبيض يرى الناس أنَّه طعام )، أنَّه بهارج هذه المدنية وملذَّاتها، يرى الناس أنَّها جميلة وعظيمة، وليس ورائها في الواقع إلاَّ الانحلال والدمار.

و( تحته حمار أقمر، خطو حماره ميل )، وهذا تعبير جميل عن الشعارات والمفاهيم التي استطاعت المدنية والحضارة الحديثتان أن تسير بهما في العالم، وهي شعارات واسعة الانتشار سريعة السير.

والدجَّال ( تُطوى له مَنهلاً مَنهلاً )، وذلك عن طريق وسائل النقل الحديثة، الأرضية والجوية على حدٍّ سواء، فإنَّ طيَّ الأرض يتضمَّن معنى سرعة السير، وبعد نفي احتمال المعجزة تتعيَّن صحَّة هذا الفهم.

( يُنادي بأعلى صوته، يُسمع ما بين الخافقين ) ليس لأنَّ صوته مرتفع إلى هذا الحدِّ!! بل لأنَّه يستعمل أجهزة الإعلام الحديثة، بما فيها النجوم الإذاعية ( التلستار ).

وأمَّا دابة الأرض، فهي ( ترفع رأسها، فيراها ما بين الخافقين )، عن طريق البثِّ

٥٨٣

التلفزيوني بطبيعة الحال.

ولا ينبغي هنا أن نغفل ما قلناه سابقاً، من وجود التنبُّؤ في الأخبار بالنقل الجوِّي في عصر ما قبل الظهور، حيث سمعنا عن كيفيَّة تجمُّع أصحاب الإمام المهدي (ع) عند ظهوره، وكان منهم مَن( يسير في السحاب نهاراً ) ، وهو تعبير عن الطائرات، كما سبق أن برهنَّا.

فهذا هو ما يحدث في عصر ما قبل الظهور، وهو - بطبيعة الحال - سوف يبقى مُستمرَّاً إلى ما بعد الظهور، حتى لو حدثت حرب عالمية، كما سبق أن أوضحنا، فإنَّها إنَّما تقضي على المراكز العسكرية والعواصم المـُهمَّة في العالم، وأمَّا الصناعات الحديثة وعدد من خبرائها فلا موجب لاستئصالها، وسيكون ذلك نواة صالحة للتشجيع من قِبل الدولة المهدوية، على البلوغ بالصناعات الحديثة إلى مراتب أعلى وأسمى وأدقَّ. وجعل هذه الصناعات مواكبة مع الأهداف العُلْيا المـُتبنَّاة من قِبل الدولة وقائدها.

الجهة الثانية: فيما دلَّت عليه الأخبار من وجود الأجهزة والصناعات الحديثة في عصر ما بعد الظهور.

روى الصافي في مُنتخب الأثر(1) ، عن أبي الربيع الشامي، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( إنَّ قائمنا إذا قام مدَّ الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم، حتى لا يرون ( لا يكون ) بينهم وبين القائم بريد يُكلِّمهم، فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه ).

وروى الصافي أيضاً(2) ، والمجلسي في البحار عن ابن مسكان، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: ( إنَّ المؤمن في زمان القائم، وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق ).

____________________

(1) ص483.

(2) نفس الصفحة.

(3) ج13 ص200.

٥٨٤

وأخرج النعماني في الغيبة(1) ، عن أبان، عن أبي عبد الله (ع) في حديث أنَّه قال: ( ويبعث الله الريح من كل وادٍ تقول: هذا المهدي، يحكم بحكم داود... ) الحديث.

وقد سبق أن رويناه.

وأخرج في البحار(2) ، عن جابر بن أبي جعفر (ع) في حديث عن المهدي (ع) أنَّه قال: ( إنَّما سُمِّي المهدي لأنَّه يهدي إلى أمر خفيٍّ، حتى إنَّه يبعث إلى رجل لا يعلم الناس له ذنب فيقتله، حتى إنَّ أحدهم يتكلَّم في بيته، فيخاف أن يشهد عليه الجدار ).

وأخرج أيضاً(3) ، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: ( كأنَّني بالقائم على ظهر النجف... - إلى أن قال: - ثمَّ يركب فرساً له أبلق بين عينيه شمراخ ينتفض به، لا يبقى أهل بلد إلاَّ أتاهم نور ذلك الشمراخ، حتى يكون آية له... ) الحديث.

وأخرج النعماني في الغيبة(4) ، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (ع) في حديث عن القائم يقول فيه: ( ويركب فرساً له أدهم أبلق، بين عينيه شمراخ، فينتفض فيه انتفاضةً، لا يبقى أهل بلد إلاَّ وهم يرون أنَّه معهم في بلدهم... ) الحديث.

وأمَّا أخبار طيِّ الأرض للمهدي، فهي عديدة نذكر منها:

أخرج الصدوق في إكمال الدين(5) ، عن محمد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر، محمد بن علي الباقر (ع) يقول: ( القائم منَّا، منصور بالرعب مؤيَّد بالنصر، تُطوى له الأرض... ) الحديث.

____________________

(1) ص169.

(2) ج13 ص200.

(3) المجلد والصفحة.

(4) ص166.

(5) انظر المخطوط.

٥٨٥

وأخرج أيضاً(1) ، بإسناده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى (ع):

إنِّي لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت جوراً وظلماً.

فقال: ( يا أبا القاسم، ما منَّا إلاَّ وهو قائم بأمر الله عزَّ وجلَّ وهادٍ إلى دين الله، ولكنَّ القائم الذي يُطهِّر الله عزَّ وجلَّ به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملؤها عدلاً وقسطاً، هو الذي تخفى على الناس ولادته... وهو الذي تُطوى له الأرض... ) الخبر.

وأخرج الطبرسي(2) ، بسنده إلى علي بن الحسين بن خالد، قال: قال الرضا (ع) - في حديث طويل عن المهدي (ع) -: ( وهو الذي تُطوى له الأرض ).

إلى غير ذلك من الأخبار.

وهذه الأخبار واضحة الدلالة - وبشكل مُتكرِّر - على استعمال البثِّ التلفزيوني في الدولة المهدوية، فالإمام المهدي نفسه يستعمله، وربَّما يُكثر من استعماله، حتى ( لا يبقى أهل بلد إلاَّ وهم يرون أنَّه معهم في بلدهم )، وحتى ( لا يكون بينهم وبين القائم بريد )، وهي مسافة مُعيَّنة من الأرض بالمسح القديم، ومن المعلوم أنَّ الصورة التلفزيونية أقرب إلى الناظر من هذه المسافة بكثير، غير أنَّ عصر صدور هذه الأخبار لم يكن ليسمح بالبيان أكثر من ذلك، والحديث قد نفى أن يكون بينهم وبينه مقدار بريد، فقد لا تتجاوز المسافة الناظر والصورة أكثر من مترين.

وعن هذا الطريق ( يُكلِّمهم فيسمعونه، وينظرون إليه وهو في مكانه ).

انظر لصراحة الخبر الصادر قبل أكثر من ألف عام في ذلك، إنَّه في الواقع لا زال في مكانه، ولكنَّ البثَّ التلفزيوني ( الحي ) يجعلهم يسمعون كلامه وينظرون إليه، وليس في الخبر أنَّهم يُكلِّمونه لتعذُّر ذلك تلفزيونياً.

وليس استعمال هذا البثِّ مُقتصراً على الإمام المهدي، بل يشمل سائر الأخوَّة في الإيمان حيث نجد ( أنَّ المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في

____________________

(1) المصدر المخطوط.

(2) إعلام الورى ص408.

٥٨٦

المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق)، فإنَّ الصورة التلفزيونية تقوم بذلك، من دون أن يحصل تبادل في الرؤية، بل المراد أنَّ البثَّ تارة يحصل في الطرف المشرق، وتارةً يحصل من طرف المغرب، وقد تقوم الدولة المهدوية بإيجاد أجهزة أُخرى، تجعل تبادل الرؤيا والكلام معاً ممكناً بالنسبة إلى الأفراد، بل والجماعات أيضاً، ولدينا في العصر الحاضر نموذج مُصغَّر لذلك، وهو التلفون التلفزيوني، الذي تمَّ اكتشافه ولم يتمَّ توزيعه في العالم على نطاق واسع إلى حدِّ الآن.

ونجد في هذه الأخبار الإشارة إلى البثِّ الإذاعي الصوتي أيضاً في قوله: ( ويبعث الله الريح في كل وادٍ تقول )، يحتوي هذا الخبر على فلسفة البثِّ الإذاعي أيضاً، فإنَّ الريح أو الأثير الذي يحمل الموجات الصوتية الكهربائية، إلى جهاز الاستقبال الراديو.

ومن الأجهزة الدقيقة التي تُستعمل في دولة المهدي (ع)، أجهزة الاستخبارات التي قد تُستعمل ضدَّ المـُجرمين والمـُنحرفين ( حتى إنَّ أحدهم يتكلَّم في بيته فيخاف أن يشهد عليه الجدار )، وهذا الخوف لا يكون منطقياً إلاَّ مع وجود مثل هذه الأجهزة.

والمهدي (ع) سوف ( يركب فرساً أدهم أبلق، بين عينيه شمراخ )، وينبغي أن نفهم من الفرس واسطة النقل أيَّاً كانت، وإنَّما عبَّر عنها بالفرس، باعتبار مستوى العصر يوم صدور الخبر.

والأدهم: الأسود. ومن الخيل والإبل: الشديد لورقة حتى يذهب البياض(1) ، والورقة بالضمِّ فالسكون: سواد في غبرة(2) ، ويُفهم منه قلَّة السواد، أو أنَّه من الألوان الغامقة القريبة من السواد.

والأبلق: الذي فيه سواد وبياض(3) . يُقال: بِلق - بالكسر - إذا كان فيه سواد وبياض، وبلق الفرس، ارتفع تحجيله إلى فخذيه(4) . يُقال: حجل، وتحجَّل الفرس، إذا كان في قوائمه تحجيل أي بياض، فهو مُحجَّل ومحجول(5) .

والشمراخ، له عدَّة معانٍ في اللغة: منها رأس الجبل، ومنها غرَّة الفرس إذا

____________________

(1) أقرب الموارد مادَّة (دهم).

(2) المـُنجد، مادَّة ( ورق ).

(3) أقرب الموارد، مادَّة ( بلق ).

(4) المصدر نفسه.

(5) المـُنجد مادَّة ( حجل ).

٥٨٧

دقَّت وسالت وجلَّلت الخيشوم ولم تبلغ الجحفلة(1) . والجحفلة لذي الحافر كالشفة للإنسان(2) .

فإذا عرفنا ذلك، أمكننا أن نذكر لفَهم هذا الخبر أُطروحتين:

الأُطروحة الأُولى: وهي منطلقة من أنَّ معنى الشمراخ: رأس الجبل، فيكون معنى الخبر: أنَّ واسطة النقل التي يركبها المهدي ذات ارتفاع أمامي دقيق وطويل يُشبه قمَّة الجبل، وهذا الوصف ينطبق على الدبَّابة التي يكون أمامها المدفع، وينطبق على الطائرات الحديثة التي يكون مُقدَّمها مخروطي الشكل مُدبَّباً، ولكن بعد العلم أنَّ الطائرات لا تكون إلاَّ بيضاء، فلا ينطبق عليها اللون المذكور في الخبر، كما أنَّ التعبير بالفرس، يُراد به واسطة النقل الأرضية لا الجوِّية. إذاً؛ نعرف انطباقه على الدبّابة، وهي إحدى وسائط النقل الحربية التي تُستعمل في القتال الأرضي.

ويؤيِّد هذه الأُطروحة، قضية اللون الموصوف في الخبر، فإنَّ عدداً من الدول تجعل الدبّابات، وهي إحدى وسائط النقل الحربية التي تُستعمل في القتال الأرضي. ويؤيِّد هذه الأُطروحة قضية اللون الموصوف في الخبر، فإنَّ عدداً من الدول تجعل الدبابات ذات لونين: فاتح وغامق، وعلى شكل بقع كبيرة لكل لون، كالفرس الأبلق تماماً.

الأُطروحة الثانية: وهي منطلقة من أنَّ معنى الشمراخ: غرَّة الفرس أي جبهته، إذا كانت طويلة وجميلة، فيكون معنى الخبر: إنَّ في مُقدِّمة واسطة النقل التي يركبها المهدي شيء يمكن أن يصدق عليه مجازاً هذا الوصف، ويبدو الآن أنّ الزجاجة الواسعة التي تكون في مقدّمة السيّارة عادةً هي المقصود من الخبر؛ فيكون المراد: أنّ المهدي (ع) يركب سيّارة اعتيادية ذات لونين.

وحيث كان الحديث في الخبر عن الفرس، إذاً يكون فهم الشمراخ طبقاً للأطروحة الثانية هو الأفضل.

هذا، ولكن الخبر الآخر الذي وصف الشمراخ، ذكر أنّ له نوراً حتى ( لا يبقى أهل بلد إلاّ أتاهم نور ذلك الشمراخ حتى يكون آيةً له ) أي للإمام المهدي (ع).

ولفهم هذا النور عدّة أُطروحات، نذكر منها ثلاثاً:

الأُطروحة الأُولى: أن يكون النور إعجازيّاً، ( حتى يكون آية له ) من أجل تمييز سيّارة الإمام المهدي (ع) عن غيرها، أو لأسباب أُخرى.

____________________

(1) أقرب الموارد، المادة ( شمرخ ).

(2) المصدر: مادة جحفل.

٥٨٨

الأُطروحة الثانية: أن يكون هذا النور معنويّاً، يعبّر عن الهدى والعدل الذي يصدر عن راكب هذه السيّارة، أعني الإمام المهدي نفسه.

الأُطروحة الثالثة: أن يكون هذا النور ماديّاً صادراً من واسطة النقل بطبيعة تكوينها، غير أنّ سيّارة من هذا القبيل لم تُكتَشف إلى حد الآن، فلعلّها تُصمّم في المستقبل قبل الظهور أو بعده.

وللقارئ تفضيل إحدى الأُطروحات على بعض.

وأمّا طيّ الأرض للإمام المهدي، فقد فهمنا منه الانتقال الطبيعي، بوسائط السفر السريعة التي لم تكن متوفّرة في عصر صدور هذه الأخبار.

وتبقى عندئذٍ بعض الأسئلة التي تحتاج إلى الجواب، نذكر أهمّها:

السؤال الأوّل: لماذا لم نفهم من طي الأرض للإمام المهدي الأُسلوب الإعجازي في الانتقال، كما يفهم ذلك التفكير التقليدي لدى المسلمين، فإنّ هذا بالنسبة للدجّال لم يكن ممكناً؛ لعدم إمكان صدور المعجزة منه - كما قلنا - ولكن ممكن بالنسبة إلى المهدي (ع) فينبغي الحمل عليه.

وجواب ذلك من عدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّنا قلنا في التاريخ السابق(1) وفي هذا الكتاب، إنّه كلما أمكن فهم الأُسلوب الطبيعي من الخبر، كان هذا متعيّناً، ما لم تقم قرائن واضحة في تعيين الأُسلوب الإعجازي، وهذه الأخبار لا تحتوي على مثل هذه القرائن، فحملها على الأُسلوب الطبيعي هو الصحيح.

الوجه الثاني: قانون المعجزات الذي يقول: إنّه كلما أمكن البديل الطبيعي للمعجزة لم يكن للمعجزة مجال. ومن الواضح أنّ السفر بوسائط النقل الحديثة، يوصل الفرد إلى أي نقطةٍ من العالم بأقصى سرعة، ولاسيّما في الطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت أكثر من مرّتين، فلا يبقى للمعجزة مجال.

الوجه الثالث: أنّنا سمعنا أنّ الدجال تُطوى له الأرض أيضاً، والمهدي تُطوى له الأرض أيضاً. فقد استعمل هذا المفهوم على نمط واحد بالنسبة إلى كلا الشخصين. فبعد البرهان على إرادة المعنى الطبيعي للسفر السريع، بالنسبة إلى الدجّال، يتعيّن نفس الفهم بالنسبة إلى المهدي؛ لأنّ الخبر استُعمل فيه نفس المفهوم بدون رتوش.

____________________

(1) انظر ص218 وغيرها.

٥٨٩

السؤال الثاني: إنّ طيّ الأرض ذُكر في الأخبار بصفته إحدى الصفات المهمّة التي يتصف بها المهدي، دون سائر البشر، فلو حملناه على معنى السفر الطبيعي السريع؛ لم تكن مزيّة للمهدي (ع) كما هو واضح.

وجواب ذلك يكون من وجوه، نذكر منها وجهين:

الوجه الأوّل: إنّ استفادة هذه المزيّة من الأخبار لا تخلو من مناقشة، إذ بعد اتصاف الدجّال بهذه الصفة أيضاً لا تكون الصفة من خصائص الإمام المهدي (ع) كما هو واضح. وقد نُسبت في بعض الأخبار إلى أصحاب الإمام المهدي (ع) عند اتجاههم إلى لقائه لأوّل مرّة - كما سبق - فكيف تكون من خصائصه.

الوجه الثاني: إنّ هذه الأخبار لا تدل على اختصاص هذه الصفة بالمهدي (ع) حتى مع التنزّل - جدلاً - عن الوجه الأوّل. فإنّها إنّما دلّت على أنّ مجموع ما ذكرت له من صفات، لا يمكن أن يتصف بها أحد غيره؛ وهذا صحيح. وأمّا كل واحدة من هذه الصفات لو لوحظت بحيالها فقد يتصف بها آخرون أيضاً، كطيّ الأرض نفسه، إلاّ أنّ بعض الصفات التي قام البرهان على اختصاصه بها: كتأسيسه للدولة العالمية العادلة، وأنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.

السؤال الثالث: إنّ طيّ الأرض ذُكر في الأخبار في سياق أُمور إعجازية فنفهم باعتبار وحدة السياق أنّه يحدث بطريق إعجازي.

وجوابه: أنّنا استطعنا، من خلال هذا التاريخ وهذه الموسوعة، أن نفهم الأعم الأغلب من صفات الإمام المهدي، وما ذكرت عنه الأخبار. بشكل طبيعي اجتماعي مرتّب، لا إعجاز فيه ولا تنافر في مدلوله، ومن هنا يمكن القول بأنّ طيّ الأرض لم يقع في الأخبار ضمن الصفات الإعجازية، بل ضمن الصفات الطبيعية، ومن هنا تقتضي قرينة وحدة السياق: أن نفهم من طيّ الأرض الأُسلوب الطبيعي لا الإعجازي، على عكس ما توخّاه السائل.

وإلى هنا يتم الحديث في الخاتمة الثانية من الفصل السابع من هذا الباب، وبها ينتهي الفصل نفسه.

٥٩٠

الفصل الثامن

موقف الإمام المهدي (ع) من أهل الكتاب

ونزول المسيح (ع) في دولته

وينبغي أن نتكلّم خلاله ضمن عدّة جهات:

الجهة الأُولى: في سرد الأخبار المتعلّقة بالمسيح وأهل الكتاب.

وهي عدد ضخم في مصادر العامّة، يصعب أن نحمل فكرة تفصيلية عنها، ومعه فسنقتصر في نقل الأخبار على أمرين:

أحدهما: نقتصر من مصادر العامّة على خصوص ما نقلته الصحاح الستّة من الأخبار دون غيرها، وخاصّة الصحيحان الرئيسان فيها. ونقتصر على المصادر القديمة المعتمدة من كتب الخاصّة.

وثانيهما: أن نختصر الإشارة إلى قضايا الدجّال ويأجوج ومأجوج من زاوية علاقتهما بالمسيح، وقد ذكرتها الأخبار مفصّلاً... بعد أن تكلّمنا عن ذلك فيما سبق، وإنّما نقتصر على الأُمور الأُخرى المتعلّقة به ممّا وردنا في الأخبار بيانه.

وبعد هذه التصفية، سوف يبقى مقدار كافٍ من الأخبار، ويكون المهم منها كما يلي:

أخرج البخاري(1) عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله (ص):

كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم.

وأخرجه مسلم(2) أيضاً. وفي حديث آخر مشابه يقول:

____________________

(1) صحيح البخاري: ج4 ص 205. وانظر أيضاً الترمذي ج3 ص 344، وابن ماجة ج2 ص1363.

(2) صحيح مسلم: ج1 ص94 وكذا ما بعده.

٥٩١

إذا نزل ابن مريم فيكم وأمّكم.

وفي حديثٍ ثالث: فأمّكم منكم.

وأخرج البخاري(1) عن أبي هريرة أيضاً، قال: قال رسول الله (ص):

والذي نفسي بيده، ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ( الحرب )، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها.

ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا:( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (2)

ورواه مسلم أيضاً(3) عن أبي هريرة نحوه، إلى أن قال:

وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد.

وأخرج أيضاً(4) عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت النبي (ص) يقول:

( لا تزال طائفة من أُمّتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة.

قال: فينزل عيسى بن مريم (ع)، فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا! ‍فيقول: لا، إنّ بعضكم على بعض أُمراء، تكرمة الله هذه الأُمّة ).

وأخرج أيضاً(5) في حديث طويل ذكر فيه الدجّال وعدداً من تفاصيله، ثم قال:

____________________

(1) صحيح البخاري: ج4 ص 205.

(2) النساء: 159.

(3) صحيح مسلم: ج1 ص 93 - 94.

(4) المصدر ص 94.

(5) المصدر ص 95.

٥٩٢

فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفّيه على أجنحة مَلَكين. إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد منه ريح نفسه إلاّ مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه - يعني طلب الدجّال - حتى يدركه بباب لِدّ فيقتله.

ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنّة، فبينما هو كذلك، إذ أوحى الله إلى عيسى: إنّي قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم... الحديث، حيث يذكر خروج يأجوج ومأجوج.

وأخرج أبو داود(1) عن أبي هريرة: أنّ النبي (ع) قال:

ليس بيني وبينه - يعني عيسى (ع) - نبي، وأنّه نازل. فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصّرتين، كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل. فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلاّ الإسلام، ويهلك المسيح الدجّال، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون.

ونحوه بألفاظ مقاربة في صحيح الترمذي(2) ونحوه في سنن ابن ماجة(3) .

وهناك حديثان آخران تركتهما الصحاح، يحسن إدراجهما لنصل إلى الرأي الصحيح فيهما:

أخرج السيوطي في الحاوي(4) عن أبي نعيم عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص):

( لن تهلك أُمّة أنا أوّلها، وعيسى في آخرها، والمهدي في وسطها ) .

____________________

(1) السنن ج2 ص 432.

(2) ج3 ص 348.

(3) ج2 ص 1357.

(4) ج2 ص 134.

٥٩٣

وأخرج ابن حجر في الصواعقى(1) عن ابن ماجة والحاكم أنّه (ص) قال:

( لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدنيا إلاّ إدباراً، ولا الناس إلاّ شُحّاً، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرار الناس، ولا مهدي إلاّ عيسى ابن مريم ).

فهذه بعض أخبار المصادر العامّة.

وأمّا أهم أخبار المصادر الخاصّة: فقد أخرج النعماني(2) بسنده عن جابر، قال:

دخل رجل على أبي جعفر الباقر (ع) فقال له: عافاك الله اقبض منّي على هذه الخمسمئة درهم. فقال له أبو جعفر(ع):

( خذها أنت فضعها في جيرانك من أهل الإسلام والمساكين من إخوانك من المسلمين ) .

ثم قال:إذا قام قائم أهل البيت قسّم بالسويّة... إلى أن قال:ويستخرج التوراة وسائر كتب الله عزّ وجلّ من غار بأنطاكية. ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل القرآن بالقرآن.... ) الحديث.

وفي حديث آخر(3) قال ابن سنان، سمعت أبا عبد الله (ع) يقول:

( عصى موسى قضيب آس من غرس الجنّة أتاه بها جبرائيل (ع) لما توجّه تلقاء مدين، وهي وتابوت آدم في بحيرة طبرية، ولن يتغيّرا حتى يخرجهما القائم (ع) إذا قام ) .

وأخرج الأربلي في كشف الغمّة(4) عن أربعين الأصفهاني والقندوزي(5) عن كتاب الفتن لنعيم بن حماد، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص): ( منّا الذي يصلّي عيسى بن مريم خلفه ).

____________________

(1) ص98.

(2) الغيبة ص124.

(3) غيبة النعماني ص125.

(4) ص264ج3.

(5) ص539.

٥٩٤

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(1) بسنده إلى محمد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول: ( القائم منّا منصور بالرعب.... إلى أن قال: وينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه ).

واخرج في البحار(2) : عن أبي بكير، قال: سألت أبا الحسن (ع) عن قوله تعالى:( وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) . قال: ( أُنزلت في القائم (ع)، إذا خرج باليهود والنصارى والصابئين والزنادقة وأهل الردّة والكفّار، في شرق الأرض وغربها، فعرض عليهم الإسلام فمَن أسلم طوعاً أمره بالصلاة والزكاة، وما يؤمر به المسلم ويجب لله عليه، ومَن لم يسلم ضرب عنقه، حتى لا يبقى في المشارق والمغارب أحد إلاّ وحّد الله.. ) الحديث.

وأخرج أيضاً(3) في حديث سبق أن رويناه عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) يقول فيه: قلت:

فما يكون من أهل الذمّة عنده؟ قال: ( يسالمهم، كما سالمهم رسول الله (ص) ويؤدّون الجزية عن يد وهم صاغرون... ) الحديث.

الجهة الثانية: في وحدة المهدي والمسيح.

وهو احتمال نعرضه ونناقشه قبل الدخول في تفاصيل هذه الأخبار؛ لكي نتوفّر على التفاصيل، في نتيجة هذه المناقشة:

وينطلق هذا الاحتمال من أُطروحة معيّنة وهي: أنّه بعد العلم أنّ المنقذ العالمي لكل البشرية واحد لا يتعدّد، تكون له الزيادة الأُولى إلى الإصلاح العام، بشكل لا تعود بعده البشرية إلى الظلم والضياع مرةً أُخرى.

إنّ هذا المنقذ العالمي الواحد، هو الذي سمّاه الإسلام بالمهدي، وسمّاه السابقون - اليهود والنصارى -: بالمسيح، وسمّاه آخرون بأسماء أُخرى. ومعه يتعيّن أن يكون المسيح

____________________

(1) نسخة مخطوطة.

(2) ج13 ص188.

(3) المصدر ص196.

٥٩٥

والمهدي لفظين أو صفتين لشخص واحد، هو المنقذ العالمي الواحد الموعود.

وحيث كان مقابل هذه الأطروحة احتمالان رئيسيان: هما أن يكون المنقذ العالمي هو المسيح عيسى ابن مريم، او أن يكون هو المهدي الإسلامي مهما كان اسمه، فينطلق من هذين الاحتمالين احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المنقذ العالمي هو المسيح عيسى بن مريم، ونعبّر عنه بأنّ المهدي هو المسيح عيسى بن مريم.

الاحتمال الثاني: أن يكون المنقذ العالمي هو المهدي الإسلامي، ونعبّر عنه أنّ المسيح هو المهدي الإسلامي نفسه.

ولكل من هذين الاحتمالين مثبتاته التي سنذكرها، وأمّا احتمال أن يكون كلا هذين القائدين يمارسان مهمّة الإنقاذ العالمي، فهو ممّا تنفيه هذه الأُطروحة؛ لأنّه ينافي الفكرة المؤكّدة في وحدة المنقذ العالمي.

مثبتات الاحتمال الأوّل:

وهو أن يكون المهدي هو المسيح عيسى بن مريم، بمعنى أن يكون هذا النبي (ع) هو الذي يمارس الإنقاذ العالمي الموعود، ويطبق العدل الكامل، وقد سُمّي في الإسلام بالمهدي بالمعنى المتضمّن لذلك المفهوم.

ولهذا الاحتمال عدّة مثبتات:

المثبت الأوّل: أنّ عيسى بن مريم، أو يسوع الناصري (ع) هو المسيح بقولٍ مطلق باعتراف الإنجيل والقرآن، وفي التبادر الذهني العام لكل سامع...فإذا قلنا المسيح لم نفهم غيره.

والمسيح ليس اسماً شخصيّاً له وإنّما لُقّب به باعتباره المنقذ العالمي، فإنّ لفظ المسيح مهما كان معناه اللغوي، لا يُراد به في الاصطلاح الديني إلاّ ذلك. ومن هنا كان يلقّب به داود(1) وشاؤل أيضاً(2) تفاؤلاً بأن يكونوا متخذين لتلك الصفة.

وحين جاء المسيح إلى الدنيا اتخذ هذه الصفة بشكل مطلق وبلا منازع، وهذا واضح

____________________

(1) انظر: صموئيل الثاني: 19/ 21 و23 /1 وغيرها.

(2) أنظر صموئيل الأوّل: 24 / 6 و26 / /25 وغيرها.

٥٩٦

جدّاً من الإنجيل والقرآن معاً. إذاً فهو المنقذ العالمي المطلق، باعتراف الإنجيل والقرآن معاً.

المثبت الثاني: ذكرت عدداً من الأناجيل(1) بتبشير يسوع الناصري بطول عمر المسيح وبمجيئه في آخر الزمان، ووافقت على ذلك السنّة الشريفة في الإسلام، كما سمعنا من هذه الأخبار وغيرها، حتى كاد أن يكون ذلك من واضح واضحات الديانتين المسيحية والإسلام.

وقد بشّر هو بإسهاب، كما نطقت بذلك الأناجيل، بقرب مجيء ملكوت الله الذي هو يوم العدل العالمي الموعود، وقد نفهم من ذلك أنّ الملكوت إنّما ينزل إلى حيّز التطبيق عند مجيئه في آخر الزمان، ومعه يكون هو المطبّق له.

المثبت الثالث: الخبر الذي سبق أن سمعناه أنّه: لا مهدي إلاّ عيسى بن مريم.

فإنّه متضمّن لمضمون هذا الاحتمال بصراحة، وأنّ المتكفّل للإنقاذ العالمي الموعود ليس إلاّ هذا النبي (ع)، وربّما أشعرنا هذا الخبر بأنّ النبي هو المسمّى بالمهدي في اصطلاح الإسلام.

وأمّا شأن هذه المثبتات من الصحّة فهو ما سنذكره بعد ذلك.

مثبتات الاحتمال الثاني:

هو أن يكون المهدي الإسلامي هو المسيح، ولا يوجد إلى جنبه أو بعده أو قبله شخص آخر مستحق لهذه الصفة، بصفتها ممثّلة للإنقاذ العالمي الموعود.

وإثبات ذلك ينطلق ممّا قلناه من أنّ المراد بالمسيح بالاصطلاح الديني: هو هذا المعنى، فبعد أن يثبت بضرورة الدين الإسلامي أنّ مهمّة الإنقاذ العالمي موكولة إلى المهدي الإسلامي وحده، إذاً فسوف يكون - بكل وضوح - هو المسيح الموعود.

غير أنّ الصحيح هو عدم صحّة كلا هذين الاحتمالين، بمعنى عدم صحّة الأُطروحة التي ينطلقان منها، وهي وحدة المسيح والمهدي، بل هما شخصان منفصلان، يظهران معاً في آخر الزمان، أعني عند البدء بالإنقاذ العالمي الموعود، ويضطلعان معاً بإنجاز هذه المهمّة بقيادة المهدي الإسلامي، وجهود المسيح عيسى بن مريم.

____________________

(1) انظر: متى: 28 / 29 16/ 19 و24/ 2 وغيرها.

٥٩٧

وبهذا الفهم نستطيع أن نناقش مثبتات كلا الاحتمالين، ونعرف المناشىء الحقيقية له.

فالإنقاذ العالمي مهمّة مجيدة واحدة، لا معنى لتعددها، بعد البرهنة على عدم الحاجة إلى ذلك، كما سوف يأتي في الباب الآتي في الكتاب الآتي، والمنقذ العالمي واحد، هو المهدي الإسلامي دون غيره.

وأمّا تسمية النبي عيسى (ع) بالمسيح بلا منازع، فهو لا يدل على استقلاله بهذه المهمّة لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ تسمية المسيح عيسى بن مريم (ع) بهذا اللقب، لم يكن مستعملاً في حياته، بل كان يتخذ مدلولاً عاماً(1) ، وإنّما أكّد على ذلك طلاّبه كَتَبَة الأناجيل الأربعة، إيحاءً بأنّه المنقذ المنتظر والمطبّق لملكوت الله دون غيره.

وأمّا تلقيب القرآن الكريم به بهذا الوصف، فهو باعتبار الشهرة الموجودة في ذلك العصر به، نتيجة لتركيز المسيحيين على ذلك طيلة عدّة قرون.

إذاً فهذه الشهرة العالمية لعيسى أو يسوع (ع)، بهذا اللقب، ليس له أي مدلول أكثر من إطلاقه على داود أو شاؤل الذي كان لمجرّد مجاملتهما على ما يبدو، بعد اليقين بأنّ أيّاً منهما لم يكن هو المنقذ المنتظَر.

الوجه الثاني: أنّه يكفي - في حدود الفهم الذي عرضناه - لتلقيب عيسى (ع) بالمسيح جهوده الكبرى في بناء اليوم الموعود، كما سنعرف، إلى حد يصدق من الناحية العلمية نسبة تطبيق العدل الكامل إليه، وإن كان ذلك في الواقع بقيادة الإمام المهدي الإسلامي (ع).

ولعلّ هذا هو الوجه الذي حدا بالقرآن الكريم إلى الاعتراف بهذه الشهرة لهذا النبي (ع) وعدم إلغائها أو تبديلها، على حين ألغاها بالنسبة إلى غيره كداود.

وبهذا يكون المثبت الأوّل للاحتمال الأوّل مندفعاً.

وأمّا ما تسالمت عليه الديانتان من عودة المسيح في آخر الزمان، فهو لا يدل بمجرّده على استقلاله بتطبيق اليوم الموعود، بل نحتمل - على الأقل - أنّه لمجرّد المشاركة فيه؛ لأجل نيل المصالح التي سنعرف طرفاً منها في ما يأتي.

____________________

(1) انظر يوحنّا: 7/27و43.

٥٩٨

وأمّا تبشيره بملكوت الله، فهو تبشير باليوم الموعود نفسه، وإنّما أكّد عليه المسيح عيسى بن مريم باعتباره الحلقة الأخيرة من التشريعات السابقة، على وجود الأطروحة العادلة الكاملة التي ستكون مطبّقة في ذلك اليوم.

وكل ما يتضمّن هذا البشير والتأكيد، هو أهميّة ملكوت الله وتطبيق عدله الكامل، ولا يعني بأيّ حالٍ استقلال المسيح بتطبيق العدل.

ولا تتضمّن الأناجيل ولا القرآن الكريم أيّ إشارةٍ إلى أنّ المسيح عيسى (ع) هو المطبّق الأكبر لذلك اليوم، وإنّما نُسب التطبيق إلى قائد معيّن أسمته الأناجيل بابن الإنسان، وهو ليس عيسى أو يسوع على أيّ حال؛ لأنّ الأناجيل تُطْلِق على يسوع لقب: ابن الله... وابن الإنسان غير ابن الله، فلا يكون ابن الإنسان إلاّ القائد الواقعي لليوم الموعود.

ويوجد في كلام الأناجيل عدد من القرائن على ذلك، كما سيأتي في الكتاب الخاص بهذا الموضوع من الموسوعة.

وبهذا يكون المثبت الثاني للاحتمال الأوّل مندفعاً.

وأمّا المثبت الثالث: وهو الخبر الوارد بهذا الصدد، فقد ناقشه ناقلوه نقاشاً حامياً.

قال ابن حجر في الصواعق(1) : قال الحاكم: أوردته تعجّباً لا محتجّاً به. وقال البيهقي:

تفرّد به محمد بن خالد. وقد قال الحاكم: إنّه مجهول. واختلف عنه في إسناده، وصرّح النسائي بأنّه منكر. وجزم غيره من الحفّاظ بأنّ الأحاديث التي قبله، أي الناصّة على أنّ المهدي من ولد فاطمة، أصحّ إسناداً.

كما أنّ هذا الخبر متضمّن لبعض المداليل المعلومة الكذب، وهو قوله: لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدنيا إلاّ إدباراً، ولا الناس إلاّ شُحّاً. فإنّه بمدلوله ينفي وجود اليوم الموعود الذي ترتفع فيه الشدائد وتقبل الدنيا بعد إدبارها، ويزول الشُحّ من الناس، ويتبدّل إلى التعاطف والأُخوّة على كل المستويات، ومعه، فالدليل القطعي الدال على وجود اليوم الموعود، ينفي مدلول هذا الخبر.

وإذا وجدت في الخبر فقرة فاسدة أمكن أن تكون فقراته الأُخرى فاسدة؛ فيكون ساقطاً عن الإثبات التاريخي.

وأمّا ما ورد في الخبر من أنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الناس، فهو ما ورد في عدّة

____________________

(1) ص98.

٥٩٩

أخبار سنسمعها ونبحثها في الباب القادم.

وأمّا الاحتمال الثاني: وهو تلقيب المهدي الإسلامي بالمسيح بصفته المنقذ المنتظَر، فهو أمر معقول وصحيح غير أنّه متروك إسلامياً، باعتبار ما سوف يقع عندئذٍ من الخلط بين المهدي وعيسى بن مريم.

ولكنّه على كل تقدير لا يدل على وحدة هذين القائدين، وأنّ الذي بشّرت به الأناجيل والأخبار بمجيئه ليس إلاّ المهدي نفسه، دون عيسى بن مريم (ع)؛ لأنّ الأناجيل والأخبار لو كانا قد اقتصرا على لقب المسيح لكان هذا الحمل محتملاً، غير أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ الأناجيل بشّرت بعودة يسوع على أيّ حال: وأمّا الأخبار فقد سمعنا تسميته بصراحة: بعيسى بن مريم (ع)، وليس مجرّد كونه مسيحاً ليحتمل انطباقه على المهدي، بل هي - في الأغلب - سمته ولم تلقّبه بالمسيح.

ومعه، فاحتمال وحدة المسيح والمهدي، وأنّهما مفهومان عن شخصٍ واحد، غير وارد في الإطلاق، بل هما شخصان يظهران معاً ويبذلان جهوداً مشتركة في إنقاذ العالم وتطبيق العدل الكامل، ويتكفّل كلاهما قيادة ومهمّة واحدة، وإن كانت القيادة العليا مسندة إلى المهدي (ع) كما سنسمع.

وبعد استنتاج هذه النتيجة: يمكننا أن نمشي في الجهات الآتية، من الحديث بسهولة.

الجهة الثالثة: في المضمون العام لهذه الأخبار.

إذا لاحظنا مجموع هذه الأخبار، واعتبرناها جميعاً قابلة للإثبات التاريخي، حصلنا على تسلسل الفكرة بالشكل التالي:

إنّ الدجال حين يبلغ قمّة مجده وإغرائه وسيطرته على العالم، ينزل المسيح من السماء واضعاً كفّيه على أجنحة مَلَكين، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، يبدو للرائي أنّه خرج من الحمّام لوقته؛ لأنّه إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدّرت منه جمرات كاللؤلؤ على وجهه. وإن كان المفهوم من الخبر أنّ هذا خيال للرائي ولي سهو برطوبة حقيقية.

وتكون الوظيفة الرئيسية الأُولى للمسيح هي قتل الدجّال والقضاء عليه، ويكون الدجّال يومئذٍ في دمشق فيلحقه المسيح فيدركه بباب لد فيقتله.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627