مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219056 / تحميل: 6013
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢

السلطة التنفيذيّة

المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات، وقرارات، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة، وهذه السطة لا تتحدّد ـ في عصرنا ـ بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن فهي تزيد أو تنقص، وتضاف مديريّة أو تحذف، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.

وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :

أ ـ ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.

ب ـ أو ينتخبها مجلس الشورى.

ج ـ أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً، وإن كان هذا نادراً.

وعلى أي تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة ـ وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة، وإن كان الدارج الآن

٢٨١

هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى، مع موافقة مجلس الشورى.

وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس، وموافقتهم وإرادتهم.

وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام إلى ذلك ـ في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لـمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال: « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة، فإنَّ سخط الخاصَّة ـ يُجحفُ برضا العامّة، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة »(١) .

هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :

أوّلاً: إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة، والحاكم الأعلى للبلاد.

ثانياً: استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في ( العهد النبوي ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.

ثالثاً: بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.

وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :

لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها الله سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلّا لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع، ولا

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

٢٨٢

وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه، بل لا بدّ من إجرائه، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.

إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.

ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق:( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ) وجلد الزاني والزانية:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور: ٢ ).

إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لن تقدس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع »(١) .

وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين: يا عليّ ابرز أليّ، فخرج إليه عليّعليه‌السلام فقال: إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقالعليه‌السلام : « وما هو ؟ » قال: ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّعليه‌السلام : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم »(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٢٨٣

ولـمـّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت ـ في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها، فكلّم النبيّ في أمرها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتشفع في حدّ من حدود الله » ؟!

ثمّ قام فخطب وقال: « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ »(١) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً »(٢) .

وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّعليه‌السلام : « أللّهم إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي »(٣) .

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً: « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي »(٤) .

وعن الإمام الباقر محمد بن عليّعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ ـ إلى يوم القيامة ـ إلّا أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً »(٥) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين

__________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١١٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، والخراج: ١٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨.

(٤) رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ: ٥٠.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٣١١.

٢٨٤

ليلة وأيّامها »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنه قال: « لا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم »(٢) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً »(٣) .

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفرعليه‌السلام في تفسير قول الله عز وجل:( يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الروم: ١٩ ): « ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً »(٤) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على إجراء الحدود، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام الله سبحانه، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.

بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلّا شيوع الفوضى، وضياع الحقوق، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة ويقوم بهذا الدور الخطير.

ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة ؛ قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم ؛ فقد أخذ بعض المستشرقين ـ فيما أخذ ـ على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين، ويضفي على الإسلام طابع المنهج

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، ٣١٥.

(٣ و ٤) نفس المصدر: ٣٠٨.

٢٨٥

الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه: « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة أي إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية، وعاجزةً عن التطبيق ».

هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة، وحقوق مدنيّة، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلامي ؛ للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.

فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة، والاُمور الجزائيّة إلى ( الحاكم الشرعي ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات: عزّره الحاكم، أدّبه الحاكم، نفاه الحاكم، طلّق عنه الحاكم، حبسه الحاكم، خيّره الحاكم(١) . وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول ـ بدون مبالغة ـ أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى، والوظيفة العظمى هو ( الهيئة التنفيذيّة ).

__________________

(١) راجع هذا الجزء: ٢٣ ـ ٣٠.

٢٨٦

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :

إنّ النظر العميق في فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وأحكامهما ومسائلهما، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم ( السلطة التنفيذيّة ) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ ـ قبل إثبات هذا الأمر ـ من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول: تعتبر وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) أصلاً مبتكراً، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ ـ بموجب هذه الفريضة ـ على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس، ويزجروا عن الشرّ والمنكر، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.

ولقد انطلق الإسلام ـ في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة ـ من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي: أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة، مشتركون في المصير فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة، ولا تتخطّاها.

ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير، والمسير(١) .

كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة

__________________

(١) راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

٢٨٧

أنّه حرّ ؛ لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.

إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين، واستمرار الرسالة الإلهيّة.

ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة، وأحاديث، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير، وإنكار المنكر، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.

نعم، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها، وصعوبتها، ومن تلك الآيات قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ١٠٥ ).

وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله: « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي »(١) .

بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآية وهو: أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره، وإلى ذلك يشير الإمام عليّعليه‌السلام قائلاً: « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٣: ٢٥٤.

٢٨٨

ومؤدّبهم »(١) .

وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك ؛ وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه:( لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».

فقيل: يا رسول، من الغرباء ؟ فقال: « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي »(٢) .

وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرئ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يصلحون » بصيغة اللازم، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أي تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.

ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّعليه‌السلام : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجّيّ »(٣) .

ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بكلا قسميه ( الفرديّ والاجتماعيّ ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.

كما ويؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ الحكم ـ الرقم (٧٣).

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٢١٢، أخرجه الترمذي.

(٣) نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم (٣٧٤).

٢٨٩

الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء: ١٤٠ ).

فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له، ولأجل ذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمود رجُل واحد فعمَّهُم الله بالعذاب لـمّا عمّوهُ بالرِّضى »(١) .

ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعي إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.

غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود ( السلطة التنفيذيّة ) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول: إنّ النظر في مهمّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ في ( الهيئة التنفيذيّة ) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلّا القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) تنقسم إلى وظيفتين :

١. وظيفة فرديّة.

٢. وظيفة اجتماعيّة عموميّة.

وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.

أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع، أي على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل ( الفردي ) يشير قوله تعالى:( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٠١).

٢٩٠

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة: ٧١ ).

وقوله تعالى:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( التوبة: ١١٢ ).

وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ( آل عمران: ١١٠ ).

إلى غير ذلك من الآيات، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.

وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ب‍ ( أمّة ) وفي ذلك قوله سبحانه:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( العمران: ١٠٤ ).

ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( النحل: ١٢٠ ) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام هذه الآية بقوله: « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال: لا، فقيل لهُ: ولم ؟ قال: إنَّما هُو على القوي الـمـُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف والدَّليلُ على ذلك كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال الله عزَّ وجلَّ:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أمّة يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الأعراف: ١٥٩ ) ولم يقل: على أمّة موسى ولا على كُلِّ قومه، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال الله عزَّ وجلَّ:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ ) »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٠.

٢٩١

وقوله تعالى:( إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

فهذه الآية تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض، ولا يتقيد بقيد السلطة، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :

قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.

وقسم لا يمكن أن يقوم به إلّا فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

وقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن قول رسول الله: « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال: « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت: إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبوا، إنَّما أراد قولُ الله تعالى:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم الله أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين إنّما الدّينُ واحد »(١) .

__________________

(١) تفسير البرهان ٢: ١٧٢ ومعاني الاخبار: ١٥٧ وعلل الشرائع ١: ٦٠ وقد نقلها صاحب الوسائل في ٨: ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٩٢

وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :

قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.

وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ قال: « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: « أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة »(٢) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة »(٣) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ قال: « حسبُ المؤمن غيراً ( أي غيرة ) إذا رأى منكر أن يعلم الله عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره »(٤) .

وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به ؛ إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.

وأمّا القسم الثاني ؛ وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك، وردِّ المظالم، وردع الظَّالم، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلّا بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :

قال الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٤، ٤١٣.

(٣ و ٤) وسائل الشيعة ١١: ٤١٣، ٤٠٩.

٢٩٣

تأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر »(١) .

ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلّا بجهاز تنفيذيّ قويّ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء: حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ غالباً ـ من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.

وعن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها »(٣) .

ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥، ٣٩٨.

(٣) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٣، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول: ١٧١ ( طبعة بيروت ).

٢٩٤

لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلّا في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.

من هنا ؛ تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه ؛ مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين، الذين فيهما صلاح عامّة الناس، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إذ قالت: « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة »(١) .

إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.

كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّعليه‌السلام إذ قال: « أخذ الله على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم »(٢) .

فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير، إلّا بجهاز وسلطة خاصّة، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلّا ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.

وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمامعليه‌السلام وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك »(٣) .

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ المتوفّى عام ( ٣٨٠ ه‍ ) ـ ص ١٢، ومعاني الأخبار: ٣٣٦.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

(٣) نهج البلاغة: الخطبة (١٢٧) شرح عبده، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول: ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

٢٩٥

فكيف يمكن أمان المظلومين، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن الله وأحكامه بلا استثناء إلّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟

إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟

ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى ( اليد ) وإستعمال القوة والسلطة ؛ بتنديد الله بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال الله تعالى:( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة: ٦٢ ـ ٦٣ ).

وقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى تفسير هذه بقوله: « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لـمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات »(١) .

وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة

وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة ؛ فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما، فهو الذي يجب على الجميع، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.

وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء ـ في باب الحدود ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥.

٢٩٦

والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه، فلو قتله غيره كان عليه القود، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :

١. إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الكافر الحربيّ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.

٢. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه، ولو قتله الذميّ فعليه قود، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.

٣. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص ( أي وليّ الدم ) ومن إليه القصاص ( أي الحاكم ) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله(١) .

٤. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم، كاللائط والزاني المحصن.

كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :

١. أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

٢. أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليه شيء.

٣. أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه، سقط الإنكار.

٤. أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط(٢) .

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص ١٥٩ ـ ١٩٨ الجزء ٤١.

(٢) شرائع الإسلام: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٩٧

ومن المعلوم ؛ أنّ الشرط الثاني ( احتمال التأثير ) والثالث ( الإصرار على المنكر ) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.

كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولا شكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف ـ وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة ـ عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :

ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لا يتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً، ولو بالنسبة للآخرين، وهذا نظير قوله سبحانه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».

وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.

٢٩٨

هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.

فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :

الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس، قال الله تعالى:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ( النساء: ١١٤ ).

والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم ( وفي نسخة اُخرى: وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم ) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ومن شروط المحتسب أن يكون: ( مسلماً ) ( حرّاً ) ( بالغاً ) ( عاقلاً ) ( عدلاً ) ( قادراً )(١) .

ومن المعلوم أنّ ( الحريّة ) و ( البلوغ ) و ( العدالة ) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف ـ بوضوح ـ عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين: فرديّ، وعموميّ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :

وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة: ٧.

٢٩٩

عن المنكر ) والمسمّى بالحسبة، بالسلطة التنفيذيّة ؛ مطالبة الإمام عليّعليه‌السلام أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها ـ وهو في موقع الحكم ـ باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال: « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك ( أي من جانب الله ) أفضلُ من الّذي يصلُ بك ( أي من جانب الناس ) ».

وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال: ( وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :

أحدها: أنّ فرضه متعيّن على المحتسب ـ بحكم الولاية ـ وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

الثاني: أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

الثالث: أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.

الرابع: على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.

الخامس: أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب وليكون له أقهر، وعليه أقدر، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.

السادس: أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود، وليس للمتطوّع أن يعزّر.

السابع: أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر إلى غير ذلك.

فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان ( أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

فقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذمّوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم »(١) .

وهو كلام صريح في الأصل المذكور.

ترجيح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة

ولكنّ المتأمّل في تلك النصوص والقرائن الحافّة بها يجد أن هذا النهي والتحريم يختصّان بالأسرار الفرديّة التي لا تمتّ إلى المجتمع بصلة، ولا ترتبط بمصالح الاُمّة بوشيجة.

فعندما يتعلّق الأمر بالمصالح العامّة لا يمكن التغاضي عن أسرار الفرد، وقضاياه، إذ من البديهيّ في تلك الصورة ـ أن تترجّح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة، وإلاّ تعرّضت الاُمّة لأخطار تهدّد كيانها، وتنذر وجودها بالفناء والدمار.

إنّ التشريع الإسلاميّ الذي ينهي بشدّة عن محاولة الاطّلاع على دخائل الناس وأسرارهم الشخصيّة ـ فيما لو كانت تخصّ بهم ـ ويحرّم اغتياب الأفراد لا يمنع من التعرّف على الاُمور التي ترتبط بمصلحة الجماعة، بل يسمح للدولة الإسلاميّة بجمع المعلومات الصحيحة المفيدة لوضعها تحت تصرّف الحاكم الإسلاميّ، حتّى يتحرّك على ضوئها، فيتعرّف على المتآمرين، ويبطل خططهم ومؤامراتهم حفاظاً على مصلحة الاُمّة وإبقاء على وجودها، وكيانها من كيد الكائدين ومكر الماكرين، وهذا أمر يؤيّده العقل السليم وتقبله الفطرة، وتدعو إليه الحكمة، ويقتضيه التدبير الصحيح، والسياسة الرشيدة.

الاستخبارات الراهنة مرفوضة

على أنّ من الطبيعيّ أن يتصوّر القارئ الكريم بمجرّد سماعه لكلمة

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٥: ٢١٤ نقلا عن ثواب الأعمال: ٢١٦.

٥٤١

( الاستخبارات والأمن العامّ ) تلك الأجهزة الجهنّمية المخيفة التي تعتمد عليها الحكومات الطاغوتيّة الحاضرة في ملاحقة الشعوب، وقهر إرادتها، وقمع حركتها.

أقول من الطبيعيّ أن تتداعى في ذهن القارئ هذه الصورة القائمة، وهذا المعنى الأسود، لأنّ شعوبنا المظلومة قد اعتادت على مثل هذا التصوّر عن جهاز المخابرات وأعمال التجسّس، ولكنّ الحقيقة أنّ ما نقصده من جهاز الاستخبارات يختلف تماماً عن هذه الصورة.

فجهاز الاستخبارات ـ في الحكومة ـ ليس لقمع الشعوب المظلومة المضطهدة وخنق صرخاتها، وتحطيم حركاتها العادلة وليس لتحديد نموّ الأمم ورشدها العقليّ والعلميّ، وإخضاعها لسياسة معينة حتّى لو كانت خاطئة، وجائرة بل هو لأهداف وطنيّة عادلة نشير إليها فيما يلي :

أهداف الاستخبارات في الحكومة الإسلاميّة

إنّ أهداف جهاز الاستخبارات والأمن العامّ ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ تتلخّص في ثلاثة وظائف واُمور أساسيّة تقتضيها مصلحة الاُمّة وهي :

١ / مراقبة نشاط الموظّفين في الحكومة الإسلاميّة، ليقوموا بمسؤوليّاتهم الإداريّة المناطة إليهم بأمانة وانضباط.

٢ / مراقبة التحرّكات العسكريّة للأعداء بهدف إفشال أي عدوان محتمل وإحباط أي تحرّش في اللحظة المناسبة.

٣ / مراقبة تحرّكات ونشاطات الأجانب ورصد تسلّلهم أو نفوذهم في البلاد الإسلاميّة للحيلولة دون قيامهم بأيّة ( مؤامرة ) تسيء إلى أمن البلاد، من إيجاد الأحزاب الداخليّة، والسريّة المعادية للاُمّة أو بثّ الشائعات المضرّة بالأمن، والمخلّة بعزائم الناس، وإرادة الجماهير، فإنّ للمخابرات وجهاز الأمن العامّ ـ في الدولة الإسلاميّة ـ أن تقوم بعمل تجسّسيّ دقيق في هذه المجالات والأبعاد.

٥٤٢

وإليك فيما يلي تفصيل هذه الأقسام الثلاثة وأدلّتها الإسلاميّة :

١. مراقبة الموظّفين

إنّ أوّل ما تهدفه الحكومة الإسلاميّة هو خدمة الاُمّة، وتنفيذ الأحكام الإسلاميّة بأمانة ودقّة، وهذا لا يتحقّق إلّا بأن يقوم جميع الموظفين ـ في هذه الحكومة ـ بواجباتهم ووظائفهم الإداريّة بأمانة وصدق وانضباط، ولتحقيق هذا الأمر يحاول الإسلام في الدرجة الاُولى أن يختار للمناصب والوظائف الحكومية كلّ أمين صادق من الموظّفين كمّا مرّ عليك سابقاً ولكنّ الدولة الإسلاميّة لا تكتفي بالاختيار الحسن لموظّفيها، وتتركهم دون مراقبة ونظارة، بل تنصب من تراقبهم وترصد أعمالهم ليقوموا بمسؤوليّاتهم دون تلكّؤ ويؤدّوا واجباتهم الإداريّة والحكوميّة دون تقصير فها هو الإمام الرضاعليه‌السلام يقول: « كان رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بعث جيشاً فأمّهُم أمير بعث معهُ من ثُقاته من يتجسّس لهُ خبرهُ »(١) .

وفي عهده المعروف لمالك الأشتر يوصي الإمام عليّ مالكاً بإرسال من يراقب عمّاله، ويرفع إليه عنهم الأخبار والتقارير فيقول: « وابعث العُيون من أهل الصّدق والوفاء عليهم فإنّ تعاهُدك في السرّ لاُمُورهم حدوة لهُم على استعمال الأمانة والرفق بالرّعية. وتحفّظ من الأعوان فإن أحد منهُم بسط يدهُ إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبارُ عُيُونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقُوبة في بدنه وأخذتهُ بما أصاب من عمله ثُمّ نصبتهُ بمقام المذلّة، ووسمتهُ بالخيانة، وقلّدتهُ عار التّهمة »(٢) .

وهكذا يؤكّد الإمام عليّعليه‌السلام على ضرورة تعيين جهاز يراقب أعمال الموظّفين وأصحاب المناصب الحكوميّة، ثمّ يؤكّد عليه أن يختار لهذا الجهاز من يثق بأخباره من الأفراد ثقة مطلقة إلى درجة يكتفي بأخبارهم إذا أخبروا عن خيانة أو تقصير، وهذا يعني أن يكون أعضاء جهاز ( الاستخبارات ) من الرجال الصالحين إلى درجة يثق الحاكم

__________________

(١) قرب الاسناد: ١٤٨.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٥٣.

٥٤٣

الإسلاميّ بأخبارهم.

ومن المعلوم أنّ جهازاً من هذا النوع وأعضاء من هذا القبيل لا يمكن أن يتحوّل إلى جهاز جهنّمي على غرار ما يوجد الآن في البلاد الإسلاميّة في ظلّ الحكومات الطاغوتيّة الراهنة التي تتحكّم في أعراض الناس ودمائهم وأموالهم وتتجاوز على حقوقهم دون أن يجرأ أحد على الاعتراض أو الشكوى.

ويبدو أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام نفسه كان له عيون ورجال يتجسّسون له على ولاته وعمّاله في مختلف البلاد حيث إنّنا نجده يعاتب بعض ولاته على اُمور غير لائقة بهم ـ كولاة وحكّام إسلاميّين ـ صدرت عنهم، ونرى نموذج ذلك في كتابه إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها فكتب الإمامعليه‌السلام إليه: « أمّا بعدُ، يا ابن حُنيف، فقد بلغني أنّ رجُلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدُبة فأسرعت إليها تُستطابُ لك الألوانُ، وتُنقلُ إليك الجفانُ، وما ظننتُ أنّك تُجيبُ إلى طعام قوم عائلُهُم مجفُوّ وغنيّهُم مدعُوّ »(١) .

وتفيد كلمة ( بلغني ) أن هناك من كان يبلّغ هذه المعلومات عن الولاة إلى الإمام عليّ كيف لا وهو يأمر مالكاً أن يتّخذ مثل هؤلاء النظّار والمفتّشين على عمّاله، وقد دعا بعض علماء الإسلام إلى ذلك أيضاً، قال أبو يوسف في كتاب الخراج يوصي حكام زمانه: ( وأنا أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف ممّن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمّال وما عملوا به البلاد وإذا صحّ عندك من العامل والوالي تعدّ بظلم وعسف وخيانة لك في رعيّتك فحرام عليك استعماله )(٢) .

وربما كان الإمام عليّعليه‌السلام بنفسه يقوم بالسؤال عن أعمال الولاة، أو يأمر ولاته بأن يراقبوا أعمال الموظّفين من جانبهم.

فقد كتب إلى كعب بن مالك وهو عامله: « أمّا بعدُ فاستخلف على عملك

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٤٥.

(٢) الخراج لأبي يوسف: ١٢٨.

٥٤٤

وأخرج طائفةً من أصحابك حتّى تمرّ بأرض السّواد كورةً بعد كورةً فتسألهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم »(١) .

٢. مراقبة تحرّّكات العدو العسكريّة

رغم أنّ التكتيكات العسكريّة، والتمرينات النظاميّة اليوم تختلف عمّا كانت عليه بالأمس اختلافاً شاسعاً، ولكنّ عامل ( التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة والتعرّف على أسراره ومواقعه النظاميّة، وفنونه القتاليّة، ومدى استعداداته، وحجم قواه ومعدّاته وعدد أفراده وآليّاته ) لا يزال منذ القديم وإلى الآن يحتفظ بأهمّيته القصوى، ويعتبر ـ اليوم ـ من أفضل الأسباب والعلل لنجاح الجيوش أو سقوطها وفشلها.

ولقد كانت هذه المسألة موضع اهتمام المسلمين ـ قادة وحكومات ـ منذ القدم غير أنّها اتّخذت صفة العلم والتخصّص في العصور الحاضرة فصار ( فن التجسّس ) علماً يدرّس في الجامعات يتخصّص فيها الأفراد كما يتخصّصون في الفنون الاُخرى إلى درجة صارت القوى العظمى ـ اليوم ـ تجعل انتصاراتها ونجاحاتها مرهونة بمدى نجاحها وتفوّقها في ميدان التجسّس على العدو، فراحت تنفق الأموال الطائلة على جهاز الاستخبارات، وتدفع بجواسيسها المتمرّسين في شتّى أنحاء العالم ليجمعوا لها الأخبار، ويرفعوا إليها التقارير، ويتوسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة للحصول على أدقّ المعلومات العسكريّة ونقلها إلى مراكزهم بشتّى الوسائل والحيل.

وربّما تسلّل هؤلاء الجواسيس إلى السلطات في الدول الاُخرى، إمّا بأنفسهم أو بواسطة من يدسّونهم في تلك الدوائر من رجال أو نساء بمختلف الحيل والسبل والحجج.

وربّما تسابق الجواسيس سباقاً عنيفاً، ودمويّاً في تحصيل المعلومات، وأدّى الأمر في بعض الأحيان إلى المخاطرة بالنفس والمغامرة بالحياة كلّ ذلك انطلاقاً من أهمّية

__________________

(١) الخراج لأبي يوسف: ١٢٨.

٥٤٥

العمل التجسّسي في حياة وبقاء الشعوب والحكومات.

نماذج من التجسّس العسكريّ في عصر النبيّ

لقد استخدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ تشكيله للدولة الإسلاميّة نظام التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة حتّى أنّ كثيراً من نجاحاته وانتصاراته العسكريّة والسياسيّة ترجع إلى اهتمامه البالغ بالمعلومات التي كانت ترد إليه من الأعداء عن طريق ( عيونه ) وجواسيسه الذين كان يبثّهم في كلّ مكان، فيرفعون إليه ما يشاهدونه من تحرّكات العدوّ، ويخبرونه بأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يباغتهم وهم في عقر دارهم ويفاجئهم وهم نيّام راقدون، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا *فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) ( العاديات: ١ ـ ٢ ).

فقد وجّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى منطقة وقال له: « اكمن النّهار، وسر اللّيل ولا تُفارقك العينُ ( أي الجاسوس ) ».

فانتهىعليه‌السلام إلى ما أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فسار إليهم، فلمّا كان عند وجه الصبح أغار عليهم، فأنزل الله سبحانه على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ) (١) .

وإليك فيما يأتي نماذج من هذا الأمر :

١. في حرب بدر خرج النبيّ مع أحد أصحابه حتّى وقف على شيخ من العرب، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يحاول التعرّف على أخبار قريش فسألهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ: انّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش.

٢. بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام مع بعض الأصحاب إلى ماء بدر يلتمسون

__________________

(١) نور الثقلين ٥: ٦٥٢.

٥٤٦

الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لقريش فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله قائم يصّلي فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلمّا بالغوا في ضربهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسجد سجدتيه وقال: « والله إنّهُما لقُريش، أخبراني عن قُريش » ؟ قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كم القُومُ » ؟ قالا: كثير، قال: « ما عدّتُهُم » ؟ قالا: لا ندري، قال: « كم ينحرُون كُلّ يوم » ؟ قالا: يوما تسعاً، ويوما عشراً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القومُ فيما بين التسع مئة، والألف ».

ثمّ قال لهما: « فمن فيهم من أشراف قُريش » ؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بي ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل و فأقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الناس فقال: « هذه مكّةُ قد ألقت إليكُم أفلاذ كبدها »(١) .

٣. كان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء ( الذين اُرسلا من جانب النبيّ للتجسّس على قريش ) قد مضيا حتّى نزلا بدراً فأناخا إلى تل قريب من الماء ثمّ أخذا شناً لهما يستقيان فيه، ومجديّ بن عمرو الجهنيّ على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري القوم النازلين على الماء وهما يتلازمان ويتعاركان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنّما تأتي العير غداً أو بعد غد، فاعمل لهم ثمّ اقضيك الذي لك، قال مجدي: صدقت ثمّ خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما ثمّ انطلقا حتّى أتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاخبراه بما سمعا(٢) .

هكذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يستطلع أخبار القوم ويتجسّس عليهم ويبطل مؤامراتهم في اللحظة المناسبة.

وقد أخمد مؤامرة بني سليم وقبيلة قطوان بما حصل عليه من معلومات ساعدته على مباغتتهم وإفشالهم.

__________________

(١ و ٢) سيرة ابن هشام ١: ٦١٦، ٦١٧.

٥٤٧

ثمّ إنّنا نلاحظ كيف استفاد عيون الرسول من تقصّي الخبر، مع الإستفادة الكاملة من قاعدة التستّر والسريّة وهو أمر كان يهتمّ به الرسول في كلّ عمليّاته الاستطلاعيّة، فها هو عندما يبعث أحد أصحابه للاستطلاع يحيط مهمّته بكامل السريّة والتحوّط وإليك القصّة :

بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب، مقفله من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحداً.

فلمّا سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه: « إذا نظرت في كتابي هذا فأمض حتّى تنزل نخلةً بين مكّة والطّائف فترصُد بها قُريشاً وتعلم لنا من أخبارهم ».

فلمّا نظر عبد الله بن جحش قال: سمعاً وطاعة(١) .

ألا ترى كيف أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فرض على مبعوثه أن لا يطلع على الكتاب الذي أعطاه خوف أن يتسرّب الخبر إلى الناس فيتسرّب منهم إلى قريش وتفشل خطة الرسول.

٤. لقد كانت معركة أحد من المعارك الصعبة التي فقد فيها الرسول الأكرم ٧٠ شخصا من أصحابه بمن فيهم حمزة أسد الله وأسد رسوله ولكن لو لم يكن يعرف الرسول ـ قبل ذلك ـ أوضاع العدو لفاقت الخسائر ما وقع.

فإنّ قريشا لـمّا خرجت وهم ثلاثة آلاف ومعهم عدة وسلاح كثير وقادوا مائتي فرس وكان فيهم سبعمائة دارع وأجمعوا المسير كتب العبّاس بن عبد المطلب كتاباً وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله يخبره « أنّ قريشا قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلّوا بك فاصنعه وقد توجّهوا إليك وقادوا مائتي فرس، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير واوعبوا من السلاح » فقدم الغفاري إلى المدينة فوجد النبيّ بقباء وهي قرية متّصلة بالمدينة فدفع إليه الكتاب فقرأه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٦٠١.

٥٤٨

عليه اُبيّ بن كعب واستكتم اُبيّاً ما فيه(١) .

٥. تحالفت قريش واليهود وغطفان في حرب الخندق ضد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وصاروا كتلة واحدة على الإسلام والمسلمين، فاتّخذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سياسة التفرقة بينهم فبعث نعيم ابن مسعود، الذي قام بدوره بأحسن صورة، التي تعد فريدة في نوعها وإليك القصّة :

جاء نعيم بن مسعود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أنت فينا رجُل واحد فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خُدعة ».

فخرج نعيم حتّى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهليّة فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إيّاكم، وخاصّة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وانّ قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمّد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمّداً حتّى تناجزوه، فقالوا له: قد أشرت بالرأي.

ثمّ أتى إلى أبي سفيان ورجال قريش وقال: إنّ اليهود قد ندموا على ما صنعوا مع محمّد وتعهّدوا له بأن يسلّموا إليه رجالاً من قريش ليعفو عنهم ثمّ خرج إلى غطفان وهم عشيرته وحذّرهم وقال لهم مثل ما قال لقريش.

وهكذا ألقى الحيرة والخوف وعدم الثقة بين قريش وغطفان واليهود المتحالفين ضدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلمّا اقترب موعد الحرب ضد النبيّ طلبت اليهود من قريش وغطفان رجالاً كرهائن عندهم، قالت قريش وغطفان: إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا

__________________

(١) مغازي الواقديّ ١: ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٥٤٩

فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا(١) وهكذا انفرط عقد التحالف القرشيّ اليهوديّ الغطفانيّ بفعل نعيم وتخذيله والدور الذي لعبه كما يلعبه أي جاسوس يعمل لصالح جهة معيّنة، وينفّذ تكتيك التفرقة بين قوى العدو ببث الشائعات والتخويف.

٦. وفي نفس الواقعة ( أي واقعة الخندق ) لـمّا انتهى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما اختلف من أمرهم وما فرّق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً. وقال له: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدّثن شيئاً حتّى تأتينا.

يقول: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء فقام أبو سفيان وقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه ؟

قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت، قال: فلان ابن فلان.

[ وفي شرح المواهب: فضربت بيدي على يد الذي عن يميني فأخذت بيده، فقلت من أنت ؟ قال معاوية بن أبي سفيان ثمّ ضربت بيدي على يد الذي كان على شمالي فقلت من أنت ؟ قال: عمرو بن العاص ](٢) .

ثمّ راح أبو سفيان يتحدّث عن ما لحقهم من الخلاف والبلاء ومقتل عمرو بن ود وقال ارتحلوا فانّي مرتحل.

يقول حذيفة: فوالله لولا عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقتلته بسهم.

ثمّ رجع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بعزم قريش على الانسحاب من هذه المعركة والفرار.

وهذا يكشف عن أنّ هذا النوع من العمل كان ابتكاراً من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعملاً

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٩، ومغازي الواقديّ: ٤٨٠.

(٢) سيرة ابن هشام ٢: ٢٣٢ ومغازي الواقديّ: ٤٨٢.

٥٥٠

بديعاً في ذلك العصر، وهو ينبئ عن نبوغ الرجل الذي اختاره النبيّ وحسن اختيارهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحرصه على العمل الذي كلّف به.

وفي هذا الصدد قال نابليون: إنّ وجود رجل واحد مناسب وذكيّ من الاستخبارات خير من عشرين ألف مقاتل في ميدان الحرب.

٧. بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهوديّ، وكان بيته عند جاسوم ( موضع بالمدينة ) يثبّطون الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك فبعث إليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة.

ومن المعلوم أنّ هناك من كان يترصّد الأخبار لرسول الله ويبلغها له، إذ من المعلوم أنّ العمليات التي كان يقوم بها اليهود والمنافقون وهم بمثابة الطابور الخامس، كانت في غاية السريّة، فلا بدّ أن يكون هناك من كان يتجسّس عليهم ويسترقّ أخبارهم ويعطيها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٨. في وقعة خيبر لـمّا كان في إحدى الليالي قبضت الدوريّة العسكريّة الإسلاميّة على رجل من يهود خيبر في جوف الليل فأمر به عمر أن يضرب عنقه، فقال: اذهب بي إلى نبيّكم حتّى اُكلّمه فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فوجده يصلّي فسمعصلى‌الله‌عليه‌وآله كلام عمر، فسلّم وأدخله عليه فدخل باليهوديّ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لليهودي: « ما وراءُك » ؟ فقال: تؤمنّي يا أبا القاسم، فقال: « نعم »، قال: خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة. قال فأين يذهبون ؟ قال: إلى الشقّ يجعلون فيه ذراريهم، ويتهيّأون للقتال في هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبّابات ودروع وسيوف فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله ( قال رسول الله: « إنشاء الله » قال اليهوديّ: إنشاء الله ) أوقفتك عليه فإنّه لا يعرفه غيري، واُخرى، قيل ما هي، قال: يستخرج المنجنيق، وينصب على الشقّ ويدخل الرجال تحت الدبّابات فيحفر الحصن فتفتحه من يومك، وكذا تفعل بحصون

٥٥١

الكتيبة.

ثمّ قال: يا أبا القاسم: احقن دمي، قال: « أنت آمن » قال: ولي زوجة فهبها لي، قال: « هي لك ».

ثمّ دعاهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإسلام فقال: انظرني أيّاماً(١) .

٩. بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عباد بن بشر في فوارس طليعة فأخذ عيناً من يهود من أشجع فقال: من أنت، قال: باغ ابتغي أبعرة ضلّت لي، قال له عباد: ألك علم بخيبر ؟، قال: عهدي بها حديث فيم تسألني عنه، قال: عن اليهود، قال: نعم.

( ثمّ أخبر عن اليهود بأخبار كاذبة بقصد إرعاب المسلمين ) فعند ذلك رفع عباد ابن بشر السوط فضربه ضربات وقال: ما أنت إلّا عين لهم، أصدقني والاّ ضربتُ عنقك. فقال الإعرابي: أتؤمنني على أن أصدقك، قال عباد: نعم، فقال الإعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود إلى آخر القصة(٢) .

١٠. وفي اُحد بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عينين له انساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتّى نزلوا بالوطاء فأتيا رسول الله فأخبراه بمكان قريش وأنّ مع قريش ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وغير ذلك(٣) .

١١. وفي غزوة الحديبيّة بعث رسول الله بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعيّ فقال: إنّي تركت كعباً وعامراً قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعاً وهم قاتلوك أو مقاتلوك، وصادّوك عن البيت، فقال: « روحُوا » إلى آخر القصّة(٤) .

__________________

(١) المغازي ٢: ٦٤٧ ـ ٦٤٨، السيرة الحلبيّة ٣: ٤١.

(٢) المغازي للواقديّ ٢: ٦٤٠ ـ ٦٤٢.

(٣) المغازي ١: ٢٠٦.

(٤) مجمع البيان ٩: ١١٧.

٥٥٢

ولعلّ أوضح نصّ في هذا المجال هو ما وصّى به الإمام عليّعليه‌السلام جيشاً بعثه إلى العدو حيث قال: « واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلاّ يأتيكم العدّو من مكان مخافةً أو أمن واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم وإيّاكم والتفرّق فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرّماح كفةً [ أي مثل كفة الميزان مستديرة حولكم محيطة بكم ] ولا تذوقوا النوّم إلّا غراراً أو مضمضةً [ أي ينام ثمّ يستيقظ ثمّ ينام ] »(١) .

وهو موقف اتّخذه الإمام عليّعليه‌السلام عمليّاً إذ كتب إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة إذ قال: « أمّا بعد فإنّ عيني [ أي رقيبي الذي يأتيني بالأخبار ] بالمغرب [ أي الأقاليم الغربيّة ] كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشّام، العمي القلوب الصمّ الأسماع، الكمه الأبصار الّذين يلبسون الحقّ بالباطل الخ ».

هذه بعض النماذج من الأعمال التجسّسية التي كان يأمر بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله غيره من قادة الإسلام في المجال العسكريّ، لمعرفة التحركات المعادية للحكومة الإسلاميّة.

كلّ ذلك يؤكّد موقف الإسلام من جهاز الاستخبارات العسكريّة الذي يضمن جمع المعلومات الدقيقة حول العدو، ويمكّن القيادة والحكومة من اتّخاذ الموقف المناسب.

* * *

٣. مراقبة نشاطات الأجانب ونفوذهم

إنّ الوظيفة الثالثة، وبالأحرى الجانب الأهمّ من عمل الأمن العامّ والاستخبارات هو مراقبة نشاطات الأجانب الأعداء في داخل البلاد الإسلاميّة ورصد تحرّكاتهم ونفوذهم لمنع ظهور الطابور الخامس الذي يرجع إليه السبب الأكبر في سقوط الدول

__________________

(١) نهج البلاغة: الكتاب ٣٣.

٥٥٣

والحكومات ولقد سلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا المسلك وتمكّن بذلك أن يمنع من محاولات أعداءه العدائيّة، ويبطل خططهم في الداخل.

إنّ حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تبيّن أنّه كان يسعى دوماً إلى أن يدفع العدو إلى الخضوع للحقّ، ولم يكن يهدف الانتقام والثأر وإراقة الدماء.

ففي المعارك والغزوات التي شارك فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعث سريّة لمقابلة العدو كان يهدف بالدرجة الاُولى إلى تفريق جمعهم، وتشتيت صفّهم لأنّه كان يعلم بأنّه لو ارتفعت الموانع عن طريق الإسلام لاستطاع الدين بمنطقه البيّن ونهجه القويم أن يشقّ طريقه إلى قلوب الناس.

فإذا تفرّق جمع العدو، ويئس من السيطرة على الإسلام، وعاد الناس إلى فطرتهم ورشدهم، استطاع الدين أن يتسرّب إلى قلوبهم، وجذبهم إلى صفّه، وهذا هو أمر تدلّ عليه الأحداث التاريخيّة فإنّ كثيراً من الشعوب والأقوام التي هزمت أمام القوّة الإسلاميّة العسكريّة، عادت إلى رشدها وراحت تفكّر في قبول الدين واعتناق تعاليمه ومفاهيمه.

وقد ظهر هذا الأمر في فتح مكّة بأجلى مظاهره.

لقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم أنّه لو فتح مكّة ونزع السلاح من العدو، وتهيّأت البيئة المساعدة للتفكير والتدبّر فلن يمضي زمان كبير إلّا ويستقبل الناس بقلوبهم وعقولهم دعوة الإسلام، ولذلك كان يتحتّم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينتصر على العدو، ويتغلّب عليه ولكن دون إبادته وتدميره وإفنائه ما دام حقن الدماء ممكناً. ولتحقيق هذا الهدف المقدّس ( الغلبة على العدو دون إراقة الدماء ) كان يتعيّن مباغتة الطرف الآخر ومفاجأته قبل أن يفكّر في الدفاع عن نفسه، وقبل أن يقوم بأيّ عمل مضادّ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر ما كان ليتحقّق إلّا بأن تبقى جميع أسرار السياسة الإسلاميّة مصونة محفوظة لا يعلم بها الطرف الآخر، ولا يقع في يده شيء منها فلا يعلم العدو مثلا هل يريد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مهاجمتهم أوّلاً، وعلى فرض عرف العدو ذلك، فلا يعرف متى وكيف ومن أين، كلّ ذلك

٥٥٤

أسرار يجب أن تبقى مصانة ومحفوظة لا يدري بها العدو، ولهذا كان يتعيّن على النبيّ أن يلاحظ عملاء العدو في الداخل لكي لا يسرّبوا أي خبر من داخل البلاد إلى العدو ولا يخبروه بخبر يفوّت على النبيّ مقاصده.

ومن هنا اتّخذ النبيّ الاجراءات الفوريّة عندما بلغه أنّ هناك من أفشى خبر سفره وتوجّهه إلى مكّة لفتحها، فلمّا أجمع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش بخبرهم بعزم الرسول، ثمّ أعطى الكتاب إلى امرأة فجعلته في شعر رأسها، فأتى الخبر إلى رسول الله من السماء فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام فخرجا حتّى أدركاها في موضع بين مكّة والمدينة فأنزلاها من رحلها، وفتّشا الرحل فلم يجدا شيئاً فقال لها عليّ بن أبي طالب: « إنّي أحلفُ بالله ما كذب رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا كُذّبنا ولتُخرجنّ هذا الكتاب أو لنكشفنّك ».

فلمّا رأت الجدّ منه، قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه. فأتى به إلى رسول الله وعاتب النبيّ حاطب بشدّة(١) .

وفي ذلك نزلت الآيات الاُول من سورة الممتحنة ابتداء من قوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ الخ) ( الممتحنة: ١ ).

وهكذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يحبط الأعمال التجسّسيّة التي كان يقوم بها العدوّ في عمق بلاده.

وقد ذهب بعض علماء الإسلام إلى ضرورة وجود جهاز يكشف مؤامرات العدو في الداخل.

يقول القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج :

( وينبغي للإمام أن تكون له مسالح ( مخافر حدوديّة ) على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك من الطرق فيفتّشون من مرّ بهم من التجّار فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد، ومن كان معه كتب قرئت كتبه فما كان من خبر من أخبار المسلمين قد كتب به

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٣٩٩.

٥٥٥

أخذ الذي اُصيب معه الكتاب وبعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه )(١) .

حكم المتجسّس لصالح الأجنبيّ

إنّ الإسلام أمر بالتشدّد مع اُولئك النفر من المسلمين الذين يتجسّسون لصالح الأجانب، ففي الإرشاد للشيخ الأجلّ المفيد:

لـمّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنينعليه‌السلام وبيعة الناس ابنه الحسنعليه‌السلام دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الاُمور فعرف ذلك الحسنعليه‌السلام فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فاُخرج وضربت عنقه وكتب الحسنعليه‌السلام إلى معاوية: « أمّا بعدُ فإنّك دسست الرّجال للاحتيال والاغتيال وأصدرت العيُون كأنّك تُحبّ اللقاء وما أوشك ذلك فتُوقعهُ إنشاء الله تعالى »(٢) .

كما أمر بالتشديد مع أهل الذمّة الذين يتجسّسون في الداخل على المسلمين لصالح الأعداء والأجانب ويعتبر ذلك نقضاً للذمّة.

قال المحقّق الحليّ في الشرائع في باب شرائط أهل الذمّة :

( أن لا يؤذوا المسلمين كالزنى بنسائهم واللواط بصبيانهم والسرقة لأموالهم وإيواء عين المشركين ( أي جاسوسهم ) والتجسّس لهم فإن فعلوا من ذلك شيئاً وكان تركه مشترطاً في الهدنة كان نقضاً )(٣) .

وقال العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء في ما يشترط على أهل الذمّة :

__________________

(١) كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفّى ( ١٨٢ ه‍ ) طبعة القاهرة عام (١٣٠٣).

(٢) الإرشاد: ١٩٢ للمفيد الفقيه المؤرّخ محمّد بن محمّد بن النعمان المتوفّى ( ٤١٣ ه‍ ).

(٣) شرائع الإسلام كتاب الجهاد: ٣٢٩.

٥٥٦

( وأن لا ينقلوا أخبار المسلمين إلى أعدائهم ولا يدلّوا على عوراتهم فمن فعل شيئا من ذلك فقد نقض عهده وأحلّ دمه وماله وبرئت منه ذمّة الله ورسوله والمؤمنين )(١) .

وكتب القاضي أبو يوسف في كتابه الخراج يقول :

( سألت عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة وأطل حبسهم حتّى يحدثوا توبة )(٢) .

وهكذا يكون من وظائف الحكومة الإسلاميّة تشكيل جهاز قويّ مجهّز بكلّ الوسائل القويّة للتجسّس في الإطارات المذكورة التي مرّ عليك ذكرها.

على أنّ الإسلام ـ كعادته وكما أسلفنا ـ تعرّض في هذه المسألة لجوهر الأمر ولم يدخل في تفصيلاته وشكليّاته فإنّ كيفيّة التجسّس ونوع الرموز والأجهزة متروكة للزمن على أن تكون في إطار التقوى والأخلاق وحسب الشروط التي مرّت.

وجملة القول أنّ ما نفهمه من حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته السياسيّة هو الاهتمام الشديد الذي كان يبديه بمسألة الاستخبارات.

فإنّه وإن لم يكن في زمن النبيّ تشكيلات للاستخبارات على غرار ما يوجد الآن في العالم الحديث ولكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ـ مضافا إلى اتّخاذ العيون ـ قد ربّى المسلمين تربية سياسيّة رائعة بحيث أصبح كلّ مسلم يرى نفسه مسؤولا عن الأمن فكانوا يرفعون إليه فوراً كلّ خبر يرتبط بهذا الأمر، فها هو زيد بن أرقم ـ وهو غلام يافع ـ عندما يسمع أحد قادة الطابور الخامس ( عبد الله بن اُبي ) في غزوة بني المصطلق وهو يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ويعني بالأعز نفسه وبالأذلّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: أنت والله الذليل القليل المبغض ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١: ٤٤٢.

(٢) كتاب الخراج: ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٥٥٧

ثمّ أسرع إلى النبيّ وأخبره بالأمر(١) .

فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تربّي المسلمين بهذه التربية، ليعتبر كلّ واحد منهم نفسه مسؤولاً عن أمن البلاد دفعاً للفساد، ونهياً عن المنكر، وإن كان ذلك لا يغني عن تأسيس جهاز مستقلّ لذلك.

وأخيراً نكرّر القول بأنّه يجب أن يكون جهاز الاستخبارات لصالح الإسلام والمسلمين مائة بالمائة، ولا يكون على غرار ما في الدول المعاصرة، إذ ليس ذاك إلّا للحفاظ على عروش الاُمراء والرؤساء والملوك، ولذلك فهو لا يتجسّس لصالح الاُمّة بل يتجسّس على الاُمّة لإخماد صوتها وإكبات حريّاتها وتحطيم مقاومتها. وإخضاعها للسياسات الاستعماريّة، والمطامع الأجنبيّة.

__________________

(١) مجمع البيان ٥: ٢٩٤.

٥٥٨

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٧

الحكومة الإسلاميّة

والنظام العسكريّ

قوام الاُمّة رهن بقدرتها العسكريّة

إنّ قوام كلّ أمّة من الأمم يرتبط بمدى قدرتها على الدفاع عن وجودها، وحماية شخصيّتها اتّجاه الأعداء، فبقدر ما تكون تلك الاُمّة مجهّزة بالعدد والعدّة، تستطيع أن تدفع عن نفسها أي عدوان وتحافظ على كيانها في سياج من الأمن والدعة والاسقرار، وبقدر ما تكون ضعيفة في هذه الناحية تكون معرّضة للزوال والاندحار أمام هجمات الأعداء، ومن هنا أنشأت الجيوش، واُوجدت العساكر الجرّارة وظهرت إلى الوجود الأساطيل البحريّة، ووسائل الحرب .

ولقد صارت هذه الجيوش والعساكر شيئاً فشيئاً وسيلة بأيدي الطغاة والطامعين فغزوا بها البلاد وأغاروا بها على المدن فكانت الوقائع الدامية، والحروب المريعة، والمجازر الفضيعة التي صبغت التاريخ البشريّ بلون الدم القاني.

٥٥٩

الجيش في خدمة الدين والشعب

إنّ الجيش في الحكومة الإسلاميّة ليس كالجيوش في الدول الامبرياليّة الشرقيّة والغربيّة لا يكون الهدف منها إلّا توسعة النفوذ، والتجاوز على الحقوق والإغارة على أموال الآخرين وثرواتهم.

كما أنّه ليس كالجيوش في العالم الثالث حيث لا يكون الهدف منها إلّا الحفاظ على سيطرة السلطات الديكتاتوريّة العميلة هناك وسلب الحريّات، وقمع المعارضة، وضرب الانتفاضات الشعبيّة وبالتالي حماية المصالح الأجنبيّة، بل الجيش في الحكومة الإسلاميّة إنّما هو للمحافظة على ثغور البلاد الإسلاميّة، واستقلال البلاد وما فيها من ثروات وشعوب، وعلى ذلك يتّصف الجيش الإسلاميّ بصفة الحافظ الصائن لا الغازي المهاجم، المحرّر لا المعتدي والصديق في جانب الشعب، لا القوّة القاهرة له، العدوة لأبنائه.

ولقد كان هذا الأمر موضع اهتمام الإسلام منذ طلوعه وبزوغه، فإنّ الدين الذي جاء ليكتسح الظلمات وينقذ البشريّة من براثن الاستعباد والاستثمار كان من الطبيعيّ أن يواجه معارضة ممّن بنوا حياتهم على استعباد الإنسان واستثماره واستغلاله، ومن هنا كان طبيعيّاً ـ أيضاً ـ أن يعدّ الإسلام عدّته لمواجهة أعدائه ومعارضيه الذين راحوا يكيدون له أشدّ الكيد، ويتربّصون به الدوائر.

إنّ من يلاحظ الحياة الإسلاميّة في الصدر الأوّل وما بعده يجد نشاطاً عسكريّاً فريداً من نوعه، ومن يلاحظ التعاليم الإسلاميّة ذاتها يجد نظاماً عسكريّاً فريداً أيضاً، فقد تضمّن القرآن الكريم تعاليم راقية ومتقدّمة جداً في الشؤون العسكريّة وتوجيهات لا سابق لها في الفنون النظاميّة.

ثمّ إنّ من يلاحظ النصوص الإسلاميّة يجدها تحثّ المسلمين حثّاً بليغاً وأكيداً على تعلم الرماية والتدريب على السلاح ومزاولة التمرينات العسكريّة استعداداً لكل

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627